الرئيسيةبحث

التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق

التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
لمحمد بن علي بن غريب
  ► فهرس :إسلام ☰  

☰ جدول المحتويات


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مكمل الدين وناصره، ومظهر الحق بسيف الوحي، فبه الشرك والباطل قامعه، الذي أتم علينا وافر نعمته. وتفضل فرضي لنا الإسلام دينًا بكمال منته. وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم لعظم شأنه وشرفه. وأوضح لنا قواعد دينه الإسلام وملته، ونصب رايات الهدى فهي تنادي لدار الخلد من جنته، المتحبب إلى خلقه بفتح أبواب رحمته. والمحسن إلى أهل ملته الحنيفية بترادف أنواع الخير من نعمته. وميسر لمن اختاره بنصرة دينه أسباب علو الهمة ومانحهم بإقامتهم عليه كشف كل شدة وغمه، والملهم لتوحيده حمدًا موافيًا لنعمه ومكافئًا لمزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفع قائلها يوم وعده ووعيده. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، اللهم فصل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين ما استدار الزمن في تكوّره وتكويره.

أما بعد.

فإن الله عز رجل خلق السموات والأرض وما فيهما من الآيات ليعرف وتعلم حكمته، وقدرته، فيعبد وحده لا يشرك به، ويكون الدين كله بأنواعه له مختص بجلاله. وذلك معلوم ضرورة قال الله تعالى: { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } وقال عز من قائل: { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } وقال تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم }. وقال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته ويعبد وحده لا يشرك به، وأن يقوم النّاس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض. كما قال جل ذكره: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }. ومن أعظم القسط التوحيد، بل هو رأس العدل وقوامه. وأن الشرك لظلم عظيم، فالشرك أظلم الظلم والتوحيد أعدل العدل، وأوجب الواجبات وأفرض الطاعات، ولما كان الشرك بالله منافيًا بالذات لتوحيده تعالى وإخلاص العبادة له كان اكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك وأباح دمه وماله لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدًا لهم لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملًا أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها عثرة، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه ندًا وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه، رقد أرسل سبحانه وتعالى رسله إلى خلقه، وأنزل كتبه ليعلموا ذلك ويتيقنوه إقامة للحجة علهم، كما قال عز من قائل: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } وقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } إلى أن قال: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فدين الرسل واحد. لم يختلفوا في شيء من أصله. وإنما تحصل الفترة بين الرسولين فيندرس الدين أو بعضه فيُجهل ويُترك.

وقد بعث الله محمدًا ﷺ إلى الخلق على فترة من الرسل وأهل الأرض مَقتَهم الله عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبل مبعثه صلوات الله وسلامه عليه، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل، أو مبدل ومنسوخ، والدين كله أو بعضه مجهول متروك، وأمى من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر وتمثال أو غير ذلك، والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علمًا وهي جهل، وأعمال سيئة يحسبونها صلاحًا وهي فساد، وغاية البارع منهم علمًا وعملًا أن يحصل قليلًا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين قد اشتبه عليه حقه بباطله، أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع وأكثره مبتدع. فهدى الله الناس بنبوة محمد ﷺ وبما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين عمومًا وأولي العلم منهم خصوصًا من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علمًا وعملًا الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها ﷺ لتفاوتا تفاوتًا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما. والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية تدل على ذلك ولله الحمد والمنة. (وقد روى مسلم في صحيحه عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وان ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضًا" ورواه أيضًا البرقاني في صحيحه وزاد "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي المشركين، وحتى تعبد طوائف من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى".

فملك الأمة لأقطار الأرض، ثم افتراقهم الحاصل لهم، والاختلاف بينهم محقق مضبوط محفوظ عن النبي ﷺ من غير وجه. وكان ﷺ يحذر أمته منه لينجو من شاء الله منهم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "خط رسول الله ﷺ خطًا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطًا عن يمينه وخطوطًا عن شماله وقال هذه السبل المتفرقة وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ رسول الله ﷺ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } رواه الإمام أحمد وغيره. ومع أن الله تعالى حذرنا هذه السبل فقضاؤه سبحانه نافذ بما أخر به رسوله ﷺ بما سبق به علم الله تعالى، حيث قال الصادق المصدوق فيما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن". وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبر وذراعًا بذراع" فقيل يا رسول الله فارس والروم قال: "ومن الناس إلا أولئك" فأخبر ﷺ أنه سيكون في أمته مضاهاة لمن سلف من الأم اليهود والنصارى وهم أهل الكتاب وفارس والروم وهم الأعاجم. وقد كان ﷺ ينهي عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء. وليس إخبارًا عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة، وأخبر أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة، وأن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته، وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر: "أن النبي ﷺ خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وإني شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو قال مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها" رفي رواية: "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة فكان آخر ما رأيت رسول الله ﷺ على المنبر. فعلم بخبره الصادق أنه في أمته قوم مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا، وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود أو النصارى والمشركين. وفي حديث الثوري وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك وان بني إسرائيل افترقت على اثنين وسبعين ملة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله قال: "ما أنا عليه وأصحابي" رواه أبو عيسى الترمذي وقال هذا حديث غريب مفسر لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهذا الافتراق مشهور عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن عوف الأشجعي وغيرهم فعن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "تفرقت اليهود على أحد وسبعين فرقة أو اثنين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ". رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله ﷺ: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني أهل الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة " وقال: "أنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد ﷺ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به" هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمر. وعن الأزهر بن عبد الله الرازي عن أبي عامر عبد الله بن لحي عن معاوية، رواه عنه غير واحد، منهم أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة، ورواه الإمام أحمد وأبو داود في سننه، وقد روى ابن ماجة هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن ابن عوف بن مالك الأشجعي، ويروى من وجوه أخر فقد أخبر ﷺ بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، والثنتان والسبعون لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم. ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي ﷺ إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا معًا، ثم قد يؤول إلى سفك الدماء لأجل الدنيا فقط. أولها وللدين معًا، أو للدين فقط. وهذا الاختلاف هو ما نهى عنه الله في قوله سبحانه: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } الآيات وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وقول: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقوله: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } الآية ومنشأ هذا الاختلاف وأصله إما من جهة عدم العمل بالعلم، كالذي يعرف الحق من الباطل ويميز بينهما ولا يتبع الحق علما ولا قولًا ولا عملًا، وإما من جهة العمل بلا علم فيجتهد في أصناف البدع بلا شريعة من الله ويقول على الله بلا علم.

فالأول: من مشابهة اليهود الذين قال الله فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }.

والثاني: من مشابهة النصارى الغالين في الدين والقائلين فيه غير الحق والضالين عن سواء السبيل. وقد ابتلى الله طوائف من هذه الأمة من المنتسبين إلى العلم بما ابتلى به اليهود من الرياسة وحب الدنيا وإيثارها وكتم الحق، فإن هؤلاء المنتسبين إلى العلم تارة يكتمون العلم بخلًا به وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضًا برياسة أو مال فيخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسئلة أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسئلة فيكتم من العلم ما فيه حجة لخالفه وان لم يتيقن أن مخالفه مبطل، ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الهوى لا يكتبون إلا ما لهم. وكان السلف منهم سفيان بن عيينة وغيره يقولون أن من فسد من علمائنا ففيه شبهة من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وليس الغرض من هذا تفصيل ما يجب وما يستحب، وإنما الغرض التنبيه على منهاج الحق المتبع وهو ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، وفي قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح ورواه ابن ماجة وفيه قال ﷺ: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك" وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إني خلفت فيكم ما لم تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما أو عملتم بهما كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض" والنظر بعين الإنصاف إلى ما تشعب فيه الناس، وأصبح غالبهم نابذًا كتاب الله وسنة نبيه وراء ظهره زاعمًا أن كتاب الله ما بقي من حكمه الآن إلا مجرد التلاوة باللسان، وأما فهم معانيه وتدبره والعمل بما فيه فلا وصول لأحد إليه، وكذلك الأحاديث. فالقرآن مصرح بنقيض قولهم ورد حججهم قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وقد قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وقال تعالى: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } وقال تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } فهذا كله مشعر بأن القرآن محفوظ ومصون عن التبديل والتغيير والنسخ جملة وعدم فهم معانيه وتدبره فإنه للذين آمنوا نور وهدى، ولم ينزله الله إلا للعمل به، وذلك متوقف على معرفة معانيه. وكذلك الأحاديث فإنها تفسر القرآن، كما أن بعضه يفسر بعضًا. وقد فسره الصحابة رضي الله عنهم وتفقهوا في الدين منه. كما تفقهوا من السنة. وكذلك كتب الأئمة الأعلام الذين يؤخذ بأقوالهم من أهل الملة الغراء والمحجة البيضاء المفسرين له والمؤوّلين لمعانيه، والجامعين للأحاديث النبوية، المفارقين كل فرقة غوية، ليس في أيديهم منها إلا مجرد تلاوتها من غير تذكر لها ولما فيها ولا عمل بمعانيها، بل استغنوا عن ذلك كله بزخرفات المبطلين وإتباع حجج المعطلين، وإتباع الهوى وذلك كله من عموم البلوى حتى كتب الفقه التي في أيديهم، ويزعمون العمل بها وبما فيها إنما يأخذون منها ومن معاني ما تضمنته ما كان موافقًا لتحذيق الكلام والتشدق به من تعلم الدعاوي والخصومات وتعليمها، وأما العبادات والحدود فإنما تتلى باللسان تلاوة وقلّ ما توجد عند فقيه مستجمع لها، بل إن وجدت فهي عند الخواص من ذوي الثروة يساطرها مخزونة عنده من غير انتفاخ بها ولا عمل بمعانيها، بل تفاخرًا وتكبرًا وحب رياسة، وهو ربما لا يعلم اسمها ولا اسم مؤلفها، وينضاف إلى ذلك عداوة الحق ودحضه، وإيثار الباطل وحبه، اجتلاب لقلوب العوام، وجمع الحطام، ففي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ﷺ: "يخرج في آخر الزمان قوم يجتلبون الدنيا بالدين ويلبسون للناس مسوك الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله عز وجل أبي تغترون وعليّ تجترئون فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم فيهم حيرانًا" وذكر ابن أبي الدنيا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال علي كرم الله وجهه: "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، مساجدهم يومئذ عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود" وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية أن النبي ﷺ قال: "سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يستخفي المؤمن كما يستخفي المنافق فينا اليوم" ومنشأ ذلك وسببه إنما هو الإعراض عن منهاج الرسول وما كان عليه هو وأصحابه صلاة الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، والإقبال والانقياد إلى طاعة هذا العدو اللعين، الذي توعد وجد واجتهد في قوله لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين. وقد قال تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فلذلك حصل الران والغمرة، ووجدت الغفلة فانعكس الأمر وهجر ما الله به أمر، وارتكب ما عنه نهي وزجر. فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا واتبعت الأهواء وعمت البلوى، فالآمر بالمعروف ينكر عليه، والمتبع لهواه المنقاد إلى الباطل والمتنسك به يجل ويوقف بين يديه. وقد آل ذلك إلى عمى القلوب، والجهل بما هو من العبيد مطلوب حتى إذا أوجد الله رجلًا أحيا به قلوبًا قد انعكفت وانهمكت في أنواع باطل مضاد للحق متناول للشرك الأكبر فما دونه، فبصرهم به وأنقذهم منه ونهاهم عنه ثم قادهم إلى سبيل الخير والنجاة الذي هو منهاج نبيهم وأصحابه وما أنزل القرآن لأجله قام عليه أهل الأهواء فجرحوه وبدعوه، ومنهم من جعل اليهود والنصارى أخف شرًّا منه ومن إتباعه بلا تدبر ولا تذكر ولا تفكر في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ولا في كلام الأئمة الأعلام ممن سلف من الأنام، وما حصل لهم وعليهم من الأذى في ذات الله تعالى حسدًا وبغيًا، إما لأجل حق عملوا به وقالوه ونهوا عن ضده واجتنبوه أو لتصنيف صنفوه أو على غير ما شيء من ذلك أسلفوه، وإنما هو بسبب عدم موافقتهم لهم فيما اعتادوه.

ومن تأمل أحوال السلف وما جرى عليهم من أنواع البلوى إما قتلًا وإما حبسًا أو نفيًا أو ضربًا ابتلاء لو ذكرت أسبابه على تفاصيلها وذكر عدد من ابتلى ممن سلف لاحتمل ذلك مجلدات ضخام ولكن لنا في الاختصار أسوة علم علم اليقين أن الله سبحانه يبتلي أحبابه ابتلاء له فيه حكمة، ولو لم يكن فيه إلا رفع المقامات أو تكفير السيئات، خصوصًا هذا التوحيد فإنه سبحانه من حكمته لم يبعث به نبيًا قط إلا جعل له أعداء يؤذونه كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }.

ولما كان العلماء ورثة الأنبياء جعل الله لمن كان منهم عاملًا بعلمه مهتديًا بقول الله متبعًا لسنة رسول الله ﷺ عدوًا من الإنس والجن يؤذونه ويشوشون عليه اتباعه ويردون عليه ما قال عن الله ورسوله أقواله، وهذا كله من الله عدل إذ فيه رفع درجات الأنبياء، وإظهار مقامهم صلوات الله وسلامه عليهم، وتكفير سيئات هؤلاء العلماء ورفع درجاتهم وتعظيم أجورهم رضي الله عنهم، ولذلك قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } ومع ذلك فلا بد من نصر ما جاءت به الرسل الذي عملت به هؤلاء العلماء ودعت إليه قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وقال تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ } فمن صبر من هؤلاء العلماء المذكورين نصره الله كما نصر رسله، وهذا مصداق قوله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }.

وهكذا لم تزل السلسلة في صعود وهبوط إلى أن حل بهذا الرجل ما حل بالأسلاف الذين خلوا من قبله من صالح سلف الأمة وخيارها. لكن قد هدى الله به أممًا ضلالًا منهمكة في أكبر الكبائر على الإطلاق فحاز من الأجر العظيم مغنمًا لقوله ﷺ فيما صح عنه: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء" أخرجه مسلم وابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فلله الحمد والمنة.

ما ورد إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الرسائل

وقد وردت إليه أسئلة من علماء الحرمين والشام وأقطارها، وعلماء نجد وسكانها، وعلماء الاحساء وأتباعها، متعلقة بكشف أحواله، ومما يدعو الناس إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له، ومتضمنة للسؤال عن بيان ما يدعيه وما يقوله وما دليله فيه، فأجابهم بإجابة من الكتاب والسنة وإجماع صالح سلف الأمة ما بمثلها يهتدي المهتدون، وعليها يقف المنصفون، وبها يأخذ المستدلون، فهدى الله به من اهتدى وخاض في لجج طغيانه من شقى، ولو ذكرنا ما حصل من ذلك على التفصيل اللائق لطال الفصل، وانعكس الوصل، ولكن يكفي اللبيب ما قد شاع عنه وذاع، وتقطعت به الأسماع، من أن يدعو الناس إلى توحيد الله وحده لا شريك له في عبادته ومعاملته وإخلاص وحدانيته وعبادته بأنواعها له وحده ليكون الدين كله له، وهذا ما دعت إليه الرسل وأنزلت به الكتب.

القول على خطبة رسالة عبد الله الراوي

وقد وردت إليه رسالة تنسب إلى عبد الله أفندي الراوي البغدادي خطيب المسجد المنسوب للوزير سليمان باشا، وقيل لعبد القادر الجيلي رحم الله روحه ونور مرقده وضريحه، وكان إرسالها بأمر الوزير سليمان باشا المقيم فيه الآن، هداه ربنا الرحمن في السر والإعلان، ومضمونها: أن التوحيد إنما هو مختص بمعنى الربوبية، فالإله اسم مختص بالخالق الرازق الضار النافع وهو الله، ولا يكون اسمًا لغيره إلا إن اعتقد أن ذلك الغير يوجد ذلك الضر والنفع اعتقادًا علميًا مع اعتقاد ذلك الغير أيضًا شريكًا لله حتى يطلق على ذلك المعتقد اسم المشرك واسم الكفر الموجب لسفك دمه وخلوده في النار، فأما من قال بلسانه لا إله إلا الله محمد رسول الله وآمن بالله واليوم الآخر ثم دعا غير الله من ولي أو ملك أو نبي بشيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى، واعتقد في ذلك الغير أنه يضر وينفع فهو يعتقد فيه ذلك الذي لا يقدر عليه إلا الله، ولكن لا يعتقد أنه شريك لله. بل إذا سئل فقيل له الله شريك، قال لا. ولكني أدعو هؤلاء لقربهم وصلاحهم، فهم يكشفون شدتي، ويفرجون كربتي، وأطلب منهم شفاعتهم، فإن ذلك لا يخرج عن الملة بل فيه مجرد الحرمة والإثم فقط. ثم استثنى جواز سؤال الشفاعة منهم في هذه الدار وأنه إن دعاهم لشفاعتهم له وطلبها منهم فلا بأس بذلك، وفيه أيضًا: أن تارك الصلاة عامدًا لا يكفر فلا يقتل وفيها أيضًا: جواز شد الرحال إلى زيارة القبور، وانه قريب من الواجب حيث كانت قبور الأنبياء، وفيها مسائل ومسائل واعتراضات كما سنذكرها إن شاء الله تعالى، وقد أرسلها الوزير المكرم لننظر فيها ثم نجيب عنه، فنقول بعد الاستعانة بالله والاتكال عليه والبراءة من الحول والقوة.

أما قولكم بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه وعلى من تبعهم بإحسان، وقفى أثرهم إلى آخر الزمان.

فنقول هذا الابتداء بالبسملة، والحمد له، والاستعانة، والاستغفار، والاستعاذة بالله من شرور النفس وسيئات الأعمال والاخبار، بأن من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له والشهادة بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، والاخبار بإرساله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وإنشاء الصلاة عليه وعلى آله وأصحابه وجنده وحزبه ومن تبعهم بإحسان وقفي أثرهم إلى آخر الزمان، مشروع للتأسي بالكتاب العزيز ومأمور به في قوله ﷺ: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر" وفي رواية فهو أجذم. وفي رواية فهو أقطع. والأبتر في اللغة مقطوع الذنب. والأجذم مقطوع الأنف. والأقطع مقطوع اليد. أطلق الشارع ﷺ كلا منها في الحديث على ما فقدت البركة منه تشبيهًا له بما فقد ذنبه الذي به تكمل خلقته؛ أو بمن فقدت يداه اللتان يعتمدهما في البطش ومحاولة تحصيل ما يروم تحصيله. فإطلاق كل منها في هذا على وجه التشبيه البليغ أو الاستعاذة، ومعنى ذلك في هذا المعنوي ناقص البركة فهذا حث منه ﷺ على البدء بالبسملة التي هي سبب لتمام البركة في كل ما يهتم به شرعًا، وكما أن الحديث وارد بالبدء بالبسملة فكذلك الحمدلة. ولذلك المصنفون يجمعون بينهما. لكن الابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة إضافي، ليندفع التعارض. والاسم مشتق من السمو، وهو العلو، أو من السمة وهي العلامة. وفيه ست لغات كما هي مبسوطة في محالها من مطولات ومختصرات، ووشرت سينه للتمييز بينه وبين الفاصل للميم عنه. ولذلك كان عمر بن الحطاب رضي الله عنه يضرب الناس على توشيره، وعلى مد الألف المتصلة به قدام الباء، التي وضعت عوضًا عن الألف المتصلة بالباء في حال انفرادها عن السين، كما في باسم ربك، وأفردت نقطة الباء التي تحت الاسم إشارة إلى تفرده تعالى بالألوهية والوحدانية، ودورت ميمه إشارة إلى احاطة ملكه سبحانه وتعالى جميع الكائنات، فاجتمع فيه معنى الألوهية والربوبية، ثم هذا المبدوء به المذكور في صدر المقدمة يحتاج كل ذاكر له وقائل به إلى علم معانيه والعمل بما يدعيه، فإن معنى قول القائل بسم الله، أي أستعين وأتبرك بكل اسم للذات الأقدس، المسمى بهذا الاسم الأنفس، الموصوف بكمال الإنعام وما دونه، فالباء متعلقة بمحذوف مقدر بقوة المذكور وكونه فعلًا أولى لأنه الأصل في العمل، وعمل الاسم بالحمل عليه وخاصًا من مادة المفعول أولى أيضًا، فمريد السفر يقدر بسم الله أتبرك وأستعين به على السفر، والمؤلف يقدر على التأليف، فهو في معنى أسافر أو أؤلف ونحو ذلك، لما فيه من الاستعانة والتبرك في جميع أجزاء الفعل، بخلاف الابتداء والافتتاح سواء قلنا معنى الباء الاستعانة أو المصاحبة أو التعدية، وكونه مؤخرًا عن لفظ بسم الله أولى أيضًا، ولا يجوز بينهما والأولى تأخيره عن الرحمن الرحيم لمن أتى بهما، وذلك لأن رتبة العامل التقديم، فتأخيره لنكتة وهي إفادة الاهتمام مطلقًا والاختصاص والحصر غالبًا وهو من حمر القلب ان كان المشركون يتبركون بأسماء آلهتهم وما يعبدون من دون الله، أو من قصر الإفراد ان كانوا يتبركون بالابتداء بأسماء الله وأسماء آلهتهم، واستظهره السعد وغيره.

فلذلك وجب على الموحد قصر الاستعانة والتبرك على اسم الله تبارك وتعالى، أي الإتيان بما يفيد ذلك وان لم يلاحظه أو لم يعرفه، ولا يغني عنه كون المتكلم لا يعتقد ذلك لعدم إطلاعه عليه ومعرفته إياه، إذ الجهل بالشيء لا يزيل حكمه. وأما قوله تعالى اقرأ باسم ربك فللاهتمام بالقراءة لخصوص المحل، فان أول هذه السورة أول ما نزل من القرآن واقرأ فيها راجع للبسملة لأنها بعض ذلك الأول ومقدمة عليه، فهي أول آية نزلت على الإطلاق كما اقتضى الاختصاص والحصر، إياك نعبد وإياك نستعين، والمعنى نخصك بالعبادة والاستعانة، فلا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك، ففي تقديم اسم الله اهتمام به للتعظيم واختصاص أيضًا، وحصر للذوق السليم، وتنبيه على أنه ينبغي للعابد أن يكون نظره ابتداء إلى المعبود ثم إلى العبادة، لا من حيث أنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه، ووصلة بينه وبين معبوده، وقدمت العبادة على الاستعانة لتوافق رؤوس الآي، ولأن تقديم الوسيلة التي هي القربة والأعمال الصالحة على طلب الحاجة أدعى إلى القبول والإجابة، وللإشارة إلى أنه لا توجد العبادة من العابد إلا مع الاستعانة، ولذلك قيل إن الواو للحال، وكرر الضمير إشارة إلى حصر الاستعانة به تعالى، وذكر السين في بسم الله للفرق بين التيمن واليمين.

(والله) أصله اله زيدت فيه اللام وشددت وفتحت همزته فصار الله؛ وهو علم على ذاته تعالى وتقدس يوصف ولا يوصف به (والرحمن الرحيم) اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمن أبلغ من الرحيم، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، وإنما قدم، والقياس يقتضى الترقي لأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره تعالى لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره، أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة، وفي إيثار هذين الوصفين المفيدين المبالغة في الرحمة إشارة لسبقها وغلبتها على أضدادها وعدم انقطاعها، فلينظر القائل بسم الله أهو عامل بمعناه، لقصره الاستعانة والبركة على اسم الله خاصة، فلا يعتقد معنى ذلك في غيره تعالى كما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ولا يرضى به أيضًا، وان أشعر تقديم العامل بالاحتمال فاعتقاده باق على حاله، أو هو يعتقد ذلك المعنى في غير الله مع كونه إنما ذكر اسم الله خاصة، أو لم يعتقده لكنه يرضى به من غيره، فهذا لم يقصر الاستعانة والبركة على اسم الله وان أتى بما يفيدهما لفظًا، لأن عقيدته أفسدت عليه.

(ومعنى الحمد لله) أي جنس الوصف بالجميل أو كل فرد منه مملوك أو مستحق للمعبود بالحق المتصف بكل كمال على الكمال. والحمد هو الثناء بالصفات الجميلة الاختيارية، والأفعال الحسنة المرضية، سواء كان في مقابلة نعمة أم لا. وفي الاصطلاح فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه على الحامد أو غيره. والشكر لغة هو الحمد ومعناه اصطلاحًا صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه لما خلق لأجله.

قال تعالى: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } وبين الحمد والشكر اللغوي عموم وخصوص من وجه، فان الحمد مورده خاص، ومتعلقه عام، والشكر مورده عام، ومتعلقه خاص كقوله:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا

(ولينظر القائل الحمد لله) أيضًا هل هو خاص بالمعبود بالحق المتصف بكل كمال على الكمال بما هو حق له، فما كان من جلب نفع أو كشف ضر فلا ينسبه إلا إليه تعالى ويثني عليه به، لأنه المنعم الحقيقي. وغيره وان أسدى معروفًا فالثناء عليه مجاز، لأن الله هو الخالق لذلك الغير، وهو المعطي له ما أسداه وحببه إليه وقواه عليه، فهو سبحانه المعطي المانع الضار النافع، وأزمة الأمور كلها في يده ومرجعها إليه، فصار معنى الحمد مختص لله تعالى بهذا الاعتبار، وان أثنى على الناس خيرًا، أو هو ينسب شيئًا من ذلك لغيره تعالى فقد عدله به. وان قال الحمد لله لفظًا، فان كان قد خص المعبود بما هو حق له فقد أتى بمعنى أحمده، لأن معناه أصفه بجميع صفاته التي كل منها جميل، وأثنى عليه بها فان رعاية الجميع أبلغ في التعظيم، وهذه الصيغة يدل معناها على إيجاد الحمد الذي هو الثناء على الله بجميع المحامد لا الإعلام بذلك، وان لم يخصه تعالى بما هو حقه لم يأت بالمعنى وإنما هو مجرد لفظ خال منه.

(ومعنى) أستعينه أي أطلب المعونة في أموري كلها منه، فأنا متوكل عليه ومتبرئ من حولي وقوتي ولا أرضى من نفسي ولا من غيري إلا بذلك، فان عمل به فقد أتى بمعناه، وإلا فهو مجرد لفظ.

(ومعنى) استغفره أي أطلب منه المغفرة. ثم إن كان المستغفر قد فعل ذنبًا أقلع عنه وندم عليه وعزم أن لا يعود إليه فذلك توبة، وإلا فهو مجرد دعاء، والمستغفر المقيم على ذنبه كالمستهزئ بربه.

(ومعنى) أعوذ أي ألوذ وأتحصن واعتصم وأستجير بالله من شر هذه النفس الأمارة أن تصدني عن فعل ما أمرت به، أو تحثني على فعل ما نهيت عنه، فيحصل لي الشر من قبلها لأنها قد حسنت لي سيئات الأعمال، فأعوذ بالله من شرها ومن سيئات أعمالها. فعلامة الصدق في ذلك فعل المأمورات واجتناب المنهيات والانقياد إلى قول الله والإتباع لدين محمد بن عبد الله، وإلا فهو مجرد لفظ خال من معناه. (ومعنى) من يهد الله فلا مضل له أي من يرشده الله إلى سبيل الرشاد وهو الصراط المستقيم الذي أنعم الله به على النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فلا محيد له عن ذلك، ومستهل الهداية دخول الدليل إلى الفؤاد والانبساط له كما يراد، ثم خفة الطاعة بعد القيام بمعنى الشهادتين والحمد على الخروج من ساحة الإضاعة ونور البصيرة وجلاء عين السريرة والسلوك في مدارج السالكين، ومناهج المتقين، والسفر إلى أعلى عليين، ومحبة أرحم الراحمين، والإقتداء بأفضل المرسلين، وأما من كان من الضالين- أي الهالكين الغائبين- عن الهدى الزائغين عنه بتقدير الله عليه ذلك فلا هادي له مصداقه قوله تعالى: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } بل قلبه عن الحق مقفل قد نابذ جميع أوامر الله عز وجل، وانتقش في خاطره الكثيف بغض الحق وأهله، وامتلأ قلبه وقالبه بحب الباطل وأهله، والشيطان وحزبه والتلذذ بكل نوع من الطغيان، فنفرت منه كل جارحة عن حزب الرحمن، لا شيء أحب إليه من إطفاء نور الإيمان وتكثير جند الطغيان، وفي المعنى يقول الرحمن: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } وهذه الآية على هؤلاء أشد بلية وأجل رزية، فإنهم يحاولون بجدهم وجهدهم إغواء المؤمنين، ونقض عهدهم مع الموحدين ليراجعوا إلى ما هم عليه من الباطل والطغيان. ومن ذاق طعم الإيمان لأن يقذف في النار أحب إليه من أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه رب العالمين. فحلاوة الإيمان لا ألذ منها عند الموحدين، ثم النصر والتأييد لهم في كل حين. وحزب الشيطان يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. والمهتدي إذا صارت نفسه لوامة خاف من مورثات الندامة فحزن على ما فات وخاف مما هو آت. ومقام الخوف من أجلّ المقامات { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } وقد أخبر ﷺ أنه أخوف الأمة لمولاه. فلينظر الإنسان من أي الفريقين هو أمن حزب الرحمن، أم من أولياء الشيطان الذين لم ينقادوا لإتباع ما جاءت به الرسل فقلب قلبه عن الحق بعدم الانقياد كما قال تعالى { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وكقوله: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فجعل علة التقليب والطبع عدم الانقياد لاتباع ما جاءت به الرسل، وذلك أنه تعالى قد فطر عباده على الهدى فمن بقي على الفطرة وقبل ما جاءت به الرسل زاده هدى ولطفًا وتوفيقًا. ومن غير الفطرة وعاند ما جاءت به الرسل ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، ويسره للعسرى وخذله. (ثم ليعلم) أن إرادته تعالى الخير من عباده، وإرادته الشر لا يستلزم وقوع المراد منهم ضرورة، إنه أراد ذلك فهم مع بقائهم مختارين كما أراد الإيمان منهم فهو أراد وقوع الخير منهم وهم مختارون، فقد يقع ما أراده تعالى منهم وقد يتخلف هذا بخلاف ما يريده تعالى من أفعاله فإنه لا يتخلف عن إرادته وقوع مراده مثل قوله تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } بخلاف الأول ومنه { يريد الله أن يتوب عليكم } فإن المراد يريد منكم أن يتوب عليكم فيتوب عليكم أي يتقبل توبتكم، إلا أن مع إرادته تعالى الخير لعبده يكون أقرب إلى فعل ما أراده منه لأنه من اللطف، وعكسه إرادته بعبده الشر. إذا عرف هذا فليجعل هذا البحث نصب العينين فقد زلت بجهله عوالم وتهاوش حوله طوائف ولم يقع لهم محررًا مقررًا.

(ومعنى نشهد) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أي أذعن بقلبي واعترف بلساني وأعمل بمقتضى ذلك أن لا معبود بحق في الوجود إلا الله؛ فمن عبد من دونه أو معه فعبادته زور وظلم وبهتان، وأنا برئ من العابد وعبادة المعبود واشتقاق الإله من التوله، ومعناه المألوه وهو الذي تتألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والإجلال والخوف والرجاء والالتجاء والتوكل والإنابة وذبح النسك. قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فالمحبة التي في الله غير التي كحب الله لأن الأولى محمودة شرعًا كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله والثانية تأله: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وكذلك الخوف { فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } والتوكل { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقوله تعالى: { إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } فهذا كله يفيد الحصر. ثم استعمل في كل ما يعبد بما تقدم ذكره من دون الله أو معه، فنفى ذلك بلا النافية للجنس وأثبت الألوهية لمستحقها وهو الله بألا المفيدة للحصر.

(وحده) أي حال كونه مفردًا بها عما سواه ( لا شريك له) حال ثانية مؤكدة للأولى. أي لا شريك له في هذه الألوهية التي نفيت عن غيره واختصت بجلاله وعظمته، فالعبادات بأنواعها له خاصة به ليس لأحد منها شيء البتة، فهذه الكلمة الطيبة التي قد قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد وبها أمر الله سبحانه جميع العباد، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسنة رسله إليها فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. ضد الكلمة الخبيثة التي كالشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار، فهي خراب الكائنات وعليها تثبت أنواع المنكرات، وبها وجد الذل والصغار ولأجلها فتحت أبواب النار فكل من لم يعمل بمعنى هذه الشهادة التي قد شهد بها فهو كاذب في ادعائه إياها كما كذب الله الذين شهدوا بالرسالة فلم يعملوا بمعناها. (وان محمدًا عبده ورسوله) أي أشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فمحمد اسمه ﷺ وكنيته أبو القاسم، وسمي به لكثرة خصاله الحميدة سمي به قبله سبعة عشر شخصًا على ما قاله ابن الهائم عن بعض الحفاظ، بخلاف أحمد فإنه لم يسم به قبله عبد قالي أبو علي الدقاق ليس شيء أشرف ولا أتم للمؤمن من الوصف بالعبودية، ورسوله إلى كافة الخلق. والرسول إنسان ذكر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه أخص من النبي. فبينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة وينفرد أحدهما في أخرى، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين، وحجة على المعاندين، وحسرة على الكافرين، (أرسله بالهدى ودين الحق) الذي هو التوحيد بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. فأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورًا فأمده بملائكته المقربين، وأيده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشكر واليقين، فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، وفرض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه وسد الطرق كلها إليه وإلى جنته، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفرقان المبين الذي باتباعه يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فلم يزل ﷺ مشمرًا في ذات الله لا يرده عنه راد، صادعًا بأمره لا يصده عنه صاد، صادع إلى أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الدنيا نورًا وابتهاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا فلما أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى، والمحل الأسنى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، فصلى الله وسلم وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه. كما وحد الله وعرف به ودعا إليه. ومن لازم صحة هذه الشهادة الإيمان بما أرسل به وهو التوحيد قولًا وعملًا واعتقادًا، وتصديقه بجميع ما أخبر به وإلا فهو مكذب ودين الحق هو المؤيد المنصور لقوله تعالى { ليظهره } أي يعليه ويعزه { عَلى الدِّين كله } سائر الأديان المخالفة لدينه (صلى الله وسلم عليه) قال الأزهري معنى الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدمي التضرع والدعاء بخير، وقال أبو العالية صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء، والسلام إما بمعنى التحية أو بمعنى السلامة من النقائص والرذائل وتستحب الصلاة عليه بتأكد، وتتأكد كلما ذكر. وقيل بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه (وعلى آله) وهم في مقام الدعاء أتباعه على دينه عند أكثر أهل العلم، قال تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } أي أتباعه. وقيل هم الأتقياء من أمته. وأما في مقام الزكاة فهم أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطلب ابني عبد مناف، وقدموا على الصحب للأمر بالصلاة عليهم وإضافته إلى المضمر جائزة عند الأكثر، وعمل أكثر المصنفين عليه، ومنعه جمع منهم الكسائي والنحاس والزبيدي (وصحبه) جمع صاحب، وجمع الصحب أصحاب، والصحابي من لقي النبي ﷺ واجتمع به مؤمنًا ومات على ذلك. وعطفهم على الآل من عطف الخاص على العام، وفي الجمع بين الصحب والآل مخالفة للمبتدعة لأنهم يوالون الآل دون الصحب (وجنده) هم خاصته من المؤمنين (وحزبه) المعاونين له بالنصرة (وعلى من تبعهم بإحسان) لم يغيروا بعدهم ولم يبدلوا سيرتهم الحسنى (وقفى أثرهم) على السيرة المحمودة (إلى آخر الزمان) فمن لم يتبع بل غير وبدل فهو مبتدع، وقد أثنى الله على الذين يطلبون المغفرة من ربهم لأنفسهم ولمن سبقهم من المؤمنين فقال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } فهذا هو المطلوب بعكس ما عليه أهل الأهواء من الوثوب على مسبة الحق الذي جاء من عند الله فهو له غير محبوب، وتفريق كلمة المؤمنين وسب أكابر الصحابة والتابعين.

وما أمروا إلا ليستغفروا لهم ** فسبوا كرامًا سبهم لم يحلل

وقال الإمام مالك رحمه الله: من أصبح وفي قلبه بغض لأحد من الصحابة فقد أصابته الآية، يعني قوله تعالى: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ }.

وصرح بعض الحنفية بتكفير الرافضة لسبهم الصحابة. فقال صاحب تبيين المحارم:

واعلم أن الروافض كفار عندنا لأنهم يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وكذا من أنكر خلافتهما يكفر عندنا في الأصح وقد أثنى الله سبحانه على السابقين من الأولين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين في قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وإنما المتبع لهم العامل بمنهاجهم والمقتدي بهديهم هو الذي لم يحدث في الدين ولم يغير ما جاءت به سنة سيد المرسلين.

سبب تأليف الرسالة

وأما قولكم (وبعد فلما أن ورد كتابكم إلى حضرة سليمان باشا طلبتم منه أن يجمع علماء مملكته لينظروا في كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب كي يطلعوا على ما انطوى عليه من الأحكام ويميزوا بين ما يستوجب النقض والإبرام صدر منه الأمر الواجب القبول والإتباع وأشار إليّ وإشارته حكم وطاعته غنم فامتثالًا لأمره نظرنا فيه فبعد أن طالعناه، وفهمنا فحواه، وجدناه كتابًا جامعًا لشتات من المسائل مشتملًا على عدة رسائل لكنه قد جمع فيه بين غث وسمين، وقوي ووهين ووجدنا أحواله أحوال من عرف من الشريعة شطرًا، ولم يمعن فيها نظرًا، ولا قرأ على أحد ممن يهديه إلى النهج القويم ويدله ويوقفه على العلوم النافعة التي هي الصراط المستقيم.

فنقول (وبعد) هذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من غرض إلى غرض آخر ويندب الإتيان بما في الخطب والمكاتبات كما كان ﷺ يأتي بها في خطبه ومكاتباته. رواه عبد القادر الرهاوى في الأربعين له عن أربعين صحابيًا، وأول من تكلم بها داود ﷺ فهي فصل الحطاب الذي أوتيه، والصحيح أنه فصل الخصومات كما عليه جل العلماء، وقيل أول من تكلم بها يعرب بن قحطان، وقيل قس بن ساعدة، وقيل غير ذلك، وهي من الظروف التي تقع على الزمان والمكان، ويجوز هنا إرادة كل منهما، وهي مبنية على الضم لنية معنى المضاف إليها ويجوز نصها لنية لفظه كما لو ذكر وان لم ينو شيء من ذلك جاز تنويها نصبًا وضمًا، والواو نائبة عن أما، وأما نائبة عن مهما، والأصل مهما يكن من شيء بعد الحمدلة إلى آخره. (فلما) أو غير ذلك (ان ورد) من ورد الشيء إلى مستقره أي وصل (كتابكم) أي مكتوبكم (إلى الوزير) المذكور اسمه أعلاه وفقه الله وهداه وأصلح أحوالنا وإياه (وطلبتم منه أن يجمع علماء مملكته) أي دولته وسلطته وهم علماء بلده المقيمون فيه.

ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر من أخذ عنه العلم

(لينظروا في كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب) بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن إدريس بن على بن محمد بن علوي بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيع بن ساعدة بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان بن عدي بن عبد مناة بن تميم ولد سنة 1115 دخل البصرة والحجاز وأخذ العلم عن جماعة، منهم الشيخ علي أفندي الداغستاني لما اجتمع به في المدينة المنورة مجاورًا بها شيخ مشايخ الشام بأجمعهم بعد الشيخ أبي المواهب والشيخ إسماعيل العجلوني فان أبا المواهب الكبير وهو المحدث عبد الباقي متقدم عليه والشيخ العجلوني كان في عصره وأخذ أيضًا عن عبد الله بن إبراهيم نزيل المدينة والمشهور بها وأخذ أيضًا عن عبد اللطيف الاحسائي العفالقي وأخذ أيضًا عن محمد العفالقي الاحسائي فقد قرأ على الشيخ عبد الله بن إبراهيم وأجازه من طريقين:

(أحدهما): عن ابن نصر الله عن الشيخ محمد البلباني عن الشيخ أحمد بن علي الوفائي المفلحي عن الشيخ موسى الحجاوي عن القاضي برهان الدين بن مفلح وهما عن والده نجم الدين بن مفلح عن والده القاضي صاحب الفروع عن جده عبد الله بن مفلح عن الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية عن شمس الدين بن أبي عمر عن عمه موفق الدين بن قدامة عن الشيخ عبد القادر الجيلي عن القاضي أبي يعلى المرداوي عن ابن حامد عن أبي بكر الخلال عن أبي بكر المروزي عن الإمام أحمد عن سفيان ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ عن جبرائيل عليه السلام عن رب العزة تبارك وتعالى.

(والثاني): عن عبد القادر التغلبي عن عبد الباقي أبي المواهب المحدث عن الشيخ أحمد الوفائي عن موسى الحجاوي عن أحمد الشويكي عن العسكري عن عبد الرحمن بن رجب عن ابن القيم عن تقي الدين أحمد بن تيمية عن شمس الدين نجل أبي عمر عن عمه موفق الدين عن الشيخ عبد القادر الجيلاني عن أبي الوفا بن عقيل عن القاضي أبي يعلى عن ابن حامد عن أبي بكر المروزي عن الخلال عن الأثرم عن الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة أيضًا عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ عن جبرائيل عليه السلام عن الله تبارك وتعالى.

وقد أجازه أيضًا كل من الشيخ علي أفندي، وعبد الله بن إبراهيم، وعبد اللطيف العفالقي، في كل ما حواه ثبت الشيخ عبد الباقي أبي المواهب الحنبلي قراءة وتعلمًا وتعليمًا من صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه، وصحيح مسلم بسنده إلى مؤلفه، وشروح كل منهما، وسنن الترمذي بسنده، وسنن أبي داود بسنده، وسنن ابن ماجة بسنده، وسنن النسائي الكبرى بسنده، وسنن الدارمي ومؤلفاته بالسند، وسلسلة العربية بسندها عن أبي الأسود عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكتب النووي كلها وألفية العراقي، والترغيب والترهيب، والخلاصة لابن مالك، وسيرة ابن هشام، وسائر كتبه، ومؤلفات ابن حجر العسقلاني، وكتب القاضي عياض، وكتب القراآت وكتاب الغنية لعبد القادر الجيلي، وكتاب القاموس بالسند إلى مؤلفه، ومسند الإمام الشافعي، وموطأ مالك، ومسند الإمام الأعظم، ومسند الإمام أحمد، ومسند أبي داود ومعاجم الطبراني وكتب السيوطي... فقه الحنابلة وسلسلتها وأصولهم. ثم أنه رجع إلى نجد فوجد أهلها ضالين وعلى أصنام يعبدونها من دون الله عاكفين ما بين أشجار وأحجار وغيران وطواغيت من الإنس والجان فاتنين ومفتونين فلم يسعه إلا الصدع بالحق والإعراض عن المشركين، والنصيحة لهؤلاء العاكفين عملًا بنصيحة الدين وخوفًا من حلول اللعنة إلى يوم الدين { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } فتحتم عليه البلاغ والعلم والتعليم.

فشرع في ذلك وهو على الله متوكل، وبآيات الله متفكر وبحبله معتصم بعد أن طرأ في خلده وخطر في هاجسه أنه مما هم به على خطر، وأنه من ذلك على حذر، فلما أن توكل على الذي ليس دونه مفر ولا يغني عنه مقر، كفاه ومنحه وحباه.

فأدركت العناية الإلهية والهداية الربانية من أراد الله هدايته لإقامة دين الإسلام والتمسك في سبل السلام أمير بلدته التي فيها محلته مرحوم الودود محمد بن سعود، فشرح الله لذلك صدره ويسر له أمره ففتحت عين بصيرته وانجلت غشاوة سريرته، فسمع ووعى وذكر وأوعى، وزادته العناية توفيقًا والهداية في قلبه ترقيقًا، فأجد وأمد وعن ساعده شمر، واجتهد مقبلًا على إقامة التوحيد وداعيًا إليه العبيد، فلذلك عاداه أهل هذا الباطل وأقاموا بأنواع العداوة عليه فأجمعوا جدهم وجهدهم من خيلهم ورجالهم ومدافعهم التي هي غاية ما عندهم ليرجعوه هو واتباعه عن إقامة التوحيد، والدعاية إليه وإخلاص الوحدانية والعبادة كلها بأنواعها لله وحده، إلى ما كانوا عليه من الطغيان، وعبادة الشيطان، من الإنس والجان، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون. ولم يزل ذو العناية الهداية معتصمًا بحبل الله معدًا لأولياء الشيطان ما استطاع من قوة الآلات ومن رباط الخيل في سبيل الله تمثلًا قوله تعالى في الآيات البينات: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ } فأعز الله به الإسلام والمسلمين وألف به بين قلوب المؤمنين وظهر الحق وانتصر الدين وقمع الباطل وأولياءه المشركين وهكذا لم يزل الأمر حتى توفاه الله إليه، وأختار له ما لديه من النعيم المقر أبد الآبدين قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } وقال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } فقام مقامه وانتصب انتصابه ناصر السنة والدين وخاذل البدعة والمشركين المجاهد في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا والداعي إلى الله إيجابًا نجله الأواه المعتصم بالله الحميد المحمود، عبد العزيز بن محمد بن سعود، فجاهد في الله واجتهد، وبذل نفسه لله وأمد، فأفشى الله به الإسلام وأوسعه، واضمحل به الباطل وقمعه، ولا قام صاحب باطل وهوى على إطفاء نور الله إلا وأهلكه الله في ساعة قصيرة فلله الحمد والمنة، حتى وقع في الإسلام وقائع غرائب وعجائب كما مضى في صدر سلف هذه الأمة عينًا بعين ومثلًا بمثل ما لو جمع ذلك لاحتمل مجلدات لكثرة البلاوي والوقائع الغريبات بمعادات هذا الدين، والتصديق والانقياد لقول أعدائه من شياطين الإنس المفتونين إذ قالوا وكذبوا وشنعوا وان لم يحققوا ويتحققوا، فقد آل الأمر إلى تجذيب النساء مع الرجال من تحت أستار الكعبة في وقت الشريف مسعود، فحبس وعذب، وسرقن عن بلد الله الحرام من كان فيه تهمة من هذا الحق والتنسك به وانتساب إليه، وغرب عداوة للدين وطواعية لشياطين الإنس المعاندين بلا مراجعة ولا مفاكرة ولا عداوة دنيوية سابقة وإنما هو عناد وطعن في الحق المراد بلا تحقق ولا تذكر ولا تفكر، ولما حذر الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذا الشرك الأكبر فعنه أنذر وأقام عليه البراهين من القرآن والسنة وكلام الأئمة فقرر وحرر أحب أن يجمع فيه كتابًا مختصرًا جامعًا لمعنى دين الرسل من أولهم إلى آخرهم ومعرفته، ومعنى دين المشركين المتقربين إلى الله بأبغض الأشياء إلية من أعمال المعاندين، بأدلته الجامعة من الكتاب والسنة وكلام صاع سلف الأمة، وليس هو يدعو الناس إلى التزام بمذهب معين فيجمعهم عليه، وينكر كلام واجتهاد الأئمة المجتهدين من غيره، ولا إنه يدعي الاجتهاد بنفسه، وإنما يدعوهم إلى العلم والعمل بمعنى هذه الكلمة الطيبة التي أرسلت بها الرسل وأنزلت في تقريرها الكتب للعلم بها والعمل بمعناها، وترك الكلمة الخبيثة عملها ومنشأها وسماه (كتاب التوحيد) فيما هو حق على العبيد، وكشف شبه المرتاب فيما التبس عليه من الخطأ والصواب، فشاع وذاع ونفع من الله إنفاد وأطاع، وقد أرسل نسخة منه ولي الأمر المجاهد الأواه من ذكر اسمه المنيف أعلاه، إلى جانب العزيز المكرم سليمان باشا، محبة إليه ونصيحة وحرصًا عليه وفضيلة وليتأمل بعين الإنصاف هو ومن كان عالمًا من أهل الإنصاف، فيعمل بعد تحققه ذلك بإقامة الدين ويترك قول الشياطين المعاندين، ويحقق التوحيد المطلوب من العبيد، وما أصبح عليه غالب الناس من جعلهم من لا يداني رسول الله ﷺ الذي خاطبه ربه في قوله تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } بل لعله عدو لرسول ﷺ الله بمنزلة رب العالمين والسموات السبع، والأرضين السبع، ورب العرش العظيم، فيعذرنا في أمرنا ونهينا ولا يطيع الخصم فينا، لأنّ العاقل اللبيب إذا فهم ذلك وأتقنه تيقن أن أمرنا الذي قمنا به وباشرناه واجب ومتحتم علينا قال الله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } وقال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ولا منكر أعظم ولا أكبر من الشرك بالله، ونحن قد مكننا الله في الأرض ولله الحمد فلا عذر لنا، ومن لم يمكنه الله فيها ولم يقدر على إظهار ما طلب منه وجب عليه شرعًا أن يأوى إلى من ينصره حيث وجد ويعاونه على البر والتقوى كي يطلعوا على ما انطوى عليه من الأحكام ويميزوا بين ما يستوجب النقض والإبرام أتى بكى التعليلية التي تفيد أن الإطلاع والتمييز علة لإرسال الكتاب أي لم يرسل إلا ليطلعوا عليه ويميزوا ما فيه مما يستوجب النقض والإبرام فأما الإطلاع على ما فيه من الأحكام فنعم.

والأحكام: جمع حكم، وهو ما شرعه الله من حلال، وحرام، ومكروه، ومباح، ومندوب. والمقصود بها هنا أبوابه ومسائله الشاملة لذلك، وبيان أصله المشتمل على التوحيد بأدلته التفصيلية، وأما التمييز بين ما ذكره فليس هو علة للإرسال إذ لم يرسل ليحرر ويمر بل قد حرر وأمر عند شيوخ أفاضل وجهابذة أكابر منهم المشايخ الشاميون الشيخ على أفندي الداغسطاني الذي قد ذكرنا اسمه، وابن عمه الشيخ عبد الكريم أفندي الداغسطاني، والشيخ محمد البرهاني، والشيخ عثمان الديار بكري نزيل المدينة المنورة، والشيخ محمد السفاريني نزيل نابلس، وأرسل إليه بنسخة فأمرها وأقرها من غير مشايخه الذين قد ذكروا، فإن منهم من أدرك كلامه وكلهم قد أقروه وحرروه وأجازوه، ولكن عذرهم عدم المساعد لهم في قيام ما تضمنه من إقامة الدين وإخلاصه لرب العالمين وإلا هو الذي يدينون الله به في أنفسهم وأهليهم وأصحابهم من عشائرهم لكن لا يقدرون على نهي الناس عما اعتقدوه وعملوا به وقالوه لأن ذلك يعتاز إلى سيف قائم وإمام عادل وذلك متعذر الآن إلا بتوفيق الله وإيجاده، وإنما أرسل الكتاب لأمرين.

الأول: ليحصل العلم عند الخاص والعام إنا لم نقاتل الناس إلا على إقامة دين المصطفى محمد ﷺ من العلم بمعنى هذه الكلمة الطيبة والعمل بها وعمل سائر المعروف التابع لها من صلاة وزكاة كفعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع المانعين لها والتعلم بما أوجب الله على عباده وما طلبه منهم وخلقهم له وبما نهاهم عنه وحذرهم منه فإن الرجل من أهل هذا الزمان يشب ويشيب وهو لا يعرف المعروف بأنواعه بل حتى التوحيد وضده وفروض وضوئه وصلاته وما يبطلهما لا يعلمه بل هو منهمك في القول والقيل بلا فائدة ولا عائدة، وعلى ترك ضدها المنافي لها وهو الشرك الذي قال الله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وإزالة صائر ما هو تابع لها من زنا وربا وشرب خمر ولواط وسائر المحرمات ومع ذلك نحن لا نكفر بالمعاصي كما توهمه مطيعو العدو وإنما نكفر المشركين الذين كفرهم الله في كتابه المبين أو الراضين أعمالهم المظاهرين لهم علينا والمكفرينا بأمرنا ونهينا لقوله تعالى: { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } ونقاتلهم عليه وعلى سائر أفعال المعروف المتروكة.

الثاني: النصيحة لهذا الوزير الذي هو عندنا في محل، حرصًا عليه وشفقة منا إليه لودنا له ما وددنا لأنفسنا من أنواع الخير، فيتأمل ويعمل ورجاء أن الله يهدي به خلقًا كثيرًا كما قال ﷺ لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" وليتأمل أيضًا ببصيرة قلبه خير القرون الماضية وأهلها الذين قال عنهم النبي ﷺ: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" والقول بأنا لا نقدر على ذلك ليس بعذر سديد لأن الله قال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } وقال ﷺ فيما صح عنه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" وليس له ﷺ طريق ولأصحابه آخر، ولا لأصحابه طريق ولنا آخر، بل الطريق الذي فطر الله عليه الأمة وأمرها إتباعه واحد، فالنبي ﷺ يتقدمنا فيه ونحن نقتفي أثره وأثر أصحابه كما كان عليه السلف الصالح، والدنيا فانية مفروغ منها والأمر أسرع من ذلك والعز بأنواعه لم يوجده الله إلا في الإسلام والإقامة عليه، والذل والصغار والمحق في ضده { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } (صدر منه الأمر الواجب القبول والإتباع وأشار إلى وإشارته حكم وطاعته غنم فامتثالًا لأمره نظرنا فيه) صدر أي مضى من هذا الوزير الأمر لعلماء مملكته لينظروا في هذا الكتاب، والله أعلم بنيته، الواجب القبول والإتباع صفتان للأمر ولا شك أن طاعة الأمير واجبة لكن في غير المعصية.

تعصب الراوي وكبره

وأشار إليّ فيه ان هذا المشار إليه يدعي أنه من أجل علماء المملكة وأكبرهم قدرًا عنده فلذلك خصه من بينهم فامتثالًا لأمره نظرنا فيه، يعني وإلا لو لا أمره لم ننظر فيه ولم نطالعه، ولم نتأمله، وهذا من أعظم التعصب وأكبر التوثب على الركون إلى الرأي العقلي بلا حجة قطعية ولا دليل نقلي، فهو من نوع التوكل على مجرد الرأي، وذلك هو الموجب لقول الزور والبهتان والوقوع في الإثم والعدوان، إذ ما من مستغن برأيه عن مشاهدة الحق وأتباعه والتأمل في أحواله إلا وفات عليه خير كثير ولم يحصل له ما خيل إليه مما يزعم أنه لديه وهذا من العلم العقلي المخالف للدليل النقلي الناشئ عن الجهل الكلي قال تعالى: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } وقد قال النبي ﷺ عن ذلك أنه إتباع هوى وإعجاب، فروى أبو ثعلبة عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك" والترفع عن أخذ العلم والحق وعن سماعه وادعاء الانتهاء فيه والاستغناء عنه من أكبر العجب، وهذا ادعاء فيما لا سبيل له إليه ولا ملك له فيه وان زعم كمال الفهم فيه والإطلاع عليه إذ ما من عالم إلا وفوقه أعلم منه، قال تعالى: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } أي لكل ذي علم من المخلوقين أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله عز وجل، ولذلك عتب الله على موسى عليه السلام حين قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل هل أحد أعلم منك؟ قال: لا، قال الله: بلى إن عبدنا خضرًا هو أعلم منك، فلا زال يطلبه حتى وجده ليأخذ عنه العلم. ومن استغنى برأيه وزعم أن الباطل حق باستدلالاته التي قامت مخايل جفيلها الخالي في ذهنه وقرب سرابها النائي في ظنه فتخيل أن جميع معانيها وما فيها منسوبة عنه وإليه؛ ولم يعلم أنها حجة عليه، فقد أخطأ سبيل الرشاد وتعنت في أنواع العناد مقلدًا لما سمعه من عدو الحق بلا تحقق، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته والله تعالى يقول: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا } وفي المسند للإمام أحمد عن ابن عمر يرفعه إلى النبي ﷺ: "من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى وهو عليه غضبان" وقال ﷺ: "إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء" رواه الديلمي في مسند الفردوس وذلك لأنهم سبب صلاح العالم، واليهم ينتهي أمور الدنيا والدين، وبهم الحل والعقد، فإذا فسدوا فسد الناس كلهم، وسبب فسادهم الضار بالخاص والعام. متابعة الهوى وحب الرئاسة والعجب بالرأي، وقد يظهر للناس ما يدل على صلاحه من أمر أو نهي وهو في قيد هواه معجب في نفسه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى قتلت قال كذبت ولكن قاتلت ليقال هو جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمته فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن فقال كذبت ولكن تعلمت ليقال هو عالم فقد قيل وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمته فعرفها فقال ما عملت فيها فقال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" وفي لفظ: "فهؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع عليه أهل النار فيقولون أي فلان ما شأنك ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" وسبب هذا إنما هو إتباع الهوى، والقصور على مجرد الرأي من أعظمه وان زعم العلم وادعاه، ولذلك ذم الله سبحانه المعارضين للحق لما جاءهم بما قام في أنفسهم من الادعاء للعلم والاستغناء به عما جاءهم قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } قال أهل التفسير يعني رضوا عن ذلك بما عندهم من العلم في زعمهم فرح استهزاء وضحك منكرين للحق، وسماه سبحانه علمًا باعتبار ما قام في ذهنهم وإلا فهو أقبح الجهل، والاستغناء بمجرد الرأي الحالي عن الدليل النقلي موجب للتعاون على الإثم والعدوان اللذين نهى الله عنهما في قوله: { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } والمعاونة عليهما من دحض الحق والعمل بنقيضه، وهذا من تسويل إبليس وتحسينه ليدخل الإنسان في ملته، فمن فعل فقد أحياها فصار من حزبه وأعوانه { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } والمعاونة على الإثم طبقات أقبحها وأفحشها ما يقع من العلماء وهي إما بالفعل أو بالقول، فإن كانت من الفعل فهي من أعظم الضرر على البقية، وذلك أن العلماء إذا عملوا عملًا ليس من الدين ولا سنة أفضل المرسلين صاروا سببًا لإقدام العوام إليه ولعكوفهم عليه لاعتقادهم أنه من الدين، وأنه مما يتقرب به إلى رب العالمين، وهذا السبب في كل بدعة، وما من فتنة في الوجود تنشأ إلا عنها. وفي هذا المعنى يقول العزيز الحكيم في التحذير من مخالفة أوامر من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقد أصيب الناس بفتنة أضرت بالخاص والعام فلم يرض أحد عن أحد غير معتقده ولم يزكه إلا بإتباع ما ارتكبه، وهذا نوع من الزيغ وقد أخبر الصادق المصدوق أن هلاك من كان قبلنا بسبب الاختلاف؛ وحذر أمته أن تصنع كما صنعوا فيقعوا فيما وقع فيه من مضى من الأسلاف قال ﷺ: "دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه مما استطعتم" أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" وهؤلاء المبتدعون يصيرون سببًا لفتنة كل مفتون. ويكون هذا منهم كإعطاء السيف لقاطع طريق المسلمين، وكتذكار الحجر للمجانين، وكإغراق السفينة في الماء، وكإحراق المدينة في النار، وإن كانت في القول فهي أعظم ضررًا من الفعل فإنهم إذا أحلوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله تبعهم العوام مقتدين بهم فبذلك يصيرون عاملين بالإثم ومعاونين عليه فحصل لهم كفلان من العذاب. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقرأ قوله تعالى: { تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } الآية فقلت يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه فقلت بلى قال تلك عبادتهم" رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه، والتحليل والتحريم ليس قيدًا لوجود الإثم بل هو موجود بمجرد الأمر والنهي المخالفين للدين ثم ان كان ذلك المأمور به فعله مكفرًا والمنهي عن فعله تركه مكفر فله حكمه، وإلا فهو ذنب ان لم يستحل ولهذا كان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه" وكانوا يقولون: "احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فان فنتهما فتنة لكل مفتون" فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. وقد وصف الله تعالى أئمة المتقين فقال: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات، ومنه قوله تعالى: { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وقوله: { أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } ووصف بعضهم الإمام أحمد رحمه الله فقال "عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الباع فنفاها، والدنيا فأباها"ومنه الحديث المرسل عن النبي ﷺ: "إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات" وقد دل قوله تعالى { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ } على إتباع الشهوات وهو داء العُصاة، وقوله: { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } على الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرًا يجتمعان، فقل من تجد في اعتقاده فسادًا إلا وهو يظهر في عمله، وقد دلت الآية على أن الذين قبله استمتعوا وخاضوا وهؤلاء فعلوا مثل أولئك لأن قوله استمتعتم وخضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي، وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة كسائر ما أخبر الله به عن الكفار والمنافقين عند مبعث النبي ﷺ فإنه ذم لمن حاله كحالهم وعمله يشبه عملهم إلى يوم القيامة قد أشار إلى ذلك الإمام البغوي والحافظ ابن كثير وغيرهما من المفسرين عند هذه الآية بحديث إلى سعيد الخدري رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي ﷺ أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن" وفي رواية أبي هريرة: "وهل الناس إلا أولئك" وقال ابن مسعود: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أن لا أدري تعبدون العجل أم لا" وبهذا أيضًا يكون خبرًا عن أمر دائم مستمر لأنه وان كان بضمير الخطاب فهو كالضمائر في نحو قوله { اعبدوا واركعوا واسجدوا وآمنوا } فكما أن جميع الموجودين في وقت النبي ﷺ مخاطبون بهذا الكلام لأنه كلام الله وإنما الرسول مبلغ، فكذلك هو متناول لمن بعدهم إلى يوم القيامة، وهذا مذهب عامة المسلمين، وان كان بعض من تكلم في أصول الفقه اعتقد أن الضمير يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وان سائر الموجودين بعدهم دخلوا إما بما علمناه بالاضطرار من احتواء الحكم كما لو خاطب النبي ﷺ واحدًا من أمته وقصد غيره من سائر الأمة، وإما بالسنة، وإما بالإجماع، وإما بالقياس، فيكون كل من حصل في هذا الاستمتاع والخوض مخاطبًا بقوله تعالى { فاستمتعتم وخضتم } وقد توعد سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله: { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فأخبر سبحانه أن في هذه الأمة من استمتع بخلاقه كما استمتع الأمم قبلهم، وخاض كالذين خاضوا، وذمهم وتوعدهم على ذلك، ثم خصهم على الاعتبار بمن قبلهم، فقال عز من قائل: { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } الآية فطاعة الله ورسوله وصف للمؤمنين قال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } والاستمتاع بالخلاق والخوض، وصف لمن فيه مشابهة للقرون المتقدمة وقد ذم الله من يفعل ذلك، وأمر نبيه ﷺ بجهاد الكفار والمنافقين بعد هذه الآية دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين، ثم هذا الذي دل عليه الكتاب من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك دلت عليه أيضًا سنة رسول الله ﷺ، وتأول الآية على ذلك أصحابه رضي الله عنهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعًا بذراع وشبرًا بشبر وباعًا بباع حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه" قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً } الآية قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب. قال: "فهل الناس إلا هم" وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. وعن حذيفة بن اليمان قال: "المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ قلنا: وكيف. قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه" وقد جاءت السنة بالأخبار بمشابهتهم في الدنيا وذم ذلك والنهي عنه، وكذلك في الدين، فمن الأول ما في الصحيحين عن عمرو بن عوف من حديث أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه حين بعثه النبي ﷺ إلى البحرين الحديث بتمامه ومن الثاني ما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل الحديث" حتى في الرئاسة وحب الدنيا وإيثارها.

ما ذكره الراوي في شأن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب

(فبعد أن طالعناه وفهمنا فحواه وجدناه كتابًا جامعًا لشتات من المسائل مشتملًا على عدة رسائل).

الضمير في طالعناه يرجع إلى الكتاب المذكور، رأى نظرنا فيه وفهمنا فحواه أي معناه ومذهبه فيه وما يميل إليه، وقوله وجدناه من وجد الشيء إذا علمه وأحس به كتابًا أي مكتوبًا جامعًا أي حاويًا لشتات من المسائل جع مسئلة من السؤال وهو ما يبرهن عنه في العلم مشتملًا حال من الضمير في وجدناه على عدة رسائل (منها كتاب التوحيد) وقول الله تبارك وتعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } قوله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ثم أتى فيه بأحاديث من الصحيحين وبوّبه أبوابًا على تراجم معلومة وأحاديث منهما منقولة (ومنها كتاب الكبائر) وقول الله تبارك وتعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } الآية وبوّبه أبوابًا على تراجم معلومة وأحاديث من الصحيحين مشهورة منقولة (ومنها كشف شبه المرتاب) مصدرة في معرفة حقيقة التوحيد وما هو حق الله على العبيد وكيفية الشرك الذي قال الله عنه: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وكيف كان صفة شرك الذين قاتلهم رسول الله ﷺ وأنهم مقرون بتوحيد الربوبية وإنما قصدهم شيئًا يتقربون به إلى الله من خلقه يدعونهم ويرجونهم ويتوكلون عليهم لشفاعتهم لهم زاعمين رضاء الله والقرب إليه، فضرهم ذلك وأفسد عليهم (ومنها شرح الكلمة الطيبة) بمعناها المراد من لفظها والكلمة الخبيثة التي ضد الطيبة ودلائلها وأنهما لا يجتمعان، وان معنى الإله هو المعبود سواء كان بحق أو بباطل وان من جعل بينه وبين الله من خلقه وسائط يدعوهم ويرجوهم ويتوكل عليهم ويتقرب بهم فقد جعلهم آلهة مع الله لقول بني إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهًا (ومنها كلام الإمام أحمد) في عدة وريقات كتبهن رسالة له في مسابقة المأموم إمامه في الصلاة.

رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونقد الراوي لها

(ومنها) رسالة له متعلقة بسيرة الأولين ومعرفتهم للدين وفعلهم مع المعاندين المخالفين (وله رسالة في الجهاد) وفضله وكيف كان رسول الله ﷺ وأصحابه يجاهدون (وفيه رسائل غير ذلك) متعلقة بالتوحيد وغيره من مسائل الدين (لكنه قد جمع فيه بين غث وسمين وقوي ووهين) هذا استدراك من قوله كتابًا جامعًا أي لكنه يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد جمع فيه أي في كتابه المتقدم ذكره يين غث عني به الجاف الهشيم الذي لا طعم فيه؛ بدليل ما يقابله في قوله وسمين أي جمع في هذا الكتاب بين ما هو خالي المعنى المراد من الترجمة التي عقدت لأجله، فما قصده فيها هو معلوم لا تؤدي تلك الترجمة وما تضمنته معناه بل ما قام في ذهنه أستدل عليه به فدليله خال مما أراده ليس فيه منه شيء، وبين ما هو موافق لما أراده فمعناه فيه موجود موافق. وقوله وقوى ووهين عطف مغاير، أي جمع في هذا الكتاب أيضًا بين قوي وهو ما ليس فيه شيء يوجب ضعفه، ووهين هو الضعيف الذي فيه شيء يوجب نقصه عن درجة ما قبله، أشار بذلك هذا المعترض إلى أنه ناقد بصير مميز يين الأشياء المتضادة والمتوافقة وما تؤديه من المعاني المتغايرة أو المتناسبة وما يراد منها وما متعلقها ونتيجتها وبين ما فيه قوة وضعف وصحة وبطلان وأنه قد نقد هذا الكتاب فوجده كما وصفه.

ونحن نقول من تأمل كلامه الآتي علم يقينًا أن ليس عنده من ذلك إلا مجرد الادعاء، إذ هو الجامع للمتضادين جنسًا، وهو المازج للصفتين نوعًا، وهو الخابط فيه خبط العشوى فلم يفرق فيه بين الجنسين، ولم يميز بين النوعين لعدم معرفته الدين مع قصد الأولين وإقرارهم برب العالمين، فان قصدهم القرب إليه والتحصيل لما لديه، لكن ضرهم جهل الكيفية التي يكون بها التعبد أجل مطلوب ومقربًا إلى المحبوب، لكن من له إطلاع على أصحاب التصانيف الحسان، وما حصل لهم وعليهم من الإقران علم يقينًا أن ما كان أولًا فهو بالأولى وقوعًا في آخر الزمان وما أحسن ما قيل في ذلك:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ** كما أن عين السخط تبدي المساويا

ومن رزق التوفيق هدي إلى الصواب، ومن استفتح فقد نجح، فيرزق العلم بقول الله وبما جاء عن محمد رسول الله مشروح الصدر للإيمان على نور من ربه يعرف الحق ويقود إليه ويعرف الباطل ويذود نفسه وغيره عنه.

(ووجدنا أحواله أحوال من عرف من الشريعة شطرًا ولم يمعن فيها نظرًا، ولا قرأ على من يهديه إلى النهج القويم، ويدله ويوقفه على العلوم النافعة التي هي الصراط المستقيم).

الضمير في وجدنا أحواله يرجع إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحوال من عرف من الشريعة أي المشروعة التي شرعها الله على لسان رسول الله ﷺ شطرًا شطر المكان جهته، وشطر الشيء والمتاع ضعفه، وشاطر الوادي جانبه كشاطئه ومعناه أنا وجدنا أحوال هذا الرجل أحوال الذي عرف من الشريعة شطرها أي جهتها التي تؤدي إليها وبعضها التي فيها ولديها، ولذلك قال ولم يمعن فيها نظرًا يعني لم يصل إلى معناها الكلي بعد أن عرف الجهة التي هي اللفظ، وملخصه أنه قد عرف لفظ الكلام من الكتب ولم يفهم المعنى.

رد الشيخ على قول الخصم

ونحن نقول من تأمل القرآن وآياته البينات، وسبب إنزاله وموضوعه، وسنة النبي ﷺ وهديه، وما أُرسل به، وسنة أصحابه، ومن تبعهم بإحسان، فهم يقينًا أن ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأمر به ودعا إليه هو عين ما تضمنه القرآن من توحيد الله الذي هو حقه على العبيد، وما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه وأئمة الدين بعدهم، وانه بذلك قد علم الشريعة وحققها، وأمعن نظره في سنة النبي ﷺ وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وقررها وأظهرها، فإن آيات الله دالة على وحدانيته تعالى في ألوهيته وتفرده في معاملته مما هو حق على عبيده، فإنزاله سبب لمعرفة حق الله تعالى وتقدس وإخلاص الدين كله له وحده، وهذا موضوع القرآن مع كونه مصرحًا بأن الأولين مقرون ومعترفون لله بالخلق والرزق والإماتة والإحياء والتدبير والضر والنفع وإنما قصدهم الجاه والقربة بواسطة ووسيلة من المخلوقين، أو صورهم توصلهم إلى غاية قصدهم ومطلوبهم { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } وقال في موضع آخر: { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } إلى أن قال: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ثم قال بعد تقريرهم وإقرارهم بأن ملكوت كل شيء بيد الملك الحي { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } ووصف الإنسان بأنه إذا مسه الضر دعاه وإذا كشفه عنه أشرك معه سواه قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } وهذه أقبح حالة إذا مسه الشر دعا لحاجته فإذا أنعم عليه مولاه جاءته الاستحالة، وهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ولشفاعتهم لنا عند الله. فمن عرف لفظ هذه الآيات القرآنية ووفق لفهم معناها، وأنهم مقرون له تعالى بالربوبية علم أن هذا المقام لا نزاع فيه، وإنما اتخذوهم وسائط ووسائل بينهم وبين ربهم كما تكون الواسطة بين الملك ورعيته، وهذه الوسائط التي يدعونها في حال الرخاء فقط ويرجون شفاعتها وقت الشدة يسمونها الآلهة لتأله قلوبهم بها ورجاؤهم منها القرب والتقريب، كما قالوا أجعل الآلهة إلهًا واحدًا، على جهة أن ذلك لا يكون لأنهم ظنوا أن الإله الواحد وهو الله لا يسع الخلق إلا بآلهة معه يدخلون عليه بهم ويصلون إلى قضاء الحوائج بشفاعتهم لديه، ومنه قول بني إسرائيل لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } قال أهل التفسير إنهم لم يكونوا شاكين في الدين وإنما أرادوا شيئًا يعظم عندهم وفي نفوسهم ويتقربون بتعظيمه وشفاعته إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر في الدين لشدة جهلهم.

ومن عرف وحقق معنى الشهادتين اللذين هما رأس الإسلام وقوامه، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثم شهد بهما لزمه العمل بمقتضاهما قولًا وفعلًا واعتقادًا وترك المنافي والمناقض لهما قولًا وفعلًا واعتقادًا، فإن معنى الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له وحده في عبادته ومعاملته، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره لا بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكرام ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله كما قال جل ذكره: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من الشرك بحسب ما كان لغيره، ثم إن كان أصغر مثل الرياء فله حكمه، وان كان أكبر مثل ما يأتي بيانه فله حكمه، وكمال الدين كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" فالمؤمنون يحبون لله والمشركون يحبون مع الله وهي الأنداد التي ذكرها في قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا } الآية.

والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله تتضمن تصديقه ﷺ في كل ما أخبر به وطاعته في كل ما أمر به، فما أثبته وجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه، كما يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفوا عنه ما نفاه عن نفسه من مماثلة المخلوق، فيخلصون من التعطيل والتمثيل، ويكونوا في إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل.

وعليهم أن يفعلوا ما أمر الله به وينتهوا عما نهى عنه، ويحللوا ما حلله، ويحرموا ما حرمه، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله، ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما لكونهم حرموا ما لم يحرم الله وشرعوا دينًا لم يأذن به الله كما في قوله تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا } إلى آخر السورة وما ذكره في صدر سورة الأعراف وكذا قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه } وقد قال تعالى لنبيه ﷺ: { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } فأخبر أنه داع إلى الله بإذنه، فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إليه بغير اذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك، ومن خاض كما خاض فيه الأولون فلم يعرف اللازم من الملزوم فقد جردهما من المعنى. وإذا كان سبب النزول أحوال مشركي العرب فالعام لا يقصر على السبب. وكذلك الأحاديث الصحيحة كحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ماحق الله على العباد" قلت: الله ورسوله أعلم قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا أتدري ما حقهم عليه؟" قلت: الله ورسوله أعلم قال: "أن لا يعذبهم وفي لفظ أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" قلت: أفلا أبشر الناس قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين فإنه قاض في الأخبار بلفظه عن حق الله على العباد من توحيده سبحانه وإخلاص الألوهية له تعالى كما قال جل شأنه: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وقوله: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } فقد أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينًا، وأمرنا أن نتبع صراطه المستقيم ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله، وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر التي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات العشر التي أنزل الله على موسى في التوراة وإن كانت الكلمات التي نزلت على نبينا ﷺ أكمل وأبلغ وأتم، ولهذا قال الربيع بن خيثم وعبد الله بن مسعود: "من سره أن يقرأ كتاب محمد الذي لم يفض خاتمه بعده فليقرأ آخر سورة الأنعام { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } الآية". وأمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأخبر رسوله { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وذكر أنه جعله على شريعة من الأمر، أمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون وقال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب } إلى قوله: { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } فأمره أن لا يتبع أهواءهم عوضًا عما جاءه من الحق، وإن كان ذلك المتبع شرعًا أو طريقًا لغيره من الأنبياء فإنه سبحانه قد جعل لكل منهم سنة وسبيلًا ولكنه ﷺ حذره ربه أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، وإذا كان هذا فيما جاءت به شريعة غيره، فكيف بما لم يعلم أنه جاءت به شريعة قط، بل لم ينزل الله به الكتب ويرسل الرسل إلا بتقبيحه والإنذار عنه، وخبث فاعله والحكم عليه بالذل والصغار والخلود في النار، حتى قرر ذلك وحرر في كتب الفقه التي تداولها الأيدي لعلماء كل مذهب فإنهم عقدوا فيه بابًا للردة بعبارات مختلفة اللفظ متفقة المعنى.

تعريف المرتد

منها قولهم المرتد لغة الراجع، يقال ارتد فهو مرتد إذا رجع قال تعالى: { وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } وشرعًا الذي يكفر بعد إسلامه نطقًا أو اعتقادًا أو شركًا أو فعلًا، وبعض هؤلاء الأئمة قال ولو مميزًا فتصح ردته كإسلامه، وهم الحنابلة ومن وافقهم طوعًا لا مكرهًا بأن فعل لداعي الإكراه لاعتقاده ما أريد منه لقوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } الآية إلى أن قالوا أو أشرك بالله، بأن جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم ويتوكل عليهم لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقوله تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } وهذا قد أجمع عليه أئمة المسلمين وعلماء الدين.

ونعني بهذا الإجماع ما قاله الإمام الغزالي: هو اتفاق أمة محمد ﷺ على أمر من الأمور الدينية. ولا عذر في الجهل بعد الإنذار بالكتاب والرسول وإن جادل وعاند وزعم أنه محق فهو بنزول العذاب والبلاء مستحق. وفي هذا يقول نبي الله هود: على محمد وعليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام مخاطبًا لقومه وقد أكثروا عليه في تركهم الآلهة وشددوا في لومه { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } فهذه المجادلة بالباطل وقوع الرجس والغضب هو الحامل عليها بعد أن تقدم منهم السبب.

حكم التوسل بالأعمال الصالحة وبأسماء الله وصفاته

فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة كتوسل أهل الإيمان في قولهم { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } الآيات وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم، الحديث في البخاري لأنه تعالى وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، وكسؤاله بصفاته وأسمائه كالأدعية المعروفة في السنن "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله الحنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام" وفي الحديث الآخر "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد" وفي الحديث الآخر "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك" فهذه الأدعية ونحوها مشروعة باتفاق العلماء، وأما الإقسام على الله بمخلوق فهو منهي عنه باتفاق الأئمة. وهل هو نهي تحريم أو تنزيه على قولين أصحهما أنه نهي تحريم. وأما سؤاله تعالى بمعاقد العز من عرشه فيأتي بحثه إن شاء الله تعالى، ومن أثبت ما نفاه الله أو نفى ما أثبته الله في كتابه أو على لسان رسوله فقد ضل الطريق وأخطأ المعنى وان ادعى الحفظ والفهم. عن عبد الله بن مسعود قال: (سألت رسول الله ﷺ: "أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك") فأنزل الله تصديقها { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } رواه البخاري ومسلم عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير. فهذا الحديث الصحيح له معان ودرجات على الترتيب في عظم الذنب، وأكبره جعل الأنداد، وما دونه وان كان ذنبًا فليس مساويًا له إلا أن استحل فيوافقه في اسم الكفر وجعل الند لله أكبر منه، ولكن ليس على العبد أشد من دحض الحق والعمل بخلافه ومعاداته وأهله والقدح عليهم فيه، فمعاداة الحق وأهله سنة متقدمة وعادة مطردة ولذلك لما أنزل الله على نبيه ﷺ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } صدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم فدعا إلى الله الكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى والجن والإنس، فلما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة وبادأهم بسب آلهتهم وعيب دينهم اشتد أذاهم له ولمن استجاب له وادعوا جهلهم وجنونهم، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، كما قال تعالى لنبيه ﷺ: { مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِك } وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِن } وقال: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } الآية فعزى الله سبحانه نبيه بذلك وان له أسوة بمن تقدمه من الرسل وعزى سبحانه أيضًا أتباعه وهم العلماء العاملون بأمره الداعون إلى شريعته بقوله سبحانه: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية وقوله: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.. } إلى قوله: { أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ }.

ومن تأمل سياق هذه الآيات وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم علم أن الناس بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن يأبى فيستمر على السيئات من مخالفة دين الرسل، فمن قال آمنا ابتلاه ربه واختبره ليتبين الصادق من الكاذب ومن لم يتبع دين الرسل فلا يحسب أنه يفوت الله ويسبقه، فمن آمن بالرسل واتبع دينهم واهتدى بهديهم عاداه أعداؤهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: "إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه ومازال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته" أخرجه البخاري في صحيحه في باب التواضع من كتاب الرقائق، ومن كان طالبًا للرتبة العلية تنقل في المقامات العلوية وفارق كل فرقة غوية. ومن كان من حزب الشيطان يعود شيطانًا وان كان في صورة الإنسان.

(ولا قرأ على من) أي على الذي (يهديه إلى النهج القويم) يعني أنه لم يقرأ على شيخ يرشده إلى الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم في ترجمته عند ذكر اسمه عدة مشايخه الذين قد اجتمع بهم وأخذ عنهم إجازة ودراية.

تعريف الدليل لغة واصطلاحًا

(ويدله ويوقفه على العلوم النافعة التي هي الصراط المستقيم) الدليل لغة: هو المرشد وهو الناصب والذاكر وما به الإرشاد.

واصطلاحًا: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري وفاقًا وقيل إلى العلم به فتخرج الامارة، قال الأصوليون لابد للمستدرك من دليل ونظر وعلم، قال الإمام أحمد الدال هو الله، والدليل هو القرآن والمبين هو الرسول ﷺ والمستدل أولو العلم، هذه قواعد الإسلام والنظر هو الفكر لمعرفة مطلوب من تصور أو تصديق، والعلم وهو حكم الذهن ألجازم المطابق الموجب فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فهو الدليل عليه وبه يهتدي في ظلمات الجهل والشبه والشكوك ولهذا سمى الله كتابه نورًا لأنه يهتدى به في ظلمات الجهل والوهم قال الله تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ومثل النبي ﷺ حملة العلم الذي جاء به، بالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات، ففي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر"

فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة وما دام العلم باقيًا في الأرض فالناس على هدى وبقاء العلم ببقاء حملته العاملين به، فإذا ذهبت حملته أو من يقوم به وقع الناس في الضلال، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: "إن الله عز وجل لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم يجدوا عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وذكر النبي ﷺ يومًا رفع العلم فقيل له كيف يذب العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأنا نساءنا وأبناءنا فقال النبي ﷺ: "هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم شيئًا" فسئل عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن هذا الحديث فقال: "لو شئت لأخبرتكم بأول علم يرفع عن الناس الخشوع" وإنما قال عبادة هذا لأن العلم قسمان: أحدهما ما كان ثمرته في قلب الإنسان وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله المقتضية لخشيته ومهابته وإجلاله والخضوع له ورجائه ومحبته ودعائه والتوكل عليه ونحو ذلك مما هو عبادة مختصة بجلاله فهذا هو العلم النافع كما قال ابن مسعود رضي الله عنه أن أقوامًا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، وقال الحسن العلم علمان: علم اللسان فذلك حجة الله على بني آدم وهو كما في الحديث: "القرآن حجة لك أو عليك" وعلم القلب وهو العلم النافع الذائد لصاحبه عن جميع المهالك وهذا لا يمكن إلا بصلاح تلك المضغة التي قد نص عليها النبي ﷺ في قوله: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" أخرجه البخاري ومسلم من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير وقد أرشد الله نبيه ﷺ إلى الهدى والعلم وأمره أن يسألهما منه عند الاختلاف فيه رغبة إليه سبحانه وإعراضًا عن المشركين الذين قال الله عنهم: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقال: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } فروى مسلم وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا قام يصلي من الليل يقول: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل واسرافيل فاطر السموات والأرض علم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك انك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وذلك أن الله يقول: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي فاختلفوا وقد قيل انا كذلك في حرف عبد الله { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } والهداية تورث الإلهام من ذي الجلال والإكرام المنان، وهو نفث في الروع من المولى الكريم لذوي الاستسلام، ويعقبه السكينة معنى ينزله الكريم المنان والطمأنينة نتيجة السكينة إذا قوي اليقين يأمن بها العبد إذا ذعر غيره من العبيد في مظاهر الانتقام والمجاهدة لأعداء كلمة الإسلام، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب قد هدي فاهتدى، وهدى الله به من اهتدى بعد الاسترشاد إلى الرشاد والانحياد عن أهل الفساد، وهو لا يفتر عن الاوراد { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم انك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. السلام على النبي ورحمة الله وبركاته. هكذا لا يفتر أبدًا لا وقت نوم أو درس لكن لغربة الإسلام أنكر عليه وللحسد والبغضاء عودي ونسب كل فعل قبيح إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل وما أحسن ما قيل في ذلك:

أقول الله ربي والإسلام ** ديني والقرآن لي إمام

مقتديًا بأحمد وآله ** مخالفًا طوائف الكفر فهل ألام

قد غاظ دين الله كل كافر ** ليس له بحبله اعتصام

أصم أعمى ما له معرفة ** إلا بما تغذي به الأجسام

قد جهل القرآن من شقائه ** ففاته بجهله المرام

يا لائمي إني أطعت أمر من ** عصيانه سبحانه حرام

مستمسكًا بالعروة الوثقى التي ** ليس لها يا لائمي انفصام

أدعو إلى القرآن من لم ** يتبع آياته كلها أحكام

عاديتني والله قد أكرمني ** أفق فداعي الله لا يضام

تريد أن تطفي نور خالقي ** ونوره غايته الإتمام

والحق كالشمس إذا ما أشرقت ** أنوارها انجلى عنها الظلام

وفضله سبحانه إذا أتى ** عبدًا فلا ترده الأنام

وفي ذلك أيضًا:

إن الإله على نصري لمقتدر ** فما أبالي بأعدائي ولو كثروا

إذا تجروا على ظلمي فإني ** بأقوى من هم انتصروا

إن المشركين قوم لا عقول لهم ** يلقيهم الجهل في الكفر الذي حذروا

أمرتهم بإتباع الذكر فامتلأوا ** غيظًا فهل آمنوا أم كفروا

لا يستجيبون للداعي إذا سمعوا ** ولا يرون سبيل الرشد لو نظروا

ولا يعون فما نصح بنافعهم ** كأنهم بيننا من جهلهم بقر

إني لأرجو الإله أن يصيبهم ** بنقمة منه لا تبقي ولا تذر

يا صم يا بكم يا عمي الكتاب ** هدى للمتقين وعلم ليس ينحصر

فاتلوه واتبعوا آياته ودعوا ** مذاهب السفهاء إنها ضرر

أتهجرون كتاب الله ويلكم ** هل فارس نفسا لكم قوم له هجروا

لقد مرقتم من الإسلام فانتبهوا ** فليس ترك كتاب الله يغتفر

ما صح إيمان من لم يتبعه ولو ** صلوا وصاموا وحجوا البيت واعتمروا

وقد أرسل إليه العالم الفاضل المدقق شيخ جهابذة العلماء الأعلام في عصره، رباني أهل وقته، شيخ صنعاء اليمن، وزبيدها عمدة دقيقها وجليلها محمد بن إسماعيل الأمير أرجوزة يثني فيها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلى عقيدته ويشكره على أمره ونهيه وهي هذه:

قصائد في مدح الشيخ من علماء الأقطار

سلامي على نجد ومن حل في نجد ** وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

وقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ** رباها وحياها بقهقهة الرعد

سرت من أسير ينشد الريح إن سرت ** ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

يذكرني مسراك نجدًا وأهله ** لقد زادني مسراك وجدًا على وجد

قفي واسألي عن عالم حل سوحها ** به يهدي من ضل عن منهج الرشد

محمد الهادي لِسُنَّة أحمد ** فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي

لقد أنكرت كل الطوائف قوله ** بلا صدر في الحق منهم ولا ورد

وما كل قول بالقبول مقابل ** وما كل قول واجب الطرد والرد

سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ** فذلك قول جل يا ذاعن الرد

وأما أقاويل الرجال فإنها ** تدور على حسب الأدلة في النقد

وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ** يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي

وينشر جهرًا ما طوى كل جاهل ** ومبتدع منه فوافق ما عندي

وَيْعمُر أركانَ الشريعة هادمًا ** مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد

أعادوا بها معنى سواعًا ومثله ** يغوث وودًا ليس ذلك من ودي

وقد هَتَفوا عند الشدائد باسمها ** كما يهتف المضطر بالواحد الفرد

وكم عقروا في سوحها من عقيرة ** أهلت لغير الله جهرًا على عمد

وكم طائفًا حول القبور مقبلًا ** ومستلم الأركان منهن باليد

لقد سرني ما جاءني من طريقه ** وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي

يصب عليه سوط ذم وغيبة ** ويجفوه من قد كان يهواه عن بعد

ويعزي إليه كل مالا يقوله ** لتنقيصه عند التهامي والنجدي

فَيَرميه أهل الرفض بالنصب فرية ** ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد

وليس له ذنب سوى أنه أتى ** بتحكيم قول الله في الحل والعقد

ويتبع أقوال النبي محمد ** وهل غيره بالله في الشرع من يهدي

لئن عده الجهال ذئبًا فحبذا ** به حبذا يوم انفرادى في لحدي

سلامي على أهل الحديث فإنني ** نشأت على حب الأحاديث من مهدي

هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ** وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد

وأعني بهم أسلاف سنة أحمد ** أولئك في بيت القصيدة هم قصدي

أولئك أمثال البخاري ومسلم ** وأحمد أهل الجهد في العلم والجد

بحور أحاشيهم عن الجزر إنما ** لهم مدد يأتي من الله بالمد

رَوَوا وارتووا من بحر علم محمد ** وليس لهم تلك الملل من وردي

كفاهم كتاب الله والسنة التي ** أتاهم بها صحب الرسول ذوو المجد

أأنتم أهدى من صحابة أحمد ** وأهل الكسا هيهات ما الشوك كالورد

أولئك أهدى في الطريقة منكم ** فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي

وشتان ما بين المقلد في الهدى ** ومن يقتدي والضد يعرف بالضد

فمقتديًا كن في الهدى لا مقلدًا ** وخلي أخا التقليد في الأسر بالقد

وأكفر من في الأرض من قال أنه ** إله فإن الله جل عن الند

مسماه كل الكائنات جميعها ** من الكلب والخنزير والفهد والقرد

وإن عذاب النار عذب لأهلها ** سواء عذاب النار أو جنة الخلد

وعباد عجل السامري على هدى ** ولائمهم في اللوم ليس على رشد

تناشدنا عنه نصوص فصوصه ** تنادي خذوا في النظم مكنون ما عندي

كنت امرأ من جند إبليس فارتمى ** بي الدهر حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنت أدركت بعده ** دقائق كنز ليس يدركها بعدي

يلذون عند العجز بالذوق ليتهم ** يذوقون طعم الحق فالحق كالشهد

نقول لهم ما الذوق قالوا مثاله ** عزيز فلا بالشم يدرك والحد

ففشرهم بالكشف والذوق مشعر ** بأنهم عن مطلب الحق في بعد

ومن يطلب الإنصاف يدلي بحجة ** ويرجع أحيانًا ويهدي ويستهدي

وهيهات كل في الديانات تابع ** أباه كان الحق في الأب والجد

كذلك أصحاب الكتاب تتابعوا ** على ملة الآباء قردًا على قرد

وهذا اغتراب الدين فاصبر فإنني ** غريب وأصحابي كثير بلا عد

إذا ما رأوني عظموني وإن اغب ** فكم أكلوا لحمي وكم مزقوا جلدي

رد قول الخصم أن الشيخ أخذ علمه من كتب ابن تيمية

وأما قولكم: (بل طالع بعضًا من مؤلفات أبي العباس بن تيمية ومؤلفات تلميذه ابن القيم وقلدها من غير إتقان مع أنهما يحرّمان التقليد ليأخذ العلم من غير تسديد).

