→ سورة الفاتحة | الجامع لأحكام القرآن - سورة الفاتحة المؤلف: القرطبي |
القول في البسملة ← |
القول في الاستعاذة |
وفيها اثنتا عشرة مسألة
الأولى : أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [1] أي إذا أردت أن تقرأ ؛ فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر :
وإني لآتيكم لذكرى الذي مضى ... من الود واستئناف ما كان في غد
أراد ما يكون في غد ؛ وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت ؛ كما قال تعالى : {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [2] المعنى فتدلى ثم دنا ؛ ومثله : {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [3] وهو كثير.
الثانية : هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة. واختلفوا فيه في الصلاة. حكى النقاش عن عطاء : أن الاستعاذة واجبة. وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة ، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم ، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها قراءة واحدة ؛ ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان.
الثالثة : أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه ، وهو قول القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى. وروي عن ابن مسعود أنه قال : قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ؛ فقال النبي ﷺ : "يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم".
الرابعة : روى أبو داود وابن ماجة في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله ﷺ يصلي صلاة فقال عمرو : لا أدري أي صلاة هي ؟ فقال : "الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - الحمد لله كثيراً الحمد لله كثيراً - ثلاثاً - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثاً - وأعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه" . قال عمرو : همزه المؤتة ، ونفثه الشعر ، ونفخه الكبر. وقال ابن ماجة : المؤتة يعني الجنون. والنفث : نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه. والكبر : التيه. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل كبر ثم يقول : "سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول : - لا إله إلا الله - ثلاثاً ثم يقول : - الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" ؛ ثم يقرأ. وروى سليمان بن سالم عن أبي القاسم رحمه الله أن الاستعاذة : أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن عطية : "وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى ، كقول بعضهم : أعوذ بالله المجيد ، من الشيطان المريد ؛ ونحو هذا مما لا أقول فيه : نعمت البدعة ، ولا أقول : إنه لا يجوز".
الخامسة : قال المهدوي : أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول سورة "الحمد" ألا حمزة فإنه أسرها. وروى السدي عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة. وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض ، فإذا نسيه القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ ، ثم ابتدأ من أوله. وبعضهم يقول : يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه ؛ وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق ؛ وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر.
السادسة : حكى الزهراوي قال : نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض. قال غيره : كانت فرضاً على النبي ﷺ وحده ، ثم تأسينا به.
السابعة : روي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة ؛ وقاله داود. قال أبو بكر بن العربي : "انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم". وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي ﷺ كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة ؛ وهذا نص. فإن قيل : فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة ؟ قلنا : فائدتها امتثال الأمر ؛ وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمراً أو اجتنابها نهياً ؛ وقد قيل : فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة ؛ كما قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [4]. قال ابن العربي : "ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [5] قال : ذلك بعد قراءة القرآن لمن قرأ في الصلاة ، وهذا قول لم يرد به أثر ، ولا يعضده نظر ؛ فإن كان هذا كما قال بعض الناس : أن الاستعاذة بعد القراءة ، كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة ، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه ؛ فالله أعلم بسر هذه الرواية.
الثامنة : في فضل التعوذ : روى مسلم عن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي ﷺ فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه ؛ فنظر إليه النبي ﷺ فقال : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" . فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي ﷺ فقال : هل تدري ما قال رسول الله ﷺ آنفاً ؟ قال : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" . فقال له الرجل : أمجنوناً تراني! أخرجه البخاري أيضاً. وروى مسلم أيضاً عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال له رسول الله ﷺ : "ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً" قال : ففعلت فأذهبه الله عني. وروى أبو داود عن ابن عمر قال : كان رسول الله ﷺ إذا سافر فأقبل عليه الليل قال : "يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد" . وروت خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول : "ما نزل منزلاً ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل" . أخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال : حديث حسن غريب صحيح. وما يتعوذ منه كثير ثابت في الأخبار ، والله المستعان.
التاسعة : معنى الاستعاذة في كلام العرب : الاستجارة والتحيز إلى الشيء ، على معنى الامتناع به من المكروه ؛ يقال : عذت بفلان واستعذت به ؛ أي لجأت إليه. وهو عياذي ، أي ملجأي. وأعذت غيري به وعوذته بمعنى. ويقال : أعوذ بالله منك ؛ أي أعوذ بالله منك ؛ قال الراجز :
قالت وفيها حيدة وذعر .....عوذ بربي منكم وحجر
والعرب تقول عند الأمر تنكره : حجراً له "بالضم" أي دفعاً ، وهو استعاذة من الأمر. والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى. وأصل أعوذ : أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت.
العاشرة : الشيطان واحد الشياطين ؛ على التكسير والنون أصلية ، لأنه من شطن إذا بعد عن الخير. وشطنت داره أي بعدت ؛ قال الشاعر :
نأت بسعاد عنك نوىً شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
وبئر شطون أي بعيدة القعر. والشطن : الحبل ؛ سمي لبعد طرفيه وامتداده. ووصف أعرابي فرساً لا يحفى فقال : كأنه شيطان في أشطان. وسمي الشيطان شيطاناً لبعده عن الحق وتمرده ؛ وذلك أن كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان ؛ قال جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزل ... وهن يهوينني إذ كنت شيطاناً
وقيل : إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك ، فالنون زائدة. وشاط إذا احترق. وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنضجه. واشتاط الرجل إذا احتد غضباً. وناقة مشياط التي يطير فيها السمن. واشتاط إذا هلك ؛ قال الأعشى :
قد نخضب العير من مكنون فائله ... وقد يشيط على أرماحنا البطل
أي يهلك. ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول : تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين ، فهذا بين أنه تفعيل من شطن ، ولو كان من شاط لقالوا : تشيط ، ويرد عليهم أيضاً بيت أمية بن أبي الصلت :
أيما شاطن عصاه عكاه ... ورماه في السجن والأغلال
فهذا شاطن من شطن لا شك فيه.
الحادية عشرة : الرجيم أي المبعد من الخير المهان. وأصل الرجم : الرمي بالحجارة ، وقد رجمته أرجمه ، فهو رجيم ومرجوم. والرجم : القتل واللعن والطرد والشتم ، وقد قيل هذا كله في قوله تعالى : {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [6]. وقول أبي إبراهيم : {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [7]. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
الثانية عشرة : روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال قال علي بن أبي طالب عليه السلام : رأيت النبي ﷺ عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه ، قلت : ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله ؟ قال : "هذا الشيطان الرجيم" فقلت : يا عدو الله ، والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك ؛ قال : ما هذا جزائي منك ؛ قلت : وما جزاؤك مني يا عدو الله ؟ قال : والله ما أبغضك أحد قط ألا شركت أباه في رحم أمه.
هامش
- ↑ [النحل : 98]
- ↑ [النجم : 8]
- ↑ [القمر : 1]
- ↑ [الحج : 52]
- ↑ [النحل : 98]
- ↑ [الشعراء : 116]
- ↑ [مريم : 46]