→ فصل | الروح - المسألة الحادية والعشرون - فصل المؤلف: ابن القيم |
فصل ← |
فصل |
وقد انتصبت الأمّارة في مقابلة المطمئنة فكما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءتها من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها فإذا جاءت بالإيمان والتوحيد جاءت هذه بما يقدح في الإيمان من الشك والنفاق وما يقدح في التوحيد من الشرك ومحبة غير اللّه وخوفه ورجائه ولا نرضى حتى تقدم محبة غيره وخوفه ورجائه على محبته سبحانه وخوفه ورجائه فيكون ما له عندها هو المؤخر وما للخلق هو المقدم، وهذا حال أكثر الخلق، وإذا جاءت تلك بتجريد المتابعة للرسول جاءت هذه بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم على الوحي وأتت من الشبه المضلة بما يمنعها من كمال المتابعة وتحكيم السنّة وعدم الالتفات إلى آراء الرجال فتقوم الحرب بين هاتين النفسين، والمنصور من نصره اللّه، وإذا جاءت تلك بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة جاءت هذه بأضدادها وأخرجتها في عدة قوالب وتقسم باللّه ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق واللّه يعلم أنها كاذبة وما هو مرادها إلا مجرد حظها واتباع هواها والتفلت من سجن المتابعة والتحكيم والمحض للسنّة إلى قضاء إرادتها وشهوتها وحظوظها ولعمر اللّه ما تخلصت إلا من قضاء المتابعة والتسليم إلى سجن الهوى والإرادة وضيقه وظلمته ووحشته فهي مسجونة في هذا العالم وفي البرزخ وفي أضيق منه ويوم الميعاد الثاني في أضيق منهما.
و من أعجب أمرها أنها تسجر العقل والقلب فتأتي إلى أشرف الأشياء وأفضلها وأجلها فنخرجه في صورة مذمومة وأكثر الخلق صبيان العقول أطفال الأحلام ولم يصلوا إلى حد الفطام الأول عن العوائد والمألوفات فضلا عن البلوغ الذي يميز به العاقل البالغ بين خير الخيرين فيؤثره وشر الشرين فيجتنبه فتريه صورة تجريد التوحيد التي هي أبهى من صورة الشمس والقمر صورة التنقيص المذموم وهضم العظماء منازلهم في وحطهم منها إلى مرتبة العبودية المحضة والمسكنة والذل والفقر المحض الذي لا ملكة لهم معه ولا إرادة ولا شفاعة إلا من بعد إذن اللّه فتريهم النفس السحّارة هذا القدر غاية تنقيصهم وهضمهم وتزول أقدارهم وعدم تمييزهم عن المساكين والفقراء فتغفر نفوسهم من تجريد التوحيد أشد النفار ويقولون أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ «1» وتريهم تجريد المتابعة للرسول وما جاء به وتقديمه على آراء الرجال في صورة تنقيص العلماء والرغبة عن أقوالهم وما فهموه عن اللّه ورسوله وإن هذا إساءة أدب عليهم وتقدم بين أيديهم وهو مفض إلى إساءة الظن بهم وأنهم قد فاتهم الصواب وكيف لنا قوة أن نرد عليهم ونفور ونحظى بالصواب دونهم فتنفر من ذلك أشد النفار وتجعل كلامهم هو المحكم الواجب الاتباع وكلام الرسول هو المتشابه الذي يعرض على أقوالهم فما وافقها قبلناه وما خالفها رددناه أو أولناه أو فرضناه وتقسم النفس السحّارة باللّه أن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم.
هامش