معناه أن هذا الرجل لم يقرأ على أحد من العلماء يدله على أمره ويساعد على قصده بل اكتفى عن ذلك بمطالعة بعض الكتب التي ألفها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية وتلميذه أبو عبد الله ابن القيم فقلدهما فيما قالاه في كتبهما وهما لا يجوّزان التقليد فأخذ العلم من المؤلفات بلا تسديد، فنقول لا يلزم من مطالعة كتب الثقات وإمعان النظر فيها وفي دلائل ما تضمنته وفهم معاني ما حكته عدم أخذ العلم عن أهله وممارسته وتكرار درسه ولا تنافيه، بل أخذ العلم بحثًا وتقريرًا عن العلماء الثقات عند الخاص والعام والجهابذة الأعلام هو الحامل عليها، وهو الدال إليها، وفراسته وفهمه فيها هما الحاملان عليها، وفهمه في كل فن هو الحامل على تخصيص أمره في نصحه وإيجاد قصده القائم في ذهنه، وهو المقتضي لأمره ونهيه. ودليل ذلك اعتناؤه بكتب الثقات من أولي العلم، والرجوع إلى الآيات البينات والأحاديث الصحيحة عند اختلاف الفهم، أخذًا من كلام الأئمة النقاد وما صححوه مما اتفقوا عليه أو اختلفوا فيه، لا مدعي الاجتهاد، وليس هو يدعو الناس إلى الاتفاق في مسائل الفروع التي قد وقع الاختلاف فيها، وإنما يدعوهم إلى العمل بما هو مطلوب منهم اتفاقًا مما لا تقليد فيه، وترك ما نهوا عنه كذلك والرجوع إلى الكتاب والرسول والإجماع ليس بتقليد لقيام الحجة في ذلك، إذ وجود الباري تعالى وتقدَّس وتوحيدهُ وإخلاص العبادة له والإيمان برسالة محمد ﷺ وبما جاء به لا تقليد فيه فتجب معرفة وجود ذات الله بصفاتِ الكمال شرعًا بالنظر في الوجود والموجود على كل مكلف قادر وهي أول واجب له تعالى وتقدس، وكذلك وحدانيته وألوهيته فيستدل عليهما بمخلوقاته ومصنوعاته. قال تعالى: { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } فمعرفة ذلك ليست ضرورية بل نظرية، بخلاف علمه سبحانه وتعالى بجميع مخلوقاته فليس هو بضروري ولا نظري ولا كسبي ولا استدلالي بل هو قديم باق ذاتي محيط بكل معلوم كلي أو جزئي على ما هو عليه فلا يتجدد بتجدد المعلومات ولا يتعدد بتعددها.

تعريف التقليد

قال الأصوليون: التقليد لغة: وضع الشيء في العنق محيطًا به. واصطلاحًا: أخذ قول الغير من غير حجة. والرجوع إلى الرسول وإلى الإجماع ليس بتقليد لقيام الحجة. ثم قالوا: وهل يصح إيمان المقلد، على قولين للعلماء، فعن الأشعري لا يصح ومن قال يصح يوجب عليه الاستدلال بالنظر والرجوع إلى الدلائل الظاهرة والآيات الباهرة، ثم أن من قام في ذهنه دلائل قصده ومطلوبه فأراد إقامتها على ما ادعاه من كتاب الله وسنة رسوله وكلام الأئمة الأعلام فباحث وناقش ودل واستدل فتوافق هو وغيره في الدليل والاستدلال والعقيدة فيما هو مطلوب لا محال لا يلزم من ذلك التقليد لذلك الغير بل ولا يؤديه معناه لوجهين:

أحدهما: أن كثيرًا ما يوافق مجتهد مجتهدًا، وليس هو مقلدًا له فيما قاله وإنما هو موافق له فيه، فالواقع إنما هو اتفاقهما في الحكم والدليل، لا تقليد أحدهما الآخر فيه. وهذا مشاهد في كلام الأئمة وتوافقهم في المسائل الاجتهادية، وقد وافق الإمام الشافعي الإمام زيد بن ثابت رضي الله عنهما مع أن الشافعي ليس مقلدًا لزيد.

الثاني: أن تعريف التقليد هو أخذ قول الغير والعمل به من غير حجة للمقلد، وإنما هو اعتماد على قول مقلده وقصر على منطوقه ومفهومه بلا نظر في دليله من ضعفه أو ترجيحه قاله الأصوليون. وقالوا يلزمه أن يقلد في مسائل الفروع الأرجح الفاضل عنده فيجتهد في ذلك على الأصح. وأما توحيد الباري تعالى وتقدس في معاملته وإخلاص عبادته فلا تقليد فيه البتة، وإنما يقتدي اللاحق بالسابق فيه، والإقتداء ليس بتقليد، فكما أن شيخ الإسلام تقي الدين قد استدل في وقته بالكتاب والسنة وبكلام صالح سلف الأمة على التوحيد الذي هو وظيفة العبيد، وعلى الشرك ومعناه الذي هو ضد التوحيد، وحرمه الله وأوهنه وعلق على وجوده عدم المغفرة فعودي وأوذي كذلك هذا الرجل لما قام يأمر أهل وقته بإخلاص التوحيد لله وحده فلا يجعل حقه تعالى لغيره، أو معه ومع غيره، وميّز لهم التوحيد من ضده، وأقام عليه الدلائل والبراهين من الكتاب والسنة، وكلام صالح صلف الأمة، من غير تقليد لأحد فيه، إن كان ولا بد فهو نقل كلام لإمام مجتهد حجة على من قلده ليعلم ذلك المقلد أنه قد خالف مقلده فيما قاله واعتقده، نسبوه إلى تقليد الشيخ تقي الدين في التوحيد، ولعل كلامه وافق كلام شيخ الإسلام تقي الدين في شيء من ذلك حتى في استدلالاته فليس هو تقليدًا له ولا أخذًا منه. والشيخ تقي الدين وتلميذه رحمهما الله تعالى بل وغيرهما إنما يحرمون التقليد في توحيد الله ورسالة النبي ﷺ وما علم كونه من الدين ضرورة كأركان الإسلام، ويدعيان الإجماع على ذلك وعبارتهما: (التقليد السائغ في المسائل المستفتى فيها وهي الاجتهادية) وأما العقلية كوجود الباري تعالى وتوحيده والرسالة فلا تقليد فيها، وكذا ما علم كونه من الدين ضرورة كأركان الإسلام إجماعًا. وقال الشيخ تقي الدين في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم: (أما مسائل الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها والتقليد، لا ريب أن المجتهد فيها على أجر فان أصاب فله أجران وان أخطأ فله أجر وكذا المقلد له أجر على حسن قصده وعمله، وإنما انكارهما شديد على من أوجب إتباع طريقة شيخ من مشايخ الدين والصلاح كالشيخ عبد القادر، والشيخ حيوه وأمثالهما. وكذلك من أوجب اتباع إمام معين من أئمة العلم والدين وألزم الناس الاقتصار عليه في كل ما قاله أو أمر به ونهى عنه، وعلى من عادى ووالى في هذه المذاهب أو عليها كالأئمة الأربعة لما فيه من الترجيح، قال ولكن طاعة الرسول إنما تمكن مع العلم بما جاء به والقدرة على العمل به، فإذا ضعف العمل والقدرة صار الوقت وقت فترة في ذلك الأمر، وان كان وقت دعوة ونبوة في غيره" وقال أيضًا في رسالته السنية: "وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر لله به ولا رسوله مثل أن يقال للرجل أنت شكيلي أو قرقندي أو نقشبندي، فان هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأمة لا شكيلي ولا قرقندي ولا نقشبندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول لا أنا شكيلي ولا قرقندي ولا نقشبندي بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله. وقد روينا أن معاوية بن أبي سفيان سأل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال أنت على ملة علي أو على ملة عثمان فقال لست على ملة علي ولا ملة عثمان بل أنا على ملة رسول الله ﷺ. وكذلك كان كثير من السلف يقولون كل هذه الأهواء في النار، ويقول أحدهم ما أبالي أي النعمتين أعظم على أن هداني الله للإسلام وأن جنبني هذه الأهواء، والله تعالى قد سمانا في القرآن المسلمين المؤمنين عباد الله، ولا يعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، بل الأسماء التي يسوغ، لتسمى بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي أو انتسابهم إلى شيخ كالقادري والعدي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل كالقيسي واليماني أو إلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري، لا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها. ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها بل أكرم الحلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان وأولياء الله الذين هم أولياؤه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما قال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وقد أخبر سبحانه أن أولياءه هم المؤمنون المتقون وقد بين المتقين في قوله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } والتقوى هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه" انتهى.

وأما التقليد في أصل الدين من التوحيد فقد أغنى الشارع ﷺ بالتفصيل وبين الحق وسواء السبيل. ونص على ما يعصم من المهالك نصًا قاطعًا للعذر. قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وقال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا } وقال تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وقال تعالى: { فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } وقال: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم } الآية والتي بعدها وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله ﷺ وما من طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا فيه علمًا" وفي صحيح مسلم أن بعض المشركين قالوا لسلمان لقد علمكم رسولكم كل شيء حتى الخراء قال أجل. وقال ﷺ: "لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" وقال: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من شيء يقربكم من النار إلا وقد حدثتكم به" وقال: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرًا لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه شرًا لهم".

وهذا يعلم تفاصيله بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة وكلام صالح سلف الأمة، فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في ذلك ما فيه غاية الهدى والبيان والشفاء وذلك يكون بشيئين:

أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة.

والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها المختلفون، حتى يحسن أن يطيق التمييز بين معاني التنزيل ومعاني أهل الحوض في أصول الدين، فحينئذ يبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وقال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } وقال تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول } وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } فكل العبارات من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل. كان السلف والأئمة ينهون عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات لأن في إثباتها إثبات حق وباطل وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمتنع من كلا الاطلاقين تقليدًا وغيره وليس ذلك لحلو النقيضين عن الحق ولا قصورًا أو تقصيرًا في بيانه، وإنما هو لقطع المادة بخلاف النصوص الإلهية. فإن فيها فرقين، فرق الله بهما بين الحق والباطل ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه فيثبتون ما اثبت الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المجملة المحدثة المتشابهة ممنوعًا من إطلاقها نفيًا واثباتًا لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا بين المعنى اثبت حقه ونفى باطله، بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه. وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه.

وأما المختلفون في الكتاب والمخالفون له فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته إمامًا لها تتبعه، أو المحلات المتشابهات من الكتاب والسنة التي لا يجوز إتباعها بل يجب ردها إلى المحكم. ويتعين حملها عليه، فهم يتبعونها ابتغاء الفتنة ويحملونها على ما يوافق أصلهم الذي ابتدعوه وهذان الصنفان يشبهان ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } الآيات إلى قوله: { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصله من البدع الباطلة وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن فلم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه باللسان، ومتناول لمن كتب كتابًا بيده مخالفًا لكتاب الله ليتناول به رياسَة أو جاهًا أو دينًا وقال هذا هو الشرع والدين، كما لو قال هذا من عند الله وهذا هو معنى الكتاب والسنة، وهذا قول السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من معنى الكتاب والسنة لئلا يحتج به مخالفة في الحق الذي يقوله وهذه الأمور كثير جدًا في كلام أهل الأهواء جملة كالرافضة والجهمية وأهل الاعتقادات الفاسدة والبدع المضلة نسأل الله العفو والعافية.

وأما قولكم (فاحتاج إلى تمييز الخطأ عن الصواب والقشر عن اللباب وبيان ما عليه الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة كي يظهر الحق لقليل البضاعة). هذا مفرع على قوله وأخذ العلم من غير تسديد معناه أن هذا الرجل لما لم يأخذ العلم عن تسديد اعتاز إلى تمييز الخطأ الذي هو ضد الصواب، عن الصواب الذي هو مطابق للحق، أي اعتاز إلى من يميز له ذلك ويفرق له بينهما ويميز له أيضًا بين ما التبس عليه من القشر الذي هو الظرف الساتر عن اللباب الذي قد ستره القشر فهو مظروف فيه استعار لفظ القشر واللباب للتشبيه والتكنية من عدم تمييز معاني المسائل التي يفصل بعضها عن بعض في اللفظ والمعنى لأخذه العلم من غير تسديد، وإلى من يميز له بيان ما عليه من الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة، من ضدهم وهم من ترك السنة وفارق الجماعة. والعلة في اعتيازه التمييز بين هذه الأشياء المذكورة ظهور الحق بلا التباس بضده لقليل البضاعة من المعرفة بمعاني مسائل العلم قبل ظهور الحق له بالتمييز المذكور.

فنقول يكفي في تمييزه ومعرفته وإدراكه في قصده ومرامه ما قد شاع عنه وذاع وتقطعت به الأسماع من أنه يدعو الناس إلى سبيل النجاة والفوز الأبدي وهو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى عباده أن يسألوه إياه في كل صلاة والدليل على ذلك أنه لا أحد كائنًا من كان يفعل خصلة يحبها الله ويكرهها أهل الفساد والعناد إلا ونسب ذلك الفعل والفاعل إليه فقيل له وعنه وهابي أو عارضي أو شرقي، وهذا كقول كفار قريش لمن تبع ما جاء من عند الله أنه صابىء وإن كان ذلك الفاعل في نفس الأمر عدوًا ظاهرًا وباطنًا نسبوه إليه بفعله فلو لم يكن فيه من السمة والعلامة على فضله ومعرفته وتمييزه وهديه إلا ذلك لكفى.

شهد العدو بفضلها ** والفضل ما شهدت به الأعداء

فبذلك يستدل على فضله المستدلون، ويهتدي بما دعا إليه المهتدون، ويرجع إلى إتباع الحق المبعدون، ويكف عن خوضهم في طغيانهم الخائضون، فإن من رزق التوفيق تأمل بعين انصافه ما قاله هذا الرجل ودعا الناس إليه من الإخلاص لملك الناس، فميز بينه وبين ما اعتقده أصحاب العقائد الفاسدة والبضايع من الدين الكاسدة الآمرين بالباطل، والقائمين عليه لم والناهين عن سبيل الحق وما يوصل إليه، وهم المجوزون لمن شاء أن يتخذ معتقدًا من الحلق ويدعوه ويرجوه عند الشدائد ويتوكل عليه عند أي شدة كانت يعتقد فيه لذلك نائيًا كان معتقده أو قول أو ومن يزعم أنه ذو تنسك وعلم، قال ان معناه وسيلة وهي جائزة مطلوبة وهذا منها. فهم أمروا بذلك وجوزوا الشرك. ومن نهى عنه وتبرأ منه وعاداه وأهله خرجوه وبدعوه وقاتلوه زيادة على جنس المنكر الشامل لأنواعه في بلد الله الحرام الذي قال الله فيه: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وغيره مما اكتسبوه وأقروه ففرق حينئذ بين الباطل والحق، فلم يرض من نفسه إلا اتباع الحق قولًا وعملًا واعتقادًا. ودحض ضده كذلك، لا سيما ان انضاف إلى ذلك تأمل أحوال هؤلاء المشركين وما هم عليه من عدم الرضا إلا باعتقادهم في معتقداتهم. وتأمل معنى قوله تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } فإن هؤلاء المعتقدين إذا قيل لهم توبوا وارجعوا إلى الله وادعوه واستعينوا به وحده واستغفروه نظروا إلى القائل بعين العداوة نظر المغشي عليه من الموت اشمئزازًا لقوله وكراهة، وزعموا أنه قد سب الأولياء وأنكر كراماتهم، فإن لم يذكر لهم شيئًا من ذلك ولم ينكر عليهم بل أثنى عليهم وعلى عقيدتهم وان ما اعتقدوه في معتقدهم حق ولعله عدو لله ظاهر الفسق استبشروا وسروا واتخذوه صديقًا لهم.

والإيمان باليوم الآخر لا يعصم إلا بوجود التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب لتكليفه على العبيد، وقد صحح الله به عقائد كثيرة حتى من أعدائه ولله الحمد، فهم مع شدة العداوة له لعهدهم الأول إما تقليدًا وجهلًا أو تكبرًا أو تجبرًا عن الحق الذي قال ودعا إليه قد اكتسبوا منه وأخذوا عنه ولكن يسبونه ودينه وما أمر به عنادًا وبغيًا وحسدًا كما حل بالأسلاف الذين مضوا قبله، وذلك كله دليل على فضله وعلمه، وأنه قد ميز بين الخطأ والصواب، وما زاد، وفرق القشر عن اللباب لتفرقته بين ما أمر الله به العباد وأرسل به الرسل وأنزل به الكتب ومعناه وكيفيته، وبين ما نهاهم عنه وعلق على وجوده عدم المغفرة مع أنه كتب على نفسه الرحمة وبين ما غفر أنه تحت مشيئته تعالى ومعنى كل منها. ثم انه دعا الناس إلى الحق وأسر وقال مفرقًا بين ما عليه الفرقة الناجية ووضحهم بسيماهم وميزهم عن ضدهم فبينهم بعلاماتهم. وإنما الذي لم يميز بين معنى قوله وما في تسطيره فهو الناقض لحكم الله ورسوله قولًا واعتقادًا مستدلًا على ذلك بما يخالفه منطوقه ومفهومه، لكن ضاقت عليه مدارج الإدراك والشعور فعدل إلى مجرد الادعاء بلا نور، كما قيل الأقرع يفتخر بحمد وابن عمه وابن الحمقاء يذكر حالته إذا عيب بأمه.

وأما قولكم (وتفريعكم في مقدمتكم التي قال فيها قائلكم فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق أجمعت الفرقة الناجية المستثناة الذين قال النبي ﷺ فيهم: "هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي" وهم الأشاعرة والسلف من المحدثين وأهل السنة والجماعة على حدوث العالم ووجود الباري وأنه لا خالق سواه).

فنقول معنى التوفيق تسهيل سبيل الخير والطاعة ضد الخذلان لأنه حصول الشر والمعصية وأزمة الشيء ما يقوم بها وينتهي إليها والتحقيق هو المعنى المطابق للحق وهو اسم مصدر حقق والواو في قوله بالله والحال وهذا إقرار القائل بلسانه فإن صح اعتقاده حصلت الموافقة لقوله فيما أقر به وإلا فهو مجرد لفظ.

تعريف الإجماع

والإجماع لغة يطلق على معنيين:

أحدهما: العزم كقوله { فأجمعوا أمركم } أي إعزموا ومنه لا صيام لمن لا يجمع الصيام من الليل.

وثانيهما: الاتفاق وحقيقة أجمع صار ذا جمع كألبن وأثمر.

وفي الاصطلاح: اتفاق خاص وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد ﷺ في عصر على أمر، فلا يعتبر موافقة المقلد ومخالفته والمراد بقولنا في عصر في زمان ما قل أو كثر وقولنا على أمر يتناول الديني والدنيوي، ثم أنه قد اختلف في أنه هل يشترط في الإجماع وانعقاده حجة انقراض عصر المجمعين، فمن اشترط ذلك لا يكفي عنده الاتفاق في عصر بل يجب استمرار ما بقي من المجمعين واحد، فيزيد في الحد إلى انقراض العصر ليخرج اتفاقهم إذا رجع بعضهم فإنه ليس بالإجماع المقصود وهو ما يكون حجة شرعًا، وأيضًا قد اختلف الأصوليون في أنه هل يجوز حصول الإجماع بعد خلاف مستقر من حي أو ميت أم لا؟ فإن جاز فهل ينعقد أم لا؟ قال يجوز أو قال يجوز وينعقد فلا يحتاج إلى إخراجه عن الحد، ومن يرى أنه لا يجوز ولا ينعقد فلا بد أن يخرجه عن الحد بأن يزيد فيه ولم يستقر خلاف مجتهد. وقال الغزالي هو اتفاق أمة محمد ﷺ على أمر من الأمور الدينية مستدلًا بقوله ﷺ: " لا تجتمع أمتي على ضلالة" وبقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة" وبقوله: "يد الله على الجماعة من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" واستدل الإمام الشافعي على حجية الإجماع بقوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } بضمه إلى مشاقة الرسول التي هي كفر فيحرم إذ لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد، وإذا حرم إتباع غير سبيلهم فيجب إتباع سبيلهم إذ لا مخرج عن طاعة الرسول واتباع سبيل المؤمنين، وهذا أصل كلي خال من معارض ظني إذ متابعة الرسول شاملة لنصرته في حياته أو شريعته بعده، ولما به صاروا مؤمنين وهو التوحيد والإيمان به لا مخصوصة بما لا يخرج عن شريعته.

رجوع الأشعري عن معتقداته

وقولكم (الفرقة الناجية المستثناة الذين قال النبي ﷺ فيهم: "هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي" وهم الأشاعرة) وهذا غلط ظاهر لوجوه:

منها: أن هؤلاء المنتسبين إلى عقيدة الأشعري لم يرجعوا عنها كما رجع عنها وتاب وأقلع منها فإنه اسمه علي بن إسماعيل بن اسحق الأشعري من ذرية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، كنيته أبو الحسن ولد بالبصرة سنة سبعين وقيل ستين ومائتين وتوفي ببغداد ودفن بها سنة أربع وعشرين وثلاثمائة كما قال ابن الصلاح، وكان من تلامذة المعتزلة كأبي علي الجبائي، ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم انه رجع إلى بغداد فتاب من عقيدته وانتسب إلى الإمام أحمد وغيره من السلف وانتصر لطريقة أحمد كما ذكر ذلك الأشعري في كتبه التي صنفها ومنها كتابه الإبانة الذي سماه في أصول الديانة، وكتابه الذي صنفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين، وكما قاله أبو اسحق الشيرازي إنما حل الأشعري في قلوب الناس لانتسابه إلى الحنابلة، وكان أئمة الحنبلية المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز وأبي الحسين التميمي ونحوهما يذكرون كلام الأشعري ورجوعه وتوبته في كتبهم وتفقه على أبي اسحق المروزي الحنبلي وأخذ عن حنبيلة بغداد أمورًا من العقائد وسائر العلوم الشرعية، وكان ذلك آخر أمره كما ذكره هو أصحابه في كتبهم.

ومن أجل أصحابه القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم فهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ليس في مثله لا قبله ولا بعده وقد تاب عن عقيدته وما يقول أهل الكلام ورجع إلى سلف الأمة وخيارها، ذكره ابن الصلاح والشيخ تقي الدين وغيرهما فالمنتسبون إليه لم رجعوا كما رجع، بل خاضوا في علم الكلام حتى زعموا أن النصوص عارضها من معقولاتهم ما يجب تقديمه وهم حيارى في أصول مسائل التوحيد. ولهذا كثير منهم لما لم يتبين له الهدى نكص على عقبيه فاشتغل باتباع شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله ونحو ذلك لعدم العلم واليقين بما كان عليه السلف الصالح، وفي الحديث المأثور: "إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومعضلات الغث في قلوبكم" وهؤلاء المعرضون عن الطريقة النبوية يجتمع فيهم هذا وهذا. فهم بخلاف الفرقة المستثناة.

(ومنها) أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية أو دعوى اجماع لا حقيقة له والتمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة (وإذا كان فحول النظر) وشياطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات ثم لم يصلوا فيها إلا إلى حيرة وارتياب، وأما إلى الاختلاف بين الأحزاب، فكيف غيرهم المقلدون لهم ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه، أم كيف يكون هؤلاء المقلدون للمتكلمين الذين قد كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية أقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها ** وسيرت طرقي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كفى حائر ** على ذقن أو قارعًا سن نادم

وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم وهو الفخر الرازي:

نهاية اقدام العقول عقال ** وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقال

من الذين أثنى الله عليهم في كتابه وممن استثناهم النبي ﷺ في جملة اتباعه وأحبابه لأن هؤلاء داخلون في عموم قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فهم ورثة الأنبياء وخلفاء الرشدين وأعلام الهدى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، قد وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر اتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق ما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة، بعكس من نبذ الكتاب رراءه واستدل بقول الأخطل، فإن من تأمل عقيدة المتكلم والمقلد له تأملًا يميز به بين الضدين ويفرق فيه بين الجنسين. علم يقينًا أن من أعرض عن الكتاب لم يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو مركب. فالأول { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } والثاني { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } فأهل البسيط أهل الحيرة. وأهل المركب أرباب الاعتقادات الباطلة التي يزعمونها عقليات.

(ومنها) أن الإمام الشافعي رضي الله عنه تكلم على أهل الكلام ومن قلدهم فقال رحمه الله: (حكمي فيهم أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام والعقل فإنهم أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا أعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. ومن كان عليمًا بذلك ظفر له من الفرقة المستثناة كيف كان حذقهم وفضلهم وعلمهم وان من لم يقتصر على ما جاء عن الله ورسوله لم يزدد من الله إلا بعدًا فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم).

تعريف السلف

(وإذا عرف ذلك فنقول معرفين السلف) وهم النبي ﷺ وأصحابه وأفضل الأصحاب الحلفاء الراشدون الذين قال النبي ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" (ومنهم أيضًا الأئمة المجتهدون) الذين يقولون الحق وبه كانوا يعدلون. ثم من تبعهم بإحسان وقفى أثرهم عاملًا بطريقتهم إلى آخر الزمان، لم يغير ولم يبدل ما كانوا يقولون ويعتقدون. وهؤلاء هم الذين نص عليهم النبي ﷺ في قوله: " ما أنا عليه اليوم وأصحابي" كثير من المبتدعة الضالين يفضلون طريقة غيرهم ظانين أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } وإن طريقة غيرهم هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب قول طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فإنه لا يجوز أن يكون الخالفون أعلم من السالفين. فلم يعرف قدر السلف من هذا وصفه، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين حقيقة المعرفة المأمور بها، لأن هؤلاء المحجوبين المنقوصين المسبوقين الحيارى لم يكونوا أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء الذين وهبهم الله علم الكتاب وحكمته، وأحاطوا من حقائق معارفه وبواطن حقائقه ما عجز أولئك عن فهم معانيه وإدراكه. ثم كيف يكون خير قرون الأمة انقص في العلم والحكمة لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم. أم كيف يكون المتفلسفة واتباعهم واليونانيون وورثة المجوس والمشركين وضلال الصابئين واشباههم واشكالهم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان، وقد استولى الضلال والتهوك على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدًا من البينات والهدى وتركهم البحث عن طريق السابقين، والتماسهم علم معرفة الله تعالى بصفات الكمال ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه وبشهادة الأمة عليه، وبدلالات كثيرة منها أنهم ينزهون وهم يكذبون. وهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة غيرهم، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي أشركوا فيها إخوانهم من المتفلسفين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ لمعان بنوع تكلف وهي التي يسمونها طريقة غيرهم. فصار هذا الباطل مركبًا من فساد العقل وإنكار السمع، فان النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه فلما انبنى أمرهم على هاتين القاعدتين كانت السجية استهمال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قومًا أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي. وإن غيرهم هم الفضلاء فقد حازوا قصب السبق في هذا كله.

ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلال. فهذا كتاب الله من أوّله إلى آخره وسنة رسوله ﷺ من أوّلها إلى آخرها، ثم كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة أن من اتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا، فليس أهل السنة والجماعة إلا السلف الصالح وذوو العقل الراجح والواقفون عند النص من كتاب الله وسنة رسوله، مستغنين بهما عن كل هاجس وقول مخالف للكتاب والسنة مما هو عارض تائح، فهم بحبل الله معتصمون وبكلام رسوله آخذون وعليه واقفون وبالعروة الوثقى مستمسكون. والدليل على ذلك أنهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسمائه وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى شبهوه بالمعدوم وبالأموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوق. فتؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل وتكييف. وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدر الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه كل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عملا فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } فتؤمن أهل السنة والجماعة بأن الله على كل شيء قدير فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن انفاذ أمره، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل وأنه مختار ولا يسمونه مجبورًا إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا بما يفعله، فهو مختار مريد والله خالقه وخالق اختياره وهذا ليس لله نظير فان الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكذبون بشفاعة النبي ﷺ وبين المرجئة الذين يقولون إيمان الفاسق مثل إيمان الأنبياء. والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان. ويكذبون بالعقاب بالكلية. فتؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الأيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وان النبي ﷺ ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وهم أيضًا في أصحاب رسول الله ﷺ وسط بين الغالية الذين يغلون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أو يعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة رضي الله عنهم ظلموا وفسقوا وكفروا، والأمة بعدهم كذلك وإنما جعلوه نبيًا وإلهًا. وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان ويستحلون دمهما ودماء من تولاهما أو يستحلون سب علي وعثمان ونحوهما، أو يقدحون في خلافة علي وإمامته، وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط لأنهم مستمسكون بكتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.

حدوث العالم وأنه لا خالق سوى الله

(وقولكم على حدوث العالم ووجود الباري وأنه لا خالق سواه).

فنحن نقول كل ما سوى الله وصفاته حادث. والله سبحانه هو الذي أوجده وخلقه وابتدأه من العدم، لم يخلق ذلك عبثًا ولا لعبًا، بل بالحق والحكمة التي لو لم يكن منها إلا ليعرف بسائر صفات الكمال فيعبد وحده لا يشرك به، ويكون الدين كله بأنواعه له مختص بجلاله كما أن الأمر كله له تعالى فلا خالق لجسم ولا جوهر ولا عرض ولا شيء إلا هو تعالى، وجميع أفعال العباد كسب لهم، وهي مخلوقة لله خيرها وشرها حسنها وقبيحها، فالله خالق لا مكتسب. والعبد مكتسب لا خالق، وخلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والرياح والسحاب وغير ذلك من الأجسام العظيمة دال على وحدانية الصانع فهو المتفرد بالألوهية، كما أنه متفرد بالربوبية فهو الخالق لجميع العوالم كلها، وبه قامت الحوادث كلها، إذ هو القادر على أن يمسك العالم كله في قبضته، كما جاءت به الآثار الإلهية، وكما قال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ما يوافق مضمون هذه الآية، وان الله تعالى يقبض العالم العلوي والسفلي ويمسكه ويهزه ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض. وفي بعض الآثار: "ويدحوها كما يدحو أحدكم الكرة" وقال ابن عباس: (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) وهو تعالى لا خالق سواه. وهذا مما أجمع عليه أهل الملل كلها فلم ينكر أحد أنه خالق لجميع المخلوقات، إلا أنه قد جرى للمعتزلة كلام في خلق الإنسان أفعاله نفسه وخلافهم غير معتد به بعد قوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وقوله: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } فان العبد غير موجد ولا خالق لأفعاله. لأنه تعالى طعن في ألوهية الأجسام بسبب أنها لا تخلق شيئًا. فهذا يقتضي أن كل ما كان خالقًا كان إلهًا، فلو كان العبد خالقًا لأفعال نفسه لكان إلهًا، ولما كان ذلك باطلًا علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه.

ومن الدليل على علم ذلك عند كل أحد، تقرير الله الخلق وإقرارهم بأن الله هو الخالق وحده. قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ولذلك قرعهم سبحانه بالاستفهام الإنكاري في قوله عز وجل: { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } لكن لما كان بعضهم منكرًا للمعاد الجسماني أمر الله نبيه ﷺ أن يقول: { قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ثم انه جرى كلام هل الخلق غير المخلوق أو هو هو، والجمهور يقولون الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، إذ الخلق مصدر، والمخلوق هو المفعول، والمصدر مغاير للمفعول لا نفسه. وهذا قول جماهير الصوفية وأهل الحديث بل كلهم، ولأصحاب مالك والشافعي وأحمد في ذلك قولان والذي عليه أئمتهم ان الخلق غير المخلوق وهو أيضًا قول أكثر أهل الكلام وهو الذي حكاه البغوي عن أهل السنة.

(وأما قولكم وأنه قديم متصف بالعلم والقدره وسائر صفات الكمال والجلال منزه عن سمات النقص).

فنقول إنه تعالى قديم أزلي، فإن كل أزلي قديم ولا عكس، فهو الأوّل ولا بداية، والآخر ولا نهاية، لم يزل ولا يزال سبحانه متصفًا بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، فهو إله واحد لا شريك له في عبادته فلا يتجزأ في ذاته. أحد لا من عدم، فرد صمد لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ولا معين له في خلقه، ولا مثل له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، حي موجود لم يزل ولا يزال. ومتصف سبحانه بالعلم. فهو تعالى عالم بعلم واحد قديم باق ذاتي محيط بكل معلوم كلي أو جزئي على ما هو عليه فلا يتجدد علمه تعالى بتجدد المعلومات ولا يتعدد بتعددها. ليس بضروري ولا كسبي، ولا نظري، ولا استدلالي، ومتصف بالقدرة، فهو على كل شيء قدير، وقدرته واحدة وجودية قديمة باقية ذاتية متعلقة بكل ممكن، فلم يوجد شيء إلا بها لأن الفعل صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع. وقد خلق المخلوقات فوجدت بالفعل الذي هو الخلق بقدرة الله تعالى. والقدرة على خلق المخلوق هي القدرة على الفعل. قال تعالى: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى } وقوله: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } وقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وقوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } الآية ونحو ذلك مما فيه وصف الله بالقدرة على الأفعال المتناولة للمفعولات، وفيه بيان أن الخلق ليس هو المخلوق، لأن نفس خلقه السموات والأرض غير السموات والأرض، ومتصف سبحانه بسائر صفات الكمال والجلال فهو تعالى مريد إرادة واحدة ذاتية قديمة باقية متعلقة بكل ممكن. وهو تعالى حي بحياة واحدة وجودية قديمة ذاتية. وهو تعالى سميع وبصير بسمع وبصر قديمين ذاتيين وجوديين متعلقين بكل مسموع ومبصر. وهو تعالى قائل ومتكلم بكلام قديم ذاتي وجودي غير مخلوق ولا محدث ولا حادث بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف يسمعه منه أهل الجنة في الجنة إذا دخلوها. والمراد بقوله تعالى: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } من جهة النزول لأنهم لم يسمعوه قبل إنزاله قط ولا يشبه كلام المخلوقين، أو المراد بالذكر المحدث تذكير النبي ﷺ، فإنه لم يذاكرهم قبل أن ينبأ، ونسبته إلى الله تعالى لأن المذاكرة من النبي ﷺ لهم كانت بأمره تعالى، ومنزه تعالى عن سمات أي علامات النقص، فهو تعالى لا تحله الحوادث ولا يحل في حادث ولا ينحصر فيه. فمن اعتقد أو قال أن الله بذاته في كل مكان أو في مكان فكافر، بل يجب الجزم بأنه تعالى بائن من خلقه مستو على عرشه من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل، فالله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو تعالى كما كان قبل خلق المكان، ولا يعرف بالحواس ولا يقاس بالناس، ولا مدخل في ذاته وصفاته وأفعاله للقياس، لم يتخذ صاحبة ولا والدًا، فهو الغني عن كل شيء، ولا يستغني عنه شيء، ولا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، فمن شبهه بمخلوقه فقد كفر. وأما قوله تعالى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } فقال ابن عباس ما من شيء تناجي به صاحبيك إلا هو رابعهم بالعلم، يعنى أن نجواهم معلومة عنده كما تكون معلومة عند الرابع الذي هو معهم.

المعاد الجسماني والمجازاة

وأما قولكم (وان المعاد الجسماني حق وكذا المجازاة والمحاسبة والصراط والميزان وخلق الجنة والنار وخلود أهل الجنة وخلود الكفار في النار). فنقول هذا مما أجمع عليه المسلمون قاطبة وعلم من الدين ضرورة، إن إعادة الأجسام على هيئتها قبل الموت مبعوثة ثم مجازاة ومحاسبة فهذا حق واجب الإيمان به قال تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وقال تعالى: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "يبعث كل عبد على ما مات عليه فالمؤمن على إيمانه والكافر على كفره" وكذا حديث جبريل حين سأل النبي ﷺ عن الإيمان فعد منه الإيمان باليوم الآخر والمجازاة على فعل الخير والشر قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وقال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } وقوله تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } والمحاسبة على ما مضى من جميع الأعمال حق قال تعالى: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } الآية وقوله تعالى: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } وحديث من نوقش الحساب عذب. رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، فيحاسب المسلمون المكلفون إلا من شاء الله أن يدخل الجنة بغير حساب. وكل مكلف مسؤول، ويسأل الله من شاء من الرسل عن الرسالة ومن شاء من الكفار عن تكذيب الرسل. فالكفار لا يحاسبون ولا توزن صحائفهم قال تعالى: { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } وإن فعل كافر قربة من نحو عتق أو صدقة أو عمل حسن وفي له في حياته الدنيا، وليس له في الآخرة جزاء عمل، لكن نرجو أن يخفف عنه من عذاب معاصيه. لحديث ثويبة حين أعتقها أبو طالب. وكذا الصراط وهو جسر ممدود على ظهر جهنم مدحضة مزلة، أحدّ من السيف وأدق من الشعر، وأحر من الجمر، عليه خطاطيف تأخذ الأقدام، وعبوره بقدر الأعمال، مُشاة وركبانًا وزحفًا، يمر عليه المسلم والكافر فيجوزه المؤمن كالبرق والريح وأجاويد الخيل والركبان والمشاة فناج مسلم ومخدوش ومكردس في النار، قد روى ذلك عن النبي ﷺ من غير وجه قال الفضيل ابن عياض رحمه الله تعالى في وصفه الصراط أنه سبع جسور فيحاسب العبد في أولها على الإيمان فإن سلم إيمانه من النفاق والرياء والشرك والعجب نجا وإلا تردى في النار، وفي الثانية عن الصلاة فإن أداها مكملًا شروطها وأركانها وواجباتها نجا وإلا تردى في النار، وفي الثالثة عن الزكاة فإنا أداها تامة بطيب نفس نجا وإلا تردى في النار، وفي الرابعة عن الصيام فإن أدّاه تامًا نجا وإلا تردَّى في النار، وفي الخامسة عن الحج والعمرة فإن أداهما تامين بشرائطهما وأركانهما نجا وإلا تردَّى في النار، وفي السادسة عن الوضوء والغسل من الجنابة فإن أداهما تامين نجا وإلا تردى في النار، وفي السابعة عن بر الوالدين وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أتمه نجا وإلا تردى في النار.

وكذا الميزان الذي توزن به الأعمال من الحسنات والسيئات، وفيه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فهو حق وله لسان وكفتان توزن بهما صحائف الأعمال. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "توزن الحسنات في أحسن صورة وتوزن السيئات في أقبح صوره" وكذا خلق الجنة والنار وأنهما موجودتان الآن، فعن أبي سلمة وهو ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "لما خلق الله الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. ثم حفها بالمكاره. ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. فلما خلق النار قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها" رواه أبو داود والترمذي والنسائي قال الترمذي حسن صحيح. وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" وأخرجه أيضًا في صحيحه من حديث الأعرج عن أبي هريرة، وقد ذكر بعضهم أن هذا من بديع الكلام وجوامعه الذي أوتيه ﷺ من التمثيل الحسن، وأن حفاف الشيء جانباه فكأنه أخبر ﷺ أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بتخطي المكاره، وكذلك النار لا يوصل إليها إلا بتخطي الشهوات وما تميل إليه النفوس، وان إتباع الشهوات يلقى في النار ويدخلها وأنه لا ينجو منها إلا من تجنب الشهوات. ففي هذا الحديث حث على اجتنابها وعن سهل بن حوشب أن رسول الله ﷺ قال: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" وعن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" وعن البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال حين مات إبراهيم: "أن له مرضعًا في الجنة". وعن أبي هريرة مرفوعًا: " اشتكت النار إلى ربها فقالت رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير" وعنه أيضًا مرفوعًا: "ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، قيل يا رسول الله ان كانت لكافية قال لقد فضلت عليها بتسعة وتسعين جزءًا كلهن مثل حرها" وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" أخرجه البخاري في صحيحه.

وخلود أهل الجنة فيها وخلود الكفار في النار حق قال عز من قائل: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا } قال ابن عباس في الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال مقاتل والضحاك الزفير أول نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردده في جوفه. وقال أبو العالية الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر. وخالدين فيها أي مقيمين ما دامت السموات والأرض. قال الضحاك: ما دامت سموات الجنة والنار وأرضها. فكل ما علاك وأظلك فهو سماء. وكل ما استقر عليه قدماك فهو أرض. وقال أهل المعاني: هذا عبارة عن التأبيد، أتي به على عادة العرب، يقولون لا آتيك أو لا يكون الأمر كذا ما دامت السموات والأرض، أو ما اختلف الليل والنهار، يعنون لا يكون ذلك أبدًا وأما الاستثناء في قوله: إلا ما شاء ربك، فقال بعضهم هو في الأول منفصل معناه إلا من مات موحدًا فإنه يخرج من النار فيدخل الجنة وسماه الله شقيًا لدخوله النار بالمعصية مع من شقى وهذا المعنى قد روي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وعمران بن حصين. فأما حديث أنس ابن مالك فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " ليصيبن أقوامًا سفع من نار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضله ورحمته يقال لهم الجهنميون" وأما حديث ابن حصين عن النبي ﷺ قال: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد ﷺ بإذن الله فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين". وما وإن كان وضعها لما لا يعقل غالبًا فهي هنا للوقت، ولكن لما كان الكلام عن حال من يعقل صار لها مناسبة فيه، وقال بعضهم إلا بمعنى سوى أي خالدين فيها هذا القدر سوى ما شاء الله من الزيادة عليه وقيل إلا بمعنى الواو أي وما شاء ربك كقولهم لعمر: أبيك إلا الفرقدان. أي والفرقدان، وأما معناه في الثاني وهو قوله: { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ } فهو استثناء متصل إذ لا يخرج من الجنة بعد دخولها أحد، ومعناه يرجع لمدة لبث هؤلاء المستثنيين في النار قبل دخولهم الجنة. وقيل ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث قبل مصيرهم إلى الجنة والنار يعني هم خالدون في الجنة والنار إلا هذا المقدار. ولذلك قال الضحاك عند قوله إلا ما شاء ربك: إي إلا ما مكثوا في النار حتى دخلوا الجنة فهو مراد الفريق. وظاهر اللفظ يأباه. وقال قتادة: الله أعلم بتنياه. والحاصل أنه يجب علينا اعتقاد أن المؤمن يخلد في الجنة، وأن الكافر يخلد في النار، وإن كلا لا يخرج عن محله بعد أن يدخله، وما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا" وعن أبي هريرة نحوه فمعناه عند أهل السنة إن ثبت أن لا يبقى فيها أحد من أهل التوحيد والإيمان. فأما مواضع الكفار فمملوءة منهم ومعنى قوله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } واحدها حقب وهو ثمانون سنة. قال المفسرون الحقب الواحد بضع وثمانون سنة. السنة ثلاثمائة وستون يومًا. مقدار اليوم ألف سنة من أيام الدنيا وقال الحسن: لم يجعل الله لأهل النار مدة بل قال أحقابا فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر هكذا أبدًا، وقد بشر الله أهل الجنة بدوام لبثهم فيها قال: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } وقال في الآية الأخرى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا }

جواز العفو عن المذنبين

(وأما قولكم ويجوز العفو عن المذنبين).

فنقول أجمع أهل السنة على أن المسلم لا يكفر بذنب فكل من لم يأت بما يقتضي الخروج عن الملة يجوز العفو عنه ويدخل تحت مشيئته تعالى إن شاء غفر له بفضله وإن شاء عاقبه بعدله مع عدم تخليده في النار، كما نطق به القرآن والسنة قال تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } إلى قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم } فسماهم مؤمنين وجعلهم إخوة مع الاقتتال وبغى بعضهم على بعض. وفي البخاري عن عمر ابن الحطاب رضي الله عنه: "أن رجلًا يشرب الخمر يقال له عبد الله فأتى به شاربًا فلعنه رجل فقال رسول الله ﷺ: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" وفي المسند للإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: " الدواوين عند الله عز رجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يعبؤ به فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه وصلاة تركها فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فظلم العباد بعضهم بعضًا القصاص لا محالة. وأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك". قال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّار } ثم ان كانت الذنوب صغيرة وضابطها ما أوجب تعزيرًا فأقل فهذا يغفر بالوضوء والصلاة والجمعة والصيام ما اجتنبت الكبائر.

وإن كانت كبيرة فإن استحلت فهي كفر، وضابطها ما أوجب حدًا في الدنيا ووعيدًا في الآخرة، وإن لم تستحل فإن تاب قبل الغرغرة أو رؤية الملك قبلت التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها وإن لم يتب بأن مات مصرًا فأمره مفوّض إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له. وفي صحيح مسلم من حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: "يقول الله تعالى من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة بر ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة" وخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي قال: دخلت على أنس رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم غفرت لكم".

شفاعة الرسل

(وأما قولكم والشفاعة حق وبعثة الرسل بالمعجزات حق من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

فنقول: أما الشفاعة فقد قال أهل المعاني أنها مأخوذة من الشفع المقابل للوتر، فاستعملت في الشفيع باعتبارين:

الأول: كونه شافعًا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسئلة.

الثاني: كونه شافعًا للمسئول منه قضاء الحاجة في قضائها إذ هي لم تقض إلا بسبب شفاعته فكأنه شاركه وشفعه فيها. فمن الأول قوله تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } ومن الثاني قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } الآية وقوله: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }.

ثم إن الشفاعة من حيث هي قد افترق الناس فيها ثلاث فرق: طرفان ووسط. فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى ومبتدعة هذه الأمة قد أثبتوا الشفاعة التي نفاها الله وذلك أنهم اتخذوا وسائط ووسائل من الخلق شفعاء لهم يسمونهم آلهة ومنه قول صاحب يس: { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } لكن هؤلاء الباقون نفوا بألسنتهم اسم الإله عما سوى الله وأثبتوا معناه في معتقدهم وقولهم الذي يسمونه واسطتهم ووسيلتهم من الخلق في تفريج كربهم وكشف شدائدهم. كما تكون الوسائط والوسائل بين السلطان ورعيته فشبهوا الحالق تعالى بالمخلوق. وصريح القرآن من أوله إلى آخره رادًا عليهم إذ السلاطين جاهلون أحوال الخلق إلا بمنبه ومفطن، والله تعالى عالم يعلم ما في السموات وما في الأرض كما أن له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والملوك عاجزون عن تدبير الخلق إلا بمعين ومظاهر والله تعالى هو المدبر للأشياء كلها { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } والملوك محتاجون إلى محرك خارجي يحركهم بالموعظة ونحوها والله تعالى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل هو الخالق للسبب والمسبب وليس في الأسباب ما هو مستقل بل هي جميعها من الله وحده لا شريك له لا قيام لها إلا بمشيئته وقدرته، فلا حول وهى الحركة والتحول من حال إلى حال ولا قوّة كل ذلك الحلول إلا به تعالى وسواء في ذلك الحول والقوّة الموجود في السماء والأرض والآدميين والملائكة والجن وسائر الدواب وغيره { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له فليس لغيره ملك ولا شرك في ملك غيره ولا شريك له. وهذان الصنفان هما اللذان لهما ملك إما كامل وإما مشاع، ومن ليس له ملك فإما أن يكون عونًا للمالك كالوكلاء والإجراء والغلمان والجند والأولياء. وإما أن يكون سائلًا طالبًا منه لأنه إما أن ينفع المالك فيكون له عليه حق وإما أن لا ينفع لكن يسأله فأخبر سبحانه أنه ليس له من المخلوقات من ظهير.

وأما مسئلة الشفاعة فلم ينفها لكن أخبر أنها لا تكون ولا تنفع إلا لمن أذن له، فالشفاعة بعد رضائه تعالى عن المشفوع فيه وهذا بخلاف الشفعاء للمخلوقين فإنهم قد يشفعون لمن لم يؤذن لهم في الشفاعة له وقبل استئذان المشفوع إليه. وهكذا كقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وقال: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } وقال: { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } وهذا يوجب انقطاع تعلق القلوب بغيره ولو كان ملكًا أو نبيًا فكيف بالمشايخ والعلماء والملوك فإن غاية الراجي لهم المعتمد عليهم أن يقول هم يشفعون لي فقد أخبر سبحانه أنه ما من شفيع إلا من بعد إذنه وأنكر أن يشفع أحد إلا بإذنه وأخبر أن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له. ولهذا إذا جاء سيد الشفعاء ﷺ يوم القيامة إلى ربه ورآه سجد وحمد بمحامد يفتحها عليه ولا يبتدئ بالشفاعة حتى يقال له: أي محمد أرفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع. وبهذا تتبين الشفاعة المنفية يوم القيامة كما قال جل ذكره: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } وقال تعالى: { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وذلك ان الإنسان في الدنيا يحصل ما ينفعه، تارة يكون بمعاوضة حسية، وتارة معنوية، والله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقيرًا إليه بخلاف الخلق فإنهم محتاجون إلى ظهير يظاهرهم ويعاونهم فهذه الوسائط في الحقيقة شركاؤهم والله سبحانه ليس له شريك في الملك كما ليس له شريك في استحقاق العبادة بل هو المختص بها ولا تليق إلا لجلاله وعظمته فلا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولهذا حسم مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله فلا أحد يشفع عنده إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما لأن من شفع عنده غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب لأنه أثر فيه بشفاعته لاسيما إن كانت من غير إذنه فجعله يفعل ما طلب منه والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قائل: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وقال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وقال تعالى: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } وقال تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } والآيات في ذلك كثيرة جدًا رادة على المشركين قولهم وعقيدتهم.

إنكار الخوارج والمعتزلة للشفاعة

وأما الخوارج والمعتزلة فقد أنكروا شفاعة نبينا محمد ﷺ في أهل الكبائر من أمته. بل أنكرت طائفة من أهل البدع والأهواء انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه غير الواجب باصل الشرع عنه. وأنكروا الشفاعة من أصلها محتجين بقوله تعالى: { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } وبقوله: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } وغير ذلك.

عقيدة السلف الصالح في الشفاعة

وأما سلف الأمة وخيارها وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي ﷺ. ففي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا" وروى حديث الشفاعة بطوله أنس بن مالك. وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال (أتى النبي ﷺ بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذك يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو منهم الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون" ثم ساق الحديث بطوله والشفاعة العظمى العامة هي المقام المحمود الذي جاء منكرًا في الآية لعظم شأنه قال تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } فأهل السنة والجماعة أثبتوا ما أثبت الله ورسوله ونفوا ما نفى الله ورسوله.

بعثة الرسل بالمعجزات حق

(وكذلك بعثة الرسل بالمعجزات حق) قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وقد جعل ذلك النبي ﷺ من الإيمان وفسره به في حديث جبريل الذي رواه مسلم عن عمر بن الحطاب والإيمان المفسر هو الاعتقاد فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وفي رواية واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. وقد ذكر الله في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع كقوله تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } وقوله تعالى: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وقال تعالى: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } والإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما جاءوا به من الكتب والتوحيد ومعجزاتهم التي جعلها الله لهم علامة على صدقهم فيما يدعونه ويقولونه وما أخبروا به مما غاب عنا.

وكذلك الملائكة والكتب والأنبياء والبعث والقدر وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به من صفات اليوم الآخر كالصراط والميزان والجنة والنار. ومن كذب بشيء من ذلك بأن نفى ما أثبتوه، أو أثبت ما نفوه، فقد كذبهم وان نطق بذكرهم لسانه إذ الغرض من الإيمان بهم تصديقهم في جميع ما أخبروا به. والإيمان بجميع ما جاؤا به، والعمل بمقتضى ذلك، إذ لازم الإيمان، العمل فلا يكون بدونه ولا ينفك عنه. قال علماء السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية وان الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الإمام الشافعي إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم وقد أنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارًا شديدًا. وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولًا محدثًا سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، والنخعي، والزهري، وابن أبي كثير، وغيرهم قال الأوزاعي: "كان من مضى من السلف لا يعرفون الإيمان إلا العمل). وقد دل على ذلك قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلى قوله { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث الإيمان في محله بأتم من هذا ونبين الفرق بينه وبين الإسلام. والرسول عام يطلق على الملك والبشر. والنبي خاص لا يطلق إلا على البشر. وفي معالم التنزيل وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا. والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. والمذكور في القرآن منهم ثمانية عشر نبيًا، وأولو العزم منهم خمسة: محمد وإبراهيم ونوح وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم، وأوّل الرسل نوح كما قال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } فذكر عدة من الرسل الذين أوحى إليهم وبدأ بذكر نوح لأنه أوّل نبي من أنبياء الشريعة المرسل بها وأوّل نذير عن الشرك، وأوّل من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان

أطول الأنبياء عمرًا وجعلت معجزته في نفسه لأنه عمر ألف سنة فلم ينقص له سن ولم يشب له شعرة ولم ينقص له قوّة ولم يصبر على أذى قومه أحد ما صبر هو على طول عمره. وأما آدم ﷺ فهو نبي لا رسول إلى أمة. وآخر الرسل محمد ﷺ بالنص والإجماع.

قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } وفي ربيع الأبرار للزمخشري عن فرقد السبخي: لم يبعث نبي قط من مصر من الأمصار وإنما بعثوا من القرى، لأن أهل الأمصار أهل السواد، والريف وأهل القرى أرق. وعن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله من أوّل الأنبياء قال: "آدم" قال: قلت: من أول الرسل قال: "نوح" ثم قال: "يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيتْ وخنوخ وهو إدريس وهو أوّل من خط وخاط ونوح، وأربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى" قلت: كم أنزل الله من كتاب قال: "مائة صحيفة وأربعة كتب على شيتْ خمسين صحيفة وعلى أخنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والزبور والإنجيل والفرقان ولم يذكر آدم".

أهل الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة

(وأما قولكم وكذلك أهل بيعة الرضوان تحت الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة).

فنقول أما شجرة فهي شجرة كانت في الحديبية وقد أمر عمر بن الحطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة توهم أنها الشجرة التي بويع الصحابة تحتها بيعة الرضوان لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة. وأما الصحابة المبايعون رضي الله عنهم فكان عددهم ألفًا وأربعمائة وقيل وسبعمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وستمائة وقيل وخمسمائة وعشرين وقد بايعوا النبي ﷺ تحتها على أن لا يفروا من قريش وأن يناجزوهم وذلك معنى قول بعضهم:

على الموت بايعت الرسول قتالا ** فإما النصر وإما الموت بلا فرار

وكان سبب البيعة أن رسول الله ﷺ خرج معتمرًا عام الحديبية وأرسل خراش بن أمية الحزاعي لقريش يعلمهم بما جاء رسول الله ﷺ له، وحمل على جمل يقال له الثعلب فعقروا به الجمل وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فرجع وأخبر رسول الله ﷺ فأرسل لهم عثمان بن عفان مخبرًا بما جاء به رسول الله ﷺ فأجاره أبان بن سعيد بن العاص حتى إذا بلغ رسالة محمد ﷺ ثم حبسوه عندهم فشاع في الناس أن عثمان قتل ولم يبرح رسول الله ﷺ من المكان الذي بلغه فيه الخبر حتى بايع أصحابه، ثم أتاه الخبر أن عثمان رضي الله عنه لم يقتل وأنزل الله تعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } الآية. وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قال النووي في شرحه: قال العلماء معناه لا يدخلها أحد منهم قطعًا كما صرح به في الحديث الذي قبله حديث حاطب بن أبي بلتعة، وإنما قال إن شاء الله للتبرك، وأهل بدر عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. وقد قال ﷺ مخاطبًا لعمر بن الحطاب: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" الحديث في مسلم قال النووي: قال العلماء معناه الغفران لهم في الآخرة وإلا فلو توجب على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا، ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد، وأقامه عمر رضي الله عنه على بعضهم قال وضرب النبي ﷺ مسطحًا الحد وكان بدريًا وهم أفضل الصحابة بعد العشرة.

وجوب نصب الإمام على المكلفين

(وأما قولكم الإمام يجب نصبه على المكلفين).

فنقول هذا الحد وهم إذ نصبه فرض كفاية، وحده شرعًا ما إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فهو مباين للواجب لغة، مرادف له شرعًا، إلا أن الواجب وضعه على الأعيان والكفاية على العموم. وقالت الحنفية الكفاية آكد من الواجب لأن حده ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني، وهو رواية عن أحمد، وحد الواجب من حيث ما عوقب تاركه أو توعد بالعقاب على تركه. فنصب الإمام فرض كفاية يخاطب بذلك طائفتان من الناس أحداهما أهل الاجتهاد حتى يختاروا الأصلح. الثانية من توجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب احدهم لها ويعتبر في أهل الاختيار ثلاثة شروط. أحدها العدالة. الثانية العلم المتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة. الثالث أن يكونوا من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو الأصلح للإمامة. ويشترط فيه الحرية والذكورة والعدالة والعلم بالأحكام الشرعية والكفاية في أمر المسلمين وسياستهم وإقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك، ويجبر شخص متعين لها وهو كيل المسلمين فيما لهم وما عليهم ويثبت نصبه بإجماع أهل الحل والعقد، وبنص إمام بها لمن بعده لأن أبا بكر رضي الله عنه عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يحتج في ذلك إلى أحد، ويثبت باجتهاد كفعل عمر وجعله الأمر شورى بين ستة من الصحابة ويثبت بقهر كما لو تنازع الإمامة عدد يصلح كل منهم لها فقهر أحدهم من سواه فإنه تثبت له الإمامة وتلزم الرعية طاعته لما في الخروج على من ثبتت إمامته بالقهر من شق عصى المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم، والخارج قد دخل في عموم قول النبي ﷺ: "من خرج على أمتي وهم جمع فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان". وقريش إن وجدوا وتوفرت فيهم الشروط المذكورة أحق لقوله ﷺ: "الأئمة من قريش أبرارها أمراء أبرارها وفجارها أمراء فجارها" أخرجه الحاكم من حديث على بن أبي طالب وله شواهد أخر عنه ﷺ، والمراد بالفجار الفسقة المسلمون، وإنما نصب الإمام لأن بالناس إليه حاجة الحماية لبيضة المسلمين والذب عنهم وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي نصب الإمام مصالح الدنيا والآخرة وسعادة المسلمين في الدنيا ونظم مصالحهم في معايشهم وما يستعينون به على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الناس لا يصلحهم إلا إمام برًا كان أو فاجرًا يعبد المؤمن ربه.

وقال الحسن في الأمراء: ثم إنهم يلون من أمورنا خمسًا. الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم وان جاروا وظلموا والله إن الله ليصلح بهم أكثر مما يفسدون. وتحرم مشاقة الإمام والخروج عن طاعته فيما ليس بمعصية، فأخرج الخلال في كتاب الإمارة من حديث أبي أمامة قال: أمر النبي ﷺ أصحابه حين صلوا العشاء أن احشدوا فإن لي إليكم حاجة فلما فرغوا من صلاة الصبح قال: "فهل حشدتم كما أمرتكم" قالوا: نعم قال: "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا هل عقلتم هذه ثلاث مرات" قلنا: نعم. قال: "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة

هل عقلتم هذه؟ ثلاث مرات" قلنا: نعم. قال: "اسمعوا وأطيعوا هل عقلتم هذه؟ ثلاث مرات" قلنا: نعم. قال: فكنا نرى أن رسول الله ﷺ يتكلم كلامًا طويلًا ثم نظرنا في كلامه فإذا هو قد جمع لنا الأمر كله. فبالسمع والطاعة وصى النبي ﷺ في خطته في حجة الوداع فأخرج، الإمام أحمد والترمذي من رواية أم الحصين الأحمسية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع فسمعته يقول: "يا أيها الناس اتقوا الله وان أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله" وأخرج الإمام أحمد والترمذي أيضًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع يقول: "اتقوا الله صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم" وفي رواية أخرى: "يا أيها الناس أنه لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم" وذكر الحديث بمعناه وفي المسند للإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئًا وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبًا وسمع وأطاع فله الجنة أو دخل الجنة" وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" متفق عليه.

الإمام الحق بعد الرسول أبو بكر ورد قول الرافضة

(وأما قولكم والإمام الحق بعد الرسول ﷺ أبو بكر ثم عمر).

فنقول: قد روى مسلم في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها سئلت عمن كان رسول الله ﷺ مستخلفًا لو استخلفه قالت: أبو بكر فقيل لها: من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا يعني وقفت على إلى عبيدة، وفيه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال لها: "ادع لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" ففي الحديث الأول دليل لأهل السنة في تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة، وفيه دلالة لأهل السنة أن خلافة أبي بكر ليست بنص من النبي ﷺ على خلافته صريحًا بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمًا لفضيلته ولو كان هناك نص عليه أو على غيره لم تقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلًا، ولذكر حافظ النص ما معه ولرجعوا إليه لكن تنازعوا أوّلًا ولم يكن هناك نص. ثم اتفقوا على أبي بكر واستقر الأمر وما تدعيه الشيعة من النص على علي والوصية إليه فباطل لا أصل له باتفاق المسلمين، والاتفاق على بطلان دعواهم في زمن علي، وأول من كذبهم في شأن علي رضي الله عنه قوله ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة الحديث، ولو كان عنده نص لذكره، ولم ينقل أنه ذكره في يوم من الأيام ولا أن أحدًا ذكره له. وفي الحديث الثاني دلالة ظاهرة لأهل السنة بفضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه واخبار منه ﷺ بما سيقع في المستقبل بعد وفاته وبأن المسلمين يأبون عقد الحلافة لغيره وفيه إشارة إلى أنه سيقع نزاع ووقع كل ذلك وقد عجز النبي ﷺ عن حضور الجماعة فاستخلف الصديق غير مرة بل مرات متعددة، وتقديمه في الإمامة الصغرى دليل على تقديمه في الكبرى. وقد قيل لعلي كرم الله وجهه عن ذلك فقال: قد كنت ادخل على النبي ﷺ وأخرج وشعري قد ملأ وجهي فلا مرة من المرات إذا تخلف قال لي صَلِّ بالناس بل يقول: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فرجل رضيه رسول الله ﷺ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا. وخلافة عمر رضي الله عنه ثبتت بنص من أبي بكر (ثم عثمان بن عفان) رضي الله عنه وكان نصبه باجتهاد من الصحابة واتفاق من ذوي الشورى الذين عهد إليهم عمر رضي الله عنه في المشاورة في أمر الإمامة، وقد رضي علي بها له واطمأنت نفسه فلم يخالف ولم ينازع (ثم علي) بن أبي طالب رضي الله عنه بعد خلافة عثمان.

الأفضلية على ترتيب الخلافة

قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله تعالى: اختلف الناس في تفضيل بعض الصحابة على بعض فقالت فرقة لا يفاضل بل يمسك عن ذلك. وقال الجمهور بالتفضيل. ثم اختلفوا فقال أهل السنة والجماعة أفضلهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقالت الخطابية أفضلهم عمر بن الحطاب رضي الله عنه، وقالت المراوندية أفضلهم العباس رضي الله عنه. وقالت الشيعة علي رضي الله عنه، واتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما. وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم علي على عثمان والصحيح المشهور تقديم عثمان رضي الله عنه. قال أبو منصور البغدادي أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة على الترتيب المذكور، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أحد، ثم بيعة الرضوان، وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون وهم من صلى إلى القبلتين في قول ابن المسيب وطائفة، وفي قول الشعبي أهل بيعة الرضوان وفي قول عطاء ومحمد بن كعب أهل بدر. وذهبت طائفة منهم ابن عبد البر إلى أن من توفي من الصحابة في حياة رسول الله ﷺ أفضل ممن بقي بعده. وهذا القول غير مرضي ولا مقبول.

واختلف العلماء في أن تفضيل المذكور قطعي أم لا. وهل هو في الظاهر والباطن، أم في الظاهر خاصة، بعد الاتفاق على أن جميعهم في الجنة بالنص القطعي من النبي ﷺ. وممن قال أنه قطعي أبو الحسن الأشعري قال وهم في الفضل على ترتيبهم في حديث العشرة والإمامة. وممن قال أنه اجتهادي ظني أبو بكر بن الباقلاني. وذكر ابن الباقلاني اختلاف العلماء في أن الفضل هل هو في الظاهر، أم في الظاهر والباطن جميعًا.

وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة رضي الله عنهما أيتهما أفضل. وفي عائشة وفاطمة رضي عنهن أجمعين. وحقيقة القول فيه أن عائشة أفضل من جهة العلم، وفاطمة أفضل من جهة الذات فإنها بضعة من أفضل الحلق.

فأما عثمان رضي الله عنه فخلافته صحيحه بالإجماع وقتل مظلومًا وقتله الفسقة لأن موجبات القتل مضبوطة ولم يجر منه ما يقتضيه ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة وإنما قتله همج من الناس ورعاع في غوغاء القبائل وسفلة الأطراف والأراذل تحزبوا وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه حتى قتلوه رضي الله عنه.

وأما علي رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالإجماع. وكان هو الخليفة في وقته لا خلافة لغيره. وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنهم. وأما الحروب، التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة فاعتقدت تصويب نفسها بشبهها القائمة في ذهنها وكلهم عدول رضي الله عنهم. ومتأولون في حروبهم وغيرها ولا يخرج بشيء من ذلك أحد منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم وليعلم أن سبب تلك الحروب ان القضايا كانت مشتبهة فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:

(قسم) ظهر لهم الاجتهاد أن الحق في هذا الطرف. وان مخالفهم باغ فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقادهم.

(وقسم) عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.

(وقسم ثالث) اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها فلم يظهر لهم ترجيح أي الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حق هؤلاء لأنه لا رجحان ولا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين وأنه الحق لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه، فكلهم عدول رضي الله عنهم ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين.

عدم تكفير أحد من أهل القبلة

(وأما قولكم ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة إلا بما فيه نفى للصانع القادر العليم أو شرك العليم أو إنكار ما علم مجيئه ﷺ به ضرورة أو إنكار لمجمع عليه كاستحلال المحرمات التي أجمع على حرمتها).

فنقول: أهل القبلة هم الموحدون الله تعالى في عبادته ومعاملته كما أمرهم بجعلهم الدين الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه كله لله وحده لا شريك له، فهم فيه لله مستسلمون ومنقادون، ولما أحل الله ورسوله محللون، ولما حرم الله على لسان رسوله محرمون، وعما ينافي الإسلام تاركون، قال سبحانه وتعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا أكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها" وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" فقد أمر الله سبحانه نبيه ﷺ بمجاهدة الخلق وقتالهم حتى يقولوا هذه الكلمة الطيبة ويتركوا المنافي لها من الإشراك بالله فلا تتأله قلوبهم غيره تعالى وحتى يؤدوا حقها ومنه أن يصلوا الصلاة المفروضة على النبي ﷺ وعلى أمته المضافة إلى الموصوفين منهم بأتباعه، وهي لا تضاف إليهم إلا أن تكون طيبة أي صالحة بصلاح شروطها وأركانها وواجباتها إذ الطيب لا يقبل إلا طيبًا، وأن يؤدوا الحق الواجب في أموالهم، وأن يستقبلوا قبلتهم، وأن يأكلوا ذبيحتهم، وهذه الإضافة في الصلاة والقبلة والذبيحة للتشريف شرف الله نبيه محمدًا ﷺ وشرف ملته الحنيفية ودينه الإسلام، فجعل منه تلك الصلاة التي فيها كمال العبودية والتواضع لله تبارك وتعالى، وجعل منه هذه القبلة المشرفة فهي قبلتهم في الصلاة وغيرها أحياء وأمواتًا، وأحل ذبيحتهم وجعل أكلها علامة الإيمان، وذلك لشرفهم وشرف ملتهم ودينهم وهديهم، والمستوجبون لذلك معصومة دماؤهم وأموالهم لإتباعهم النبي ﷺ في دينه وملته، فليس أهل القبلة إلا من عمل بمعنى الشهادتين اللذين هما رأس دين الإسلام وملته وقوامه، وصفته شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله قولًا وعملًا واعتقادًا، فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الالوهية له سبحانه وتعالى فلا يتأله القلب ولا اللسان غيره تعالى لا بحب ولا خشية ولا إنابة ولا توكل ول ارجاء ولا إجلال ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله كما قال عز من قائل: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فإذا جعل بعض الدين قولًا وعملًا واعتقادًا لله، وبعضه كذلك لغيره لم يكن الدين كله لله بل قد تأله معه غيره، فأهل القبلة يحبون لله، والمشركون يحبون مع الله، كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وأهل القبلة يخلصون الدعوة لله، والمشركون يجعلونها لغير الله، كما قال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ }.

والشهادة بأن محمدًا رسول الله تتضمن تصديقه ﷺ في جميع ما أخبر به وطاعته واتباعه في كل ما أتى وأمر به، فما أثبته واجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه، فروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: ومن يأبى؟! قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" وروى أيضًا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: جاءت الملائكة إلى النبي ﷺ وهو نائم فقال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا ان لصاحبكم هذا مثلًا فاضربوا له مثلًا فقال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة وبث داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها له يتيقنها قال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان قالوا فالدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد مفرق بين الناس أي مميز بين مؤمنهم وكافرهم. فأهل القبلة هم أهل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد لله وحده وترك جميع الآلهة سواء، وهذا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإخلاصها له فمن استسلم وانقاد لله ولغيره في معناها فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به، فلفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص أخذًا من قوله: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } فأهل القبلة هم العابدون الله بدين الحق المتبع لا بهوى النفوس والبدع.

التوحيد وما يتعلق به

(فمن الأول) قوله تعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } يعني من الشرك وما سواه من الأديان فليس بدين الله المأمور به، بل هو عين ما نهى الله عنه قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بمعناها وبحقوقها (ومن الثاني) اتخذوا من دونه شفعاء يعتقدون بهم ويتقربون بشفاعتهم كما قال عز من قائل: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } يعني ليشفعوا لنا إلى الله، وذلك التقريب هو الشفاعة في قول المفسرين، والزلفى القربى اسم أقيم مقام المصدر كأنه قال إلا لتقربنا إلى الله تقريبًا (ومعنى العبادة) في اللغة: الذل والانقياد كما قال أهل المعاني (وأما معناها) حقيقة: فهي ما كان مختصًا لله لأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ولذلك توعد سبحانه هؤلاء الذين جعلوا حقه لغيره بقوله تعالى: { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يعني بين المتفرقين من أهل الأديان فيما هم فيه يختلفون من أمر الدين، كل يقول الحق ديني فهم مختلفون وحكم الله بينهم أن يخلد في النار من لم يتبع كتاب الله بل نبذه ورغب عنه باتباع هواه ولا يتدين بدين رسوله محمد ﷺ ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم إلى طريق النجاة فقال: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } في زعمه ان معتقده يشفع له، كفار في اتخاذه أولياء من دون الله أو معه ليشفعوا له ويقربوه، فالدين المأمور بالإقامة عليه واحد وهو دين الإسلام الذي بعث الله محمدًا ﷺ وجملة من الأنبياء لم يختلفوا في أصله كما قال النبي ﷺ فيما صح عنه: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد الأنبياء أخوة العلات" وإنما تنوعت شرائعهم فيه كتنويع القبلة في وقتين فإنه قد كان في وقت يجب استقبال الصخرة التي في بيت المقدس في الصلاة وذلك بعد هجرته ﷺ فصلى إليها بضعة عشر شهرًا ثم بعد ذلك وجب استقبال الكعبة، فهذا التنوع الذي كان بين الأنبياء لا يوجب اختلاف الملة، وإنما يوجبه من لم يفرق بين عبادة الرحمن وعبادة الشيطان قال سبحانه وتعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي هذه ملتكم دينكم الإسلام ملة واحدة فلا تتفرقوا عنها، وأنا ربكم أي معبودكم الذي خلقتكم وأمرتكم بعبادتي وإخلاصها لي وحدي، فاتقون لا تشركوا بي شيئًا بل احذروا عقابي، خطاب لهم وقصد لغيرهم وقال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } فأهل القبلة لله مخلصون وفي الدين متفقون، وأهل الإشراك عن الحق معرضون وهم متفرقون قال تعالى: { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } ولذلك خلقهم فأهل الرحمة هم أهل القبلة لأنهم فيما شرع الله متفقون، وفيه مجتمعون وعليه واقفون وبه آخذون، فهم فيما أمرهم الله ورسوله به عاملون، وعلى ما يرضى الله ورسوله مقتصرون، وعما لم يشرعه الله متحادون.

وأما من نبذ القرآن وراءه فلم يعمل بما أنزل لأجله فليس من أهل القبلة بل من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون وان تلاه بلسانه تلاوة وهو يتدين بشرك كما يتدين به الأولون وتنسك به المتحادون، ومجرد تلاوة القرآن بلا عمل فيما هو الموجب لإنزاله من التوحيد لإله كل العبيد وانحاز عن منافيه من الشرك الذي لا يغفره إلا بالتوبة منه والتجريد لا تخرجه تلك التلاوة عن ملة الأولين قال سبحانه وتعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } ولهذا يوجد ما أحدث من الشرك والبدع قد تفرق فيه أهله فكان لكل قوم منهم معتقد يعتقدون فيه دفع الضر وجلب الخير يهتفون باسمه عند نزول الشدة نائيًا كان المعتقد أو ميتًا، فكل منهم يدعو معتقده ليكشف عنه شدته ويفرج كربته ويجلي غمه، فالموحدون لله وحده لا شريك له العاكفون على توحيده من إخلاص الدعوة له هم أهل القبلة قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص } وضدهم هؤلاء المشركون العاكفون على ما يرجونه ويخافونه من دون الله ويتخذونه من تلك المعتقدات في الأحياء الغائبين والأموات يشركون به في عبادة الله ومعاملته فيرجونه يفرج كربتهم ويكشف شدتهم راغبين راهبين منيبين إليه متوكلين عليه أو ليكن شافعًا لهم عند الله في قضاء مطالبهم، فقد عطلوا توحيد الله تبارك وتعالى في ألوهيته وصمديته بإشراكهم معه في عبادته ومعاملته وبجعلهم الدين لغيره، ونفي الصانع القادر لم يقل به أحد من المشركين الذين كفرهم رسول الله ﷺ وقاتلهم، فإن المشركين الأولين لم يكن أحد منهم يقول ان العالم له خالقان بل ولا يقولون إن الله له إله يساويه في صفاته هذا لم يقله أحد من المشركين بل كانوا مقرين بأن خالق السموات والأرض واحد كما أخبر الله عنهم في قوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وقوله: { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } وقوله: { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } وقوله: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } وكانوا يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، كما يقول هؤلاء المشركون الذين لمشاكليهم مقتفون إن هؤلاء الذين اعتقدناهم ودعوناهم ورجوناهم هم وسائلنا ووسائطنا إلى الله فإنه فوض إليهم وأعطاهم فلهم ما يشاؤن ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومنهم من يصرح بقوله وهم في الكون يتصرفون فوبخهم الله تعالى وذمهم ولامهم وضرب لهم الأمثال في ذلك فقال عز من قائل: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية ولكن تتأله قلوبهم وألسنتهم إما نبيًا أو وليًا أو ملكًا أو غيرهم مما يصورونه على صورة أحد هؤلاء يتخذونه واسطة تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } الآية وقال تعالى: { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

فقد قطع الله تعالى بهذه الآيات جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعًا قطعًا يعلم من تأمله ويحقق من تدبره أن من اتخذ من دون الله وليًا أو شفيعًا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت، قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فمن استمسك بغير الله في حال شدته وكربه وغمه فدعاه ورجاه بما لا يقدر عليه إلا الله فليس في يده ممن استمسك به سواه تعالى إلا كمن يستمسك ببيت العنكبوت فإنه لا يجدي عنه شيئًا، فلو علم المستمسك هذا الحال لما اتخذ من دون الله وليًا ولا شفيعًا، وهذا بخلاف أهل القبلة فإنهم لله مخلصون وله في العمل مستسلمون ومحسنون وفي إتباع ما جاء من الله على لسان رسوله منقادون وبالله معتصمون وبالعروة الوثقى مستمسكون وهي العقد الوثيق المحكم في الدين التي لا انفصام لها لقوتها وثباتها وهي الكلمة الطيبة لا إله إلا الله قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } والطاغوت كل باطل ليس من الدين وكل ما طغى من شيطان جني أو أنسي وكل عبادة ليست لله فهي باطلة، فالمشرك إنما يتخذ أحدًا غير الله لما يحصل له في زعمه من النفع وهو لا يكون إلا فيمن كانت فيه خصلة من أربع: إما أن يكون مالكًا لما يريد متخذه، فإن لم يكن مالكًا كان معينًا، فإن لم يكن كان ظهيرًا، فإن لم يكن كان شفيعًا، فنفى سبحانه وتعالى هذه المراتب الأربع نفيًا مرتبًا منتقلًا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك عن غيره والشركة والمظاهرة والشفاعة التي لأجلها وقعت المخالفة والعداوة والمخاصمة، وأثبت سبحانه شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه لمن رضي عنه في قوله سبحانه وتعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } الآية وإنما ذكر ذلك تعالى لأنهم دعوا الملائكة دعاء عبادة لشفاعتهم لهم، قاله المفسرون فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك، وكافية لمن عقلها على أن القرآن مملوء بأمثالها ونظائرها، ولكن الغفلة والجهل هما المؤديان إلى فهم قصور العام على السبب، فالأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك، ولم يميز بين ما عابه القرآن وذمه، وبين ما أنزل لأجله ودعا إليه، فَصَوَّب المستقبح وحَسنَّه، وهو لا يعرف حقيقة وصفه. وإنه الذي كان عليه الجاهلية أو نظيره أو أسوأ منه أو دونه فتنقض عرى الإسلام بذلك ويعود المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وهذا بعينه مشاهد، فإنه قد آل الأمر إلى الشك بالشرك والتدين به في اتخاذ الوسائل والوسائط من الأولياء والأنبياء بل والشياطين من الجن والإنس المعاندين والأشجار والنيران والقبور يدعونهم ويرجونهم ويتوكلون عليهم وينسكون النسك لهم راغبين إليهم راهبين منهم ويستدلون على جواز ما اعتقدوه وفعلوه بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وإلى فعل الولايات لقبض النذور على الأموات لدفع ما حل من البلايا والمصيبات، ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات، وتنحر في باب قبته النحائر من الأنعام للتقرب إليه ورجاء ما لديه، فهذا بعينه هو الذي كان عليه عباد الأصنام. وقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "لا عقر في الإسلام" قال عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة.

فكل ما تقدم مما ذكرنا داخل في معنى لا إله إلا الله التي أمرنا النبي ﷺ بمجاهدة الخلق وقتالهم حتى يقولوها ويتركوا المنافي لها من الإشراك بالله قولًا وعملًا واعتقادًا. وأما حقها فقد جعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه فعل الصلاة وإيتاء الزكاة منه، ومن العلماء من أدخل فيه فعل الصيام والحج. واستدلوا بحديث جبريل حين سأل النبي ﷺ عن الإسلام فعد منه هذين الركنين فمن لم يقوّمهما مع القدرة عليهما لم يأت بالإسلام، إذ أركانه لا يقوم بعضها ولا ينوب عن بعض. واستدلوا أيضًا بحديث أبي بكر حين بعث خالد بن الوليد وأمره أن يقاتل الناس على خمس وبقول عمر لو ترك الناس الحج لقاتلناهم عليه، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ دعا عليًا يوم حنين فأعطاه الراية وقال: "أسر ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك" فسار على ما شاء الله ثم وقف فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس فقال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وفي رواية "إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل" فجعل من حقها الامتناع من الصلاة والزكاة مع الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم. ومما يدل على قتال الجماعة الممتنعين من اقام الصلاة وإيتاء الزكاة قوله تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وقد ثبت أن النبي ﷺ كان إذا غزا لم يفر حتى يصبح فإن سمع مؤذنًا وإلا أغار عليهم. وكان يوصي سراياه إذا سمعتم مؤذنًا أو رأيتم مسجدًا فلا تقتلوا أحدًا. قال العلماء: معنى ذلك والمقصود فيه إذا أظهر قوم توحيد الله والقيام بشرائعه وجب الكف عنهم، لأن فعلهم ذلك دليل على إسلامهم. ثم إن أظهروا منكرًا ينكره الشرع ولم ينتهوا عنه إلا بقتال فللإمام قتالهم كما لو تركوا فرض كفاية فيقاتلهم على تركه. ولذلك أنكر النبي ﷺ على أسامة بن زيد قتل الرجل الذي أظهر الإسلام ظانًا أسامة أنه إنما قال الشهادتين والسلام خوفًا، وأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } الآية فإنه لم يدع الإسلام قبل ذلك؛ ثم انه قد قاله وصدر منه بلا وجود مناف له لا في معناه ولا فيما هو حق له، ولهذا أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتثبت لذلك. وقد بعث النبي ﷺ كتابًا فيه: "من محمد النبي إلى أهل عمان - وكان بعضهم يدعي الإسلام- سلام عليكم أما بعد فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأدوا الزكاة وخطوا المساجد وإلا غزوتكم" أخرجه البزار والطبراني وغيرهما فهذا يدل على أنه كان يغير على الداخلين في الإسلام إذا لم يمتثلوا أمر الله ولم يقوموا بشرائعه فإن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وقوّموا الشرائع كف عنهم وإلا لم يمتنع عن قتالهم. وفي هذا وقع تناظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما في الصحيحين عن إلى هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر رضي الله عنه كفر من كفر من العرب فقاتلهم على الإسلام وقاتل أناسًا يدعون الإسلام قد امتنعوا من أداء الزكاة قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل" فقال أبو بكر رضي الله عنه: لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال فوالله لو منعوني عقالًا كان يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، فقال له عمر رضي الله عنه: فوالله ما رأيت إلا أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. فأبو بكر رضي الله عنه أخذ قتالهم بقوله ﷺ: "إلا بحقه" فدل على أن قتال من أتى بالشهادتين ومنع حقهما جائز، ومن حقهما أداء حق المال الواجب، وعمر رضي الله عنه ظن أن مجرد الإتيان بالشهادتين يعصم الدم في الدنيا تمسكًا بعموم ألفاظ وردت وليست حال الأمر على ذلك، ثم ان عمر رضي الله عنه رجع إلى موافقة أبي بكر رضي الله عنهما. وقد خرج النسائي قصة توافق مناظرة أبي بكر وعمر بزيادة وهي أن أبا بكر قال لعمر رضي الله عنهما: إنما قال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ليأتوا بذلك كله". وخرجه ابن خزيمة في صحيحه وإنما قال أبو بكر لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، أخذًا والله أعلم من قوله إلا بحقها وفي رواية إلا بحق الإسلام، فجعل من حق الإسلام فعل الصلاة وإيتاء الزكاة كما أن من حقه أن لارتكب الحدود، وجعل كل ذلك مما استثنى من قوله إلا بحقها وقوله: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال يدل على ان من ترك الصلاة فإنه يقاتل لأنها حق البدن، فكذلك من ترك الزكاة فإنها حق المال، وهذا فيه إشارة إلى أن تارك الصلاة قتاله أمر مجمع عليه لأنه جعله أصلًا لقتال مانعي الزكاة مقيدًا عليه وليس هو مذكورًا في الحديث الذي احتج به عمر، وإنما أخذه من قوله إلا بحقها فكذا الزكاة فإنها من حقها وكل ذلك من حقوق الإسلام، ويستدل أيضًا على قتال تاركي الصلاة بما في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: "يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع" فقالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم قال: " لا ما صلوا" وحكم ترك سائر أركان الإسلام أو واحد منها أن يقاتلوا عليها كما يقاتلوا على ترك الصلاة والزكاة. فروى ابن شهاب عن حنظلة عن علي ابن الأشجع أن أبا بكر رضي الله عنه بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه وأمره أن يقاتل الناس على خمس فمن ترك واحدة منهن فقاتله عليها كما تقاتل على الخمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام. قال سعيد بن جبير قال عمر بن الحطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم على تركه كما نقاتل على الصلاة والزكاة. فهذا الكلام في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من هذه الواجبات. وأما قتل الواحد الممتنع فأكثر العلماء على أنه يقتل الممتنع من الصلاة وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: (أن خالد بن الوليد استأذن رسول الله ﷺ في قتل رجل فقال: "لعله يكون مصليًا" فقال خالد: فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق قلوبهم" وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عدي بن الخيار: (أن رجلًا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي ﷺ فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين فقال النبي ﷺ: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" قال: بلى ولا شهادة له قال: "أليس يصلي" قال: بلى ولا صلاة له قال: " أولئك الذين نهانا الله عز وجل عن قتلهم"، فجعل النبي ﷺ المانع من قتله كونه يصلي فدل على أن من لم يصل يقتل، ولهذا قال في الحديث الآخر نهيت عن قتل المصلين فدل على أن غير المصلين لم ينهه الله عن قتلهم. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: تارك الصلاة إذا كان واحدًا يحبس حتى يموت وتقاتل الجماعة. وأما قتل الرجل الواحد الممتنع عن أداء الزكاة والصوم والحج مع القدرة فعن أحمد والشافعي ومالك أنه يقتل تارك الزكاة وهي الرواية المشهورة عنهم ويستدلون بحديث ابن عمر "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث وأما الصوم فقال أحمد ومالك في رواية عنه: يقتل بتركه واستدلا بما روى ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "أن من ترك الشهادتين أو الصلاة أو الصوم فهو كافر حلال الدم" قال الشافعي في رواية عنه وأحمد في الرواية الأخرى لا يقتل الواحد بل يؤدبه الإمام بالحبس والضرب على ما يرى حتى يصوم واستدلا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره مما في معناه فإنه ليس فيه ذكر الصوم ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب الصوم لم يجيء فيه شيء، وهذا والله أعلم قبل أن يثبت عنده حديث ابن عباس فقد رواه ابن الجوزاء عن ابن عباس قال: ولا أحسبه إلا رفعه إلى النبي ﷺ أنه قال: "عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة وصوم شهر رمضان من ترك منهن واحدة فهو كافر حلال الدم" ورواه قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد موقوفًا مختصرًا ورواه سعيد بن زيد أخو حماد عن ابن مالك بهذا الإسناد مرفوعًا وقال من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا وقد حل دمه وماله ولم يذكر ما بعده. وأما الحج إذا تركه رجل واحد مع القدرة عليه فعن أحمد في القتل بتركه روايتان، وحمل بعض أصحابه رواية قتله على من أخره عازمًا على تركه بالكلية، أو أخره مع غلبة ظنه على موته في ذلك العام، فأما من أخره معتقدًا أنه على التراخي كما يقوله بعض العلماء فلا قتل في ذلك وقد روي عن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على من لم يحج، وقال ابن عيينة المرجئة يسمون ترك الفرائض ذنبًا بمنزلة ركوب المحارم وان ترك الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج وقال: قد روي عن عمر ضرب الجزية على من لم يحج وقال ليسوا بمسلمين ولا إله إلا الله مفتاح الجنة وحقها أسنانه ولا مفتاح إلا بأسنان رواه البخاري عن وهب بن منبه ولفظه: (قال البخاري: قيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله قال: بلى ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح).

