→ القول في الاستعاذة | الجامع لأحكام القرآن - سورة الفاتحة المؤلف: القرطبي |
الباب الأول في سورة الفاتحة في فضائلها وأسمائها ← |
القول في البسملة |
وفيها سبعة وعشرون مسألة
الأولي : ـ قال العلماء : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة ، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق ، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام. وقال بعض العلماء : إن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تضمنت جميع الشرع ، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات ، وهذا صحيح.
الثانية : - قال بن أبي سكينة : بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلي رجل يكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال له : جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سعيد : وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي ، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه ، ذكره القشيري. وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله ﷺ قال : إن رسول الله ﷺ قال : "إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب" . وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى : {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [1] قال معناه : إذا قلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم : {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [2] وهم يقولون في كل أفعالهم : " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فمن هنالك هي قوتهم ، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية : ونظير هذا قولهم في ليلة القدر : إنها سبع وعشرين ، مراعاة للفظة "هي" من كلمات سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [3]. ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فإنها بضعة وثلاثون حرفا ، فلذلك قال النبي الله ﷺ : "لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول" . قال ابن عطية : وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.
الثالثة : - روى الشعبي والأعمش أن رسول الله ﷺ كان يكتب "باسمك اللهم" حتى أمر أن يكتب {بِسْمِ اللَّهِ} فكتبها ، فلما نزلت : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [4] كتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلما نزلت : {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [5] كتبها. وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة : إن النبي الله ﷺ لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حتى نزلت سورة "النمل".
الرابعة : - روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال : البسملة تيجان السور.
قلت : وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال :
"الأول" ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها ، وهو قول مالك.
"الثاني" أنها آية من كل سورة ، وهو قول عبد الله بن المبارك.
"الثالث" قال الشافعي : هي آية في الفاتحة ، وتردد قوله في سائر السور ، فمرة قال : هي آية من كل سورة ، ومرة قال : ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل.
واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي الله ﷺ قال : "إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرؤوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أحد آياتها" . رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر ، وعبدالحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين ، وأبو حاتم يقول فيه : محله الصدق ، وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه. ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور.
وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أبي أنس قال : بينا رسول الله ﷺ ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : "نزلت علي آنفا سورة" فقرأ : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [6]. وذكر الحديث ، وسيأتي في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى.
الخامسة : - الصحيح من هذه الأقوال قول مالك ، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي : "ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه". والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها. روى مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : "قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبد ي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى حمدني عبد ي وإذا قال العبد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى أثنى علي عبد ي وإذا قال العبد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال مجدني عبد ي - وقال مرة فوض إلي عبد ي - فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال هذا بيني وبين عبد ي ولعبدي ما سأل فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" . فقوله سبحانه : "قسمت الصلاة" يريد الفاتحة ، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه ، واختص بها تبارك اسمه ، ولم يختلف المسلمون فيها. ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبد ه ، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه ، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى ، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله : "هؤلاء لعبدي" أخرجه مالك ، ولم يقل : هاتان ، فهذا يدل على أن {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية. قال ابن بكير : قال قال مالك : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية ، ثم الآية السابعة إلى آخرها. فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي : "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة " قال : فقرأت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها ، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة ، وأكثر القراء عدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية ، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال : الآية السادسة {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولم يعدوا {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
فإن قيل : فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله ، كما نقلت في النمل ، وذلك متواتر عنهم. قلنا : ما ذكرتموه صحيح ، ولكن لكونها قرآناً أو لكونها فاصلة بين السور
كما روي عن الصحابة : كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أخرجه أبو داود - أو تبركا بها ، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل ؟ كل ذلك محتمل. وقد قال الجريري : سئل الحسن عن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال : في صدور الرسائل. وقال الحسن أيضا : لم تنزل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في شيء من القرآن إلا في "طس" {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [7]. والفيصل أن القرآن لا يثبن بالنظر والاستدلال ، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري. ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة ؛ والحمد لله.
فإن قيل : فقد روى جماعة قرآنيتها ، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا : لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها ، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها ، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات. روت عائشة في صحيح مسلم قالت : كان رسول الله ﷺ يستفتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله رب العالمين ، الحديث. وسيأتي بكماله. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال : صليت خلف النبي ﷺ وأبي بكر وعمر ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ؛ لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لا في أول قراءة ولا في آخرها.
ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم ، وهو المعقول ؛ وذلك أن مسجد النبي ﷺ بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرت عليه الأزمنة والدهور ، من لدن رسول الله ﷺ إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قط {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اتباعا للسنة ؛ وهذا يرد أحاديثكم.
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك. قال مالك : ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضاً.
وجملة مذهب مالك وأصحابه : أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها ، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً ؛ ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول : إنه لابد فيها من {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} منهم ابن عمر ، وابن شهاب ؛ وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية ، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين ؛ وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور ؛ والحمد لله.
وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة ؛ منهم : أبو حنيفة والثوري ؛ وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير ؛ وهو قول الحكم وحماد ؛ وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ؛ وروي عن الأوزاعي مثل ذلك ؛ حكاه أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار". واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال : صلى بنا رسول الله ﷺ فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وما رواه عمار بن رزيق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال : صليت خلف النبي ﷺ وخلف أبي بكر وعمر ، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
قلت : هذا قول حسن ، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة. وقد روي عن سعيد بن جبير قال : هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ونزل : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [8]. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله : فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة ، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة ، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.
السادسة- اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل ؛ فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي قال : أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقال الزهري : مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير ، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين. قال أبو بكر الخطيب : وهو الذي نختاره ونستحبه.
السابعة- قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله : مبسمل ، وهي لغة مولدة ، وقد جاءت في الشعر ؛ قال عمر بن أبي ربيعة :
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
قلت : المشهور عن أهل اللغة بسمل. قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة : بسمل الرجل. إذا قال : بسم الله. يقال : قد أكثرت من البسملة ؛ أي من قول بسم الله. ومثله حوقل الرجل ، إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله. وهلل ، إذا قال : لا إله إلا الله. وسبحل ، إذا قال : سبحان الله. وحمدل ، إذا قال : الحمد لله. وحيصل ، إذا قال : حي على الصلاة. وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك. وطبقل ، إذا قال : أطال الله بقاءك. ودمعز ، إذا قال : أدام الله عزك. وحيفل ، إذا قال : حي على الفلاح. ولم يذكر المطرز : الحيصلة ، إذا قال : حي على الصلاة. وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك. وطبقل ، إذا قال : أطال الله بقاءك. ودمعز ، إذا قال : أدام الله عزك.
الثامنة- ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل ؛ كالأكل والشرب والنحر ؛ والجماع والطهارة وركوب البحر ، إلى غير ذلك من الأفعال ؛ قال الله تعالى : {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [9]. {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [10]. وقال رسول الله ﷺ : "أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله" . وقال : "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً" . وقال لعمر بن أبي سلمة : "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك" . وقال : "إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه" وقال : "من لم يذبح فليذبح باسم الله" . وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم ، فقال له رسول الله ﷺ : "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" . هذا كله ثابت في الصحيح. وروى ابن ماجة والترمذي عن النبي ﷺ قال : " ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله" . وروى الدارقطني عن عائشة قالت : كان رسول الله ﷺ إذا مس طهوره سمى الله تعالى ، ثم يفرغ الماء على يديه.
التاسعة- قال علماؤنا : وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول : إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك ، كما ذكرنا.
فمعنى {بِسْمِ اللَّهِ} أي بالله. ومعنى "بالله" أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله. وقال بعضهم : معنى قوله {بِسْمِ اللَّهِ} يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته ؛ وهذا تعليم من الله تعالى عباده ، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها ، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز.
ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن "اسم" صلة زائدة ، واستشهد يقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ...
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فذكر "اسم" زيادة ، وإنما أراد : ثم السلام عليكما.
وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى. وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره ، إن شاء الله تعالى.
الحادية عشرة- اختلف في معنى زيادة "اسم" ؛ فقال قطرب : زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه. وقال الأخفش : زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك ؛ لأن أصل الكلام : بالله.
الثانية عشرة- واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه ، هل دخلت على معنى الأمر ؟ والتقدير : ابدأ بسم الله. أو على معنى الخبر ؟ والتقدير : ابتدأت بسم الله ؛ قولان : الأول للفراء ، والثاني للزجاج. فـ "بسم الله" في موضع رفع خبر الابتداء : وقيل : الخبر محذوف ؛ أي ابتدائي مستقر أو ثابت باسم الله ؛ فإذا أظهرته كان "بسم الله" في موضع نصب بثابت أو مستقر ، وكان بمنزلة قولك : زيد في الدار وفي التنزيل {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [11] فـ "عنده" في وضع نصب ؛ روي هذا عن نحاة أهل البصرة. وقيل : التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت ، فـ "بسم" في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي.
