→ فصل | الروح - المسألة الحادية والعشرون - فصل المؤلف: ابن القيم |
فصل ← |
فصل |
فإذا اطمأنت من الشك إلى اليقين ومن الجهل إلى العلم ومن الغفلة إلى الذكر ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرثاء إلى الخلاص ومن الكذب إلى الصدق ومن العجز إلى الكيس ومن صولة العجب إلى ذلة الإخبات ومن التيه إلى التواضع ومن الفتور إلى العمل فقد باشرت روح الطمأنينة وأصل ذلك كله ومنشؤه من اليقظة فهي أول مفاتيح الخير فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالا منه؟ فإن العاقل يعلم وعد اللّه ووعيده وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويقعده عن الاستدراك سنّة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده، وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات فاشتد إخلاده وركوده، وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات ومخالطة أهل البطالات، ورضي بالتشبه أهل إضاعة الأوقات، فهو في رقاده مع النائمين، وفي سكرته مع المخمورين، فمتى انكشف عن قلبه سنة هذه الغفلة بزجرة من زواجر الحق في قلبه استجاب فيها لواعظ اللّه في قلب عبده المؤمن، أو همة عليه أثارها معول الفكرة في المحل القابل فضرب بمعول فكره وكبر تكبيرة أضاءت له منها قصور الجنة فقال:
ألا يا نفس ويحك ساعديني ... بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك العلالي
فأثارت تلك الفكرة نورا رأى في ضوئه ما خلق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء الدنيا وعلم وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أنواع المثلات فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلا: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾[39:56] فاستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركا بها ما فات، محييا بها ما أمات، مستقبلا ما تقدم له من العثرات، منتهزا فرصة الإمكان التي إن فاتت فاته جميع الخيرات.
ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفود نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو ينقلب فيها ظاهرا وباطنا ليلا ونهارا ويقظة ومناما سرا وعلانية فلو اجتهد في إحصاء أنواعها لما قدر، ويكفي أن أدناها نعمة النفس وللّه عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما أظنك بغيرها.
ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها عاجز عن أداء حقها وإن المنعم بها أن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حق نعمة منها فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو اللّه ورحمته وفضله.
ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين [1] من البر لاحتقرها بالنسبة إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بجلال وجهه وعظم سلطانه هذا لو كانت أعماله منه فكيف وهي مجرد فضل اللّه ومنته وإحسانه حيث يسرها له وأعانه عليها وهيأه لها وشاءها منه وكونها، ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها، فحينئذ لا يرى أعماله منه، وأن اللّه سبحانه لن يقبل عملا يراه صاحبه من نفسه حتى يرى عين توفيق اللّه وفضله عليه ومنته وأنه من اللّه لا من نفسه وأنه ليس له من نفسه إلا الشر وأسبابه، وما به من نعمة فمن اللّه وحده، صدقة تصدق لها عليه، وفضلا منه ساقه إليه من غير أن يستحقه بسبب ويستأهله بوسيلة، فيرى ربه ووليه ومعبوده أهلا لكل خير ويرى نفسه أهلا لكل شر، وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة والظاهرة والباطنة وهو الذي يرفعها ويجعلها في ديوان أصحاب اليمين.
ثم تبرق له في نور تلك اليقظة بارقة أخرى يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات، فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم اللّه عليه وأياديه رأى أن حق المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يبق له حسنة واحدة يرفع بها رأسه فيطمئن قلبه وانكسرت نفسه وخشعت جوارحه وسار إلى اللّه ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله قائلا أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فلا يرى لنفسه حسنة ولا يراها أهلا لخير فيوجب له أمرين عظيمين.
أحدهما: استكثار ما منّ اللّه عليه.
و الثاني: استقلال ما منّه من الطاعة كائنة ما كانت. ثم تبرق له بارقة أخرى يرى في ضوئها عزه وشرفه وأنه رأس مال سعادته فيبخل به أن يضيعه فيما يقربه إلى ربه فإن في إضاعته الخسران والحسرة والندامة وفي حفظه وعمارته الريح والسعادة فيشح بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده [2].
هامش