(وأما استحلال) المحرمات المجمع على حرمتها أو بالعكس فهو كفر اعتقادي لأنه لا يجحد تحليل ما أحل الله ورسوله أو تحريم ما حرم الله ورسوله إلا معاند للإسلام ممتنع من التزام الأحكام غير قابل للكتاب والسنة وإجماع الأمة، وذلك كما لو جحد حل بهيمة الأنعام أو غيرها مما أحله الله في كتابه ورسوله أو في سنته مما لم يجر فيه اختلاف بين الأمة، بخلاف حل النبيذ ونحوه من المسائل الاجتهادية المختلف فيها بين العلماء فلا تكفير بذلك، أو جحد أمرًا مجمعًا عليه قال بعضهم: إجماعًا قطعيًا لا شبهة فيه ولا تأويل ولذلك لم يحكم كثير من الفقهاء بكفر ابن ملجم قاتل أفضل الخلق في وقته ولا بكفر مادحة عمران بن حطان حيث قال:

يا ضربة من تقى ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يومًا فأحسبه ** أوفى البربة عند الله ميزانا

وقدر عليه في ذلك فقيل:

يا ضربة من شقى لم يزل أبدًا ** بها عليه إله الخلق غضبانا

إني لأعلم أن الله جاعله ** أوفى البرية عند الله خسرانا

وكذا قد اختلف العلماء في كفر الخوارج الذين قتلوا الموحدين وأخذوا أموالهم بالتأويل مثل قوم ذي الحويصرة التميمي فإن من الفقهاء من لم يحكم بكفرهم لادعائهم وتأويلهم في نصرة دين الله والاجتهاد فيه وفي إظهاره طالبين المصلحة في ذلك.

الاعتقاد المكفر أقسام

(وأما قولكم ثم الكفر كفران كفر اعتقاد كفر عمل فكفر الاعتقاد حكمه قتل مرتكبه وسبي ذراريهم ونهب أموالهم وهؤلاء الذين بعث رسول الله ﷺ يدعوهم إلى التوحيد ولا يدفع عنهم هذا الحكم ويعصمهم إلا الإقرار والاعتراف منهم بالشهادتين وبكل ما علم بالضرورة مجيئه ﷺ به) فنقول الاعتقاد المكفر أقسام (منها) قدم العالم وبقاؤه والشك في ذلك (ومنها) تناسخ الأرواح وانتقالها من شخص في شخص أبد الأبد (ومنها) إثبات شريعة غير الشريعة المحمدية وان للشريعة باطنًا لا يعلمه العلماء ولها ظاهر وهي خيالات يقولون بها ويعملون (ومنها) ان ظواهر الشريعة وأكثرها ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون في الآخرة والحشر والقيامة والجنة والنار ليس منها شيء على مقتضى لفظها مفهوم خطابها وإنما خوطب بها الخلق على جهة المصلحة لهم إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم (ومنها) خلق القرآن (ومنها) التكذيب بالشفاعة التي أثبتها الله في كتابه والصراط والميزان (ومنها) خيانة الأمين جبريل عليه الصلاة والسلام وأن المبعوث أولًا علي بن أبي طالب أو أن عائشة لم يبرئها الله (ومنها) مجالسة الله تعالى لبعض خلقه في الدنيا وحلوله في الأشخاص (ومنها) تجويز الكذب على الأنبياء أو تكذيبهم فيما أتوا به أو أنهم كتموا منه شيئًا (ومنها) القدح في كلام الله من كونه سحرًا أو شعرًا أو منسوخًا جملة (ومنها) نسبة الصاحبة والولد إليه سبحانه وتعالى (ومنها) اعتقاد الذين اتخذوا من دون الله أولياء لينصروهم ويشفعوا لهم ويقربوهم كالذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى والذين قال الله فيهم: { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا } الآية وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ } الآية وقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا } الآيتين وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } الآية وكل هذه الفرق من أصحاب الاعتقادات المتقدمة كفار بإجماع المسلمين والذين بعث رسول الله ﷺ فيهم يدعوهم إلى التوحيد فأبوا وامتنعوا فجاهدهم لكفرهم وعنادهم، وأنزل القرآن بسبب اعتقادهم لم يكونوا يعتقدون في معتقداتهم كشف ضر أو جلب نفع بل إنما قصدهم رضا رب العالمين والقرب إليه والتحصيل لما لديه. لكن ضرهم جهل لكيفية الموجبة لحسن الماهية التي يكون بها التعبد أجل مطلوب مقربًا إلى المحبوب قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وكانوا إذا جاءتهم الشدة أخلصوا الدين لله وحده قال تعالى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الآية وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } الآية والمتخذون وليًا ونصيرًا من دون الله أو معه من أهل هذا الزمان اعتقادهم أسوأ وأشد جناية ممن نزل القرآن بسبب اعتقادهم وأمر الله نبيه ﷺ بجهادهم فان من تأمل أحوال هؤلاء المشركين الذين يرجون من معتقداتهم كشف الشدائد وتفريج الكربات ودفع المضار وقضاء المطالب والدعوات وتيسير الحاجات التي لا يقدر على كشفها وتفريجها ودفعها وجلبها إلا الله رب العالمين من سلامة غائب وعافية مريض ورزق وتحميل عقيم مع أحوال مشركي الأوّلين علم يقينًا ان بينهم مباينة كلية في اعتقاد الضر والنفع، ومجانسة حسية في انخاذ تلك المعتقدات للشفاعة وقضاء الحاجات، والأولون وان تفرق اعتقادهم وتنوع بما ينسبونه لله، تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا أجناسهم فليس وجود هذه الأجناس من الخبائث المتقدمة وإجتماعها شرطًا في إثبات حكم الله ورسوله من القتل والسبي وخلود النار، هذا لم يقل به عالم من العلماء بل وجود واحد منها كاف، فإنه لم يقل أحد بأن الكفر الاعتقادي لا يحكم به على المعتقد إلا إن اعتقد إجتماع الصاحبة والولد مع وجود معين يعاونه وظهير يظاهره وشريك يستحق معه وشفيع عنده بلا إذنه. بل اتفق العلماء قاطبة على أنه لو وجدت من ذلك خصلة لكفت في الحكم عليه إلا أن الأولين اشد حذقهم ومعرفتهم معنى الإله وموضوعه فإنه عندهم، كل مألوه ومتأله أبت قلوبهم أن تنفر ما تألهته لتتقرب إلى الله وتنال بهم رضاه، ونفي الإله غير الله باللسان مع العكوف عليه في الاعتقاد والجنان يدعوه ويرجوه ويتوكل عليه ويقصده ليتقرب بشفاعته إليه لا يوجب نفيه حقيقة، والإيمان بالقرآن قول باللسان واليوم الآخر بالجنان، وفعل الصلاة والصوم وسائر الأعمال يشترط لصحتها وجود التوحيد والإسلام. والشرك الأكبر في القول والعقيدة منافيًا للشهادة برسالة المبعوث بالمحجة البيضاء والفرقان، وشهادة أن محمدًا رسول الله لا تغني عن شهادة أن لا إله إلا الله، وهذه الشهادة لا تصح ولا تعصم مع التأله مع الله. فبهذا الاعتقاد حصلت الخاصمة والعداوة ولأجله حصل التمييز بين الفرقة الناجية والهالكة، وشرع الجهاد لدحضه مع سائر الفساد فيعبد الله وحده وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ونحن لم نجاهد ونعاد ونوال إلا في ذلك، ولم يجر بيننا وبين الخلق اختلاف في سائر المحرمات ووجوب إزالتها في أصل الدين الذي هو منهاج المرسلين وصراط رب العالمين الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله فلا يكون لسواه ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، مع إزالة سائر الفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها استحلال ما حرم الله كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأكل مال اليتيم، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، أو إثبات ما نفى الله، أو نفي ما أثبت، أو تحريم ما أحل الله كالزينة التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وكعمل أهل الجاهلية من البحائر والسوائب معتقدًا لحلها، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ: "لا أحد أغير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح منه فلذلك مدح نفسه".

وكما يكون الكفر بالاعتقاد يكون أيضًا بالقول كسب الله أو رسوله أو دينه أو الاستهزاء به قال تعالى: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وبالفعل أيضًا كإلقاء المصحف في القاذورات والسجود لغير الله ونحوهما. وهذان وان وجدت فيهما العقيدة فالقول والفعل مغلبان عليها لظهورهما وإسلام أهل العقائد المكفرة والرجوع عنها والبراءة منها مع تجديد الشهادتين وإخلاص الألوهية لله وحده قولًا وعملًا واعتقادًا فلا يدين الله إلا بذلك ولا يرضى إلا به من نفسه وغيره مع الإيمان بجميع الرسل ومعجزاتهم وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وأن محمدًا ﷺ خاتمهم وأفضلهم مع الإيمان بما تضمنه قوله سبحانه وتعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ } الآية وكذا أولياء الله والترضي عنهم والإقرار بكراماتهم لا عبادتهم واتخاذهم في جلب النفع ودفع الضر اللذين لا يقدر على جلبهما ودفعهما إلا الله تبارك وتعالى ولا إثبات الشفاعة التي نفاها الله في كتابه أو نفي ما أثبتها فيه، بل لابد من إثبات ما أثبته الله مها ونفي ما نفاه. وكذا المستحل لما حرم الله، والمحرم لما أحل، يحتاج مع الإتيان بالشهادتين إلى تحليل الحلال وتحريم الحرام، فيثبت ما أثبت الله وينفي ما نفاه، ومن حكم عليه بإسلام فسب الله أو رسوله أو دينه فهل تقبل توبته ظاهرًا على قولين للعلماء. ففهم من قال تقبل توبته وهو أصح قولي الشافعي ومن وافقه، ومنهم من لا يقبلها وهي الرواية المشهورة عن أحمد، وكذا الخلاف فيمن تكررت ردته والزنديق وهو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، والكافر الأصلي تقبل توبته قولًا واحدًا، وإذا لم يتب حكمه القتل وسبي الأهل والأولاد، والمرتد يستتاب على الأصح فإن تاب وإلا قتل، وما له فيء إلا في حالة الحرب، وإذن فيجب على الإمام قتالهم وغزوهم لفعل الصحابة رضي الله عنهم، وما أخذ منهم في حالة الحرب فهو غنيمة وإذا علمت الدعوة فلا يلزم الإمام تجديدها قبل الغارة بجيشه لفعل النبي ﷺ وأصحابه من بعده.

تارك الصلاة كافر وإقامة الدليل عليه

(وأما قولكم وكفر العمل هو الكفر بإتيان الكبائر وارتكابها كما ورد في تارك الصلاة انه يكفر بتركه إياها أخرجه مسلم في صحيحه وعن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله ﷺ: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه أهل السنن وصححه الترمذي، ومن حديث بريدة بن الحصين الأسلمي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" أخرجه الطبراني وقال الإسناد صحيح على شرط مسلم، ومن حديث ثوبان مولى رسول الله ﷺ يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك" وفي هذا الباب أحاديث كثيرة يسمي فيها رسول الله ﷺ تارك الصلاة عمدًا كافرًا).

فنقول: أما الكبائر من الذنوب فقد تقدم كلامنا فيها ويأتي له إن شاء الله تتمة.

وأما الصلاة فهي لغة: الدعاء بخير قال تعالى: { وَصَلِّ عَلَيْهِم } أي ادع لهم، وعدي لتضمنه معنى الإنزال أي انزل رحمتك عليهم، وقال النبي ﷺ: "إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرًا فليطعم وإن كان صائمًا فليصل" وشرعًا: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، ولا يرد عليه صلاة الأخرس ونحوه لأن الأقوال فيها مقدرة، والمقدر كالموجود، وهذا التعريف باعتبار الغالب فلا يرد صلاة الجنازة وسميت صلاة لاشتمالها على الدعاء، وقيل لأنها ثانية الشهادتين، كالمصلي من خيل الحلبة، واشتقاقها من الصلوين وأحدهما صلى كعصى وهما عرقان من جانبي الذنب، وقيل عظمان ينحنيان في الركوع والسجود، وفرضت ليلة الإسراء. أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من حديث أنس كانت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بسنة والأول هو المشهور عند الأكثر، وكان في رجب وقيل في رمضان والأول هو الصحيح، وترك الصلاة كفر عملي يشترك فيه عمل القلب والجوارح كالاستهانة بالمصحف وقتل الأنبياء لا ككفر سائر أعمال المعاصي التي لا تخرج عن الملة كما توهمه صاحب المقدمة لأن عمل القلب هو ومحبته وانقياده للأوامر باق على حاله وإنما غلب عليه إفراط الشهوة وران الغفلة ولعله أن يكون مستدلًا بحديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ أنه قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان منه من العمل" أخرجاه في الصحيحين وعن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال لمعاذ وهو رديفه على الرحل: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثًا قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا اله وأن محمدًا رسول الله إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشرون قال: "إذًا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته. متفق على صحته. وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قبله" رواه البخاري وعن أبي ذر أن النبي ﷺ قام بآية في القرآن يرددها حتى صلاة الغداة وقال: "دعوت لأمتي وأجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم تركوا الصلاة" فقال أبو ذر: أفلا أبشر الناس قال: "بلى" فانطلق فقال عمر: إنك ان تبعث إلى الناس يتكلوا عن العبادة فناداه أن ارجع فرجع" وبالآية: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } رواه الإمام أحمد في مسنده، وفي المسند أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: "الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا وديوان لا يترك منه شيئًا وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يعبأ به فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه أو صلاة تركها فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فظلم العباد بعضهم بعضًا القصاص لا محالة، وأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك قال الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } " وفي المسند أيضًا عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" وفي المسند أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوّع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك" رواه أهل السنن وقال الترمذي: حديث حسن وبما ثبت عنه ﷺ أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وفي لفظ آخر: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " وفي الصحيح قصة عتبان بن مالك وفيها أن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله وفي حديث الشفاعة يقول الله عز وجل: "وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله، وفيه فيخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط" وفي السنن والمسانيد قصة صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلًا كل سجل منها مدّ البصر ثم يخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله فترجح سيئاته ولم يذكر في بطاقته غير الشهادة ولو كان فيها غيرها لقال ثم يخرج له صحائف حسناته فتوزن بسيئاته، ويكفي في هذا قوله فيخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط إذ لو كان كافرًا لكان مخلدًا في النار غير خارج منها، فظاهر هذه الأحاديث المنع من تكفير تاركها وتخليده في النار والوجوب له من الرجاء ما يرجى لسائر أهل الكبائر، ولأن الكفر جحود التوحيد والاستهزاء به ومعاداته ومشاقة أهله ليرجعوا عنه وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول عنادًا وهذا مقر بالوحدانية عامل بها شاهد أن محمدًا رسول الله مؤمن بالله وبما جاء عن الله ومن أنه تعالى يبعث من في القبور، فكيف يحكم بكفره. والإيمان هو التصديق وضده التكذيب لا ترك العمل أم كيف يحكم للمصدق بحكم المكذب.

(الجواب عن ذلك كله) إن رواة هذه الأحاديث التي قد يستدل بظاهرها على عدم تكفير تارك الصلاة هم الذين حفظ عنهم تكفير تاركها بأعيانهم وهم أعلم بمعناها من غيرهم قال أبو محمد ابن حزم وغيره من الأئمة الأعلام إن كبار الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقًا، ويحكمون عليه بالردة. منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الحطاب وابنه عبد الله وابن مسعود وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعبادة بن الصامت وغيرهم من سائر الصحابة: (أن من ترك صلاة فرض واحد متعمدًا حتى خرج وقتها فهو كافر مرتد قالوا ولا يعلم لهؤلاء مخالف من الصحابة وممن ذهب إلى تكفير التكفير المذكور من غير الصحابة أحمد بن حنبل والشافعي في أحد روايتيه وهي المشهورة عند بعض أصحابه وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين كلهم قد قال بكفر تاركها وأنه ليس من أهل الإسلام بل يقتل كفرًا وما له فيء ما لم يتب. وتلك الأحاديث المتقدمة أعني قوله ﷺ: "من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " ونحوها جميعها محمولة عند من تقدم ذكرهم على عدم المحافظة عليهن في وقتهن مع الإتيان بهن بعد، بدليل الأحاديث الواردة وفي تركها بالكلية فإنها مقيدة وتلك مطلقة والمطلق يحمل على المقيد إذا أمكن الحمل ولم يوجد نسخ، ولذلك لم يأخذ رواة تلك الأحاديث المطلقة ولا غيرهم من الأئمة الأعلام بظاهرها في عدم تكفير تاركها بل حملوها على الآيات والأحاديث المقيدة الآتي بيانها. وأما إخراج الله من النار من لم يعمل خيرًا قط بل كفى عن العمل وجود أدنى إيمان في قلبه وإقرار بالشهادتين في لسانه فهو إما لعدم تمكنه من أداء ما افترض الله عليه من أركان الإسلام بل بمجرد أدنى إيمان في قلبه وشهادة بلسانه خرمته المنية لكنه قد عمل عملًا مفسقًا به لوجود ما صدر منه عالمًا به فاستحق دخول النار عليه وإما لكونه نشأ في مكان قريب من أهل الدين والإيمان فلم يعلم ما أوجب الله على خلقه من تفاصيل الدين والإيمان والإسلام وأركانه، بل جهل ذلك ولم يسأل أهل الذكر عنه، فإن الله أوجب على خلقه المكلفين التفقه في الدين وان لم يحصل إلا بقطع مسافة كثيرة غير معذور بهذا الجهل إذ مثله لا يجهل ذلك لقربه من المسلمين فيعاقبه الله على ترك تعلم ما أوجب الله عليه، ولهذا لا يخلد في النار إن لم يوجد منه مناف للإسلام من إنكار أمر علم من الدين ضرورة ولم يمتنع من إجابة إمام المسلمين إذا دعاه لتقويم أركان الدين بل هو مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر لا ينكر منه شيئًا وبأركان الإسلام كلها، لكنه جهل تفاصيل ذلك وأحكامه وما يجب عليه منه، والإيمان يتفاوت ويختلف بحسب أحوال الخلق فمنهم من إيمانه كالجبال الراسيات بحيث لا يزحزحه مزحزح فيزيد إلى ما لا نهاية له، ومنهم من ينقص إيمانه حتى ينتهي إلى مثقال الذرة. فالأول سببه الطاعة والعلم والتفكر في مصنوعات الله، والثاني سببه المعاصي والجهل والغفلة والنسيان. وهذا السبب الثاني لا يوجب الخلود في النار حيث وجد الإيمان وما استطاع عليه من أركان الإسلام لكن لجهله أو غفلته أو نسيانه أو معاصيه وهن إيمانه، ولا يلزم من وهنه عدم فعل الصلاة وسائر أركان الإسلام مما يقدر عليه، بل قد يفعلها وإيمانه ضعيف حتى ينتهي إلى مثقال الذرة واطلاق عدم العمل عليه لكونه عمل جاهل، ولذلك أكثر العلماء منهم الإمام مالك يقول بعدم صحة عبادة الجاهل بتفاصيل أعمال الصلاة فلا يميز بين أركانها وواجباتها وسننها وكذا غير الصلاة فكأنه في هذه الحالة لم يعمل وإخراجه من النار ودخول الجنة سببه الإيمان الذي صدر منه لا مجرد فعل الصلاة من غير إيمان، ولذلك لم يقبل الله صلاة المنافق ولا سائر عمله بل جعله الله في الدرك الأسفل من النار مخلدًا مع أنه يفعل الصلاة وسائر الطاعات حتى الجهاد في وقت النبي ﷺ وغيره، لكن لما كان صلاته وعمله من غير إيمان بطل من أصله ولا يخرج بعمله ذلك عن الكفر إلا أنه ظاهرًا يعصم ماله ودمه فأما مجرد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر وسائر ما كلف الله به العبيد مع العمل فهو الكلي والصلاة قوام الدين وعماد اليقين فمن تركها فقد أضاعه.

الأدلة على كفر تارك الصلاة

أولا: الاستدلال بالكتاب

(وقد دل على كفر تارك الصلاة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة) أما الكتاب فقوله تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } إلى قوله: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } فوجه الدلالة من الآية أنه سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين وان هذا الأمر لا يليق بحكمته ولا حكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين بقوله يوم يكشف عن ساق وأنهم يدعون إلى السجود لربهم تبارك وتعالى فيحال بينهم وبينه فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود مع المصلين في دار الدنيا وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي البقر ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين ولو كانوا ممن جحد وجوبها رأسًا ولم يدع الإيمان بها لذهب مع الذاهبين الذين قيل لهم ألا تردوا أو تتبع كل أمة ما كانت تعبد إذ لا يخلو أن يكون من أحد الطائفتين ولم يبق مع من يدعي الإسلام العاملين به وغير العاملين.

الدليل الثاني:

قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } فلا يخلو هؤلاء إما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين أو مجموعها فإن كل واحد منها مستقل بذلك فالدلالة ظاهرة وإن كان مجموع الأربعة فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم وإلا فكل واحد منها مقتض للعقوبة إلى ما هو مستقبل بمجموعهما، ومن المعلوم أن ترك الصلاة وما ذكر معه ليس شرطًا في العقوبة على التكذيب بيوم الدين بل هو وحده كاف في العقوبة فدل على أن كل وصف ذكر معه كذلك إذ لا يمكن قائلًا أن يقول لا يعذب الكافر ولا يحكم عليه بالكفر إلا من جمع هذه الأوصاف فإذا كان كل واحد منها موجبًا للإجرام، وقد جعل الله سبحانه وتعالى المجرمين ضد المسلمين، كان تارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر. وقد قال تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ } وقال تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } فجعل ضد المؤمنين.

الدليل الثالث:

قوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فوجه الدلالة أنه تعالى علق حصول الرحمة لهم بفعل هذه الأمور فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار لكانوا مرحومين بدون فعل الصلاة والرب تعالى إنما جعلهم على رجاء الرحمة إذا فعلوها.

الدليل الرابع:

قوله تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } قال أهل المعاني السهو في الشيء تركه من غير علم به، والسهو عنه تركه مع العلم به، والفرق بين الساهي والناسي أن الساهي متى ذكر تذكر، والناسي لا يتذكر مع التذكير. وقد اختلف السلف، الصالح في معنى السهو عنها فقال سعد بن أبي وقاص ومسروق بن الأجدع وغيرها هو تركها حتى يخرج وقتها، وقد روى ذلك في حديث مرفوع قال محمد بن نصر المروزي قال: حدثنا شيبان بن إلى شيبة قال: حدثنا عكرمة بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد رضي الله عنهما أنه سأل رسول الله ﷺ عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: "الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها" وقال حماد بن زيد حدثنا عاصم عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: يا أبتاه أرأيت قوله تعالى: { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } أينا لا يحدث نفسه قال: انه ليس ذلك ولكنه اضاعة الوقت. وقال حيوة بن شريح أخبرني أبو صخر أنه سأل محمد بن كعب القرظي عن قوله تعالى: { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } قال: هو تاركها، ثم سأله عن الماعون قال: منع المال من حقه وأكثر المفسرين على أنه اسم شامل لكل ما يحتاج إليه كإبرة وفاس وقدر وقصعة وآنية البيت إذا طلبت للعارية كما صححه الحاكم عن ابن عباس فهو اسم شامل لجميع أنواع المعروف، وحصول الويل شرط في اجتماع الثلاثة غالبًا كما جاء عن عكرمة حيث سأله بسام قال: الماعون القدر والفاس والدلو قال بسام: قلت لعكرمة: من منع هذا فله الويل قلت: لا ولكن من جمعهن من راآى في صلاته وسها عنها ومنع هذا فله الويل وإلا فمجرد السهو عنها كاف في حصول الويل وإن لم يوجد المنع لكن وصف الساهين بالمانعين للحكم الأغلبي ومجرد المنع بلا سهو ولا مراآة لا يوجب الويل إلا على من يقول بوجوب العارية، ولعله مع الاضطرار إليها ولم يلحق ربها ضرر بإعارته إياها ولم يكن وقت الاستعارة محتاجًا إليها وإلا فربها إذن أحق بها فلا تجب عليه الإعارة، إذا علم هذا فالوعيد بالويل مطرد في القرآن للكفار كقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } وقوله: { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } إلى قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } وقوله: { وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } إلا في موضعين منه وهما في { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ } فعلق الويل بالتطفيف وهو نقص المكيال والميزان والمطفف الذي ييخس في الكيل والوزن ومثله العد والذرع قال الزجاج: وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان ونحوهما مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. والهماز كثير الطعن في الناس ويكون باليد والعين أيضًا واللماز آكل لحوم الناس باغتيابه لهم واللمز هو العيب ومنه قوله تعالى: { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي لا يعب بعضكم بعضًا فيجعل فيه من العيب ما ليس فيه، إذا فهم ذلك فقد علق سبحانه الويل بالتطفيف والهمز واللمز وهذا لا يكتفي به بمجرده فويل تارك الصلاة إما أن يكون ملحقًا بويل الكفار أو بويل الفساق وإلحاقه بويل الكفار هو الحق لوجهين:

أحدهما: أنه قد صح عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية أنه قال لو تركوها لكانوا كفارًا ولكن ضيعوها عن وقتها فجعل تركها كفرًا.

الثاني: ما سنذكره من الأدلة الدالة على كفره يوضحه الدليل الخامس هو قوله تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هو واد في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن أودية جهنم لتستعيذ منه ومن حره يسيل قيحًا ودمًا. قال كعب: هو أبعد قعرًا وأشدها حرًا فيه بئر تسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البهيم فتستعر منه لشدة حرارته وعذابه وما أعد الله فيه لأعدائه فوجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل هذا المكان لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات ولو كانوا مع عصاة المسلمين لكانوا في الطبقة العليا من جهنم ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو من أسفلها فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام بل من أمكنة الكفار، وفي الآية دليل آخر، وهو قوله تعالى: { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } فلو كان مضيع الصلاة مؤمنًا لم يشترط في توبته الإيمان فإنه يكون تحصيلًا للحاصل (فإن قيل) قد قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي في تفسير أضاعوا الصلاة بأن أخروها عن وقتها لغير عذر، وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا يصلي العصر حتى يأتي المغرب، ومفهوم قولهم أن المضيعين عن وقتها يصلونها قضاء ومن أخرها عن وقتها حتى خرج ثم قضاها بعد ذلك فهو فاسق لا كافر مرتد، وأيضًا قد ورد في السنة أن ذلك الوادي الذي فيه تلك البئر البهيم أعده الله لمن لم يتب من الزناة ومدمني الخمر وأكلة الربى وعاق والديه وشاهد الزور وهؤلاء فسقة ليسوا بكفار إذا لم يستحلوا ذلك، والطبقة العليا من النار إنما هي للعصاة من الموحدين وهذا الغي فيها (الجواب) ان الإضاعة ليست خاصة في تأخيرها عن الوقت مع القضاء بعد ذلك بل هي في من تركها بالكلية أولى ولذلك ذهب عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين إلى تكفير تاركها مطلقًا وأولوا الآية على ذلك فالترك أخص والإضافة أعم، وقد قال مجاهد وقتادة: هم في هذه الأمة أضاعوا الصلاة أي تركوا الصلاة المفروضة فلم يأتوا بها والله سبحانه أوعد المضيعين للصلاة بهذا الغي ولا مانع من اشتراك الكافرين والفاسقين في نوع المعذب فيه ويختلفون في ألمه إذ العذاب على الكافر أشد منه على العاصي والله على كل شيء قدير. وظاهر كلام ابن عباس رضي الله عنهما كغيره من الصحابة أن الغي في جهنم خاصة لا في غيرها من طبقات النار إذ هي سبع طبقات بعضها فوق بعض، قال علي كرم الله وجهه: تدرون كيف أبواب النار هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى أي سبعة أبواب بعضها فوق بعض وان الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض. قال ابن جريج: النار سبع دركات أولها جهنم وفيها يعذب الله العاصين من الموحدين، وفي قعرها هذا الوادي الذي سمى الغي تستعيذ منه جميع أوديتها يعذب الله فيه من أضاع الصلاة واتبع الشهوات، وإنما عذب فيه تارك الصلاة بالكلية مع الحكم عليه بعدم الإسلام والكفر المخلد في العذاب، لأن كفره عناد بعدم فعله لها لا جحود ولا انكار ولا نفاق فليس فيه من مجانسة أفعال من يستحق الدركات الباقية لا شرك ولا غيره ولما كان المضيع للصلاة عن وقتها مع قضائها يعد فيه مجانسة في نوع فعل التارك لها بالكلية عذب معه قي نوع المعذب فيه وفارقه في ألم العذاب لإيمانه الذي قد مات عليه ثم الثانية لظى للنصارى، ثم الثالثة الحطمة لليهود، ثم الرابعة السعير للصابئين، ثم الخامسة سقر للمجوس، ثم السادسة الجحيم لأهل الشرك، ثم السابعة الهاوية للمنافقين، وبهذا الترتيب يعلم أن عذاب أهل الشرك أشد عذابًا من الكافرين بترك الصلاة ولا ريب في ذلك أن توحيد الله لا أفضل منه فهو أساس الصلاة وكل عبادة فلا تصح إلا به ولا تثبت إلا عليه ولذلك قدمت الشهادتان رتبة على سائر الأركان.

الدليل الخامس:

قوله تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين } فعلق أخوّتهم في الدين بفعل الصلاة فإذا لم يفعلوها لم يكونوا أخوة للمؤمنين فلا يكونون مؤمنين لقوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }.

الدليل السادس:

قوله تعالى: { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } فلما كان الإسلام تصديق الخبر والانقياد للأمر جعل الله سبحانه له ضدين عدم التصديق وعدم الصلاة وقابل التصديق بالتكذيب والصلاة بالتولي فقال: { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } فكما أن المكذب كافر فالمتولي عن الصلاة كافر وكما يزول الإسلام بالتكذيب يزول بالتولي عن الصلاة. قال سعيد عن قتادة { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى } لا صدق بكتاب الله ولا صلى ولكن كذب وتولى كذب بآيات الله وتولى عن طاعته أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى وعيد على أثر وعيد أي الذم والعذاب أولى لك من غيره فأولى أي لك أيضًا وهذا وان كان السبب خاصًا فالحكم عام إذ الآية محكمة إلى يوم القيامة.

الدليل السابع:

قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: هي الصلاة المكتوبة ووجه الاستدلال بالآية الكريمة أنه سبحانه حكم بالخسران المطلق لمن ألهاه ماله وولده عن الصلاة والخسران المطلق لا يحصل إلا للكافرين، فإن المسلم لو خسر بذنوبه ومعاصيه فآخر أمره إلى الربح يوضحه أنه سبحانه أكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد.

أحدها: أنه بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث.

الثاني: تصدر الاسم بالألف واللام المشعر بحصول كمال المسمى لهم فإنه إذا قيل زيد العالم والصالح أفاد ذلك إثبات كل العلم والصلاح له بخلاف ما إذا قيل عالم وصالح.

الثالث: إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفين وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ في قوله تعالى: { فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } كما في وأولئك هم المفلحون والكافرون هم الظالمون وأولئك هم المؤمنون حقًا ونظائره.

الرابع: إدخاله ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريتين قوة الإسناد واختصاص المسند إليه بالمسند كقوله: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } وقوله: { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وقوله: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ونظائر ذلك.

الدليل الثامن:

قوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه نفى الإيمان عمن إذا ذكر بآيات الله لم يخر ساجدًا مسبحًا بحمد ربه ومن أعظم التذكير بآيات الله التذكير بآيات الصلاة فمن ذكر بها فلم يتذكر ولم يصل ولم يؤمن بما لأنه سبحانه خص المؤمنين بها بأنهم أهل السجود وهذا من أحسن الاستدلال وأقربه فلم يؤمن بقوله تعالى وأقيموا الصلاة إلا من التزم إقامتها.

الدليل التاسع:

قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } ذكر هذا بعد قوله: { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } ثم توعدهم تعالى على ترك الركوع وهو الصلاة إذا دعوا إليها، ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب، فإنه سبحانه انما أخبرهم عن تركهم لها وعليه وقع الوعيد، على أنا نقول لا يصر على ترك الصلاة اصرارًا مستمرًا من يصدق بأن الله أمر بها أصلًا فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقًا تصديقًا جازمًا بأن الله سبحانه فرض عليه في كل يوم وليلة خمس صلوات وأنه تعالى يعاقبه على تركها أشد العقاب وهو مع ذلك مصر على تركها مصدق بفرضها أبدًا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان ولا يصغي إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها وليتأمل هل في الطبيعة أن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعيد والوعد والجنة والنار وان الله تعالى فرض عليه الصلاة وانه معاقبه على تركها وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على ذي الجهل المركب حيث أثبت الإيمان لمدّعيه مع تركه من الإسلام أعظم الأركان وجعله الإيمان مجرد التصديق وان لم يقارنه فعل واجب ولا ترك وهذا من أن محل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم وليس من لازمه ولا يقتضيه القيام بالأركان ولا فعل طاعته وترك معصيته، ونحن نقول الإيمان هو التصديق ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق الخبر دون الانقياد إيمان، وإلا لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود والذين عرفوا أن محمدًا ﷺ رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين، وقد قال تعالى: { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ } أي يعتقدون أنك صادق { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } والجحود لا يكون إلا بعد معرفة الحق، وقال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وقال موسى لفرعون: { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ } وقال تعالى عن اليهود: { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وأبلغ من هذا قول النفر من اليهود لما جاؤا إلى النبي ﷺ وسألوه عما دلهم على نبوته فقالا: نشهد إنك نبي، فقال: "ما يمنعكما عن إتباعي؟"، قالا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك تقتلنا يهود فهؤلاء قد أقروا بألسنتهم إقرارا مطابقًا لمعتقدهم أنه نبي ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان لأنهم لم يلتزموا طاعته والانقياد لأمره. ومن هذا كفر أو طالب فإنه عرف حقيقة المعرفة أنه صادق وأقر بذلك بلسانه وصرح به في شعره ولم يدخل بذلك في الإسلام فالتصديق إنما يتم بأمرين:

أحدهما: اعتقاد الصدق.

والثاني: محبة القلب والانقياد.

ولهذا قال تعالى لإبراهيم: { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا } وإبراهيم كان معتقدًا لصدق رؤياه حين رآها فإن رؤيا الأنبياء وحي وإنما جعله مصدقًا لها بعد أن فعل ما أمر به وكذلك قوله ﷺ: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" فجعل التصديق عمل الفرج ما عناه القلب والتكذيب تركه لذلك، وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالعمل وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وقد روي هذا مرفوعًا إلى النبي ﷺ من غير وجه والمقصود أنه يمتنع من التصديق الجازم بوجوب الصلاة والوعد على فعلها والوعيد على تركها المحافظة على تركها واجتماعهما محال.

الاستدلال بالسنة

(وأما الاستدلال بالسنة على ذلك فمن وجوه. الدليل الأول: ) ما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" ورواه أهل السنن وصححه الترمذي.

الدليل الثاني: ما رواه بريدة بن الحصين الأسلمي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه الإمام أحمد وأهل السنن وقال الترمذي: حسن صحيح، إسناده على شرط مسلم.

الدليل الثالث: ما رواه ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها ففد أشرك" رواه هبة الله الطبري وقال إسناده صحيح على شرط مسلم.

الدليل الرابع: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: "من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو حاتم بن حبان في صحيحه وإنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفر، وفيه نكتة بديهة وهي أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله عنها ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته فمن يشغله عها ماله فهو مع قارون، ومن يشغله عنها ملكه فهو مع فرعون ومن يشغله عنها رياسته من وزارة وغرها فهو مع هامان وزير فرعون كلمن يشغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف.

الدليل الخامس: ما رواه عبادة بن الصامت قال: أوصانا رسول الله ﷺ فقال: "لا تشركوا بالله شيئًا ولا تتركوا الصلاة عمدًا فمن تركها عمدًا خرج عن الملة " رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه.

الدليل السادس: ما رواه معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: "من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله" رواه الإمام أحمد ولو كان باقيًا على إسلامه لكانت له ذمة الإسلام.

الدليل السابع: ما رواه أبو الدرداء قال: "أوصاني أبو القاسم ﷺ أن لا أترك الصلاة متعمدًا فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة" رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه.

الدليل الثامن: ما رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" وهو حديث صحيح مختصر ووجه الاستدلال به أنه أخبر أن الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه الخيمة يسقط عمودها فهكذا يذهب الإسلام بذهاب الصلاة وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث بعينه.

الدليل التاسع: ما في الصحيحين والسنن والمسانيد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" رواه مسلم ورواه الإمام أحمد في بعض ألفاظه "الإسلام خمس" فذكره ووجه الاستدلال به من وجوه:

أحدها: أنه جعل الإسلام كالقبة المبنية على خمسة أركان فإذا وقع ركنها الأعظم وقعت قبة الإسلام.

الثاني: أنه جعل هذه الأركان في كونها أركانًا لقبة الإسلام قرينة الشهادتين فهما ركن والصلاة ركن والزكاة ركن فما بال قبة الإسلام تبقى بعد سقوط أحد أركانها دون بقية أركانها.

الثالث: أنه جعل هذه الأركان نفس الإسلام وداخلة في مسمى اسمه وما كان اسمًا لمجموع أمور إذا ذهب بعضها ذهب ذلك المسمى ولاسيما إذا كان من أركانه لا من أجزائه التي ليست ركنًا له كالحائط للبيت فإنه إذا سقط، سقط البيت بخلاف العمود والخشبة واللبنة ونحوها.

الدليل العاشر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا" ووجه الدلالة فيه من وجهين:

أحدهما: أنه إنما جعله مسلمًا بهذه الأربعة فلا يكون مسلمًا بدونها.

الثاني: أنه إذا صلى إلى المشرق والقبلة في غير ناحية بالنسبة إليه لم يكن مسلمًا حتى يصلي إلى جهة قبلة المسلمين فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية.

الدليل الحادي عشر: ما رواه الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: "مفتاح الجنة الصلاة" وهذا يدل على أن من لم يكن من أهل الصلاة لم تفتح له الجنة وهى تفتح لكل مسلم فليس تارك الصلاة بمسلم ولا تناقض بين هذا وبين الحديث الآخر وهو قوله: "مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله" فإن الشهادة أصل لمفتاح الصلاة وبقية الأركان أسنانه التي لا يحصل الفتح إلا بها إذ دخول الجنة موقوف على المفتاح وأسنانه وقال البخاري: وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال بلى ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.

الدليل الثاني عشر: ما رواه محجن بن الأدرع الأسلمي أنه كان في مجلس مع النبي ﷺ فأذن بالصلاة فقام النبي ﷺ فصلى ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له: "ما يمنعك أن تصلي ألست برجل مسلم؟" قال: بلى ولكني صليت في أهلي فقال له: "إذا جئت فصل مع الناس وان كنت قد صليت" رواه الإمام أحمد والنسائي فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة ويوجد تحت ألفاظ الحديث أنك لو كنت مسلمًا لصليت ولم تصل في بيتك وهذا كما يقال لرجل حي ناطق: مالك لا تتكلم ألست بناطق وما لك لا تتحرك ألست بحي ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة لما قال لمن رآه لا يصلي "ألست برجل مسلم".

الاستدلال بالإجماع

(وأما الاستدلال بإجماع الصحابة) فقد تقدم ذلك عن عمر بن الحطاب وابنه عبد الله ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي الدرداء وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وغيرهم ولا يعلم عن صحابي خلافهم. وعلى هذا نهج الأئمة الأسلاف كسفيان بن سعيد الثوري وأبي عمر الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وحماد بن زيد ووكيع بن الجراح والإمام مالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي في أشهر قوليهما وأحمد بن حنبل واسحق بن راهويه وأصحابهم كلهم قالوا: بكفر تاركها وقتله، ثم جمهورهم قالوا: يقتل بالسيف ضربًا في عنقه، وقال بعض الشافعية يضرب بالخشب إلى أن يصلي أو يموت، وقال ابن شريح ينخس بالسيف نخسًا حتى يموت لأنه أبلغ، والجمهور على ضرب عنقه بالسيف لأنه أحسن القتلات وأحسنها إزهاقًا. وقد سن الله سبحانه في قتل الكفار والمرتدين ضرب الأعناق دون النخس بالسيف، والجمهور عند هؤلاء كلهم أنه يستتاب فإن تاب ترك وإلا قتل، هذا قول الشافعي وأحمد وأحد القولين في مذهب مالك وقال أبو بكر الطرطوشي في تعليقه مذهب مالك أنه يقال له ما دام الوقت باقيًا صل فإن فعل ترك، وان امتنع حتى خرج الوقت هل يستتاب أم لا، قال بعض أصحابنا يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال بعضهم لا يستتاب لأن هذا تحتم فلا يسقط كالحد، وهذا الذي حكاه الطرطوشي عن بعض أصحابهم أنه يقتل من غير استتابة هو رواية عن مالك، وفي استتابة المرتد روايتان عن أحمد، وقولان للشافعي ومن أوجب الاستتابة قال الرعاية إليها شرط في قتله لأنه قد يتركها لعذر أو ما ظنه عذرًا أو لكسل لا يستمر ولذلك أذن النبي ﷺ في الصلاة نافلة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت ولم يأمر بقتالهم ولم يأذن في قتلهم لأنهم لا يصرون على تركها فإذا دعي فامتنع لا من عذر حتى خرج الوقت تحقق تركه وإصراره. وهل يقتل بترك صلاة أو صلاتين أو ثلاث صلوات؟ هذا فيه خلاف بين الناس. فقال سفيان الثوري ومالك وأحمد في إحدى الروايات عنه: يقتل بترك صلاة واحدة وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، وحجة هذا القول ما تقدم من الأحاديث الدالة على قتل تارك الصلاة. فقد روى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله" رواه الإمام أحمد في مسنده وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "أوصاني أبو القاسم ﷺ أن لا أترك صلاة متعمدًا فمن ترك صلاة متعمدًا فقد برئت منه الذمة" رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه ولأنه إذا دعي إلى فعلها في وقتها فقال: لا أصلي ولا عذر له فقد ظهر إصراره فتعين إيجاب قتله وإهدار دمه، واعتبار التكرار ثلاثًا ليس عليه دليل من نص ولا إجماع ولا قول صحابي، وقال أبو اسحق من أصحاب أحمد ان كانت الصلاة المتروكة تجمع إلى ما بعدها كالظهر والمغرب لم يقتل حتى يخرج وقت الثانية لأن وقتها وقت الأولى في حال الجمع فأورثت شبهة ههنا وان كانت لا تجمع إلى ما بعدها كالصبح والعصر وعشاء الآخرة قتل بتركها وحدها إذ لا شبهة في التأخير، وهذا القول حكاه اسحق عن عبد الله بن المبارك أو عن وكيع بن الجراح الشك من اسحق في تعيينه، فعلى هذا متى دعي إلى الصلاة في وقتها فقال لا أصلي وامتنع حتى فاتت وجب قتله وان لم يضق وقت الثانية نص عليه الإمام أحمد قال القاضي وأصحابه كابن عقيل وأبي الخطاب لا يقتل حتى يتضايق وقت التي بعدها وقال شيخ الإسلام أبو البركات تقي الدين متى دعي إلى الصلاة في وقتها فقال لا أصلي وامتنع حتى فاتت وجب قتله وان لم يضق وقت الثانية، وفي المثال الذي ذكر يعني أبا الخطاب أولى لأن القتل بتركها دون الأولى لأنه لما دعي إليها كانت فائتة والفوائت لا يقتل تاركها. وكذا حكم ترك الوضوء والغسل من الجنابة واستقبال القبلة وستر العورة والقيام في الفرض لقادر أو الركوع أو السجود لقادر عليهما كترك الصلاة، وكذا حكم ترك الجمعة لما روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود: "أن النبي ﷺ قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: وصريح القرآن مشعر بفرضيتها وآمر بإقامتها إلزامًا، وأخطأ على الشافعي من نسب إليه القول بأن صلاة الجمعة فرض كفاية إذا قام بها قوم سقطت عن الباقين ولم يقل الشافعي هذا قط وإنما غلط عليه من نسب ذلك إليه بسبب قوله في صلاة العيد أنها تجب على من تجب عليه صلاة الجمعة بل هذا نص من الشافعي رضي الله عنه على أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، وهذا هو الصحيح في الدليل فإن صلاة العيدين من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة ولم يكن يتخلف عنها أحد من الصحابة ولا تركها رسول الله ﷺ مرة واحدة ولو كانت سنة لتركها ولو مرة واحدة كما ترك قيام رمضان وعلى إنا نقول بفرضية صلاة العيدين لا نكفر من تركها لجريان الخلاف في فرضيتها بخلاف ما تقدم من الصلوات. ولذلك لم يختلف أحد ممن تقدم في قتل تارك الصلاة إلا أبو حنيفة رحمه الله ومحمد بن شهاب الزهري وداود بن علي المزني فإنهم قالوا: يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب وحجتهم قوله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" رواه البخاري ومسلم وحجة من قال بالقتل وهم من تقدم من الصحابة والتابعين والأئمة من كبار المجتهدين تعليقه في الحديث بحقها قالوا: وهذه الصلاة من أعظم حقها وقد قال تعالى: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فأمر بقتلهم حتى يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والقول بأنه متى تاب من شركة سقط عنه القتل وإن لم يقم بالصلاة ولا آتى الزكاة خلاف ظاهر القرآن والسنة وإجماع صدر الأمة، فلا يعتد به بعد انعقاد الإجماع والله تعالى أعلم.

الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة

(وأما قولكم وأخرج الطبراني والبزار عن ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله ﷺ: "لا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" رواه أبو هريرة في الصحيح وابن عمر وعائشة وجماعة آخرون، فنفى رسول الله ﷺ عن هؤلاء الإيمان ومن لازمه إثبات الكفر لهم وأخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضًا أو في دبرها فقد برئ بما أنزل على محمد" وأمثال هذا كثير في كلام الصادق المصدوق فهذا النوع الذي هو الكفر العملي وان أطلقه الشارع على مرتكب هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد من الإيمان، ولا يفارق به الملة المحمدية ولا يباح ماله ودمه وأهل كما ظنه من لم يفرق بين الكفرين ولم يميز بين الأمرين).

فنقول يحتاج كل قائل ومعترض إلى تحقيق معاني قوله وما يعارض به، ومن أعظم الحاجة في ذلك تحقيق معاني كلام الله ورسوله ﷺ إذا عورض به أمر، لا بد من التأمل والتحقيق حتى يسوغ التكلم ويسوغ المعارضة، والعاقل اللبيب إذا تأمل ووعى ما نحن فيه مما اعتقدناه وقلناه علم يقينًا الفرق بين ما عنيناه وقصدناه من عقيدتنا ودليلنا ومدلولنا وبين معارضتنا بهذه الأحاديث والاعتراض بها علينا، وعلم أيضًا أن بين ما عارضه صاحب المقدمة من عقائدنا ودلائلنا وبين ما عارضنا به من نقل هذه الأحاديث واعتقاده فينا مباينة ومخالفة من وجوه:

أحدها انه لم يفهم قصدنا ولا ما اعتقدنا وقلنا فإن أعظم قصدنا وأمرنا الحث والأمر بتوحيد الله وحده لا شريك له في عبادته ومعاملته حتى تثبت وتتم الألوهية كلها له وحده لا شريك له، فكما أنه تعالى منفرد بالربوبية فكذلك هو منفرد بالألوهية قولًا وعملًا واعتقادًا فلا يرجى في جلب نفع أو كشف ضر إلا الله وحده ولا يتوكل إلا عليه وان الخلق ليس لهم ولي من دونه ولا شفيع إلا من بعد إذنه، وصاحب المقدمة قد فهم فينا ما لم نقله، واعتقد متقولًا علينا ما لا نعتقده فانه يزعم إنا نكفر بالذنوب بدليل السياق.

والاعتراض الثاني: أنه لم يميز بين ما حرم الله به دخول الجنة وأوجب الخلود في النار وبين ما هو تحت مشيئته تعالى إن شاء غفره فلم يعذب عليه وان شاء طهر فاعله في النار ثم مآله إلى الجنة حيث مات موحدًا بل عارض الأول بالثاني كما دل عليه صنيعه.

الثالث: أنه لم يميز بين الإيمان الذي يستحق المتصف به أن لا يخلد في النار بل ترجى له الشفاعة بإذن الله والمغفرة منه له فضلًا وكرمًا ويثبت له مناكحة المسلمين وموارثتهم وبين الإيمان الذي يستحق به النجاة من العذاب وتكفير السيئات وقبوله الطاعة وكرامة الله ومثوبته وبه يستحق أن يكون محمودًا مرضيًا موصوفًا بصفات الثناء لا بصفات الذم بل جعل القسمين قسمًا واحدًا.

(وأما الكلام) على معنى هذه الأحاديث التي قد أدلى بها وأوردها صاحب المقدمة علينا فنقول لا يحقق ذلك إلا من حقق معنى الإيمان وعرفه ومازه حتى تحصل له المعرفة وكمال الإدراك بمعنى هذه الأحاديث وأمثالها والمدلي بها يحتاج إلى فهم معاني ما تضمنته من نفي الإيمان ومعرفة حقيقته، وما هو، كيف هو، ثم ينفي بها نفيًا لا إثبات معه أو معه إثبات، أو يثبت إثباتًا لا نفى معه، أو معه نفي، ثم يفصل ويبين ذلك المثبت والمنفي وعكسهما، إذا علم هذا فالإيمان قد اشتهر وشاع عن السلف وأهل الحديث أنه قول وعمل ونية وان الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارًا شديدًا وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولًا محدثًا سعيد بن جبير وميمون بن مهران وقتادة وأيوب السختياني والنخعي والزهري ويحيى بن أبي كثير وغيرهم، وقال الثوري: (هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره) وقال الأوزاعي: (كان من مضى من السلف لا يعرفون الإيمان إلا العمل) وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى أهل الأمصار: (أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع وسننًا فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان) ذكره البخاري في صحيحه وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع الإيمان بالله وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس" وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فإن أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" ولفظه لمسلم قال الخطابي في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم بمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها، كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه وتستوفي جملة أجزائه كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل عليه قوله ﷺ: "الحياء شعبة من الإيمان" وفي إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته، هذا آخر كلام الخطابي.

وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مصعب البغوي الشافعي في حديث سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان والإسلام وجوابه قال: جعل النبي ﷺ الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك، لأن الأعمال ليست من الإيمان أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال ﷺ: "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعًا يدل عليه قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ } { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا } { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل هذا كلام البغوي، وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق فان عني به ذلك فلا يزيد ولا ينقص لأن التصديق ليس شيئًا يتجزأ حتى يتصور كماله تارة ونقصه أخرى والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة، وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالاسي المغربي في شرح صحيح البخاري مذهب جماعة أهل السنة ممن سلف من الأمة وخلفها ان الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري رحمه الله تعالى من الآيات يعني قوله تعالى: { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } وقوله تعالى: { وَزِدْنَاهُمْ هُدىً } وقوله تعالى: { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً } وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً } وقوله تعالى: { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } وقوله تعالى: { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } وقوله: { وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } ومجرد التصديق بالله تعالى ورسوله ﷺ لا ينقص إلا شكًا ولذلك توقف مالك رحمه الله تعالى في بعض الروايات مع القول بالزيادة عن القول بالنقصان إذ لا يجوز نقصان التصديق لأنه إذا نقص صار شاكًا فخرج عن اسم الإيمان، وقال بعضهم إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتناول موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي بالذنوب وإلا فقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة، قال عبد الرزاق سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحاب سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك، فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين وهو إتيانه بهذه الأمور التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع انه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه فلا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه بقلبه وجحده بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم المؤمن، فكذلك إذا اقر بالله وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمنًا بالإطلاق وان كان في كلام العرب يسمى مؤمنًا بالتصديق فذلك غير مستحق في كلام الله لقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فأخبر سبحانه وتعالى إن المؤمن من كانت هذه صفته، وقال ابن بطال في باب من قال الإيمان هو العمل فان قيل قد تقدم ان الإيمان هو التصديق قيل له التصديق هو أول منازل الإيمان ويوجب للمصدق دخول الأعمال فيه ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يسمى مؤمنًا مطلقًا إلا باستكمال شعب أعماله، هذا مذهب جماعة أهل السنة وان الإيمان قول وعمل، قال أبو عبيد: هو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين وأهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم قال ابن بطال وهذا المعنى أراد البخاري رحمه الله إثباته في كتاب الإيمان وعليه بوب أبوابه كلها فقال باب أمور الإيمان وباب الصلاة من الإيمان وباب الزكاة من الإيمان وباب الجهاد من الإيمان وسائر أبوابه وإنما أراد الرد على المرجئه في قولهم ان الإيمان قول بلا عمل وتبين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذهب الأئمة.

(وأما الفرق) بين الإيمان والإسلام فالتحقيق في الفرق بينهما ما قاله المحققون ان الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته مع الأعمال بجميع ما فرض الله. والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده، وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمى الله الإسلام دينًا في كتابه تعالى وهو حديث جبريل حين سمى ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان دينًا، وهذا أيضًا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر لجامعية الأعمال كلا منهما وان انفرد التصديق في دخول مسمى الإيمان، وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، فأما ما ورد من إثبات أحدهما ونفي الآخر من نحو قوله تعالى: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فإنما هو بالنظر إلى معنييهما اللغويين، ولذلك ذكر الصدقة والصوم وغيرهما بعدهما بطريق العطف مع الإجماع على عدم خروج الأعمال عن الإيمان والإسلام، لكن الإيمان أصله تصديق القلب بكل ما جاء عن الله ورسوله، وهو لا يظهر إلا بالعمل الظاهر علانية فهو الإسلام والاستسلام الانقياد لأوامر الله عز وجل، ولذلك قال رسول الله ﷺ: "الإسلام علانية والإيمان في القلب" أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ بلفظه وكان النبي ﷺ يقول في دعائه إذا صلى على الميت: "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" لأن العمل بالجوارح إنما يتمكن منه في حال الحياة فأما عند الموت فلا يبقى إلا التصديق بالقلب ومن ههنا قال المحققون من العلماء كل مؤمن مسلم لأن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام، كما قال النبي ﷺ: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" فلا يتحقق العبد الإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمنًا، فانه قد يكون الإيمان ضعيفًا فلا يتحقق القلب تحققًا تامًا مع عمل الجوارح في أعمال الإسلام فيكون مسلمًا وليس مؤمنًا الإيمان التام كما قال تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } ولم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين وهو قول عبد الله بن عباس وغيره بل كان إيمانهم ضعيفًا ويدل عليه قوله تعالى: { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } يعنى لا ينقصكم من أجورها فدل على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم. وكذلك ما روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "أن رسول الله ﷺ أعطى رهطًا وأنا جالس فترك رسول الله ﷺ رجلًا هو أعجبهم إليّ فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا فقال رسول الله: "أو مسلمًا؟" فسكت قليلًا ثم غلبني ما علمت منه فعدت لمقالتي فقلت: مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنًا فقال: "أو مسلمًا؟" ثم غلبني ما أعلم منه فأعدت وأعاد رسول الله ﷺ مقالته ثم قال: "يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية من أن يكبه الله في النار على وجهه" قال الزهري فيرى يعني رسول الله ﷺ أن الإسلام هو الكلمة مع التزام الأعمال، والإيمان هو العمل الصالح، قلنا فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله عز وجل، فالإيمان هو الإسلام وزيادة، وحقيقته ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "الإيمان بضع وسبعون" وفي رواية "بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" ولمسلم وأبي داود "فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" وقد أخبر الله عن ملكة سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بالموت على الإسلام، وهذا كله يدل على ان الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق، وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ: "يا عدي أسلم تسلم" قلت: وما الإسلام؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها حلوها ومرها" فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام، ثم ان الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع وليس المراد الإتيان بلفظها من غير تصديق بهما ولا عمل بمعناهما بل ذلك كله داخل في الإسلام، وقد فسر الإسلام المذكور في قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام } بالتوحيد قولًا وعملًا واعتقادًا صادقًا قاله طائفة من السلف منهم محمد بن جعفر بن الزبير، وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام كالأعراب الذين أخبر عنهم فإنه ينفى عنهم رسوخ الإيمان في القلب وأثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل إذ لو لا هذا القدر لم يكونوا مسلمين وإنما نفى عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وهذا مبني على ان التصديق القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح من مذاهب جماهير السلف وهو أصح الروايتين عن أحمد، فإن إيمان الصديقين الذين تتجلى أنوار المعرفة لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك ولا الارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لم يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك ولهذا جعل رسول الله ﷺ مرتبة الإحسان أن يعبد ربه كأنه يراه وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين، ومن هنا قال بعضهم ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره وسئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان الصحابة رضي الله عنهم يضحكون قال: نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه يزن ذرة أو شعيرة كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار، فهو لا يصح أن يقال لم يدخل الإيمان في قلوبهم لضعفه عندهم.

مسائل الإيمان والإسلام والفرق الضالة

(وهذه المسائل) أعني مسائل الإيمان والإسلام والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدًا فإن الله عز وجل علق بهذه الأشياء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها وقع في هذه الأمة وهو كخلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم حدث بعد خلاف المعتزلة، خلاف المرجئة القائلين أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان. وقد صنف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسائل تصانيف متعددة وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف الإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن أسلم الطوسي، وغيرهم من الأئمة الأعلام، فمن حقق هذا المعنى في الإيمان وعرفه ومازه حصلت له المعرفة وكمال الإدراك بمعنى قوله ﷺ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" الحديث، ثم صار وسطًا بين طرفين فينفي بها نفيًا معه إثبات، ويثبت إثباتًا معه نفي، فلا يقول مؤمن كامل الإيمان كما قالته المرجئة، ولا كافر خارج عن الملة مخلد في النار كما قالته الخوارج، بل ليس إيمانه تامًا، فهو مؤمن واهن الإيمان جارية عليه أحكام الإسلام. قال النووي في شرحه هذا الحديث: وأمثاله مما اختلف العلماء في معناه فالقول الصحيح الذي قاله المحققون ان معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الإبل ولا عيش إلا عيش الآخرة وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق" وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه ﷺ على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا قال لهم ﷺ: "فمن وفى منكم فأجره على الله ومن فعل شيئًا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه" فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء } مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان، ان تابوا سقطت عقوبتهم، وان ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله عفا عنهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة، فكل هذه الدلائل تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم ان هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثيرًا، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرًا وجب الجمع بينهما، وقد وردا ههنا فيجب الجمع وقد جمعنا، وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلًا مع علمه بورود الشرع بتحريمه، وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري: معناه ينزع اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المؤمنين، ويستحق اسم الذم فيقال سارق وزان وفاجر وفاسق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ان معناه ينزع منه نور الإيمان وقال المهذب تنزع منه بصيرته في طاعة الله وفيه حديث مرفوع إلى النبي ﷺ أنه قال: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان" رواه الترمذي وأبو داود.

حكم الفاسق

(وقد انقسم الناس) في الفاسق من أهل الملة كالسارق والزاني والشارب ونحوهم على ثلاثة أقسام طرفين ووسط.

(أحد الطرفين) أنه ليس بمؤمن بوجه من الوجوه ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان، ثم من هؤلاء من يقول هو كافر كاليهودي والنصراني، وهو قول الخوارج وفيهم من يقول ننزله منزلة بين المنزلتين وهي منزلة الفاسق وليس هو بمؤمن ولا كافر وهم المعتزلة، وهؤلاء يقولون أن أهل الكبائر يخلدون في النار وان أحدًا منهم لا يخرج منها وهذا من مقالات أهل البدع التي دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على خلافه، قال الله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } إلى قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فسماهم الله مؤمنين وجعلهم إخوة مع الاقتتال وبغي بعضهم على بعض وقال تعالى في بيان الكفارة: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ولو أعتق مذنبًا أجزأه عتقه بإجماع العلماء ولهذا يقول العلماء السلف في المقدمات الاعتقادية لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل، وقد ثبت الزنا والسرقة وشرب الخمر على أناس في عهد النبي ﷺ ولم يحكم فيهم حكم من كفر ولا قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين بل جلد هذا وقطع هذا ورجم هذا وهو في ذلك يستغفر لهم ويقول: "لا تكونوا أعوان الشياطين على أخيكم" وأحكام الإسلام كلها مرتبة على هذا الأصل.

(الطرف الثاني) قول من يقول إيمانهم باق كما كان لم ينقص، بناء على ان الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم وهو لم يتغير وإنما نقصت شرائع الإسلام، وهذا قول المرجئة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وهو أيضًا قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين والتابعين لهم بإحسان قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } والآيات في ذلك والأحاديث كثيرة جدًا كما تقدمت وقد تقدم أيضًا إجماع السلف على ان (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) ومدين ذلك أنه قول القلب وعمله، وثم قول اللسان وعمل الجوارح، فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر، ويدخل في ذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول ﷺ لأنه في معنى الإيمان برسالته (ثم الناس) في هذا على أقسام:

منهم من صدق به جلة ولم يعرف التفصيل.

ومنهم من صدق به إجمالًا وتفصيلًا.

ثم منهم من يدوم استحضاره فيه بما قذف الله في قلبه من النور والآيات.

ومنهم من جزم به لدليل قد تعترضه منه شبهة أو لتقليد جازم، وهذا التصديق يتبعه عمل القلب وهو حب الله ورسله وتعظيم الله ورسله وتعزير الرسول وتوقيره وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال.

فهذه الأعمال القلبية كلها من الآيات، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة للمعلول ويتبع الاعتقاد قول اللسان ويتبع عمل القلب عمل الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك، وعند هذا فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلبون اسم الإيمان على الإطلاق ولا يثبتونه على الإطلاق، بل يقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال ليس بمؤمن حقًا، أو ليس بصادق الإيمان، وكل كلام أطلق في الكتاب والسنة فلا بد أن يدين المراد منه، والأحكام منها ما يترتب على أصله وفرعه كاستحقاق الحمد والثواب وغفران السيئات ونحو ذلك. إذا علمت هذه القاعدة فالذي في الصحيح قوله ﷺ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا تنتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن" والزيادة التي رواها أبو داود والترمذي صحيحة وهي مفسرة للرواية المشهورة، وفي قوله ﷺ في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان" دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية، فإن الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط، وأحسن ما قيل في معنى هذا الحديث أن نفس التصديق الفارق بينه وبين الكافر لم يعدمه لكن هذا التصديق لو بقي على حاله لكان صاحبه مصدقًا بأن الله حرم هذه الكبيرة وأنه تعالى توعد عليها بالعقوبة العظيمة، وأنه تعالى يرى الفاعل ويشاهده، وهو تعالى مع عظمته وجلاله وكبريائه يمقت هذا الفاعل فلو تصور هذا التصور لامتنع صدور الفعل منه متى فعل هذه الخطيئة فلا بد من أحد ثلاثة أمور:

وإما اضطراب العقيدة بأن يعتقدان ان الوعيد ظاهره ليس كباطنه، وإنما المقصود منه الزجر كما قالته المرجئة أونما يحرم هذا على العامة دون الخاصة كما قالته الإباحية وغير ذلك من العقائد المكفرة التي تخرج عن الملة.

وإما الغفلة والذهول عن التحريم وعظمة الرب تعالى وتقدس وشدة بأسه فيغتر بسعة رحمته وغفرانه ويقتحم هذا الذنب الكبير ولا يبالي.

وإما فرط الشهوة بحيث تقهر مقتضى الإيمان وتمنع موجبه فيصير الاعتقاد مغمورًا مقهورًا كالعقل في النائم والسكران وكالروح في النائم ومعلوم أن الإيمان الذي يسمى إيمانًا ليس باقيًا كما كان إذ ليس مستقرًا في القلب ظاهرًا، واسم الإيمان عند الإطلاق إنما ينصرف إلى من يكون إيمانه باقيًا على حاله عاملًا عمله وهو يشبه من بعض الوجوه روح النائم فان الله سبحانه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، والنائم ميت من وجه حي من وجه وكذلك السكران والمغمى عليه، عاقل من وجه وليس بعاقل من وجه، فإذا قال القائل السكران ليس بعاقل فإذا صحا عاد عقله إليه كان صادقًا مع العلم أنه ليس بمنزلة البهيمة إذ عقله مستور وعقل البهيمة معدوم بل الغضبان ينتهي به الغضب إلى حالة يعزب فيها عقله ورأيه، وفي الأثر: (إذا أراد الله أنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ليعتبروا) فالعقل الذي به يكون التكليف لم يسلب، وإنما سلب العقل الذي به يكون صلاح الأمور في الدنيا والآخرة، كذلك الزاني والسارق والشارب والمنتهب لم يعدم الإيمان الذي يستحق أن لا يخلد في النار وبه ترجى له الشفاعة والمغفرة وبه يستحق المناكحة والموارثة، لكن عدم الإيمان الذي يستحق به النجاة من العذاب ويستحق به تكفير السيئات وقبول الطاعات وكرامة الله ومثوبته وبه يستحق أن يكون محمودًا مرضيًا، وهذا يبين ان الحديث على ظاهره الذي يليق به، فلا يؤوّل بتأويلات تخرجه ونظائره عن مقصود رسول الله ﷺ، وقد نقل كراهة تأويل أحاديث الوعيد عن علماء السلف كسفيان ابن عيينة وأحمد بن حنبل والزهري وأنهم يقرؤون هذه الأحاديث ويمرونها كما جاءت ويكرهون تأويلها بما يخالف اللائق بها على مراد الرسول فيها، ونص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على ان مثل هذا الحديث لا يتأول تأويلًا يخرجه عن ظاهره المقصود به، وقد تأوله الخطابي وغيرهم تأويلات مستنكرة مثل قولهم لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي أي ينبغي للمؤمن أن لا يفعل ذلك وقولهم المقصود به الوعيد والزجر دون حقيقة النفي وإنما شاع ذلك لما بين حاله وحال من عدم الإيمان من المشابهة والمقاربة، وقولهم إنما عدم كمال الإيمان وتمامه أو شرائعه أو ثمرته ونحو ذلك، فكل هذه التأويلات لا يخفى حالها على من أمعن النظر فيها فالحق ما تقدم من معنى القول فيها والله أعلم.

كفر دون كفر

(وأما قولكم وقد عقد البخاري في صحيحه بابًا الكفر دون كفر) فنقول: من أطلق الشارع كفره بالمعاصي التي لا تخرجه عن الملة كدعواه لغير أبيه، ومن أتى عرافًا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضًا أو في دبرها ونحو ذلك، فإنما هو تشديد لا يخرج به عن ملة الإسلام بل كفر نعمة، قاله طوائف من العلماء عن أئمة الفقه والحديث، وكره ابن رجب في شرح البخاري كغيره من الشراح عن أكثر الشيوخ من العلماء، وقد قال القاضي عياض وجماعة من العلماء في قوله: "من أتى عرافًا فقد كفر بما أنزل على محمد" أي جحد تصديقه بكذبهم فقد يكون معناه ان اعتقد تصديقهم بعد معرفتهم بتكذيب النبي ﷺ لهم فهو كافر كفرًا حقيقة، وما قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى لا مخالفة فيه إذا وجد شرطه إذ فيه تكذيب الرسول ﷺ فيما جاء به، وتكذيب الكتاب، وهذا النوع ليس نعني هنا، مع أنه داخل في عموم دعوانا على أهل الباطل من أنهم يصدقونهم فيما يقولون لهم ويعملون به بعد سماعهم نهي النبي عنهم وتكذيبه لهم، بل أكثرهم يعلمونه ويسمعونه عنادًا للدين وإتباعًا للشياطين والمعاندين وما ادعوا ولايتهم وهم مردة الشياطين، وإنما نعني ما هو كفر دون كفر لا يخرج عن الإسلام ككفران العشير وهو ما عنى البخاري رحمه الله تعالى، وقوله باب كفران العشير وكفر دون كفر فيه عن إبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ ثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: "رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء بكفرهن قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط"، فقد أعرض النبي ﷺ عن السائل القائل أيكفرن بالله فأجابه بما هو ليس من المخرج عن الملة بل من الذنوب التي يستقر معها حكم الإسلام فقال: "يكفرن العشير" كفران العشير كفران نعمة لا يخرج عن الملة، وقد نص عليه أئمة الحديث من العلماء في شرح البخاري وغيره، ولهم في هذه الأحاديث التي يطلق الكفر فيها مسالك، منهم من يحملها على من يفعل ذلك مستحلًا، ومنهم من حملها على التغليظ لا على الكفر الذي ينقل، منهم ابن عباس وعطاء، قال النخعي: هو كفر بالنعم، ونقل عن الإمام أحمد وقاله طاووس، وحكى ابن حامد عن الإمام أحمد جواز إطلاق الكفر والشرك على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة، وروي عن أحمد أنه كان يتوقى الكلام في تفسيره هذه النصوص تورعًا ويمرها كما جاءت من غير تفسير لها كغيره من أئمة السلف كما تقدم مع اعتقادهم ان المعاصي لا تخرج عن الملة وقد قال البخاري: باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي ﷺ: "انك امرؤ فيك جاهلية" وقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } فسماهم مؤمنين.

(وأما قولكم وقال العلامة ابن القيم في كتابه في الصلاة الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة كفر عملي وتحقيقه ان الكفر كفر عملي كفر جحود، فكفر الجحود ان يكفر بما علم ان الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا فهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه إذ حقيقة الإيمان التصديق وأما الكفر العملي فهو نوعان نوع يضاد الإيمان ويصير فاعله في حكم الكفر الاعتقادي كالسجود للصنم وسب الرسول وقتله والاستهزاء والاستهانة بالمصحف والذي يقوي عندي أن يكون هذا من الكفر الاعتقادي والعملي معًا، فإنه لا يسجد للصنم وهو مؤمن بالله ولا يهين المصحف أو يسب نبيًا أو يقتله وهو مصدق أنه نبي، ألا ترى إلى قريش في صلح الحديبية لم يرضوا أن يكتب "هذا ما صالح عليه رسول الله وقالوا: اكتب محمد بن عبد الله لو نعلم أنك رسول الله لما صددناك عن البيت" الحديث، ونوع لا يضاده كالحكم بغير ما أنزل الله فان الله سمى فاعله كافرًا ومثله تارك الصلاة سماه رسول الله كافرًا كما سمعته آنفًا ولكن هذا كفر عملي لا كفر اعتقاد).

فنقول: أنتم إنما فهمتم من كلام ابن القيم أن الكفر الصريح لا يصرن عمليًا بل هو خاص بالاعتقادي أو مع اقترانه بالعملي فأما مجرد العملي فلا يكون كفرًا موجبًا للردة حقيقة وفهمتم منه أيضًا ان مراده بالكفر العملي عمل الجوارح الخاص بها وهذا فهم باطل وتعليل عاطل من وجوه:

(أحدها): أن ابن القيم رحمه الله تعالى قد شنع في كلامه التشنيع الكلي على من شك في كفر تارك الصلاة كفرًا موجبًا للردة والخلود في النار والحالة هذه وعبارته ما نصه: "ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودُعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه وشد للقتل وعصبت عيناه وقيل له تصلي وإلا قتلناك فيقول اقتلوني ولا أصلي أبدًا، ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول هذا مؤمن مسلم يغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين وبعضهم يقول هو مؤمن كامل الإيمان إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل أفلا يستحي من هذا قوله، من إنكاره تكفير من شهد بتكفير الكتاب والسنة واتفاق الصحابة.

(الثاني): أنه جعل في كتابه في الصلاة شعب الإيمان قسمين قولية وفعلية وكذلك شعب الكفر نوعين قولية وفعلية فكما ان من شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان كالصلاة، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية فكما يكفر بكلمة الكفر اختيارًا وهي شعبة من شعب الكفر، كذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف والصلاة وقتل الأنبياء فإنه كفر عملي.

(الثالث): أنه جعل حقيقة الإيمان مركبة (من قول) وقسمه إلى قسمين: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام (ومن عمل) وقسمه إلى قسمين أيضًا، عمل القلب وهو نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده، وعمل الجوارح، ورتب زوال الإيمان بكماله على زوال هذه الأربعة، فإن زال بعضها، فإن كان التصديق، لم ينفع باقي ما أتى به، وان كان غيره، فإن كان عمل القلب فقط أو مع الجوارح فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وانه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده للأوامر وان عملت الجوارح ظاهرًا ومع انتفاء عملها اللازم منه انتفاء عمل القلب وعبارته ما نصها: ومنها أصل آخر وهو ان حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو اعتقاده وتصديقه، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله وإذا زال تصديق القلب لم تنفعه بقية الأشياء فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها لكونها نافعة صحيحة، وإذا زال عمل القلب فقط مع وجود اعتقاد الصدق أو زال عمل الجوارح أيضًا فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع مجرد التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده للأوامر سواء عملت الجوارح ظاهرًا أو لم تعمل ووجد التصديق، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول بل ويقرون به سرًا وجهرًا ويقولون ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم عمل الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزومًا لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعته الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان فإنه ليس مجرد التصديق كما تقدم كلامنا فيه ودلائلنا عليه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس مجرد معرفة الحق وتثبيته، بل هو معرفة المستلزمة لإتباعه والعمل بموجبه، وان سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن التصديق وان سمي تصديقًا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان.

(الرابع قوله): وههنا أصل آخر وهو ان الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم ان الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكام دينه وما جاءت به رسله، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل، فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالأول: كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه والاستهزاء بما جاء به والحكم بغير ما أنزل الله حيث كان فيه رد لنص حكم الله عيانًا راضيًا بذلك وترك الصلاة عنادًا وبغيًا.

الثاني: من أتى بمعصية لا تخرجه عن الإيمان بالكلية كالزاني والسارق وشارب الخمر ومن لا يأمن جاره بوائقه، لكن السجود لصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه والاستهزاء بما جاء به عمل قلبي لظهوره مضاد للإيمان، وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي المحض قطعًا ولا يمكن ان ينفي عنه اسم الكفر بعد ان أطلقه الله ورسوله عليه بلا قرينة تقتضي انتفاءه عنه كما انتفت حقيقته عن مرتكب الكبيرة مع تسميته كافرًا فالحكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله ﷺ ولكن هو كفر عملي لا كفر اعتقادي ومن الممتنع أن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا وسمى رسوله تارك الصلاة كافرًا ولا يطلق عليهما اسم الكفر حقيقة مع انتفاء نص على بقائهما مؤمنين فان مراد ابن القيم رحمه الله بالكفر العملي هنا زوال شعبة فعلية موجب زوالها زوال الإيمان وثبوت شعبة فعلية من شعب الكفر موجب ثبوتها ثبوت الكفر، فالعملي هنا أعم من عمل القلب والجوارح في الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة وغيرهما وان بقي قول القلب وهو اعتقاده وتصديقه لانتفاء عمله وهو محبته وانقياده لفعل الأوامر، وفائدة قوله العملي المحض أي مع بقاء تصديق القلب من غير انقياد، وهو لا يستلزم الإيمان الموجب للإسلام.

(الخامس): تصريحه بأن ترك الصلاة عمدًا والحكم بغير ما أنزل الله حيث كان فيه رد لنص حكم الله عيانًا عمدًا كفر حقيقة مضاد للإيمان.

(السادس): تفصيله وتفرقته بين كفر تارك الصلاة والحاكم بغير ما أنزل الله بشرطه، وبين كفر السارق والزاني وشارب الخمر ومن لم يأمن جاره بوائقه، فجعل كفر هؤلاء من جهة أعمالهم الظاهرة في قوله، وقد نفى النبي ﷺ اسم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر وعمن لم يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل الظاهر منه منتف عنه كفر عمل القلب لبقاء محبته وانقياده حكمًا، فحكم الإسلام جار عليه كما تقدم، لكن ليس بمؤمن حقًا، وإلى ذلك أشار بقوله وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد إذ عمل القلب هنا باق لم يفقد زيادة على قوله الذي هو التصديق وكذا قوله ﷺ: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" فهذا كفر عملي ظاهر في الجوارح فقط، وعمل القلب على حاله كما تقدم في الذي قبله، وكذا يقال في قوله ﷺ: "من أتى كاهنًا فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد" وقوله: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" وأمثاله هذا كما تقدم الكلام فيه موضحًا.

(السابع): جعله الإيمان العملي يضاده الكفر العملي فيما إذا اتصف شخص بذاك تارة وبهذا أخرى كالذين ثبت إيمانهم بما عملوا به من الميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب { لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } ثم ثبت كفرهم بما تركوه منه ومخالفتهم له، كمن يؤمن عاملًا ببعض ويعرض تارة عن بعض، فالإيمان الاعتقادي والحالة هذه يضاد الكفر الاعتقادي، وقد أعلن النبي ﷺ بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ففرق بين سبابه وقتاله، وجعل أحدهما فسقًا لا يكفر به، والآخر كفر، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي الظاهر لا الاعتقادي، وهو عمل القلب، فما دام محبًا منقادًا لفعل الأوامر لزم منه فعل المأمورات من صلاة وغيرها، ومتى فقد عمله فقدت المأمورات وان وجد قوله وهو مجرد التصديق بلا انقياد، وإذا حصلت هفوة للقلب بوجود الران عليه من نحو شدة فرط الشهوة فحصل شيء من المعاصي المتقدمة الظاهرة في الجوارح وعمل القلب باق على ما كان عليه أولًا فحكم الإسلام باق ولكن انتفى عنه كمال الإيمان بظاهر أعماله السيئة، ومتى أطلق عليه اسم الكفر بذلك فإنه لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية كما تقدمت دلائله من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وان زال عنه اسم الإيمان، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فان المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقًا أخرجوا من الملة أهل الكبائر ونصوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين، وهؤلاء الذين جعلوهم مؤمنين لا يرون ترك الصلاة كفرًا بل عندهم الإيمان مجرد التصديق وهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع صالح سلف الأمة.

(الثامن): انه قد قال والمقصود ان سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلمًا ولا مؤمنًا، إلى أن قال هل هي شرط لصحة الإيمان، هذا سر المسألة، والأدلة التي ذكرناها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه ورأس مال ربحه، ومحال بقاء الربح بلا رأس مال، فإذا خسرها خسر أعماله كلها وان أتى بها صورة، وقد أشار النبي ﷺ إلى هذا في قوله: "وإن ضيعها فهو لما سواها أضيع" وفي قوله: "أول ما ينظر في أعماله الصلاة فإن جازت له نظر في سائر أعماله، وان لم تجز له لم ينظر إلى شيء من أعماله" فصريح كلام ابن القيم المتقدم موافق لكلام الله وسنة رسوله ان تارك الصلاة عمدًا كافر مستوجب لخلوده في النار، وقد زعم صاحب المقدمة ان الكفر الحقيقي خاص بالاعتقاد وهو عدم تصديق القلب أو مع عمل الجوارح أيضًا كالسجود للصنم وإهانة المصحف وقتل النبي فأما فقدان عمل القلب فقط فلا يكون كفرًا حقيقيًا واستدل على ذلك بقوله: ولا يهين المصحف أو يسب نبيًا أو يقتله وهو مصدق أنه نبي، وبقول قريش لو نعلم انك رسول الله لما صددناك عن البيت وزعمه ذلك وهم باطل وفهم عاطل من وجوه:

(أحدها): انه قد فهم ان العمل إنما منشأه ومورده الجوارح خاصة، فأما القلب فليس فيه إلا الاعتقاد وهو التصديق خاصة وهذا مناف لمعرفة حقيقة الإيمان الذي تترتب على معرفته دعوى العلم والقول به، فان حقيقته مركبة من عمل القلب وهو محبته وانقياده وإخلاصه لفعل الأوامر وإتباع الرسل في كل ما جاؤا به من عند الله، وعمل الجوارح فيما يوجد من قبلها عند طاعة القلب وانقياده قال سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ومن قوله وهو تصديقه في كل ما جاءت به الرسل وقول اللسان وهو المتكلم بكلمة الإسلام والإقرار بما يجب الإيمان به، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فإن أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" ولفظه لمسلم.

(الثاني): انه فهم ان الإيمان يكفي فيه مجرد التصديق القلبي وان لم يوجد عمله ولا عمل الجوارح وهذا بعينه قول المرجئة ومعتقدهم، فإنهم يقولون الإيمان قول بلا عمل، وقد رد البخاري وغيره من الأئمة الأعلام على هؤلاء القوم اللئام وبينوا غلطهم وسوء اعتقادهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة كمالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين وأهل العراق والحجاز والشام وغيرهم قال البخاري في رده عليهم باب أمور الإيمان وباب الصلاة من الإيمان وباب الزكاة من الإيمان وباب الجهاد من الإيمان، فأهل السنة مجمعون على أنه متى زال عمل القلب فقط أو هو مع عمل الجوارح زال الإيمان بكليته وأن وجد مجرد التصديق فلا ينفع مجردًا عن عمل القلب والجوارح معًا أو أحدهما، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول ﷺ سرًا وجهرًا.

(الثالث): قوله والذي يقوى عندي أن يكون هذا من الكفر الاعتقادي والعملي معًا فإنه عني بالاعتقاد عدم التصديق من الذين سبوا الرسول واستهزؤوا به وهذا يرده صريح قوله تعالى: { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } قال المفسرون معنى ذلك أنهم لا يكذبونك يا محمد ولكنهم يجحدون آيات الله، فالجحدان والتكذيب راجع للآيات نفسها لا للرسول، فان القوم لم يكونوا يكذبونه في السر بل أكثرهم يصدقه علانية فان الحرب ابن عامر من قريش قال: يا محمد والله ما كذبت قط ولكن ان اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب وقال الأخنس بن شريق لأبي جهل: يا أبا الحكم اخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له: والله ان محمدًا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، فهم لا يكذبونه بقلوبهم بل ولا بألسنتهم فيما بينهم ولكن لا يعترفون به ظاهرًا عنده، فهم وان قالوا ظاهرًا لولا أنزل عليه ملك، يعرفونه في قلوبهم كما يعرفون أبناءهم لكن منهم من يتعنت فيقوله بلسانه يجب أن يكون رسول الله من جنس الملائكة، وذكر الله ذلك عنهم في سورة الأنعام شبهة لهم وأجاب تعالى عنهم، ومنهم من يقول ان محمدًا يخبرنا بالحشر والنشر بعد الموت وذلك محال، وكانوا يستدلون بامتناع الحشر والنشر على الطعن في رسالته ظاهرًا فذكر الله ذلك وأجاب عنهم بأجوبة كثيرة هي موجودة في القرآن فشافهتهم له بالسفاهة والاستهزاء أو القتل كما قتلوا الأنبياء من قبل وقلوبهم معترفة ولكن جحدوا بآيات ربهم كما قال تعالى في قصة موسى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }.

الحكم بغير ما أنزل الله كفر عملي

(الرابع): نفيه الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، ان يكونا عملي قلب بل جعلهما عمل جوارح خاصة، واستدل به على عدم كفر من لم يحكم بما أنزل الله عيانًا عمدًا، وتارك الصلاة عمدًا، لوجود التصديق والاكتفاء به، فأما كفر من لم يحكم بما أنزل الله فقد قال العلماء هذا إذا رد نص حكم الله عيانًا عمدًا لعدم انقياده له والعمل به محبة وإتباعًا فانه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعته الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده للنص عدم التصديق المستلزم للطاعة التي هي حقيقة الإيمان، فإما مجرد التصديق من غير استلزام ولا انقياد فليس بإيمان البتة، وإذا كان كذلك فترك الحكم بما أنزل الله والحكم بغيره من أعمال القلب، لاسيما وقد قال قتادة والضحاك في سبب نزول هذه الآيات انه في اليهود الذين كانوا يعلمون صدق ما حكم عليهم في الكتاب فخالفوهم، وقد قال العلماء ان من خالف نص كتاب الله وحكم بضد ما فيه وما تضمنه عيانًا عمدًا تناوله حكم هذه الآية لا إن أخطأ معنى التأويل، وقال عكرمة: من عرف بقلبه أنه حكم الله ولم يقر بلسانه وينقد إليه بقلبه بل جحده فقد كفر كفرًا لا إيمان معه، أما من اعترف بقلبه ولسانه انه حكم الله ولكنه أخطأ الصواب، أو حكم بضده مع علمه والإقرار به فلا كفر. وقد قال ابن عباس وطاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة بل متى وجد منه ذلك كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر.

وسئل عبد العزيز بن يحيى الكتاني عن قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فقال: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أُنزل فهو كافر ظالم فاسق. فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ثم لم يحكم ببعض ما أنزل الله من الشرائع التي منشؤها الفروع لم يستوجب الكفر حقيقة، وعلى هذا يحمل كلام ابن عباس وطاووس. وأما ترك الصلاة عمدًا فهو مناف لحقيقة الإيمان المستلزم للإسلام المترتب على وجوده تخلية السبيل، فإنها وان اقترن فعلها بالجوارح ظاهرًا فهي مستلزم عملها لعمل القلب ظاهرًا وباطنًا فان وجد علمه وجدت، وان عدم عدمت، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى مفصلًا. بأدلته التفصيلية من الكتاب والسنة وكلام صالح سلف الأمة.

(وأما قولكم أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } أنه ليس كفرًا ينقل عن الملة انه كفر دون كفر وقال عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق).

فنقول: كلام ابن عباس رضي الله عنهما فيمن لم يحكم بما أنزل الله من الشرائع التي منشأها الفروع خاصة مع الاعتراف بالقلب والإقرار باللسان إنما عدل عنه هو حكم الله كما قال عكرمة في قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ان من عرف بقلبه انه حكم الله ولم يقر بلسانه ولم ينقد إليه بقلبه بل جحده فقد كفر كفرًا لا إيمان معه وأن من اعترف بقلبه وأقر بلسانه أنه حكم الله ولكنه أخطأ الصواب وأتى بما يضاده من مسائل الفروع التي ليس لها تعلق بالأصل من غير استحلال فلا يدخل في الكفر الحقيقي.

وقد سئل علقمة ومسروق وابن مسعود عن الرشوة في الحكم أهي من السحت فقال: ذاك الكفر ثم تلا { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ومن لم يحكم بما أنزل الله الآية قال من لم ينقد إليه بقلبه ولم يقر بلسانه كفر كفرًا حقيقيًا، ومن أقر به وانقاد إليه ولكنه لم يحكم به ظاهرًا فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير، وقال عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا عن الشعبي: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }، قال: هذا في المسلمين { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظالمون } قال: في اليهود { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسقون } قال: في النصارى. وكذا رواه هشام والثوري عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي، وقال البراء وحذيفة وابن عباس وغيرهم نزل قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } في أهل الكتاب، قال الحسن وهي علينا واجبة وقال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم الحربي نزلت في بني إسرائيل رضي الله لهذه الأمة نبيها فعفى عنها الكفر.