الثالثة عشرة- {بِسْمِ اللَّهِ} ، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال ؛ بخلاف قوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [12] فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال. واختلفوا فيحذفها مع الرحمن والقاهر ؛ فقال الكسائي وسعيد الأخفش : تحذف الألف. وقال يحيى بن وثاب : لا تحذف إلا مع {بِسْمِ اللَّهِ} فقط ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه.
الرابعة عشرة- واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان ؛ فقيل : ليناسب لفظها عملها. وقيل : لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض
الذي لا يكون إلا في الأسماء. الثالث : ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما ؛ نحو الكاف في قول الشاعر :
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا....أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله
الخامسة عشرة- اسم ، وزنه إفع ، والذاهب منه الواو ؛ لأنه من سموت ، وجمعه أسماء ، وتصغيره سمي. واختلف في تقدير أصله ، فقيل : فعل ، وقيل : فعل. قال الجوهري : وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن ، وهو مثل جذع وأجذاع ، وقفل وأقفال ؛ وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات : اسم الكسر ، واسم بالضم. قال أحمد ين يحيى : من ضم الألف أخذه من سموت أسمو ، ومن كسر أخذه من سميت أسمي. ويقال : سم وسم ، وينشد :
والله أسماك سما مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
وقال آخر :
وعامنا أعجبنا مقدمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
مبتركا لكل عظم يلحمه
قرضب الرجل : إذا أكل شيئا يابسا ، فهو قرضاب. "سمه" بالضم والكسر جميعا.
ومنه قول الآخر :
باسم الذي في كل سورة سمه
وسكنت السين من "باسم" اعتلالا غير قياس ، وألفه ألف وصل ، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة ؛ كقول الأحوص :
وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ...ولا من تسمى ثم يلتزم الاسما
السادسة عشرة- تقول العرب في النسب إلي الاسم : سموي ، وإن شئت اسمي ، تركته على حاله ، وجمعه أسماء وجمع الأسماء أسام. وحكى الفراء : أعيذك بأسماوات الله.
السابعة عشرة- اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين ؛ فقال البصريون : هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة ، فقيل : اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل : لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل : إنما سمي الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام : الحرف والفعل ؛ والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل ؛ فلعلوه عليهما سمي اسما ؛ فهذه ثلاثة أقوال.
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهي العلامة ؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له ؛ فأصل اسم على هذا "وسم". والأول أصح ؛ لأنه يقال في التصغير سمي وفي الجمع أسماء ؛ والجمع والتصغير سمي وفي الجمع أسماء ؛ والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها ؛ فلا يقال : وسيم ولا أوسام. ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي :
الثامنة عشرة- فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول : لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم ، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته ؛ وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفة ، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات ، فإذا أفناهم بقي بلا اسم ولا صفة ؛ وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة ، وهو أعظم في الخطأ من قولهم : إن كلامه مخلوق ، تعالى الله عن ذلك! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى وهي :
التاسعة عشرة- فذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى ، وارتضاه ابن فورك ؛ وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل : الله عالم ؛ فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما ، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال : الله خالق ؛ فالخالق هو الرب ، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل.
قال ابن الحصار : من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات ، ولذلك يقولون : الاسم غير المسمى ، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولا هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم. وسيأتي لهذه مزيد بيان في "البقرة" و"الأعراف" إن شاء الله تعالى.
الموفية عشرين- قوله : {الله} هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها ، حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ؛ ولذلك لم يثن ولم يجمع ؛ وهو أحد تأويلي قوله تعالى : {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [13] أي تسمى باسمه الذي هو "الله". فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو سبحانه. وقيل : معناه الذي يستحق أن يعبد. وقيل : معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال ؛ والمعنى واحد.
الحادية والعشرون- واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم ؟ . فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله ؛ فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه ، مثل فعال ؛ فأدخلت الألف واللام بدلا عن الهمزة. قال سيبويه : مثل الناس أصله أناس. وقيل : أصل الكلمة "لا" وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم ، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد :
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
كذا الرواية : فتخزوني ، بالخاء المعجمة ومعناه : تسوسني.