وسبب النزول وان كان خاصًا فعموم اللفظ إذا لم يكن منسوخًا معتبر ولأن قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله كلام داخل فيه كلمة من في معرض الشرط فتكون للعموم، لكن تحقيق معنى الآية ان الحكم بغير ما أنزل الله ان كان في الأصل من التوحيد وترك الشرك، أو كان في الفروع ولم يقر اللسان وينقد القلب فهو كفر حقيقي لا إيمان معه كما تقدم عن عكرمة، فأما من اعترف بقلبه وأقر بلسانه بحكم الله ولكنه عمل بضده ظاهرًا في الفروع خاصة فليس بكفر ينقله عن الملة قال طاووس: ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال الثوري عن ابن جريح عن عطاء أنه قال: هذا كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق درن فسق. رواه ابن جرير وقال وكيع عن سعيد المكي عن طاووس قال: ليس الحكم في الفروع بغير ما أنزل الله مع الإقرار بحكمه والمحبة له ينقل عن الملة وعن طاووس عن ابن عباس قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. رواه الحاكم وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد جنح الخوارج إلى العموم لظاهر الآية وقالوا أنها نص في ان كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافرًا. وقد انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على خلافهم، ونحن لم نكفر إلا من لم يحكم بما أنزل الله من التوحيد بل حكم بضده وفعل الشرك ووالى أهله وظاهرهم على الموحدين أو من لم يقم أركان الدين عنادًا وبغيًا بعد ان دعوناه فامتنع وأصر أو من جحد ما جاء به الرسول ﷺ من سائر الأمور الدينية والمغيبات الإيمانية.

الجمع بين حديثي من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وبين حديث لا يزني الزاني

(وأما قولكم قال ابن القيم ان الصحابة والتابعين لما رأوا تعارض الأحاديث مثل حديث حتى يقولوا لا اله إلا الله وحديث من قال لا اله إلا الله دخل الجنة وان زنى وان سرق، مع ان الجنة محرمة على الكافرين كما دلت عليه النصوص القرآنية مع هذه الأحاديث التي تقدم ذكرها من وصف من أتى بهذه المعاصي من عدم الحكم بما أنزل الله وترك الصلاة عامدًا وإتيان الكاهن وغيرها بالكفر مع ان مرتكب هذه الخصال مقر بالشهادتين معتقد لهما ذهبوا إلى تقسيم الكفر إلى القسمين المذكورين اللذين هما كفر اعتقاد وكفر عمل).

فنقول: أما كلام ابن القيم الذي قاله بفمه محبه بقلمه فهو ان الاعتقاد ما كان من وظائف القلب الشامل لعمله كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر وتصديق الرسول فيما جاء به وأخبر عنه، والعمل بمقتضى ذلك شرط في صحة الإيمان، أو ما يضاده من التكذيب أو الشرك أو عدم العمل به بعدم الحكم بما أنزل الله ان كان فيه رد لنص حكم الله عيانًا عمدًا، وترك الصلاة بالكلية عامدًا عنادًا. فالأول هو الدين الذي لا يقبل الله غيره. والثاني هو الكفر الذي ليس معه إيمان. فأما أعمال الجوارح الظاهرة كالزنا وشرب الخمر وإتيان الكاهن بلا تقديم لكلامه على كلام الرسول ومن لم يأمن جاره بوائقه وضرب أعناق بعض المسلمين بعضًا وعدم الحكم بما أنزل الله في الفروع التي ليست من أصل الدين مع الاعتراف بحكم الله في قلبه وقوله ومحبته واختياره وانقياده إليه فيهما وعدم المحافظة على الصلاة في أوقاتها فهذا وان أطلق الشارع على مرتكبه الكفر فلا يخرج عن الملة لحديث أبي ذر وغيره وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور مع قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وعلى هذا مضى سلف الأمة وخيارها وهم أعلم بمعنى كلام الله ونص رسوله ﷺ. فإن الصحابة والتابعين لما رأوا تعارض الأحاديث مثل حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وحديث "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وان زنى وان سرق" مع هذه الأحاديث التي تقدم ذكرها من وصف من أتى بهذه المعاصي كعدم الحكم بما أنزل الله وترك الصلاة عن وقتها عامدًا وإتيان الكاهن وغيرها بالكفر ونفي الإيمان عن الزاني والسارق والشارب مع ان الجنة محرمة على الكافرين كما دلت عليه النصوص القرآنية ومرتكب هذه الخصال مقر بالشهادتين معتقد لهما ذهبوا إلى تقسيم الكفر إلى القسمين المذكورين اللذين هما كفر اعتقاد وكفر عمل، فمنه يعلم معنى جعله ترك الصلاة بالكلية وعدم الحكم بما أنزل الله حيث كان فيه رد لنص حكم الله عيانًا عمدًا كفر عملي انه عني عمل القلب وهو عدم انقياده ومحبته لأوامر الله والعمل بها ظاهرًا وباطنًا، فأما ان كان قد جحد وأنكر شيئًا من أركان الدين فهو اعتقاد محض وان كان الترك مع الإقرار والاعتراف فهو من عمل القلب المحض، وعمله ملحق باعتقاده في عدم انقياده كما قدمه آنفًا فبذلك فارق أعمال الجوارح الظاهرة من سائر المعاصي التي لا تخرج عن الملة وتقسيم اسم الكفر إلى قسمين باعتبار أعمال الجوارح الظاهرة واعتقاد القلب الشامل لعمله، ولأن قوله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" دليل على انه لا بد من إقامة حقها ومن أعظمه أقام الصلاة وإيتاء الزكاة كما تقدم عن الصحابة والتابعين، ولحديث ابن عمر بني الإسلام على خمس فعدّ منه هذين الركنين اللذين هما أعظم دعائمه بعد الشهادتين، وكذا الحكم بما أنزل الله فيما نص على حكمه عيانًا وتصديق الرسول ﷺ في كل ما جاء به وأخبر عنه والعمل بمقتضى ذلك شرط في صحة الإيمان المقتضي للإسلام وحديث من قال لا إله إلا الله دخل الجنة مطلق، والأحاديث التي وردت في الصلاة ونفي الشرك مقيدة وكذا الآيات، والمطلق يحمل على المقيد. وقد انعقد الإجماع على ان كلام الله وكلام رسوله لا يخالف بعضه بعضًا وانه لا يخرج أحد من المسلمين بعمل ذنب من غير استحلال له، فيا سبحان الله كيف يدلي علينا بكلام ابن القيم من لم يعلم حقيقة أمرنا وما أدلى به علينا فإنه يزعم انا نكفر بالذنوب وهذا توهم منه وجراءة وبهتان بلا خشية علام الغيوب فهو من القول بلا حلم والحكم بلا علم ومن تصدر لدعوى القول والقيل فإنما يطلب منه الدليل.

وإذا أقررتم بالكفر الاعتقادي وبالحكم به على المشركين فلما لا تحكمون به على هؤلاء الذين يعتقدون النفع والضر في المخلوقين من الأولياء أو من الشياطين وان الله أعطاهم وفوّض إليهم فهم ينفعون ويضرون ويقبضون ويبسطون وأنهم للخلق أولياء مع الله، ويشفعون فيما سئل منهم وفي الكون يتصرفون بل تعترضون علينا في رسائلكم ومقدماتكم وتقولون ان ذوى العقائد الذين اعتقدوا أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون في جلب ما طلب منهم ويفرون كما اعتقد أهل الجاهلية ذلك في الأصنام لكن هؤلاء جاهلون يقرون بألسنتهم أن لا إله إلا الله ونحن نقول أفلا ميزتم الفرق بين الفريقين إذ الأوّلون لم يعتقدوا ما اعتقده هؤلاء الآخرون من هذا الاعتقاد المنافي للدين والمثبت للفساد هذا لم يعتقده أحد ممن سلف من العباد، وإنما حدث من عمى القلوب والجهل في حقيقة ما هو من العبيد مطلوب، والأولون لم يعتقدوا إلا مجرد الشفاعة والتقريب في نبي أو ملك أو ما هو مصوّر على صورته ليشفع له ويقرب له من الرب المجيب ولم يشركوا في كل حين بل يشركون تارة في مجرد الشفاعة والتقريب، ويخلصون الدين تارة لله رب العالمين، واحراها وقت حاجتهم في كل شدة وغمة يخلصون له الدعوة التي سماها الله دينًا وقولهم لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك دليل على أنهم لم يعتقدوا فيه الضر والنفع والعطاء والمنع والتفويض وإنما اعتقدوا ما حكى الله عنهم في قوله: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أفلا نهيتم عن هذا الاعتقاد. وأنكرتموه على معتقديه حتى لا تكون فتنة ولا في الدين فساد. بل من نهى عنه أو عن منكر أقل منه نسب ذلك الناهي إلينا. وحصرت عقيدته علينا. فقيل له أو عنه وهابي أو عارضي أو شرقي. وإن كان نائيًا عنا ولم يعرفنا. أفلا أجبتم الداعي حين دعاكم إلى سبيل الرشاد. فإن القرآن ينادي وبآياته للسبيل المطلوب يهدي ويبدي وعلى المختلفين يحكم ويقضي. والسنة الغرّاء بما حكم به القرآن تحكم. ولمعانيه المرادة منه تعطي مبتغيها وتتم. ومن استمسك بالكتاب والسنة فقد غنم وسلم قال سبحانه وتعالى لحبيبه أفضل الخلق ﷺ معلمًا له أن يقول ما يدل على أن الخير والشر من عند الله، وأنه لا يقدر على جلبهما أو دفعهما إلا الله وحده: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلاَّ بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية وقال تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وقال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ } وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } وقال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } وقال تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } وقال تعالى لصفوة خلقه: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } وفي البخاري "أنه ﷺ قنت على حي من العرب المشركين يدعو عليهم شهرًا" فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } وأما الرسول ﷺ فإنه مبلغ عن الله تجب محبته في القلوب على الأهل والنفس والمال والولد، وعلامتها اتباع شرعه وما جاء به، لا عبادته وجعله بمنزلة رب العالمين، فإنه لم يقاتل هو وصحابه ويعادي ويوالي ويهاجر من بلد مولده ويبارز عشيرته ويمثل بعمه ويرسله الله هو وسائر الرسل وتنزل الكتب إلا بسبب عبادة الله وحده لا شريك له ليكون الدين كله له، وغيره ﷺ من الأولياء من باب الأولى فإن الولى لا ينال الولاية ولا يؤتى الكرامة إلا بالتوحيد قولًا وعملًا واعتقادًا، والإخلاص في اتباع ما جاء به عن الله في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ وحاشاهم أن يرضوا بزعم من زعم أن لهم من الأمر شيئًا، بل هم أطاعوا الله واتبعوا رسله وأحبوه فأحبهم ورضي عنهم وأكرمهم كما قال جل ذكره: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } وأما الأمر فإنه كله لله فليس للخلق من دونه ولي ولا شفيع إلا من بعد إذنه كما قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } والنبي ﷺ وغيره من سائر الشفعاء لا يشفعون إلا من أذن الله لهم فيها لمن رضي عنهم. ولهذا إذا جاء سيد الشفعاء يوم القيامة يخر ساجدًا ما شاء الله فيقال له ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي ﷺ يومًا فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وان اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وفي رواية للترمذي: "احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. واعلم ان ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك. واعلم أن النصر مع الصبر وان الفرج مع الكرب وان مع العسر يسرًا" وكان من دعائه ﷺ: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". فهذا كله نص في أن الضر والنفع والاستعانة والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله لا يلتمس شيء من ذلك إلا من الله وحده، وان الخلق ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع إلا من بعد إذنه فلا يدعي بما لا يقدر علية أحد من المخلوقين إلا الله وحده، ولا يتوكل فيه إلا عليه ولا يرجى فيه إلا هو ولا يلتجأ إلا إليه إذ هو المعطي والشافع في القيامة فإنها إذا وقفت على إذنه كان الأمر كله له فحينئذ نقول اللهم إنا نسألك شفاعة نبيك ﷺ اللهم شفعه فينا، فالعبادة بأنواعها لله وحده ليس له شريك. ولذلك قدم المعمولين ليفيد تقديمهما حصر العبادة والاستعانة لمستحقها وهو الله تبارك وتعالى وحده في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقوله: { إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ } الآية وقوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وقوله: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ }. أفلا تدبرتم معاني هذه الآيات وما ورد في سياقها من الأحاديث. فانقدتم لعمل ما دعت إليه وأعلنت به ودلت عليه من ان الدين كله لله والأمر كله له. فحينئذ وقفتم على صحة عقيدة من نسب العامل بها وبمعانيها والناهي عن ضدها ومخالفيها إليه، إذا قيل له أو عنه وهابي أو عارضي أو شرقي كما قيل في الصدر الأول لمن تبع ما جاء عن الله وخالف من خالف أوامر الله أنه صابئ ومن وافق الحق تبع وان كان واحدًا ويسمى وحده أمة. كما قال الله عن إبراهيم حين خالف قومه فيما نهى الله عنه واتبع رضوانه وعمل بتوحيده: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وقد سمى الله تبارك وتعالى كلمة الإخلاص كلمة التقوى لأنها السبب لكل خير دنيوي وأخروي عكس كلمة الفجور، فإنها السبب في كل شر دنيوي وأخروي، ومن اكتفى بمجرد لفظها عن معناها فجانبه وعمل بضدها وهو الكلمة الخبيثة المنافية لاسمها ومسماها من كل فعل أو قول أو اعتقاد خبيث معناه يبطلها ويأباها فإنه قد عكس اسمها في اعتقادها ومنشئها إذ في زعمه أنه متى قالها مع قرينتها وهي الشهادة لمحمد بالرسالة فلا ينافيها من القول أو الفعل أو الاعتقاد مهما قال أو فعل أو اعتقد وهذا مناف لحقيقة الإسلام فزاع عن الإيمان لعدم استسلامه وانقياده للعمل في الدين الذي قال الله عنه: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وإذا فقد العمل بمعنى هذه الكلمة الطيبة ووجد العمل بضدها الشامل للقول أو الاعتقاد عدمت بالكلية وان تلفظ بها وقالها باللسان إذ لا يجتمع متضادان في شيء واحد والمثبت له الإسلام في هذه الحالة جامع بين النقيضين وهو غير ممكن فلا أحد كائنًا من كان يجعل عبادة الله التي هي خاصة بجلاله لغيره تعالى من الخلق إلا كانت للشيطان وأعوانه كما قال جل ذكره: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } وقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْس } يعنى من إغوائهم في دار الدنيا.

(وأما حديث) أبي الدرداء أن رسول الله ﷺ قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب (فالجواب عنه من وجوه).

(أحدها): أن لفظ الحديث بيأس لا يئس وإذا كان اليأس جاء من قبل نفسه لأمر رآه من أمور النبوة وانتشارة الدعوة وإنزال التنزيل مع كثرة الإجابة في تلك المواطن فلا مانع من عبادته ولو بعد حين، وإنما يئس لما قام في ذهنه مما رأى مع حرصه على إغواء بني آدم.

(الثاني): ان اللعين كان يداخل الصور التي صوّرها المشركون ويكلمهم فيها كما قال جل ذكره: { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ } فلما نزل قوله تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } كسرت تلك الصور التي يكلمهم فيها يئس في نفسه ان يعبد كذلك، ولا منافاة ان من عبد الله فعبادته واقعة للشيطان لأن إياسه إنما هو بالنسبة إلى إعادة تلك الصور إلى ما كانت على صفتها الأولى.

(الثالث): انه يئس ان يعبد ظاهرًا بلا واسطة قبر أو تمثال كما عبد في غير الجزيرة كذلك فإنه قد وجد من عبد صورته استقلالًا.

(وأما بيان) الجزيرة فقال سعيد بن عبد العزيز والأصمعي وأبو عبيدة هي من ريف العراق إلى فدك طولًا ومن تهامة وما وراءها إلى طرف الشام عرضًا وقيل هي من أقصى عدن أبين اسم رجل إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى طرف الشام وقال الخليل إنما قيل لها جزيرة لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاط بها ونسبت إلى العرب لأنها أرضهم ومسكنهم ومعدنهم، وقال الإمام أحمد جزيرة العرب المدينة وما والاها وهو مكة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفيها وما والاها، وهذا قول الشافعي لأنهم لا من تيما ولا من اليمن، والآيات والأحاديث فيما ذكرنا كثيرة جدًا ولكن اتباع الهوى من أكبر البلوى ولا أشد ضررًا على الإنسان من ميل الهوى وإتباعه فيما يسخط الله تبارك وتعالى فانه قال عز من قائل: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله } عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما تحت ظل السماء إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من هوى".

(وأما قولكم وقد قسمه العلامة ابن الجوزي في النهاية إلى أربعة أقسام. كفر إنكار بأن لا يعرف الله تبارك وتعالى أصلًا ولا يعترف به. كفر جحود ككفر إبليس لعنه الله إذ كان يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه. كفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به حسدًا وبغيًا واستكبارًا واستحياء من قومه ككفر أبي جهل وأبي طالب واضرابهما. وكفر نفاق وهو أن يعترف بلسانه ولا يعتقد بقلبه).

فنقول: قد شاع وذاع وتقطعت به الاسماع وتواترت الأخبار وامتلأت الدواوين أن الكفر من حيث هو ينقسم في تعريفه إلى أربعة أقسام وكل قسم مغاير لقسيمه في المعنى الذي يسمى به وهذه الأقسام متفقة في حقيقة معنى الكفر وأصله من الستر ومنه سمي الليل كافرًا لأنه يستر الأشياء بظلمته وسمي الزراع كافرًا لأنه يستر الحب بالتراب والكافر يستر الحق بجحوده إياه.

(الأول كفر الجحود): وهو أن يكفر بما يعلمه في قلبه من أسماء الرب أو صفاته أو أفعاله أو دينه وأحكامه أو رسله أو ما جاء به من الحق فلا يقر به في لسانه ولا يعمل به في جوارحه وهذا كفر إبليس عليه اللعنة ومشابهيه الكاتمين الحق بعد علمهم إياه كاليهود ومشاكليهم من علماء السوء العاملين بالباطل والبهتان والقائلين الزور فيما جاء به القرآن وهم المجوّزون المنكر والعاكفون عليه والناهون عن المعروف وما يوصل إليه والصادون عن سبيل الله وما يقرب لديه. قال سبحانه وتعالى في حق أولئك: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وقال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } فكل من عرف الحق من الدين ولم ينقد إليه ولم يعمل به فهو كافر ككفرهم، وهو ملعون كما لعنوا، وقال تعالى في حق هؤلاء: { الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } وهذه شاملة الفريقين.

(الثاني كفر إنكار): وهو أن ينكر الله أو دينه أو رسله أو كتبه أو شيئًا مما جاؤا به في القلب واللسان.

(الثالث) كفر العناد وهو أن يعرف الحق بقلبه ويعترف به في لسانه ولكن لا يعمل به ككفر أبي طالب وأمثاله حين دعاه النبي ﷺ إلى الدين والعمل به من إيمان وغيره فقال: لو لا تعيرني قريش لأقررت بها عينك ولكن أذب عنك ما حييت وقال في النبي ﷺ ودينه أبياتًا يثني عليه بها وهي هذه:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ** وابشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينًا قد علمت بأنه ** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحًا بذاك مبينا

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ومقاتل نزل قول الله سبحانه وتعالى وهم ينهون عنه وينأون عنه في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى محمد ﷺ ويمنعهم منه وينائي بنفسه عن الإيمان بدينه أي يبعد نفسه عن العمل به حتى أنه اجتمع إليه رؤساء المشركين وقالوا: خذ شابًا من أصبحنا وجهًا وادفع محمدًا لنستريح منه فقال أبو طالب: ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم. ولما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلًا أكبرهم سنًا الوليد بن المغيرة، قال لهم: امشوا إلى أبي طالب فأتوا أبا طالب ومعهم أبو جهل وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وفد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا قد جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك وأنصفنا منه. فأرسل أبو طالب إلى النبي ﷺ فدعا به فقال: يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك فلا تمل كل الميل على قومك. فقال النبي ﷺ: "ماذا يسألوني" قالوا: ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال ﷺ: "أدعوكم إلى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم" أي تطيع، فقال أبو جهل: لله أبوك نعطيكها وعشرة أمثالها، فقال رسول الله ﷺ: "قولوا: لا اله إلا الله" فنفروا من ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلهًا واحدًا لظنهم أن الإله الواحد لا يسع الخلق ولا يصلون إلى قربه إلا بوسائط ورسائل يقربونهم إليه يتوكلون عليهم ويتقرّبون لديهم بشفاعتهم عنده، فهم يتألهونهم بقلوبهم بمحبتهم وتعظيمهم وإجلالهم وإكرامهم زاعمين أن ذلك فيه رضاء الله وانه تعالى أمر به كما قالوا في الآية الأخرى لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آباؤنا، لأن ما تألهوه إما نبيًا أو ملكًا أو صورة أحدهم فلذلك تعجبوا مما دعاهم إليه النبي ﷺ فقالوا ان هذا لشيء عجاب، أي عجيب والعجب والعجاب واحد كقول الرب: جل كريم وكرام وكبير وكبار وطويل وطوال وعريض وعراض. وانطلق الملأ منهم من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب الذي كانوا فيه وسماعهم من النبي ﷺ تلك الكلمة الطيبة يقول بعضهم لبعض: أن امشوا واصبروا على آلهتكم أي اثبتوا على عبادة آلهتكم يوصي بعضهم بعضًا في الصبر على ما هم عليه من الباطل وعداوة الحق أي اثبتوا على معتقداتكم لتقربكم إلى خالقكم لأنه قد أمركم بذلك ولهذا قال ان هذا لشيء يراد أي هذا الاعتقاد بالآلهة يراد منا لا محالة عن ذلك فان الخلق لا يسعهم الإله الواحد بل هم مأمورون بالأسباب الموصلة إليه وقيل معناه أنه لأمر يراد بنا وذلك أن عمر لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه عندهم قالوا: إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد لأمر يراد بنا وقيل يراد بمحمد يملك علينا فيتولى أمرنا وما نحن فيه، ولما كان الدين الذي لا يقبل الله غيره مخالفًا لعادتهم وعادة آبائهم قالوا: ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة هي ملة قريش وهي دينهم الذي كانوا عليه بلا أصل وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: يعنون النهاية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون ثالث ثلاثة ان بمعنى ما هذا إلا إختلاق كذب وافتعال ثم لما حسدوا بغيًا واستكبارًا عن الحق وإتباعه، قالوا: أنزل عليه الذكر من بيننا وليس بأكبرنا ولا أشرفنا قال الله تعالى: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } أي وحيي وما أنزلت على عبدي. والمراد به القرآن، وما أنزل لأجله، وهو التوحيد، بل لما يذوقوا عذاب، تهديد لهم أي سيذوقونه ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول ولصدقوا حيث لا ينفعهم التصديق، لأن لما تدل على عدم وقوع المنفي بها في الحال لا في الاستقبال.

(وإذا كان) معنى كفر العناد هو ان يعرف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين بما عرفه واعترف به فالعجب ممن يدلي علينا باعتراضاته ويزعم في مصنفاته ويقول في معتقداته ان الإيمان يكفي فيه مجرد التصديق فمتى وجد أغنى عن العمل ويسمى المصدق مؤمنًا وحيث ترك العمل فهو كافر كفرًا عمليًا لا يخرج عن الملة بل هو مسلم حكمًا وحقيقة، وهل هذا إلا تناقض فيما قاله أو ادعاه، ونقض لما أبرمه فيما حكاه فلله الحمد والمنة.

(الرابع): كفر النفاق وهو ان يعترف باللسان ويعمل بشرائع الإسلام ظاهرًا ولا يعتقد في القلب بل إما يكذب أو يستخف ولكن يعمل خوفًا وتلجئه فهو النفاق الذي صاحبه في الدرك الأسفل من النار وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله بواحد منها لا يغفر له بل هو مخلد في النار بنص التنزيل وأحاديث البشير النذير.

(وأما قولكم قال ابن القيم: وهذا الجمع والتوفيق بهذا التفصيل هو قول الصحابة وعليه الاعتماد لأن أمثال هذه المسائل لا تتلقى إلا منهم ولا تؤخذ إلا عنهم إذ هم الواقفون على اسرار الكتاب والأحاديث، والمتأخرون لما لم يفقهوا مرامهم افترقوا فرقتين فرقة أخرجت مرتكب الكبيرة عن الملة المحمدية وقضوا عليهم بالخلود بالنار وفرقة جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان فهؤلاء غلوا وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة والجماعة للطريقة المثلى والقول الأوسط حيث لم يخرجوهم عن الإيمان ولم يقضوا عليهم بالخلود ولم يجعلوهم بحيث لا تضرهم المعاصي وهذا هو الموافق للمنقول عن علماء الصحابة والتابعين من تقسيم الكفر إلى القسمين المذكورين) فنقول:

هذا مما قدمناه وقلناه والحق ما قاله ابن القيم، ولكن لا يخص بفهمه والعمل به إلا من سبقت له من الله الحسنى والمقام الأسنى والعناية الربانية والسعادة الأبدية، فإنه عنى بذلك ما عناه الأئمة الأعلام الذين هم مصابيح الهدى والدين من سائر الأنام، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم من أئمة الدين حتى البخاري ومسلم، كلهم على أن المسلم لا يكفر بذنب يفعله ولا يخرج به من الملة كالقتل والزنا وشرب الخمر وقوله لأخيه المسلم يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام وسائر أفعال المعاصي إلا الشرك بالله الأكبر، الذي لا يغفره تعالى كما حكاه بنص التنزيل، أو استحلال ما حرمه الله أو تحريم ما حلل، كما قدمنا الكلام فيه وعلى هذا دل الكتاب والسنة وبه نطق أولو العلم والحكمة قال تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ.. } إلى قوله.. { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فسماهم مؤمنين وجعلهم أخوة مع الاقتتال وبغي بعضهم على بعض، وقال تعالى في بيان الكفارة: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ولو أعتق مذنبًا أجزأ عتقه بإجماع أهل العلم. وقد ثبت الزنا والسرقة وشرب الخمر على أناس في عهد النبي ﷺ ولم يحكم عليهم بالكفر الموجب للردة ولا قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين بل جلد هذا ورجم هذا وقطع يد هذا وهو في ذلك يستغفر لهم ويقول: "لا تكونوا أعوان الشياطين على أخيكم". وفي البخاري: "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا يشرب الخمر يقال له عبد الله فأتى به شاربًا فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال رسول الله ﷺ: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" ولما أن ذو الخويصرة وهو رجل ناتئ الجبين غائر العينين كث اللحية وقال: يا محمد اعدل فإنك لم تعدل فأراد بعض الصحابة قتله فقال النبي ﷺ: "دعه إنه يخرج من ضئضىء هذا أقوام يحقر أحدًا صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" وهذا الحديث في الصحيحين وغيرهما فهذا العابد الظاهر العبادة هو ومن اتبعه لما جانبوا سنة رسول الله ﷺ واستغنوا بما معهم عنها وخالفوه وخالفوا الصحابة ودعوا إلى بدعتهم واستحلوا دماء من لا يوافقهم عليها أمر النبي ﷺ بقتالهم، وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم مثل عاد" وذلك الشارب الخمر لما كان محبًا للرسول ولسنته نهى ﷺ عن لعنه وقال: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله". فهذا يرد ما ذهب إليه المعتزلة والخوارج من التكفير بالذنوب ووجوب النار والتخليد لمن مات عاصيًا لمقلب القلوب. وكذلك المرجئة القائلون بأن الإيمان لا تضر معه المعصية، كما أن الكفر لا تنفع معه الطاعة، وترك الأعمال التي من الدين معصية لا تضر مع وجود التصديق القلبي إذ هو الإيمان عندهم ووجوده كاف عن غيره ولكل شبهة مستند إليها قد ذكرناها فيما تقدم، فهدى الله أهل السنة والجماعة للطريقة المثلى والقول الأوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل حيث لم يخرجوهم عن الإيمان ولم يحكموا عليهم بالخلود في النيران ولم يجعلوهم بحيث لا تضرهم المعاصي والاستغراق في الطغيان، لأنهم بقول الله ورسوله متمسكون وعلى قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان معتمدون ولمن خالفهم مجانبون إذ هم على أسرار الكتاب واقفون وبسنة نبيهم آخذون فلا تتلقى تلك المسائل وتؤخذ إلا عنهم ولا يهتدي المهتدي ويفوز المسترشد إلا بهديهم وإتباع سنتهم ومن جانبهم فقد أبعد وضل وأضل فإن انضاف إلى المجانبة الإعراض عن منهاج الرسول وما كان عليه هو وأصحابه ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.

(وأما قولكم قال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق).

فنقول: هذا بعينه ما قاله ابن القيم وغيره نقلًا عن الصحابة والتابعين من أن أعمال الجوارح الظاهرة كالزنا وشرب الخمر وإتيان الكاهن مع عدم تقديم كلامه على كلام الرسول، ومن لم يأمن جاره بوائقه، ومن لم يحكم بما أنزل الله من الشرائع التي منشؤها الفروع مع الانقياد لحكم الله في الأصول بالقلب والقول باللسان، وسائر المعاصي الظاهرة لا يخرج بها مرتكبها عن خطة الإسلام وان لم يسم مؤمنًا حقًا، فلا يقال عنه كافر حقًا فهاهنا كفر درن كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وظلم دون ظلم وفسق دون فسق، قال سفيان بن عيينة عن هشام بن حجر عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ليس هو الكفر الذين تذهبون إليه وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه طاووس قال: سئل ابن عباس عن قوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال: هو بهم كفر ولكن ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال في رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة، وفد تقدم الكلام فيه مستوفى عند قوله وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس في تفسير هذه الآية وأنه رضي الله عنه فصل تفصيلًا حسنًا قد ذكرناه عنه فيما سلف وقال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وهذا كله رد على المعتزلة والخوارج الضالين عن طريق الحق والصواب والجانحين عن طريقة أفضل الأحباب.

(ونحن ولله الحمد) على ما كان عليه النبي ﷺ معتمدون وبكلام الله آخذون ولمن خالفه مجانبون ومعادون والدليل على صحة ما قلناه واعتقدناه إنا لا نكفر إلا من كفره الله بنص التنزيل كالمتألهين غير الله من المخلوقين بدعائهم ورجائهم والتوكل عليهم وتفويض جميع أمورهم إليهم قولًا واعتقادًا والراضين بذلك المكفرينا بأمرنا بما أمر الله به ونهينا عما نهى الله عنه يجاهدوننا ويجعلون اليهود والنصارى أخف شرًا منا ومن إتباعنا وكذا الجاحدين من الدين ما علم بالضرورة انه منه عمليًا كان أو اعتقاديًا، ونجاهد على ذلك كله وعلى تقويم أركان الإسلام كما جاهد النبي ﷺ وأصحابه عليه بأمر الله له في آيات التنزيل كما قال جل ذكره: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } الآية فقدم تعالى التوبة من الشرك إشارة إلى أن الصلاة والزكاة وسائر أعمال البر لا تعتبر ولا يعتد بها إلا بعد وجود الأصل وهو التوحيد إذ هو كأصل الحائط أو أصل الشجرة وسائر الأعمال كفرعه وهو لا يثبت إلا على أصل فلا يستقيم بدونه ولا يتم إلا به قال سبحانه وتعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فإن حكمتم على ان من جعل بعض الدين لله وبعضه لغيره بأنه عاص لا كافر حقيقة، وقد جنحتم وكيع عن إجماع سلف الأمة في أن المشركين الأولين الجاعلين بعض الدين لله وبعضه لغيره ومن شاكلهم ممن اعتقد اعتقادهم وعمل عملهم مستوجبون للكفر حقيقة وان من اعتقد انهم على صواب أو هدى أو شك في كفرهم فهو مكذب لقول الله طاعن في رسالة محمد ﷺ وان حكمتم بكفره فلما لا تحكمون به على من اتخذ من دون الله وليًا ونصيرًا وشفيعًا يدعوه ويرجوه ويتوكل عليه قال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }

وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } فتعلمون عقيدتنا وحقيقة أمرنا ونهينا ولا تدلوا علينا بكلام هؤلاء الأئمة الأماثل والجهابذة الأفاضل لأن ذلك إنما يلزم به أهل الأهواء من ذوي العقائد الفاسدة الراكسين في المخالفة للنصوص الشرعية والآيات القرآنية لكن من لم يميز الدين ويعرفه عين اليقين عميت بصيرته وأظلمت سريرته فلا حيلة فيه إذا رفعت الشكوى وعمت البلوى.

(وأما قولكم وقال ابن القيم الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه فان الله سمى من حكم بغير ما أنزل الله كافرًا ظالمًا في قوله تعالى: { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وسمى متعدي حدود الله في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا فقال: { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وقال يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وقال صفيه آدم ربنا ظلمنا أنفسنا، وقال كليمه موسى عليه السلام: رب إني ظلت نفسي فاغفر لي ومعلوم يقينًا ان هذا الظلم ليس كمثل ذلك الظلم).

فنقول: كل كافر ظالم ولا عكس لأن قوله تعالى: { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } مبتدأ محصور في خبره أي ولا ظالم أظلم ممن وافى ربه يومئذ كافرًا وتد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ولم يقل والظالمون هم الكافرون، ومتعدي حدود الله في النكاح بالمضارة، أو نكاح ما لا يحل نكاحه، انشاء، أو رجعة، والطلاق فيطلق لغير السنة أو لها، حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، ثم إذا قرب انقضاء عدتها راجعهاه، ثم طلقها مضارة لها، والخلع فيضارها بمنع حقها لتفتدي منه وكل من فعل كذلك فقد ظلم نفسه، أي أثم فيما بينه وبين الله وان أبدى للناس حاله عكس ما أخفاه عنهم، وقول يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أي في ذهابي مغاضبًا لقومي بلا إذن من ربي ففي نسبة الظلم إلى نفسه اعتراف منه بأنه عمل خلاف الأليق به فان العبد إذا أرسله سيده بأمر وجعله في وظيفة على عبيد لسيده فغاضبوه وامتنعوا من أمره لا ينبغي له الاستعجال والمغاضبة لهم والذهاب عنهم بلا مراجعة من سيده فهو عليه السلام قد فهم ذلك وتذكره بعد ذلك فلام نفسه ورجع إلى ربه مستدركًا ما فات منه من التقصيرات بمناداته في تلك الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وهذه رتبة الخواص الفزع عند الشدائد إلى مالك الناس بالإخلاص ولهذا كان نبينا ﷺ يفزع عند كل شدة إلى الصلاة. والظلم تارة يأتي بمعنى الإثم الذي هو أعم من المعاصي والكفر كما تقدم، وتارة يأتي بمعنى خلاف الأولى كقول يونس صلوات الله وسلامه عليه سبحانك إني كنت من الظالمين، وقول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا. وكما جاء في الحديث الذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء إعرابي إلى النبي ﷺ يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثًا ثلاثًا وقال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم" رواه أحمد والنسائي وابن ماجة فسمى خلاف الأولى ظلمًا. وقد صح في السنة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ قال: "دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وعنه أيضًا قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب. وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى" قلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين قال: "هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها ألم تسمع قول الله تعالى ننجي المؤمنين" فالإيمان شرط من الله لمن دعاه بهذه الدعوة إذ قد يقولها وهو يوجد المنافي لها قولًا أو عملًا أو اعتقادًا فليس عنده منها إلا مجرد لفظها وكانت هذه الدعوة مفزع الأنبياء، أخرجه ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة وقول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا فيه الاعتراف بمخالفة النهي وفعل خلاف الأولى وأنه فعل المنهي عنه لا عن عمد وإنما هو ظان أن النهي لا يقتضي التلزيم باجتناب المنهي عنه لأن الغار له أقسم بالله على ذلك فظن أن لا أحد يقسم بالله كاذبًا فنسب التقصير والظلم إلى نفسه وما أحسن الاعتراف بالذنب والتقصير من العبد لسيده وان أبعد اللوم عنه ظاهرًا والعبد إذا ازداد قربه من سيده ازداد خوفه وخشيته ورغبته ورهبته منه وعد ما جرى من غير اللائق به ذنبًا وان لاق بغيره ممن هو ليس في درجته ولذلك كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال موسى عليه السلام: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فسؤاله المغفرة واعترافه بظلم النفس على جهة طلب الكمال، وان اللائق به كان خلاف ما فعل من الاستعجال بقتل القبطي وإلا فمجرد قتله جائز فإنه عدو للدين حربي للاسرائيلين لكن كان الأولى في حق موسى تأخر قتله لينصحه ويعظه بما قاله رب العالمين، فتسميته من عمل الشيطان للاستعجال بقتله، وتسميته ظلمًا من حيث حرمان ثواب المندوب، وقال اعترافًا وانقطاعًا إلى الله فيما هو إليه محبوب وان لم يكن ثم ذنب البتة. والاستغفار منه بمعنى طلب المغفرة بترك هذا المندوب لعمله عدم الأولى المطلوب، ومن المعلوم يقينًا عند كل عاقل ان ظلم الكفر ليس كظلم المعاصي، وظلم العبد المنيب ليس كظلم العبد الجافي، فالظلم مختلف، كما أن الكفر أنواعه مختلفة، وهذا لم يقع فيه نزاع بين علماء أهل السنة، إنما القصد الكلي والفائدة العظمى طلب ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة ومعرفة ما أراد بذلك الإنزال والإرسال وما طلبه من عبيده فما خلقهم لأجله وأمرهم به ونهاهم عن ضده ورتب على وجوده رضاه ورحمته والخلود في جنته وعلى عدمه والعمل بضده غضبه وسخطه وحرمان رحمته والخلود في ناره وغضبه وتضعيف عذابه وكل ما يحتاج إليه الناس في دينهم فقد بينه الله ورسوله بيانًا شافيًا، ثم إذا عرف ما بينه الكتاب وقاله الرسول، نظر في أقوال الخلق فعرضت على الكتاب والسنة فما وافق قبل، وما خالف نبذه، فهذا هو سبيل الهدى والسنة والعلم والحكمة، وهو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم من الأئمة الأعلام إلى آخر الزمان، وأما سبيل الضلال والبدعة والجهل فعكس ذلك تجد المبتدع بدعة إما مخرجة عن الدين بالكلية، وإما ليست أصليه منه ولا فرعية بل من رأى رجال وتأويلاتهم، أو من دسائس الشيطان وتحسيناتهم أنها من الدين ومما يقرب إلى رب العالمين، لم يجعل ما جاء به الرسول أصلًا وفرعًا فيعرض عليه سائر ما هو عامل بل يحرف الألفاظ ويتأولها على وفق ما هو له أصل رفي نفس الأمر لا يعتمد على ما جاء به الرسول ولا يتلقاه منه بالهدى ولكن يتأول منه ما يوافق بدعته ليجعله له حجة كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه وقد قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَة } التي من أعظمها الشرك وابتغاء تأويله وقال ﷺ فيما خرجاه في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد".

(والأعمال قسمان) عبادات ومعاملات. فأما العبادات فكل ما كان خارجًا عن كلام الله ورسوله بالكلية من قول أو اعتقاد أو فعل فهو مردود على عامله ويدخل تحت قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } فمن تقرب إلى الله بما لم يجعله الله ورسوله قربة فعمله باطل مردود عليه وشبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، وان تلك القربة المعتقدة كقربة الأولين فهي أعظم بعدًا عن الدين، وأبغض معصية إلى رب العالمين، وهذا مناف له من أصله فلا يوجد معه أبدًا كالذين يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانًا ويقولون على الله ما لا يعلمون، وهم الجاعلون بينهم وبين خالقهم وسائط ووسائل من خلقه يدعونهم ويرجونهم ويلوذون بهم ويتوكلون عليهم ليشفعوا لهم عند مليكهم في قضاء حوائجهم ومع ذلك يقولون: الله أمرنا بهذا فهو يرضى به، ويحتجون بقوله تعالى: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } ولم يتأملوا أحوالهم وما هم فيه من العقائد الفاسدة والحجج العاطلة فتستنير قلوبهم لمعناها وإنها الأعمال الصالحة لا سواها بل واسطتهم تلك هي معنى الإله المذكور في قوله تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } ذكره المفسرون في كتبهم نقلًا عن البشير النذير، وان كانت غير ذلك كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ولا رسوله التقرب بها إليه بالكلية فهي من دسائس الشياطين لتنال الحظ الوافر من العاملين وليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا فقد رأى النبي ﷺ رجلًا قائمًا في الشمس فسأل عنه فقيل انه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وان يصوم فأمره النبي ﷺ أن يقعد ويستظل وان يتم صومه فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرها، وقد روى ان ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي ﷺ يخطب اعظامًا لخطبته ﷺ ولم يجعل النبي ﷺ ذلك قربة يوفي بنذره مع ان القيام عبادة في موضع آخر كالصلاة والأذان والقيام بعرفة والبروز في الشمس قربة للمحرم فدل على أنه ليس كل ما كان قربه في موطن يكون قربة في كل موطن إنما يتبع ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها كمن صام يوم العيد أو صلى وقت النهي.

(وأما المعاملات) كالعقود والفسوخ ونحوها فما كان منها تغير للأوضاع الشرعية كجعل حد الزنا عقوبة مالية وما أشبه ذلك فانه مردود من أصله لا يقبله الله لأن هذا غير معهود في الإسلام ويدل على ذلك ما روى البخاري في صحيحه ان النبي ﷺ قال للذي سأله ان ابني كان عسيفًا على فلان فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم فقال النبي ﷺ: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قال: فاعترفت فأمر بها رسول الله ﷺ فرجمت") وبتأمل ما ذكرناه يعلم اختلاف الظلم كما يعلم اختلاف الكفر وان كل كافر ظالم ولا عكس.

(وأما قولكم وسمى الله الكافر فاسقًا في قوله: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } الآية، وسمى المؤمن فاسقًا في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط على قول الأكثر في قوله تعالى فيمن رمى المحصنات { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } والآيات كثيرة في الأمرين).

فنقول هذا من كلام ابن القيم أيضًا وأصل الفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، قال الله تعالى في حق إبليس عليه اللعنة ففسق عن أمر ربه أي خرج، وكل كافر خارج من الطاعة فهو فاسق ولا عكس، وان سمي فاسقًا إذ الفسق أعم من الكفر وهو أخص وبينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة الكفر، وينفرد الفسق عنه، ولذلك سمى الله سبحانه وتعالى المؤمن العاصي فاسقًا في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله ﷺ جابيًا للصدقات على بني المصطلق فلما قاربهم وسمعوا به اجتمعوا فهابهم وخاف على نفسه بسبب عداوة كانت بينهم في الجاهلية فلما خاف الوليد ورجع مخبرًا لرسول الله ﷺ بمنعهم الزكاة وارتدادهم غضب النبي ﷺ وهم بهم فجاؤا معتذرين مكذبين للوليد فأرسل إليهم رسول الله ﷺ خالد بن الوليد آمرًا له أن ينظر في أمرهم فان رأى خيرًا أخذ الزكاة وان رأى أمارات غيره فعل بهم كفعله بالكفار، فرأى الخير بسماعه لأذاني صلاة المغرب والعشاء فأخذ الزكاة منهم وأنزل الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } الآية فاستفيد ان المخبر بشيء لا يعمل بخبره إلا بعد التثبت ومن هنا قيل ان النميمة تمنع قبول خبر النمام لأنه بمجردها يفسق بها لأنها كبيرة إلا أن تكون مصلحة للدين وقمعًا لأعدائه المعاندين إذا سبوه واستهزؤا به أو تعدوا وظلموا فيه فقد يجب رفع خبرهم إلى الإمام أو نائبه لأن النبي ﷺ رفع إليه خبر العرنيين، وقيل نزلت الآية في الحكم بن أبي العاص وهو مؤمن أيضًا، والأول عليه الجمهور، واتفقوا على فسق قاذف المؤمن لأن الله سبحانه سماه فاسقًا ما لم يتب، ولا يلزم من تسمية فاعل المعصية فاسقًا كفره لما تقدم أن كل كافر فاسق ولا عكس، ولأن الله سبحانه سمى المؤمن العاصي فاسقًا ولم يحكم عليه النبي ﷺ بالكفر مع وجود فسقه، كما لا يلزم من وجود الظلم الكفر بخلاف العكس قال تعالى: { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقال تعالى: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } الآية وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ } والآيات في هذا الحد كثيرة فليس فسق العاصي كفسق الكافر، كما ليس ظلم الأول كظلم الثاني، فالكفر كفران والفسق فسقان، والظلم ظلمان، وكذلك الجهل جهلان، باعتبار الكفر والإيمان.

فالأول كما في قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }.

والثاني كقوله تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ }. وباعتبار حقيقته إلى مركب، وهو فهم المعنى بالعكس على غير المراد منه مع التصميم على ذلك وادعاء العلم به، وبسيط، وهو الغفلة عن المعنى مع عدم ادعاء علمه.

(وأما قولكم والشرك أيضًا شركان شرك ينقل عن الملة وشرك لا ينقل عنها وهو الأصغر وهو شرك العمل كالرياء قال الله في الأكبر { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } وفي الأصغر { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ومن الأصغر حديث من حلف بغير الله فقد أشرك لا يخرج عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار).

فنقول: أصل دين الله وقاعدته الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وشرع الجهاد لأجله وجعل الجنة والنار بسببه والذل والصغار على من خالفه إنما هو أمران.

(الأول) توحيده سبحانه بالقيام بعبادته له تعالى وحده لا شريك له وهو إخلاصها بأنواعها لجلاله وعظمته المختصة بألوهيته قال سبحانه وتعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } وقال تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وقال: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } وقال تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتكفير من تركه.

(الثاني) الكف عن الشرك والنهي والإنذار عنه والتغليظ فيه، والمعاداة به، وتكفير من فعله، والبراءة منه، وعدم مودته وموالاته من دون الله، وان كان قريبًا من العشيرة قال الله سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وقال تعالى: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } والمخالفة في هذين الأمرين (أنواع) أشدها المخالفة في كليهما، والخلق قد افترقوا فيهما فرقًا:

(فمنهم) من عبد الله وحده لكنه لم ينكر الشرك وهو يعرفه.

(ومنهم) من أشرك ولم ينكر التوحيد.

(ومنهم) من أنكر الشرك لكنه لم يعاد أهله، بل والاهم من دون المؤمنين أو جعل رتبتهم كرتبة أهل التوحيد محتجًا بأن الكل خلق الله.

(ومنهم) من عاداهم لدنيا أو عصبية لا لشركهم ولم يكفرهم ولم يعب عليهم فيه.

(ومنهم) من لم يحب التوحيد ولم غضه وإنما هو تابع فيه غيره سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته.

(ومنهم) من أنكره ولم يعاد أهله.

(ومنهم) من عاداهم لمخالفتهم أهل الأهواء المتبع لهها مع عدم شعوره ولم يكفرهم.

(ومنهم) من كفرهم وأنكر التوحيد بعد أن عرفه وسبه وأهله.

(ومنهم) من لم ينكره لكنه كفر أهله الآمرين به والناهين عن ضده.

(ومنهم) من لم يبغض الشرك ولم يحبه بعدم تمييزه عن ضده.

(ومنهم) من لم يعرف الشرك من أصله فلم ينكره وفعله.

(ومنهم) من لم يعرف التوحيد وأنواع العبادات فلم يقل به مؤديًا حقه.

(ومنهم) من قاله بلسانه ولم يعمل به ولم يعرف معناه في قلبه ولا قدره فلم يعاد أهل الشرك ولم يكفرهم.

فهذه ثلاثة عشر فرقة كلها قد خالفت ما جاءت به الرسل من دين الله وتوحيده وأشدهم مخالفة من عرف بتوحيد الله ودينه فأنكره وكفر أهله، ثم من عرفه ولم ينكر لكنه كفر أهله وعاداهم، سم من قال التوحيد بلسانه ولم يعمل به في اعتقاده ولم يعرفه ولا قدره ولم يسأل عنه أهل معرفته بل تسافه عنه مستغن برأيه، ثم من جعل رتبة أهل الشرك كرتبة أهل التوحيد، فهذا من أعظم الجور والبهتان في حكمه حيث جعل المشركين في رتبة الموحدين { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ثم الباقي سواء في المخالفة.

(واعلم) ان أمر الله تبارك وتعالى شرع شرعه وقدر قدره ولا يتم الإيمان بأحدهما إلا بالآخر ولا يدرك أمره تعالى ليتمثل ويعمل به إلا بتأمل معاني كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ثم الشرك من حيث هو) ينقسم إلى اكبر غير مغفور وإلى أصغر لا يقبله الملك الغفور. فمن الأوّل ما يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومنه ما يتعلق بعباداته ومعاملاته مع اعتقاد انه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. والذي يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله نوعان:

(أحدهما) شرك التعطيل وهو أقبح أنواعه كشرك فرعون إذ قال وما رب العالمين، وقال لهامان ابن لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين.

والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقرًا بالخالق سبحانه وسائر صفاته لكنه لما عطل أصل التوحيد الواجب على العبيد الذي لا ينبغي ولا يكون إلا لله وحده فشرك فيه غيره صار مشركًا بذلك، وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل (وهو ثلاثة أقسام).

تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه.

وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله.

وتعطيل معاملته تعالى عما يجب على العبيد من حقيقة التوحيد وهو إخلاص جميع أنواع العبادة والدين لله، فإذا أشرك غير الله في ذلك فقد أشرك شركًا غير مغفور إلا بالتوبة عنه وهذا المشرك مقر بالخالق وصفاته وأسمائه معطل لمعاملته المختصة بجلاله ولا يدخله في الإسلام إقراره ولا ما نفى من الآلهة لسانه لتعطله ما وجب عليه من حقيقة التوحيد يجعله ما يختص بجلال الله لغيره من العبادات المتأله بها من جعلت له، لاحظ المعنى في ذلك الجاعل أو لم يلاحظه، فأما تعطل المصنوع عن صانعه وخالقه فهو كشرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوما أصلًا بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب وسائط اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس، ومنه شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ومخلوق ولا ههنا شيئان بل المنزه هو عين المشبه، ومنه شرك القدرية القائلين بأن الحيوان يخلق أفعال نفسه وأنها تحدث بدون مشيئة الله، ولهذا سمادهم رسول الله ﷺ مجوس هذه الأمة لأن شرك المجوس إسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة. وفي القرآن العزيز ما يرد عليهم كقوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } فالله هو الخالق للأشياء كلها والعبد مكتسب لا خالق وله اختيار في أفعال نفسه لا تقع إلا بهواه وميله إليها ولذلك يحاسب عليها مع كونها بتقدير الله وإرادته فلا يحتج بالقدر لما فيها من الرد على منشيء البشر.

(وأما محاجة آدم موسى) فإنما هي لتسليم الأمر، وله تعالى الحجة البالغة ولو شاء لهدى الناس أجمعين، وهو تعالى حكم عدل لا يؤاخذ إلا بالذنب، ولا يعاقب إلا عليه، وله تعالى أن يجعل الخلق كلهم مذنبين فيعذبهم عدلًا منه، وله أن يجعلهم سعداء طائعين فيرحمهم فضلًا منه، وقد ركب سبحانه في الإنسان عقلًا وجعل آلة الإدراك يميز به الأشياء الضارة من النافعة فضلًا منه تعالى ورحمة فهو لا يسئل تعالى عما يفعل وهم يسئلون، وهو الملهم للخير والشر قال جل شأنه: { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وقال: { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } وكل ميسر لما خلق له، وعلى الإنسان الاجتهاد في طاعة خالقه ما استطاع وسؤال التوفيق والإرشاد إلى الصراط المستقيم.

(وأما تعطيل) الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله فهو شرك الجهمية والقرامطة لم يبقوا له تعالى اسمًا ولا صفة بل جعلوا المخلوق أكمل منه تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها.

وأما تعطيل معاملته تعالى عما أوجبه تعالى على عبيده فهي قسمان.

قسم يخرج عن الملة وهو نفي تفرده تعالى بملك الضر والنفع والعطاء والمنع والاستغاثة والقرب، ودعاء العبادة، والخوف المحض بجلاله المعلق على وجود الإيمان، والرجاء والالتجاء، والتوكل، وذبح القربان، والإنابة، والخضوع، والتوبة، والاستعانة، وهذا المشرك المعطل قد ساوى التراب برب الأرباب، والعبيد بمالك الرقاب، والفقير بالذات الضعيف بالذات العاجز بالذات المحتاج بالذات الذي ليس له من ذاته إلا العدم بالغنى بالذات القادر بالذات الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته فلا ظلم أقبح من هذا ولا حكم أشد جورًا منه حيث عَدَل من لا عدل له بخلقه كما قال جل ذكره: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وعطل حق الله تعالى المختص بجلاله فجعله لغيره بمشاركته بين الله وبين عبده في محض حقه تعالى من الدعاء بما لا يقدر عليه إلا من أمر بسؤاله، وتوعد على ترك طلب أفضاله والإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخشوع والخوف والرجاء والالتجاء والتوكل وذبح القربان ضد أشرك بينه تعالى وبين أبغض الخلق إليه وأهونهم عليه وأمقتهم عنده إذ هو عدوه على الحقيقة، فإن المشرك مطلقًا إنما عبد غير الله وما عبد من دون الله إلا شيطانًا مريدًا كما قال جل ذكره: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشيطان، وهم يظنون أنه يعبدون الملائكة. كما قال عز وجل: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } فلا أحد كائنًا ما كان يعبد غير الله إلا وقعت عبادته للشيطان نفسه، واللعين يدعو المشركين إلى عبادته ويوهمهم أنه ملك أو ولي وقد يتصور على صورة المستغاث به والمدعو فهو كثيرًا ما يتراآي لأوليائه إبليس للإيهام والتلبيس فيزداد المشرك في شبهه بواسطة القبر أو التمثال رغبة ورهبة وكذلك عباد الشمس والقمر والكواكب يزعمون أنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج، ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها شيطان فيسجد لها الكفار فيقع سجودهم له وهكذا عند غروبها، وكذلك من عبد المسيح وأمه وعزيرًا والأنبياء والصالحين وتعلق عليهم يدعوهم ويرجوهم ويتوكل عليهم ويلتجئ إليهم ويقرب لهم وينذر لهم ليدفعوا عنه ضرًا أو يجلبوا له خيرًا فإن ذلك كله واقع للشيطان نفسه لا لهم، بل هم بريؤون منه ومن عبادته وسيتبرأ منهم بمعنى أنه يتبرأ من عبادته إياهم ويتمنى الكرة إلى الحياة الدنيا ليعمل غير الذي كان يعمل قال جل ذكره: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } وهذا العابد يزعم أنه يعبد من أمره بعبادتهم ورضيها لهم وأمرهم بها فهم يقربونه إليه وهذا هو الشيطان الرجيم لا عبد الله أو رسوله أو نبيه أو وليه فنزل هذا كله على قوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } فيستمتع هذا العابد بالمعبود كما يستمتع المعبود بالعابد قال عز من قائل: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ } أي من إغوائهم وإضلالهم: { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ومن أجل ذلك كان الشرك بالله أكبر الكبائر على الإطلاق، وانه تعالى لا يغفر أن يشرك به بغير توبة منه وكف عنه، وانه يوجب الخلود في النار وليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه، بل قبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح. يوضح هذا أن العابد معظم متأله خاضع ذليل له خائف منه، والرب تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحق التأله بكمال التعظيم والإجلال والخضوع والذل والخوف والرجاء والالتجاء والتوكل والدعاء بما لا يقدر على وجوده أو دفعه إلا هو تبارك وتعالى، وذبح القربان وحلق الرأس عبودية وتواضعًا هذا خالص حقه سبحانه، فمن أقبح الظلم أن يعطي حقه لغيره أو يشرك بينه وبين غيره فيه ولاسيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه كما قال تعالى: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ } الآية أي إذا كان أحدكم يأنف من ان يكون مملوكه شريكه في رزقه الذي جعلته له فيكف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به وهو الألوهية التي لا تنبغي لغيري ولا تصلح لسواي، فمن زعم ذلك فلا قدرني حق قدري ولا عظمني حق تعظيمي، ولا أفردني فيما أنا منفرد به وحدي، وقال جل ذكره: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } أي العابد والمعبود، وهذا حال كل من جعل عبادة الله المختصة بجلاله وعظمته لغيره فهو ضعيف هو ومعبوده إذ الكل فقير إلى الله محتاج إليه كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } فاعتماد العبد على المخلوق ودعاؤه إياه بما لا يقدر عليه إلا الله وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولا بد فالحاصل له عكس ما أمله منه، فلا بد من الخذلان كما هو ثابت بالسنة ونص القرآن ومعلوم بالاستقراء والتجاريب قال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } وقال تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ }

قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي يغضبون لهم ويحاربون كما تغضب الجند وتحارب عن أصحابهم وهم لا يستطيعون نصرهم بل هم كل عليهم، كذلك كل بنية على قبر كل على عابديها وسادينها المعتقدين الضر والنفع والتقريب والتبعيد بما فيها لوضعهم التوابيت وتغشيتها بالستور وإيقاد السرج وفتح الباب وغلقه عن لص القبور والهتف بذكره عند الشدائد وبذل النذور ليدفع ما حل بهم من البؤس والشرور قال سبحانه وتعالى: { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } وقال تعالى: { لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } وقال تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي غير تخسير، ولما كان المشرك يرجو بشركه النصر تارة والتقرب أخرى، والحمد والثناء تارة، والشفاعة له أخرى، أخبر سبحانه وتعالى ان مقصوده ينعكس عليه فلم يحصل له إلا الخذلان والذم وحرمان ما أمله قبل لعدم الرضا عنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشبته مشفقون، وكما يستحيل على ذاته تعالى العدم، يستحيل عليه ان يشرع عبادة إلى غيره، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله، كيف ظن فيمن تفرد بالربوبية والألوهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضي به تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، فان من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع والاستغاثة والقرب والكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها بأنواعها له تعالى مختصة بجلاله، لكن هذا انما ينشأ من نتيجة العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما وهما غاية الحب مع غابة الذل وهو تمامها وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه وهذا من المحال ان تجيء به شريعة من الشرائع بل قبحه مستقر في كل فطرة وعقل. لكن غيرت الشياطين فطر أكثير الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم وأحالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فقد أرسل تعالى رسله وأنزل كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورًا على نور يهدي الله لنوره من يشاء، بحلاف من أعطى حبه وخضوعه لغير الله فهو في ظلمة الضلال { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وهم لم يسوّوهم به في الخلق والرزق والتدبير والضر والنفع أنما سوّوهم به في الحب والذل والخضوع ليقربوهم إلى المولى على خلاف ما هو مشروع. قال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ومن كان في هذه الظلمات فلا ينظر إلى الآفات في جميع الأوقات ولا يعرف الطريق الموصل إلى الآيات البينات فليس له تأمل ولا تدبر ولا تذكر ولا تفكر فيما ينجيه ولا مخافة مما يرديه، قد غره الأمل وصار كما قال عز وجل: { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ }.

(النوع الثاني) من الشرك الذي يتعلق بذات المعبود شرك النصارى الجاعلين معه إلهًا آخر لكنهم لم يعطلوا أسماء الرب ولا صفاته ولا ربوبيته، بل جعلوه ثالث ثلاثة فجعلوا المسيح إلهًا وأمه إلهًا إنما جعلوا ذلك لأن أول الإنجيل باسم الأب والأم والابن، كما أن أول القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، فظنوا أن الأب والأم والابن عبارة عن الزوج ومريم وعيسى، فحينئذ قالوا ان الله ثالث ثلاثة، ولم يعلموا ان المراد بالأب هو الاسم وبالأم كنية الذات المعبر عنها بماهية الحقائق وبالابن الكتاب وهو الموجود المطلق لأنه فرع ونتيجة عن ماهية ما في اللوح المحفوظ، واليه أشار قوله تعالى: { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ومنه شرك عباد الشمس والنار وغيرهم فمن هؤلاء من يزعم ان معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة وانه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم ان معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله عز وجل، فتارة تكثر تلك الآلهة إلى الله عز وجل، وتارة تكثر تلك الوسائط المتخذة وسيلة إلى المقرب، وتارة تقل، فهم قد جعلوا الشرك سببًا في تحصيل بعض مقاصدهم وكل سبب لم يأذن به الله باطل مضر لمتخذه فلا يتعاطى. وإذا حقق المؤمن ان الله سبحانه رب كل شيء وخالقه ومليكه فانه لا ينكر ما خلقه الله تعالى من الأسباب كما جعل المطر سببًا للنبات قال الله تعالى: { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ } والشمس والقمر سببًا لما بخلقه بهما والدعاء سببًا لما يحصل للمدعو له أو عليه والدواء سببًا لذهاب الداء، قد نبه على ذلك النبي ﷺ بقوله: "لم ينزل الله داء الا أنزل له شفاء" يعني دواء علمه من علمه وجهله من جهله"، رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أسامة بن شريك عن النبي ﷺ وفي لفظ "ان الله لم يضع داء إلا وضع له دواء أو شفاء إلا داء واحدًا" قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: " الهرم" وهذا يعم داء القلب والروح والبدن وأدويتها فقد أرشد ﷺ العرنيين لما شكوا له الوخم ووجع البطن أن يلحقوا ابل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها وجعل الجهل داء ودواؤه سؤال العلماء. (قال رسول الله ﷺ في قصة صاحب الشجة: "قتلوه قتلهم الله الا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال") كما أن وجود الداء سبب للألم، روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف عن النبي ﷺ أنه قال: "العين حق ولو أن شيئًا سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا" وكذا السحر قال تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه } فهو سبب لألم الفؤاد ويوجب البغضاء والفرقة بين الزوجين، والنار سبب للإحراق، والسكين سبب للقطع، والحبل سبب لإظهار الماء في الدلو، وأكل الطعام سبب لذهاب ألم الجوع، وشرب الماء سبب لذهاب ألم العطش، والكدح بالاجتهاد في تحصيل العلم سبب للفهم، والمتاجرة بالمال سبب لفائدة الربح، وطاعة الله سبب لرضائه ورحمته، ومعصيته سبب لسخطه وانتقامه، فالأسباب المنصوص عليها لا تنكر ولا يتكل عليها إذ في إنكارها نقص في العقل وفي الاتكال عليها شرك في الدين وكل من الإنكار والاتكال منتف شرعًا لكن قد يتخلف المسبب عنه مع قيام السبب إذ الضار والنافع والمعطي والمانع هو الله وحده قال تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } وقال تعالى: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } وكتخلف إحراق النار عن إبراهيم عليه السلام حين وضع فيها، وحدة السكين حين أمرّها الخليل على حلقوم ولده إسماعيل عليهما السلام، ولا محيص عن الأخذ في الأسباب فليس المتوكل من فتح للسارق الباب، ولا من قال أنا متوكل أستغني عن الطعام والشراب. قال أفضل الأحباب لمن سأل أيعقل الناقة أم يتكل: "اعقلها وتوكل". وأفضل المتوكلين أشد عباد الله حرصًا على فعل الأسباب فقد أمر بإطفاء السراج والتسمية وإغلاق الأبواب ونفض الفرش وطي الثياب وحفظ الصبيان أول الليل لانتشار الشياطين وهذا الباب لا يحصيه العادون من سنن المرسلين فالأخذ فيها لا ينافي التوكل لأنه الانقطاع عن جميع الخلق وتفويض الأمور إلى الملك الحق وحده. وحينئذ فلا بد أن يعرف فيها ثلاثة أمور.

(أحدها): أنها لا تستقل بالمطلوب بل تتعاطى عن غير ركون إليها ومع هذا فلها موانع، فان لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود وهو سبحانه ما شاء كان وان لم يشأ الخلق، وما لم يشأ لم يكن وان شاءه الخلق.

(الثاني): أنه غير جائز اعتقاد أن الشيء سبب إلا بعلم فمن أثبت شيئًا سببًا بلا علم أو بما يخالف الشريعة كان مبطلًا في إثباته آثمًا في اعتقاداته.

(الثالث): ان الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ شيء منها سببًا إلا أن يكون مشروعًا إما استحبابًا أو مأذونًا، فان العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا وان يقول على الله بلا علم فيدعو غير الله بما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، وان ظن أن ذلك سبب في حصول غرضه لاعتقاده ان ذلك المدعو يشفع له فيما دعاه فيه لأنه جنس ما اعتقده الأولون في آلهتهم، وكذلك لا يجوز أن يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة وان ظن ان ذلك سبب في حصول ما يطلبه من أغراض دنيا أو ثواب آخرة على زعم اعتقاده، فان الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك وقد يحصل له بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراضه فلا يحل له ذلك إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به والرسول ﷺ إنما بعث لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فما أمر الله به فمصلحته راجحة وما نهى عنه فمفسدته راجحة { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }.

(من ذلك): قول المحرمات وقول السخريات ليتوصل بها إلى تحصيل شيء من أمتعة الدنيا أو القرب لدى ملك من ملوكها قال تعالى: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } وكل شرك زور ولا عكس وقال تعالى: { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ }.

(ومنه): التداوي بالمحرمات مطلقًا فلم يجعل الله الشفاء فيما حرمه بل نزعه عنه وأوهنه، والبدع التي ليست من شريعة الإسلام في شيء بل هي من شعب الشرك الظاهرة كأتربة أضرحة القبور لا يحل استعمالها أدوية ولا تعاطيها لما في استعمالها من الاعتقادات الباطلة والمفاسد في الدين الظاهرة فهي أشبه ما فعله المشركون الأولون بآلهتهم من تعظيم الأصنام والتبرك والتمسح بها في كل مشهد خاص وعام.

(ومنه): ما اعتنى به بعض الأغبياء الجهال وعوام الضلال دعوتهم بدعاء تمخيشًا وتمشيشًا، ودعوتهم في الشدائد بأسماء أصحاب الكهف وشمبخ وغيرهم وبالدعوات المجهولات يزعمون أن هذه من الأسماء العظام والأدعية المستجابات وأنه من الإنجيل والتوراة، فكل هذا من تلبيس إبليس على هؤلاء الجند الذين اختاروه واختارهم فلسنا ملتزمين في شريعتنا ملة الإسلام بتلك الأدعية في الصباح والمساء ولم يقل بها أحد من العلماء الألباء، بل الأغبياء السفهاء من القصاص اختاروها لتغرير العوام وجمع الحطام فلم يعاملوا الله بالإخلاص، قال الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وأما الأسماء المنهي عنها فان الشيطان يظهر تأثيرات ويوري تلبيسه فيها منافع ظاهرًا في أكثر الأحيان وهي حسرات، بل قد يكون التلفظ بتلك الكلمات كفرًا لا يعرف معناها بالعربية قال تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } وكل واسطة أو وسيلة نهى الشارع عنها لا يجوز اتخاذها في جلب نفع أو كشف ضر قال سبحانه وتعالى: لا وقال تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } وقال تعالى: { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } قال قتادة كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا فأمر الله المسلمين أن يخلصوا له الدعوة إذا دخلوا مساجدهم، وقال سعيد بن جبير المساجد الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره، والأعضاء التي يستعمل بها الإنسان ومن جملتها اللسان الذي هو ترجمان الجنان في كل ما يريد ابداءه من خير ينفعه أو ضر يضره قال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } وقال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي لا أحد، فلا يدانيه سبحانه أحد، ولا يستقل سواه تعالى بما أراده ولا يعطي لما منعه، فهذه الأسباب التي تتخذ وسائط ووسائل في الجلب والدفع اللذين لا يقدر عليهما إلا الله وحده منفية بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلا أسبابًا وردت عن الله أو رسوله كالتوحيد والصلاة بحضور قلب وخشوع وذل وانكسار والدعاء والاستغفار بعد الإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على أن لا يعود إليه والأعمال الصالحة من صدقة وصلة رحم وطاعة الله وتقواه فهي الأسباب في جلب الخير ودفع الشر كما صرح به القرآن والسنة.

(القسم الثاني): من قسمي تعطيل معاملته تعالى وتقدس ما لا يخرج عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار بل ينهى فاعله ويؤدب عليه وهو الشرك الأصغر فمنه الرياء والسمعة بقطع النظر عن صحة العبادة إذ إخلاص النية شرط لصحتها وهو يصدر ممن يعتقد ويقول لا إله إلا الله وانه لا يضر وينفع ويعطي ويمنع إلا الله وحده ولكن لا يخلص في معاملته وعبوديته بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب ولنفسه وحظه وهواه نصيب وللشيطان نصيب، وهذا حال أكثر الناس زيادة عن الأول وهو الشرك الذي قال فيه النبي ﷺ فيما رواه ابن حبان في صحيحه: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل قال أبو بكر رضي الله عنه كيف يا رسول الله ننجوا منه قال قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم" فالرياء كله شرك قال تعالى آمرًا نبيه ﷺ: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أي كما أنه إله واحد لا إله سواه، كذلك ينبغي أن تكون العبادة كلها له وحده فكما تفرد بالألوهية يجب أن ينفرد بالعبودية، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "قال الله عز وجل أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" وفيه أيضًا عن أبي سعيد مرفوعًا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال قالوا بلى يا رسول الله قال الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه" فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللهم اجعل عملي كله لك صالحًا واجعله لوجهك خالصًا ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.

وهذا الشرك يبطل الثواب من أصله أو العمل أيضًا لما تقدم، فمن أراد بعمله غير وجه الله أو نوى شيئًا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص هو أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإرادته ونيته، فهذه هي حقيقة ملة إبراهيم التي أمر الله بالقيام بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء لأنه قد هان عليه أمر خالقه فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، فكان هواه آثر عنده من رضاه وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة مولاه فيجعل لله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك لأنها المهم عنده يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته في يده، ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه يستحي من الناس، ولا يستحي من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وان عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وان قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة وقد فرغ له قلبه وجوارحه وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حق ربه ان ساعده القدر قام قيامًا لا يرضى مثله مخلوق وبذل من ماله ما يستحي ان يواجه به مخلوق لمثله وإذا هو أجهل الجاهلين وأمقت الممقوتين وأظلم الظالمين وأهلك الهالكين ممن عصى ربه من العاصين.

(ومنه الحلف) بغير الله رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: "من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك" رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن، قال وفسر أهل العلم هذا الحديث أن قوله كفر وأشرك على التغليظ فيكون الشرك الأصغر. قال ابن مسعود وغيره لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا. وإنما قال ذلك لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.

(ومنه) قول القائل للمخلوق ما شاء الله وشئت كما ثبت عنه ﷺ أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال ﷺ: "أجعلتني لله ندًا قل ما شاء الله وحده" هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة قال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } فكيف بمن يقول أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، أو من بركات الله وبركاتك، والله ولي في السماء وأنت ولي في الأرض، أو يقول والله وجاه فلان، أو أنا تائب إلى الله وإلى فلان، وأرجو الله وفلانًا، وفي ذلك. فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول ذلك القائل لرسول الله ﷺ ما شاء الله وشئت ثم انظر أيهما أفحش يتبين لك أن قائلها أولى بجوابه ﷺ لقائل تلك الكلمة وأنه إذا كان قد جعله لله ندًا بها فقد جعل من لا يداني رسول الله ﷺ في شيء من تلك الأشياء بل لعله أن يكون من أعدائه ندًا لرب العالمين، وفي مسند الإمام أحمد "أن رجلًا أتى به قد أذنب ذنبًا وهو أسير فلما وقف بين يدي النبي ﷺ قال اللهم أني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي ﷺ عرف الحق لأهله".

ونحن لم نكفر الناس ونجاهدهم بهذا القسم الثاني بل بالأول، وعليه فانه أمر مجمع عليه مع أنهم هم الذين بدؤنا بالجهاد ليرجعونا عما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه من الدين القويم الذي هو المراد إلي ما كنا عليه أولًا من أنواع الباطل والفساد زاعمين أن اليهود والنصارى أخف شرًا منا ومن مال إلينا، ونحن إنما ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه كفاية لمن اعتبر وتدبر، وبعين بصيرته نظر وفكر، فانه حجة الله وعهده ووعيده ووعده وأمانه ورفده ومن تبعه عاملًا بما فيه جد جده، وعلا مجده، وبان رشده، وبان سعده، والتوحيد ليس هو محل الاجتهاد فلا تقليد فيه ولا عناد.

النفاق نفاقان

(وأما قولكم وكذلك النفاق نفاقان، نفاق اعتقاد، ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد هو الذي ذكر الله أن أهله في الدرك الأسفل من النار وهو كثير في القرآن، ونفاق العمل كما في الحديث الصحيح آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وفي بعضها أربع بزيادة وإذا خاصم فجر فهذا نفاق عملي مجتمع مع أصل الإيمان).

فنقول: هذا الحديث الذي خرج في الصحيح ليس فيه بحمد الله إشكال ولكن اختلف في معناه والذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار عند أهل السنة والجماعة كما حكاه شراح الحديث ان هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال متخلق بأخلاقهم، فان النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقه من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام ويظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي ﷺ بهذا انه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار فقوله ﷺ في الحديث الآخر الذي رواه مسلم كان منافقًا خالصًا معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من يندر ذلك منه فليس هو داخلًا فيه، فهذا هو المختار في معنى الحديث، وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي معناه عن العلماء مطلقًا فقال إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وقال جماعة من العلماء المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي ﷺ قد حدثوا بإيمانهم فكذبوا وائتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فاخلفوا وفجروا في خصوماتهم ومن كانت حاله كذلك فهو منافق حقًا، وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقد رجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد أن كان على خلافه، وهو مروى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ورووه أيضًا عن النبي ﷺ بمعناه قال القاضي عياض واليه مال كثير من أئمتنا، وحكى الخطابي قولًا آخر معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه بها أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وحكى الخطابي أيضًا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي ﷺ لا يواجههم بصريح القول فيقول فلان منافق وإنما يشير إشارة كقوله ﷺ ما بال أقوام يفعلون كذا وقوله ﷺ في الرواية الأولى التي رواها مسلم في صحيحه أربع من كن فيه كان منافقًا وفي الرواية الثانية آية المنافق ثلاث لا منافاة بينهما فان الشيء الواحد قد يكون له علامات كل واحدة منها يحصل بها صفته ثم قد تكون تلك العلامة شيئًا واحدًا وقد تكون أشياء، ومعنى قوله وإذا عاهد غدر داخل في معنى وإذا ائتمن خان لأن العهد أمانة ومعنى قوله وإذا خاصم فجر أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب، قال أهل اللغة وأصل الفجر الميل عن القصد، ومعنى آية المنافق أي علامته ودلالته فمنه يعلم أن كفر عمل الجوارح ونفاق عملها ليس مما نحن فيه إنما القصد الكلي والفائدة العظمى لمن عقلها عمل القلب وهو اعتقاده وقبوله لما جاء عن الله وأرسل به محمدًا عبده ورسوله من ان الدين كله لله. قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه } وقد أجمع الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم أن المراد بالفتنة هنا الشرك ونحن لم نؤم إلا إليه ولم نجاهد إلا عليه.

حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

(وأما قولكم فقد عرفت من هذا كله أن ما يفعله العوام من دعاء الأولياء والهتف بهم عند الشدائد والطواف بقبورهم وتقبيل جدرانهم والنذر لهم بشيء من أموالهم هو من الكفر العملي لا الاعتقادي فإنهم مؤمنون بالله وبرسوله وباليوم الآخر لكن اعتقدوا ان هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون جهلًا منهم كما اعتقد أهل الجاهلية ذلك في الأصنام لكن فرق ما بين الفريقين فان هؤلاء يثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء شركاء له تعالى، وأولئك قد جعلوا الأصنام شركاء له فأولئك كفرهم كفر اعتقاد وهؤلاء أعني ضعفة العقول من العوام الموحدين لله معترفون بتوحيده ومصدقون الرسول بجميع ما جاء به من عند ربه وحكم أولئك من القتل والسبي، وأما هؤلاء فالواجب على العلماء وعظهم وتعريفهم وتفهيمهم جهلتهم، وزجرهم عن فعلهم ذلك لو أصروا عليه بعد ذلك ولو بالتعزير البليغ والضرب الشديد كما أمرناهم بحد الزاني والسارق وشارب الخمر، ولا يخرجون به عن الملة ويدل على ما قلناه دلالة صريحة قوله ﷺ في الحديث الصحيح عنه "أربع في أمتي من عوراء الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري فهم مع إتيانهم بهذه الخصال الجاهلية أضافهم إلى نفسه ولم يخرجهم عن أمته فقال في أمتي).

فنقول: هذا تفريع على ما تقدم من تقسيم الكفر إلى كفرين والنفاق إلى نفاقين، أي لما انقسم الكفر إلى عملي واعتقادي وميزانهما، علمنا أن ما يفعله العوام من دعاء الأولياء والهتف بهم عند الشدائد من الكفر العملي لا الاعتقادي وعلله بأنهم مؤمنون بالله وبرسوله وباليوم الآخر وبأنهم لم يجعلوا الأولياء شركاء لله ثم أثبت لهم الاعتقاد الذي نتيجته عين ما نفاه أولًا عنهم فهو سببه ولا ينشأ إلا منه وهو قوله لكن اعتقدوا أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون جهلًا منهم كما اعتقد أهل الجاهلية ذلك في الأصنام وهل هذا إلا تناقض فيما قاله ونفاه وتناقض فيما اعترض به وادعاه وتعاكس فيما فرعه وعناه وتشاكس في تعليله وفحواه. وذلك من وجوه.

(أحدها): إثباته عين ما نفاه أولًا فقال أنهم اعتقدوا اعتقاد أهل الأصنام فيها.

(الثاني): أنه جعل هذا الاعتقاد كفرًا عمليًا يعني به عمل الجوارح الظاهرة لأن كلامه فيما تقدم ينكر عمل القلب.

(الثالث): جعله الدعاء والهتف ليسا نتيجة الاعتقاد بل يصدران ممن اعتقاده منحصر في الله وهو يدعو غيره ويلتجىء إليه فيما لا يقدر عليه إلا الله وحده ويهتف بذكره عند الشدائد وغيرها ليجلب له أو يدفع عنه وهو لا يعتقد فيه القدرة على شيء مما طلبه منه وهذا محال أن يطلب أحد غيره شيئًا أو يدعوه منه وهو يعلم ويعتقد أنه لا يقدر عليه ولا يوصل مطلوبه ومقصوده إليه وصريح كلامه متناقض في ذلك فانه قال لكن اعتقدوا أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون بعد قوله هو من الكفر العملي لا الاعتقادي.

(الرابع): زعمه إسقاط التكليف والعذر بالجهل بعد بلاغ الدعوة وانتشارها كما لو لم تكن.

(الخامس) نفيه الشرك عن معتقد النفع والضر والعطاء والمنع في غير الله حيث لم يصرح بان هذا الضار والنافع والمعطي والمانع شريك لله كتصريح الأولين بالشريك معه تعالى، ولم يعلم ان قصد الأولين بالشريك من حيث أنه يشفع لهم عند الله بما أرادوا منه ويعطي ويمنع بأمره تعالى ما طلبوه ولذلك قالوا في تلبيتهم إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فهم يزعمون أنه شريكه في عبادته ومعاملته لا في تدبيره وإرادته ونفي هذا الشريك باللسان، واعتقاد معناه في الجنان لا يوجب نفيه حقيقة ولا أنه شريك له تعالى في ملكه أو خلقه أو رزقه العباد، أو تدبيره الأمور، هذا لم يقولوا به، بل صرحوا بأن ذلك كله لله وحده كما قررهم به وعرفهم. بنعمته قال تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } وقال تعالى: { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ولا انه شريك له يملك الضر والنفع قال تعالى: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } وهم كانوا يدعون الله وحده عند نزول الشدة ويخلصون له فيها الدعوة قال تعالى مخبرًا عنهم بذلك: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فالدعوة التي أشركوا فيها غيره ليتوصلوا به في قضائها إليه هي الشرك الموجب لسخطه وغضبه والخلود في عذابه والدعوة المختصة بجلاله المسؤولة من نيل أفضاله المخاطب بها عين كمال ذاته هي الدين الخالص الذي أمر به ووعد عليه الإجابة والإنابة لكن من قدر عليه الشقاء فالأول حاله حتى ان تصبيه الشدة فيخلص لله الدعوة، فإذا استجاب الله دعاءه وأنعم عليه مولاه جاءته الاستحالة { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } ومن وفق الإنصاف بالإخلاص رأى وشاهد بحديقة عين رأسه وبصيرة عين جنانه، وتأمل بقلبه أحوال هؤلاء المدعين الإيمان، مع أحوال الأولين وجدهم في أصل دين واحد ومعناه متفقين، وفي تركه جملة مختلفين، إذ الأولون يشركون تارة ويخلصون أخرى التي هي للدعاء أولى، وأما هؤلاء فإنهم أكثر شركًا في هذه التي هي محل الإخلاص لملك الناس زيادة على التي قبلها من عدم حصول الشدة والبأس.

(السادس): أنه قد زعم أن مجرد التصديق بالله وبرسوله وباليوم الآخر هو معنى التوحيد المقصود من لا إله إلا الله، وان ليس لها من المعنى إلا ذلك، فظن ان معناها خاص بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شيء ومرسل الرسل ومنزل الكتب ومحيي ومميت ومجاز بالأعمال، وهذا هو الذي يسمونه أهل الكلام توحيد الأفعال حتى قد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام وأهل الإرادة والعبادة فقلبوا حقيقته عن موضوعه، فطائفة ظنت أن التوحيد هو مجرد إقرار لسان العبيد بربوبيته تعالى، وأنه خالق كل شيء، وأنه على كل شيء وكيل، وطائفة ظنت أن توحيد الربوبية هو الغاية، والفناء فيه هو النهاية، وان من شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولم يفرقوا بين مشيئة الله الشاملة لجميع المخلوقات، وبين محبته ورضاه المختصة بالطاعات، وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وما حجهم في ذلك إلا لشمول القدر كل مخلوق وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه، وطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضًا. يسمون أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم التركيب والعقل ينفيه فقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في كل الأعيان والله سبحانه وتعالى ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } لم يزل موصوفًا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ.

(السابع إثباته) معنى الألوهية أنها القدرة على اختراع الخلق والتدبير لا على الضر والنفع والعطاء والمنع، فمن قال لا اله إلا الله واعتقد أنه لا يقدر على اختراع الخلق والتدبير إلا الله فلا شريك له في ذلك، كان ذلك هو معنى قوله لا إله إلا الله، وان اعتقد الضر والنفع والشفاعة المنفية التي هي بغير إذنه والتقريب والتبعيد اللذين لا يكونان إلا بطاعته وإتباع رسله فيما جاؤا به من عنده في غيره من العبيد فلا يضره هذا الاعتقاد ولا تكون فتنة ولا في الدين فساد، حيث قال بلسانه لا اله إلا الله وصرف معنى الألوهية في معنى الربوبية، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا المعنى معترفين به فلم يقولوا أن العالم له خالقان أو مدبران بل الخالق والمدبر واحد { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } وقال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } فهذا التوحيد من الواجب على العبيد، ولكن لا يحصل به التوحيد لإله كل العبيد، ولا يخلص بمجرده عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر ولا يغفره الله يوم تبلى السرائر. بل لا بد أن يخلص الدين كله لله فلا يتأله بقلبه غير الله ولا يعبد إلا إياه مخلصًا له الدين ولو كره الكافرون.

(الثامن): زعمه أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون النفع والضر والعطاء والمنع من غير رب العالمين، ويرد هذا صريح قوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وقوله تعالى: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وقوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } وقوله تعالى: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وهذه الآية مع قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } فقطع مادة من ادعى أنهم كانوا يعتقدون النفع والضر في غيره سبحانه وتعالى، وفي المسند والترمذي من حديث حصين بن المنذر "أن رسول الله ﷺ قال له: "يا حصين كم إلهًا تعبد قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء، قال فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء قال له أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فأسلم فقال له فل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي" وكثير ممن يتكلم في هذه الحقيقة الكونية وبشاهدها التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر حتى إبليس معترف بها في قوله { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وقوله { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ }. وأمثال هذا من الخطاب الذي يعترف فيه بأن الله ربه وخالقه ومليكه، وان ملكوت كل شيء بيده، فالمشركون الأولون إنما عبدوا غير الله بالمحبة التي كحب الله راجين بها التقرب والتقريب إليه طالبين منهم الشفاعة لديه في قضاء الحوائج وما يحتاجون إليه، ومعبودهم ذلك هو عندهم واسطة الشفاعة ووسيلة التقريب ويعبرون عنه بالإله لأن قلوبهم قد تألهته برجائها منه ما أملته مما ليس للعبيد مدخل فيه، وتارة تكثر تلك الآلهة، وتارة تقل بحسب اعتقاد من هي له، قال سبحانه: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } فسمى محبتهم المساوية لحب الله التي يرجونهم ويلتجؤن إليهم بها فيدعونهم سببًا في قضاء حوائجهم عند خالقهم عبادة، وأنكر تعالى ذلك عليهم وعابهم به ورده في قوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وقال جل شأنه: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُورًا } وقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وقال تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وهم قد أقروا بأن الله سبحانه مالك الأشياء كلها وأنه الضار النافع المعطي المانع الذي لا رازق سواه ولا مدبر ولا قابض ولا باسط ولا مخرج الحي من الميت ولا مخرج الميت من الحي إلا هو وحده لا شريك له في ذلك، لكنهم قد جعلوا بين الله سبحانه وبينهم وسائط من خلقه ليقربوهم ويحببوهم إليه ويشفعوا لهم في قضاء حاجاتهم عنده، وذلك بطرق مختلفة، ففرقة قالت ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لتقربنا إليه لعظمته، وفرقة قالت الملائكة ذوو وجاهة عند الله فاتخذنا صورهم من أجل حبنا لهم ليقربونا إلى الله، وفرقة جعلتهم قبلة في عبادة الله والتبتل إليه كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة اعتقدت أن على كل صورة مصوّرة على صورة الملائكة والأنبياء وكيلًا موكلًا بأمر الله فمن أقبل عليه وتبتل إليه قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله وإلا أصابه بنكبة بأمره.

(التاسع): جعله هذا الشرك الأكبر ذنبًا ليس فيه إلا التعزير مع الإصرار مع قوله فيما تقدم هو من الكفر العملي وهو لا يكون إلا في الكبائر والتعزير إنما هو في الصغائر.

(العاشر): زعمه وادعاؤه أنه من العلماء الآمرين بحد الزاني والسارق والشارب، والآمر بذلك الله في كتابه وعلى لسان رسوله والعلماء الأعلام ويظهرون أمر ألله ولا يكتمونه، ففي زعمه ذلك ادعاء أنه من العلماء وأنه من الآمرين ولا يخفى ما فيه من التزكية لنفسه، قال ابن مسعود وعمر من قال أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال هو في الجنة فهو في النار ومن قال هو عالم فهو جاهل، والله يقول: { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }.

(الحادي عشر): استدلاله على ما ادعاه بقوله ﷺ أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت. أما الفخر في الاحساب فمعناه الافتخار بشجاعة الأجداد وكرمهم أو صفة من الصفات الممدوحة فيهم وهذا شأن الأوّلين، وأما الطعن في الأنساب فهو نسبة الرجل لغير أبيه ينفونه عنه وهذا الرجل مطعون في نسبه مقذوفة أمه. وأما الاستسقاء بالنجوم فقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني [قال صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب، ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل هذه الآية { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إلى قوله { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } وقد اختلف العلماء في كفر من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على قولين.

(أحدهما): هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام، قالوا وهذا فيمن قال ذلك معتقدًا أن الكوكب له سبب ومدخل في إنشاء المطر كما كان أهل الجاهلية يزعمون ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره. وهذا القول هو الذي إليه جماهير العلماء والشافعي منهم وهو ظاهر الحديث قالوا وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا معتقدًا أنه من الله وبرحمته وان النوء ميقات له وعلامة اعتبارًا بالعادة فكأنه قال مطرنا في وقت كذا فهذا لا يكفر واختلفوا في كراهته والأظهر كراهة تنزيه لا إثم فيها وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة ببن الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم.

(والقول الثاني) في أصل تأويل الحديث أن المراد كفر نعمة الله لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب، قالوا وهذا فيمن لا يعتقد تسبب الكوكب وانشاءه المطر وإلا فلا شك في كفره.