وقال الكسائي والفراء : معنى "بسم الله" بسم الإله ؛ فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة ؛ كما قال عز وجل : {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [14] ومعناه : لكن أنا ، كذلك قرأها الحسن. ثم قيل : هو مشتق من "وله" إذا تحير ؛ والوله : ذهاب العقل. يقال : رجل واله وامرأة والهة وواله ، وماء موله : أرسل في الصحارى. فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل "إلاه" "ولاه" وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح ، وإسادة ووسادة ؛ وروي عن الخليل. وروي عن الضحاك أنه قال : إنما سمي "الله" إلها ، لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم ، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال : لأن الخلق يألهون إليه "بنصب اللام" ويألهون أيضا "بكسرها" وهما لغتان. وقيل : إنه مشتق من الارتفاع ؛ فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع : لاهاً ، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس : لاهت. وقيل : هو مشتق من أله الرجل إذا تعبد. وتأله إذا تنسك ؛ ومن ذلك قوله تعالى : {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [15] على هذه القراءة ؛ فإن ابن عباس وغيره قالوا : وعبادتك.
قالوا : فاسم الله مشتق من هذا ، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة ، ومنه قول الموحدين : إلا إله إلا الله ، معناه لا معبود غير الله. و"إلا" في الكلمة بمعنى غير ، لا بمعنى الاستثناء. وزعم بعضهم أن الأصل فيه "الهاء" التي هي الكناية عن الغائب ، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية عن الغائب ، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار "له" ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً.
القول الثاني : ذهب إليه جماعة من العلماء أيضاً منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم ، وروي عن الخليل وسيبويه : أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه. قال الخطابي : والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ، ولم يدخلا للتعريف : دخول حرف النداء عليه ؛ كقولك : يا الله ، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف ؛ ألا ترى أنك لا تقول : يا الرحمن ولا يا الرحيم ، كما تقول : يا الله ، فدل على أنهما من بنية الاسم. والله أعلم.
الثانية والعشرون- واختلفوا أيضاً في اشتقاق اسمه الرحمن ، فقال بعضهم : لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه ، ولأنه لو كان مشتقاً من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم ، فجاز أن يقال : الله رحمن بعباده ، كما يقال : رحيم بعباده. وأيضاً لو كان مشتقاً من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه ، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم ، وقد قال الله عز وجل : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [16] الآية. ولما كتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي ﷺ : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال سهيل بن عمرو : أما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فما ندري ما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ! ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، الحديث. قال ابن العربي : إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ، واستدل على ذلك بقولهم : وما الرحمن ؟ ولم يقولوا : ومن الرحمن ؟ قال ابن الحصار : وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى : {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [17] وذهب الجمهور من الناس إلى أن "الرحمن" مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ؛ ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها ، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى "الرحيم" ويجمع.
قال ابن الحصار : ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله ﷺ : يقول : "قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته". وهذا نص من الاشتقاق ، فلا معنى للمخالفة والشقاق ، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له.
الثالثة والعشرون- زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب "الزاهر" له : أن "الرحمن" اسم عبراني جاء معه بـ "الرحيم". وأنشد :
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم ... بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا
أو تتركون إلى القسين هجرتكم ... ومسحكم صلبهم رحمان قربانا
قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن : وقال أحمد بن يحيى : "الرحيم" عربي و"الرحمن" عبراني ، فلهذا جمع بينهما. وهذا القول مرغوب عنه.
وقال أبو العباس : النعت قد يقع للمدح ، كما تقول : قال جرير الشاعر : وروى مطرف عن قتادة في قول الله عز وجل : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال : مدح نفسه. قال أبو إسحاق وهذا قول حسن. وقال قطرب : يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق : وهذا قول حسن. وفي التوكيد أعظم الفائدة ، وهو كثير في كلام العرب ، ويستغني عن الاستشهاد ، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد : إنه تفضل بعد تفضل ، وإنعام بعد إنعام ، وتقوية لمطامع الراغبين ، ووعد لا يخيب آمله.