وأما النياحة فهي رفع الصوت برنة ومنها لطم الخد وشق الجيب. وفيه قال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.

وهذه الأمور منها ما هو معصية لا تحرج عن الملة، ومنها ما هو مخرج عنها بشرطه وإضافة فاعليها إلى نفسه وجعله من أمته لا منافاة فان العاصي لا يخرج بعصيانه عن أمة الإجابة. ومراد النبي ﷺ في المستسقي إذا لم يعتقد الكوكب له مدخل في المطر فهو من أمته عامل عمل الجاهلية في قوله مطرنا بالنوء وإلا فهو من أمة الدعوة لا من أمة الإجابة. وفرق بين خصال الذنوب التي تحت مشيئة علام الغيوب وان شاكلت أهل الجاهلية في مجرد الاسم لا في الحقيقة والاعتقاد، وبين الشرك الذي هو أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات وأبغض الأشياء إلى الله أكرهها له وأشدها مقتًا لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يترتب على ذنب سواه. وأخبر أنه لا يغفر وأن أهله نجس ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحهم قطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله والمؤمنين. وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم وان يتخذوهم عبيدًا لما تركوا القيام بحقه وعطلوا معاملته المتضمنة لألوهيته وما ذاك إلا أنه هضم لحق الربوبية ونقص لعظمة الألوهية وسو الظن برب العالمين. كما قال تعالى: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده. ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاث مواضع من كتابه. كيف يقدره حق قدره من جعل له عدلًا وندًا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته والمؤثر لا يرضى بإيثاره. قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فالمؤمن يحب في الله لا مع الله، والكافر يحب مع الله كحب الله، قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يجعلون له عدلًا في العبادة والمحبة والتعظيم. وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم كما تقدم آنفًا وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالًا وباطلًا فيقولون لآلهتهم وهي في النار معهم: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات ولا في الصفات والأفعال ولا قالوا أن آلهتهم خلقت الأرض والسموات أو أنها تحيي وتميت أو تدبر الكلام في ذلك ونقل الآيات، وإنما ساووهم به في محبتهم لها تعظيمهم لها وعبادتهم إياها بدعائها والدعاء حولها لتكون سببًا وواسطة في حصول المطلوب، والتقريب إلى المحبوب، كما عليه أهل الأشراك ممن ينتسب إلى الإسلام في قولهم لا اله إلا الله، فإنهم أثبتوا لغيره تعالى قولًا وفعلًا واعتقادًا معنى ما أثبتوه له في مجرد القول وحصول ذلك إنما هو بسبب إتباع الهوى، وعموم البلوى، والجهل بكيفية التوحيد الواجب على العبيد. ولما اتبعوا أهواءهم وزين لهم الشيطان أعمالهم صدهم عن السبيل فهم لا تهدون ويزعمون أنهم هم المهتدون، وما سبب ذلك إلا الإعراض عن كتاب الله وعدم تدبر معانيه والعمل بما فيه، قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } ونرى كثيرًا منهم مع ارتكابهم أكبر الكبائر على الإطلاق يرتكبون الكبائر ويجترحون المآثم والمظالم، ولا يبالون بالله بل يخافون المخلوق ما لا يخافون الله، فيجعلون تلك المظالم قربات يتقربون بها إلى نبي أو ولي، ويجعلون على قبره الأبنية والتوابيت وأكسية الديباج والحرير، وعلى قبته أبواب الورق ليجلب لهم نفعًا، ويدفع عنهم ضرًا، ولو لم يفعلوا عادتهم تلك بل اتفق أنهم تركوها وقت فعلها فحصل لهم أو عليهم أمر مزعج ومكدر لم يسندوه إلا إليه لتقصيرهم بعدم صنيعهم. ومنهم من يأت القبر ويقف عليه ويظهر له كيس النفقة خاليًا فيومي بها إليه ويكلمه بما هو فيه من الشدة والفاقة وأنه محسوب عليه، وليس فعله ذلك جهلًا بل عنادًا وبغيًا زاعمًا أنه من الدين، ومما يرضي رب العالمين. وهذا بعينه ما يفعله جميع عباد الأوثان بأوثانهم زيادة على بذل النذور للأموات وسادنيها ليجلبوا لهم الخير ويدفعوا عنهم الشرور. لكن طال الأمد ووجدت الغفلة، وحصل الران، حتى صار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، فتغشية قبور الأنبياء والصالحين وهو سترها بغاشية ليس مشروعًا في دين الرسل، ولا يصح وقف ذلك على الأضرحة لأنه بدعة خبيثة من فعل عباد الأصنام فان فعل فهو باق في ملك ربه فان جهل أو لم يكن موجودًا ولا وارث له فمال ضائع مرجعه لبيت المال إلا الكعبة فقط زادها الله تشريفًا، وخصت به كالطواف.

ومن العجب أن أهل الأشراك ينسبوننا إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين وما ذنبنا إلا أنا قلنا لهم أنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًا، ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا، وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبدًا، بل حرم الله شفاعتهم لهم ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع، فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن. ولهذا قال إمام الحنفاء عليه السلام لخصمائه من المشركين أئفكًا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب لعالمين. وان كان المعنى ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به وقد عبدتم معه غيره وجعلتم له ندًا فأنت تجد تحت هذا التهديد ما ظنكم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره. فان المشرك إما أن يظن الله سبحانه وتعالى يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو عوين، وهذا أعظم النقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وأما أن يظن أنه سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك. وأما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أو لا يرحم عبيده حتى يجعله الواسطة يرحمهم، أولًا يكفي وحده أن يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثيره به من القلة وتعزيزه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن يرفع تلك الحاجة إليه، كما هو حال ملوك الدنيا. وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم، حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقًا، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم، ولا تمكنهم مخالفته. وكل هذا نقص للربوبية، وهضم في الألوهية، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفه، ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه من قلب المشرك، بسبب قسمة ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص أو يضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه، فالشرك ملزوم لنقص الرب سبحانه، والتنقيص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى. ولهذا اقتضى حمده تعالى وربوبيته أن لا يغفره وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركًا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وان زعم أنه يعظمه بذلك كما أنك لا تجد مبتدعًا إلا وهو متنقص للرسول، وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة فانه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، ويزعم أنها هي السنة ان كان جاهلًا مقلدًا وان كان مستبصرًا في بدعته فهو مشاق لله ورسوله، فالمنتقصون هم المنقصون عند الله ورسوله. وأولياؤهم أهل الشرك والبدعة ولاسيما من بنى دينه على أن كلام الله ورسوله دلالة لفظية لا تفيد اليقين ولا تغني من العلم واليقين شيئًا، فيالله العجب أي شيء أسعد هذا من إيجاده التنقيص، فأهل الشرك والبدعة من أعظم الناس تنقيصًا ونقصًا لبس عليهم إبليس حتى ظنوا أن تنقصهم هو عين الكمال، وان لم يلاحظوه، ولهذا

كانت البدعة قرينة الشرك في كتاب الله سبحانه، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } فالإثم والبغي قرينان، والشرك والبدعة قرينان، وان افترقا في المعنى والحكم، فليس الموحد إلا من شاهد المخلوقات بأمرها قائمة بأمر الله مدبرة بأمره، وشهد كثرتها بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأنه رب المصنوعات، وإلهها، وما لكها، ومدبرها مع اجتماع قلبه على الله إخلاصًا له سبحانه وتعالى في معنى ألوهيته من محبته وخوفه، ورجائه والاستعانة به والتوكل عليه وحصر الدعاء بالذي لا يقدر على وجوده أو دفعه إلا الله عليه وحده، والموالاة والمعاداة فيه، وأمثال هذا ناظر إلى الفرق بين حق الخالق والمخلوق. وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، وفي حال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته، فهذا هو تحقيق شهادته لا اله إلا الله، فان قائل هذه الشهادة ينفي عن قلبه ألوهية كل ما سوى الله كل ما سوى ألوهيته بحق، وثبت ألوهية الله الملك المعبود بالحق، فيكون نافيًا لألوهية جميع المخلوقات، مثبتًا لألوهية رب الأرض والسموات، وذلك بتضمن اجتماع القلب على الله، ومفارقته ما سواه، فيكون مفرقًا في علمه وقصده لله شهادته وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا بالله ذاكرًا له، عارفًا به وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم وحده بعبادته وأفعاله، وصفاته عنهم فيكون محبًا له لا معه، معظمًا له لا معه، عابدًا له لا معه، راجيًا له لا معه، خائفًا منه لا معه، محبًا فيه، مواليًا فيه، معاديًا فيه، مستعينًا به لا بغيره، متوكلًا عليه لا على غيره، ممتنعًا عن عبادة غيره، فلا يجعل حقه تعالى لغيره. وهذا المقام هو المعنى في إياك نعبد وإياك نستعين، وهو من خصائص الألوهية المشهود بها، كما أن رحمته تعالى لعبيده وهدايتهم من خصائص الربوبية وشهادته بهذه الألوهية مع العمل بها يضمن الشهادة بالربوبية، وهو أنه تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره، فحينئذ يكون موحدًا داعيًا الله وحده بما لا يقدر عليه إلا هو عابده به متأله فيه فلا يدعو غيره بما لا يقدر عليه إلا الله، لأنه عبادته مختص بجلاله. قال سبحانه وتعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } فسماه عبادة وأضافها إلى نفسه. وروى النعمان بن بشير قال قال رسول الله ﷺ: "ان الدعاء هو العبادة" ثم قرأ رسول الله ﷺ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } رواه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. فوجود العمل والعلم بالشهادة شرط لصحة قولها. فإذا صحت كانت أفضل العبادات لوجود ما تضمنته من معناها المراد منها يبين ذلك أن أفضل الذكر لا اله إلا الله كما رواه الترمذي، وابن حبان وغيرهما مرفوعًا إلى النبي ﷺ أنه قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله" وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله تعالى قال تعالى: { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه أي جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه، فهم يتخذون أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله. ولهذا قال الخليل لا أحب الآفلين، فان قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعًا كالشمس والقمر والكواكب. والخليل بين أن الآفل ينيب عن عابده وتحجبه عنه الحواجب فلا يرى عابده، ولا يسمع كلامه، ولا يعلم حاله، ولا ينفعه، ولا يضره بتسبب، ولا غيره. فأي وجه لعبادة من يأفل، كلما حقق العبد الإخلاص في قوله لا اله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه، ويصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين. وهؤلاء هم الذين قال فيهم: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }. وقال الشيطان فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من قال لا اله إلا الله مخلصًا من قلبه حرمه الله عليه النار" فان الإخلاص ينفي أسباب دخوله النار، فمن دخل النار من القائلين لا اله إلا الله لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلاة أن يقول إياك نعبد وإياك نستعين، والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله إما خوفًا منه، وإما رجاء له. فلا يزال العبد مفتقرًا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك. وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: "يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار، فلما رأت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يستغفرون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا") فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الله له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه فصار فيه شرك يمنعه من الاستغفار، وأما من حقق التوحيد والاستغفار فلا بد أن يرفع عنه الشر. فلهذا قال ذو النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. ولهذا يقرن بين التوحيد والاستغفار في غير موضع. كقوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وقوله: { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } وقوله: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } إلى قوله: { واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } وقوله: { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } وخاتمة المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا اله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ان كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه وان كان مجلس لغيره كانت كفارة له. وقد روى أيضًا فقال في آخر الوضوء بعد أن يقال أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار فان صدره الشهادتان اللتان هما أصلا الدين وجماعه، فان جميع الدين داخل في الشهادتين إذ مضمونهما أن لا نعبد إلا الله، وأن نطيع رسوله، والدين كله داخل في هذا في عبادة الله بطاعة الله ورسوله، وكل ما يجب ويستحب داخل في عبادة الله وطاعة رسوله. وقد عقد البخاري باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله عز وجل. فاعلم أنه لا اله إلا الله، فالموحدون هم المخلصون وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق علموه فاتبعوه ولم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين بل أخلصوا دينهم لله وأسلموا وجوههم وأنابوا إلى ربهم فأحبوه ورجوه وخافوه، ورغبوا إليه، وفوّضوا أمورهم إليه، وتوكلوا عليه، وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوا النور الذي أنزل معهم واقتفوا أثرهم واهتدوا بهديهم واستنوا بسنتهم. وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الذي لا يقبل الله من أحد دينًا إلا إياه وهو وظيفة العبادة لرب العالمين، وهو الفاصل بين عباد الرحمن وعباد الشيطان والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

حمل نصوص القرآن وغيرها على ظواهرها

(وأما قولكم ويجب حمل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على معانيها الظاهرة منها ان لم تخالف المحكم وإلا فيجب صرفها عن ظاهرها وردها إلى المحكم).

فنقول القرآن كله محكم في بيان التوحيد المكلف به العبيد وبيان ضده والحلال والحرام والأمر والنهي والوعد والوعيد فليس فيه اختلاف ولا تناقض في ذلك قال سبحانه وتعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } وقال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وقال سبحانه وتعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وقال سبحانه: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.

وقوله سبحانه وتعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية وقوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } وأمثال هذا.

تعريف العبادة

و (العبادة) هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. كالتوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين، والبهائم، وكذلك الدعاء والذكر، والقراءة، وحب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وغير ذلك من العبادة التي شرعها الله لعباده وأمرهم بفعلها خالصة لوجهه، وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة لله، والمرضية له. التي خلق الخلق لها كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وقال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة المحكمة إلى يوم القيامة.

وأما الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، فهي المبينات المفصلات سميت بذلك لظهورها ووضوح معناها المراد منها.

وأما الآيات المتشابهات فقال محمد بن إسحاق بن يسار هن ما تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحمل أشياء أخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد. فالمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام لا يصرفن إلى الباطل ولا يخرجن عن الحق ولهذا قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي الذين في قلوبهم ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة لاحتمال لفظه إلى ما يصرفونه إليه.

فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، ولا سبيل لهم إليه، لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولهذا قال ابتغاء الفتنة التي هي الشرك والإضلال بالبدع وسائر المحظورات.

ومنها أيضًا ما استأثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى علمه، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، ونزول المطر، والرحمة، والعذاب والشدة، والراسخ في العلم يقول في متشابه التنزيل آمنا به كل من عند ربنا، فان وجد ما ظاهره يخالف المكم رد الفرع إلى أصله وعرف حقيقة قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، وان المتشابهات لا يخالفن المحكمات في التوحيد ولا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" فيفسر المشابه بأم الكتاب فان بعض الآيات تظهر للجاهل معنى غير مراد فيعجزه عن فهم معناها المراد ويحملها على ما تميل إليه نفسه من الهوى والعناد فرده الراسخ إلى أم الكتاب، فمن ذلك قوله تعالى أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فهذه الآية يشعر ظاهرها الأمر بالفسق، ويفسرها قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } وقوله { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ }، فمثل هذه الآيات المحكمات هن أم الكتاب ومنه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ربما فهم منه تقرير هذه الملل ما لم يرده إلى محكمه. وهو قوله: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } وقوله: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } والله سبحانه ذكر أهل الكتاب وما ارتكبوا من قبائح الذنوب الموبقة ثم قال: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } فمن لم يؤمن بمحمد ﷺ من قوم أي رسول لم يؤمن برسوله قال تعالى: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } ومن آمن برسوله آمن بكل رسول كما أمر الله أمة محمد ﷺ في قوله: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } الآية، وقد رد الصديق الأكبر رضي الله عنه فهم من قال في معنى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } انه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وهذا من المتشابه يرجع فيه إلى محكمه وهو قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ويكون معنى لا يضركم من ضل إذا اهتديتم أمرتم ونهيتم فلم يسمع لأن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا أدى الذي عليه فلا ضرر عليه من ضلال من لا يأتمر أو ينتهي، وكذا قوله: { لا تُزِغْ قُلُوبَنَا } يفهم منه أنه تعالى يزيغ القلب بلا سبب فيفسر بمحكمه وهو قوله: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وبقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وقوله: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } فقيد المحكم الذي هو أم الكتاب قيد للمطلق وهو واسع النطاق من تأمل وحقق تحقق، ومن زاغ قلبه بعدم القبول أمحق واسحق، والله قد اتبع قوله: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } وبقوله: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } وفيه نوع من الاشتباه يرجع فيه إلى قوله { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وإذا وقف العبد إنتبه عن إتباع ما فيه نوع تشابه كما في هذه الآية وفتح له باب في الفصل والوصل نفعه خصوصًا في الجمل المعترضة. وحاصله كل ما في الكتاب من آية يستشكلها العقل لاحتمالها معنيين فصاعدًا أو بعض تلك المعاني المفهومة بها أو فيها أو عنها فاقض لآيات من الكتاب أو آيات فتلك من المتشابهات تفسرها الآيات المحكمات لأن القرآن كله لا يتناقض بل هو نور وحجج واضحات. قال ابن كيسان المحكمات حججها واضحة ودلائلها لائحة لا حاجة لمن سمعها إلى طلب معانيها، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل انتهى، ومنه قوله سبحانه: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً } فان من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة على قصده الفاسد وميل هواه الذي له قائد ويزعم أنه مهتد فيضل بهذا والله يقول: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } الآية، وقوله: { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } وقوله: { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } فمن زاغ قلبه جعل الأمر آنفًا ونفى تقدم علم الله بما هو كائن، ومن كان على نور من ربه فسر القرآن بالقرآن، وأعاد هذا إلى قوله: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } وقوله: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ } وقوله: { عَالِمُ الْغَيْبِ }.

وأول من تكلم بالقدر وان الأمر أنف، معبد الجهني، الذي في البصرة، قاله يحيى بن يعمر قال فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ فسألناه عما يقوله معبد فلقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنه فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إليّ فقلت أبا عبد الرحمن أنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه يزعمون أن لا قدر انما الأمر أنف، قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني برآء، والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئًا حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ثم ساق حديث جبريل الذي رواه عمر بن لخطاب رضي الله عنه، ومما يتخيل ويشبه أن يكون من المتشابه قوله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } ليسوا من عباده تعالى وقد قال: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } ومحكم هذا وأمه قوله إلا عبادك منهم المخلصين فهم المقيد بم هذا الإطلاق، وهذا واسع في كلام الخلاق، ويشبه في الآية ان المخلص لا سبيل للشيطان إليه البتة وليس كذلك إنما ليس له سلطان ان يتمكن من المخلص فيرتكب ذنبًا لا يغفر، محكمه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا } وقوله: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } وقوله: { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } وهؤلاء هم عباد الله المخلصون وهذا واسع في كلام رب العالمين، ومنه قوله تعالى: { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } يفهم منه عموم الاستغفار فيرد إلى محكمه وهو قوله: { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } الآية فإنه لم يأذن الله للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين والله لا يغفر أن يشرك به، وهذا تفسير القرآن بالقرآن فانه التبيان، ومنه قوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } من قصر فهمه خيل أن التمام الانقضاء والانتهاء فيرد إلى محكمه: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } فهذه الآية تدل من لا زيغ في قلبه ان قوله وتمت كلمة ربك معناه قوله الحق الكامل بكل مقصد محكم، وقد أتبعه بقوله لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، فالقرآن مصون عن النسخ جملة والتبديل محفوظ عما وقع في التوراة والإنجيل لقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } والآيات في المعنى كثيرة جدًا ومن قرع باب التحصيل وفق للحصول والمحصول، فالقرآن العزيز كله محكم باعتبار تفسير ما تشابه منه مما ذكر بالمحكم، وعن رسخ ولم يزغ قلبه قال رب زدني علمًا كما أمر الله نبيه ﷺ بطلب زيادة العلم، وكما أن القرآن كله محكم بأخبار من أنزل كذلك كله متشابه يشبه بعضه بعضًا قال تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } وهذه الآية الشريفة عرفت الناظر المراد بالمتشابه فيها بقوله مثاني تكرار الآيات والقصص والحسن والوقع في عدة مواضع فيشبه بعضه بعضًا في قصصه ومعانيه وألفاظه ومبانيه وحسنه ووقعه والصدق، بعضه يصدق بعضًا وهذا بحر زاخر ليس له ساحل وان تخيل من تخيل انه بلغ ما يروم فخياله باطل قاصر وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فالقرآن تبيان كل شيء منزل بتوحيد الله، وإفراده سبحانه بعبادته ومعاملته لا شريك له، هذا ورسول الله ﷺ أعرف الخلق به لا يخفى عليه شاذة ولا فاذة مما أشكل على الأمة ونشأ عنه الخلاف بينهم من اشتراك الألفاظ والمعاني، فانه نشأ عن الاشتراك مما يعرفه أرباب الإدراك، وكذا الحقيقة والمجاز فانه نشأ عنهما في فنون شتى ما يحتاج أقله إلى أطناب ولا يجدي فيه إلا الايجاز، ولا يختلف عليه ﷺ ما يختلف على الراسخين في العلم من الفرد والتركيب التي يعرف فيها المخطىء من المصيب، ولا يعزب عنه معرفة العموم والخصوص، إذ هو السند المنصوص ولا يختلج عليه الرواية والنقل، فلا ينطق عن الهوى ولا بما يحسنه العقل ولا يتوقف فكره في الاجتهاد فيما لا نص فيه كما يقع لكل تحرير فيما يظهره ويخفيه ولا يقر على الخطأ مجتهدًا فيما قاله بفيه، وهو ﷺ أعرف الخلق بالناسخ والمنسوخ على الإطلاق، وعنه عرفت الإباحة والتوسيع في كل الآفاق، وهذه الثمانية الأمور المذكورة نشأ عنها الخلاف والاختلاف بين الرفاق إلا في العبادة بأنواعها فإنها لله وحده لا شريك له لم يجز فيها اختلاف بين المسلمين إنما جعلها لغيره من خلقه غيرهم من المشركين، والله تعالى يقول: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } فكلام الله سبحانه لا يناقض بعضه بعضًا لا محكمه ولا متشابهه، وكذلك كلام الني ﷺ وأحاديثه لا تخالف فيها ولا تناقض، ولا يخالف كلام الله ولا يناقضه بل يحمل مطلقه على مقيده ومتشابهه على محكمه، وكما أن في القرآن آيات متشابهات استأثر الله بعلمها، كذلك في السنة أحاديث متشابهات يجب الإيمان بها وتلقيها بالقبول والتسليم وترك التعرض لمعناها كيفًا ومثلًا، فالخلاف في التوحيد ممنوع ومردود كالاختلاف فيه، لأنه إنما ينشأ عن الزيغ والله سبحانه يقول: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }.

حمل المؤمن عل الصلاح

(وأما قولكم ويجب حمل المؤمن على الصلاح مهما أمكن حتى لو كان له تسعمائة وتسعة وتسعون احتمالًا مؤديًا إلى الكفر واحتمالًا واحدًا إلى النجاة يجب حمله عليه والسر في ذلك ان الإيمان لا يزول إلا بيقين مثله).

فنقول: لا شك أنه متى وجد الإيمان يقينًا فلا يزيله إلا ما ينافيه يقينًا، فلا يزول بالشك ولا بالظن استصحابًا للأصل السابق لما قارنه من اليقين وتقديمًا له على الوصف اللاحق به لنزوله عن درجته، وهذا مع وجود وصف محتمل متردد فيه بين الحالتين، ولذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعه إلى المشركين يخبرهم بتجهيز رسول الله ﷺ عليهم بجنود لا قبل لكم بها ولو جاءكم النبي ﷺ وحده لكفى، وأراد عمر ابن الخطاب ضرب عنقه، وقال انه منافق، فاعتذر حاطب لرسول الله ﷺ بما معناها أنه ليس له من هذا مقصد إلا وضع اليد، فقال رسول الله ﷺ لعمر: "دعه فانه شهد بدرًا وانك لا تدري لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم أو فإني غافر لكم"، ففاضت عينا عمر، ورسول الله ﷺ إنما اعتذر عنه بمشاهدته هذه المنقبة العظيمة استصحابًا لفضلها وعظمها وإشارة إلى أن أهلها لا يمكن أن يتصفوا أو بعضهم بردة، لأن الله قال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وهو تعالى لا يغفر إلا ذنوب المؤمنين بخلاف غيرهم فقد يتصف بردة بعد إيمان ولا يكون ذلك بمجرد الحبس فانه كبيرة لا يكفر بها ان لم يكن فيه موالاة الكفار على المسلمين ويجتهد الإمام فيه قاله مالك وأحمد ولذلك قلنا لكن لا تثبت إلا بيقين.

ومنه جحد ما جاءت به الرسل أو عناده أو إنكاره أو معاداته أو الاستهزاء به ظاهرًا أو باطنًا أو موالاة المشركين ومظاهرتهم على الموحدين، قال سبحانه وتعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } إلى قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } وتسميتهم مؤمنين باعتبار عدم وجود الموالاة، والمعنى أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا على كونكم منافقين، وقوله انكم إذًا مثلهم ان قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزؤن بآيات الله ودينه راضين باستهزائهم فأنتم كفار مثلهم، قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر رآه وخالط أهله راضيًا به كان في الإثم بمنزلة المباشر، وان لم يباشر هو بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثلية، وإذا خاضوا في حديث غيره فهل للمؤمن القعود عندهم أم لا؟ قال الحسن لا يجوز القعود معهم وان خاضوا في حديث غيره لقوله تعالى: { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وقال غيره يجوز والحالة هذه لمفهوم هذه الآية، وآيات الأنعام مكية وهذه الآية مدنية، والمتأخر من الآيتين نزولًا أولى بالعمل، وأجاب بان تلك صريحة في النهي، وهذه مفهومة في عدمه، والصريح مقدم على المفهوم إذا تعارض الاستدلال بهما، ثم إذا قعد المؤمن باختيار منه عند من هو عدو للدين عداوة متيقنة، وهو في حال قعوده يسب الدين ويستهزىء بالآيات، فذلك علامة صريحة على أنه مثله في المسابة شريك له فيها، فإن لم يسب ولم يستهزئ وقعد عنده فقد عرض نفسه لسوء الظن به والطعن والقدح في دينه، كما قال بعض السلف، من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به، وقد قال ﷺ: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وفي رواية للترمذي من تركها استبرأ لدينه وعرضه، وفي الصحيحين ما يناسب لهذا الحديث، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاسم أو شك أن يوقع ما استبان، ومع ذلك فينهى عن مواضع التهم والشبهات ولا يظن فيه الردى في دينه وعرضه بمجرد ذلك إلا مع الاصرار على فعل المنهي عنه لقوله تعالى: { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } ولما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعًا: "إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث" قال الخطابي هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذك لا يملك قال الزجاج نهى الله أن نظن بأهل الخير سوءًا، فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم، وهذا كله مع الاحتمال وعدم ظهور أمره، فأما مع اليقين ظاهرًا فلا يمكن أن يقال فيه ظن بل متيقن ظاهرًا، فان كان مؤمنًا فلا يظن فيه إلا الخير والصلاح لإيمانه، وأما لخلقته وجبلته فالأصل فيه الظلم والجهل، قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } وان كان كافرًا فيتيقن كفره ظاهرًا، وإن كان عاصيًا فيتيقن فيه الفسق ظاهرًا، وإنما قلنا ظاهرًا لأنا مأمورون بمعاملة الخلق ظاهرًا، ونكل علم الباطن إلى الله، وما الظن والاحتمال فيمن شبه المخلوق بالخالق في خصائص ألوهية من دعائه بما لا يقدر على دفعه أو جلبه إلا الله وحده والتوكل عليه ورجاؤه والالتجاء إليه وذبح القربان والنذر له ليدفع عنه ما حل به أو ينال ما آمله منه، أما معتقدًا في الضرر والنفع والعطاء والمنع، وإما راجيًا شفاعته متقربًا بعبادته، فهل له احتمال واحد مؤد إلى الإيمان مع هذا الكفر الحقيقي والبهتان، فان هذا الاعتقاد مناف لقوله الكلمة الطيبة وإقراره بها في مجرد اللسان، وإذًا فلا يصح منه سائر ما عمله ظاهرًا من بقية الأركان، وقد كان الجعد بن درهم من أشهر أهل وقته بالعلم والعبادة، فلما جحد شيئًا من صفات الله مع كونا مقالة خفية عند أكثر الناس ضحى به خالد القسري يوم عيد الأضحى، فقال وهو على المنبر أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم لأنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل من على منبره فذبحه والخلق ينظرون إليه فيهم التابعون وغيرهم بعد أن شهدوا على إنكار الجعد الخلة والتكليم، فلم ينكر أحد منهم ذبحه ولا التضحية به، ولا أنكر ذلك أحد من العلماء الأعلام، بل نقل ابن القيم رحمه الله تعالى إجماعهم على استحسان هذا وهو مقر بالكلمة الطيبة وبمعناها لكنه جحد أمرًا هو من الإيمان متضمن لحقها، فكيف بالذي يجعل معناها لغير الله ويجعل المخلوق بمنزلة الخالق ولا يرضي أن يكون عدلًا له بل ربما اعتقد تأثير القدرة منه أسرع من الله لكونه يتصرف في الكون، أين العقل والتمييز أين الانصاف والتمييز في القلب والقالب إلى الملك العزيز، وكذا التشبه به سبحانه وتعالى في التعاظم والتكبر ودعاية الناس إلى إطرائه في الثناء والمدح والتعظيم والخضوع والرجاء وتعليق القلب به خوفًا منه ورجاء والتجاء واستغاثة ينذر له ويتقرب به ويستعان ويدعى عند الشدائد كالمدعين لله من الضلال فهم كذبة قد تشبهوا بالله ونازعوه ربوبيته وألوهيته، وما الظن والاحتمال فيمن شبه نفسه بالخلق في خصائص ألوهيته ومعاملته المؤديين إلى الإيمان وهم حقيقون بان يهانوا غاية الهوان، ويذلوا غاية الذل ويجعلوا تحت أقدام خلقه تعالى وهم الشياطين ومن المغضوب عليهم والضالين، وفي الصحيح عنه ﷺ قال: "يقول الله عز وجل العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدًا منهما عذبته".

وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابًا يوم القيامة لتشبهه بالله في مجرد الصنعة فما الظن بالتشبه بالله في ربوبيته وألوهيته، وإذا كان المنازع لشرعه الحاكم بغير حكمه طاغوتًا أمرنا الله أن نكفر به، فكيف بمن نازعه ربوبيته وألوهيته وحكمه في عبادته ومعاملته، وهم مع ذلك يحتجون بالمشيئة ويدعون الولاية والحفظ والقرب من الله ومن رسوله ويفعلون الكفريات ويتركون الواجبات ويغترون بشبه استدراجات من نحو أشياء خارقة للعادات من تعظيم ملك، أو جني، أو شيطان لهم، أولئك أهل الخزي في الدنيا والآخرة ما داموا كذلك، ويجب ذمهم والتحذير منهم على كل من عرف حالهم، ولا ينظر في صورة زهد أبدوها في ظاهرهم، وقد انعقد إجماع المسلمين على المعاملة بالظواهر، فما وافق شرع نبينا قبلناه وما خالفه نبذناه، فان أهل الاستقامة سلكوا على ايجاده ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان، شاهد من الكتاب، وشاهد من السنة، قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ﷺ لرددته، واتهام السادات الأولياء من الصحابة رضي الله عنهم لآرائهم كثير مشهور وهم أبر الأمة للدين قلوبًا وأعمقها فيه علمًا وأبعدها عن الشيطان، وكانوا اتبع الأمة للسنة وأشهدهم اتهامًا لآرائهم، وهؤلاء المدعون ضد ذلك كله، ومن شروطها عدم ادعائها عن نفسه أو عن الله، قال الجنيد قال أبو سليمان الداراني ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة، وقال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى تربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود، وقال أيضًا من ترك قراءة القرآن ولزوم الجماعة وحضور الجنائز وعيادة المرضى وادعى بهذا الشأن فهو مبتدع، وقال السري السقطي من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط، وقال الجنيد مذهبنا مقيد بالأصول، الكتاب والسنة فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه ويعمل لا يقتدي به، وقال أبو بكر الدقاق من ضيع حدود الله في الأمر والنهي حرم مشاهد القلب في الباطن، وقال أبو الحسن من رأيته يدعي مع الله حالًا يخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقر به فإنما هو شيطان ضال ومن رأيته يدعي حالًا يشهد حفظ ظاهر فاتهمه على دينه، وقال جرير أمرنا هذا كله مجموع على فصل واحد إن لم يلزم قلبك المراقبة ويكون العلم على ظاهرك قائمًا، وقال عبد القادر الجيلي رحم الله روحه ونور ضريحه جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله ورسوله ولا يأخذون ويعملون إلا بظاهرهما، وقال أبو حفص من لم نزن أفعاله وأحواله وأقواله بالكتاب والسنة ولم يهم خواطره فلا تعدوه. وهؤلاء الكذابون على الله المدعون يتهدهدون ويتهزهزون بالرقص حول الطار والمزمار عند سماعه والبكاء والنحيب ويومؤن بأذنابمم ورؤوسهم شوقًا لذلك من الوجدان والهلعات زاعمين أنه ذكر لله، وأنه من الدين المقرب عنده والمحبوب إليه، وهو والله من الجور والبهتان والطغيان، لا من السنة ولا من القرآن، ولا فعله أولياء الرحمن، بل نهوا عنه، وإنما هو من فعل أولياء الشطان وعباد إبليس والجان، فإنهم إذا سمعوا القرآن أعرضوا عن سماعه، وعن العمل به، ولم يأخذهم ما أخذهم عند سماع ذلك المنكر، بل تشاغلوا عنه بالضحك واللعب وشرب الدخان، فهم أقبح حالًا من الذين قال الله فيهم: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } فهم مع ادعائهم علم الباطن شبيهون بالذين عبدوا العجل في غيبة موسى فلما رجع علهم صياحًا وأصواتًا وإذا هم يرقصون حوله، ومجرد الرقص بلا ادعاء أنه من الدين لا يوجب الكفر الحقيقي، بل الفسق فقط، ما لم ينازعوا الله في ألوهيته لعموم ما تقدم، ومتى ظهرت المنازعة ووجد الادعاء فيما قدمناه فأين الاحتمال المؤدي إلى وجود الإيمان مع وجود نقيض الكلمة الطيبة فيه ومنازعته معناها المختص بجلال الله وعظمته ومعاملته بادعائه وتعظيمه، فأصل الدين وقوامه إنما هو إخلاص العبادة والدين بأنواعه لله سبحانه وإتباع ما أمر به وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، والانتهاء عما نهى عنه قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }.

وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

(وأما قولكم يجب الترضي والاستغفار لمن سلف من المؤمنين والكف عن مساويهم قال عز من قائل { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } ومرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مخلد في النار لقوله تعالى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه }، وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }.

فنقول: أما محبة جميع المؤمنين بعضهم بعضًا ومودتهم بينهم وسؤال الله المغفرة لهم فأمر مستحسن مطلوب لا يشك فيه شاك، ولا ينفيه إلاَّ هالك، قال سبحانه وتعالى آمرًا نبيه أن يستغفر للمؤمنين: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وقال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ } وسمع ابن عباس رضي الله عنهما رجلًا ينال من بعض أصحاب رسول الله ﷺ فقال أمن المهاجرين الأولين أنت، قال لا. قال أمن الأنصار أنت، قال لا. قال فاشهد أنك لست من التابعين بإحسان. فكل من لم يترض عن أصحاب محمد والتابعين لهم بإحسان وكان في قلبه غل لأحد منهم فانه ليس ممن عناه الله بهذه الآية. والله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصفين بالإحسان، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا عن المؤمنين، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي رواية لمسلم: "المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي رواية له أيضًا: "المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله" وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلاَّ رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم وفي روايةله: "تعرض الأعمال في كل يوم خميس أو اثنين وذكر نحوه". فالمؤمنون تجب موالاتهم ومحبتهم، والكف عن أعراضهم، ويحسن الدعاء والاستغفار لهم، وتحرم معاداتهم وتتبع عوراتهم، والبحث عن عثراتهم، وقد ثبت عنه ﷺ أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " رواه البخاري عن يحيى بن بكير، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الليث قال سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } قال الزجاح علم الله سبحانه ان الدين يجمعهم وأنهم أخوة إذا كانوا متفقين في دينهم، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب لأبيهم من آدم وحواء، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي ﷺ أنه قال: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب" وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامه بن سهل عن أبيه سهل بن حنيف مرفوعًا: "من أذل عنده مسلمًا فلم ينصره وهو يقدر أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة" ولأبي داود مرفوعًا: "ما من امرىء يخذل امرأ مسلمًا في موضع تهتك فيه حرمته وينتقص فيه عرضه إلاَّ خذله الله في موضع يحب فيه نصرته وما من امرىء ينصر امرأ مسلمًا في موضع ينقص فيه من عرضه وتهتك فيه حرمته إلاَّ نصره الله في موضع يحب فيه نصرته" وروى مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلاَّ قال ملك ولك بمثل" وعنه أيضًا أن رسول ﷺ كان يقول: "دعوة المرىء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل" رواه مسلم وفي حديث آخر: "أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب" وقد أثنى الله على الذين يثنون على المؤمنين خيرًا ويدعون لهم به قال سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو له وان كان الداعي دون المدعو له رتبة، فقد قال ﷺ لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يعتمر وودعه لا تنسنا يا أخي من دعائك، فالنبي ﷺ قد طلب من أمته الدعاء، ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم، بل هو كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها مع أنه عليه الصلاة والسلام له مثل أجورهم في كل ما يعملون لأنه صح عنه ﷺ أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كل عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا وهو عليه الصلاة والسلام داعي الأمة إلى هدى فله مثل أجورهم، في كل ما اتبعوه فيه، وكذلك إذا صلوا عليه فان الله يصلي على أحدهم عشرًا وله ﷺ مثل أجورهم مع ما يستجيبه الله تعالى من دعائهم له فكذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجرهم عليه وصار ما يحصل له به من النفع نعمة من الله عليه، ومن قال لآخر ادع لي وقصد انتفاعهما جميعًا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى، فالسائل نبه المسؤول وأشار عليه بما ينفعهما، والمسؤول قد فعل ما هو نفع لهما، فهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى فيثاب المأمور على فعله، والآمر يثاب لكونه دعا إليه، لاسيما إذا فعل من الأدعية ما أمر الله به العبد كما قال: { اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فأمره بالاستغفار ثم قال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } فذكر الله استغفار الرسول ﷺ لهم في ذلك الوقت حيث أمره الله تعالى أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولم يأمر الله مخلوقًا ان يسأل مخلوقًا شيئًا، لم يأمر الله المخلوق المسؤول به، فما أمر الله العبد به أمر إيجاب أو استحباب ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة لله وصلاح لفاعله وحسنة منه، وإذا وفق لفعل ذلك كان من أعظم إحسان الله إليه وإنعامه عليه، بل أجل نعمة أنعمها الله على عبده أن هداه للإيمان وأرشده التوفيق إليه ومحبة المؤمنين وموالاتهم والدعاء والاستغفار لهم، ومجانبة أهل الشرك والطغيان والجور والبهتان العاملين بالجهل والابتداع والتاركين للأمر المنزل المطاع فعملوا بضده على يقين منهم في ذلك واختراع زاعمين أنه هو المطلوب وأنه هو الوسيلة إلى المحب المحبوب ومعاداتهم وجهادهم عليه وتذكير الله وادعائه إليه، هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } وهي الطاعة لله التي من عمل بها يكون مع أوليائه. قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } ذلك الفضل من الله، بل نعم الدنيا بدون الدين هل تسمى نعمة أم لا؟ فيه قولان للعلماء مشهوران، والتحقيق انها نعمة من وجه، وان لم تكن نعمة تامة من وجه، وأما الانعام بالدين ومنه حب أهله وموالاتهم، ومعاداة ضدهم فلا يتم بدون ذلك، فهو الخير الذي ينبغي طلبه باتفاق المسلمين، وهو النعمة الحقيقية عند أهل السنة، قال سبحانه وتعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فضل الله الإسلام والقرآن ورحمته ان جعلنا من أهله، وكما أن المؤمنين تجب محبتهم وموالاتهم، والكف عن أعراضهم، ويحسن الدعاء والاستغفار لهم، كذلك أعداء الله من المشركين الكافرين تحبب معاداتهم وتحرم موالاتهم وتذكر مساويهم ليرتدعوا عما هم عليه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } وعدم الرضا بدينه ﷺ وما جاء به والعمل به أكبر من إخراج ذات الرسول فانه لم يخرج إلاَّ بسبب ذلك، وقال تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص أنه ﷺ قال جهارًا: "أن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين"، ومعناه إنما وليي من كان صالحًا وان بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وان كان نسبه قريبًا، قال القاضي عياض قيل ان المكنى عنه هنا هو الحكم ابن أبي العاص، وذلك لأن بعض الرواة كنوا فقالوا في أوله إلاَّ أن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، وإنما كنى خشية أن يسميه فيترتب عليه مفسدة، إما في حق نفسه وإما في حقه وحق غيره، فكنى عنه فقد أخبر ﷺ عن بطن قريب النسب منه أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياء له إنما وليه الله وصالح المؤمنين من جميع الأصناف، ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها، كالمؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل لا بالنسب، ومن هذا قول بعضهم:

لعمرك ما الأنساب إلا ابن دينه ** فلا تترك التقوى اتكالًا على النسب

لقد رفع الإسلام سلمان فارس ** ووضع الشرك الشقي أبا لهب

وكذالك تجب مقاطعتهم والبراء منهم وعدم الاستغفار لهم، قال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } الآية، وقال: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وتحقيق وجود الشرك يقوم مقام من علم أنه من أصحاب الجحيم في عدم جواز الاستغفار والحالة هذه قال الله لنبيه: { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى نهى نبيه ﷺ عن الاستغفار للمشركين والمنافقين وأخبر سبحانه أنه لا يغفر لهم قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقال: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } وهو تعالى لا يحب المعتدين في الدعاء، ومنه سؤال المغفرة للمشركين أو ما فيه معصية لله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان، فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة شفاعته من الدعاء الذي ليس فيه عدوان، وهو لا يكون إلاَّ للموحدين لا للمشركين الذين حرم الله عليهم الجنة ومأواهم النار، وإن لم نقطع لمعين بجنة ولا نار إلاَّ لمن نص عليه النبي ﷺ، لأنا مأمورون ان نعامل بالظاهر والأمور مرجعها إليه سبحانه وتعالى، ولو سأل واحد من الأنبياء عليهم السلام فدعا دعاء لا يصلح له لم يقر عليه فإنهم معصومون ان يقروا على ذنب لو صدر منهم جهلًا بحكمه أولًا، ولهذا قال نوح عليه السلام: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } قال الله: { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وأما استغفار إبراهيم لوالديه في قوله ربنا اغفر لي ولوالدي، فللوعد الذي وعد به أباه، وعده أن يستغفر له إن آمن، وهو قوله سأستغفر لك ربي فاستغفر له لمكان الوعد راجيًا أن يسلم، فلما تبين له أنه عدو لله لموته على الكفر تبرأ منه، وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول له أبوه اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني انك لا تخزني يوم القيامة يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم انظر ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بضبع ملطخ بالدم فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار فيتبرأ منه يومئذ" فقد بين الله عذر خليله عليه الإسلام في استغفاره لأبيه، وأما أمه فقد أسلمت، وقيل المراد بالوالدين في قوله لوالدي آدم وحوى عليهما السلام، والأول عليه الأكثر.

وأما قوله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ.. } الآية فالذرة هي النملة الصغيرة وعمم فيهما مع أن حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، لأن معنى فمن يعمل مثقال ذرة من فريق السعداء خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة من فريق الأشقياء شرًا يره، وقد ذكر الله سبحانه ذلك بعد قوله: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا } يعني يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض متفرقين أهل التوحيد والإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة، كقوله يومئذ يتفرقون ويومئذ يصدعون ليروا أعمالهم، قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم، والمعنى أنهم يرجعون عن الموقف فرقًا لينزلوا منازلهم من الجنة والنار. قال مقاتل فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيرًا يره يوم القيامة في كتابه فيفرح بذلك، وكذلك من الشر يراه في كتابه فيسوؤه ذلك، قال وكان أحدهم يستقل أن يعطى اليسير، ويقول إنما نؤجر على ما نعطى ونحن نحبه واليسير ليس مما نحب ونتهاون بالذنب اليسير، ونقول إنما وعد الله النار على الكبائر فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير ويحذرهم اليسير من الشر، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قلت يا رسول الله ما ينتهي الناس يوم القيامة، قال إلى أعمالهم من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره" واستدلال صاحب المقدمة بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر لا يصلح له دليلًا إذ للمكفر بها من الخوارج والمبتدعة أن يقولوا فمن يعمل مثقال ذرة من فريق المسلمين، وأما الكافرون فيرجع فيه إلى قوله وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا، ولكن الدليل لأهل السنة والجماعة، ونحن ان شاء الله منهم ما قدمناه وقلناه وبيناه في بحث أهل الإيمان. ومما أجمع عليه صالح سلف الأمة من دلائل الكتاب والسنة وعند قوله نقلًا عن ابن القيم، وهذا الجمع والتوقيف بهذا التفصيل هو قول الصحابة وعليه الاعتماد لأن أمثال هذه المسائل لا تتلقى إلاَّ منهم ولا تؤخذ إلاَّ عنهم فلله الحمد والمنة، وهو مما قاله من الاستدلال يزعم أنا نكفر بالذنوب، وقد تكرر ذلك منه وهو بهتان علينا وجور وادعاء بلا تثبت وقول زور، ومن وفق الإنصاف حقق أمرنا ونهينا، ومن الذي كفرنا وجاهدنا، وكلامنا ودلائلنا، فلا يقول علينا إلاَّ حقًا ولا يعمل إلاَّ به.

وأما قولكم (إذا تمهد هذا فنقول أما ما ذكرت من تعطيم القبور وتشديد المنكر على من يفعله فهذا أمر مجمع عليه وعلى تحريمه ولا يفعله إلاَّ جهلة الرعاع من العوام والأعراب وأشباههم بل نقول ان الصلاة تكره كراهة تحريم بحضرة أي قبر كان بل عند الإمام أحمد لا تنعقد أصلًا لكن لا يلزم من ذلك تكفير مرتكبه كفرًا يخرج به عن الملة ويباح دمه وماله وعرضه نعم هو كفر عملي حيث يكون بفعله مرتكبًا للمنهي عنه وحكمه كما قدمناه النصيحة والوعظ والزجر لا غير ذلك).

فنقول معنى تمهد أي انتشر مبسوطًا لسامعه من تمهدت الأرض تمهدًا إذا اتسعت فراشًا مبسوطة، وتمهد الصبي تمهدًا إذا سكن اضطرابه في المهاد، ومهد إذا وضع فيه، قاله أهل المعاني، وأما تعظيم القبور بمعنى احترامها، فإن كانت للمسلمين فواجب لا يجوز بول ولا تغوط ولا جلوس ووطء عليها لما في صحيح مسلم عن أبي مرشد الغنوي أن النبي ﷺ قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وفيه أيضًا أن النبي ﷺ رأى رجلًا قد اتكأ على قبر فقال: "لا تؤذوا صاحب القبر" وفيه أيضًا عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر مسلم" وأما تعظيمها بمعنى عبادتها فهو أكبر الكبائر عند الخاص والعام، وأصل فتنة عباد الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين الذين في قلوبهم وقار لله فيغضبون لأجله ويغارون على توحيده ويقبحون الشرك وأهله ويجاهدون أعداء الله من أجله، ولكن من خالفهم فما الحيلة. ما لجرح بميت إيلام. ولا لمن خالف هؤلاء احترام. وان منشأ هذه الفتنة في الإسلام الفتنة في القبور حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم واتخذت أوثانًا وبنيت عليها الهياكل فصارت تدعى وترجى وتخشى، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح. كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول: { قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره منهم ابن كثير وأبو الحسين البغوي وعلي بن أحمد الواحدي والرازي قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة } قال على الاسلام وكان أول ما كادهم به الشيطان من تعظيم الصالحين، كما ذكر الله ذلك في كتابه في قوله: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قال الكلبي كان هؤلاء قومًا صالحين فماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم وصوّروا صورهم، وفي غير حديثه قال أصحابهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه حتى ذهب ذلك القرن، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من الأول، ثم جاء القرن الثالث فقالوا ما عظم أولنا هؤلاء إلاَّ وهم يرجون شفاعتهم، فلما بعث الله نوحًا وغرق من غرق أهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء بقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها، ثم عمر نوح عليه السلام وذريته الأرض وبقوا على الإسلام ما شاء الله ثم حدث فيهم الشرك، وما من أمة تخرج إلاَّ ويبعث الله فيهم رسولًا يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن الشرك، فمنهم عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد بعث الله لهم هودًا وكانوا في ناحية الجنوب بين اليمن وعمان فكذبوه فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم ونجى الله هودًا ومن آمن معه، ثم بعث الله صالحًا إلى ثمود وكانوا بالشمال بين الشام والحجاز فاستحبوا العمى على الهدى فأرسل الله عليهم صيحة فأهلكتهم ونجى الله صالحًا ومن معه، ثم بعد ذلك أخرج الله إبراهيم عليه السلام وأهل الأرض إذ ذاك كلهم كفار فكذبوه إلاَّ ابنة عمه سارة زوجته وآمن له لوط فأكرمه الله تعالى ورفع قدره وجعله إمامًا للناس وجعل في ذريته الكتاب والنبوة ومنذ ظهر إبراهيم لم يعدم التوحيد في الأرض، كما قال تعالى: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وكان له ابنان اسحق عليه السلام وهو أبو بني إسرائيل، وإسرائيل يعقوب بن اسحق، والثاني إسماعيل عليه السلام وهو أبو العرب وقصته وأمه مشهورة لما وضعها عليه السلام في مكة فنشأ إسماعيل في أرض العرب وصار له ولأولاده ولاية البيت ومكة فلم يزالوا على دين أبيهم إسماعيل حتى نشأ فيهم عمرو بن لحى فملك مكة وكان معظمًا فيهم بسبب الدين والدنيا فسافر إلى الشام ورآهم يعبدون الأوثان فاستحسن ذلك منهم وزينه لأهل مكة، ثم اقتدى بهم أهل الحجاز فلم تزل تعبد حتى بعث رسول الله ﷺ فكسرها وقال: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار"، وكانت الجاهلية فيهم بقايا من دين إبراهيم مثل تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة وإهداء البدن وكانت تزار تقول في اهلالها لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك، وروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى ابن محمد بن قيس قال كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا قومًا صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم اتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى عبادة ربنا إذا ذكرناهم فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم بدعائهم فبهم يستشفعون ربهم يستسقون المطر فعبدوهم بذلك، قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، وقال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فنشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صورتموهم كان أنشط لكم وأشوق إلى عبادة ربكم ففعلوا، ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: ان الذين من قبلكم كانوا يستسقون ويتشفعون بهم ويدعونهم ليشفعوا لهم فعبدوهم بذلك. وابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم المسلمين بهذه الأسماء. وقال قتادة في هذه الآية يعني قوله ولا تذرن آلهتكم قال: كانت آلهة يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد ذلك، فكان ود لكلب بدومة الجندل، وكان سواع لهذيل، وكان يغوث لبني غطيف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لذي الكلاع من حمير، وقال ابن عباس هذه أصنام كانت تعبد زمان نوح، وقال البخاري عن عطاء عن ابن عباس صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ليشفعوا لهم فهؤلاء قد جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله ﷺ في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع النبي ﷺ رأسه وقال "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" وهذه الفتنة هي السبب في عبادة اللات. فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله أفرأيتم اللات والعزى، قال كان يلت السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو أبو الجوزاء عن ابن عباس، كان يلت السويق للحجاج، فسبب عبادة يغوث ويعوق ونسر واللات إنما كانت من تعظيم قبور الأموات وهذه العلة التي نهى الشارع ﷺ عن اتخاذ المساجد على القبور لأجلها هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فان النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا أهل الشرك كثيرًا ما يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت الأسحار، ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة والدعاء عندها ما لا يرجونه في المساجد، فهم يعبدون أصحابها بدعائهم ورجائهم والاستغاثة بهم وسؤالهم النصرة والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وبذل النذر لجلب ما أملوه ودفع الشرور مع اتخاذ قبورهم أعيادًا، والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترباتها، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطلبيات التي كانوا عليها عباد الأوثان يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم، فهؤلاء المشركون الغلاة قد جعلوا لأهل القبور أصناف العبادات، وإذا قدموا إلى القبر عقروا له العقائر وتقربوا إليه بأنواع القربات، وقد أخرج أحمد وأبو داود من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله ﷺ: "لا عقر في الإسلام" وقال عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة فنهوا عن ذلك، وأخبر أنه فعل عباد الأصنام وإذا رأوا قبته من مكان بعيد نزلوا عن الدواب واشتغلوا بدعائه والنحيب ووضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض كشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج ورأوا أنهم قد زادوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوه ولكن من مكان بعيد، حتى إذا وصلوا إليه صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد حازوا من الأجر كمن صلى إلى القبلتين، فهم حول القبر ركعًا سجدًا يبتغون فضلًا من الميت ورضوانًا، وقد ملؤا أكفهم خيبة وخسرانًا فللشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع بالدعاء من الأصوات ويطلب من الميت أنواع الحاجات ويسأل من تفريج الكربات واغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركًا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، كأنه الحجر الأسود وما يفعل به وفد بيت الله الحرام، ثم عفروا عنده تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك القبر فلم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك القرابين فكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير رب العالمين، وقد آل الأمر إلى فعل أنواع المنكرات من بذل الفروج ثلاثة أيام من كل سنة في مولد أحمد البدوي ومشهده الذي في القاهرة يخرجن إليه الغواني جاعلين ذلك في صحائفه، ولينالوا من بركته وأنهم محسوبون إليه، زيادة على فعلهم عند قبر الست نفيسة، ومشهد الحسين، هذا والعلماء حاضرون والعباد شاهدون والمردان مع الفجار المدعين الولاية والمتزينين بها، مجمعون وفي فراش واحد بلا حائل ليلًا ينامون وفي النهار معهم مختلون، ويدعون أنهم لهم يربون، والعلماء والحالة هذه لا ينكرون، والعباد لله لا يغارون، ولا الحق يقولون، بل كلا الفريقين يصنفون الكتب في ذلك ويعتذرون عنه بأجوبة ليست صوابًا ولا سديدة بل عن الحق بعيدة.

( ومنها قولهم تنبيه) اعلم أنه قد يعترض بعض الناس على أحمد البدوي، وعلى هؤلاء المجتمعين عنده في حضرة ضريحه ويقولون إذا كان له هذا المولد العظيم والتصرف التام النافذ بعد الممات فكيف لا يتصرف في دفع أصحاب المعاصي عن حضور مولده فالجواب عن ذلك من أوجه.

أحدها أنه في عناية من ربه فكل من حضر مولده من أهل العصيان وافق نزول الرحمة والغفران فغفر له بسببه وتيب عليه ولو بعد حين من الزمان.

الثاني أن الغالب على حاله البسط وجاهه عريض يسع الخلق ولو وافقه جميع فساق أهل الأرض كذلك كان مغفورًا لهم بسببه.

الثالث أنه قد خرج إلى مقام لا تكليف فيه، وهؤلاء العاملون عملهم لهم وعليهم ومنهم من صنف في ذلك طبقات كبرى وقال فيها إن سبب حضوري مولد أحمد البدوي عند ضريحه ان شيخي العارف بالله الشناوي أحد أعيان بيته وكان قد أخذ على العهد في قبته تجاه القبر أن لا أخرج عن طريقته ثم أخذ بيدي وسلمني إلى أحمد البدوي وقال يكون خاطرك على عبد الوهاب فاحفظه واجعله تحت نظرك فسمعته يقول من داخل القبر نعم من آوى إلينا وجب حقه علينا، ثم أنه تراءى لي فرأيته وأنا بمصر هو وعبد العال وهما يقولان لي زرنا في مكاننا ونحن نطبخ لك ملوخية ضيافتك فجئت إلى قبرهما وأضافني غالب أهل الضيعة وجماعة المقام ملوخية، ثم رأيته وقد وافقني على جسر قحافة تجاه طنده فوجدته كالسور محيطًا بها فقال لي قف ههنا وادخل من شئت وامنع من شئت، قال ولما دخلت بزوجتي أم عبد الرحمن وهي بكر مكثت خمسة أشهر لم أقدر عليها ولم أقرب منها فأتاني من قبره ليلة من الليالي فأخذ بيدي وهي معي في فراشي وفرش لنا فراشًا بيده فوق ركن القبة الذي على يسار الداخل وأتى لنا بحلوى ودعا الأحياء والأموات من الأولياء، وقال لي أزل بكارتها ههنا وهم مشغولون بالأكل فكان من أمرنا ما كان في تلك الليلة، قال وقد تخلفت سنة من السنين عن الحضور للمولد وقد كان هناك الأولياء، فأخبرت أن أحمد البدوي كان يكشف الستر ذلك اليوم عن ضريح قبره ويقول أبطأ علينا عبد الوهاب ما جاءنا يحضر، قال وأردت التخلف سنة من السنين فرأيت أحمد وفي يده جريدة خضراء قد خرج بها من قبره وهو يدعو الناس من سائر الأقطار والناس خلفه وأمامه ويمينه وشماله وهم خلائق لا يحصون فمر علي وأنا بمصر، وقال لي أما تذهب فتحضرنا فقلت إني وجميع فقال الوجع لا يمنع المحب. ومنهم من يحكي عن القبور ويقول فلان استغاث بالقبر الفلاني في شدته فخلصه منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له، وفلان نزل به ضر فاشتكى إلى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، وعند هؤلاء العلماء في دين الشيطان وجنوده الجهلة بالله وما أنزل على رسوله وسدنة الأضرحة والمقابرية الذين هم من أشر البرية شيء كثير من هذه الحكايات والإيرادات والاعتقادات ما لو ذكرناه لاحتمل مجلدات، وهم من أكذب خلق الله على الأحياء والأموات، والنفوس مولعة في قضاء حوائجها وإزالة ضررها، وإذا سمعوا من هؤلاء الجهلة الضلال أن قبر فلان الترياق المجرب في إجابة الدعوة كشف الشدة سمعوا لهم وأجابوا وخضعوا للقبور ودعوهم، وأنابوا والشيطان له تلطف فيما يجلب إليه الدعوة فيدعوا أولًا هذا الداعي إلى أن يدعو صاحب القبر أو عنده فيقع دعاء هذا الداعي للملعون لا له، وهذا نتيجة الجهل بحقيقة ما بعث الله به الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فلم يكن له نصيب فيما جهلوه وادعوه وقد دعاهم إبليس إلى الفتنة ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وادعوا بقدر ما معهم من العلم الذي ظاهره قول معرب وحقيقة لا جهل مركب، حيث أوردوا فيما اعتقدوه وقالوه أحاديث مكذوبة مخلقة موضوعة اختلقها عباد الأصنام من السدنة والمقابرية على رسول الله ﷺ تناقض دينه وما جاء به كحديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على المدعين من الجهال والضلال الذي هم عن الحق معرضون والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار، وجنب أمته الفتنة بالقبور، كما جاءت به الآثار واستفاضت عنه في ذلك الأخبار بنقل أهل الصحيح ونقد أهل التصحيح، فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي رواية لمسلم: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون إلى منكم خليل فان الله قد اتخذني خليلًا كما أتخذ إبراهيم خليلًا وان كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ألا وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة كانت على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر أمته ما صنعوا" متفق عليه قالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا" متفق عليه، وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "ان من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" رواه الإمام أحمد وأهل السنن.

وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن يسجد للقبر نفسه، أو دعاه وعدل عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم فسهلت لهم وطابت بها قلوبهم من تعظيم القبور وإكرامها بما تهى عنه الشارع ومن عبادتها بدعائها ورجائها والالتجاء إليها والتوكل عليها والنذر. لها وكتب الرقاع فيها وخطاب الموتى بالحوائج يا سيدي يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها والخرق التي عليها تبركًا وإيقاد السرج عليها وتقبيلها وتخليقها، وشد الرحال إليها، وينضاف إلى ذلك إلقاء الخرق على الشجرة ودعاؤها والذبح والنذر لها إقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل كل الويل عندهم لمن أعاب وأنكر عليهم، ومن جمع بين سنة رسول الله ﷺ في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا، فنهى رسول الله ﷺ عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يتخذون عليها القبب والمساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقادها بالقناديل والسرج فيها، ونهى عن اتخاذها أعيادًا، وهؤلاء يتخذونها مناسك وأعيادًا يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، ونهى عن العقر والذبح لها، وهؤلاء يعقرون عليها وينذرون لها ويدعونها، وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي واسمه حيان بن حصين قال: "قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أن لا أدع تمثالًا إلاَّ طمسته ولا قبرًا مشرفا إلاَّ سويته" وفي صحيحه أيضًا عن ثمامة بن شفي الهمداني قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبر فسوي، ثم قال سمعت رسول الله ﷺ يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، فيرفعونها من الأرض كالبيت ويعقدون عيها القباب ويضعون عليها التوابيت ويكسونها كما يكسى بيت الله الحرام، ويفعلون عندها الموالد العظام ويجعلون لها السوائب من بهيمة الأنعام، ويكثر لديها رفع الأصوات والضجيج واختلاط الرجال بالنساء كالحجيج، ومن ذلك ما يفعله عباد الشيطان عند قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث خارج مكة وخديجة في المعلى كل سنة ثلاثة أيام مولد يحصل فيه من الضجيج وارتفاع الأصوات والدعاء بالاستغاثات واختلاط النساء مع الرجال في تلك الساحات، وكذلك عند قبر عبد الرحمن المحبوب بالدفوف ذوات الصنوج والطبول والبيارق والنحائر داعين مستغيثين به راجينه بذلك ليكون علم ناظرًا ولهم حافظًا لأنه المحب المحبوب، وهكذا عند قبر أبي طالب، وهم يعلمون ظاهر حاله وما هو عليه قبل الممات فالحكم لعلام الغيوب، ولو تعلق مظلوم بأستار الكعبة جذبوه من تحتها وفعلوا به ما أرادوا ولو دخل ظالم بسرقة أو قتل أو نهب مال على قبر أحد هذين الرجلين اللذين الله أعلم بهما من خلقه وهم فقراء إليه لم يقدموا ليأخذوه منه، ولم يقدموا حدود الله عليه، بل عندهم من فعل ذلك فقد تعدى وظلم ومآله إلى الندم، ومن نهى عن فعل ما تقدم وأمر بما أرسل الله به الرسل إلى سائر الأمم والعمل بالأحاديث النبوية والآيات القرآنية التي هي نص على توحيده خرجوه وبدعوه وكفروه ونسبوه إلينا وان كان لا يعرفنا، وما ذنبنا إلاَّ أن أمرنا بما أمر الله به رسله ونهينا عما نهى الله ورسوله، فبسبب ذلك عادونا وجلبوا بخيلهم ورجالهم ومدافعهم علينا وعن حج بيت الله الحرام الذي قال الله فيه: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } صدونا ومنعونا، وهدى النبي ﷺ صار شعارنا واتباع سنته علمًا علينا، فهم بذلك يعابوننا ويوبخوننا ويسبوننا ويجاهدوننا وما ذاك منهم علينا إلاَّ إتباع الأهواء وعموم البلوى والطعن في الدين والعناد في اليقين. { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله } وهم يفعلون المنكرات ويجعلونها قربات ونتيجتها صدقات زيادة على الشرك الأكبر في تلك المعتقدات، وذلك كله موجود في حرم الله وغيره من الساحات، وهل هذا كله إلاَّ لفقد الإسلام وجهله والاستهانة به عند هؤلاء الخاص منهم والعام، حيث جعلوا المنكر دينًا ونتيجة حسنة يقينًا، لكن مصيبة فقد الدين تهون ما هو فعل الظالمين المعاندين ونهى عن الكتابة عليها كما روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى رسول الله ﷺ عن تجصيص القبر وان يقعد عليه وأن يبنى عليه، وروى أبو داود في سننه عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ" نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها" قال الترمذي حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن والأشعار ويعلقون عليها بيض النعام وقناديل الفضة والرخام، فهؤلاء المعظمون للقبور المتخذونها أعيادًا الموقدون عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله ﷺ، محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر، ومن يزعم أنا نكفر بمجردها فهو كاذب جائر، إنما نكفر بالشرك الذي لا يغفر، وهو دعاؤها ورجاؤها والاستغاثة بها وذبح القربان والنذر لها لتدفع سوءًا أو تجلب خيرًا، أو تكون واسطة في ذلك، نعم نحن نهدم القباب التي على القبور، ونأمر بهدمها كما هدم النبي ﷺ قبة اللات في الطائف، وأمر علي رضي الله عنه بهدمها وخفض القبور المشرفة مطلقًا وتسويتها، وقد أمر به وفعله الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون، قال الشافعي في الأم: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور. [1] ويؤيد الهدم قوله: "ولا قبرًا مشرفًا إلاَّ سويته"، وحديث جابر المتقدم ذكره الذي في صحيح مسلم. ولأنها أسست على معصية الرسول لنهيه فبناء أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعًا، وأولى من هدم مسجد الضرار المأمور بهدمه شرعًا، إذ المفسدة هنا أعظم حماية للتوحيد، وأما هذه الكبائر فقد صرح الفقهاء من أصحاب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الصحابة والتابعين على تحريمها وأنها بدعة نهى رسول الله ﷺ عنها، قال أبو محمد المقدسي لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وافراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام، هذا وبيوت الله ظلمات لا يوقد فيها نور، بل يرون أن الفضل عليها في ذلك القبور، وقد آل الأمر بهؤلاء المعتقدين تعظيم القبور تعظيم عبادة للاحترام في الصدور إلى أن شرعوا لها حجًا ووضعوا له وقتًا وجعلوه أضعاف حج بيت الله الحرام سبعًا هذا قبر ابن علي الذي في مرباط من بلاد اليمن قد شاع عند الخاص منهم والعام ان زيارته والتبتل إليه في رجب تعدل سبع حجات وكذا الزيلعي الذي في اللحية قد شاع عندهم وذاع ان من مات فيها ودفن حوله في تلك البلاد انه في لحيته ليس عليه حساب ولا عذاب، وكذا قبر العيدروس الذي في عدن، وكذا قبر الشاذلي في المخافان أهل البر والبحر ليس لهم لهجة في الشد والرخاء إلاَّ بذكره زاعمين أنهم في أمانه وتحت نظره، وانه يغيث من دعاه في الشدة نائيًا كان، أو قريبًا في البر أو في البحر، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه مناسك حج مشاهد الأبرار لمن عني إليهم من المقيمين والزوّار، وصنف بعضهم كتابًا سماه روضة الأبرار في دعوة الأولياء الأخيار عند الشدائد المدلهمة الغزار، ولا يخفى أن هذا بعينه مفارق دين الإسلام والدخول في عبادة الأصنام، ومن نظر منصفًا بإخلاص إلى هذا التباين العظيم في هؤلاء المعتقدين من الناس عن الدين القويم والصراط المستقيم ماز وفرق بين ما شرعه رسول الله ﷺ وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور والاعتقاد وجاهد عليه وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه واعتقدوا فيه ودعوه ودعوا إليه، وحينئذ يحق أنا إنما ندعوا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، إلاَّ إلى الله تصير الأمور، ويحقق تك المفاسد الناشئة من خبث العقائد التي يعجز العادّون عن حصرها، وتشمئز قلوب العارفين لذكرها.

(فمنها): تعظيمها الموقع في الافتتان بها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور والألواح وبيض النعام وقناديل الفضة والرخام عليها وسدنتها وعبادتها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند البيت والمسجد الحرام، ويرون أن سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها.

(ومنها): بذل النذور لها ولسدنتها لجلب الخير ودفع الشرور.

(ومنها): اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء، وينزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الحائف، ويأمن الحوادث، إلى غير ذلك من الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.

(ومنها): الدخول في اللعنة، لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج والقناديل فيها ووقفه عليها.

(ومنها): اجتماع الرجال مع النساء واختلاطهم وضجيجهم ودعاؤهم إياهم.

(ومنها): جعل المنكرات قربات.

(ومنها): إيذاء أصحابا بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح يكره ما تفعله النصارى عند قبره إذا وجد في الأرض وما يعتقدونه في قلوبهم من الإفراط والتفريط في الحب، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله المعتقدون أشباه النصارى وأشكالهم عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال الله للمشركين فقد كذبوا بما تقولون وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }.

(ومنها): مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها.

(ومهنا): محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها.

(ومنها): التعب والنصب بالبناء والتشييد ووضع الأبواب ونقشها والجدران والاعتقاد، والتعظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم.

(ومنها): ان هذا الاعتقاد يؤول إلى حبط العمل والخسران.

(ومها): إماتة السنن وإحياء البدع.

(ومنها): جعل البدعة واجبًا وسنة، والواجب والمسنون بدعة وإثمًا، وهم في ذلك لا يعون ولا يتذكرون بل لمن خالفهم فيه ونهاهم عنه يبدعون ويخرّجون ويكفرون.

(ومنها): تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فان عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة والعزم على الموتى بما لا يفعلون في المساجد ربع عشرة ويحصل لهم فيها نظير ولا قريب من مثليه.

(ومنها): أن ذلك تضمن عمارة القبب والمشاهد وتنويرها وتعطيل المساجد من بيوت الله وعدم توقيرها، ودين الله الذي بعث به رسله وأنزل كتبه بضد ذلك كله.

(ومنها): ان الذي شرعه الرسول ﷺ عند زيارة القبور إنما هو تذكار الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤاله العافية للزائر وله فيكون الزائر محسنًا إلى الميت وإلى نفسه حتى لو كان نبيًا أو وليًا فالدعاء له مطلوب وهو إليه محبوب، وقد أمرنا ﷺ أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده وذلك له محقق ولكن تنويهًا بذكره ورفعًا لقدره وليعود ثواب الدعاء إلى الداعي، والكامل يقبل الكمال، فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وكانوا من الفريقين المغضوب عليهم والضالين بقصدهم زيارة الشرك الأموات يدعونهم، ويدعون بهم، ويسألونهم حوائجهم، واستنزال الرحمة والبركات بهم ونصرتهم لهم على أعدائهم وتفريج كرباتهم، وكشف شدائدهم، وإقالة عثراتهم، والعفو عن زلاتهم والهتف بذكرهم لحاجاتهم، فهم مسيئون إلى أنفسهم، محبطون لأعمالهم، مؤذون للأموات غالون في العقائد والمعتقدات معرضون عن شريعة الرسول، وما قاله الله في الآيات. وقد روى خالد بن دينار قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر ابن الحطاب رضي الله عنه فدعا له كعبًا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن، قال خالد فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت فما صنعتم بالرجل قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وواسينا القبور كلها مع الأرض لنعمّيه على الناس لا ينبشونه فقلت وما يرجون منه، قال كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال: منذ ثلاثمائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلاَّ شعيرات من قفاه ان لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به هؤلاء المشركون وعلموا حقيقته وما يكون لجادلوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله، فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانًا من لا يداني هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو لله وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد، وهم يقولون ويعتقدون أن الصلاة عندها والدعاء حولها والتبرك بها لها أفضلية مخصوصة ليست في المساجد، ولو كان الأمر كما زعموا بل لو كان مباحًا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علمًا لذلك ولما أخفوا قبره خشية الفتنة به وعليه بل دعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله من هؤلاء الخلوف التي خلفت بعدهم، ولو حضروهم لجادلوهم لأنهم قد اعتقدوا وقالوا ضد ما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان عليه، وما أحسن ما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى لن يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها ولكن، كلما ضعفت تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ﷺ ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا.

وقال سلمة بن وردان رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي ﷺ ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو، ونص على ذلك الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى ان المسلم إذا فرغ من السلام وأراد الدعاء استقبل القبلة حتى لا يدعو عند القبر، فان الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره مرفوعًا: "الدعاء هو العبادة " فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلاَّ ما شرعه رسول الله ﷺ وأذن فيه من السلام كلى أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم، فان الميت قد انقطع عمله، وهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبًا واستحبابًا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي، وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون لهم بإحسان، فقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا انتصر به. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأصحابها أفضل منه في غير تلك البقعة أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خفي علمًا وعملًا على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علمًا وعملًا بهذا الفضل العظيم، وتظاهر به الخلوف علمًا وعملًا، ولا يجوز أن يعلم السابقون الأولون علمًا ويزهدون فيه عملًا وهو يحثهم على الطاعة ويرغبهم فيها ثم لا ينقلونه أيضًا إلى من بعدهم مع حرصهم على كل خير لاسيما الدعاء فان المضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعًا وان كان فيه كراهة هذا، وهم قد عرضت عليهم شدائد واضطرارات وفتن وازعاجات وقحط وسنون مجدبات أفلا جاؤا إلى قبر النبي ﷺ أو أحد من أصحابه شاكين وله بها مخاطبين وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم إياه داعين أم كيف يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونها، هذا محال طبعًا وشرعًا، وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم ما هو دون هذا بكثير، فروي غير واحد عن المعرور بن سويد قال صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولئيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال أين يذهبون هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي ﷺ فهم يصلون فيه، فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم يتخذونها كنائس وبيعًا يرغبون عن هديه ويعرضون عما جاء به فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها، وكذلك أرسل عمر رضي الله عنه وأمر بقطع الشجرة السمرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله ﷺ بيعة الرضوان، وذكرها الله في القرآن لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة فقطعت بأمره، بل قد أنكر رسول الله ﷺ على أصحابه لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم وأمتعتهم بخصوصها يعظمونها بذلك ويتنوطون أي يجتمعون عندها ويعلقون أسلحتهم عليها لتعظيمها كما في حديث أبي راقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله ﷺ قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي ﷺ: "هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها لتعظيمها إلهًا مع الله وهم لا يدعونها مع ذلك ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعاؤه ورجاؤه والتوكل عليه والذبح والنذر له ليجلب خيرًا أو يدفع سوءًا، وأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر، ولكن لو كان أهل الشرك يعون ويعلمون الحق ولا فيه يعاندون ولا به يكذبون لما كانوا لنا يكفرون والفتنة يعتقدون والكفر يقولون ويفعلون، قال أهل العلم من أصحاب مالك وغيرهم انظروا أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء منها والشفاء من قبلها أو يضربون بها المسامر ويعقدون بها الخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها، وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتابه الذي ألفه وبين فيه الحوادث والبدع وسماه كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، ومن هذا القسم أيضًا قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وتعظيم مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم بها حاك أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن اشتهر بالصلاح والولاية أو فلان الولي له فيها وطأة فيعظمون تلك الأماكن في قلوبهم وألسنتهم ويأتونهم لشفاء أمراضهم وقضاء حوائجهم بدعائها والنذر لها وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر فهم يفعلون هذا الشرك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه ويظنون أنهم يتقربون بذلك إليه إلى ان قال فيه كلامًا مجانسًا لما ذكرنا فما أسرع هذا الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت، ويقولون ان هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه الوطأة وهذه العين يضر وينفع ويشفع ويقبل النذر أي يقبل العبادة من دون الله فان النذر عبادة قربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، فهم يتمسحون بتلك الأنصاب ويستلمونها ولقد أنكر السلف التمسح بحجر مقام إبراهيم عليه السلام الذي أمرنا الله أن نتخذ منه مصلى كما ذكر ذلك الأزريقي في كتاب مكة عن قتادة في قوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } قال إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها ولو ذكر أثر قدم أو أصبع عكفوا عليه ومسحوه حتى اخلولق الدين وغرب الإسلام، وعاد اعتقاد المشركين وعظمت الفتنة بهذه الأنصاب كفتنة أصحاب القبور التي هي أصل فتنة عباد الأصنام ذكره السلف من الصحابة والتابعين ولم يكفهم التسمح الآن بالمقام بل يدعونه ويرجونه وينذرون له ويسألونه شفاعته ويخاطبونه بقضاء حوائجهم وردهم إلى أوطانهم ومن عاب ذلك وأنكره عليهم فهو عندهم منسوب إلينا وقالوا له وهابي أو عارضي أو شرقي أو خارجي وما ذنب هذا المعيب المنكر إلاَّ أنه شاكنا أو وافقنا بالأمر فيما أمر الله به ورسوله والنهي عما نهى الله عنه ورسوله، والعلماء بذلك يعلمون وقلوبهم مطمئنة غير كارهة فهم لا ينكرون ولا الحق يقولون. وفي مقابلة المسجد الحرام. والبيت والمقام جهة الشرق زقاق يقال له زقاق الحجر فيه حجر موضوع عرض الحائط يتمسحون به ويدعونه زاعمين أنه الذي سلم على النبي ﷺ وهو كذب وبهتان ليس هو، فإنه ﷺ قال وهو في المدينة أني لأعلم حجرًا بمكة يسلم عليّ ولم يعينه خشية الافتتان به، بل لو تحقق أنه هو ليس هو بأفضل من مقام إبراهيم وجدار الكعبة المشرفة، والسلف الصالح ينهون عن التمسح بشيء من ذلك إلاَّ الحجر الأسود سنة رسول الله ﷺ والسلام على النبي ﷺ من جملة حب الله وذكره وان من شيء إلا يسبح بحمده وجميع المخلوقات حتى الجمادات تعرفه ﷺ لما جعل الله فيها من قوة الادراكات وإذًا فلا مزية في حجر أو شجر إلاَّ الحجر الأسود خاصة فانه يمين الله في الأرض، ومع سنية تقبيله ووضع الجبين عليه لا يدعى ولا يرجى ولا يتوكل عليه وان اعتقدنا شفاعته في الآخرة ليس هو بأفضل من الأنبياء والأولياء ومع ذلك لا يشفعون إلاَّ من بعد إذن الله لمن يرضى عنه وإذًا فسؤال الشفاعة إنما هو من الله فسأل منه كما يسأل تعالى الثبات على الدين والوفاة على الإيمان وهو أرحم الراحمين. ويقابله حجر منقور على قدر المرفق يزعمون أن النبي ﷺ تمرفق عليه فأثر به وهو أيضًا كذب لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين ولا تابعيهم ولا عمن يعتد به من أهل العلم ولم ينقل ولا في حديث ضعيف انه ﷺ وجد له أثر قدم أو أثر مرفق أو وضع في حجر، وإنما ذلك من تلبيس إبليس على هؤلاء ليغويهم ويحسن لهم شركهم وهم يزعمون أنه حب لنبيهم، وما محبته إلاَّ اتباع شرعه، وما جاء به والعمل به، ودحض ضده، ومعاداته، زيادة على حب ذاته ﷺ ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" وفيه أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفيه أيضًا عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدًا لا يحبه إلاَّ لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" وفيه أيضًا عن عبد الله بن هشام قال: "كنا مع النبي ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلاَّ من نفسي فقال النبي ﷺ والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فانه الآن يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي ﷺ الآن يا عمر" وليس حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم إلاَّ مجتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعتهم في ستهم وهديهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم، كما ان عامة من يشرك بهم شيئًا أكبر أو أصغر يترك ما عليه من طاعتهم بقدر ما ابتدعه من الإشراك به، فليس على المؤمن ولا له إلاَّ طلب طاعتهم قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وقال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وكذلك حقوق الصديقين المحبة في القلب وتوقيرهم وإجلالهم فيه، ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة لا عبادتهم ولا عبادة قبورهم أو آثارهم وقد قال ﷺ" اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" وفي المعلى زاوية تنسب لعبد القادر رحم الله روحه ونوّر ضريحه فيه دوحة عظيمة يعلقون عليها الخرق ويجعلون فيها البيارق والأعلام يرجونها وبركتها ويدعونها وليست إلاَّ ذات أنواط، وفي المدعى زاوية أخرى فيها مثلها غير الزوايا والبنايا التي على القبور تدعى وترجى، فقد وجد في حرم الله طهره الله وصانه وجعل المتقين أولياءه وسكانه جميع ما نهى الله عنه في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فأما الخمر والميسر والأزلام والزنا واللواط فهذا أمر مشهور دلائله قائمة عليه حتى في المسجد الحرام تجاه الكعبة المشرفة، وأما الأنصاب فهي كل ما نصب يعبد من دون الله أو معه من حجر أو شجر أو وثن أو قبر وأحدها نصب كطنب والجمع أنصاب كأطناب، قال ابن عباس كل معبود من دون الله أو معه فهو نصب قبرًا كان أو حجرًا أو شجرًا. وقال الزجاج أصلها الحجارة التي تتخذ على صورة من يعبدونه ثم استعملت في كل الأوثان وقال مجاهد وقتادة وابن جريح كانت الأنصاب حول البيت أحجارًا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها وكانوا يعظمونها ويدعونها لتشفع لهم ويعبدونها وكل ما اتخذ لذلك فهو نصب، والأصنام أخص من ذلك، وقال الفراء الأنصاب هي الآلهة التي كانت تعبد من أحجار أو أشجار أو قبور أو غيرها، وأصله من الشيء المنصوب الذي يقصده من أراده ورآه ومنه قوله تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } قال ابن عباس إلى غاية أو علم يسرعون وهو قول أكثر المفسرين وقال الحسن يعني إلى أنصابهم أيهم يستلمها أول. قال الزجاج وهذا على قراءة من قرأ نصب بضمتين كقوله وما ذبح على النصب. قال ومعناه أصنام لهم فالشيطان قد نصب للمشركين ما قصدوه فدعوه واعتقدوه وعبدوه كائنًا من كان في أي مكان كان ولا يخفى ما اعتقدوا في عبد الرحمن المحجوب وأبي طالب ومحمود ولد إبراهيم بن أدهم وولد البدوي وسائر عباد الله من الأنبياء والأولياء وابن عباس أو غيرهم من الشياطين والأخشاب والأحجار والأشجار والاعتقادات الغزار والمعتقدات حتى الطين والفخار فإنهم يزعمون أن حماية مكة المشرفة بالقبرين المكتنفين لها اللذين في أطرافها من أسفلها وأعلاها أحدهما محمود والآخر أبو طالب وأنها في حفظ البنايا التي بين ذلك وحماها ولم يحققوا معنى قوله تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا.. } الآية فبعث عليهم بخت نصر فقتل منهم ألوفًا وسبى ذريتهم وخرب بيت المقدس، وهو أكثر أرض الله أنبياء فما حموه ولا أغنوا عنه من الله شيئًا، ولكن الله الحافظ لبيته ولحرمه كما حفظه من أبرهة وأمثاله. فبهذا يتبين أن الشيطان اللعين نصب لأهل الشرك قبورًا يعظمونها ويعبدونها أوثانًا من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه ان من نهى عن عبادتها واتخاذها أعيادًا وجعلها والحالة هذه أوثانًا فقد انتقصها وغمصها حقها وسبها، فيسعى الجاهلون المشركون في قتالهم وعقوباتهم وما ذنبهم عند هؤلاء المشركين إلاَّ أنهم أمروهم بإخلاص توحيده ونهوهم عن الشرك بأنواعه قالوا وتعطيله نعند ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم فهم لا يؤمنون وقالوا قد انتقصوا أهل المقامات والرتب فاستحقوا الويل والعتب، وفي زعمهم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، ويسري ذلك في نفوس الجهال والطغام كثير ممن ينتسب إلى العلم والدين وحب الأولياء وإتباع المرسلين، وبسبب ذلك عادونًا وبالعظائم الكبائر والجرائم الغزار رمونا ونسبوا كل فعل قبيح إلينا ونفروا الناس عنا وعما ندعوا إليه، والوا أهل الشرك وظاهروهم علينا وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله وكتابه، ويأبى الله ذلك، فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاَّ المتقون له الموافقون له العارفون به، وبما جاء به والعاملون به والداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا، اللابسون ثياب الزور الذين يصدون الناس عن دين نبيهم وهديه وسنته ويبغونها عوجًا يحسبون أنهم يحسنون صنعًا بإتباعه واحترامه والعمل به تعظيم الأنبياء والأولياء واحترامهم ومتابعتهم لهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه وهم أعصى الناس لهم وأبعدهم منهم ومن هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي، وأهل التوحيد أين كانوا أولى بهم وبمحبتهم ونصرة طريقتهم وسنتهم وهديهم ومنهاجهم، وأولى بالحق قولًا وعملًا من أهل الباطل، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات بعضهم من بعض، ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه وتدبره وتفهمه أغناه عن إتباع الشيطان وشركه الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول بكليته وحدث نفسه وعمل باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن البدع والشرك والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس الشيطان والنفوس وتخيلات الهوى والبؤس، ومن بعد عن ذلك فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه بل مضرة عليه كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وذكره وخشيته والتوكل عليه والإنابة إليه أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه، وأغناه عن عشق الصور وإذا خلا من ذلك عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده، فالمعرض عن التوحيد عابدًا الشيطان مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله وذكره عبد الصور شاء أم أبى، والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وأما الصلاة في المقبرة فقد اختلف الفقهاء فيها هل هي محرمة أو مكروهة وإذا قيل هي محرمة فهل تصح مع التحريم أم لا والمشهور عن الإمام أحمد وموافقيه أنها تحرم ولا تصح لما روى عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ: "أنه نهى عن الصلاة في سبعة مواطن وعد منها المقبرة" وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله ﷺ قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وقال أبو سعيد الخدري قال رسول الله ﷺ: "الأرض كلها مسجد إلاَّ المقبرة والحمام" رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة وصححه أبو حاتم بن حبان وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر فقال القبر القبر. وهذا يدل بصريحه على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور، وفعل أنس لا يدل على اعتقاد جوازه فإنه فلعله لم يره أو لم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر تنبه ولم يصل، ومن تأمل النصوص المتقدمة تبين له أنها محرمة بلا شك وأن الصلاة فيها لا تصح، وفي هذا إبطال قول من زعم أن النبي ﷺ إنما نهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول وهو باطل من عدة أوجه:

منها أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة.

ومنها أنه ﷺ لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة فان ذلك لا يختص بقبور الأنبياء ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع ليس للنجاسة عليها طريق البتة، فان الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون. ومنها أنه نهى عن الصلاة إليها.

(ومنها): أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلاَّ المقبرة والحمام ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور ولما ذكر الحمام.

(ومنها): ان موضع مسجده ﷺ كان مقبرة للمشركين فنبشوا مكان قبورهم وسواها واتخذه مسجدًا، ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها على ذلك كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: لما قدم النبي ﷺ المدينة فنزل بأعلاها في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام النبي ﷺ فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤا متقلدين السيوف وكأني أنظر إلى النبي ﷺ على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا فقالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلاَّ إلى الله. فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي ﷺ بقبور المشركين فنبشت ثم بالحرب فسويت وبالنخيل فقطعت فصفوا النخيل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون وذكر الحديث.

(ومنها): ان فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإذا نهى عن ذلك سدًا لذريعة التشبه الذي لا يكاد يخطر ببال المصلى فكيف بهذه الذريعة القربة التي كثيرًا ما تدعو صاحبها إلى الشرك من دعاء الموتى واستجابتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد، وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله، فان فصد الصلاة عندها عين المحادة لله ولرسوله، فأنى التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة، ومما يدل على أن النبي ﷺ قصد منع الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.

(ومنها): أنه لعن المتخذين عليها المساجد ولو كان ذلك لأجل النجاسة لا يمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر فتزول اللعنة وهو باطل قطعًا.

(ومنها): أنه قرن في اللعنة متخذي المساجد عليها ومرقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان وفي ارتكاب الكبيرة من أصل واحد مجتمعان، فان كل ما لعن عليه رسول الله ﷺ فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبًا يقصده المشركون لينالوا منه ما طلبوه ويحصل لهم ما قصدوه، كما هو الواقع الآن من مشركي هذا الزمان، فهكذا اتخاذ المساجد عليها، ولهذا قرن بينهما فان اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها، ألا ترى إلى ما حكى الله عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا لنتخذن عليهم مسجدًا.

(ومنها): أنه ﷺ قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فذكر ذلك عقيب قوله اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثانًا تعبد بدعائها ورجائها.

وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول ﷺ مقاصده جزم جزمًا لا احتمال معه للنقيض ان هذه المبالغة منه واللعن والنهي بصيغته صيغة لا تفعلوا أو صيغة إني أنهاكم عن ذلك ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكاب ما عنه نهاه وإتباع هواه وعموم بلواه، ولم يخش الله ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم من تحقيق شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فإن هذا وأمثاله من النبي ﷺ صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريدًا له وغضبًا لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلاَّ معصية لأمره وارتكابًا لنهيه وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم فيهم أشد غلوًا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ووالله ان من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقهم والعمل بهديهم وانزلهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الألوهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم، وأما المشركون فعصوا أمرهم وخالفوا طريقتهم فانتقصوهم بذلك وان عظموا صورهم، قال الشافعي رحمه الله: أكره شديدًا أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. وقال مالك: لا يزاد القبر عن السلام عليه والدعاء له ولا يتحرى الدعاء ولا الصلاة عنده، هذا شعار اليهود والنصارى المشركين. وقال أبو حنيفة: يسلم على الميت ويدعو له ولا يدعو به ولا يصلى عنده لأنه من فعل المشركين، وكذا قال أبو يوسف، وممن علل بالشرك أيضًا ومشابهة اليهود والنصارى الأثرم في كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه، فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد أن النبي ﷺ قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا طهورًا إلاَّ القبر والحمام" وحديث سعيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر أن النبي ﷺ: "نهى عن الصلاة في سبع مواطن" فذكر منها المقبرة إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم مساجد. وهذه المسائل المشهورة عند أربابها معروفة إنما الغرض التنبيه على ما يخفى من غيرها فما دخل في هذا قصد القبور للدعاء عندها أو بها فان الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين:

(أحدهما): أن يحصل الدعاء في البقعة اتفاقيًا لا قصد الدعاء فيها كمن يدعو الله في طريقه ويتفق أن مروره بالقبور أو كمن يزورها فيسلم على أهلها فيسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فهذا ونحوه لا بأس به بل الثاني مأمور به.

(الثاني): أن يتحري الدعاء عندها بحيث يعتقد أن الدعاء هناك أحق بالإجابة منه في غيره، فهذا النوع منهي عنه نهي تحريم وما جاء عن الله أو رسوله كالدعاء والذكر في أماكن نسك الحج التي هي من شعائر الله فالعمل به هو المندوب والقصور عليه هو المطلوب.

(وقول صاحب المقدمة) لكن لا يلزم من ذلك تكفير مرتكبه.. الخ دليل على أمور:

(الأول منها): أنه لم يعرف الشرك وحقيقته لأنه جعل تعظيم القبور وعبادتها بدعائها برجائها والاستغاثة بما والنذر لها لتدفع سوءًا أو تجلب خيرًا إنما فيه مجرد الحرمة فقط.

(الثاني): أنه جاهل حقيقة ما عليه عباد الأوثان كيف كان عبادتهم لها فإنه يعتقد أن عبادتها مجرد السجود لها أو أنها شريكة مع الله في ملكه والله يقول: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ }.

(الثالث): أنه ناقض لحكم الله ورسوله في أهل الشرك الأكبر فان حكم الله فيهم القتل والسبي ما لم يتوبوا قبل القدرة عليهم، وهذا حكمه فيهم عدم القتل والسبي لأنه قال وحكمه كما قدمناه النصيحة والوعظ والزجر لا غير ذلك.

(الرابع): حصر هذا الشرك في العوام والأعراب ولم يعلم أنه في أكثر قلوب مدعي العلم والعبادة والزهاد ويتخذونه سببًا من جملة الأسباب.

(الخامس): زعمه أنا نكفر بمجرد الصلاة في المقبرة وهذا أيضًا مما يدل على عدم تحقيقه أمرنا ونهينا وأنه من قول الزور والبهتان علينا لكن له فيمن قبله أسوة قبيحة حيث رمونا بأكبر من ذلك فقالوا عنا أنهم الكفرة الفجرة ونحن إنما نكفر من قصد أصحاب القبور ليفرجوا كربته ويكشفوا شدته أو هتف بذكرهم نائيًا عنهم أو قريبًا منهم يدعوهم ويرجوهم ويتوكل عليهم وينذر ويقرب لهم ليجلبوا له خيرًا أو يدفعوا عنه سوءًا أو ليكونوا واسطة ووسيلة ليشفعوا له في ذلك أو من اعتقد ذلك في الأشجار والأحجار أو من رضي فعلهم ذلك ممن ظاهرهم علينا كفرنا بأمرنا ونهينا ودلائلنا في ذلك كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وقد تقدم بحثها مستوفاة فلا حاجة إلى إعادتها فأما مجرد الصلاة بلا اعتقاد مما قدمناه وقلنا ففعلها في المقبرة حرام على الصحيح، ولا تنعقد في القول المشهور وحكمها الوعظ والنصيحة والزجر والتعزير مع الإصرار، وإعادة الصلاة والتوبة من هذا الذنب لا غير ذلك، مع إنا نقول ان قصد الصلاة فيها من الشرك لنهي النبي ﷺ عن الصلاة فيها ولعن فاعله وهو يشبه عبادة الأصنام لكن هو من الأصغر حيث لم يعتقد شيئًا مما تقدم والله أعلم.

زيارة القبور الشرعية وما ورد في ذلك

وأما قولكم (ما يفعل من زيارتها فهو أمر مندوب كما ورد في الخبر الصحيح عنه ﷺ "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" فيكف يذهب إلى تكفير من يزورها مع رعاية الأدب لاسيما زيارة قبر الشريف، فإنها من أعظم القرب وأرجى الطاعات وفي شرح المختار هي أفضل المندوبات والمستحبات، بل تقرب من درجة الواجبات، وفي مناسك الطرابلسي نقلًا عن مناسك الفارسي أنها قريبة الواجب في حق من كان له سعة قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وري الدار قطني وأبو بكر البزار عن النبي ﷺ "من زار قبري وجبت له شفاعتي" وقال ﷺ "من جاءني زائرًا لا تهمه إلاَّ زيارتي كان حقًا عليّ أن أكون شفيعًا له يوم القيامة" أخرجه الدار قطني وعن أنس عن النبي ﷺ أنه قال ("لا عذر لمن كان له سعة من أمته ولم يزره") أخرجه الحافظ محمد ابن عساكر وعنه ﷺ قال: "من حج وزار قبري بعد موتي كمن زارني في حياتي" أخرجه الدار قطني وعنه ﷺ أنه قال: "من زارني في المدينة متعمدًا كان في جواري إلى يوم القيامة").

فنقول: كان رسول الله ﷺ أولًا قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدًا للذريعة لأنهم قريبو عهد بشرك بأهلها وبصورهم، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرًا، كما رواه الإمام أحمد والنسائي عن بريدة قال قال رسول الله ﷺ: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرًا" ومن أعظمه الشرك عندها قولًا وفعلًا فزيارة القبور على الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله هي من أفضل احترامها في الصدور حيث أمر الشارع بها ونهى عن إهانة أهلها ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "زوروا القبور فإنها تذكر بالموت" وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن رسول الله ﷺ قال: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة" رواه الإمام أحمد، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وآتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون وإنا ان شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد" وفي صحيحه أيضًا عنها أن جبريل أتاه فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، وفي صحيحه أيضًا عن سليمان بن بريدة عن أبيه أنه قال كان رسول الله ﷺ يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا "السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا ان شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية" وعند الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: مر النبي ﷺ بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم أهل القبور يغفر الله لنا ولكم ونحن بالأثر" وعند ابن ماجه عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة" وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال قال رسول الله ﷺ: "كنت نهينكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة" وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لأمتي فلم يأذن ربي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" فعلم من هذا أن زيارة الموحدين القبور مقصو ها ثلاثة أشياء:

أحدها: تذكار الآخرة والاعتبار والاتعاظ وقد أشار النبي ﷺ إلى ذلك بقوله زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة.

الثاني: الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به قبره ويتناساه كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك فالميت أولى لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلوهم ومعارفهم فإذا زاروهم وأهدوا إليهم هدية من دعاء أو صدقة أو إهداء قراءة ازدادوا بذلك سرورًا وفرحًا، كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له، ولهذا شرع النبي ﷺ للزائر أن يدعو لأهل القبور بالرحمة والمغفرة وسؤال العافية فقط ولم يشرع أن يدعوهم ولا يدعوا بهم ولا يصلي عند قبورهم.

(الثالث): إحسان الزائر إلى نفسه بإتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول ﷺ فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.

وأما زيارة المشركين فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام قالوا ان الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا يزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس شعاع المرآة الصافية والماء ونحوهما على الجسم المقابل له قالوا فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، كلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها بدعائها ورجائها والتبتل إليها وتعظيمها بالتعلق علها قالوا إذا تعلقت النفوس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور والإعانة والبهجة والسرور فبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، وبها الاستغاثات، وبهذا اتخذت الأصنام المجسدة وهذا بعينه هو الذي أوجب دعاء أصحاب القبور والهتف بذكرهم عند نزول الشدائد والشرور واتخاذها أعيادًا وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج وبناء المساجد عليها وهذا هو الذي قصد رسول الله ﷺ إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذريعة المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وتفريقه وصار رسول الله ﷺ في شق وهؤلاء في شق.

الشفاعة الثابتة والمنفية والمنهي عنها

ما ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله وتقربهم منه، قالوا فان العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك من السلطان من الأنعام والأفضال والإفاضة ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به، فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسوله ﷺ وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على هؤلاء وإبطال مذاهبهم قال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهم وان صوروا صورًا لا تعقل فإنها صور الأنبياء والملائكة والصالحين ليتقربوا بهم وليشفعوا لهم ويدعوهم وينالوا منهم فأخبر سبحانه أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن شاء أن يشفع فيمن رضي عنه فيشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي شفع عنده إنما شفع بإذنه له، وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم في عقيدتهم وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه بقوله: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } وقال تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وقال: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد سبحانه رحمة عبده، أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } وقال: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه بل شفيع بإذنه، والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المملوك المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول اشفع في فلان ولهذا كان أسعد بشفاعة سيد الشفعاء وأفضلهم يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وأخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله سبحانه قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } وقال: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا }، فأخبر سبحانه أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلاَّ بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع. فأما الشرك فإنه لا يرضيه ولا يرضاه قولًا، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين:

أحدهما: رضاه عن المشفوع له.

الثاني: إذنه للشافع، فمتى لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة، وسر ذلك وقوامه أن الأمر لله وحده فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئًا إلاَّ بعد إذنه لهم وأمره إياهم، ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله، وإذن فهم مملوكون لا يتكلمون إلاَّ من بعد إذنه، أفعالهم مقيدة بأمره فإذا أشرك بهم المشرك فدعاهم ورجاهم وتوكل عليهم واتخذهم له شفعاء من دون الله ظنًا منه أنه إذا فعل ذلك واعتقد بهم ما هنالك تقدموا له وشفعوا عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وتعالى وما يجب له ويمتنع عليه، فإن هذا محال ممتنع تشبيه قياس الرب تبارك وتعالى على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصهم أولياء هم من يشفع له عندهم في قضاء الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتحذ المشركون الشفيع والولي من دون الله، والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق، والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد المالك والعبد المملوك، والغني بالذات الذي لا حاجة به إلى أحد قط والفقير بالذات المحتاج من كل وجه إلى غيره، فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم وأعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والأكابر بهم ولولاهم سبب، لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس فلحاجتهم إليهم احتاجوا إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها، ولم يعرضوا عن الشافع لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقص طاعتهم لهم ويذهبوا إلى غيرهم فلا يجدون بدًّا من قبول شفاعتهم على الكره والرضا، فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وكل من في السموات والأرض عبد مقهور بقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعًا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وألوهيته مثقال ذرة ولا أنقص ولا أكثر، قال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } الآية، وقال سبحانه في أفضل آية في القرآن: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وان لا أحد يشفع عنده إلاَّ بإذنه، فإنه ليس له شريك بل مملوك محض. قال تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض فإنهم لإخبارهم من أحوال الناس ما لا يعرفه الملوك، والله سبحانه يعلم السر وأخفى، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى وهو السميع البصير، يسمع سبحانه ضجيج الأصوات باختلاف اللغات في تفننها وما تنطق به من الكلمات لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، بحلاف المخلوقين فإنهم قد لا يريدون نفع الرعية ولا الإحسان إليهم أول وهلة، ويتوقف ذلك على وجود محرك خارجي. فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه أو من يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، أو ما لما يحصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير وأما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه، والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب أن تكون بمشيئته تعالى فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه الذي أجرى نفع العباد بعضهم على يد بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا أو يدعو له أو يشفع فيه، وهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي والشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، أو من يرجوه الرب أو يخافه. ولهذا قال النبي ﷺ: "لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي ان شئت اللهم ارحمني ان شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له" بخلاف المخلوق فإنه يقبل شفاعة مملوكه لخوفه أن لا يعطيه أو أن يسعى في ضرره، وكذلك قبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة والى الولد حتى لو أعرض عنه ولده أو زوجته أو مملوكه لتضرر بذلك وشفاعة العباد بعضهم لبعض عند بعض كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلاَّ لرغبة أو رهبة، وقبول الشفاعة من باب النفع للغير، والمخلوق لا ينفع غيرهم إلاَّ لما يحصل له من النفع إما من الله بالثواب، وإما من غيره بالمعاوضة، والله لا يرجو أحدًا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني سبحانه فبين سبحانه أن الشفاعة التي نفاها في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس بينهم ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلاَّ بعد إذنه وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه ومتوكله ومدعوه الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه بإتباع رسله ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه قال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ.. } إلى قوله {.. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فهذا إنكار عليهم وتوبيخ لهم، أي أتخبرونه بأن لكم عنده شفعاء وهو لا يعلمها في السموات ولا في الأرض، ففيه تقريع وتهكم بهم لأن ما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له وجود ولا تحقيق وقال تعالى: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } فبين سبحانه أن من اتبع من دون الله شركاء بشفاعتهم له عنده من دونه فليس معه إلاَّ ظن وخرص والظن المقرون بالحرص هو ظن باطل غير مطابق للحق، فإن الخرص هنا ضمن معنى الكذب لقوله تعالى: { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } ومن ظن أن ما هنا نافية فقد أبعد وفسر الآية بما هو خطأ، بل معناها استفهام إنكاري أي أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون وان الشفاعة لا تحصل باتخاذهم إياهم، وإنما تحصل بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له. (فالزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ لأمته وعلمهم إياها فنحن إن شاء الله تعالى نعملها ونأمر بها) هل يوجد فيها شيء مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم هي مضادة لما هم عليه من كل وجه، لكن ما أحسن قول مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "لن يصلح هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها" وكلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وجعلوه من الدين، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ﷺ، ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو، ونص على ذلك الأئمة الأربعة ان الداعي يستقبل القبلة وقت الدعاء لأنه عبادة، كما جاء في الترمذي وغيره مرفوعًا إلى النبي ﷺ: "ان الدعاء هو العبادة" بل هو مخها. فجرد السلف هذه العبادة لله ولم يفعلوها عند القبور إلاَّ للأموات بعد السلام عليهم والاستغفار لهم لانقطاع عملهم، ولهذا شرع في الصلاة عليهم من الدعاء ما لم يشرع مثله للأحياء، قال عوف بن مالك صلى رسول الله ﷺ على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه أكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارًا خيرًا من داره وأهلًا خيرًا من أهله وزوجًا خيرًا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" حتى تمنيت أن كون أنا الميت لدعاء رسول الله ﷺ لذلك الميت رواه مسلم في صحيحه عنه وقال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله ﷺ يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء له فاغفر له وارحمه" رواه الإمام أحمد وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" وقالت عائشة رضي الله عنها وأنس عن النبي ﷺ: "ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يستغفرون له إلاَّ شفعوا فيه" رواه مسلم في صحيحه عنه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلاَّ شفعهم الله فيه" رواه مسلم فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له والاستغفار له، ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه وهو على نعشه، فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره، وقد كان ﷺ يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "اسئلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" فعلم بهذا أن الميت أحوج إلى الدعاء بعد الدفن فإذا قام المسلمون على جنازته ودعوا له، لا دعوا به وشفعوا له لا استشفعوا به، فعند الدفن أولى وأحرى، فبدل أهل الشرك والبدع قولًا غير الذي قيل لهم بدلوا الدعاء له بدعائه، والاستغفار له باستغفاره، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ إحسانًا إلى الميت وإحسانًا إلى الزائر وتذكيرًا بالآخرة سؤال الميت نفسه، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في الصلاة والمساجد ووقت الأسحار.

الدعاء عند الموتى أو بهم ليس من الوسائل المشروعة

(ومن المحال) أن يكون دعاء الموتى والدعاء بهم والدعاء عندهم وسيلة مشروعة وعملًا صالحًا مأمورًا به، وتصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله ﷺ ثم يرزقه الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فهذه سنة رسول الله ﷺ في أهل القبور بضعًا وعشرين سنة حتى توفاه الله إليه واختار له ما لديه، وهذه سنة الخلفاء الراشدين المهديين وهذه طريقتهم وجميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، هل يمكن بشرًا على وجه الأرض أن يأتي عن أحدهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلًا أن يصلوا عندها أو يسألوها حوائجهم، أو يسألوا الله بأصحابها، فليوقفنا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم من المتبعين أهواءهم بكثير من المختلقات والحكايات المخترعات والكذبات والتمويهات، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات زور وبهتان ليس فيها عن رسول الله ﷺ، ولا عن خلفائه الراشدين المهديين، ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين لهم بإحسان حرف واحد من ذلك بلى فيها ضد الإسلام وخلافه شيء كثير كما تقدم من قولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه وأمثال ما هو منافض لما بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب.

(وأما زيارة قبر نبينا محمد) ﷺ أو سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال العلماء لا يثبت قبر معروف لنبي إلاَّ نبينا محمد ﷺ وغير إنما هي ظنون لا يمكن تعيينه في مكان معلوم وان علمت البقعة المدفون فيها كما صح عنه ﷺ أنه أخبر بقبر موسى عند الكثيب الأحمر عن القدس رمية حجر، قال: "فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" رواه البخاري، وإلا قبري صاحبيه رضي الله عنهما.

وزيارة قبره الشريف فيها تفصيل لائق ينبغي طلبه، قد فصلها الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون، وقسموها إلى قسمين مشروع وغير مشروع.

فأما المشروع منها فهو ما قاله الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو حنيفة، وغيرهم من المجتهدين كلهم قالوا ان من كان حاضرًا في المدينة فيشرع في حقه أن يأتي إلى القبر فيصلي ويسلم على النبي ﷺ، وعلى صاحبيه رضوان الله عليهما قالوا ولا يكثر من المجيء عليه ولا يكرره في اليوم مرات احترامًا له، ولأنه لم يفعله الصحابة ولا التابعون، وان من قدم من سفر أو خرج إليه فيقف على قبر النبي ﷺ فيصلى ويسلم عليه، وعلى صاحبيه بعد أن يصلي لله في المسجد ركعتين. وروى ابن بطة في الإبانة بإسناد صحيح عن معاذ بن معاذ قال حدثنا ابن عوف قال سأل رجل نافعًا فقال هل كان ابن عمر يسلم على القبر فقال نعم لقد رأيته مائة مرة أو أكثر منها كان يأتي إلى القبر فيقوم عنده فيقول السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وفي رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد محتجًا بها ثم ينصرف، وهذا الأثر رواه مالك في الموطأ وكره غيره من العلماء أن كقول زرنا قبر النبي ﷺ. وذكر بعضهم أنه علله بلعنه زوارات القبور. قال القاضي عياض والأولى أن يقال إنما كرهه مالك لإضافة الزيارة إلى قبر النبي ﷺ لو قال زرنا النبي لم يكره لقوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فلا تضاف الزيارة إلى القبر للتشبه بأولئك، واتفقوا على أنه إذا دعا بمسجد النبي ﷺ لا يستقبل القبر وإنما يستقبل القبلة، وتنازعوا في الاستقبال عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهم يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وبعضهم يعزوه إليه. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى بل يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه عنه، وقال مالك فيما ذكر إسماعيل بن اسحق في المبسوط، والقاضي عياض في الشفاء والمشارق وغيرهما من أصحاب مالك، وعنه لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو ولكن يسلم ويمضي، وقال أيضًا في المبسوط عن مالك لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي ﷺ ويسلم عليه ويدعو له ولأبي بكر، فقيل له ان أناسًا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلاَّ وهم يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر يأتون عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا لا من الصحابة ولا غيرهم، ولا يصلح هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه أمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكررون المجيء إلى القبر، بل كانوا يكرهونه إلاَّ لمن جاء من سفر أو أراده، ولا يختلف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه عنه أن المسلم لا يستقل القبر عند الدعاء، وقد نص أنه لا يقف عند الدعاء مطلقًا ذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي ﷺ ثم يدعو مستقبل القبلة ويوالي القبر ظهره وقيل لا يوليه ظهره فاتفقوا في استقبال القبلة وقت الدعاء، وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت دعائه للنبي ﷺ. وسبب هذا التنازع والله أعلم أن مالكًا رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام على النبي ﷺ والدعاء له فاختلفت الرواية عنه في ذلك هل هو وفت السلام عليه والدعاء له يستقبل القبر أو يليه ظهره. وإنما اختلفت الرواية عنه لأن السلام على النبي ﷺ يسمى دعاء. ولهذا ذهب أبو حنيفة، ومن وافقه من فقهاء العراق إلى أن المسلم يستقبل القبلة. والصحيح المشهور عن مالك استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم، وكما قال في رواية ابن وهب عنه إذا سلم على النبي ﷺ يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده. وما ذكره القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكًا في مسجد رسول الله ﷺ فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك لي هذا المسجد فإن الله أدب قومًا فقال { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي } الآية، ومدح قومًا فقال { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ } وذم قومًا فقال { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } الآية، وان حرمته ميتًا كحرمته حيًا فاستكان لها أبو جعفر وقال مالك يا أبا عبد الله استقبل القبلة وادعوا ثم لم يستقبل رسول الله بعد فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة بل استقبل واستشفع به فيشفعه الله قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } الآية. فهذا ضعيف لا يصح عنه فإنه من أشد الناس إنكارًا على من يأتي إلى القبر ليدعو عنده أو يستشفع به، فان ثبت فلا بد أن يحمل على مذهبه وعدم المخالفة له فقد تقدم قوله ان المسلم يدنو من القبر ويصلي ويسلم ويدعو له، ومعلوم أن الصلاة عليه، والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال في الحديث الصحيح عنه عليه السلام: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلاَّ لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة" فقول مالك ان ثبت معناه أنك إذا استقبلته وصليت وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة فان الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته، واستشفاع العبد به في الدنيا إنما هو فعل ما هو سبب لحصول شفاعته له يوم القيامة، كاتباعه فيما جاء به وسؤال الله له الوسيلة والصلاة والسلام عليه ونحو ذلك مما أمر النبي ﷺ بفعله لا فعل ما ليس من شرعه مما نهى هو وأصحابه عنه. وكذلك ما نقل عن مالك في رواية ابن وهب إذا سلم على النبي ﷺ ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلم مني الدعاء للنبي ﷺ وصاحبيه كما تقدم موضحًا عنه. فهذا هو الدعاء المشروع هناك، كالدعاء عند زيارة قبور صائر المؤمنين وهو الدعاء لهم، فإنه ﷺ أحق الناس بأن يصلي ويسلم عليه ويدعى له. وبهذا يتفق قول مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة. ونقل تلاوة هذه الآية عن مالك باطل وان ثبت أصل ما نقله عياض تقديرًا فإن كلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا ولم يذكره أحد من الأئمة الأربعة فيما فعله ولا ذكر أحد منهم أن النبي ﷺ يسأل بعد الموت لا استغفارًا ولا غيره، وإنما يعرف مثل هذا فيما ذكره طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي ﷺ وتلا هذه الآية وأنشد بيتين:

أبيات الأعرابي عند المرقد النبوي

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ** فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ** فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وقد ذكر ذلك صاحب المواهب اللدنية أيضًا. ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء استغفار الله في حضرة القبر وتلاوة هذه الآية عنده محتجين بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لاسيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعًا مندوبًا لكان أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون أعلم به وأولى بالعمل من غيرهم، فان العبادات مبناها التوقيف، ولاسيما إذا نسب أمر إلى هديه وشرعه وسنته، والعقل لا مدخل لاستحسانه واستقباحه في الدين، وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعًا مأمورًا به، فقد كان رسول الله ﷺ يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلًا، وتكون المسألة محرمة في حق السائل، حتى قال ﷺ: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا" قالوا: يا رسول الله فلم تعطهم قال: "يأبون إلاَّ أن يسألوا ويأبى الله لي البخل" ومعلوم أن مالكًا من أعلم الناس بمثل هذه الأمور فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة، وأكابر التابعين، وهو ينهى عن الوقوف على القبر للدعاء ويوبخ فاعله، ويذكر أنه لم يفعله السلف فكيف ينهى عن ذلك ثم كأمر به، وهذا أمر توقيف لا اجتهاد فيه، وقد أجدب الناس على عهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فاستسقى بالعباس، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك "أن عمر رضي الله عنهما استسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي ﷺ في حياته فهم يتوسلون بدعائه لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأموم من غير أن يقسموا على الله بمخلوق، ولا كانوا يأتون القبر فيدعون عنده بل كانوا يستسقون بأهل الصلاح الأحياء، لأن المقصود دعاؤهم لا ذاتهم، وإذا كانوا من أقارب رسول الله ﷺ فهو أفضل. ولهذا حكى البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول ﷺ فيستسقي على المنبر فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:

وأبيض يستقي الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

إذا علم ذلك فإن السلام على النبي ﷺ يحتاج إلى حضور قلب وأدب، ومنه وقوفه عن القبر مقدار أربعة أذرع والصحيح قبالة وجهه ﷺ مستدبر القبلة مطرقًا رأسه غاض البصر كأنه يرى النبي ﷺ فيسلم عليه. ويقول السلام عليك يا رسول الله، كان ابن عمر لا يزيد على ذلك. وكان بعض الصحابة يزيد النطق بالشهادتين والصلاة عليه ويقول أشهد أنك بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك كثيرًا كما يحب ربنا ويرضى، وان قال اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته فحسن، ثم إذا فرغ يتقدم قليلًا من مقام سلامه نحو ذراع عن يمينه ويقول السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله ﷺ وخليفتيه وضجيعيه، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرًا سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. ثم ينصرف مستقبل القبلة.

(وإما غير المشروع) فهو قصده للدعاء واتخاذه عيدًا بالاجتماع عنده والسفر إليه لما في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن أنه ﷺ نهى أن يتخذ قبره مسجدًا وقال: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" بعد قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" فإنه ﷺ لم ينه عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف على القاصدين لها من الفتنة بدعائها أو الدعاء عندها. فإن أصل عبادة الأوثان بذلك سببها انخاذ المساجد على القبور وقصدها لدعائها والدعاء عندها كما تقدم بيان ذلك. فلو لا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف به الافتتان لما نهى الناس عن ذلك ولهذا لم يقصد القبر للدعاء عنده أحد من الصحابة مع شدة احتياجهم واضطرارهم بكثير الأمور والنوائب المدلهمة التي قرعتهم ولا أيضًا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولو ذكره أحد من العلماء الصالحين المتقدمين بل كلهم كانوا ينهون عن ذلك، وقد قال الشافعي في الأمم أكره تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها ومراده بتعظيمها الصلاة بحضرتها والدعاء عندها فضلًا عن السجود لها أو دعائها، وما يحكى عنه أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة فهو كذب ظاهر لأن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن بها قبر ينتاب للدعاء عنده البتة ولم يكن هذا عل عهده معروفًا، وقد رأى بالحجاز واليمن والشام من قبور الأنبياء والتابعين من كان عنده أفضل من أبي حنيفة فما باله لم يتوخ الدعاء إلاَّ عنده. وقد قال في كتابه ما هو ثابت عنه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين خشية الفتنة بها وإنما يضع هذه الحكاية وأمثالها من قل علمه ودينه ممن لا خلاق له.

مسئلة شد الرحال إلى زيارة القبور

(وأما النهي) عن اتخاذه عيدًا بالاجتماع عنده والسفر إليه فلما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" وهذا إسناده حسن ورواته كلهم ثقات مشاهير وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده إلى أن ساق سند الحديث عن علي بن الحسين أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو فنهاه علي بن الحسين وقال ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا فإن تسليمكم يصلني أينما كنتم" رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته وعند سعيد بن منصور في السنن عن أبي سعيد مولى المهدي قال قال رسول الله ﷺ: "لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، صلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وقال سعيد عن أبي سهيل قال لما رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده. فقال مالي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي ﷺ فقال إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال ان رسول الله ﷺ قال: "لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلاَّ سواء" فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدور على ثبوت الحديث لاسيما وقد احتج به من أرسله، ولو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين لكفى فكيف وقد تقدم مسندًا. وقبر النبي ﷺ أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان. ثم إنه أعقب النهي بقوله: "وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" وفي الحديث الآخر "فان تسليمكم يبلغني أيما كنتم" يشير بذلك ﷺ إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. والأحاديث عنه بان صلاتنا وسلامنا يعرض عليه كثيرة:

(منها) ما روى أبو داود في سننه من حدث أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "ما من أحد يسلم علي إلاَّ رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" وهذا الحدث على شرط مسلم.

(ومنها) ما روى أبو داود أيضًا عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء".

ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره ﷺ، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيرهم، فتبين بهذا أن قصده للدعاء ونحوه هو اتخاذه عيدًا وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عنده غير دخول المسجد والصلاة فيه ورأى أن قصده ذلك من اتخاذه عيدًا. فقوله ﷺ: "لا تجعلوا قبري عيدًا" مأخوذ من المعاودة والاعتياد. ومنه ما هو اسم للزمان كقوله ﷺ: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام" رواه أبو داود وغيره. ومنه ما هو اسم للمكان كما روى أبو داود في سننه: "إن رجلًا قال يا رسول الله إني نذرت أن أنحر ببوانة فقال أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قال لا قال: أوف بنذرك" وإذا كان اسمًا للمكان، فهو الذي يقصد للاجتماع فيه وإتيانه للعبادة أو لغيرهما كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر كلها جعلها الله أعيادًا للحنفاء مثابة للناس كما جعل أيام التعبد فيها عيدًا وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد النحر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعباد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام وعرفة ومنى والمشاعر، فاتخاذ القبور عيدًا هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام، فلذلك نهى رسول الله ﷺ عن قصد قبره من بعيد أو للدعاء عنده أو للاجتماع لديه، فإنه بذلك يكون عيدًا، وحينئذ فقصد القبر مجردة من الأمصار في وقت معين أو في غير وقت معين هو الذي نهى عنه السلف الصالح لنهي النبي ﷺ عنه في قوله لا تتخذوا قبري عيدًا. ولما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وسعيد رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" وقد روي هذا من وجوه أخر وهو حديث ثابت عن النبي ﷺ باتفاق أهل العلم يتلقى بالقبول عنه، فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف هو من الأعمال الصالحة، وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحال إليه من بعيد. فإن في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا. وكان ابن عمر يفعله. وفي لفظ مسلم فيصلي فيه ركعتين وذكره البخاري بغير إسناد. وذلك أن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه ﷺ عن القيام في مسجد الضرار، وأمره بالقيام في المسجد الذي أسس على التقوى، ومسجده أعظم في تأسيسه على التقوى من مسجد قباء، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه سأل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال مسجدي هذا، فكلا المسجد أسس على التقوى، ولكن اختص مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي مسجد قباء يوم السبت. فإذا كان السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة ممتنع شرعًا مع أن قصده لأهل مصر يجب تارة ويستحب أخرى وقد جاء في قصد المساجد ما لا يحصى من الفضل، فالسفر إلى مجرد القبور أولى بالمنع ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة فإن هذا من التشبه بأهل الكتاب المتخذين قبور أنبيائهم مساجد وأعيدة، الذي أخبرنا النبي ﷺ أنه كائن في هذه الأمة لا محالة. وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها وإلا فلو لم يقم عندها هذا الاعتقاد بالقلوب لا نمحى ذلك كله. وإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حرامًا كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق فتحًا لباب الشرك وإغلاقًا لباب الخير والإيمان. وقد آل الأمر إلى قصد مجرد القبر واتخاذه عيدًا ومجمعًا للنساء مع الرجال حتى ترتفع الأصوات عنده ويكثر الضجيج أضعافًا مضاعفة على تلبية الحجيج كل يسأل حاجته وتفريج كربته وهم يعتقدون أن زيارته يحصل بها الغفران والنجاة من النيران وأنها تجب ما قبلها من الآثام، ألا ترى أن أكثر الفجرة الساكنين بمكة المشرفة وجدة طول أيام السنة لا يتركون ذنبًا موبقًا إلاَّ ارتكبوه، ولا إثمًا كبيرًا إلاَّ اكتسبوه فإذا جاء شهر رجب أخذ على ذمته المعسر منهم واستدان وذهب إلى القبر يسأل المغفرة من خاتم الرسل وأفضل ولد عدنان فأخذوا بالهتف بذكره وبكنيته قائلين جئنا إليك قاصدين تائبين لا تردنا أبا إبراهيم، منذ يفارقون بلادهم إلاَّ أن يرجعوا يسألونه المغفرة، قضاء الديون وتفرج الكروب فإذا رجعوا خائبين اعتقدوا أنهم خرجوا من آثامهم كيوم ولدتهم أمهاتهم مسرورين، فعادوا على ما كانوا عليه من الباطل والطغيان، ويقولون هم متوكلون على سيد ولد عدنان، ولا نعني العوام بل هم ذو العقائد من أهل العلم غير التام، فهذا السفر إليه وقصده لفعل العبادة عنده من الدعاء والصلاة لا ريب في حرمته والإثم فيه عند أهل العلم لا يتخلف عنه متقدمهم ولا متأخرهم للعنه ﷺ المتخذين قبور أنبيائهم مساجد، واللعنة في كلام الله ورسوله لا تجامع إلاَّ الحرام والإثم لا مجرد الكراهة، ولقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ولأن المسافرين إليه والقاصدينه بعضهم يسميه الحج إلى القبر لحصول المغفرة بذلك. وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي ومن وافقه من متأخري الفقهاء فرادهم السفر المجرد لزيارة القبر لا لقصد فعل العبادة من الصلاة والدعاء عنده، قالوا والحديث مبني على عدم تناوله النهي لزيارته إذا لم يتخذ عيدًا ولم يحصل المحظور الذي نهى عنه كما لم يتناول إلى عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الولدان والعلماء والمشايخ والأخوان أو بعض المقاصد من الأمور الدينية المباحة. وصدر صالح سلف الأمة وخيارها جعلوا قوله عليه السلام لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني صريحًا في النهي مطلقًا عن قصده من بعد لأن الاجتماع عنده لازم له، وذلك هو المنهي عنه وأيضًا نهيه عليه السلام عن شد الرحال إلى مسجد من المساجد غير الثلاثة مع فضل العبادة الحاصلة في المساجد من صلاة وقراءة واعتكاف، ووجوب قصده تارة على أهل عصره واستحبابه أخرى شامل للنهي عن شد الرحال إلى مجرد زيارة القبور بالأولى إذ ليست زيارتها أفضل عند الله من عبادته في خير بقاع الأرض، وقد نهى عن شد الرحال إليها، فهذه أولى بالنهي قالوا ومن اعتقد أن السفر إلى مجرد القبر أفضل من السفر إلى المسجد أو مثله فهو إما جاهل بشريعة الرسول وإما كافر به. وإذا وجد السفر المشروع إلى مسجد الرسول لفعل العبادة فيه دخلت الزيارة تبعًا فإنها غير مقصودة بشد الرحال إليها بل إلى المسجد نفسه، وحينئذ فالزيارة شرعية مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل المحظور عند القبر لا صلاة ولا دعاء وهو مستقبل القبر ولا يقصده له وان استقبل القبلة في حال الدعاء ومن لم يفرق بين السفر المشروع إلى مسجده ﷺ وزيارة قبره الداخلة تبعًا الشرعية المجمع على استحبابها، وبين السفر إلى غير قبره فهو إما جاهل بما جاء به الرسول ﷺ، وإما كافر به، وإدلاء صاحب المقدمة واحتجاجه على سنية السفر وشد الرحال إلى مجرد زيارة القبر تارة وقرب وجوبه أخرى باطل من وجوه:

(أحدهما) أن هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل العلم ولم يجعلها في درجة الضعيف إلاَّ القليل ولذلك تفرد بها الدار قطي عن بقية أهل السنن، والأئمة كلهم يرون بخلافه، ومروياته مقدوح فيها خصوصًا أحاديث زيارة القبر ومروياته فيها وهي أجل حديث روى في هذا الباب من حديث أبي بكر البزار ومحمد ابن عساكر.

(الثاني) أنه لم يثبت عن النبي ﷺ حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روي في ذلك شيء لأهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفين في المسانيد كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره المخالف لأهل الصحيح والتصحيح المميزين بين الحسن والضعيف والموضوع من أهل الترجيح، فالأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله من زارني وزار إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة، ومن زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن حج ولم يزرني فقد جفاني، ونحو هذه الأحاديث، كلها مكذوبة موضوعة باتفاق أهل المعرفة إنما رخص في زيارة القبور مطلقًا بعد أن نهى عنها بلا شد رحال وسفر إليها كما ثبت عنه في الصحيح.

(الثالث) نهيه ﷺ عن اتخاذ قبره عيدًا كما ثبت عنه من غير وجه رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد بن منصور في سننه من حديث أبي سعيد مولى المهرى، ورواه أيضًا سعيد من حديث الحسن ابن الحسن بن علي كرم الله وجوههم، فكيف يقول لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، ثم يقول من حج ولم يزرني فقد جفاني، أو يقول من زار قبري وجبت له شفاعتي، أو يقول لا عذر لمن كانت له سعة من أمتي ولم يزرني، أو يقول من زارني في المدينة متعمدًا كان في جواري يوم القيامة، أو نحرًا من هذه المختلقات عليه، وليخش المدلي بهذه المختلقات صان الله نبيه ﷺ عنها أن يكون ممن قال ﷺ فيه "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" الحديث. مخرج في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولو قال رسول الله ﷺ ما نسبه إليه هؤلاء لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فيكف بملازمتها والعكوف عندها وعليها وان يعتاد قصدها وإتيانها من بعيد وشد الرحال إليها، بل هذا أولى باللعنة وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد ثم يأمر بشد الرحال إليه وانه للدعاء عنده يقصد كيف يقول اعلم الخلق من الصحابة بذلك ولو لا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا، كيف يقول لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا علي حيث ما كنتم، وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء المدعون ولم ينقلوا عنه ما نقله هؤلاء المختلقون.

(الرابع) أنه ندب أمرًا قد نهى عنه رسول الله ﷺ فجعله من سنته ودينه وأنه يتقرب بفعله، وأصل الضلال في الأرض إنما نشأ من اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم ما لم يحرمه الله، ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد والشافعي وغيرهما من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها دينًا ينتفعون بها في الأخرى أو في الدنيا والآخرة، وإلى عبادات ينتفعون بها في معايشهم، فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلاَّ ما شرعه الله ورسوله وان استحسنه العقل، إذ لا مدخل له في الدين، والأصل في العادات أن لا يحضر منها إلاَّ ما حضره الله ورسوله، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله ويجعله من سنة رسول الله أو وحيه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن تبعه في ذلك ففد اتخذه شريكًا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنة مجمع عليها بناء على أن الأمة قد أقرتها ولم تنكرها فهو مخطىء في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلاد المسلمين فكيف بعمل طوائف، فالعادات لا تصرف الأحاديث الواردة في النهي عن الحضرية فإن غالب العاملين بالعادات البدعية هم الملوك وأشباههم ممن سلفهم واتبعهم ولا حجة في فعلهم.

(الخامس) زعمه أنا نكفر من يزور القبور وهذا منه بهتان علينا، وقول زور، فإنا نقول أصل زيارة القبور مسنونة مندوبة أمر بها الشارع بعد أن نهى عنها والترغيب في زيارتها لتذكار الآخرة والإحسان إلى الميت بزيارته والدعاء والاستغفار له لكن بلا شد رحل إليه، ونحن إذا نهينا عن شد الرحال كما نهى رسول الله ﷺ وأصحابه والأئمة من بعدهم، لا يلزم من نهينا تكفير مرتكب المنهي عنه إذا لم يصدر منه ما يوجب كفره من الشرك الأكبر غير المغفور كدعاء الميت بما لا يقدر عليه إلاَّ الله من سلامة وعافية وتفريج كربة، وكشف شدة وسؤال مغفرة، أو ليكون له واسطة ووسيلة في قضاء حوائجه وليشفع له في ذلك فهو متوكل عليه فيه تقدم بيانه موضحًا، وأما قصد الدعاء عند قبر النبي ﷺ أو غيره لنفس ذلك الداعي لا له وللميت فهو حرام ولا كفر حيث لم يدع الميت نفسه، وإنما حرم لقصد البقعة للدعاء فنحن نعمل ونأمر بالزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ لأمته وعلَّمهم إياها ونجتنب وننهى عن الزيارة التي نهى عنها أمته وأخبر أنها فعل المشركين.

(السادس) ان متأخري الفقهاء القائلين بزيارة القبور من الشافعية وغيرهم حتى ابن حجر الهيثمي صرح في الإمداد الذي شرح به الإرشاد، كلهم قالوا ينوي الزائر مع زيارته التقرب بالسفر إلى مسجده ﷺ وشد الرحل إليه والصلاة فيه لتكون زيارة القبر تابعة، ويكثر في طريقه من الصلاة والتسليم عليه، ومضمون كلام صاحب المقدمة معاكس لهم لجعله زيارة القبر هي الأصل استحبابًا أو قربًا من الواجب رأسًا وزيارة المسجد تابعة، وصريح الأحاديث المتقدمة وكلام الأئمة راد عليه في ذلك إذ هم القائلون من اعتقد أن السفر إلى مجرد القبر أفضل من السفر إلى المسجد أو مثله فهو إما جاهل بشريعة الرسول وإما كافر بها، وممن صرح بذلك أيضًا الإمام الشافعي كغيره من السلف الصالح.

(السابع) أنه لم يفرق بين الزيارتين، ولم يميز بين الجنسين، وفي الحضرية والمشروعية، بل هما عنده شيء واحد، ولذلك نسبنا إلى تكفيره فاعل المحظور منهما مع أنا نفصل بين ما فيه مجرد الإثم والحرمة، وبين ما هو نفسه كفر حقيقي لا يحتمل الأول وبين ما هو من الدين قد شرعه رسول رب العالمين والله أعلم.

حكم المتهاون بصلاته

وأما اعتراضكم على الشيخ بقولكم: (وأما قوله وليعلم المتهاون بصلاته المستخف المسابق الإمام فيها أنه لا صلاة له وأنه إذا ذهبت صلاته فقد ذهب دينه أخذا هذا القول من تشبيهه ﷺ الدين بالخيمة. والصلاة بعمود تلك الخيمة. وقوله أن الفسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط ولم ينتفع بالطنب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد، فكذلك الصلاة من الإسلام. فنقول لا نسلم ان سبق الإمام يبطل صلاته، نعم يكره ذلك الفعل منه بل ان ترك الموحد الصلاة رأسًا مع اعتقاد فرضيتها لا يكفر كفرًا اعتقاديًا. نعم عند الشافعي يقتل أحدًا لا كفرًا فكيف يحكم بسبب المسابقة بخروجه من الدين، ولا يلزم من التشبيه الذي بالحديث المذكور ذلك إذ لا يلزم من تشبيه شيء بشيء مشاركته من جميع الوجوه. مثلًا لا يلزم من تشبيه زيد بالأسد في الشجاعة أن يقال الناس كالأسد، نعم الصلاة أم العبادات ومعراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين وفرضها أفضل الفرائض ونفلها أفضل النوافل كما هو مفصل في كتب التفسير والحديث والفقه).

فنقول هذا الاعتراض شاهد على المعترض به أنه ليس له إطلاع على كلام الأئمة الإعلام ولا احاطة بمعاني الأحاديث النبوية الكرام، وإنما يقول من عندياته، ويستدل بظاهر ما خلف من مصنفاته غير محررات تناقضها نصوص كلام إمامه ومروياته وذلك من وجوه.

(أحدها) أن هذا كلام للإمام أحمد بن حنبل الشيباني لا لمحمد بن عبد الوهاب، بل قاله الإمام أحمد في رسالة له عدة ورقات كتبها في أحكام الصلاة والتهاون بها وما بلغه عنها وكان سبب كتابتها على ما ذكره أنه صلى في جماعة ورآهم أو أكثرهم يسابقون الإمام بالأركان الفعلية، فكتبها نصيحة لهم ولغيرهم ان صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه وتابع له في أفعاله لا يتقدم بها عليه لقول النبي ﷺ: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ولقوله أيضًا: " أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار" وهذان الحديثان في البخاري ومسلم، ومعلوم أن المسابق لإمامه متهاون بصلاته مستخف بها، ووجود هذين الوصفين أو أحدهما لا يجامع الصحة وإذا بطلت فخطرها عظيم، ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته وليعلم المتهاون بصلاته المستخف بها المسابق للإمام فيها أنه لا صلاة له، فإذا ذهبت صلاته فقد ذهب دينه، فعظموا الصلاة وتمسكوا بها واتقوا الله فيها خاصة وفي أموركم عامة، واعلموا أن الله عز وجل قد عظم حق الصلاة في القرآن وعظم أمرها وشرفها وشرف أهلها وخصها بالذكر من بين الطاعات كلها في مواضع كثيرة من القرآن وأوصى بها خاصة فمن ذلك أنه تعالى ذكر أعمال البر التي أوجب لأهلها الخلود في الفردوس فافتتح تلك الأعمال بالصلاة وختمها بالصلاة وجعل تلك الأعمال التي جعل لأهلها الفردوس بين ذكر الصلاة مرتين قال الله عز وجل: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } فبدأ من صفتهم بالصلاة عند مدحه إياهم ثم وصفهم بالأعمال الظاهرة الزكية المرضية إلى قوله: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فأوجب الله عز وجل لأهل هذه الأعمال الشريفة الزكية المرضية الخلود في الفردوس وجعل هذه الأعمال بين ذكر الصلاة مرتين ثم عاب الله عز وجل الناس كلهم وذمهم ونسبهم إلى اللوم والهلع والجزع والمنع للخير إلاَّ أهل الصلاة فإنه استثناهم منهم فقال: { إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } ثم استثنى المصلين فقال: { إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ثم وصفهم بالأعمال الزكية الطاهرة المرضية الشريفة إلى قوله: { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } ثم ختم ثناءه عليهم ومدحه إياهم بأن ذكرهم بمحافظتهم على الصلاة فقال: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } فأوجب لأهل هذه الأعمال الكرامة في الجنة وافتتح ذكر هذه الأعمال المرتب على وجودها الكرامة بالصلاة وجعل ذكر هذه الأعمال بين ذكر الصلاة مرتين ثم ندب إلى الطاعات كلها، والصلاة هي أكبر الطاعات فقال عز من قائل: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وفي تلاوة الكتاب جميع الطاعات كلها واجتناب جميع المنهيات فخص الصلاة بالذكر فقال: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } أي والصلاة خاصة وقد ندب سبحانه وتعالى أنبياءه عليها فقال: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } فأمر الله نبيه أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها ثم أمر الله المؤمنين بالاستعانة على طاعته بالصبر، ثم خص الصلاة بالذكر من بين الطاعات فقرنها مع الصبر بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وكذلك أمر الله بني إسرائيل بالاستعانة في الصبر على جميع الطاعات ثم أفرد الصلاة من بين سائر الطاعات فقال: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } ومثل ذلك ما أخبر الله عز وجل من حكمه ووصيته خليله إبراهيم ولوطًا وإسحق ويعقوب فقال: { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة } فأفردها بالذكر وأوصاهم بفعل الخيرات عامة وفعل الصلاة خاصة ومثل ذلك ما أخبر عن إسماعيل في قوله: { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } فبدأ بالصلاة، ومثله عن موسى عليه السلام في قوله: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } فأجمل الطاعات واجتناب المعاصي وأفرد الصلاة وأمر بها خاصة، ثم قال عز من قائل: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } والتمسك بالكتاب لازمه فعل جميع الطاعات واجتناب جميع المنهيات. ثم خص الصلاة بالذكر فقال: { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } وأما تضييع الصلاة فهو تركها والتهاون بها واستخفافها وتعاطي ما يبطلها من فعل ما هو محظور فيها ككلام الناس بينهم وكثرة الحركات فيها عرفًا لغير حاجة قتال مباح أو نحوه، ومسابقة إمامه بأفعال الصلاة وعدم تعديل الأركان فيها بأن لم يطمئن طمأنينة وان قلت أو لم يقرأ فيها بأم القرآن فعن النبي ﷺ أنه قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" هذا الحديث رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه بلفظه وذكر الحديث بتمامه وعن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا صاحبه وهو إلى جانبه حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" وهذا نهى عام فيشمل الأحوال كلها وعن النبي ﷺ أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وعن أبي هريرة قال: "دخل رسول الله ﷺ المسجد ودخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاثًا فقال والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمني فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وعنه ﷺ أنه قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تخلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا" وقال ﷺ: "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام" وعن البراء بن عازب قال كان رسول الله ﷺ إذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي ﷺ ساجدًا ثم نقع سجودًا بعده وعنه ﷺ أنه قال: "إني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي يحذر مسابقته فيها" وعن النبي ﷺ أنه كان يقرأ في الظهر في الأولتين بأم الكتاب وسورتين ويطول الأولى ويقصر الثانية ويسمع الآية أحيانًا وفي الركعتين الأخيرتين بأم الكتاب وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وروي أبو سعيد أن النبي ﷺ قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب" وعن عبادة بن الصامت قال أمرنا رسول الله ﷺ أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج" وما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: اقرأ في الأولتين وسبح في الأخيرتين فيرويه الأعور. وقد قال الشعبي أنه كذاب وعمر وجابر يخالفانه إلى أن قال فالصلاة خطرها عظيم، وأمرها جسيم، وبالصلاة أمر الله تبارك وتعالى رسوله أول ما أوحى إليه بالصلاة قبل كل عمل، وقبل كل فريضة، وبالصلاة أوصى النبي ﷺ عند خروجه من الدنيا فقال: "الله الله في الصلاة وفيما ملكت إيمانكم" هذا في آخر وصيته إياهم، وجاء في الحديث أنها آخر وصية كل نبي لأمته وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا. وجاء في حديث آخر أنه كان يجذب نفسه وهو يقول: "الصلاة الصلاة أول فريضة فرضت عليكم هي آخر ما يذهب من الإسلام وهي أول ما يسأل عنه العبد من عمله يوم القيامة وهي عمود الإسلام ليس بعد ذهابها دين ولا إسلام والله الله في أموركم عامة، وفي صلاتكم خاصة، فتمسكوا بها واحذروا تضييعها، والاستخفاف بها، ومسابقة الإمام فيها، وخداع الشيطان لكم عنها، وإخراجه إياكم عن دينكم، فإنها آخر الدين، ومن ذهب آخر دينه فقد ذهب دينه كله فتمسكوا بآخر دينكم" وقال فيها كلامًا طويلًا أعرضنا عنه طلبًا للاختصار.

المسابقة مع الإمام يبطل الصلاة وكلام الإمام أحمد فيها

(الوجه الثاني) ان قوله لا نسلم أن سبق الإمام تبطل صلاته. وقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى أن المسابق لإمامه بركن أو ركنين تجب عليه إعادة الصلاة لفسادها حيث لم توجد المشاركة مع الإمام أصلًا فيما سبقه فيه فإن سابقه إليه المشاركة مع الإمام فمكروه فالأولى للمأموم تخلفه عن إمامه يسيرًا بحيث يتميز الإمام عن المأموم بأفعاله، واختلفت الرواية عنهما في مقارنة المأموم لإمامه في تكبيرة الإحرام أو ذكر غيرهما عوضها فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، الأولى المقارنة له حيث بدأ بها الإمام أولًا مسارعة إلى الدخول فيها معه، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لابد أن يتميز بها الإمام عن المأموم ليكون تابعًا له فيكبر بعد تكبيرة الإمام والأصح أن الاختلاف في الجواز لا في الأفضلية ولو كبر قبله ناويًا الإقتداء به بطل الإقتداء وشروعه على الأصح عند الإمام وأبي يوسف ومحمد وعند أحمد والشافعي رحمهما الله تعالى لابد أن يفرغ الإمام من راء اكبر حتى يبدأ الإمام ويشرع بالهمزة من الله، فلو وافقه فيها فصلاته باطلة وحجتهما قوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد" أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس وظاهر كلامهم في المسابقة التفصيل بين المسابقة بالركن والمسابقة إليه لأن المؤتم تارة يسبق إمامه إلى الركن بأن يشرع في فعله قبل شروع الإمام فيه كأن يركع قبل ركوع إمامه، أو يرفع من ركوعه قبل رفع إمامه، أو يشرع في السجود قبل إمامه، أو يرفع منه قبله، وتارة بسبق إمامه بالركن، بأن يأتي به قبل إمامه كأن يركع ويرفع قبل إمامه، ولا يعد سابقًا بركن حتى يتخلص منه إلى غيره فلا يعد سابقًا بالركوع حتى يرفع ولا بالرفع حتى يهوي، وقيل حتى يعتدل، والأول هو الصحيح عند أحمد، وقد يسبق إمامه بركنين فأكثر، وإذا سبقه بركن فتارة يكون ركوعًا، وتارة لا وإذا سبق بركنين، فتارة يكون أحدهما ركوعًا أو لا، إذا علم ذلك فحكم السبق إلى الركن عند الإمام أحمد والشافعي أنه يحرم ولا تبطل صلاته به ولو عالمًا مسابقته الإمام عامدًا أو هو جاهل الحكم وعليه أن يرجع ليأتي بذلك مع إمامه فإن لم يرجع حتى أدركه فيه الإمام فإن كان عالمًا المسابقة عمدًا بطلت صلاته عند أحمد في أصح الروايتين عنه ولا تبطل عند الشافعي في القول المشهور عنه، ومشى عليه أصحابه، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته بل يعتد له بالذي سبقه إليه من ركوع وسجود ونحوهما من بقية الأركان، لأنه سبق يسير بعسر التحرز عنه، ولأنه اجتمع مع إمامه فيه فلم يخل ذلك بالإقتداء لعذر الجهل أو النسيان بالسبق اليسير، فإن كان عالمًا بحكم البطلان فسبقه إليه عمدًا ثم رفع منه وركع ثانيًا بطلت صلاته لتعمد البطل بزيادة الركوعين.

وأما السبق بالركن فإن كان ركوعًا بطلت الصلاة في القول المشهور عن أحمد ومشى عليه أصحابه، حيث كان عالمًا عامدًا، وكذا إن كان غيره على ما في المغني والكافي، والمحرر، وغاية المطلب، والإنصاف، وشرح الوجيز، وغيرها. وما حكاه في الشرح وشرح الوجيز كالإنصاف والمحرر من الوجه بعدم البطل بالسبق بالركن حيث كان عمدًا وقيده في المحرر ومن نحا نحوه بشرط كونه غير ركوع. فهذا قول مرجوح بل المذهب المعتمد بطل الصلاة بتعمد السبق بأي ركن مطلقًا ولاسيما مع قولهم بالبطل بالسبق إليه عمدًا حتى أدركه إمامه فيه والسبق بالركن يستلزم السبق إليه وزيادة، وعدم العذر مفروض فما بقي لعدم البطل مسوغ وأما السبق بالركن جاهلًا أو ناسيًا فإن كان غير ركوع واستمر على ذلك لم تبطل صلاته ولم تلغ ركعته بل يعتد له بذلك. قال ابن نصر الله في حاشية الكافي الصحيح لا تبطل صلاته ويعتد له بها وأما إن سبقه بركنين أو بركن الركوع خاصة، فإن كان عالمًا عامدًا بطلت صلاته وإن كان جاهلًا أو ناسيًا بطلت تلك الركعة إن لم يأت بما سبقه به مع الإمام، وكذا ما زاد على الركنين بالأولى، وعند الشافعي إن كان عامدًا بطلت وسهوًا فلا ولا يعتد له بهذه الركعة، وكذا القول في التخلف عن الإمام بركن فأكثر فمن تخلف بركن فإن كان لعذر من نوم يسير لم ينقص الوضوء أو زحام أو غفلة أو عجلة الإمام ونحو ذلك من الأعذار لم تبطل، ومنها تتميم قراءة الفاتحة إن لم يكن المأموم مسبوقًا بها عند الشافعي في أحد القولين الموجب فيه القراءة على المأموم وذلك ان تخلف بطء قراءته لا لوسوسة صرح به في عمدة المسالك، ومتى وجد العذر المشروع للتخلف فإنها لا تبطل صلاته، وعليه أن يأتي بما تخلف به عن إمامه فإن لم يمكنه الإتيان به أو تركه غير عالم عامد مع الإمكان لغت الركعة، وسواء في ذلك الركوع وغيره على الصحيح وإن كان التخلف بلا عذر بطلت صلاته بأي ركن من الأركان الفعلية التخلف بأكثر من ركن فإن كان بلا عذر بطلت الصلاة وإن كان لعذر فإن أتى بما تركه مع أمن فوت ركعة آتية ولحق إمامه صحت وإلا يأتي به أو خاف فوت آتية لغت الركعة المتروك منها وتابع إمامه والتي تليها عوضها وعند الشافعي لو تخلف بركن بلا عذر كره أو بركنين بطلت.

(وأما) التخلف عن ركن إمامه فإنه مشروع عند أحمد والشافعي لقول البراء بن عازب رضي الله عنه كان رسول الله ﷺ إذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن منا أحد ظهره حتى يقع النبي ﷺ ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده، وقول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن المسابق لإمام بركن أو ركنين تجب عليه إعادة الصلاة، علله أصحابه بالإثم وكراهة التحريم قالوا وهذا الحكم في كل صلاة أديت مع كراهة التحريم كذا في ابن الهمام وإن أديت مع كراهة التنزيه فالإعادة مستحبة (فقول) صاحب المقدمة لا نسلم لا يخفى ما فيه لأنه وما حجته إلاَّ أنه لا يسلم من غير دليل عرضه ولا استدلال قصده، وأما ما يبطل الصلاة من عدم تعديل الأركان في مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فعنه في رواية الكرخي أن تعديل الأركان يعني طمأنينة الركوع والسجود والقيام بينهما والرفع بين السجدتين واجب يأثم بتركه فإن أخل به فعليه الإعادة وهذه الرواية عنه أصح من رواية الجرجاني لوجهين.

الأول منهما: أنها هي الموافقة للأئمة الثلاثة ولظاهر الأحاديث عن النبي ﷺ وكذا فعل أصحابه وتابعيهم.

والثاني: أن أكثر أصحابه على ذلك ما عدا محمدًا رحمه الله له رواية عنه حتى أبا يوسف رحمه الله تعالى فإن عنده تعديل الأركان وهو الطمأنينة في الركوع والسجود، وتمام القيام بين الركوع والسجود، والجلوس بين السجدتين فرض تبطل الصلاة بتركه عنده، وعند أكثر أصحاب أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي، وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ان تركه سهوًا يلزمه سجود السهو وإن تركه عمدًا يأثم وتجب عليه الإعادة إذ هذا الحكم في كل صلاة أديت مع الإثم وكراهة التحريم، وتستحب الإعادة مع كراهة التنزيه. قال في الظهيرية: وعن أصحابنا أنه يأثم بترك قومته، ورفع ظهره من الركوع، وشذ قوله في التتارخانية وشرح الطحاوي، ولو ترك القومة جازت صلاته ويكره أشد الكراهة. فقوله جازت قول مرجوح مخالف للأصل. ولذلك جمع بين القولين في الجواز والكراهة التي فيها الإثم وهي لا تجامع الأجزاء بل لا بد معها من الإعادة كما تقدم. وفي الحديث: "إن العبد إذا صلى الصلاة لوقتها وأداها بأركانها وشروطها صعدت إلى السماء ولها نور حتى تصل إلى الله فتشفع في صاحبها وتقول حفظك الله كما حفظتني وإن ضيعها ولم يتم ركوعها ولا سجودها صعدت ولها ظلمة حتى تنتهي إلى أبواب السماء فتغلق دونها ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فتضرب وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتني" وفي السنن عن النبي ﷺ: "أن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلاَّ ثلثها إلاَّ ربعها إلاَّ خمسها حتى قال إلاَّ عشرها" فالصلاة إذا أتى بها كما أمر نهته عن الفحشاء والمنكر وإذا لم تنهه دل على تضييعه لحقوقها وإن كان مصليًا.

(الوجه الثالث) أن قوله بل أن ترك الموحد الصلاة رأسًا مع اعتقاد فرضيتها لا يكفر وهذا خرق لاجماع أكابر بر الصحابة والتابعين، كما قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في كتابه في الصلاة: إن جملة الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم يكفرون تارك الصلاة متعمدًا ويحكمون عليه بالارتداد إذا خرج وقتها، منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو هريرة، وعلي بن أبي طالب، ولا يعلم عن صحابي خلافهم، قال ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل، ومحمد بن إدريس الشافعي في الرواية الصحيحة المشهورة عن بعض أصحابه في الرجل الممتنع على حدته، واسحق بن راهويه، والإمام مالك في أحد الروايتين عنه، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عتبية، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة زهير بن حرب، قال يحيى بن معين قيل لعبد الله بن المبارك إن أناسًا يقولون من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر بهما فهو مسلم مؤمن فقال عبد الله لا نقول نحن كما يقول هؤلاء بل من ترك الصلاة متعمدًا من غير علة حتى دخل وقت في وقت فهو كافر يحل قتاله وقال ابن أبي شيبة: قال النبي ﷺ: "من ترك الصلاة فقد كفر" فيقال له ارجع عن الكفر فإن فعل وإلا قتل بعد" وفي مسند الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله". وعن أبي الدرداء قال أوصاني أبو القاسم ﷺ: "أن لا أترك صلاة متعمدًا فمن ترك صلاة متعمدًا فقد برئت منه الذمة". رواه ابن أبي حاتم في سننه قال أحمد ابن سمار سمعت صدقة بن الفضل يسئل عن تارك الصلاة فقال هو كافر، فقال له السائل أتبين منه امرأته فقال صدقة وأين الكفر من الطلاق لو أن رجلًا كفر ولم يطلق خرجت امرأته من عصمته لأنه أعظم، لكن قال أكثر العلماء ينتظر بها انقضاء عدتها ان كانت مدخولًا بها لحديث صفوان بن أمية وامرأته بنت الوليد بن المغيرة ان صفوان أسلم بعدها بشهر فإنها أسلمت يوم الفتح وهو بقي علي كفره حتى شهد حنينًا والطائف وهو كافر ثم أسلم بعد فلم يفرق النبي ﷺ بينهما بل استقرت عنده امرأته بذلك النكاح، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر سمعت اسحق ابن يسار يقول صح عن النبي ﷺ أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأى أهل العلم من لدن النبي ﷺ إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ومحمد بن شهاب الزهري وداود بن علي المزني يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب، والرواية التي عن الشافعي في قتله تارك الصلاة حدًا إنما هي في الرجل الممتنع منها على حدته، والصحيحة عنه كفره، كما نقلها عنه عبد الحق الإشبيلي، وتارك الصلاة رأسًا وان وجد منه التصديق والإقرار بها فإنه معدوم ما هو معتبر به ومتوقف صحته والعصمة به على وجوده وهو عمل القلب نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده لفعل الأوامر إذا وجد فعله انقادت له الأعضاء وإلا بان لم يوجد منه إلاَّ التصديق خاصة، فذلك قول القلب مجردًا من فعله وهو لا ينفع كما لم ينفع إبليس وفرعون والذين عرفوا النبي ﷺ وعلموا صدقه وما جاء به من الحق فاعتقدوا صدقه وإن ما جاء به هو الحق ثم لم يعملوا وهؤلاء وإن كذب به بعضهم ظاهرًا. فالبعض الآخر يقر عنده وعند غيره ويعتذر عن العمل والإتباع والتكذيب ظاهرًا سببه فقد عمل القلب مع أن قوله وهو التصديق موجود فلم ينفعه.

وتقدمت الأدلة على كفر تارك الصلاة مستوفاة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين وأنه لا خلاف في قتل تاركها إلاَّ أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى ومن وافقه قالوا بحبسه حتى يموت في الرواية المشهورة عنهم، وما فهمه صاحب المقدمة من كلام الإمام أحمد في قوله. وليعلم المتهاون بصلاته المستخف بها السابق الإمام فيها أنه لا صلاة له صحيحة، وإنه إذا ذهبت صلاته فقد ذهب دينه من أنه يحكم على المسابق الإمام بالخروج من الدين ولحوقه بالكفار المرتدين إذا بطلت صلاته بالمسابقة فهو أحد الروايتين عنه فيمن ترك من الصلاة ركنا أو شرطًا يعتقد التارك وجوبه، أو أتى بمبطل لصلاته عالمًا عامدًا. لأن ذلك كتركها، فيقال فيه ما يقال في ترك جميعها، وقد قال ابن هبيرة في قول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وقد رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده ما صليت، ولو مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا ﷺ، فيه إن إنكار المنكر في مثل هذا يغلظ له لفظ الإنكار، وفيه إشارة إلى تكفير تارك الصلاة، وإلى تغليظ الأمر في الصلاة حتى إن من أساء في صلاته ولا يتم ركوعها ولا سجودها فإن حكمه حكم تاركها، قال الإمام في رسالته الصلاة، أول فريضة فرضت على النبي ﷺ وهي آخر ما يذهب من الإسلام ليس بعد ذهابها إسلام ولا إيمان ولا دين، وهو أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله، وهي عمود الإسلام إذا سقط الفسطاط فلا ينتفع بالأطناب والأوتاد، وكذلك الصلاة إذا ذهبت فقد ذهب الإسلام ووجود المبطل لها من مسابقة أو غيرها مذهب ومعدم لها،

والرواية الثانية أنه لا يكفر إلاَّ بترك ما هو مجمع عليه مما لا خلاف فيه وإن رأى التارك وجوبه لأنها إذا بطلت تصير كأنها فائتة ولا يكفر تاركها ومراعاة للقائلين بصحتها وإن اعتقد الفاعل بطلانها ونحن وإن قلنا ما قاله الإمام أحمد رحمه الله تعالى من أن المسابقة للإمام عمدًا تخل بالصلاة وتصير معدومة لم نحكم على المسابق بالكفر والردة كما لم نحكم على تارك القراءة في الركعتين الأخيرتين بأم القرآن أو لم يعدل الأركان حيث هي التارك صحتها بدونه إذ هذه مسائل اجتهادية لا يكفر بها ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، نعم نأمر المسيء في صلاته أن يعدل أركانها، وأن يتم قراءتها وركوعها وسجودها، وأن لا يسابق الإمام فيها فإن فعل يعيدها وننصح ونغلظ القول في ذلك، كما نصح وغلظ فيه صدر الأمة السلف الأول، ونخشى عليه من ذلك فقد قال ﷺ وكرر ثلاثًا للمسيء في صلاته صل فإنك لم تصل وعلمه كيفيتها كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(الوجه الرابع) قوله ولا يلزم من التشبيه الذي بالحديث المذكور ذلك إذ لا يلزم من تشبيه شيء مشاركته له من جميع الوجوه فهو قد فهم أن التمثيل الذي في كلام الله ورسوله هو التشبيه الواقع على المشبه والمشبه به، والتمثيل غير التشبيه في المعنى فإن تشبيه زيد بالأسد في قولنا زيد أسد أو كالأسد أو ما هو من معاكس التشبيه كقوله ﷺ: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" ليس كالأمثال التي ضربها الله في القرآن أو رسوله في السنة فإنه سبحانه وتعالى ضرب قصة الشيطان: { إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْك } مثلًا لبني النضير حين اغتروا بالمنافقين، ثم تبرؤا منهم عند الشدة، فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } إلى أن قال: { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } كذلك ضرب سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن مخبرًا كقوله: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } الآية كقوله: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } الآية إلى غير ذلك من الأمثال التي لا يعملها إلاَّ العالمون فإن هذه الممثل بها ليست أعلى ولا أتم من الممثل بل هو فوقها وأتم منها حسًا ومعنى، وضربه ﷺ الأمثال في السنة، مع كتمثيله الصلاة في عمود الخيمة وهي بالدين فكما لم تستقم بدون عمود ولا ينتفع بها بدونه، كذلك لا يستقيم الدين بدون الصلاة التي هي منه كالعمود بالنسبة إلى الخيمة، أو كالرأس للجسد، أو كالروح للبدن، وكضرب الله الأمثال في القرآن في أن الممثل أعلا وأتم من الممثل به حسًا ومعنى في الأفضلية وفي عدم الوجود والانتفاع، وأما المشبه فإنه إذا كان بينه وبين المشبه به علاقة في صفة من الصفات شبه به ولا يلزم منه مشابهته له ولا به من كل الوجوه، فإن زيد إذا قيل عنه أسد أو كالأسد لا يشاركه في جميع الصفات، كما لا يشاركه في الذات، بل الأسد فيه من الصفات المخالفة مالا توجد في زيد وفي زيد منها ما لا يوجد في الأسد إذ الصفات الإنسانية أفضل وأتم من سائر الحيوانات والجمادات، والشجاعة الموجودة في الأسد والحسن الموجود في البدر أتم وأكمل من الشجاعة والحسن الموجودين أو أحدهما في زيد، بخلاف الأمثال التي ضربها الله في القرآن أو رسوله في السنة فإن الممثل أتم وأكمل من الممثل به وهو تابع معناه إعدامًا وإيجادًا وجوبًا وجوازًا ووجوبًا.

(الوجه الخامس) قوله ونفلها أفضل النوافل وعزاه إلى كتب الأحاديث والتفسير والفقه، والذي فيها أفضل النوافل الجهاد ثم النفقة فيه ثم العلم نعلمه وتعليمه ثم صلاة النافلة ففي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال: "الإيمان بالله وجهاد في سبيل الله " وفيهما أيضًا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "أفضل الأعمال إيمان بالله وجهاد في سبيل الله" وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "فضل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت القائم الذي لا يفتر عن الصلاة ولا الصيام حتى يرجعه الله بما يرجعه من غنيمة أو أجر أو يتوفاه ليدخله الجنة" وعند الإمام أحمد: "والذي نفس محمد بيده ما شجت ولا اغبرت قدما عبد في عمل يبتغي فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة أفضل عند الله من الجهاد في سبيل الله عز وجل" وحديث معاذ ابن جبل رضي الله عنه في قوله ﷺ: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" دال بصريحه على أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الفرائض كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء فإنه عليه السلام عبر برأس الأمر وعنى به الدين الذي بعث به الرسل وعموده وهو قوامه الذي يقوم به كما تقوم الخيمة بالفسطاط هو الصلاة وذروة سنامه وهو أعلى ما فيه وأرفعه وهو الجهاد، وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن الزبير قال قال عثمان بن عفان وهو يخطب على منبر أني محدثكم حديثًا سمعته من رسول الله لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلاَّ الظن بكم سمعت رسول الله ﷺ يقول: "حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها" وقد ترجم ابن حبان في صحيحه ذكر تضعيف النفقة في سبيل الله على غيرها من الطاعات، وذكر عن خريم بن فاتك مرفوعًا: "من أنفق في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف " ورواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، وعند الإمام أحمد وغيره من عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها ومن أنفق نفقة في سبيل الله كانت له سبعمائة ضعف، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا "تجدون الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، وممن صرح به من الأئمة اسحق بن راهوية نقله عنه ابن منصور وان من العلم ما يقع نفلًا وفي خطبة المحيط للحنفية أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين معرفة الفقه قال الإمام أحمد تذاكر بعض ليلة أحب من إحيائها في العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم قال ابن منصور فقلت الصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا قال نعم، والأشهر عنه الاعتناء بالحديث والفقه والتحريض على ذلك قال وليس قوم خيرًا من أهل الحديث، وعاب على محدث لا يتفقه وقال يعجبني أن يكون الرجل فهيمًا في الفقه إلاَّ أن الشافعي رحمه الله اختار في القول المشهور تقديم نفلها على نفل العلم للإخبار في أنها أحب الأعمال إلى الله وخيرها ولأن مدوامته ﷺ على نفلها أشد من غيره ولقتل من تركها تهاونًا وكسلًا ولتقديم فرضها، وقال غيره العلم يتعدى نفعه فاشتغال في أفضل مما يقصر نفعه على الفاعل ولذلك كان العالم العامل أفضل من العابد، إلاَّ أن نفل الصلاة أفضل مما يتعدى نفعه سوى العلم كالصدقة وأمثالها وهل نفل الحج أفضل من نفل الصلاة أم نفلها أفضل فمن قال أنه أفضل قال انه جهاد لما روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ﷺ على النساء جهاد قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" إسناده صحيح رواه الإمام أحمد وابن ماجة وروى الإمام أحمد والبخاري عنها قالت يا رسول الله أترى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" وعند الشافعي رحمه الله تعالى في القول المشهور عنه نفل العلم أفضل من نفل الحج لتعديه وإنما قدم نفل الصلاة للأخبار الواردة في أنها أحب الأعمال إلى الله كما تقدم عنه وكذا القول في تقديم نفل الصوم فمن قدمه قال لإضافته إلى الله لما في الحديث: "كل عمل ابن آدم له إلاَّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" ومن لم يقدمه قال إنما أضافة الله إليه لأنه لا يعبد به غير الله في جميع الملل بخلاف غيره ولأن من نوى صلة رحمه وأن يصلي ويتصدق ويحج كانت نيته عبادة يثاب عليها، ونطقه بما سمعه الناس من كلمة التوحيد أفضل إجماعًا، وأما الصدقة ففي زمن غلا وحاجة أفضل من عتق، وفي غير زمن غلاء وحاجة فعتق أفضل، وصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق والله أعلم.

لبس الخلقة والخيط لدفع البلاء أو رفعه من الشرك

(وأما قولكم وقوله من الشرك لبس الخلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه وقول الله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الآية وعن عمران بن حصين أن النبي ﷺ رأى رجلًا في يده حلقة من صفر فقال ما هذه قال من الواهنة فقال: "انزعها فإنها لا تزيدك إلاَّ وهنا ولو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا" فنقول لا شبهة في أن لبس ما ذكر حرام، وصاحبه آثم، لكن لا يلزم من كون مرتكبه كافرًا مشركًا خارجًا عن دين الإسلام مباح الدم والمال وأيضًا ليس مذهب لأحد من السلف الصالحين، مع أن الواجب على كل أحد أن يحمل أخاه المؤمن على الصلاح كما قدمناه، وما ذكر في معرض الاستدلال من الآية والأحاديث لا يدل عليه إذ المراد بالدعاء في الآية الكريمة العبادة كما عليه المفسرون، وأما الأحاديث فمحمولة على من يعتقد فيهما التأثير، كما يجب حمل أمثالها من الأحاديث الواردة من هذا النمط على ذلك).

فنقول أما الحلقة فقال أهل اللغة كل ما كان يبين بعضه من بعض كحلقة الذكر ووسط الصف ونحو ذلك فهو حلقة، ووسط بالإسكان وما كان مصمتًا لا يبين بعضه من بعض كحلقة الباب ونحوها، ووسط الدار والرأس والراحة فهو حلقة، ووسط بفتح اللام في الخلقة والسين في الوسط، قاله الأزهري والجوهري وغيرهما) وقد أجازوا في المفتوح الإسكان ولم يجيزوا في الساكن الفتح، والمقصود هنا حكم لبس حلقة الصفر والحديد ونحوهما، ولا ريب أن لبسهما أو تعلق الخيط أو الخرزة أو العظم ونحوها من التمايم لدفع البلاء أو رفعه إن ذلك من شرك تعطيل المعاملة التي تجب على العبيد المتعلقة بمعنى ألوهية الخالق تعالى وتقدس، فإن الإله معناه كل مألوه في القلب برجائه فيما هو مختص بجلال الله وعظمته والالتجاء إليه كما تقدم تعريفه في بيان معاملته تعالى، وما هو مختص به من سائر الطاعات والعبادات التي من أعظمها دعاؤه ورجاؤه والتوكل عليه واعتقاد أن الخير والشر بيده لا جالب لهما ولا دافعهما ورافعهما إلاَّ هو سبحانه وتعالى قال عز من قائل: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ } فإذا اعتقد دفع البلاء والشر ودفعهما في لبس الحلقة والخيط وتعليق العظم والتميمة فقد أشرك في اعتقاده وعطل معاملة الله المأمور بها فوضعها في غير موضعها بجعلها لغيره، ولذلك قال النبي ﷺ للرجل الحامل في عضده الحلقة من الصفر عن الواهنة: "انزعها فإنها لا تزيدك إلاَّ وهنًا ولو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا" رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عمران بن حصين ونفي الفلاح في الأبد يقتضي الشرك الأكبر غير المغفور بل المخلد في النار للاعتقاد المذكور، وقول الله سبحانه وتعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } دليل على أن كشف الضر وإمساك الرحمة عند الله خاصة لا عند غيره من سائر الخلق، الأنبياء والملائكة وتماثيلهم ولا الحلقة والخرزة والخيط والعظم، والتميمة بالأولى ولذلك قال عقبها: { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } والمتخذون تماثيل الأنبياء والملائكة وسائل ووسائط يسمونها الآلهة يدعونها ويرجونها في الرخاء لتشفع لهم عند الله في قضاء حوائجهم وتقربهم منهم زلفى، لم يعتقدوا فيها الضر ولا كشفه ولا إمساك الرحمة عنهم كما تقدم بيان ذلك موضحًا، ولا استشفعوا بها واستقوا ودعوها راجين الشفاء والمطر وإنزاله منها كما ذكر الله ذلك عنهم في عدة آيات بينات وكما قرعهم وأنكر عليهم بالاستفهام الإنكاري حيث قال تعالى: { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ }، { هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } لأنهم يعلمون ويعرفون أن الله وحده كاشف الضر وممسك الرحمة ومنزل الشفاء والرزق والمطر لا غيره ودعاؤها لشفاعتها ورجاؤها في ذلك وتعلق القلوب بها لتكون واسطة ووسيلة وتألهها بذلك هو معنى عبادتها وصاحب المقدمة قد فهم أن الدعاء ليس هو العبادة ولا هي معناه، لقوله إذا المراد بالدعاء في الآية العبادة، بالظاهر أنه يعني بها خصوص السجود لتماثيل الأنبياء والملائكة، ولم يعلم أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من دعاء ورجاء وتوكل وصلاة وصوم وزكاة وصلة رحم وبر وإذا جعل شيئًا من ذلك لغير الله فقد عبده فيعبر عنها بما هي من معناه، ولذلك قال سبحانه: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } فعبر عن العبادة بالدعاء لأنها معناه، ولأنهم كانوا يدعونها لتشفع لهم فيما يسألونه منها ولهذا قال تعالى في موضع آخر: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } وكل ما أمر به شرعًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي فهو العبادة، ومن جعل ما هي من معناه المختص بجلال الله لغيره ففد عبده بما هو مأمور به شرعًا لله وحده، وقوله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } قال ابن عباس ومقاتل بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة خير وصحة وكشف شدة ورفع بلاء هل هن ممسكات رحمته، قال مقاتل فسألهم النبي ﷺ فسكتوا لعلمهم أن ذلك لا يكون إلاَّ من الله وحده، فقال الله لنبيه ﷺ: { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } ولا يخفى ما في الاستدلال بهذه الآية بل بالقرآن كله والسنة على من علق الخيط والحرزة وعلق العظم والتميمة لدفع البلاء أو رفعه أو حصول خير أو نفعه من كمال مناسبة معناها بمن اعتقد في شيء أعظم مما اعتقد فيه الأولون فعلقه ولبسه وتعلقه ليدفع عنه سوءًا وبلاء أو لرفعه أو ليكون سببًا في دفعه ورفعه إذ الأسباب لا يجوز أن يتعاطى منها إلاَّ ما شرعه الله ورسوله فلا يجعل الشرك أو المحرم سببًا في حصول غرض من الأغراض الدنيوية أو الأخروية، ولا يتخذ سببًا من الأسباب إلاَّ بعد علمه بحكمه وحيث جاز فلا يركن إليه ولا يتكل عليه، وهذا وايم والله في الجائز فما الظن فيمن جعل الحرام المجمع عليه حلالًا واعتقد فيه وتوكل عليه، هل هذا يجامع الإيمان أو الإسلام أو محملًا يعدل به عن اعتقاده إلى رتبة الفساق المرتكبين لأنواع الحرام مع وجود الإسلام وأصل الإيمان، أم اعتقاده أفسد عليه فخرج به عن خطة دين الإسلام الذي أنزل به القرآن وعلق بوجوده الغفران ودخل في خطة عباد الشيطان وتماثيل الأنبياء والملائكة والمرسلين من الأحجار والأشخاص والطلاسم التي هي أسماء المعبودين، والرسل لم بعثهم الله إلاَّ لإبطال كل ما يخالف دينه وما شرعه ويكسروا الأحجار ويطمسوا التماثيل ويخبروا أن الأمر كله لله فلا يجعل لغيره تعالى ما هو مختص بجلاله من عبادته ومعاملته التي منشؤها القلب والاعتقاد، ولقد زاد هؤلاء على أولئك بأشياء كثيرة لو لم يكن منها إلاَّ اعتقاد كشف الضرر وجلب الخير فيما تعلقوا فيه وعلقوه على أنفسهم ودوابهم وحروثهم لكفى، فإنهم يتوكلون على ما علقوه وتعلقوه ويسندون كشف الضر وجلب الخير إليه وأنه لولاه لنزل به البلاء أو لوجدت الشدة أو لضرته العين أو لنزلت به، لكن هي التي رفعت ذلك كله، أو هي الدافعة له، أو هي التي رفعته، ونحو ذلك من المعتقدات التي لم توجد إلاَّ عند هؤلاء المعتقدين المفتونين في عبادة الشياطين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولو لم يعتقدوا فيهم ما اعتقدوه من هذا الاعتقاد الباطل لما علقوه وتعلقوه، ومعلوم أن من لم يعتقد ذلك لم يكن ليفعله ولا ليرضى به ومع تقدير فعله من غير اعتقاد فيه ولا رضي به لا يكفر ولا نكفره نحن كما زعمه صاحب المقدمة بل حمله ذلك وتعليقه حرام والفاعل آثم، فنحن ننهى عن ذلك ونغلظ فيه، ويجب على العالم أن ينهى الجاهل عن ذلك ويحذر منه، إنما الرزية كل الرزية تغافل العالم عن الجاهل وعدم نهيه ونصحه عما يضره من ذلك فإن وزر العالم أكبر من وزر الجاهل وأعظم وأفحش حيث فعلها هو بنفسه أو رأى من يفعلها جاهلًا بها ولم ينبه عليها ويبين له فيها، فويل للعالم من الجاهل وويل له، كما قال الصادق المصدوق ﷺ ولم يكن هؤلاء العلماء الذين نعرفهم واجتمعنا بهم وجمعنا عنهم أنهم لا ينهون عن ذلك، بل قد استقر عندهم وفي نفوسهم أن من نهى عنه وعابه فهو وهابي أو عارضي أو شرقي وان لم ينسبوا ذاته بل عقيدته فتسافهوا عن الحق وأعرضوا عنه تكبرًا وتجبرًا وحسدًا وبغيًا والله يقول: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وهذا عمر بن الحطاب رضي الله عنه لما أراد تحجير النساء أن يزدن في صداقهم على صداق بنات رسول الله ﷺ قامت إليه امرأة وهو على منبره في مجمع الناس فقالت كيف تمنعنا يا أمير المؤمنين وقد قال الله: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } فقال جهرًا امرأة أصابت ورجل أخطأ، فالحق أحق أن يتبع، وهو ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها، وعلى العلماء البلاغ والتبليغ والعلم والتعليم لا المعاندة والطعن في الحق والدين، ومثل المصر على ما ارتكبه المتغرر فيما اجترحه من اتباع هواه وعموم بلواه مع الناصح له المشفق عليه من عمله واتباع هواه كمثل مسافر في مفازة ومعه دابته وماؤه وزاده فنفد الماء والزاد ثم انقطعت به الدابة وقد بقي من المسافة مدة طويلة وبقي يمشي على رجليه فأصابه الجهد من الظمأ والجوع والتعب وضل الطريق فصار في طريق كثيرة السباع كثيرة اللصوص ويسر الله له من يريد انقاذه ويدله على طريق النجاة فأبى وامتنع إلاَّ الإقامة على طريق الخوف وأبى إلاَّ تلك الحال التي بلغه منها الجهد والتعب فلو سمع به وأمره المجانين لتعجبوا من أمره ولنسبوا الجنون إليه لأن المناسب في حقه الرجوع عن المهالك إلى طريق السلامة والأمن، وشكر الدليل المرشد المنقذ، هذا وهو هلاك الجسد في الموت خاصة فما حال من هلاكه النار، أما الخلود فيها وأما ما هو سبب له بر يدله ينشأ منه شيئًا فشيئًا فهم من أكثر الناس عقدًا ونفثًا واعتقادًا وتعلقًا في الخيط وغيره من التمايم ومن أكثر ما يكون النفث في الخيط والعقد فيه إذا صعدوا المنبر لخطبة الجمعة أو غيرها يعقدون وينفثون للتعلق والتعليق من الحمى أو العين ولدفعهما، وقد علم الله سبحانه وتعالى نبيه ﷺ الاستعاذة من شر النفاثات في العقد، وهو وان كان السبب خاصًا في بنات لبيد كن يعقدن في الخيط بشيء يقلنه وينفثن فيه بلا ريق، فهو عام في كل نافث في الخيط ونافثه وعاقد وعاقدة، فإن الآية ظاهرها العموم فيمن نفث في الخيط وعقد فيه والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومما يدل عليه وعلى حمل الآية على العموم قوله ﷺ: "من نفث وعقد فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئًا وكله الله إليه" رواه النسائي من حديث أبي هريرة ومعنى من تعلق شيئًا أي علق على نفسه العوذة والخرزة وأمثالهما ويستوي في ذلك قاصدًا السحر أو الشفاء لأن الله إذا حرم أمرًا لا يغير حكمه عقيدة الفاعل والمفعول له، وأن تلا الفاعل في نفثه القرآن ثم عقد كمن استعمل آلة لهو في ذكر وقراءة، ونفس الخيط وان كان الأصل فيه جواز الاستعمال فالنفث لما قصد منه والعقد إقامة مقام الآلة بقطع النظر عن اعتقاد النافث والعاقد والمنفوث والمعقود له، ولأن السحر في العادة لا يكون من غير نفث ولا عقد، وقد قال ﷺ: "من تشبه بقوم فهو منهم" فالنافثون والعاقدون والمعلقون والمتعلقون مشركون ومعطلون لحقيقة التوحيد الواجبة على العبيد، ولا بكلام الله يعملون ولا يبالون به ولا بكلام نبيه يأخذون ولا إليه ينتهون، وهم قد جمعوا بين الإثمين والفتنتين الشرك الاعتقادي وحرمة النفث والعقد مع وزر المنفوث والمعقود له من غير أن ينقص من وزره شيء فلا تُصلى خلفهم الجمعة ولا الجماعة بالأولى لشركهم وتعطيلهم في اعتقادهم وصنيعهم ما داموا كذلك حتى يتوبوا ويرجعوا، ومن رآهم فلم ينكر عليهم فهو شريك لهم في ذلك الإثم والوزر، فإن رضي باعتقادهم فهو مثلهم سواء بسواء، لنهي الشارع ﷺ عن التعلق بشيء ورد على فاعله وقال: "لا يزيدك إلاَّ وهنًا انبذها عنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا" رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عمران بن حصين وطرق أخر غيره، وروى أبو منصور ابن ظاهر التميمي عن محمد بن عبد الله بن علي بن زياد الدقاق عن محمد بن إبراهيم البوسنجي عن عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل عن زهير بن محمد بن معاوية عن عمرو بن قيس الملائي عن المنهال عن سير بن أم أبي عبيدة بن عبد الله أن عبد الله دخل على امرأته وهي أم سير أبي عبيدة وفي عنقها سير أو خيط معقود من مرض بها وعندها نسوة فاجتذبه حتى اختنقت فقطعه فنبذه ثم قال لقد أصبح ابن أم عبد غنيًا عن أن يكون في بيته شرك، فقال بعضهم أو شرك هذا قال نعم الرقى والتمائم والتولة شرك فقال بعضهن وما التولة؟ قال ما يحببن به إلى أزواجهن فقال بعضهن إن أحدنا يأخذها الضربان في عينها فإذا استرقت سكن فقال ذلك الشيطان عدو الله ينزغ في عين إحداكن فإذا استرقت كف، ولو أنها إذا أحست شيئًا من ذلك أخذت كفًا من ماء فنضحت في عينها وقرأت قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس لسكن وذهب، فما استعاذ مستعيذ بمثلهما، ومن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله فيقرؤه المريض على نفسه، أو يقرؤه الغير عليه، أو يكتب ويسقاه أو يقرأ له في ماء، وكذا أسماء الله تعالى وتقدس، ومما ورد وضع المريض يده على الموضع الذي يؤلمه فيقول بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبعًا، وتقدم ما يجوز من تعاطى الأدوية التي شرعها الله وبينها رسوله ﷺ من غير ركون إليها ولا توكل عليها وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: "ما أنعم الله على عبد من نعمة في مال أو أهل فيقول ما شاء الله لا قوة إلاَّ بالله إلاَّ دفع عنه كل آفة حتى تأتيه منيته" وقرأ: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } فيسن لمن أعجبه ماله أو ولده أو شيء من حاله أن يقول ما شاء الله لا قوة إلاَّ بالله فإنه لا يرى فيما أعجبه مكروهًا للحديث المتقدم والله أعلم.