الرابعة وعشرون- واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟ فقيل : هما بمعنى واحد ؛ كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة. وقيل : ليس بناء فعلان كفعيل ، فإن فعلان لا يقع ألا على مبالغة الفعل ، نحو قولك : رجل غضبان ، للمتلىء غضباً. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس :
فأما إذا عضت بك الحرب عضة ... فإنك معطوف عليك رحيم
فـ "الرحمن" خاص الاسم عام الفعل. و"الرحيم" عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور.
قال أبو علي الفارسي : "الرحمن" اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختصر به الله. "والرحيم" إنما هو في وجهة المؤمنين ؛ كما قال تعالى : {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [18]. وقال العرزمي : "الرحمن" بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة ، "والرحيم" بالمؤمنين في الهداية لهم ، واللطف بهم. وقال ابن المبارك : "الرحمن" إذا سئل أعطي ، و"الرحيم" إذا لم يسأل غضب. وروى ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : "من لم يسأل الله يغضب عليه" لفظ الترمذي. وقال ابن ماجة : "من لم يدع الله سبحانه غضب عليه" . وقال : سألت أبا زرعة عن أبي صالح هذا ، فقال : هو الذي يقال له : الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن عباس : هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة.
قال الخطابي : وهذا مشكل ؛ لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى. وقال الحسين بن الفضل البجلي : هذا وهم من الراوي ، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر ، والرفق من صفات الله عز وجل ؛ قال النبي ﷺ : "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" .
الخامسة والعشرون- أكثر العلماء على أن "الرحمن" مختص بالله عز وجل ، لا يجوز أن يسمى به غيره ، ألا تراه قال : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [19] فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره. وقال : {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [20] فأخبر أن "الرحمن" هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة ، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك ، وأن كان كل كافر كاذباً ، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علماً يعرف به ، ألزمه الله إياه. وقد قيل في اسمه الرحمن : إنه اسم الله الأعظم ؛ ذكره ابن العربي.
السادسة العشرون- "الرحيم" صفة مطلقة للمخلوقين ، ولما في "الرحمن" من العموم قدم في كلامنا على "الرحيم" مع موافقة التنزيل ؛ قاله المهدوي وقيل : إن معنى "الرحيم" أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن ، فـ "الرحيم" نعت محمد ﷺ ؛ وقد نعته تعالى بذلك فقال : {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فكأن المعنى أن يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، أي وبمحمد ﷺ وصلتم إلي ، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي ؛ والله أعلم.
السابعة والعشرون- روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله "بسم الله" : إنه شفاء من كل داء ، وعون على كل دواء. وأما "الرحمن" هو عون لكل من آمن به ، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما "الرحيم" ، فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
وقد فسره بعضهم على الحروف ؛ فروي عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله ﷺ عن تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال : "أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة". وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه. وقد قيل : إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه ؛ فالباء مفتاح اسمه بصير ، والسين مفتاح اسمه سميع ، والميم مفتاح اسمه مليك ، والألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والهاء مفتاح اسمه هادي ، والراء مفتاح اسمه رازق ، والحاء مفتاح اسمه حليم ، والنون مفتاح اسمه نور ؛ ومعنى هذا كله دعاء الله تعالى عند افتتاح كل شيء.
الثامنة والعشرون- واختلف في وصل "الرحيم" بـ "الحمد لله" ؛ فروي عن أم سلمة عن النبي ﷺ : "الرحيم. الحمد" يسكن الميم ويقف عليها ، ويبتدئ بألف مقطوعة. وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس : "الرحيم الحمد" ، تعرب "الرحيم" بالخفض وبوصل الألف من "الحمد". وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ "الرحيمَ الحمد" بفتح الميم وصلة الألف ؛ كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت. قال ابن عطية : ولم ترو عن هذه قراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى : { الَم الله} .
هامش
- ↑ [الإسراء : 46]
- ↑ [المدثر : 30]
- ↑ [القدر : 1]
- ↑ [الإسراء : 110]
- ↑ [النمل : 30]
- ↑ [الكوثر : الآية]
- ↑ [النمل : 30]
- ↑ [الإسراء : 110]
- ↑ [الأنعام : 118]
- ↑ [هود : 41]
- ↑ [النمل : 40]
- ↑ [العلق : 1]
- ↑ [مريم : 65]
- ↑ [الكهف : 38]
- ↑ [الأعراف : 127]
- ↑ [الفرقان : 60]
- ↑ [الرعد : 30]
- ↑ [الأحزاب : 43]
- ↑ [الإسراء : 110]
- ↑ [الزخرف : 45]