حكم التبرك بالشجر والحجر

وأما قولكم (وقوله من تبرك بشجرة أو حجر الخ فعلم جوابه مما ذكرنا آنفًا مع أنه أيضًا ليس على إطلاقه إذ بعض الأحجار قد ينفع بإذن الله وقد يكون لبعضها خواص ومنافع خلقها الله فيها كما نشاهد في حجر المغناطيس من جذب الحديد وأمثاله وكالحجر الأسود فإن عمر بن الخطاب حين استلمه لما قال له إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك أجابه عثمان بن عفان بقوله إنه يضر وينفع إني سمعت رسول الله ﷺ يقول إنه ليشفع بمثل ربيعة ومضر فافهم ذلك يا ابن عبد الوهاب).

فنقول معنى تبرك أي طلب البركة وقصدها من الشجرة أو الحجر نفسهما، أو هما السببان في حصولها، فالأول هو اعتقاد المتبركين بهما من غالب مشركي أهل هذا الزمان كما هو مشاهد لمن تأمل وتحقق، والثاني هي ذات الأنواط التي قال عنها أهل العلم من أصحاب مالك وغيرهم: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون بسببها البراء والشفاء ويضربون بها الخرق ويعلقونها عليها فاقطعوها فإنها ذات أنواط، وكما روى أبو داود والترمذي عن أبي واقد الليثي قال: (خرجنا مع رسول ﷺ قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي ﷺ: "هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم") وفي رواية للترمذي عنه أنهم مروا بسمرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط قالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال النبي ﷺ: "الله أكبر هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها ليتبركوا بها وينتفعوا بسببها يكون اتخاذها ذلك إلهًا مع الله مع أنهم لا يدعونها ولا يسألونها فما الظن فيمن يدعوها ويرجو منها ومن بركتها وقد كانت العزى شجرة سمر بنخلة لغطفان يعبدونها بدعائها لتشفع خاصة لهم فبعث إليها رسول الله ﷺ خالد بن الوليد فقطعها بالفاس وهو يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، وكذلك مناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة وقيل لثقيف، وسميت بذلك لما كان يمنى أي يراق عندها من الدماء للتبرك بها رجاء شفاعتها، وأخذوا اشتقاق اسمها من منى الله الأمر إذا قدره زاعمين أنه الله يقدر لهم بشفاعتها وإراقة الدماء عندها ما أرادوا طلبوه وعوها لتشفع لهم فيه.

وقد زعم صاحب المقدمة أن من تبرك بشجرة أو حجر فرجى منها ومن بركتها ما تفرج عنه الكروب وتشفى القلوب وتقضي الحوائج وتكشف الشدايد أو لتشفع له فيما رجاها ودعاها أن تشفع له فيه من ذلك فليس شيئًا أكبر غير مغفور إلاَّ بالتوبة منه والرجوع إلى دين الإسلام والملة الحنيفية عنه لقوله، فقد علم جوابه مما ذكرنا آنفًا، يعني قوله فيما تقدم فيمن لبس الخلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء ودفعه، أنه ليس فيه إلاَّ الحرمة والإثم ولا يلزم منه كون مرتكبه كافرًا مشركًا، فكذلك من تبرك بشجرة أو حجر ليس فيه إلاَّ الحرمة والإثم لكن لا يلزم منه كون مرتكبه كافرًا الخ، ولم يعلم حكم تعطيل معاملة الله تبارك وتعالى الواجبة على خلقه وعبيده التي هي معنى ألوهيته وتفرده فيما هو يختص بجلاله وعظمته من صمديته التي مفتقر بها إليه البر والفاجر، والبائس والشاكر، والمقل والمكثر المتفاخر، وسائر خلقه كلهم بها له قانتون، وإياه يدعون، ومن بركاته يرجون، إنما كان شرك الأولين بما يظنونه مرضيًا لرب لعالمين ومقربًا إليه في كل حين، ولذلك يخلصون له الدين في حال الشدة وكل أمر هائل مزعج متين: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } لكن هؤلاء الذين يستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته وافتقارهم إلى صمديته وأنه يجيب دعاء المضطرين لا يعطيهم بدعائهم إلاَّ متاعًا في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق، لأنهم عطلوا معاملته المقتضية لعبادته وعصوا رسله قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } وعدم فهمه شيء عبادة الله ومعاملته وحكم تعطيلها هو الحامل له بأن يحكم على من تبرك بشجرة أو حجر فرجى منها ومن بركتها ما تفرج به عنه الكروب وتقضي الحوائج وتكشف الشدائد، كحكمه فيمن لبس الخلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، في أن ليس في ذلك إلاَّ مجرد الحرمة فقط.

ومما يدل على ما قلناه دلالة صريحة، اعتقاده وتصريحه في كلامه الذي في قوله مع أنه أي إثم التبرك بالأشجار والأحجار ليس على إطلاقه، إذ بعض الأحجار قد ينفع بإذن الله وقد يكون لبعضها خواص ومنافع خلقها الله فيها كما نشاهد في حجر المغناطيس من جذب الحديد وأمثاله فلا إثم على من دعاه وتبرك به لما فيه من النفع ومن جذب الحديد، وكذا الحجر الأسود لما فيه من نفع الشفاعة في مثل ربيعة ومضر.

ومن له أدنى لب من عقل ومعرفة فيما بعث الله به الرسل وفضلهم وهديهم واقتباس نصيب من نور الله علم يقينًا أن معتقد هذا الاعتقاد وقائل هذا القول والحاكم بهذا الحكم محاد لله ولرسوله، راد على الله ورسوله ناقض لحكم الله ورسوله، وأنه ليس عنده علم ومعرفة في دين الله الذي من يتبع غيره لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ولم يفرق بينه وبين الانتفاع والاستمتاع فيما هو مخلوق من الأرض ومعادنها للآدميين، بل عنده من ذلك مجرد الادعاء في القول والكتابة على حكمه في القول، فإن نظره إلى الصنعة في الخلق ولم ينظر إلى الصانع الخالق رب كل شيء وخالقه ومليكه وإلهه، الذي لم يخلق خلقًا إلاَّ لحكمة، وجميع الكائنات شاهد بألوهيته، كما هو دال على ربوبيته، والأرض وما حوته من أنواع المعادن والنبات من حكمة موجودها، وبركة إلهها الموضوعة فيها، إنما وجودها دليل على وحدانية الله وتفرده بالألوهية ليكون الدين كله له، ولينتفع بها وبما فيها سائر الحيوانات التي على ظاهرها وفي باطنها من بني آدم وغيرهم، قال عز من قائل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ثم قال: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فهذا الامتنان من الواحد المنان ناطق بأن الأرض وسائر ما فيها من الأشجار والأحجار لا يعتقد فيها الضرر والنفع ولا العطاء والمنع، وإنما ينتفع بها انتفاع استمتاع لا اعتقاد نفع فيه، إذ الأول من معاني الامتنان، والثاني من وظائف الإله الواحد المنان، واعتقاد السببية الجائزة فيه من غير ركون إليه ولا توكل عليه من جملة الاستمتاع به، وقد تقدت الأسباب الجائزة مستوفاة في بحث الشرك، وان الله خالق السبب والمسبب ومن وقع في ظلمات الوهم وأبعد عن نور الفهم لم يميز بين النوعين، ولم يفرق بين الجنسين، ولو كلف الخاطبون أو أذن لهم في الاقتصار في العبادة على المصنوع والصنعة التي هي نتيجة الحكمة فعطلوا معاملة الصانع الحكيم أو التشريك بينهما لعد ذلك نقصًا في جانب الصانع ونفيًا لحكمته التي لأجلها خلق الأرضين والسموات وما فيهما وما بينهما من الآيات، ولها أوجد جميع الكائنات، فكيف وقد تعالى وتقدس أن يأمر إلاَّ بعبادته ومعاملته له وحده لا شريك له فيها، ونصب على ذلك دلائل شاهدة بألوهيته وحده، من ذلك الأرض وما أوجد فيها الإله من معادن الأحجار بأنواعها، فإن فيها خواص ومنافع للناس، ونفعه أكثر من حجر المغناطيس كحجر الأثمد واللؤلؤ والجوهر والزبرجد والزرنيخ والشب وغيرهما من أنواع المعادن، كل له خاصية ينتفع بها ليس في الآخر وقلما يوجد حجر فيها إلاَّ ويصلح للانتفاع به دق أو جل كالبناء وغيره وكذا حجر الألماس والنار كل له خاصية ينتفع بها دالة على ألوهية خالقها، واختلاف ألوانها في كل لون يكون فيها أو منها، كما هو مشاهد في المعادن المستخرجة وكل لون ينقسم إلى أنواع وألوان فإن حمرة المرجان محلفة، كما أن حمرة الزبرجد والياقوت وخضرتهما مختلفة، وكاختلاف بقاع الأرض مع تجاورها قال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.

وكذلك اختلاف الأجساد من سائر الحيوانات والعقول والادراكات والأشجار وأنواع الثمرات مع اتحاد الأب والأم إن في ذلك لآيات، وهذا سر قوله تعالى: { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.

الدلائل القائمة على ألوهية الخالق

(ومن الدلائل) على ألوهية خالقها الطعام للبشر، وسائر الحيوانات، وما تترى به الأجسام والعورات من النبات، كالقطن والكتان، وما أبرزه الإله المعبود بالحق من الحيوانات كالإبريسم والصوف والشعر والجلود، وما لا تحيط به الأذهان ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إمتن بها الإله الواحد المنان، وكذا اختلاف الأخشاب بأنواعها واختلاف مصالحها، وهذه الآيات لا تحصيها العبارات، إنما نشير إلى اليسير منها لاعتبارات وفي اختلافها يقول موجد الكائنات: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ } وكذلك الحال في الطيب والخبيث يكون في بني آدم كما يكون في الأرض وما يخرج فيها من النبات كما قيل:

الناس كالأرض ومنهاهم ** من حجر قاس ومن لين

فجلمد تدمي به أرجل ** وأثمد يحمل في الأعين

وهذا من نزع البركة عن بعضها ووضعها في بعضها الآخر وجود الحكمة في كل منهما وفي الحديث: "أُحد يحبنا ونحبه وهو على باب من أبواب الجنة، وهذا عير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبوب النار" أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي عبس بن جبر رضي الله عنه وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ: " أُحد جبل يحبنا ونحبه" أخرجه البخاري فأٌحد طيب يرى الناظر إليه عليه آثار الأنوار، وعير خبيث تنبو عن مشاهدته الأبصار، وقد قال تعالى لنبيه المختار: { وربك يخلق ما يشاء ويختار }.

(ومن الدلائل) على ألوهية خالقها وموجدها الكعبة الشريفة في البلد الآمن طهره الله وصانه وجعل عباده المتقين أولياءه وسكانه: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ } وفيه من البراهين والآيات ما يسع الكائنات، ولو لم يكن فيه إلاَّ أنه منزل البركات من إله الكائنات تنزل عليه كل يوم مائة وعشرين رحمة تتفرق على أهل التوحيد من أهل الطاعات، ومنها توجه وجوه أهل الإسلام في جميع الصلوات من كل الجهات، وكذلك توجه إليه من المسلمين كل الأموات.

(ومنها) مضاعفة الحسنات وتجسيم السيئات.

(ومنها) أن تجبى إليه جميع الثمرات ومنها البركة التي طلب الخليل ﷺ في الأقوات.

(ومنها) مقام إبراهيم وزمزم طعام طعم ولما شرب له عام.

(وفيها) يمين الله في أرضه، فإنه يأتي يوم القيامة وله شفتان ولسان شاهد لمن استلمه وقبله مؤمنًا بالله غير مشرك به ومصدقًا بجميع ما جاء به الرسول ﷺ متبعًا لشرعه وهديه مخالفًا ومعاديًا لضده، فشهادته لأهل التوحيد بأعمالهم الصالحة هي حقيقة نفعه التي أخبر بها علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، حيث صح وثبت جواب علي لعمر وإلا فهذه الزيادة بعض العلماء على عدم ثبوتها، إنما الثابت صدر الحديث كما رواه البخاري من طريقين:

الأول: عن عباس بن ربيعة عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبله وقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك.

الثاني: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال رأيت عمر بن الحطاب يقبل الحجر وقال لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. وقول صاحب المقدمة أجابه عثمان بن عفان وهم، إنما المجيب علي بن أبي طالب كما ذكره المثبتون لهذه الزيادة في آخر الحديث في بعض السير، فأما شهادة الحجر لأهل التوحيد فهي ثابتة كما روى عمر رضي الله عنه أن النبي ﷺ استقبل الحجر ووضع شفتيه عليه يبكي طويلًا ثم التفت فإذا عمر بن الخطاب فقال: "يا عمر هاهنا تسكب العبرات" رواه ابن ماجه. وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي ﷺ استلم الحجر بيده وقبلها فتقبيله واستلامه والبكاء عنده لا يخلو ذلك من حكمة لو لم يكن منها لا أنه يمين الله في أرضه وشهادته لأهل التوحيد توحيده بأعمالهم وذلك لا يقتضي اعتقاد النفع أو الضر فيه بطبعه ولا بقوته فلا يدعى ولا يرجى ولا يتوكل عليه لفضله وشهادته وشفاعته ليستا بأفضل ولا أكمل ولا أتم عن شهادة الرسل وشفاعتهم، ومع ذلك فلا يعتقد فيهم النفع ولا الضر ولا الإعطاء ولا المنع، إلا أنهم يوم القيامة يشهدون على أممهم وعلى بعضهم بعضًا بالبلاغ والتبليغ كما قال جل ذكره: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } ويشفعوا في أهل التوحيد بعد إذن الله لهم فيها لمن رضي عنه، وذلك لا يقتضي أنهم يملكون الضر ولا النفع ولا العطاء ولا المنع، فالحجر أولى بعدم الاعتقاد فيه إذ الأمر كله لمالكه وهو الله الذي خلق الرسل وفضلهم على سائر الخلق، وخلق الأرض وما فيها من الآيات الدالة على ألوهيته، وتفرده بملك الضر والنفع والعطاء والمنع.

ولقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مخاطبًا للكعبة الشريفة شرفها الله ما أطيبك وأطهرك، ولحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك، ومعلوم أنه لا أعظم حرمة في الخلق من الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم لم يبعثهم الله عز وجل إلاَّ ليزيلوا هذا الاعتقاد في الأحجار والأشجار من قلوب سائر الخلق الكبار والصغار، ويخلصون لله الواحد القهار، وقد حمى النبي ﷺ التوحيد أعظم حماية أقل من هذا الاعتقاد وأظهره، وغضب منه حين قال له القائل ما شاء الله وشئت فقال عليه السلام: "أجعلتني لله ندًا قل ما شاء الله وحده" فكيف باعتقاد المشركين الأولين أو ما هو أعظم منه، وقد ذكرنا بمناسبة حكمة الله في خلقه وإظهار قدرته في مصنوعاته رشيحة من الاستمتاع بما في المقلة، ولم نتعرض لما في المظلة طلبًا للإختصار ومخافة في القصور وذله إذ الأرض بالنسبة إليها كحلقة ملقاة في فلاة وإذا فتح الله فؤاد العبد للفكر في أمه رأى ببصيرة قلبه فنطق لسانه بعجائب المظلة فاستدل بذلك على ألوهية الخالق وتفرده فيما هو منفرد به عن خلقه وعبادته وحده لا شريك له في حقه ومعاملته.

والعبد من تراب إذا تكلم بالدليل على ألوهية خالقه فهو في محله، إنما الرزية كل الرزية الإعراض عن الآيات والتغافل عن المشاهدات والمبصرات والمسموعات والمحسوسات: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } ومن كان فكره في كل واد يهيم فهو من الأفكار الباطلة والاعتقادات الفاسدة في ليل بهيم، ولهذا قال الإله: { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }.

تعريف النذر لغة وشرعًا وحكم النذر لغير الله

(وأما قولكم وقوله من الشرك النذر لغير الله وقول الله يوفون بالنذر الآية وقال تعالى وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر الآية وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه"، فنقول هذا أيضًا غير مسلم أنه من الشرك الاعتقادي وما استدل عليه من الآية والحديث لا يدل عليه بل إنما يدل علي أنه لا يلزم الوفاء به كما عليه اتفاق العلماء).

فنقول النذر لغة الإيجاب، يقال نذر فلان دم فلان، أي أوجب قتله، ومعناه شرعًا: إلزام مكلف مختار نفسه عبادة لله تعالى غير لازمة له بأصل الشرع وهو مكروه إذا كان لله، ولأيات بخير ولا يرد قضاء، وفاقًا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى لما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:: نهى النبي ﷺ عن النذر وقال: "انه لا يرد شيئًا ولكن يستخرج به من البخيل" وفي رواية للبخاري يقول ابن عمر أولم تنتهوا عن النذر إن النبي ﷺ قال: "إن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخر وإنما يستخرج بالنذر من البخيل" وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "ان النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرجه" فقد نهى النبي ﷺ عن النذر وأخبر أنه لا يأتي بخير وأنه ليس من الأسباب الجالبة لخير أو الدافعة لشر أصلًا وإنما يوافق القدر موافقة كما يوافقه سائر الأسباب فيخرج من البخيل حينئذ ما لم يكن يخرجه قبل ذلك.

هذا وقد أجمع أهل العلم في الجملة على انعقاد النذر الذي لله ولزوم الوفاء به لقوله سبحانه وتعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } ولما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" ولحديث عمر بن الحطاب رضي الله عنه: يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة وفي رواية يومًا في المسجد الحرام فقال له النبي ﷺ: "أوف بنذرك" ومدح الوافين به يدل على جواز النذر إذا كان في طاعة الله لا على استحسانه ومشروعيته ولذلك لم يفعله النبي ﷺ ولا أمر به بل نهى عنه وأخبر أنه لا يأتي بخير ولا يرد قضاء، وفي البخاري من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي ﷺ: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه "ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن".

(ثم النذر) الجائز ثلاثة أقسام:

(أحدها) ما علق على وجود نعمة أو دفع نقمة فإذا وجد ذلك لزم الوفاء به لعموم قول النبي ﷺ من نذر أن يطيع الله فليطعه ولذمه الذين ينذرون ولا يوفون كما في حديث عمران بن حصين المتقدم.

(والثاني) ما علق على شيء لقصد المنع منه أو الحث عليه، كقوله ان دخلت الدار فعلي لله كذا، وان لم أخبرك بما يكون فلله علي كذا، وهذا القسم هو نذر اللجاج والغضب وقد اختلف في لزوم الوفاء به، وللشافعي قول موافق للرواية الصحيحة عن أحمد أنه يخير بين الوفاء فيما نذر وبين كفارة يمين، لما روي عمران بن حصين قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" رواه سعيد بن منصور في سننه ولأنها يمين فيخير فيها بين الأمرين.

(الثالث) ما ينذر من الطاعة بلا تعليق كصلاة وصوم وحج واعتكاف وقراءة وعيادة مريض فيلزم الوفاء به عند عامة أهل العلم.

وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يلزم الوفاء بما لا نظير له بأصل الشرع ولا أصل له في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع، وحجة ملزمي الوفاء حديث عمر وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما وذم النبي ﷺ الذي ينذرون ولا يوفون، والنذر المطلق غير المقيد بشيء، كقوله لله علي نذر أكثر أهل العلم منهم مالك يوجبون فيه كفارة يمين، كقوله ان فعلت كذا فلله علي نذر وفعله، ففيه كفارة يمين، لما روى عقبة بن عامر قال قال رسول الله ﷺ: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" رواه ابن ماجه والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب قالوا وهذا نص في المسألة فلا يعدل عنه.

والنذر غير الجائز قسمان:

(أحدهما) نذر فعل معصية كشرب خمر، وقتل معصوم، وصوم يوم عيد، أو حيض أو أيام التشريق فيحرم الوفاء به، لقول النبي ﷺ: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال، وهل ينعقد أم لا، جمهور العلماء على أنه لا ينعقد لأن في قوله فلا يعصه دليلًا على عدم انعقاده ولقوله ﷺ: "لا وفاء لنذر بمعصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود. وأصله في الصحيحين. وقال بعضهم وهو الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه ينعقد لأن وجود النذر كوجود اليمين، وعدم جواز الوفاء به لا يمنع انعقاده، ويكفر كفارة يمين. وهذا مروي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى إلاَّ أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال فيمن نذر ذبح آدمي معصوم يلزمه ذبح كبش ويطعمه للمساكين، وهذا القول أحد الروايتين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

(الثاني) النذر لغير الله ولأجله عقدت الترجمة، كالنذر لإبراهيم الخليل، أو محمد النبي الأمي ﷺ، أو ابن عباس رضي الله عنهما، أو الشيخ عبد القادر، أو الحضر، أو لملك من الملائكة أو جني أو شجرة فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي، لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلاَّ لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، إما بطبعه، وإما بقوة السببية فيه، ويجلب الخير والبركة ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم أنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة فنذروا نذرًا لفلان وفلان أصحاب القبور من الأنبياء والمشايخ وللغار الفلاني والشجرة الفلانية فانكشفت شدائدهم واستراحت خواطرهم، ويقول أحدهم مرضت فنذرت للشيخ فلان فشفافي وعافاني، ويقول الآخر خرج علي المحاربون واشتد علي الأمر فنذرت لشيخي ووسيلتي ومعتقدي الولي الفلاني، وانتدبته فأجابني كشف شدتي وفرج كربتي، ويقول الآخر ركبت البحر فحصل الطهف وكثرة الأمواج والريح فنذرنا أصحاب السفينة، ودعونا الولي الفلاني، ومعتقدنا الذي في جزيرة أو محل كذا ونذرنا له كذا وكذا فأسكن الريح وأبطل الموج وركد سفينتنا فسلمنا واسترحنا فلما قدمنا إلى مكانه ابتدر إلينا سادن القبر يلاقينا قائلًا ان الشيخ أخبرني وهو في قبره ان له عندكم نذر كذا وكذا، وأرسلني إليكم لأقبضه منكم فيوفون فيتعجبون منه ويزيدون له في الاعتقاد فيه والنذر له، وتثبت عندهم ولايته، وضره ونفعه، فيدعونه ويرجونه ويرسلون له من المكان البعيد شمع العسل يوقد في قبته عند قبره ويأتون إليه بالجوخ وأنواع الخرق يضعونها تغشية على تابوته واعلامًا عند ضريحه. وقد قام بنفوسهم ان هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن، وسنة المبعوث به ونظر أحوال السلف الصالح، علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى: { هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا } وقوله: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } حذو القذة بالقذة واعتقاد هؤلاء في المنذور له أعظم من اعتقاد أولئك في المجعول له، لأنهم يعتقدون فيهم الضر والنفع والعطاء والمنع لا بهم، إذ الأول شرك غالب الآخرين، والثاني هو شرك الأولين، ألا يرى أن الحلف بالله وحده عند هؤلاء لا يرضون به ولا يكتفون ولا يكون عندهم قسمًا بل لا يكون قسمًا مؤكدًا إلاَّ إذا كان بمعتقدهم سواء كان ميتًا أو غيره ولا يقدمون على الحلف به كاذبًا خوفًا منه نفسه أن يصيبه بضر في جسده أو ماله أو عياله ويقدمون عليه بالله كاذبًا ولا يخافون ولا يبالون بل لا يعدونه يمينًا.

هذه عقيدة الخواص منهم لا العوام الطغام فلذلك له ينذرون ومنه يرجون ويخافون وعليه يتوكلون وإياه يدعون ويستعينون وبه يستغيثون، ومن خالفهم في ذلك وأنكر عليهم يخرجونه ويدعونه وينالون منه، ولا من الله يبالون ولا يخافون لأن ما اعتقدوه وقالوه هو الدين عندهم وكأنه هو المطلوب منهم، فهؤلاء المشركون مبطلون يضيفون قضاء حوائجهم من المنذور له إلى خصوص النذر مع أن جنسه لا أثر له في ذلك، وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أن نذر طاعة الله فضلًا عن معصيته ليس سببًا لجلب خير ولا لدفع شر إنما الخير الذي يحصل للناذر يوافق النذر موافقة كما يوافق سائر الأسباب فلا ينسب إليه أثر ولا سيئة فأما نسبة التأثير إليه في جلب الخير أو دفع الشر أو رفعه وأنه من المنذور له أو هو متسبب فيه بشفاعته واسطة للناذر الذي يدعوه ويتوكل عليه ويرجوه يشفع له في كل ما نابه وكشف ما أهمه فلا شبهة أن هذا هو الشرك الأكبر والكفر الاعتقادي لعموم قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } والنذر عبادة قربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ولتعلق قلبه بواسطته وتألهه له بدعائه إياه ونذره له وتوكله عليه ولحديث حصين بن المنذر: "أن رسول الله ﷺ قال له: "يا حصين كم تعبد قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فأمره النبي ﷺ بالإسلام فأسلم" خرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي) ولحديث القوم الصالحين الذين افتتن بهم قومهم خرجه البخاري في صحيحه، وأهل التفسير كابن جرير وغيره، ولاعتقاد قريش في اللات والعزى ومناة، وأما نسبة السببية في النذر خاصة دون المنذور له فلا يعتقد فيه ضر ولا نفع ولا سببية لهما وإنما نذر له ليكون النذر وحده سببًا في حصول المطلوب فهذا نذر معصية لا كفر ولا يجوز الوفاء به لقوله ﷺ: "من نذر أن يعصى الله فلا يعصه" رواه البخاري عن عائشة ولنهيه ﷺ عن وفاء نذر المعصية لله، وعن العقر والذبح لغير الله رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أنس والنذر لغير الله من ذلك، وفي معناه ولا يجوز الوفاء به و إن تصدق بما نذره من ذلك على مستحقي الصدقة من الفقراء الصالحين غير سدنة القبور وخادميها العاكفين عليها لقبض النذور كان خيرًا له وأنفع عند الله تبارك وتعالى، وجواز الاعتقاد في أن هذا النذر هو السبب في حصول المطلوب لا بد له من دليل لا يمكن وجوده على ذلك لنهي النبي ﷺ عنه وإخباره أنه لا يرد شيئًا ولا يقدمه ولا يؤخره ولا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، كل ذلك مروي في الصحيح عنه ﷺ ولو نذر فعل قربة من صلاة أو ذبح نسك في مكان معد على قبر نبي أو صالح أو تمثالهما أو أحدهما وذلك المكان يقصد لدعائه ورجائه أو للدعاء عنده أو لم يقصد لذلك ولكن نية الناذر التقرب بعمله لديه والتبتل إليه حرم النذر والوفاء مثل تحريمهما في مكان فيه وثن من أوثان الجاهلية أو عيد من أعيادهم، وذلك لما روى أبو داود عن أبي قلابة: (أن ثابت بن الضحاك حدثه قال نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ أن ينحر إبلًا ببوانة فأتى رسول الله ﷺ فقال: إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة فقال النبي ﷺ: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد" قال لا قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم" قال لا فقال رسول الله ﷺ: "فأوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم") وبوانة بضم الباء الموحدة من أسفل موضع في أرض اليمن ولا تخفى مناسبة الآية والحديث لذكر الترجمة إذ قوله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } شامل لنذر الطاعة والقربة ونذر المعصية المغفورة والمحبطة، وقوله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } القرآن دال بمنطوقه ومفهومه وصريحه وكتابته أن الله لا يأمر إلاَّ بالطاعة قولًا وعملًا واعتقادًا، وينهى عن المعصية قولًا وعملًا واعتقادًا، فتعين أن يكون الحث على الوفاء بالنذر ومدح الوافين إذا كان في طاعة لله وقربة إليه وإلا فهو داخل في عموم قوله تعالى: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } حنفاء لله غير مشركين به وقوله: { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } ومن أعظم الزور والفواحش معاصي الله بأنواعها الشاملة للنذر لغيره تعالى سواء كان نذر شرك أصغر أو كان شركًا أكبر فإن النذر لغير الله لا يتناول إلاَّ هذين النوعين ولا يخزج عنهما فلا ينعقد. وجواز الوفاء به متوقف على انعقاده وعدم الاثمية فيه، فذا عن اللزوم، هذا الذي عليه العلماء جمة لا كما زعمه صاحب المقدمة فإنه إنما نفى اللزوم خاصة وأسنده إلى اتفاق العلماء وأبقى جواز الوفاء به وصنيعه يدل على عدم فهمه وقصور إطلاعه، فإن نصوص العلماء قاطبة ناطقة بعدم جواز الوفاء بنذر المعصية وعللوا بنهيه صلوات الله وسلامه عليه عن عصيان الله بالنذر وفيه، ولأن في الجواز تقريرًا لمعصية الله وهي منتفية شرعًا وعقلًا هذا مع اختلافهم في انعقاد نذر فعل المعصية كقطيعة رحم وقتل معصوم وشرب خمر وصوم يوم عيد، وتقدم أن الجمهور لا يرى انعقاده وان من رآه لا يجوز الوفاء به بل يوجب فيه كفارة اليمين، وإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوجب في نذر قتل المعصوم ذبح كبش وإطعامه المساكين، وأما النذر لغير الله فإنه وإن كان نوعًا منه فلا أحد ممن يعتد به من العلماء يقول بجوازه أو انعقاده أو جواز الوفاء به، نعم قال بعض العلماء من الشافعية وغيرهم فيمن نذر لميت أو نحوه شمعًا أو زيتًا ونحوه وقصده أن يكون نذره وسيلة في قضاء ما طلبه أو منع ما قصده ولم يقصد ذلك من الميت نفسه ولا أن يكون سببًا فيه ان هذا النذر حرام لا يجوز الوفاء به وإن تصدق بثمن ما نذره من ذلك أو عينه على المساكين المستحقين كان خيرًا له عند الله تبارك وتعالى وأنفع انتهى، وقوله ﷺ: "ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه" وقوله: "أنه لا وفاء لنذر في معصية" شامل لكل نذر معصية إما هو بنفسه أو ما هي وصف له، وإن لم يكن هو معصية كنذر الرجل نحر الإبل وذبح النسك أو فعل قربة في مكان معهود فيه شرك، وما هو من أفعال الجاهلية فإن الحكم يتبع الوصف إيجادًا، واعدامًا، جوازًا، ومنعًا، وهو سبب للحكم فإن وجد فهو مانع من الوفاء وإن لم يكن النذر في نفسه معصية لله، كفعل القربة، ولذلك سأل النبي ﷺ الرجل لما قال: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة فقال له هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قال لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال لا قال فأوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم"، رواه أبو داود في سننه وغيره، فلما ظهر للنبي ﷺ عدم المانع لجواز الوفاء وهو فقد الصفة المحرمة في الصورتين قال له فأوف بنذرك، يعني حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح في ذلك الموضع فكان جوابه ﷺ فيه أمر بالوفاء عند الخلو من الصفة المانعة للنذر الجائز مع فقدها، ونهى عن الوفاء به مع وجودها، وأصل الوفاء بالنذر الجائز معلوم. فبين ﷺ ما لا وفاء فيه واللفظ العام إذا ورد على سبب فلابد أن يكون السبب مندرجًا فيه والله أعلم.

الاستعاذة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

(وأما قولكم وقوله ومن الإشراك الاستعاذة بغير الله فهذا غير مسلم أنه من الإشراك الاعتقادي وما استدل عليه من قوله وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن لا دلالة فيه عليه أصلًا).

فنقول قد تقدم تعريفنا معنى الاستعاذة في أول الكتاب عند قوله ونعوذ بالله من شرور أنفسنا والاستعاذة الالتجاء إلى الله والملاذ بجانبه من كل شر، والعياذ يكون لدفع الشر، والملاذ لطلب الخير كما قال المتنبي:

يا من ألوذ به فيما أؤمله ** ومن أعوذ به فيما أحاذره

لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ** ولا يهضمون عظمًا أنت جابره

ومن لاذ واستجار واعتصم بغير الله فقد خاب وخسر وأشرك لله قوله واعتقاده، قال سبحانه تعالى: { أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } وقال تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وقال تعالى: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وقال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } فبين سبحانه وتعالى في هذه الآيات بل بالقرآن كله أن ليس دونه لخلقه ولي ولا نصير، وان لا أحد يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًا فلا يوجدان إلاَّ بتقديره ومشيئته، وأنه الخالق للسبب والمسبب، وأن النزغ من الشيطان والاستعاذة منه لا تكون إلاَّ بالله السميع العليم، وان ليس للعين سلطان قهر وغلبة واستيلاء على عباد الله المنقادين لأمره المؤمنين به وبرسله وما أرسلوا به المفوضين أمورهم إلى خالقهم وإلههم فلا يتمكن من قلوبهم فيصدهم عن ذكره وتوحيده فيقعوا لي ذنب لا تجامعه المغفرة، بل إنما يكون ذلك على أوليائه المنقادين لأمره الذين يتولونه والذين هم به مشركون، لإعراضهم عن توحيد خالقهم، والاستعاذة بغير الله إعراض عن توحيده ونفي لتفرده تعالى بملك الضر والنفع والعطاء والمنع والاستغاثة والقرب، وتعطيل لمعاملته وافضاله مزيده، والمستعيذ بغيره متخذ وليًا ونصيرًا من دونه لقوله تعالى: { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } إلى قوله { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } فمن استعاذ بغير الله على هذا الوجه فهو بمن استعاذ به مشرك في قوله وعقيدته إذ تعلق قلبه في المستعاذ به من المخلوقين برجائه والملاذة به، والالتجاء إليه، والتوكل عليه، هو الحامل والمقتضي له على الاستعاذة به، وذلك هو الشرك الاعتقادي، ولهذا كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفرة أي خالية قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح فأنزل الله سبحانه وتعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ } أي يلوذون ويستعيذون { بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أي فزاد الإنس الجن المستعاذ بهم رهقًا، سفهًا وإثمًا وطغيانًا بقولهم سدنا الإنس والجن وكذا ما في صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من دخل منزلًا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك" وفي المسند للإمام أحمد عن أبان بن عثمان عن أبيه قال قال رسول الله ﷺ: "من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره شيء" قال الخطابي قال العلماء لا يستعاذ بغير الله أو صفاته، إذ كل ما سواه تعالى وصفاته مخلوق، ولذلك وصفت كلماته تعالى بالتمام وهو الكمال، وما من مخلوق إلاَّ وفيه نقص والاستعاذة بالمخلوق شرك مناف لتوحيد الخالق لما فيه من تعطيل معاملته تعالى الواجبة له على عبيده انتهى.

وبهذا احتج السلف كالإمام أحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق قالوا وقد استعاذ النبي ﷺ بكلمات الله التامات فلا يستعاذ بمخلوق، ولما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا " فنهى عن الرقي التي فيها شرك كالتي فيها استعاذة بالمخلوقين الجن أو غيرهم، قال تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَال } الآية ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والاقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه، من ذلك كما تقدم خشية أن يكون فيه شرك بخلاف ما كان من الرقى المشروعة فإنه جائز، ومما يؤيد أن الاستعاذة بالمخلوق شرك اعتقادي، جعل المستعيذ نصيبًا من ماله مأكولًا كان أو غيره لمن استعاذ به من الجن لائذًا به وعائذًا ليرفع عنه أو غيره ما حل به من المس واللمم أو يدفع ما يحذره من سائر الألم قائلًا أعوذ وألوذ بفلان وفلان ومن ساد من انس وجان من شر كذا وكذا ثم ينحر النحيرة لسكان الأرض من الجيران ليرفعوا عنه أو يدفعوا ما حل به وكان، ويدس ما نحره لهم في التراب ليكون لهم خالصًا وبهم سائغًا، وبعضهم يقول أعوذ بأبي الجان وشهاب الشيطان من العين وما كان من شر كيت وكيت، ونحو هذه الاستعاذات التي هي شرك اعتقادي من هؤلاء المفتونين عبدة الشياطين، ولفظ الاستعاذة بالمخلوق شرك قولي ناشيء عن الاعتقادي، فقول صاحب المقدمة الاستعاذة بغير الله غير مسلم أنه من الإشراك الاعتقادي دال بصريحه على أنه لم يميز اللازم من الملزوم ولم يعرف المقتضي المشؤم وذلك من وجوه.

(أحدها) أنه ما دليله فيه إلاَّ أنه لا يسلم من غير دليل من الكتاب والسنة وكلام الأئمة غرضه ولا استدلال ضده.

(الثاني) أن قوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } دالة الآية بمنطوقها ومفهومها ان الاستعاذة بغيره تعالى من الجن واقعة اعتقادية، لحديث كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة وذلك أول ما ذكر رسول الله ﷺ بمكة وآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملًا من الغنم فوثب الراعي فنادى يا عامر الوادي جارك. فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة فأنزل الله على رسوله ﷺ الآية.

(الثالث) أنه لو لم يعتقد فيه القدرة على تحصيل ما يرومه منه ودفع ما يخشى شره لما استعاذ به.

(الرابع) نفيه الاستدلال بالآية على أن الاستعاذة بغير الله شرك اعتقادي لقوله لا دلالة فيه عليه أصلًا والله قد أنزلها بسبب الشرك الاعتقادي في عامر الوادي.

(الخامس) ان حكم الآية عام في كل مستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى إذ العبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مع ملاحظته وعدم القصور عليه.

(السادس) ما قاله عبد الرحمن الجلال السيوطي في كتابه الخصائص الكبرى ان من التلاوة على الجن المستفاد من شرورهم بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول رب العالمين إلى من طرق الدار من العمار والزوار والصالحين لا طارق يطرق إلاَّ بخير يا رحمن، أما بعد: فإن لنا ولكم في الحق سعة فإن تك عاشقًا مولعًا أو فأجرًا مقتحمًا أو راعيًا حقًا مبطلًا هذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ورسلنا يكتبون ما تمكرون، اتركوا صاحبنا هذا وانطلقوا إلى عبدة الأصنام وإلى من يزعم أن مع الله إلهًا آخر، لا اله إلاَّ هو، كل شيء هالك إلاَّ وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، تغلبون لا تنصرون، تفرق أعداء الله بلغت حجة الله ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، دال بمنطوقه على أن الاستعاذة لا تكون إلاَّ بالله لأنه ذكر صفة ما كأنه في كتاب النبي ﷺ رسول الله إلى سائر الإنس والجن إلى من طرق الدار من العمار والزوار والصالحين طالبًا منهم فيه الحق على ضمن ما في كتاب الله وهو القرآن من تحريم ظلم المسلمين عليهم فلا يظلمونهم ولا يتعدون عليهم، بل يفعلون ما حكم عليهم القرآن وطلبه منهم ويتركون ما نهوا عنه، ولذلك قال هذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق، فإن القرآن الكريم ناطق بتحريم ظلم المسلمين بعضهم بعضًا. حاكم بذلك على الإنس والجن، ولهذا قال بلغت حجة الله، وناسبت الحوقلة لط هذا الحال لأنه أمر مهم وما ذكرت على كل مهم إلاَّ فرجه الله، ثم استكفاهم الله السميع العليم فقال فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.

نداء غير الله هو الدعاء الذي هو العبادة

(وأما قولكم وقوله باب قوله تعالى { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وقوله تعالى { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } يعني من يدعو غير الله نبيًا أو غيره يكون مشركًا كما يدل عليه سياق كلامه قلنا ان أردت من الدعاء العبادة كما هو معنى الدعاء في الآية فمسلم لكن لا نسلم أن الداعي غير الله يعبده بل إنما يناديه ويلزم من النداء ذلك وإلا لزم تكفير كل من نادى غيره ولا يقول به أحد من الأمة بل من جميع الأمم).

فنقول من له أدنى لب من عقل ومعرفة في أي فن عرف بهما حق الله الخاص بجلاله وهو عبادته التي أمر بها في النص المتضمنة السؤال من نيل أفضاله وحق المسلمين بعضهم على بعض وما يقدرون عليه، ففرق بين العادة والعبادة، فإنها اسم جامع لكل ما يحبه ويرضاه، ويثبت عليه مما أمر به من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ثم ان كان ما أمر به مختصًا بجلالة لفظه ومعناه فلا يصرف لغيره تعالى من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه أو رفعه إلاَّ الله وحده، فمن دعا به غير الله من سائر الخلق واستعان به فيه فقد عبده به، وهذا المعنى مما عناه المفسرون تحت قوله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } في قولهم أي تعبدون وقوله { والذين تدعون من دونه } أي تعبدون وأمثال ذلك ولهذا قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } فإن المشركين لما أحبوا مع الله كحب الله وظنوا ان ما تألهته قلوبهم تشفع لهم عند الله وتقربهم منه دعوهم لذلك والتمسوا البركة عندهم راجين الشفاعة منهم واتخذوهم أسبابًا في قضاء حوائجهم من عند خالقهم، ولذلك قال تعالى عنهم: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } وإذا كان اتخاذهم أسبابًا في قضاء حوائجهم من عند الخالق ودعاؤهم ورجاؤهم إياهم في ذلك يكون عبادة لهم مع إقرارهم بربوبيته تعالى وملكه وجميع الكائنات وأنه تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء وهو الذي يجير ولا يجار عليه فهو الضار النافع المعطي المانع، فكيف بمن اعتقد الضر والنفع والعطاء والمنع فيمن دعاه وسماه وسيلة وزعم أن الله جل شأنه قد أمر بذلك فهو يدعوه قضاء حوائجه وتفريج كرباته والبركة في ماله وأولًاده ويتبتل إليه في ذلك وليس معه من التوحيد إلاَّ مجرد ادعاء، لأن صنيعه ذلك في قوله وفعله وعقيدته مكذب له فيما ادعاه بجعله ندًا له مماثلًا له في عبادته ومعاملته المختصة بجلاله، فمعنى قوله تعالى أيشركون أي أيعبدون بما هو مختص بجلال الله خالق جميع المخلوقات ورب كل الكائنات من نسبة عبودية أسماء المخلوقين إليه وتوكلهم في رجائهم وجميع أمورهم عليه فيجعلون ذلك لغيره وهو ما لا يقدر على خلق شيء وهم يخلقون أي مخلوقون وما لا يقدر على خلق شيء لا يتأله في العبادة فلا يتخذ لها معبودًا لا في القول ولا في الاعتقاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين سأل النبي ﷺ أي الذنب أعظم قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" والند المثل قال الله: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وقال تعالى: { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } والداعي غير الله فيما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى جاعل لله ندًا من خلقه فيما يستحقه تعالى من الألوهية المقتضية للرهبة والرغبة والاستعاذة وذلك كفر بإجماع الأمة لأن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة لذاته فإنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب بالرغبة لديه والفزع عند الشدائد إليه، وما سواه فهو مفتقر بالعبودية مقهور بها، فكيف يصلح أن يكون إلهًا مرغوبًا مرهوبًا مدعوًا قال الله تعالى: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } وقال تعالى: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } وقال: { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } الآية وقال تعالى: { وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } وقال تعالى: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } فالله هو المستحق أن يدعى ويرجى ويعبد بكل ما أمر به لذاته قال الله الحمد لله رب العالمين فذكر الحمد بالألف واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد فدل على أن الحمد كله لله ثم حصره في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فهو تفصيل لقوله الحمد لله رب العالمين.

(إذا علم هذا) فالمقصود من قوله تعالى { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا } الآية وقوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } الآية إقامة الحجة على أن كل ما سوى الله لا يصلح إلهًا معبودًا لأنه غير خالق لأفعال نفسه ولا غيرها فلا يدعى بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلاَّ الله وحده، ولا تنسب عبودية المخلوقين إليه ولا يرجى ولا يتوكل عليه بل لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره المشركون ولذلك قال والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الذي هو قشر النواة ولفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين.

(أحدهما) دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قول عز وجل: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.. } الآية.

(الثاني) دعاء المسألة وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة بقطع النظر عن الامتثال، ولفظ الصلاة في اللغة أصله الدعاء وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معناه، وهو الدعاء الشامل للعبادة والمسألة، وقد فسر قوله تعالى وقال ربكم ادعوني استجب لكم بوجهين:

(أحدهما) ما هو عام في الدعاء وغيره وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه وتعالى أستجب لكم أي كما أثبكم كما قال في الآية الأخرى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي يثيبهم عل أحد التفسيرين ويزيدهم من فضله.

(الثاني) ما هو خاص، معناه سلوني أعطكم كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا بثلث الليل الآخرة فيقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" فذكر أولًا لفظ الدعاء ثم ذكر السؤال والاستغفار. والمستغفر سائل كما أن السائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير وغيرهما جميعًا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني أعني الخاص هو الأظهر لوجهين.

(أحدهما) ما رواه النعمان بن بشير قال قال رسول الله ﷺ: "ان الدعاء هو العبادة" وفي رواية مخ العبادة ثم قرأ رسول الله ﷺ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.. } الآية رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، فاستدلاله عليه الصلاة والسلام بهذه الآية على الدعاء دليل على أن المراد منها سلوني، وخطاب الله لعباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف عند الأصوليين إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب، ومفيد أيضًا قصور فعله على الله فلا يجعل لغيره حيث كان عبادة قولية أو فعلية، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال تعالى: { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا: "سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل" وفيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "من لا يسأل الله يغضب عليه" وفيه أيضًا أن الله يحب الملحين في الدعاء، وفي حديث آخر ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، وفي المعنى أحاديث كثيرة صحيحة.

(الثاني) قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } وكل سائل راغب فهو عابد للمسؤول وكل عابد له فهو أيضًا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه فكل عابد سائل وكل سائل عابد قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } وقال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } ولا يتصور أن يخلو داع الله، دعاء عبادة، أو دعاء مسئلة، من الرغب والرهب والخوف والطمع والرغبة إلى الله والرهبة والخوف منه والطمع عنده، ليس ذلك يكون لغيره فلا يصرف ما هو مستحق به إلى غيره من سائر الخلق إذ فيه تعطيل معاملته المقتضية لإلوهيته وصمديته مع عجز المدعو وضعفه وافتقاره إلى خالقه فإن توحيد الإلهية يتضمن إخلاص ذلك كله له قال جل شأنه: { له دعوة الحق } وقال: { فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وقال: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } وقال: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } وقال: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وقال تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } والشرك بالرجل المعتقد صلاحه وقربه وولايته أو بقبره أقرب إلى النفوس وأحب إليها من الشرك بخشبة أو حجر مصور على صورته وتمثاله، فمن دعا غير الله بما لا يقدر عليه الخلق أو قال أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل أحد غير الله أو معه فقد أشرك في ربوبيته وعطل معاملته وعبادته المقتضية لإلوهيته وصمديته، ولهذا قال النبي ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك أو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح فهذا يدل بصريحه على أنه لا نفع ولا ضر ولا قبض ولا بسط ولا خفض ولا رفع ولا حركة ولا سكون إلاَّ والله سبحانه هو فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وحافظه، فلا يدعى ولا يرجى غير الله، ولا يتوكل إلاَّ عليه، ولا يستعان إلاَّ به، كما قال علي رضي الله عنه لا يرجو عبد إلاَّ ربه ولا يخافن عبد إلاَّ ذنبه، والرجاء بفضل الله ورحمته، وهذا المشهد فيه الكلمات الكونيات وهو علم معرفة صفة الربوبية الأول، وعلم معرفة صفة الألوهية الثاني، وهو كشف التكليفات، فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الألوهية، والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان كما قال تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فإذا تحقق بهذا المشهد ووفقه الله تعالى لذلك بحيث لا يحجبه مشهد الربوبية عن مشهد الألوهية فهو السعيد في العبودية، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخل في مشهد الألوهية، وجميع مشاهد العظمة والكبرياء والملك والقهر والجلال داخل في مشهد الربوبية، ولهذا قيل إن هذه الآية جمعت سر القرآن، بل سائر الكتب الإلهية كلها ترجع إليه وتدور عليها، أعني إياك نعبد وإياك نستعين، لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء الذي لازمه الدعاء والإنابة والرغبة والرهبة والتوكل، وآخرها اقتضى عبادته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك، فلا يدعى بما لا يقدر عيه إلاَّ الله غيره، ولا يرجى فيه إلاَّ هو، ولا يستغاث إلا به، لأنه لا حول وهي الحركة والتحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك الحول إلاَّ بالله، سواء ذلك الحول والقوة الموجودة في السماء والأرض والآدميين والملائكة والجن وسائر الدواب وغيرها: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وقال تعالى: { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } وقال النبي ﷺ لحصين كم تعبد قال ستة في الأرض وواحدًا في السماء قال فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء... الحديث، رواه الإمام أحمد والترمذي. فهذا يوجب انقطاع تعلق القلب بغيره تعالى وإن كان ملكًا أو نبيًا فكيف بالمشايخ الأولياء العلماء، أو بالفجار الدجالين الأشقياء، فإن غاية الراجي لهم الداعي منهم المتوكل عليهم أن يقول مرادي يشفعون لي، فقطع سبحانه مادة ذلك كله قطعًا شافيًا، فأخبر تعالى في محكم كتابه أنه ما من شفيع إلاَّ من بعد إذنه، ونفى أن يشفع أحد لأحد إلاَّ بإذنه، وأعلن بأن سائر الشفعاء لا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى أو هم من خشينه مشفقون وقال يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاَّ لمن أذن له الرحمن ورضي له قولًا ولهذا إذا جاء سيد الشفعاء وأفضلهم ﷺ يوم القيامة ورأى ربه سجد له وحمده بمحامد يفتحها عليه ولا يبتدىء بسؤال الشفاعة حتى يقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع.

والموفق إذا حقق قيام الله تبارك وتعالى على جميع الأشياء وتصرفه ني جميع الكائنات وتدبيره أمور كل المخلوقات أغناه ذلك عن التعلق على سواه فأخلص له توكله ورجاءه ودعاءه والتجاءه بقصوره ذلك على سيده ومولاه فيما أسره وأبداه من جلب خير ينفعه، أو كشف ضر يضره، وهو القائم على كل نفس بما كسبت فأمره نافذ فيها، وقضاؤه وقدره حاكم عليها، وأزمة الأمور كلها في يده ومرجعها إليه ومدعى الإيمان بذلك لازمة الشهادة في قوله وعقيدته بأن المعطي والمانع والضار والنافع والخافض والرافع والمعز والمذل هو الله وحده، وأن الأمر كله له والشفاعة كلها له والدين هو له وحده، مختص بجلاله فلا يتأله بدعاء ما لا يقدر عليه إلاَّ الله غيره، ولا يرجو إلاَّ هو ولا يتوكل إلاَّ عليه، ولا يعتقد أن جالب الخير أو كاشف الضر إلاَّ الله وحده، فإن أسدى إليه أحد من الخلق معروفًا لقدرتهم عليه كان نظره أولًا إلى الخالق فيشكره على ما أولاه من نعمه فإنه سبحانه المعطي للمخلوق ما أسداه وحببه إليه وقواه عليه، ثم لينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه ويثني عليه خيرًا لقوله عليه السلام: "من أسدى إليكم معروفًا فكافؤه فإن لم تكافؤه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" رواه أبو داود في سننه وأخرجه الترمذي وقال صحيح وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله: "من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ: "من أعطى عطاء فوجد شيئًا فليكافىء به فان لم يجد فيثني فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره" رواه أبو داود، وذلك لأن النعم كلها من الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وقال: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ } فإن الله سبحانه هو المعطي على الحقيقة فإنه الذي خلق الأرزاق كلها وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده وإذا حقق ذلك عاملًا به كان مستعينًا بالله متوكلًا عليه راغبًا وراهبًا إليه ولأن في استعانة الله وحده فائدتين.

(الأولى) أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في أعمال الطاعات.

(الثانية) أنه لا معين له على صالح دينه ودنياه إلاَّ الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن" وكان النبي ﷺ يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا:، الحمد لله نستعينه ونستهديه" ومن دعاء القنوت الذي كان يدعو به عمر وغيره اللهم إنا نستعينك ونستهديك، وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكان من دعائه ﷺ رب أعني ولا تعن علي، وفي دعائه أيضًا ﷺ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلاَّ بك" وكان من دعاء موسى عليه الصلاة والسلام لما ضرب البحر فانفلق: "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلاَّ بك".

وإذا كان هذا الدعاء وأمثاله هو دعاء العبادة المشتمل على الاستعانة من رب العالمين بالنص عند كل علماء المسلمين، فلو صرف لغير الله من سائر الخلق لكان معبودًا به، والداعي عابد المدعو ومستعين به ومتوكل عليه، ولا يقال ليس هو عابدًا ولا مستعينًا لأنه إنما يناديه فقط، فيصرف العبادة والاستعانة وجود النداء كما فهمه صاحب المقدمة معللًا لزوم العبادة كل منادي، وعدم تكفير كل من نادى غيره، لأنا نقول علة التكفير وجود دعاء العبادة الشاملة لدعاء المسئلة التي هي حق الله، وصرفه إلى غيره سواء وجد النداء أو لم يوجد، وليس العلة وجود النداء نفسه خاليًا من العبادة، وبهذا يعلم ما ذكره المفسرون تحت قوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي تعبدون { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي تعبدون وأمثاله، وذلك لأن العبد محتاج إلى الاستعانة بالله في كل الأفعال المأمورات، وفي ترك المحرمات، وفي الصبر على المقدورات، كما قال يعقوب عليه السلام لبنيه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } ولهذا قالت عائشة هذه الكلمة لما قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا، وقال تعالى لنبيه ﷺ: { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } ولما بشر النبي ﷺ عثمان بالجنة على بلوى تصيبه قال: الله المستعان، ولما دخلوا على عثمان فضربوه جعل يقول والدماء تسيل عليه لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعينك عليهم وأستعينك على جميع أموري وأسألك الصبر على ما ابتليتني، وروى أبو طلحة أن النبي ﷺ قال في بعض غزواته حين لقي العدو: "يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين" قال أبو طلحة فلقد رأيت الرجال تصرع. أخرجه أبو الفتح الأصبهاني فالعبد محتاج في مصالح دينه ودنياه، وكل ما لا يقدر عليه إلاَّ الله منهما لا يجوز أن يسأل من غيره فلا يعبد إلاَّ الله، ولا يتوكل إلاَّ عليه، ولا يستعان إلاَّ به، لأن ما سواه مفتقر إليه مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون معبودًا قال عز من قائل: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } ولهذا لما سأل ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله ﷺ مرافقته في الجنة وكان خادمًا له كأتيه بوضوئه وحاجته فقال سلني فقلت أسألك مرافقتك في الجنة فقال أو غير ذلك فقلت هو ذلك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود، رواه مسلم، لم يبادر ﷺ بقوله نعم افعل أجعلك معي إشارة إلى أن الأمر بيد الله وأن كثرة السجود بإخلاص هي الوسيلة في قضاء الحاجة ونيل المسؤول والسائل لم يسأل النبي ﷺ أن يدخله الجنة وإنما سأله أن يكون رفيقًا له في الجنة ومعناه صحبته وعدم فراقه فيه كحالته معه في الدنيا فأجابه ﷺ بقوله فأعني على نفسك بكثرة السجود تعليمًا له أن نفس دخول الجنة ثابت بوعد الله تعالى لمن مات لا يشرك به شيئًا فهو رحمة من الله وفضل ورفع الدرجات، ومرافقة الصالحين الأحباب بسبب كثرة الأعمال الصالحة وإخلاصها لله على أن سؤاله النبي ﷺ مرافقته الجنة معناه دعاء الله أن يكون كذلك، كما قاله المحققون من أهل العلم واتفقوا على أن النبي ﷺ لا يسأل بعد موته لا استغفارًا ولا دعاءً ولا غيرهما فان الدعاء عبادة مبناها على التوقيف والإتباع لا على الأهواء والابتداع ولو كان هذا من العبادات لسنه الرسول ﷺ ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع له، وقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك } الآية فإتيانه ﷺ للاستغفار مخصوص بوجوده في الدنيا، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين مع شدة احتياجهم وكثيرة مدلهماتهم، وهم أعلم بمعاني كتاب الله وسنة رسوله وأحرص إتباعًا لملته من غيرهم، بل كانوا ينهون عنه وعن الوقوف عند القبر للدعاء عنده، منهم الإمام مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي وهم من خير القرون التي قد نص عليها النبي ﷺ في قوله خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران لا أدري أذكر ثنتين أو ثلاثًا بعد قرنه، رواه البخاري في صحيحه مع أنه ﷺ حي في قبره حياة برزخية أقوى من حياة الشهداء ولكنه قد انتقل من هذه الدار إلى دار القرار بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس كما رواه البخاري عن أنس، ولم يأتوا إلى قبره ولا وقفوا عنده وما ذهب إليه طائفة من متأخري الفقهاء من استغفار الله في حضرة القبر مستندين إلى الآية وقصة الأعرابي فلا يعتد به لما تقدم عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وقولهم في معنى الآية ومثل هذه الحكاية لا يثبت بها حكم شرعي لاسيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعًا مندوبًا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأولى بالعمل من غيرهم بل لو لم يكن مكروهًا عندهم شديدًا لما نهوا عنه وعن فعله وليس الدين بالعقل إنما هو بالتوقيف والنقل كيف وقد آل بهم هذا الأمر إلى الفتنة العظمى التي هي الشرك بالله من دعائه ورجائه والتوكل عليه ﷺ.

(وأما حق المسلمين) بعضهم على بعض مما يقدرون عليه والعادة جارية فيه بينهم فمنه توادهم وتعاطفهم وتراحمهم والنصح لهم والتيسير على معسرهم ومعاونة أخرقهم، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي رواية لمسلم: "المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وفي رواية له أيضًا: "المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينيه اشتكى كله وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله" وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان في عون أخيه... الحديث" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" وخرج الطبراني من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "من نفس عن مؤمن كربة من كربه نفس الله عنه كربة يوم القيامة ومن ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربته" وخرج الإمام أحمد من حديث مسلمة عن مخلد عن النبي ﷺ قال: "من ستر مؤمنًا في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة ومن نجى مكروبًا فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" فقوله ﷺ: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل وقد تكثرت النصوص من هذا المعنى كقوله ﷺ: "إنما رحم الله من عباده الرحماء" وقوله: "ان الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" والكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أن يخفف عنه منها مأخوذ من تنفس الخناق كأنه يرخي له الخناق حتى يأخذ نفسًا، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن نزيل عنه الكربة فتنفرج عنه كربته ويزول همه وغمه، فجزاء التنفس التنفس وجزاء التفريج التفريج، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقد جمع بينهما في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "حق المسلم على المسلم خمس رد السلام وعيادة المريض، وإتباع الجنازة، وإجابة الدعوة وتشميت العاطس" متفق عليه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا ولا ننكر ثبوت حق المسلمين بعضهم على بعض ولا مناداة بعضهم بعضًا فيما يقدر عليه الخلق من سائر أمورهم الجارية بينهم وإنما قولنا وإرادتنا في عبادة الله وحده التي ليس لخلقه منها شيء البتة، وذلك يوجب الاعتماد على الله في القول والاعتقاد الشامل جميع الأحوال، ولهذا يذكر الله الأسباب وينهىعن الاعتماد عليها، ويأمر بأن لا يرجى إلاَّ الله وحده، كما قال تعالى لما أنزل الملائكة: { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وقال: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وقد قدمنا أن الدعاء نوعان دعاء عبادة، ودعاء مسئلة، وكلاهما لا يصلح إلاَّ لله. فمن جعل مع الله إلهًا آخر قعد مذمومًا مخذولًا، والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلاَّ الله ولا يسأل غيره، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" والمتشرف الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه، وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: (أصابتنا فاقة فجئت إلى رسول الله ﷺ لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول: "أيها الناس والله مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم وأنه من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر والاستغناء أن لا يرجو بقلبه أحدًا فيستشرف إليه" ولهذا كان الغنى غنى القلب كما قال النبي ﷺ: "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس" ولهذا قيل:

إذا رزقت من الدنيا قناعة ** فأنت ومالكها سواء

والاستعفاف أن لا يسأل بلسانه أحدًا، ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل فقال قطع الاستشراف إلى الخلق، أن لا يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشيء، فقيل له فما الحجة في ذلك فقال قول الخليل لما قال له جبريل هل لك من حاجة فقال أما إليك فلا، فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه ودفع ما يضره لا يوجه قلبه إلاَّ إلى الله ولهذا قال المكروب لا اله إلاَّ أنت، ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يقول عند الكرب: "لا إله إلاَّ الله العظيم الحليم، لا إله إلاَّ الله رب العرش العظيم، لا إله إلاَّ الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم" فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد، ومسألة العبد ربه وتعلق رجائه به وحده لا شريك له، وفي لفظ خير يتضمن الطلب والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم لا إله إلاَّ الله فقول العبد مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله، فيتيقن محقق التوحيد العامل بالطاعة أنه لا نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع إلاَّ من الله وحده، فإن سأل مخلوقًا شيئًا يقدر عليه الخلق من أمورهم الجارية بينهم فحصل له ما سأله أو منع منه كان نظره إلى الخالق في أنه سبحانه المعطي لهذا المسؤول ما أسداه وحببه إليه وقواه عليه، أو لم يقدر منه شيئًا بل كره دفعه إليه فمنعه عنه وإن يكن الدفع واجبًا فمنعه المسؤول قادرًا عليه عوقب شرعًا مع بقائه مكلفًا مختارًا لعموم خطاب الشرع له ومع جواز سؤال الخلق بعضهم بعضًا مما يقدرون عليه من أمورهم الدنيوية فسؤال الله دون خلقه مطلقًا هو المتعين عقلًا وشرعًا وذلك من وجوه متعددة.

(منها) أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل وذلك لا يصلح إلاَّ لله وحده، وهذا هو حقيقة العبادة التي تختص بإله الخلق كلهم، ولهذا كان الإمام أحمد يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ** بدلًا وان نال الغنى بسؤال

وإذا السؤال مع النوال وزنته ** رجح السؤال وخف كل نوال

فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلًا ** فابذله للمتكرم المفضال

ولهذا المعنى كان عقوبة من أكثر المسألة بغير حاجة أن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم كما ثبت ذلك في الصحيحين لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وما يأتيه في الدنيا فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهة، وقد بايع النبي ﷺ جماعة من الصحابة أن لا يسألوا الناس شيئًا منهم الصديق وأبو ذر وثوبان فكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحدًا أن يناوله رضي الله عنهم.

(ومنها) أن سؤاله الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج وفي سؤال المخلوق ظلم لأن المخلوق عاجز عن جلب الخير لنفسه ودفع الضر عنها، فكيف يقدر على ذلك لغيره، وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس هو بقادر، ويشهد لهذا المعنى الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي ﷺ: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص الخيط إذا أدخل البحر" وفي الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث: "وذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئًا فإنما أقول له كن فيكون" فكيف يسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر إن هذا إلاَّ عجب العجب.

(ومنها أن الله) يحب أن يسأل ويغضب على من لا يسأله فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه ويحب الملحين في الدعاء.

(ومنها) أن الله يستدعي من عباده سؤله وينادي كل ليلة هل من سائل فأعطه سؤله هل من داع فأستجيب له وقد قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } فأي وقت دعاه العبد وجده سميعًا قريبًا مجيبًا ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب.

الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

(وأما قولكم وقوله من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.

فنقول إن أراد بالاستغاثة، التي جعل مرتكبها كافرًا، الاستغاثة به على اعتقاد أن غيره تعالى قادر بقدرة مؤثرة على جلب نفع له أو دفع مضرة عنه فلا شبهة في كفر من يعتقد ذلك، وإن أراد بمطلق الاستغاثة، يكون المرتكب مشركًا فغير مسلم إذ لا شك في أن للعبد قدرة كاسبة وما يفعل من فعل فهو بتأثير الله وكسب من العبد وحال دعاء غيره تعالى قد علم مما تقدم آنفًا والآية المذكورة لله معرض الاستدلال لا تصلح له دليلًا) فنقول هذا مما يؤيد ما قلناه من أن صاحب المقدمة إنما يقول من عندياته وأنه لم يعلم معاني كلام الله وآياته، وسنة الرسول وأصحابه، وما قاله أهل اللغة في معنى الاستغاثة من أنها طلب الغوث من الغير، قال أهل اللغة المستغاث به هو المطلوب منه الغوث، والمستغيث هو الذي يطلب الإغاثة من غيره، وكذلك ما ذكره النحاة كلهم في باب الاستغاثة، وما نقلوه عن العرب من الفرق بين المستغاث به والمستغاث من أجله، كقولهم يالله للمسلمين بفتح لام المستغاث به وخفض لام المتسغاث من أجله، ومنه قول المهاجري يا للمهاجرين وقول الأنصاري يا للأنصار فاستغاث هذا بالمهاجرين وهذا بالأنصار فقال رسول الله ﷺ: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟" فالمستغاث به عندهم هو الذي يدعى ويسأل ويطلب منه الغوث، والمنادي هو داعي المنادى لكن فرقوا بين دعاء المستغاث به وغيره، كما فرقوا بين دعاء الندبة وغيره، كقوله يا حسرتا على ما فرطت، وقولهم يا أبتاه يا عمران ونحو ذلك مما يلحقون في آخره ألفًا لأجل مد الصوت إذ النادب الحزين يمد صوته وهو يندب ما قد فات فيمد الصوت في آخر دعائه كقوله يا أسداه يا ركناه يا أبتاه حتى قالوا يا أمير المؤمنيناه يا عبد الملكاه إذ نداء الندبة يقوله الإنسان عند حدوث أمر عظيم، ويقوله للتوجب، كقول سارة حين بشرت بإسحق يا ويلتي، بخلاف المستغيث فإنه يدعو المستغاث به كما يدعو غيره فيقول يا لزيد كقوله يا زيد لكن دل بهذه الصيغة أنه يطلب منه الإعانة على ما يهمه من أموره مطلقًا، بخلاف النداء المجرد فإنه لا يدل على ذلك فالمستغيث بالشيء داعيه مع زيادة طلب الإغاثة، ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، وهو موجود في جميع الكتب المتداولة التي يذكر فيها مثل هذا في كتب اللغة والنحو والتفسير ودواوين العرب وغير ذلك، أن المستغيث بالشيء هو الذي يطلب منه الغوث، وهم يقولون استغثته واستغثت به، كما يقولون استعنته واستعنت به، ودعوته ودعوت به، وبين المعنيين فرق لطيف، وهو أنهم إذا عدوه بنفسه لاحظوا أنه فاعل الغوث بنفسه، وإذا عدوه بالباء لاحظوا أنه معين على ذلك، فكأنه إذا قال استغثت فلانًا قال طلبت منه أن يغيثني وإذا قال استغثت به تضمن معنى استغثته واستغثت به على أن يغيثني، فالباء فيه متضمنة معنى كتبت بالقلم فالاستغاثة عامة في المعنى الاستغاثة وزيادة، هذا هو معناها في القرآن في قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم أي تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر عليه وكذلك السنة في قوله ﷺ: "والله لا يأخذ أحدكم شيئًا بغير حقه إلاَّ لقي الله يحمله يوم القيامة فيأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك شيئًا قد بلغت ويأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئًا قد بلغت" رواه البخاري فالمستغاث به مسؤول مطلوب. ومن المعلوم ضرورة أن ما جاء به الرسول ﷺ لم يشرع فيه للأمة أن تدعوا أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا غيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا غيرها كما أنه لم يشرع لها السجود لغيره تعالى، بل نهى عن ذلك كله وأخبر أنه من الشرك المنافي لما جاء به، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة جعل ذلك مما لا بأس به، ولهذا عمت دعوة الأموات والاستغاثة بهم عند نزول الكربات يسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، فكان ما يفعلونه بالأموات أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب الأرض والسموات، لأنهم أنما يقصدونهم في ضرورة نزلت بهم فيدعونهم دعاء المضطرين ولقضاء حاجاتهم منهم أو بهم راجين، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه، فإنما يفعلونه على وجه العادة، واشتراط صاحب المقدمة اعتقاد قدرة مؤثرة على جلب نفع له أو دفع مضرة عنه، دال على عدم معرفة أقسام الشرك الموجب للكفر الاعتقادي وخلود أهله في النار فإن ذلك المشروط إنما هو شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدومًا أصلًا بل لم يزل ولا يزال والموجد للحوادث أسباب أثرت فيها واقتضت إيجادها هي بنفسها أو شرك القدرية القائلين بأن الحيوان توجد منه قدرة على خلق أفعال نفسه وأنها تحدث بدون مشيئة الله تعالى، أو شرك الجهمية والقرامطة الذين لم يبقوا لله اسمًا ولا صفة ولا قدرة تامة، بل جعلوا المخلوق له قدرة مؤثرة وأما تعطيل معاملته تعالى عما أوجب على عبيده والشرك فيها فليس عنده من ذلك تمييز ولا معرفة، والحاجب عن ذلك شهود القيومية التي يشترك فيها وفي معرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأما شهود الألوهية التي دعت إليه الرسل حيث أمروا بعبادة الله وحده وطاعته فإن العبد إذا فتحت عين بصيرته له فرق بينه وبين قسيمه الأول ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وعلم حكم المأمور به فعلًا وتركًا وكفرًا أو معصية، والمنهي عنه كذلك ووالى أولياء الله وعادى أعداءه وصار على ملة إبراهيم ودين محمد ﷺ، ومن لم يقل بالفرق بين القسمين كان خارجًا عن حقيقة الإيمان كما أنه خارج عن شريعة الإسلام فليس معه حقيقة إيمانية ولا شريعة إسلامية وإنما معه حقيقة خلقية قد أقر بها عباد الأصنام الذين هم مشركون، وذلك أن شهود القيومية بلا جمع بينه وبين شهود الألوهية ممتنع طبعًا وشرعًا إذ لا يغني أحدهما عن الآخر، فمن لم يشهد الفرق الشرعي الإلهي كان مع الفرق الطبيعي النفساني أو فرق شيطاني، ومن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } إلى قوله { فَبِئْسَ الْقَرِينُ } وذكر الرحمن يراد به الذكر الذي أنزله الله، كما قال تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } إلى قوله { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } فمن أعرض عن هدى الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه فلم يفرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه كان معرضًا عن ذكره المنزل فيقيض له شيطانًا يصده عن سبيل الله، فيقول ويعمل بمجرد هواه، ومن أضل من اتبع هواه بغير هدى من الله، ولو كان مثل هذا ذكر الله ولم يشهد إلاَّ القيومية العامة لم يشهد ما جاء به الكتاب المنزل بل يكون من أعظم أتباع الشياطين الخارجين من الدين، كما تخرج الشعرة من العجين، ومع كون العبدله قدرة كسبية لا يخرج من مشيئة رب البرية، فلا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه فيه، ولا يطلب من الغائب أو الميت ما يطلب من الحي الحاضر، فليس في المخلوقات شيء ينفع ويضر استقلالًا، إذ ليس فيها ما يستقل بأحداث غيره ونفعه، ولا يفعل شيئًا إلاَّ بإذن الله، كما ليس فيها من يعطي ويمنع بهذا الاعتبار، و كما أن من أسمائه تعالى المعطي المانع الضار النافع، وكان النبي ﷺ يقول في دبر كل صلاة: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وكان يقول في رقيته: " اذهب الباس رب البأس رب الناس لا شفاء إلاَّ شفاؤك" وفي رواية: "لا شافي إلاَّ أنت شفاء لا يغادر سقمًا" وكذلك النفع والضر المعتاد كالصحة والمرض والغنى والفقر والأمن والخوف واليسر والعسر الحقيقيين لا يفعله رسول ولا غيره، وهذا ليس بخفي على عموم المؤمنين فضلًا عن علمائهم، وان وقع في كثير من ذلك ما وقع من العامة ونحوهم ممن ينتسب إلى الزهد والصلاح فهؤلاء وأمثالهم حقهم أن يرجعوا إلى العلم الموروث عن الرسول ﷺ وتكون عبادتهم وأعمالهم مقيدة بالشريعة النبوية والعلم الموروث لا بما يخطر لهم من الآراء والأهواء، قال سبحانه وتعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وفي الصحيحين من حديث عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" وقال عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، وقد اتفق المسلمون على أنه ليس لأحد أن يعبد الله بما أحبه ورآه بل لا يعبده إلاَّ بما كان عبادة عند الله وهى العبادة الشرعية، ودين الإسلام مبني على أصلين (أحدهما) أن لا نعبد إلاَّ الله (الثاني) أن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملًا قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه، قال ان العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ولهذا قال الإمام أحمد إن أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث، حديث الحلال بين والحرام بين الحديث، وحديث إنما الأعمال بالنيات الحديث، وحديث من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد، وذلك أن الدين فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، فالمنهي عنه ذكره في حديث الحلال بين والحرام بين، والمأمور به أمران: عمل باطن وهو إخلاص الدين لله، وعمل ظاهر وهو ما شرع لنا من واجب ومستحب، وأهل الضلال كالمشركين والنصارى يفارقون هذين الأصلين يعبدون غير الله ويبتدعون عبادة لم يأذن بها الله كما ذكر الله ذلك عنهم في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور وقد أمرنا الله أن نقول في صلاتنا: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } وصح عن النبي ﷺ أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون" وهم مبتدعون والمشركون يذهبون إلى ما ذهب إليه الضالون ابتداعًا يشرعون دينًا لم يأذن به الله فهم يدعون غير الله ويستغيثونه بما لا يقدر عليه الخلق فلا يكون عملهم لله خالصًا ولا للشريعة موافقًا وبذلك كانوا ضالين، فإن قيل يجوز أن يكون لفظ الاستغاثة بغير الله بمعنى التوسل فمعنى قول المستغيث أستغيث برسول الله وبفلان الولي أي أتوسل برسول الله أو بالولي، ويصح حينئذ أن يقال نجوز الاستغاثة في كل ما يطلب من الله بالأنبياء والصالحين، بمعنى أنه يجوز التوسل بهم في ذلك ويصح لفظًا ومعنى. الجواب أن هذا باطل من وجوه:

أحدها: أن لفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به فقول القائل استغثت فلانًا واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به، وقد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن الاستغاثة لا تجوز بغير الله فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله، وقول القائل استغثت به بمعنى توسلت بجاهه، هذا كلام لم ينطق به أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازًا ولم يقل أحد مثل هذا ولا معناه لا مسلم ولا كافر، والقائل أستغيث بفلان عندك أن تفعل بي كذا وكذا ناطق بما لم ينطق به أحد في اللغة بل ولا من سائر الأمم.

الثاني: أنه لا يقال إستغثت إليك يا فلان بفلان أن تفعل بي كذا، وإنما يقال استغثت بفلان أن يفعل بي كذا، فأهل اللغة يجعلون فاعل المطلوب هو المستغاث به نفسه، ولا يجعلون المستغاث به واحدًا والمطلوب آخر، فالاستغاثة طلب منه لا به، وقولهم يالله للمسلين أحدها مطلوب، والآخر مطلوب له لا مطلوب به.

الثالث: أن من سأل بشيء أو توسل به لا يكون مخاطبًا له ولا مستغيثًا به، لأن قول السائل المتوسل أتوسل إليك يا الهي بفلان إنما هو خطاب لله لا لذلك المتوسل به بخلاف المستغاث به فإنه مخاطب مسؤول منه الغوث فيما سأل من الله فحصلت المشاركة في سؤال ما لا يقدر عليه إلاَّ الله وكل دعاء شرعي لابد أن يكون الله هو المدعو فيه كالأدعية التي جاء بها الكتاب والسنة مما قص الله عن عباده الصالحين من أهل السموات والأرضين ومما شرعه لعباده المؤمنين ومما أخبر به عن خلقه واحتج به عليهم في أن لا يعبدوا غيرهم كما قال تعالى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وقال { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } وقال عن إبراهيم { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وقال { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، فالاستغاثة بالنبي ﷺ، أو بغيرهم من الأنبياء والصالحين وغيرهم في كل ما يستغاث الله فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله قول لم يقل به أحد من علماء المسلمين، ولا من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا أئمة الفتيا المعتد بهم ولا علماء الحديث والتفسير، بل قائل هذا القول مغتر على الله ملبس على المسلمين، ولا يخرج مدلول قائل ذلك في اللغة المعروفة عن أن يكون كفرًا، إذ معناه طلب الإغاثة والتخليص من جنس الكربة والشدة، سواء كان طلب ذلك من الخالق أو المخلوق، وإذا كان كذلك فهذا القول يقتضي أنه يطلب من المخلوق الحي أو الميت إزالة الأمراض والأسقام، وكشف الجدب والقحط بإنزال المطر وإسقام الأنام، وكشف كل شدة وتفريج كل غمة، والنصر على الأعداء في الدين وإزالة الكفار والمشركين، وذلك هو الكفر برب العالمين، والمضاهاة للنصارى والمشركين، مع اعتقاد هذا المستغيث السائل أن لمن استغاثه وسأله من المخلوقين قدرة كاسبة وأن سائر فعله كائن بتأثير الله وكسب من العبد، ولكنه سأله ما استغاث فيه ملاحظًا ومجرد المسؤول إما نفس المخلوق المستغاث، أو على معنى أن جاهه قادر على تحصيل ما طلب منه استقلالًا، ولا يخرج مدلول استغاثته عن أن يكون مسؤولًا مأمولًا هو بنفسه ما طلب منه مما لا يقدر عليه إلاَّ الله زيادة على اعتقاده قدرة الجاه على إيجاد المطلوب وتحصيله.

الرابع: أن لفظ التوسل والتوجه ومعناهما يراد به أن يتوسل إلى الله ويتوجه إليه بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم عند خالقهم في حال دعائهم إياه فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة رضوان الله عليهم كما في صحيح البخاري: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون) فهذا إخبار عن عمر رضي الله عنه عما كانوا يفعلون وتوسل منهم بدعاء العباس كما كانوا يفعلون بدعاء النبي ﷺ وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما استسقى بأهل الشام توسل بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي، وهذا هو الذي عناه الفقهاء في كتاب الاستسقاء في قولهم يستحب أن يستسقي بالصالحين وإذا كانوا من أقارب رسول الله ﷺ فهو أفضل، وكذلك الأعمى الذي أتى النبي ﷺ فقال ادع الله أن يعافيني قال: "ان شئت دعوت لك وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال ادع لي فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك سيدنا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في" وقد طلب من النبي ﷺ الدعاء ليشفعه الله بدعائه ﷺ، كما طلب الصحابة من النبي الاستسقاء فدعا الله له وأمره ﷺ أن يسأل الله قبول شفاعته فيه، وقوله يا محمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي هذه لتقضي خطاب لحاضر معاين في قلبه، كقولنا في صلاتنا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وكاستحضار الإنسان محبه أو مبغضه في قلبه فيخاطبه بما يهواه بلسانه، وهذا كثير في لسان الخاصة دون العامة ومعناه أتوجه إليك بدعاء نبيك أو شفاعته المشتملة على الدعاء لي ولهذا قال في تمام الحديث اللهم شفعه في وهذا متفق على جوازه وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه سواء كان بلفظ الاستغاثة أم بغيرها ومنه ما قص الله عن الإسرائيلي المستغيث بموسى على القبطي لط قوله تعالى: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى } أو كاستشفاع الأمة من أهل الموقف بالأنبياء والطواف عليهم يسألونهم أن يشفعوا إلى الله من أهل الموقف عامة، وأما المخلوق الغائب أو الميت فلا يستغاث ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلاَّ الله البتة.

الخامس: أن التوسل فيه اجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة والتابعين طلب الدعاء من النبي أو الصالح أو التوجه بدعائه كما تقدم عنهم، ودعاؤه ﷺ من أعظم الوسائل عند الله، وأما معناه في لغة هؤلاء المعاندين فهو أن يسأل الله عز وجل بذات ذلك المخلوق ويقسم عليه تعالى به، أو يسأل ذلك المخلوق نفسه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله يتقرب بذاته ويسأل منه شفاعته، والله تعالى واحد لا شريك له في عبادته ولا في معاملته، بل هو أحد صمد متعال عن الأنداد والأضداد، ولا يقسم عليه تعالى بشيء من مخلوقاته فلا يقال أقست عليك يا رب بنبيك أو بجاهه، ولا بملائكتك ولا بعبادك الصالحين ولا بكعبتك كما لا يجوز القسم بهذه الأشياء، ومجرد ذوات الأنبياء والصالحين ومحبة الله لهم وحصول الجاه لهم عنده ليس بها ما يوجب حصول مقصود السائل بلا سبب بينه وبينهم من محبتهم وطاعتهم وإتباعهم فيما جاءت الرسل به فيثاب على ذلك، ويكون محبًا لله طائعًا أمره راضيًا عنه فيستجيب له ويزيده من فضله ويقبل دعاءهم له وشفاعتهم فيه كما قال جل شأنه: { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وعلامة محبة الله إتباع الرسول في كل ما جاء به، قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فأما مجرد سؤاله بهم وبجاههم من غير اتباع لما جاء به الرسول فلا ينفعه وان عظم جاه المسؤول به عند الله، ولا ينال نصيبًا من شفاعته لوجود المنافي الذي هو عدم الاتباع فيما جاء به الرسول من التوحيد لإله كل العبيد، ومع عدم المنافي ووجود التوحيد فلا نقول إن سؤال الله بأحد من خلقه كفر، بل مكروه كراهة تحريم على الأصح، كما قال به جمهور العلماء لما فيه من الأقسام على الله بخلقه، وهو تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات ولكن كثير من الناس تعود ذلك كما تعود الحلف بهم، حتى يقول أحدهم وحقك على الله أو وحق هذه الشيبة على الله، والله إنما يقسم عليه بأسمائه وصفاته؛ كما قال جل شأنه: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وكالأحاديث الواردة في السنن عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله ﷺ سمع رجلًا يقول اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا اله إلاَّ أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يلد ولم يكن له كفوًا أحد فقال: "لقد سألت بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" أخرجه أبو داود وغيره وأخرجه أبو حاتم في صحيحه ولفظه عن بريدة أنه كان مع النبي ﷺ في المسجد فإذا رجل يصلي ويدعو اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا اله إلاَّ أنت الأحد الصمد... وذكر الحديث بتمامه وفي السنن عن أنس أنه كان مع النبي ﷺ جالسًا في حلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا اله إلاَّ أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي ﷺ: "أتدرون بما دعا" فقالوا الله ورسوله أعلم فقال: "والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى" ورواه أبو داود وغيره ورواه أبو حاتم في صحيحه واللفظ له عن أنس، ومن قال أسألك بإيماني بك وبرسولك ومحبتي له ونحو ذلك فقد أحسن، قال تعالى في دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } الآية وقال تعالى: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وقال تعالى عن الحواريين: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول اللهم إنك أمرتني فأطعتك ودعوتني فأجبتك فاغفر لي، ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر فآووا إلى الغار فانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله بأعمالهم ففرج عنهم، الحديث في الصحيحين عن ابن عمر، وأما توسل السائل في قوله اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ففيه قولان للعلماء: قال الشيخ أبو الحسن القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي المعروف والمشهور عنه وقد عقد فيه فصلًا في باب الكراهية ونقل فيه عن بشر بن الوليد أنه قال سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلاَّ به وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وهو قول أبي يوسف فإنه قال بمعاقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا أو أكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، قال القدوري المسألة بخلفه تعالى لا يجوز لأنه لاحق للمخلوق على الخالق فلا تجوز، وقال البلدجي في شرح المختار أيضًا، وأما حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فقد رواه عطية العوفي وفيه وهن ومع تقدير ثبوته إنما هو سؤال الله بأفعاله لأن حق السائلين أن يجيبهم وحق المطيعين أن يثيبهم، كقوله: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وقوله: { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } وقوله: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وقوله ﷺ في حديث معاذ بن جبل: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم" أو هو سؤاله بأعمالهم، لأن المشي إلى الطاعة وسؤاله امتثالًا لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وقد أجمع العلماء أنها القربة ولا قربة أعظم من عمل الطاعة والله أعلم.

من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

(وأما قولكم وقوله من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا فنقول لا شبهة في أن مرتكبه عاص بقصده آثم، لكن لا يكون بهذا مشركًا، وما ذكره في معرض الاستدلال على مدعاه من قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } ومن الحديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" الحديث لا دلالة فيه على ما ادعاه نعم فيه دلالة على تجح حاله، ولاشك أنه آثم عاص فيما ارتكبه من هذا القصد لا يقال هو كبير مرتبها كافر، لأنا نقول هذا مذهب الخوارج المارقين من ا لدين كما تقدم).

فنقول: أيضًا مما يوضح ما قلناه من أن صاحب المقدمة لم يعرف الشرك وأقسامه، ولم يتأمل ماذا يقول في كلامه إذ قد نفى الشرك عمن عمل عملًا يبتغي به ثواب الآخرة مريدًا به غير وجه الله، وعمن فرغ قلبه ولسانه للدنيا وما حوته من زينتها وأمتعتها مقبلًا بكليته عليها ومعرضًا عن الله ورحمته وما يوصل إليها، زاعمًا صاحب المقدمة أن ذلك لا يسمى إلاَّ معصية مجردة عن الشرك فلا هو سببها ولا مسماه في هذا الباب يرادفها، ثم انه لم يفهم معنى الآية والحديث، وما قاله أهل العلم في القديم والحديث من المفسرين وشراح الحديث، فلذلك تجلى له وهمه وخاطبه كفاحًا ظنه أنه ليس قصدنا من الترجمة وذكر الآية والحديث إلاَّ الشرك اكبر والكفر المخلد في النار الموجب لأنواع الشر، فصدق ما قاله علينا ظنه وأخطأ المعنى فهمه، وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية نزلت في كل من عمل عملًا يريد به غير الله قاله المفسرون منهم أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في كتابه معالم التنزيل، وروى فيه أن النبي ﷺ قال: "ان أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال: "الرياء" وحكاه البكري تلخيصًا من السنة في معنى الآية ان المرائي لا ثواب له في عمله وإنما يعجل له حظه في الدنيا من صحة وسعة لا ينقص منه شيئًا وهذا مع مشيئة الله وإرادته كقوله سبحانه: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } الآية وقوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } الآية ثم ان كان المرائي مسلمًا ففعله ذلك ذنب كبير يؤاخذ به إلا أن يرحمه الله، وإن كان كافرًا عجل له ما سبق ويقطع له بالخزي في الآخرة، وقال العوفي عن ابن عباس أن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا فمن عمل صالحًا من صوم أو صلاة أو تهجد في الليل لا يعلمه، لا لالتماس الدنيا يقول الله أو فيه الذي التمسه من الدنيا وأحبط عمله في الآخرة وهو من الخاسرين، وروى ذلك عن مجاهد وغيره قالوا ان هذه الآية نزلت في أهل الرياء، قال ابن عباس في رواية عطاء من كان يريد عاجل الدنيا فلا يؤمن بالبث والثواب والعقاب، وقال أنس والحسن نزلت في اليهود والنصارى، وقال قتادة من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله في الدنيا بحسناته ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها، هذا في الكافر، وأما المؤمن فإرادته الآخرة غالبة فيجزى في الدنيا بحسناته ويثاب عليها في الآخرة وذلك قوله نوف إليهم أعمالهم فيها، وفي حديث أنس المرفوع إلى النبي ﷺ أنه قال: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا قبض إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرًا" انتهى. فإذا عمل المؤمن عملًا يبتغي به غير الله فإما أن يعمله ملتمسًا به منه تعجيل أمر من أمور الدنيا كصحة وعافية وكالذي يعبد الله ليكثر ماله وولده أو يكرمه في الدنيا ويسلمه من آفاتها لا امتثالًا لأمره تعالى وإجلالًا لعظمته، وقيامًا بحق عبوديته لأن العمل لذلك من أعلى درجات الإخلاص، وأما أن يعمله ملتمسًا به اكتساب محمدة عند الناس أو محبة ومدح منهم، فيظهر في عمله التصنع لهم، فالأول داخل في عموم قول ابن عباس في رواية العوفي عنه أن معنى الآية فيمن عمل صالحًا لا يعمله إلاَّ لالتماس الدنيا يقول الله فيه أوفيه الذي التمسه من الدنيا وأحبط عمله في الآخرة وهو من الخاسرين فلا ثواب له في عمله ذلك.

(فإن قيل) باقي الآية وهو قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } دال بصريحه على أن المقصود منها الكفار المنكرون للبعث وأشباههم، أو اليهود والنصارى، كما هو قول ابن عباس في رواية عطاء ان من كان يريد عاجل الدنيا فلا يؤمن بالبعث والثواب والعقاب، وقول أنس والحسن إنها نزلت في اليهود والنصارى.

(الجواب) أن منكري البعث واليهود والنصارى وسائر أنواع الكفار لا يخرجون عن مضمون معنى الآية وغيرها من سائر القرآن، ان من رغب عن الله وما عنده من الجزاء لأوليائه المؤمنين، وعصى رسله واتبع هواه مريدًا للدنيا وزينتها ومؤثرها على إتباع أوامره تعالى واجتناب مناهيه راآي في عمله أو لم يراء أنه ليس له في الآخرة إلاَّ النار وحبط ما صنعوا فيها، أي ذهب ما عملوا في الدنيا من حسنة، لأنهم وقت البعثة والجزاء لم يروا لها ثوابًا وباطل ما كانوا يعملون، أي ماحق مضمحل، وعبر أولًا بالحبوط باعتبار وقت حصول المأمول، وثانيًا بالبطلان، باعتبار وقت العمل، وهي في المؤمن العامل لإرادة الحياة الدنيا وزينتها زجر وتهديد لحبوط ثواب ما عمله وخسرانه في الآخرة واستحقاقه دخول النار بذلك إلاَّ أن يرحمه الله ويغفر له، والإشارة ترجع إليه بهذا المعنى، ولهذا قال ابن عباس في الرواية الأخرى عنه وغيره أن هذه الآية فيمن عمل صالحًا من صلاة وصوم ونحوهما لالتماس شيء من الدنيا، وإلا فقد تواترت الأخبار الصحيحة والنقول الصريحة من كلام الله وسنة رسوله أن المؤمن العاصي لا يخلد في النار، وأكثر الصحابة وأهل العلم من المفسرين وغيرهم على أن هذه الآية نازلة في المرائي بعمله، والثاني أعني من يعمل ملتمسًا بعمله اكتساب محمدة عند الناس ونحوها فهو أكبر من الأول، لأن العبادات هنا باطلة من أصلها مع بطلان ثوابها فإن كانت فرضًا لا تصح منه ولا تجزئه مع مقارنة الرياء أول العبادة وفعلها لأجله، وهذا هو الذي ذكره مجاهد وغيره أن الآية نزلت فيه ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة حديث الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار وهم الذي تعلم العلم ليقال عالم، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، وبكى معاوية بكاء شديدًا ثم قرأ هذه الآية فالعمل لغير الله شرك سواء كان لإرادة الدنيا هي بنفسها وللسلامة من آفاتها لا لامتثال الأمر والقيام بحق العبودية، أو لالتماس محمدة أو محبة ومدح من أهلها، وقد عقدت الترجمة لذلك مقصودًا بها الشرك الأصغر، وصريح كلام صاحب المقدمة ناف الشرك عن هذا العمل زاعمًا أنا نكفر به لأنه كبيرة والخوارج يكفرون بها وقد نسبنا إليهم والى مذهبهم وما هذا الإجراءة وبهتان وقول زور وطغيان. لأنا نقول لاشك أنه شرك أصغر وهو كبيرة لورود الوعيد والعقوبة على فاعله بنص التنزيل والأحاديث الصحيحة المتواترة المشهورة والمصونة عن الأباطيل لكن فاعل الكبائر إذا مات موحدًا لا يخلد في النار ولا يكفر صاحبها بمجرد فعلها، قال سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ولحديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره وحديث أبي ذر وغيره المتفق عليه ولأن الشرك الأصغر دون الأكبر فيدخل تحت المشيئة، والآية واردة في الشرك الأكبر بخصوصه على أن طائفة من العلماء مشوا في الآية على ظاهرها للعموم فقالوا ان الشرك الأصغر لا يغفر إلاَّ بالتوبة منه وإلا فلابد من تطهير فاعله في النار ثم يخرج منها كبقية أهل الكبائر، لأن الآية نص في عدم غفران الشك من حيث هو، لكن الأكبر أهله مخلدون بنص الكتاب والسنة، والأصغر أهله مسلمون بنصهما غير محكوم على صاحبه بالكفر، وإطلاق الآية في عدم غفرانه فارق بينه وبين سائر المعاصي التي هي دونه قابلة للغفران، والجواب عن ذلك ما تقدم من أنه داخل في الدون فهو تحت المشيئة ويصدر من خواص الأمة ولا قائل بوجوب العذاب والحكم به عليهم إذ لا يسلم منه غالبًا إلاَّ من عصمه الله وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولأن الغفران اضمحلال الذنب ومحوه وهو عدم وجوده، وبقاؤه موجب للعذاب ما بقي وذلك مخالف للقاعدة في أن أهل الكبائر لا يخلدون لأن خروجهم منها بعد دخولها بالذنب لأمرين:

(الأول) منهما أن الذنب الذي استحق به دخول النار قابل للمغفرة وان لم يوجد الدخول.

(الثاني) وجود الإيمان الذي ماتوا عليه بخلاف الذنب الذي لا يغفر فإنه يقتضي العذاب الأليم أبدًا ولا يضمحل بعذاب مرتكبه لأنه غير قابل للمغفرة قبل العذاب، وكل ما لا يقبل المغفرة قبل العذاب لا يضمحل بوجوده، إلاَّ ترى إلى عذاب الكفار، قال سبحانه: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا } وليس هنا ذنب غير قابل المغفرة إلاَّ الشرك الأكبر فإنه لا يغفر بل يعذب أهله العذاب الأكبر فتعين أن يكون الشرك الأصغر ذنبًا كبيرًا كبقية الذنوب التي تقبل الغفران من علام الغيوب، ومن الدليل أيضًا على أن المريد بعمله غير الله يكون مشركًا قوله سبحانه وتعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ولما في المتفق عليه من حديث جندب بن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ: "من سمَّع سمَّع الله به ومن راآى راآى الله به" وفي المتفق عليه أيضًا من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات" ولمسلم من حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار، وله أيضًا من حديثه مرفوعًا قال الله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه" وله أيضًا من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي عليكم من المسيح الدجال قالوا بلى يا رسول الله قال الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيحسن صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه" وأخرج أبو يعلى عن ابن مسعود مرفوعًا: "من حسَّن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل" وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" وأخرج البزار بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعًا: "تعرض أعمال بنوا آدم بين يدي الله عز وجل في صحف مختمة فيقول الله ألقوا هذا واقبلوا هذا كقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلاَّ خيرًا فيقول إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلاَّ ما أريد به وجهي".

إذا علم ذلك فالمشركون في هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا كتفاضل المؤمنين في حقيقة الإيمان وتفاضلهم فيه بحسب مقاصدهم، ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، والقيام بحق العبودية إنما يتم بانقطاع القلب إلى الله وتعلقه به، فكلما التفت العبد إلى غيره وأعرض عنه كان فيه من العبودية لذلك الغير بحسب تعلقه به وانقطاعه إليه، ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ان أعطي رضى وإن لم يعط سخط" فسماه النبي ﷺ عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر فيه ما هر بصيغته وخبر بمعناه، والانتقاش إخراج الشوكة مما هي فيه، وهذه حال من عبد المال وأمتعة الدنيا فرغب فيها ومال إليها وأعرض عن الله لم يفلح وإذا أصابه شر لم يخرج منه لكونه تعس وانتكس هلك وخاب فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي وإذا منع سخط كما قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } لغير الله فرضاهم وسخطهم لغير الله، وهذا حال عبد ما يهواه من ذلك فهو رقيق له والرق عبودية كلما استرق القلب واستعبده من الأمور فالقلب عبده ورقيقه، ولهذا يقال في العبد حرٌ ما قنع والحر عبدٌ ما طمع ومنه قول القائل:

قصدت الشام أطلب مستقرًا ** فلم أجد لي بأرض مستقرًا

أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو إني قنعت لكنت حرا

ويقال الطمع غل في العنق وقيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر واليأس غنى وان أحدكم إذا أيس من شيء استغني عنه، وهذا مشاهد فان ما لا طمع فيه إذا أيس منه القلب لا يطلبه ولا يطمع فيه فلا يبقى فقيرًا إليه رقيقًا له إلاَّ عشق الصورة، وقد يضمحل مع اليأس أيضًا، وقال الخليل صلاة الله وسلامه عليه فابتغوا عند الله الرزق، وذلك أن العبد لابد له من رزق وهو محتاج إليه فإن طلبه من الله كان عبد الله فقيرًا إليه، وإن طلبه من مخلوق كان عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه، ولهذا كانت مسئلة المخلوق محرمة في الأصل وإنما تباح عند الضرورة، وتد ورد النهي عنها في أحاديث كثيرة مذكورة في الصحاح والمسانيد والسنن كقوله ﷺ: "لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم" وقال: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشًا أو خموشًا أو كدوحًا في وجهه" وقوله: "لا تحل المسألة إلاَّ لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع" وهذا المعنى في الصحيح وفيه أيضًا: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" وقد تقدم الكلام على هذا مبسوطًا في بحث الدعاء، فطمع العبد في ربه ورجاؤه منه يوجب عبوديته له وإعراض القلب عن الله وعن رجائه يوجب انصراف قلبه عن عبوديته لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رياسة له وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو حي قد مات أو يموت قال الله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن يرزقوه أو ينصروه أو يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وان كان في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل الذي قد تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرًا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لاسيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحتكم فيه حكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، لأن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص من ذلك، وأما استرقاق القلب واستعباده لغير الله فهو الذل والأسر والاسترقاق المحض، وما العبودية إلاَّ ما استعبد القلب واسترقه وأسره وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك مع قيامه بما يقدر عليه مما أمر به من الواجبات، ولهذا من استعبد بحق فأدى حق الله وحق مواليه فله أجران ولو أكره على الكفر تكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك، وهذا بخلاف ما استعبد قلبه لغير الله فصار رقيقًا له فهذا هو الضار في الدين المنقص عن درجة الموحدين وان كان ملك الناس ظاهر، فالحرية في هذا الباب حرية القلب والعبودية عبوديته، كما أن الغنى غنى القلب، وهذا إذا استعبدت صورة مباحة قلبه فكيف بالمحرمة كالمرأة الأجنبية أو الصبي الأمرد أو الدرهم أو الدينار المحرم فهذا هو العذاب الأليم دنيا ودينا، والعاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقًا بها واستعبدته رقيا لها اجتمع عليه من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلاَّ ربُّ العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى فدوام تعلق القلب بها بلا فعلها أشد ضررًا ممن يفعل ذنبًا، ثم يقلع عنه ويتوب منه ويزول من قلبه أثره، إذ تعلق القلب بالفواحش والظلم والشرك والكذب وابتغاء العلو في الأرض موجب لبقاء عبودية القلب لها ما بقي متعلقًا بها وهو رقيق أيضًا لمن يعينه عليها، وإن كان دونه رتبة والأمور الدنيوية نوعان:

منها ما يحتاج إليه العبد كاحتياجه إلى طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه كما قال تعالى: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } ويكون المال عنده بهذا النوع يستعمله في حاجته بمنزلة دابته التي يركب عليها وبساطه الذي يجلس عليه بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته فلا هو عبده بذلك ولا رقيقه.

ومنها: ما لا يحتاج إليه فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها لأنه إذا تعلق قلبه بها أقبل بكليته عليها وأعرض عن الله فصار عبدًا لها، وربما يكون معتمدًا على غير الله فيها فلا تبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله، فهذا من أحق الناس بقوله ﷺ: "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة" وهذا هو عبد هذه الأمور وإن طلبها من غير الله وهو يسخط أن منعها ويعتمد فيها على غيره لعدم إقباله على الله ورضاه ما رضيه له، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضى الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما يحب الله ورسوله ويبغض ما يغضبه الله ورسوله ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، هذا هو الذي يستكمل الإيمان كما في الحديث: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" لا من أحب لغير الله وسخط لغيره واعتمد على غير الله وتوكل على غيره وعمل لغيره، فإن قلبه رقيق عبد لذلك الغير مشرك به شاء أم أبى.

قول البوصيري يا أكرم الخلق وحديث بن مظعون وتزكية الناس ورد قول الخصم فيما يتعلق بقول البوصيري

(وأما قولكم وقوله ما شاء الله وشئت وتضليل قائله وتفريعه عليه تضليل من قال:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

فنقول حاشاه ثم حاشاه من الضلال، والعجب ثم العجب من جراءتك على السلف وتضليل الصالحين الذين قد شاع وذاع بل ملأ الأسماع علمهم وصلاحهم وزهدهم بل إن كان صاحب بردة المديح مشركًا فليس على وجه الأرض موحد، وقد علمت أن الواجب على كل مسلم حمل كلام هذا الرجل الصالح الورع الزاهد وأمثاله على محمل حسن، وحسن الظن بالمسلمين واجب أيضًا مع ظهور ان الحصر الذي في هذا البيت وأمثاله إضافي بالنسبة إلى المخلوق والمعنى ما لي من ألوذ به من المخلوقات لأجل الشفاعة سواك وليت شعري ما الذي حملك على تضليل هذا الرجل الذي قد توفاه الله تبل أن تحلق بأعوام عديدة أي عداوة حصلت بينك وبينه، أم على أي خصومة لأجلها تعاميت عن هذا الوجه الظاهر الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وحملت كلامه على محمل بعيد غير لائق بحال آحاد عوام الناس وهو الحمل على الحصر الحقيقي حتى حكمت تضليله بسبب هذه المقالة وما أشبهها من قول صاحب البردة. ولن يضيق رسول الله جاهك بي الأبيات كما نقلها عنه إذ لاشك أن مراده منها لن يضيق جاهك عن الشفاعة لي وهذا ظاهر جدًا فالويل كل الويل لمن يحكم بتضليل أساطين هذه الأمة بأمثال هذه التمويهات ويظهر الطعن في السلف الصالح لجلب قلوب العوام أو لحب رياسة أو عصبية أو لغرض من الأغراض الفاسدة).

فنقول: أما قول القائل ما شاء الله وشئت أو ما شاء الله وشاء فلان فقد ورد النهي عنه فيما رواه النسائي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال للنبي ﷺ ما شاء الله وشئت فقال النبي: "أجعلتني لله ندًا قل ما شاء الله وحده" وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح، وعن الطفيل أخي عائشة لأمها قال رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله قالوا وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ثم مررت بنفر من النصارى فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي ﷺ فأخبرته فقال هل أخبرت بها أحدًا قلت نعم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلًا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" رواه ابن ماجه بإسناد قوي وعن فتيلة بن معبد الجهني أن يهوديًا أتى النبي ﷺ فقال إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت. رواه النسائي وصححه وروى ابن أبي حاتم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله سبحانه وتعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، ومنه قول الرجل لصاحبه ما شاء وشئت ولولا الله وفلان، وقال أبو عبد الله الند هو الضد والله تعالى منزه عن الأضداد والأمثال المتخذين من دونه أو معه، ذكره أهل التفسير، واثبات الله سبحانه المشيئة للعباد في قوله تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } قال المفسرون في معناه لمن شاء منكم بدل من العالمين بإعادة الجار يقول سبحانه وتعالى ما القرآن إلاَّ موعظة للخلق أجمعين، ثم أبدل فهم لمن شاء منكم أن يستقيم على الحق، والإيمان بدل بعض من كل ومعناه أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق ثم رد سبحانه وتعالى المشيئة إلى نفسه فقال: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فأعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلاَّ بمشيئة الله وتوفيقه، وهذا إعلام منه تعالى بأن الإنسان لا يعمل خيرًا إلاَّ بتوفيق الله له ولا شرًا إلاَّ بخذلانه وقد ذكر عبد الله بن المبارك عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى قال لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قال أبو جهل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وان شئنا لم نستقم، فأنزل الله عز وجل: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر } أن الضمير في من شاء أي فمن شاء الله إيمانه آمن ومن شاء كفره كفر فالمشيئة حقيقة لله وحده ومشيئة العبد تحت مشيئة الله وقدرته وإرادته خيرها وشرها وحسنها وقبيحها ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته تعالى، فإن العبد وأعماله مخلوقة لله، قال تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وأعمال العبد كسب له فالله خالق لا مكسب، والعبد مكتسب لا خالق، هذا مذهب أهل السنة والله تعالى يحاسب العبد بميل هواه واختياره المعصية وميله إليها وله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل، ولو شاء لهدى الناس أجمعين، ونهى الشارع ﷺ عن التشريك في مشيئة الخالق والمخلوق بالواو دليل على الحضرية إذ قد صرح الأصوليون بأن حد النهي استدعاء كف بالقول على سبيل الوجوب وهو الحتم وأنه دال على فساد المنهي عنه في العبادات سواء نهى عنها لعيها كعبادة الحائض، أو لأمر لازم لها كالصلاة أوقات النهي، وصوم يوم العيد، أو لأمرٍ مطلق على أصح الوجهين، كالوضوء بماء مغصوب، والبيع وقت نداء الجمعة، وفي المعاملات أيضًا، سواء رجع النهي إلى نفس العقد كبيع الحصاة، أو إلى أمر داخل فيه كالنهي عن بيع الملاقيح وهو ما في بطون الأمهات، أو الأمر بالشيء نهى عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده فإذا قال اسكن كان ناهيًا له عن التحرك، أو لا تتحرك كان آمرًا له بالسكون، فتعين أن يكون النهي عن التشريك أمرًا بالتوحيد ولك منصرف إلى الوجوب إذ هو متحتم على كل أحد، كالنهي في قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } فكل هذا النهي وما في معناه متضمن الحتم على الخلق عن المنهي عنه سواء كان كفرًا أو معصية وقول القائل ما شاء الله وشئت معصية بعد النهي الوارد عن هذه الصيغة بالواو ولا يكفر مرتكبها إلاَّ أنه مشرك شركًا أصغر يجب الكف عنه والتوبة منه تغليبًا لجانب أصل الإيمان المستصحب على وجود المعصية الصادرة ممن حكم بإسلامه، وفاعل المعصية المتلبس بها ضال ما لم يتب منها وينحاد عنها فالعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين وقوامه كله لله تحقيقًا لقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } فقوله:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم

أولى بنهي النبي ﷺ ذلك الرجل عن قوله ما شاء الله وشئت من وجوه:

(منها) أن الرسول ﷺ مبعوث بتحقيق هذا التوحيد وتحريره ونفي الشرك بكل وجه حتى في الألفاظ كقوله لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد بل ما شاء الله وحده، كقوله للرجل القائل ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندًا بل ما شاء الله وحده".

(ومنها) أن الله سبحانه أثبت لعباده مشيئة كقوله: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } وقوله: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } وكإثباته الشفاعة لمن شاء من خلقه فيمن رضي عنه بعد إذنه فالعبد له مشيئة كسبية ولابد، ولكنها تحت مشيئة الله وإرادته لا توجد إلاَّ بها ولا تصدر إلاَّ عنها، إذ هو الخالق تعالى لأفعال العباد كلها وهو الباعث مقام المحمودية للنبي ﷺ مقامًا محمودًا الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، وهو المشفع فيمن رضي عنه من أمته، بخلاف الأمور والتصرفات الكونيات التي أسندها سبحانه إلى نفسه، كقوله: { بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا } وقوله: { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وما يكون إلاَّ له لا يسند لغير لا حقيقة ولا مجازًا لا في الشفاعة ولا في غيرها مما لا يقدر على وجوده إلاَّ الله وهو متوقف على إذنه تعالى ورضاه فلا يقال فيه لأحد من الخلق مالي من ألوذ به سواك، إذ الأمر كله لله، والشفاعة كلها له لعدم وجودها من النبي وغيره إلاَّ من بعد إذن الله له ﷺ ورضا الله عن المشفوع له كغيره من سائر الشفعاء، وإسناد الشفاعة للأنبياء أو غيرهم إنما هو باعتبار وتحقق الإذن لهم فيها لمن رضي الله عنه وارتضى عمله، والسائل لم يحقق في نفسه وجود الشرطين المعتبرين فلا يعلم أهو ممن يأذن الله فيه أم لا، وهل هو ممن ارتضى أم لا، فتعين عليه صرف همته وعزائم أمره في طلب ما هو السبب الموصل والمقتضي من الأعمال الباطنة والظاهرة للرضا عنه والإذن فيه، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أبو هريرة عنه: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا اله إلاَّ الله يبتغي بها وجه الله" وفي رواية خالصًا من قلبه، وقال ﷺ لربيعة ابن كعب الأسلمي خادمه وقد سأله مرافقته في الجنة: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" فكل ما كان الرجل أتم إخلاصًا لله عاملًا بطاعته كان أحق بالشفاعة، وكل ما كان مشغوفًا بالتعلق على أحد من المخلوقين يدعوه ويرجوه كان أبعد الناس عن الشفاعة.

(ومنها) أن سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة قد اتفقوا على أن النبي ﷺ لا يسأل في قبره بعد موته لا استغفارًا ولا شفاعة ولا غيرهما، وقالوا إن الشفيع يطلب من الله ويسأله ولا تنفع الشفاعة إلاَّ بإذنه، قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وقد ثبت في الصحيح أن سيد الشفعاء ﷺ إذا طلبت منه الشفاعة بعد أن تطلب من آدم وأولي العزم نوح وإبراهيم وموسى عيسى فيردونها إلى محمد ﷺ العبد الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: "فاذهب إلى ربي فإذا رأيته خررت ساجدًا فاحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع فأقول رب أمتي أمتي فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة"، فالشفاعة كلها لله، وهو تعالى غني عن العالمين وهو وحده يدبرهم كلهم فما من شفيع إلاَّ من بعد إذنه، لأنه الذي يأذن للشفيع في الشفاعة، وهو الذي يقبل شفاعته كما يلهم الداعي الدعاء، ثم يجبب دعاءه، فالأمر كله له، وإذا كان العبد يرجو شفعاء من المخلوقين ففد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له، وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة ولا يقبل شفاعته فيه، قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قال طائفة من السلف كان قوم يدعون العزير والمسيح والملائكة شفاعتهم، فأنزل الله هذه الآية وأخبر فيها أن هؤلاء المسؤولين يتقربون إلى الله ويبتغون مرضاته ويرجون رحمته ويخافون عذابه وأنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا فلا يملكون الشفاعة من دونه ولا يشفعون إلاَّ بإذنه لمن رضي عنه، وأفضل الخلق محمد، ثم إبراهيم، صلى الله عليهما وعلى سائر الأنبياء وسلم، وقد منعوا من الاستغفار لمن لم يرض عنه ولا ارتضى عمله، وما ذاك إلاَّ أنه تعلق على غير الله وأعرض بقلبه عنه فلم يخلص قلبه ولسانه له بل إما جدّ واجتهد في دعاء غير الله ورجائه فيما لا يقدر عليه إلاّ َالله، وأما شابه وفرغ قلبه ولسانه فيما هو الموقع في الشرك نفسه مما هو الأصل في علة عبادة الأصنام الذين قال الله عنهم: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } وقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ } إلى قوله { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وقال تعالى: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } الآية فحسبه سبحانه عن غيره في عدة مواضع من القرآن وعلق على وجود إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له حسمًا لمادة الإشراك وقطعًا لما توهم في علته من رجاء الشفاعة والتقريب، فكيف عن المعلول ويعمل فيما جاء به الرسول ﷺ فيكون الدين كله لله، وقد ثبت في الصحيح: (أن أبا هريرة قال: يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة قال: "يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلاَّ الله يبتغي بها وجه الله").

ومعلوم أن إخلاص هذه الكلمة الطيبة ابتغاء وجه الله هو تجريدها من شوائب الشرك، فلا يأله القلب أحدًا غير الله، فمن علق قلبه على غير الله وتوكل عليه كان فيه من الشرك بحسب ذلك التعلق قل أو كثر دق أو جل، فإن دعاه ورجاه والتجأ إليه فيما وجوده لا يكون إلاَّ من الله فلا يقدر عليه حتى المسئول لا يناله إلاَّ منه، فهذا الداعي الراجي من أبعد الناس من الشفاعة لتألهه مع الله، فإن أخلص قائل الكلمة الطيبة عمله لله وعلق قلبه ولسانه على الله كان من أحق الناس بالشفاعة وإذا أملها ورجاها من الله وسأله أن يشفع فيه نبيه ووليه حقق الله أمله واستجاب سؤاله فقبله وشفع فيه حيث مات قائلًا لا إله إلاَّ الله خالصًا من قلبه مبتغيًا بذلك وجه الله، فإنه سبحانه يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.

والفاسق لا يخرج بفسقه عن حكم الإسلام الموجب للتوارث والمناكحة والولاية الإسلامية فلا يخرج به عن حد الشفاعة لأن هذا مذهب الخوارج المنكرين للشفاعة مستدلين بقوله تعالى: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } وأما سلف الأمة وأثبتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي ﷺ من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعته وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة وقالوا إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، قالوا وثبوت الشفاعة بالوصف لا بالشخص إذا لم يقع عليه التعيين من النبي ﷺ كما وصف عليه الصلاة والسلام الذين هم أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة وهم القائلون لا إله إلاَّ الله يبتغون بها وجه الله إلى أن لقوا الله، و كما وصف أهل الكبائر من أمته ولم يعين شخصًا من النوعين في هذين الحديثين، وإذا كان كذلك تعين على الشخص دعاء الله أن يجعله من أهل الوصف الذين هم أسعد الناس بشفاعة النبي ﷺ، فإن كان من أهل الكبائر فقد سأل الله أن يتوب عليه ويجعله من المخلصين وإذا كان من المخلصين فقد رغب إلى الله وسأله أن يزيده مما هو فيه من العمل الصالح والقول الراجح ويثبته عليه حتى يلقاه فينال السعادة الأبدية.

(ومنها) أن هذه المقالة مشاكلة قول المشركين وعقيدتهم حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يشفعون لهم عنده ويقربونهم لديه كقوله: { تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى } وكما دعو العزير والمسيح والملائكة يقربونهم إلى الله ويحببونهم إليه ويشفعون لهم لديه فرد عليهم وعابهم لذلك ولامهم عليه، وأخبر أن الولاية كلها له فليس لخلقه من دونه ولي ولا نصير ولا شفيع إلاَّ من بعد إذنه، وأنه لا يأذن لهم بها إلاَّ لمن رضى عنه كقوله جل شأنه: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } وقوله عن الملائكة: { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وقوله عن الرسل: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } إلى قوله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ }.

(ومنها) أن الله سبحانه وتعالى نفى الملك في ذلك اليوم عن غيره فلا يملك أحد عن أحد شيئًا ولا يغني عنه شيئًا { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا } بل أخبر أن الأمر كله له فقال { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وقال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وفي القراءة الأخرى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وقال سبحانه وتعالى: { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }. والآيات في هذا الباب كثيرة جدًا، وفي حديث أبي ذر الذي رواه مسلم:: قال الله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلاَّ نفسه".

(ومنها) أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه ﷺ أن ينذر عشيرته الأقربين، وأنه لا يخلص أحدًا منهم إلاَّ إيمانه بربه عز وجل، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين، ومن عصاه من الخلق كائنًا من كان فليتبرأ منه فقال عز وجل: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها كما قال: { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } وقال: { وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } وقال: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وفي صحيح مسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلاَّ دخل النار" وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز وجل وأنذر عشيرتك الأقربين أتى النبي ﷺ لصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء ورجل يبعث رسوله فقال رسول الله ﷺ: "يا بني عبد المطلب يا بني فهر أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني" قالوا نعم قال: "فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب تبًا لك سائر اليوم ما دعوتنا إلاَّ لهذا. وفي رواية عنه ألهذا دعوتنا جميعًا. وفي رواية أخرى ألهذا جمعتنا، فأنزل الله تبت يدا أبي لهب. وروى البخاري عن عائشة قالت لما أنزل الله وأنذر عشيرتك الأقربين، قام رسول الله ﷺ فقال: "يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا عباس بن عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم" وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال لما أنزل الله هذه الآية وأنذر عشيرتك الأقربين دعا رسول الله ﷺ فعم وخص، فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار، فإني والله ما أملك لكم من الله شيئًا" وخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت رسول الله، اشتريا أنفسكما من الله لا أغني عنكما من الله شيئًا سلاني من مالي ما شئتما" وتفرد به البخاري عن معاوية عن زائدة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بنحوه وقوله ﷺ يا صفية عمة رسول الله يا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله لا أغني عنكما من الله شيئًا. أمر منه عليه الصلاة والسلام لهما حقيقة في فعل الطاعة، وعمل الإيمان نهى لهما عن الاتكال عليه مع وجودهما لأنهما وقت قوله مؤمنتين به عاملتين بما أمرهما وتذكارًا لغيرهما أيضًا، فلا يغني عن الله أحد، كما لا يجير عليه أحد. وقوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } ذكر جماعة من المفسرين أن هذه الآية في الشفاعة، وهو قول علي والحسن وعطاء عن ابن عباس، قال هو الشفاعة في أمته وقال محمد بن علي يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } وإنا أهل البيت نقول أن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } وهي والله الشفاعة ليعطينها في أهل لا اله إلاَّ الله حتى يقول يا رب رضيت وزدني على أمتي في أمتي فكل هذا نؤمن به ونسلمه ولكن لا يخرج عما قاله أهل السنة والجماعة من أن ثبوت الشفاعة في أهل لا اله إلاَّ الله وهم الموصوفون بهذه الكلمة الطيبة فيرضيه ربه فيهم لأجلها لا بالشخص فلا تعين لأحد بعينه إذا لم يرد فيه نص فتعين على كل أحد صرف همته ورجاؤه في تلك الكلمة الطيبة التي هي السبب في وجود الشفاعة مع الإيمان بكل ما جاء به الرسول ﷺ لا في مجرد ذات النبي ﷺ أو شفاعته أهمل ما جاء به أو عمله لقوله تعالى: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } وقوله ﷺ لصفية وفاطمة لا أغني عنكما من الله شيئًا مع إيمانهما وعملهما رضي الله عنهما يشير إلى عدم الاتكال عليه وعلى شفاعته كما قدمناه آنفًا. فهو أمر لهما بإخلاص العمل لله والدوام والاستمرار عليه وليكون توجههما واتكالهما على الله وغيرهما بالأولى.

(ومنها) أن هذه المقالة قد اتخذها أولو التزيي من العباد والزهاد، وأولي العلم المتزيين به أورادًا يتلونها في الصباح والمساء، بل جعلوها تضاهي كلام الله وذكره في البركة يتلونها وينشدونها عقبهما تبركًا بها، وبعد ختم كلام الله والصلاة على نبيه كذلك، ويزعمون أن الختمة المقروءة من القرآن إذا لم تتل هذه المقالة عقبهما ولا توجد في ضمنها فتلك الختمة ناقصة الثواب. وليس لها رونق يزداد ويتزايد ولا أنس فيها يخضر ويشاهد، والويل كل الويل عندهم لمن عاب عليهم ذلك أو أنكر صنيعهم فيما هنالك، فهم قد اتخذوها دينًا وقربة حتى في المسجد الحرام تجاه الكعبة طهره الله وصانه، وجعل المتقين أولياءه وسكانه، بل في كل آن ومكان، والله يقول: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وفي حديث عائشة الذي في الصحيح من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.

(وقوله) صاحب المقدمة العجب ثم العجب من جراءتك على السلف دعوى بغير علم وتعجب بلا فهم وتزكية على الله وحكم لمن قولهم غير مناسب في الشريعة والله بهم أعلم، وثناء على ما اعتقدوه وتقرير لما قالوه في القصيدة من الأوراد ونشدوه لحصول البركة ورفع كل شدة ودليل ما قلناه فيه أمور:

(منها) مخالفة الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا } وقوله تعالى: { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا } وأما السنة فأخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: "إن كان أحدًا مادحًا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانًا إن كان يرى أنه كذا وكذا ولا أزكي على الله أحدًا" فقد أمرنا رسول الله ﷺ أن لا نزكي على الله أحدًا، وأمرنا أن نقول في التزكية أحسبه كذا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدًا، ومما (قالت أم العلاء رضي الله عنها لعثمان بن مظعون أخي رسول الله ﷺ من الرضاعة وقد انتقل إلى رحمة الله شهادتي عليك لقد أكرمك الله قال لها رسول الله ﷺ: "وما يدريك أن الله أكرمه؟ قالت بأبي أنت وأمي والله لا أدرى، فقال رسول الله ﷺ أما عثمان فقد أتاه اليقين وإني لأرجو له الخير، ووالله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بي") أخرجه البخاري، وهو قد طعن علينا في عقيدتنا وعاب أمرنا ونهينا وزكاه على الله قاطعًا علينا في صريح كلامه بما تخيله في باله وقام في ذهنه مما يهواه مرامه فلذلك زكى على الله هذا الرجل الذي الله أعلم به وبأمره منا ومنه وعلمه وزهده فإن وجدا ظاهرًا فإسناد على حقيقتهما وباطنهما إلى الله أنسب وأصوب إذ ما من أحد يظهر لنا منه حسن عمله إلاَّ الله والله أعلم به، وقد انعقد إجماع أهل السنة على عدم الجزم لأحد بعينه بجنة أو نار إلاَّ من نص عليه النبي ﷺ، ولكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، حتى الكلم في سبيل الله المفضي إلى الشهادة التي أثنى الله عليها في كتابه أسند النبي ﷺ علمه إلى الله كما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلاَّ جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك" اعلامًا منه ﷺ بأن علم حقائق أعمال العباد وصلاحهم بصلاح نياتهم وأعمالهم، وعلم ذلك عند الله سبحانه وتعالى ومع المعاملة بالظاهر فلا جزم ويتوقى كل كلام معلول مخالف.

(ومنها) تعليقه توحيد أهل الملة الحنيفية الذي قال الله فيهم: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وقال عنهم نبيهم ﷺ: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " على وجود توحيد هذا الرجل الواحد الذي الله أعلم به وبحقيقة أمره وإثباته شركهم بشركه.

(ومنها) نفيه التوحيد عن جميع من على وجه الأرض وتكفيرهم وإثبات شركهم بوجود شرك رجل واحد ليس عند الأمة نص فيه، في قوله بل إن كان صاحب بردة المديح مشركًا فليس على وجه الأرض موحد فبكلامه عرف قدره وعلم أنه قد تعدى طوره.

(ومنها) تعليقه مستحيلًا وجوده وهو نفي التوحيد عن جميع الأمة وإثبات شركهم على ممكن وهو وجود شرك رجل واحد ليس عند الأمة من حقيقة أمره نص إذ الرجل الواحد الذي ليس فيه نص قد وقد، وأما الأمة فلانًا بالنص القطعي.

(ومنها) إثباته الإيهام في تلك المقالة وأنها تحتاج إلى محمل حسن يليق بها وبقائلها، والمقرر عند الأمة المحفوظ عنها أن الكلام الموهم إذا لم بكن من كلام الله ورسوله المشابه لا تجوز قرابته ولا النظر إليه بحلاف كلام الله ورسوله فيجب الإيمان به وتلقيه وإن لم يفهم معناه، وهؤلاء يتخذون هذا الكلام الموهم أصلًا في عقيدتهم ويتلونه أورادًا في الصباح والمساء وبعد ختم القرآن في كل آن ومكان.

(ومنها) مبادرة فهمه الذي قام في ذهنه إلى أنا إنما فهمنا من المقالة في نفيه فيها ذات الخالق نفسه تعالى وتقدس ولذلك قال إن الحصر الذي في هذا البيت وأمثاله إضافة بالنسبة إلى المخلوق، والمعنى ما لي من ألوذ به من المخلوقات لأجل الشفاعة سواك، ولم يعلم ويحقق أن هذا المفهوم معطل لا يقول به أحد، بل ذات الله تعالى وتقدس ووجوده. ثابت عند الخاص والعام حتى عباد الأصنام مقرون بخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومدبر أمورهم كما قرر هم في سورة يونس والمؤمنين والزخرف وأمثالها من السور التي أخبر الله فيها أنهم يعرفون خالقهم ورازقهم فأقروا واعترفوا أنه الله مدبر كل شيء ومليكه ولكن أشركوا معه في عبادته وعطلوا معاملته الشاملة لإخلاص ألوهيته وتكذيب رسله فيما جاؤوا به من عنده ومنهم من يكذبهم ظاهرًا وباطنًا، ومنهم من يكذبهم ظاهرًا وهو تعلم صدقهم باطنًا كما قال جل شأنه: { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } وكما اختلفت أقوالهم في الرسل كذلك اختلفت أقوالهم وآراؤهم في الكتاب بين مكذب وقائل إنه شعر إنه سحر، وكل ذلك لا يدل على أنهم مكذبون بذات الله بل أقروا به تعالى وعرفوه ولكنهم لم يوحدوه، والقصد بالقرآن والرسل توحيد الله بعبادته، وإفراده تعالى بمعاملته المختصة بجلاله من الأعمال الظاهرة والباطنة، ونبذ ما خالفهما من الأقوال والأفعال والاعتقادات، فبذلك يحصل الإيمان بهما واتباعهما ولا أعظم مخالفة من اعتقاد ما هما بخلافه، ولم ينزل القرآن ويرسل الرسل إلاَّ بنفيه وليكون الدين كله لله والأمر كله له، والجاعل الدين أو بعضه لغير الله قولًا أو فعلًا أو اعتقادًا لم يؤمن بالقرآن معنى وان آمن به لفظًا ولم يؤمن بالرسول حقًا، وإن آمن به ظاهرًا، وليس اختلافنا مع أعدائنا إلاَّ بذلك لأنا نقول الدين كله لله والأمر كله له، فليس للخالق من دونه ولي ولا نصير، قال سبحانه وتعالى: { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } وقال: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } الآية وقال: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } الآية وهم يقولون بل لهم ولي ونصير ويستدلون بقوله تعالى: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وبقوله: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ } وتقدم معنى ذلك في بحثه فنحن حول هذه المسألة من أول أمرنا إلى آخر عصرنا ندندن فلا نشير إلاَّ إليها، ولا نجاهد إلاَّ عليها، مع أنهم بدؤنا أولًا ليرجعونا إلى ما كنا عليه من عبادة الطين والأحياء من الشياطين { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وقد قدمنا الكلام على قوله: (يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به. سواك) وان هذه المقالة مردودة من أوجه تقدم ذكرها آنفًا.

(ومنها) قوله ليت شعري ما الذي حملك على تضليل هذا الرجل الذي توفاه الله قبل أن تخلق بأعوام عديده، أي عداوة حصلت بينك وبينه، أم على أي خصومة لأجلها تعاميت عن هذا الوجه الظاهر الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحملت كلامه على محمل بعيد غير لائق بحال آحاد عوام الناس وهو الحمل على الحصر الحقيقي، يعني به نفي ذات الله، حتى حكمت بتضليله بسبب هذه المقالة إلى قوله فالويل كل الويل لمن يحكم بتضليل أساطين هذه الأمة بأمثال هذه التمويهات ويظهر الطعن في السلف الصالح لجلب قلوب العوام أو لحب رياسة أو عصبية أو لغرض من الأغراض الفاسدة.

فهو قد قال فينا وافترى علينا تضليل هذا الرجل الذي قولنا فيه والله أعلم به منا ومن غيرنا إلاَّ أن كلامه ذلك غير مناسب من مثله، بل الواجب عليه وعلى جميع الخلق الانقطاع إلى الله وتفويض الأمر إليه، والتوكل عليه، والاستقامة على ما هو السبب في حصول شفاعته ﷺ من الأعمال المرضية لرب العالمين، والمقربة إليه في كل حين، الشاملة خصال الإيمان، وأركان الإسلام، فيكون كالذين حكى الله عنهم في القرآن أنهم توسلوا إليه فيما يرضيه مما أمرهم به، ونهاهم عن ضده في كتابه، وعلى ألسنة رسله، ولكن أبى الله أن يصلح بالحفظ إلاَّ كتابه، أو يمنع بالعصمة إلاَّ رسوله، والذي يعترى العقول إما فتحًا وإما شطحًا، والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمدًا عبده ورسوله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وإخلاص معاملته لله وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، ويدور على ذلك ويتبعه أين وجده، ويعادي فيه ويوالي فيه، ونحن لم نعاد هذا الرجل ولم نحكم عليه بالضلال بل قولنا فيه الله أعلم وأولى به، ولكن مقالته لا تقال بل يكف عنا لورود النهي عنها وعن أمثالها، ولأن الأمر كله لله والخلق لا يغنون عن الحق شيئًا بل من رحمه الله فهو المرحوم، ومن أبعده فهو المبعد، فلا أحد كائنًا من كان يدخل الجنة إلاَّ بفضل الله ورحمته حتى الأنبياء، فغيرهم بالأولى، وكل من حكم بإسلامه شرعًا فهو المسلم والله أعلم بعاقبة أمره، فلا نشهد لمعين بالنار وأن ارتكب المعاصي في الدنيا، لا مكان أنه تاب أو كانت حسناته محت سيئاته، أو كفر الله عنه بمصائب، أو غير ذلك مما هو فضل الله وعفوه، وان ارتكب كفرًا عاملناه بما ظهر لنا منه، وأمره إلى الله، ولا لمعين بجنة وان اكتسب أعمالًا صالحة في الدنيا، إذ لا يعلم ما في نفس الأمر إلاَّ الله، فلا يقطع لمعين بشيء من دونه بلا نص من الشارع ﷺ، وللعلماء في الشهادة بالجنة ثلاثة أقول:

منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلاَّ للأنبياء وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي.

والثاني أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص وهذا قول أكثر أهل الحديث.

والثالث نشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون كما في البخاري من حديث أنس بن مالك قال مر بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال النبي ﷺ: "وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرًا فقال: "وجبت" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت يا رسول الله قال هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيثم عليه شرًا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض"، وقال ﷺ: "توشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار" قالوا بم يا رسول الله قال: "بالثناء الحسن والثناء السيء" فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار، وكان أبو ثور يقول أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة، ويحتج بهذا، والمؤمن بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا الذي قصد إتباع الحق وما جاء به الرسول إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب، وأما ذاك فليس متعمدًا للذنب بل هو مخطىء والله قد تجاوز لهذه الأمة الخطأ والنسيان، والعقوبة الحاصلة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين، وإن كان في الآخرة خيرًا ممن لم يعاقب كما يعاقب المسلم المتعدي للحدود ولا يعاقب أهل الذمة من النصارى واليهود، والمسلم خير منهم في الآخرة، والمسلم المذنب الذي ذنبه خاص أخف شرًا عند الله ممن ذنبه اكتسبه الناس منه، وأفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، ثم بعدهم التابعون، فلا ينتصر لشخص انتصارًا عامًا مطلقًا إلاَّ رسول الله ﷺ، ولا لطائفة انتصارًا مطلقًا عامًا إلاَّ للصحابة فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه حيث داروا، وكذا التابعون لهم بإحسان فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بحلاف عالم من العلماء أو قائل قولًا فقد يصيب وقد يخطىء، بل جل أصحاب مجتهد من المجتهدين قد يكون الصواب معهم وقد يكون مع غيرهم ممن قد خالفهم، وكل قول لم يرد به الكتاب والسنة ولا قاله صدر سلف هذه الأمة استنباطًا منهما أو من أحدهما بل قالوا خلافه فهو خطأ لا يعمل به ولا يقر عليه قائله، فكيف وصاحب المقدمة قد افترى وأصمته حمية الجاهلية فيما منه جرى بقوله أم على أي خصومة لأجلها تعاميت عن هذا الوجه الظاهر الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو قد أثبت بيننا خصومة رجمًا بالغيب مع أنها لا تكون إلاَّ بين موجودين في الدنيا لا بين معدومين أو أحدهما إلاَّ من ورد فيه النص بعينه بعداوته لله ورسوله كأبو جهل وأبي لهب وأمثالهما ممن عينته السنة فعداوته متحتمة على العالم به وإن لم يعاصره، أو من تواترت عنه الأخبار بين المسلمين بأنه محاد لله ورسوله متعد حدوده فإنه يكره هو وعمله لظاهر إساءته، والله متولي أمره، والحامل له على هذا الافتراء إثباته تلك المقالة واستحسانه إياها التي قد خالفت الكتاب والسنة وإجماع صالح سلف الأمة، وجعل تأويله لها مماثلًا كلام الله الذي قال تعالى فيه: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } فجعل ذلك التأويل لتلك المقالة وما شاكلها مما بعدها مماثلًا للتنزيل مشابهًا له في صحته وإعجازه والإيمان به وتلقيه وعدم رده والاعتراض عليه، وأهل التصحيح يردون على أهل الصحيح ويناظرونهم وكل يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ كلام الله ورسوله، وما لم يوافقهما فهو باطل مردود لا يعمل به وشفاعة الرسول ﷺ ثابتة في الكتاب والسنة وإجماع صالح سلف الأمة، ولكن بالوصف لا بالشخص ومن مات لا يشرك بالله شيئًا فهو من ذوي الوصف، وكذا شفاعة غيره ﷺ، فعلى الإنسان الاجتهاد فيما هو الموجب لها لينالها بفضل الله ورحمته ورضاه عنه وإذنه للشافع، وعليه أيضًا إخلاص عمله لله وقصده طاعة الله فيما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، وهو يحب صلاح المأمور به وإقامة الحجة عليه قاصدًا أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فلا يغضب على من خالفه مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ولا يرضى عمن كان جاهلًا سيىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد، بل بحمدً من حمده الله ورسوله، ويذم من ذمه الله ورسوله، وتصير موالاته ومعاداته على دين الله ورسوله، لا على هوى النفس، وأصل الدين الذي لا فتنة فيه أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة لله والمعاداة لله، والعبادة لله والاستعانة بالله، والاتكال على الله، والخوف من الله والرجاء لله، والإعطاء لله والمنع لله، وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، وصاحب الهوى يعميه هواه ويصمه، فلا يستحضر في قوله وعقيدته ما لله ورسوله في ذلك، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه هواه، ويغضب لما يغضب له هواه، فلم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قوله وعقيدته وحميته مجرد هوى، وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا جانبوا قوله تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } فكانوا ممن قال الله فيهم: { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وميل نفس وهوى، وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا بمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت والله أعلم.

بحث قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهما

وأما قولكم وقوله تعالى { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } وما ذكر فيه من الرواية عن عبد الله بن عباس أنهما آدم وحواء وأن الشيطان أتاهما ولم يزل بهما حتى سمَّيا ولدهما عبد الحرث.. الخ ما قال. فنقول هذه الرواية وما أشبهها لا أصل لها رأسًا بل لا يلتفت إليها في حق الأنبياء المعصومين عن أمثال هذه الأمور بل الواجب على كل مؤمن أن يحكم بكذبها ويحمل قوله: { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } على أن الخطاب في خلقكم لقريش وحدهم لا لبني آدم كلهم والنفس الواحدة قضى وجعل منها زوجها أي جعلها عربية قرشية من جنسه لأنه خلقها منه وإشراكهما بتسميتهما إبنيهما عبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي والضمير في يشركون لهما ولا عقابهما، وعلى هذا فليس الضمير في جعلا لآدم وحواء وهذا الذي عليه أكثر المفسرين وإن صح أنه لآدم وزوجته فأين الدليل على الشرك في ألوهيته، ولعله أي الشرك المذكور في الآية هو الميل إلى طاعة الشيطان، وقبول وسوسته مع الرجوع إلى الله تعالى بلا مطاوعة للشيطان وذلك الميل المتفرع على الوسوسة غير داخل تحت الاختيار فلا يكون معصية وذنبًا، ولعله كان قبل، وان أبيت عن هذا كله فهو على تقدير المضاف أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما وكيف لمن في قلبه ذرة من إيمان أن يصدق بهذه الحكاية مع أن الآية التي تتلوها تنادي على كذبهما وهي قوله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وهم الأصنام كما عليه المفسرون، مع أن الأصنام لم تعبد من دون الله إلاَّ قريبًا من زمن نوح).

الجواب عما هذى به الخصم في هدا المقام

فنقول هذا مما يؤيد ما قلناه في صاحب المقدمة من أنه يرد من تلقاء نفسه بلا تحقيق ولا تحقق فيما قاله الأئمة الأعلام من أولي العلم والفهم وما نقلته الرواة وتلقته بالقبول الجهابذة الثقات، فإنه قد فهم من معنى الشرك المذكور في هذه الآية شرك الألوهية في آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام فلذلك أوجب نفي رجوع الضمير الذي في الآية عنهما جعل من لازم جواز ثبوته إليهما شركهما في الألوهية، ونسبنا إلى تكفير الأنبياء والصالحين وما ذاك إلاَّ لعدم فهمه ومعرفته معنى الشركة التي في الآية مع ما نقله السلف من صحة رجوع الضمير إليهما، بل في معرفة معنى الشرك من حيث هو وأقسامه والجهل فينا وفي عقيدتنا وفيما قلناه وعنينا وذلك من وجوه.

(الوجه الأول) ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سمرة بن جندب عن النبي ﷺ قال: "لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره" وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن عبد الصمد بن عبد الوارث ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد مرفوعًا. وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعًا، وقال هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الحاكم أيضًا وصححه عن سمرة عن النبي ﷺ بلفظه المتقدم، ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعًا، ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث هلال بن فياض قال الحافظ ابن كثير وشاذ لقب لهلال وعمر بن إبراهيم هو البصري قد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي لا يحتج به لكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة وقد روى الحديث عنه مرفوعا وموقوفا.

(الثاني) ما قاله أهل التفسير قاطبة عند قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني حواء ثم انتشر الناس منهما كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } الآية فكلهم قد فسروا قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها الآية بآدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، وأسندوا بيان النفي الواحدة المخلوق منها سائر البشر وبيان الزوج المجعول منها إلى سائر الآيات المعني بها آدم وزوجته حواء والتثنية التي في قوله فلما آتاهما صالحًا جعلا له راجعة لهما.

(الثالث) ما أجمع عليه المفسرون وقالوا بعبارات متفقة المعنى مختلفة اللفظ عن ابن عباس من طريقين أو ثلاثة:

الأول منهما: ما قاله محمد ابن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال كانت حواء تلد لآدم عليهما الصلاة والسلام أولادًا فيعبدهم لله نحو عبد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت، فأتى إبليس آدم وحواء فقال إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه أولًا لعاش فولدت له غلامًا فسمياه عبد الحرث ففيه أنزل الله هو الذي خلقكم من نفس واحدة.. إلى آخر الآية.

الثاني: ما قاله العوفي عن ابن عباس أيضًا في قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة إلى قوله فمرت به فشكت أحملت أم لا لخفته، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين، فأتاهما الشيطان فقال هل تدريان ما يكون بهيمة أم لا وزين لهما الباطل إنه غوي مبين وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا فقال لهما إنكما إن لم تسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث لم يخرج سويًا ومات كالأول فسمياه عبد الحرث فذلك قول الله: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا }.

الثالث: ما قاله عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما يعني آدم وحواء أتاهما إبليس وقد حملت حواء فقال إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني ايل فيخرج من بطنك فيشقه أو لأفعلن وأفعلن فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتًا، ثم حملت الثانية فأتاهما أيضًا فقال أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت لتفعلن وتطيعاني أو لأفعلن يخوفهما فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتًا، ثم حملت الثالثة فأتاها فذكر لهما ما قاله أولًا فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحرث فذلك قول الله فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما. رواه ابن أبي حاتم في مستدركه.

وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض، وقد تلقى الأثر الوارد في خدع إبليس لآدم وحواء جماعة من السلف كمجاهد وعكرمة وسعيد ابن جبير، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والسدي، وجماعة آخرون من السلف والخلف، ومن المفسرين المتأخرين جماعة لا تحصى كثرتهم إلاَّ ما ذهب إليه الحسن البصري رحمه الله تعالى من أنه ليس المراد من سياق الآية آدم وحواء بل المراد من ذلك المشركون من ذريتهما ولهذا قال تعالى { تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وذكره تعالى آدم وحواء في أول الآية كالتوطئة لما بعدها من الوالدين وهو كالاسترداد من ذكر الشخص إلى الجنس كما قال تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم المزين بها ليست هي التي يرجم بها وإنما هو استطراد من شخص المصابيح أي جنسها وهذا له نظائر في القرآن كثيرة. قال الإمام أبو الحسين بن مسعود البغوي وهذا القول حسن لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة من المفسرين أنه آدم وحواء، ومعنى ما تأوله الحسن وعكرمة أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتاهما بقرينة قوله أيشركون بالجمع فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أقام الأبناء مقام الآباء في إضافة الفعل إلى الأبناء والفاعل إنما هو الآباء كقوله تعالى مخاطبًا اليهود الموجودين في زمن النبي ﷺ: { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْل } وقوله: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ } { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } وأمثال ذلك.

(الرابع) ما قاله ابن كيسان هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد مناف وعبد شمس وعبد اللات وعبد مناة.

(الخامس) قولنا وعقيدتنا ما قاله السلف واعتقدوه في قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهما يعني في طاعته ولم يكن شركهما في عبادته فإن كل اسم معبد لغير الله كعبد الحرث وعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حرام لا يجوز التسمية به باتفاق من يعتد به من أهل العلم، وتحرم طاعة الآمر بذلك فلا يحل التسمية بعبد علي ولا عبد الحسين ولا عبد الكعبة، فكيف بكلب علي وعبد الحرث الذي هو الشيطان، وقد روي ابن أبي شيبة من حديث هانىء بن شريح قال: "قدم على النبي ﷺ قوم فسمعهم يسمون رجلًا عبد الحجر فقال: "ما اسمك" قال عبد الحجر فقال رسول الله إنما أنت عبد الله" وقد تقدم حديث عبد الصمد بن عبد الوارث وسمرة بن جندب عن النبي ﷺ أنه قال: "لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره" رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الترمذي في تفسير الآية، ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث هلال بن فياض، والشرك في طاعته هو امتثال أمره وقبول قوله، وليس ذلك شركًا في العبادة كما قلناه وقررناه، ولكنهما زعما أن الحرث سبب نجاة الولد وسلامة أمه فلذلك أضافا ولدهما إليه، لا على جهة أن الحرث مالكه ومعبوده، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوكه، كما يستعمل اسم الرب مضافًا إلى من لا يراد أنه معبوده، وكمن نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على جهة الكرم والتواضع لا على أن الضيف ربه ومعبوده، قال يوسف صلى الله على محمد وعليه وسلم لعزيز مصر إنه ربي، ولم يرد أنه معبوده، فكذلك هنا ولكن المناسب لهما عدم طاعته وعدم قبول قوله وامتثال أمره إذ هو الذي قد غرهما وخدعهما فأخرجهما وفرق بينهما للعداوة الأزلية لهما ولذريتهما أبد الآبدين ودهر الداهرين وبعد يوم الدين.

واتفقوا على عصمة الأنبياء من تعمد الكبائر قبل الوحي وبعده، وتنازعوا هل تقع منهم بعض الصغائر مع التوبة منها أو لا تقع بحال، فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلة وبعض أهل الحديث من أهل السنة منهم ابن السبكي وغيره لا تقع منهم الصغيرة بحال ولا قبل النبوة ولا بعدها زادت الشيعة لا يمكن وقوعها منهم خطأ ولا عمدًا، والصحيح عند السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير لا تقع الصغائر منهم عمدًا. واتفقوا على وقوعها منهم سهوًا وخطأً. كما نقله السعد التفتازاني في حاشية الكشاف إلاَّ ما يدل على الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة فلا يجوز عليهم، واشترط جمع من المحققين أن ينبهوا على ما فعلوه سهوًا فينتهوا عنه، وقال قوم من علماء أهل السنة من أهل الحديث من أصحاب الأشعري وغيرهم وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه علهم أجمعين تقع منهم بعض الصغائر مع التوبة منها والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، و إذا ابتلي بعض الأكابر بما يتوب منه فذلك لكمال النهاية لا لنقص البداية، كما قال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وفي الأثر أن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وأن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، يعني أن السيئة يذكرها ويتوب منها فيدخله ذلك الجنة، والحسنة يعجب بها ويستكبر فيدخله ذلك النار.

وأيضًا فالحسنات والسيئات متنوع بحسب المقامات، كما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين، فمن فهم ما تمحوه التوبة وترفع صاجها إليه من الدرجات وما تفاوت الناس فيه من الحسنات والسيئات زالت عنهم الشبه في هذا الباب، وأقر الكتاب والسنة على ما فيهما من الهدى والصواب، وقد اتفق الأمة على أن من سوى الأنبياء ليس بمعصوم لا من الخطأ ولا من الصواب، سواء كان صديقًا أو لا، وعلى أن محمدًا رسول الله ﷺ معصوم فيما يبلغه عن الله تبارك وتعالى، فإن مقصود الرسالة لا يتم إلاَّ بذلك، وكل ما دل على أنه رسول الله من معجزة فهو يدل على ما قاله رسول الله ﷺ: "فإني لا أكذب على الله" واتفقوا أيضًا على أنه لا يقر على الخطأ كما أنه لا ينطق عن الهوى وعلى أنه ﷺ أخوف الأمة لمولاه وأشدهم خشية منه وتضرعًا إليه ورغبة فيما لديه. فقد ثبت في الصحيح أنه ﷺ كان يدعو ربه ويعترف له بذنبه كما في قوله: "اللهم أنت الملك لا إله إلاَّ أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا فإنه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت..." الحديث وأمثاله إظهارًا للعبودية، وافتقارًا للصمدية، وتشريعًا للأمة، وبيانًا لشكر النعمة، قال الأئمة كل يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ رسول الله ﷺ فإنه الذي أوجب الله على أهل الأرض الإيمان به وطاعته بحيث يجب عليهم أن يصدقوه بكل ما أخبر ويطيعوه في كل ما أمر، فقد ذكر الله طاعته واتباعه في قريب من أربعين موضعًا في القرآن، قال عز من قائل: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وقال: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية وقال: { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } إلى قوله { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال: { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وقال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وقال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول } وقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ } الآية. وطاعة الله والرسول هي عبادة الله التي خلق لها الجن والإنس، فهي غايتهم التي يحبها الله ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاهد من بعضهم ما هو خلاف ذلك وخلقهم له فتلك غاية شاءها وقدرها وهذه غاية يحبها ويأمر بها ويرضاها. والعبادة لله أن تجمع غاية الحب له بغاية الذل له والانقياد إليه فكل خير وكمال ومقام وما يقرب إليه مما يحمد من العباد ويطلب منهم شرعًا ويرضاه لهم فهو داخل في طاعة الله ورسوله ومستلزم ذلك والنص في وجوب الطاعة قاض في عصمة صاحب الرسالة.

(فإن قيل) قد اتفقوا على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين معصومون من تعمد الكبائر قبل الوحي وبعده كما قلتم به وقاعدتكم في الشرك الأصغر أن حكمه من اكبر الكبائر عندكم وذلك مناف لجعل الضمير في قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهم عائدًا إلى آدم وحواء صلى الله عليهما وسلم إذا كان آدم نبيًا معصومًا عن الكبائر أن يفعلها هو بنفسه فكيف يوافق حواء على الشرك بالله.

(الجواب) أن آدم وحواء عليهما السلام لم يعتقدا أن ذلك الاسم معصية لله ولم يقصدا به مضارة نهيه تعالى أو عدم فعل أمره بل إنما طاوعا اللعين فيما قاله لهما مكافأة لشره وخوفًا على ولدهما من ضره بتوعده لهما فيه وهما لم يطاوعاه أولًا لعلمهما بعداوته وأنه الذي أخرجهما مما كانا فيه من النعيم، ثم أدركتهما شفقة الولد فطاوعاه في التسمية فبذلك أشركا في طاعته لا في عبادته وكذلك قوله تعالى فعصى آدم ربه فغوى مع قوله فدلاهما بغرور، فإن اللعين غرهما بالقسم لهما أنه ناصح في قوله لهما { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } فخدعهما لظنهما أن لا أحد يحلف بالله كاذبًا فأكلا ولم يقصدا المعصية لأنهما لم يعتقدا أن النهي راجع إلاَّ لما قال لهما وأقسم لهما فيه فتعين نفي تعمد الكبائر على الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام وقوله تعالى فعصى آدم ربه فغوى باعتبار الأكل من الشجرة المنهي عنها بمطاوعة الغار.

(فإن قيل) كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميلة تعس عبد القطيفة" وصح عنه ﷺ أنه قال: " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" ودخل عليه رجل وهو جالس بين أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب فقالوا هذا وأشاروا إليه.

(الجواب) أن قوله تعس عبد الدينار الحديث لم يرد به الاسم و إنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه الدينار والدرهم واختارهما على عبودية ربه تبارك وتعالى، وقوله أنا ابن عبد المطلب ليس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي يميز به المسمى دون غيره والاخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسمون بني عبد شمس وبني عبد الدار بأسمائهم ولا ينكر عليهم النبي ﷺ لأن باب الاخبار واسع يجوز فيه ما لا يجوز في الإنشاء فتحرم التسمية أيضًا بملك الملوك وسلطان السلاطين وشاه شاه لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك" وفي رواية اخنى بدل اخنغ وفي رواية لمسلم أبغض رجل عند الله يوم القيامة وأخسه رجل كان يسمى بملك الأملاك لا مالك إلاَّ الله ومعنى أخنع وأخنى: أوضع.

وأما الأسماء المكروهة، فمنها ما رواه مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله ﷺ: "لا تسمين غلامك يسارًا ولا حربًا ولا نجاحًا ولا أفلح فإنك تقول أثم فلان فيقال لا" قال ابن القيم والمذكور في الحديث إنما هن أربع لا يزدن عليها، وهذه الجملة الأخيرة ليست من كلام رسول الله ﷺ وإنما هي من كلام الراوي، وقال أيضًا قلت وفي معنى هذا مبارك ومفلح وخير وسرور ونعمة، وما أشبه ذلك لوجود المعنى الذي كرهت تلك الأمور الأربعة لأجله فإنه يقال أعندك خير أعندك سرور أعندك نعمة فيقول لا فتشمئز القلوب من ذلك وتستطير منه. ومنه التسمية بأسماء الشياطين، كخنزب والولهان، وأسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون وهامان والأسماء التي تكرهها النفوس ولا تلائمها كحرب ومرة. وقد كان النبي ﷺ يشق عليه الاسم القبيح ويكرهه جدًا من الأشخاص والأماكن والقبائل والجبال حتى أنه مر في مسير له بين جبلين فسأل عن اسمهما فقيل فاضح ومخز، فعدل عنهما ولم يمر بينهما، وكان ﷺ شديد الاعتناء بذلك، ومن تأمل السنة وجد معاني الأسماء مرتبطًا بها حتى كأن معانيها مأخوذة منها وكأن الأسماء مشتقة من معانيها فتأمل قوله ﷺ: " أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله" وقوله لما جاء سهيل بن عمرو يوم الصلح: "سهل أمركم" وتأمل تغييره الأسماء غير المناسبة كما في الصحيحين أن رسول ﷺ أتى بالمنذر بن أسيد حين ولد فوضعه على فخذه فأقاموه فقال: "أين الصبي" قال أبوه أسيد قلبناه يا رسول الله قال ما اسمه قال فلان قال "ولكن اسمه المنذر"، وفي سنن أبي داود من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: "ما اسمك قال حزن، قال: "أنت سهل" قال لا السهل يؤطا ويمتهن قال سعيد فظننت أن سيصيبنا بعد حزونة، قال أبو داود وغيره رسول الله ﷺ اسم العاص والعتلة وشيطان والحكم وغراب وشهاب وخباب فسماه هاشمًا وسمى حربًا سلمًا، وسمى المضطجع المنبعث، وأرضا يقال لها عفرة خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزنية سماهم بنو الرشدة، وسمى بنى معاوية بني رشدة، قال أبو داود وتركت أسانيدها للاختصار، وتأمل أيضًا حثه على تحسين الاسم كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماكم" رواه أبو داو بإسناد حسن وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ: "إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن" رواه مسلم في صحيحه. وقوله أن الأصنام لم تعبد من دون الله إلاَّ قريبًا من زمن نوح قد ذكر المفسرون عند قوله تعالى كان الناس أمة واحدة، عن قتادة عق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال وكذلك في قراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث محمد بن بشار ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وكذا رواه أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرأها كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في الآية قال كانوا على الهدى جميعًا فاختلفوا فبعث الله النبيين فكان أول من بعث نوح، وهكذا قال مجاهد كما قال ابن عباس أولًا، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله أمة واحدة يقول كفار فبعث الله النبيين، قال الحافظ ابن كثير والأول عن ابن عباس أصح إسنادًا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول إلى أهل الأرض. ولهذا ذكر سبحانه في سورة يونس ما كان الناس إلاَّ أمة واحدة فاختلفوا فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أن ما كانوا عليه حق والله أعلم.

الكلام في العبادة والعبودية

وأما قول صاحب المقدمة (كيف يكون قوله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ } بيانًا لمعنى العبادة إلى قوله اعلم ان للطاعة مراتب، الأولى أن يلاحظ فيها الثواب ودرء العقاب مع الامتثال وتسمى عبادة، والثانية أن لا يلاحظ إلاَّ تشرف النفس بالتقريب إلى الله وتسمى عباده، الثالثة أن لا يلاحظ إلاَّ الله ويسمى عبودية وهذه أعلى المراتب وفي تقديم إياك على نعبد إشارة إليه).

فنقول: قد قال الجوهري: العبادة والطاعة والخضوع والتذلل لا يستحقه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، ويسمى العبد عبدًا لذلته وانقياده لمولاه، وقال الفخر إسماعيل أبو البقاء العبادة ما أمر به شرعًا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وقوله تعالى ادعوا ربكم أمر منه تعالى بدعائه فهو عبادة بل هو مخها كما قدمناه، قال أبو علي الدقاق ليس شيء أشرف ولا أتم للمؤمن من الوصف بالعبودية قال في المطلع ولهذا وصف الله تعالى نبيه محمدًا ﷺ بالعبودية في أشرف مقاماته حين دعا الخلق إلى توحيد الحق وعبادته قال تعالى: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وحين أنزل عليه القرآن قال عز من قائل: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } مع أنه ﷺ حبيب الله وخليله كما ثبتت خلته في الصحيح قال بعضهم:

لا تدعني إلاَّ بيا عبدها ** فإنه أشرف أسمائي

ونحن قد قدمنا مراتب العبادة في بحث إرادة الإنسان بعمله الدنيا وأنها على ثلاثة أنواع باعتبار نياتهم في طاعة الله تبارك وتعالى، لأن العبد إما أن يلتمس بعمله من ربه أمرًا من أمور الدنيا كصحة وعافية وتكثير ماله وولده أو سلامتها، وأما أن يلتمس به محمدة عند الناس ومحبة ومدحًا منهم، وأما أن يعمل امتثالًا لأمره تعالى وتقدس وإجلالًا لعظمته وقيامًا في عبوديته، وهذا الثالث من أعلى درجات الإخلاص كما عليه الصحابة والتابعون وتبعهم فيه المحققون من علماء كل مذهب، وان شابه خوف من الله ورجاء، وأما الأول والثاني فقد تقدم الكلام عليهما مبسوطًا.

وهذه المراتب التي ذكرها صاحب المقدمة لا يخرج كل منها عن الإخلاص لأن الموحد لا يخلو عن أن يكون خائفًا من ربه راجيًا فهي في الحقيقة ترجع إلى معنى واحد إذ من لاحظ بعمله الله لا يعلم هو مقبول منه أم لا فهو خائف راج قال تعالى: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة فالمراد به أن المقربين يلاحظون بعبادتهم وجه الله فيقصدون رضاء الله والتلذذ بالنظر إليه كما قال الجنيد فهم يرجون حصول هذا المقصود المطلوب ويخافون حرمانه فلم يخلوا عن الخوف والرجاء لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم، ومن قال منهم لم أعبدك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك فهر يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه من نعيم المخلوقات، والنار اسم لما يعذب فيه من ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة بل كل ما أعد الله لأوليائه فهو في الجنة والنظر إليه في الجنة ولهذا كان أفضل الخلق ﷺ يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ولما سئل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ قال حولها ندندن، وأما التألم بالنار فهو أمر ضروري ومن قال لو أدخلتني النار لكنت راضيًا. فهو عزم منه على الرضا والعزائم قد تنفسخ عن وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام بعض القوم مثل ما قال سمنون:

فليس لي في سواك حظ ** فكيف ما شئت فامتحني

فابتلى بعس البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول ادعوا لعمكم الكذاب، وبعض من تكلم في علل المقامات جعل الحب والرضا والخوف والرجاء من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر وان من نظر إلى القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فنى من لم يكن وبقى من لم يزل، وهذا الكلام مستدرك حقيقة وشرعًا، أما الحقيقة فإن الحي لا يتصور أن لا يكون حساسًا محبًا لما يلائمه مبغضًا لما ينافره ومن قال إن الحي يستوي عنده جميع المقدورات، فهو أحد رجلين إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل، وإما أنه مكابر معاند، وأما الشرع فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقًا فإنه غالط بل لابد من الفرق لأنه أمر ضروري، لكن من خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبيعي ويبقى متبعًا لهواه لا مطيعًا لمولاه، ولهذا لما وقعت هذه المسألة بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق وهو أن يفرق العبد بين المأمور والمحظور وبين ما يحبه الله وما يكرهه مع شهوده المقدر الجامع فيشهد الفرق في الجميع فيكون عابد الله قاصد المطلوب خائفًا حرمانه، ومن دعائه رضي الله عنه اللهم إني أسألك منك ما هو لك وأستعيذ بك من كل أمر يسخطك اللهم لا تشغلني بشغل من شغله عنك ما أراده منك إلاَّ أن يكون لك اللهم اجعل غاية قصدي بك ما هو لك ولا تجعل قصدي إليك ما أطلبه منك يا أرحم الراحمين، وقال الشيخ عبد القادر الجيلي رحم الله روحه ونوّر ضريحه: خصال الأولياء أربعة أوصاف، العبودية بالخوف من الله ورجائه، ونعوت الربوبية بمشاهدة المقدورات، والإشراف على مما كان وما يكون بعلم الشريعة، والوقوف عندها والدخول على الله في كل يوم سبعين مرة بتجديد التوبة وكثرة الاستغفار انتهى. وقال محمد بن الحنفية ليس لأبدانكم قيمة إلاَّ الجنة فلا تبيعوها إلاَّ بها وما كرمت على عبد نفسه إلاَّ هانت عليه الشهوات انتهى. قال سبحانه وتعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } والمؤمن العامل إذا رجا بعمله ما وعده عليه مولاه لا يخرج برجائه ذلك عن الإخلاص الذي هو أعلى مراتب العبودية، وإنما اختلف الناس في مقاصد العبادات وصفاتها، فمنهم من يقول كلما كان أشق على النفس وأشد إبانة لشهوتها فهو أفضل، ومنهم من يقول ان أفضلها ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية، ومنهم من يقول فضل بعضها على بعض لا لعلة بل يرجع فيه إلى المشيئة والصواب أن أفضلها ما كان لله أطوع وللعبد أنفع، فما كان صاحبه أكثر انتفاعًا به وكان صاحبه أطوع لله به من غيره فهو أفضل وذلك أن تكون العبادة تابعة لما جاء به الرسول فعلًا أو تركا. والجواب لأهل القول الأول أن يقال لهم الجهاد أعظم مشقة من هذا كله فإنه بذل النفس وتعريضها للموت ففيه غاية الزهد المتضمن لترك الدنيا كلها وفيه جهاد النفس في الباطن، وجهاد العدو في الظاهر، فهو أفضل من الجوع والسهر والصمت والخلوة ونحو ذلك. وعن الثاني فلا ريب أن عبادات الموحدين كصلاتهم وصيامهم وحجهم أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية من عبادات غيرهم التي ابتدعوها فإنها متضمنة للظلم النافي للعدل، وعن الثالث أن يكون الأمر في ذلك راجعًا إلى مشيئة الله وتعبده للخلق وحينئذ فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله الذي جاء به الرسول ﷺ ليكون متعبدًا بما أمر الله به بخلاف من تكون عباداته من عندياته ابتدعها من غير أن يأتيه بها الرسول من عند الله فإنها غير مقبولة بل وزرها أعظم وليس شيء من أعمال البر إلاَّ ودونه عقبة تحتاج إلى الصبر فيها، فمن صبر على شدتها أفضى إلى السهولة والراحة وإنما هي مجاهدة النفس ثم مخالفة الهوى ثم مكابدة ترك الدنيا ثم الإقبال على ربه خائفًا راجيًا ثم اللذة والنعيم، هكذا ذكره شارح الحكم محمد المغربي الفاسي.

وقول صاحب المقدمة وفي تقديم إياك على نعبد إشارة إليه ليس كذلك لأن معنى التقديم الحصر وهو نفي العبادة عما سوى الله وإثباتها له وحده وليس له مخصص في بعض تلك المراتب التي ذكرها دون بعض إذ من لاحظ بطاعته امتثال أمر الله تبارك وتعالى مع خوفه ورجائه لا يقال أنه مشترك مع الله في العبادة ولا محتملها بعدم ملاحظته الله وحده لوجود ملاحظة أمره تعالى مع ملاحظة الثواب ودرء العقاب إذ هو مخلص بذلك بإجماع الأمة ولا فيه ما يوهم عدمه وخوف الله ورجاؤه وامتثال أمره عبادة، وحيث لوحظت تلك العبادة لا تكون معبودة ولا احتمال فيها والله تعالى أعلم.

قول الخصم لا يلزم من دعاء الغير أن يكون شركًا في العبادة والجواب عنه

وأما قوله: (لا يلزم من دعاء غيره تعالى أن يكون ذلك الداعي مشركًا في العبادة كما تقدم).

فنقول: قد بين الله سبحانه وتعالى في غير موضع من القرآن أن النفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلاَّ بأن يكون الله وحده معبودها ومحبوبها الذي لا أحب إليها منه، ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب، فلا بد أن يكون العابد محبأً للإله المعبود كمال الحب، ولابد أن يكون ذليلًا كمال الذل، وهما لا يصلحان إلاَّ لله وحده، فهو الإله المستحق للعبادة الذي لا يستحقها إلاَّ هو، وذلك يتضمن كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلاَّ الله، والنفوس محتاجة إلى الله من حيث أنه معبودها الذي هو محبوبها، ومنتهى مرادها وبغيتها من حيث هو ربها وخالقها، فمن آمن بأن الله هو رب كل شيء وخالقه ولم يعبد الله وحده بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه، وأعظم عنده مما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله ويخشاه مثل ما يخشى الله ويرجوه مثل ما يرجو الله ويدعوه بما لا يقدر عليه إلاَّ الله مثل ما يدعو به الله فهو المشرك الشرك الذي لا يغفره الله، ولو كان مع ذلك عفيفًا في طعامه ونكاحه وكان حليمًا شجاعًا. فإن أبا بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يرضون أن يفعلوا الذنوب الكبار كالزنا والسرقة، ولما بايع النبي ﷺ هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية بيعة النساء على أن لا يسرقن ولا يزنين قالت أو تزني الحرة فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلاَّ للإماء ولهذا عنت بقولها الحرة العفيفة لأن الحرائر كن عفائف قال سبحانه: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } وقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } فما خلق العبد لأجله وطلب منه من سائر العبادة لابد من إخلاصه لله وحده فإن الغاية الحميدة التي بها يحصل كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده وهي حقيقة قول القائل لا إله إلاَّ الله، وبهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب، ولا تصلح النفوس وتزكو وتكمل إلاَّ بهذا كما قال تعالى { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي ما تزكو به أنفسهم من التوحيد والإيمان، وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص في سائر العبادات المأمور بها شرعًا لم يكن من أهل النجاة والسعادة قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ذكر ذلك في موضعين من كتابه فليس الموحد إلاَّ المخلص بعبادته لله وحده لا شريك له المتبع ما جاءت به الرسل على محمد وعليهم الصلاة والسلام، وضده هو المشرك الشرك الذي لا يغفر بجعله ما هو مختص بجلال الله لغير الله أو له ولغيره، وقد قدمنا الكلام على هذا البحث مبسوطًا والله تعالى أعلم.

قول الخصم كيف يقال طلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إشراك والجواب عنه

وأما قوله: (إذ مع الاعتراف بأنه ﷺ الشافع المشفع ورجاؤه شفاعته كيف يقول طلب شفاعته إشراك في العبادة).

فنقول: وإن وجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته ﷺ، فرجاؤها من الله وسؤاله أن يشفع نبيه فيه هو المطلوب، إذ شفاعته ﷺ بإذن الله لمن رضي عنه ولا يعلم هو ممن يأذن فيه ويرضى عنه أم لا، فتعين عليه صرف همته، وعزائم أمره إلى ربه، بالإقبال عليه والاتكال عليه، والقيام بحق عبوديته لينال الشفاعة، وإن حصل منه تقصير بنوع من المعاصي بخلاف من أهمل ذلك وتركه وارتكب ضده من الإقبال على غير الله بالتوكل عليه ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلاَّ من عند الله والالتجاء إليه مقبلًا على الشفاعة متوكلًا عليها طالبها من النبي ﷺ، فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم ولا نشأت فتنة في الوجود إلاَّ بهذا الاعتقاد فلا ينالها، وقد حسم سبحانه مواد المشركين وما يتعلقون به ويرجونه حسمًا قاطعًا في كتابه المبين، ولا أعظم لهم تعلقًا منها فجعلها كلها له وعلق وجودها بشرطين: وجود إذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له، فلا تسأل من غيره سبحانه وتعالى وقد قدمنا الكلام عليها مرارًا متعددة مبسوطًا في محالها.

الشفاعة ومعناها ورد قول المخالف

وأما قوله (تنبيه: الشفاعة السعي في إصلاح حال المشفوع فيه عند المشفوع... إلى آخر كلامه) فهو خطأ إذ المشفوع له ليس المشفوع عنده، بل هو المشفوع فيه، فصوابه أن يقول عند المشفوع عنده وهو المشفع بكسر الفاء اسم فاعل، وأما اشتقاقها فقد قال أهل المعاني أن الشفاعة مأخوذة من الشفع المقابل للوتر فاستعملت في الشفيع باعتبارين:

الأول منهما: كونه شافعًا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة.

الثاني: كونه شافعًا للمسئول منه قضاء الحاجة في قضائها إذ هي لم تقض إلاَّ بسبب شفاعته فكأنه شاركه وشفعه فيها.

فمن الأول قوله سبحانه وتعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } الآية ومن الثاني قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (وأما معناها) فإنها تكون في الخير كالإصلاح بين الناس في الدنيا قال تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } وفي الآخرة هي توجه المأذون له فيها لمن ارتضى الله عنه إما برفع درجاته وإما بدخوله الجنة أول وهلة بلا حساب، وإما بعدم دخوله النار التي قد استحق دخولها بأعمال سيئة كانت قد صدرت منه، وإما بإخراجه منها بعد أن دخلها وكما تكون في الخير تكون في الشر كالمشي في الغيبة والتميمة وإساءة القول في الناس. قال سبحانه وتعالى: { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } واستعمل الكفل في الشر على جهة التهكم كقوله فبشرهم بعذاب أليم. وقد قدمنا أن الناس قد افترقوا في الشفاعة ثلاث فرق طرفان ووسط، بين مثبت ما نفاه القرآن، وبين ناف ما أثبتته السنة، وهم الخوارج والمعتزلة وبين مثبت ما أثبته الله ورسوله وناف ما نفاه الله ورسوله، وهم أهل السنة والجماعة، ولكن من حقق معنى الشفاعة ومن هي نائلة علق قلبه بما هو السبب لها من إتباع ما جاء به محمد ﷺ من الدين الذي أوله وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد وإخلاص الدين كله لله وتحقيق قول لا إله إلاَّ الله. فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلًا لا نقدر أن نضبطه حتى أن كثيرًا منهم يظنون أن التوحيد المفروض هو الإقرار والتصديق بأن الله خالق كل شيء وربه وأن ليس للإله معنى إلاَّ ذلك، ولا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقر به مشركو العرب وبين توحيد الإلهية الذي دعاهم رسول الله ﷺ، ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي، فإن المشركين ما كانوا يقولون العالم خلقه إثنان ولا أن مع الله ربًا ينفرد دونه بخلق شيء بل كانوا كما قال الله عنهم: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وقال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ } وقال تعالى: { قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وكانوا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده ويجعلون معه آلهة أخرى يجعلونهم شفعاء لهم إليه، ويقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويحبونهم كحبه والإشراك في الحب والعبادة والدعاء غير مغفور قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فمن أحب مخلوقًا كما يحب الخالق فهو به مشرك قد اتخذ من دون الله أندادًا وإن كان مقرًا بأن الله خالقه ولهذا فرق الله ورسوله بين من أحب مخلوقًا لله وبين من أحب مخلوقًا مع الله، فالأول يكون الله هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهى حبه وعبادته لا يحب معه غيره لكنه لما علم أن الله يحب أنبياءه وعباده الصالحين أحبهم لأجله وكذلك لما علم أن الله يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك فكان حبه لما يحبه تابعًا لمحبة الله وفرعًا عليه وداخلًا فيه، بخلاف من أحب مع الله فجعله ندًا لله يرجوه ويخافه ويطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة الله ويتخذه شفيعًا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } وقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وقد قال عدي بن حاتم للنبي ﷺ ما عبدوهم قال أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم. قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } فالرسول وجبت طاعته لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ومن سوى الرسول من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك إنما تجب طاعتهم إذا كانت طاعتهم طاعة الله، وهؤلاء إذا أمر الله ورسوله بطاعتهم فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } فلم يقل وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول، وطاعة الرسول طاعة الله وأعاد الفعل في طاعة الرسول دون طاعة أولي الأمر فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر الله به أم لا بخلاف أولي الأمر فإنه قد يأمرون بمعصية الله فليس كل من أطاعهم مطيعًا لله بل لابد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لله وينظر هل أمر الله به أم لا سواء كان ولي الأمر من العلماء أو الأمراء ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وقبول ما ينسب عن المشايخ الصوفية كأبي يزيد البسطامي وغيره فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ رسول الله ﷺ، وقد جمع أبو الفضل كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه النور من كلام طيفور، فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد رحمه الله، وفي أشياء موافقة لأمر الشرع ومن قيل له عن أبي يزيد أو غيره من المشايخ أنه قال لمريديه ان تركتم أحدًا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم بريء وتعقبه الآخرة وقال قلت لمريدي إن تركتم أحدًا من أمة محمد يدخل النار فأنا منكم بريء فصدق هذا النقل عنه ثم جعل هذا المصدق لهذا عن أبي يزيد أو غيره يستحسنه ويستعظم حاله، فقد دل على عظيم جهله أو نفاقه فإنه ان كان قد علم ما أخبر به الرسول من دخول من يدخل النار من أهل الكبائر، وان النبي ﷺ هو أول من يشفع فيهم بعد أن تطلب الشفاعة من الرسل الكبار كنوح و إبراهيم وموسى وعيسى فيمتنعون ويعتذرون، ثم صدق أن مريدي أبي يزيد أو غيره يمنعون أحدًا من الأمة من دخول النار أو يخرجون كل من دخلها منهم كان ذلك كفرًا منه بما أخبر به الصادق المصدوق بحكاية منقولة كذب ناقلها أو أخطأ قائلها إن لم يكن تعمد الكذب، وإن كان لا يعلم ما أخبر به الرسول كان من أجهل الناس بأصول الإيمان.

الاعتصام بالكتاب والسنة

(فعلى المسلم) الاعتصام بالكتاب والسنة وأن يجتهد أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علمًا يقينًا وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك من كان سائرًا إلى مكة في طريق معروفة لاشك أنما توصله إلى مكة إذا سلكها فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها ولا يعرف منتهاها، وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك. (وأما) من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة فإن هذه حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو. لهذا قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْب } فأخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي والسيف ينصر كفى بربك هاديًا ونصيرًا، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب الذي هو القرآن وأهل الحديد كما قال من قال من السلف صنفان إذا صلحوا صلح الناس العلماء والأمراء، وقالوا في قوله تعالى: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } أقوال العلماء والأمراء ولهذا نص الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة الله وكان نواب رسول الله ﷺ في حياته كعلي ومعاذ وأبي موسى وعتاب بن أسيد وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم يجمعون الصنفين وكذلك خلفاؤه من بعده كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونوابهم، ولهذا كانت السنة أن الذي يصلي بالناس صاحب القرآن، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحديد، إلى أن تفرق الأمر بعد ذلك فإذا تفرق صار كل من قام بأمر الحرب من جهاد الكفار وعقوبات الفجار يجب أن يطاع فيما أمر به من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام يجمع الأموال وقسمها يجب أن يطاع فيما أمر به من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام بالكتاب بتبليغ أخباره وأوامره وبيانها يجب أن يصدق ويطاع فيما أخبر به من الصدق في ذلك وفيما يأمر به من طاعة الله في ذلك.

والمقصود هنا بذلك كله هو أن يقوم الناس بالقسط الذي هو التوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له قال عز من قائل: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ } وقال: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وقال: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وقال: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وقال: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } ودين الإسلام العام الذي اتفقت عليه جميع النبيين هو المذكور في قوله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وقال نوح عليه السلام { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وقال الله عن إبراهيم { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله { فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وقال عن موسى: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ }.

فهذا التوحيد الذي هو أصل الدين وقوامه هو أعظم العدل وأصوبه وذلك بأن يكون الدين كله لله قولًا وعملًا واعتقادًا بإخلاص هذه الكلمة في لفظها ومعناها شهادة أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله. اللهم اجعلنا ممن توجه إليك بها مخلصًا حتى يلقاك وأنت عنه راض فثبتنا اللهم عليها واجعلنا من أهلها مطيعين لأمرك آمرين بعدلك ناهين بنهيك.

هذا آخر ما أردنا املاءه على تلك المقدمة العجالة في تلك الورقات الرسالة فلله الحمد أولًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدًا ما أحييتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين آمين، اللهم صل وسلم على أفضل خلقك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

هنيئًا مريئًا في اغتيابي فوائد ** فكل فتى يغتابني فهو لي يهدي

يصلي ولي أجر الصلاة وصومه ** ولي كل شيء من محاسنه بيدي

وكم حاسد قد أنضج الغيظ قلبه ** ولكنه غيظ الأسير على القد

فدونكها تحوى علومًا جليلة ** منزهة عن وصف خد وعن قد

فلا مدحت وصلا لليلى وزينب ** ولا هي ذمت هجر سعدى ولا هند

إليك طوت عرض الفيافي وطولها ** فكم جاوزت غورًا ونجدًا إلى نجد

أناخت بنجد فاستراحت ركابها ** وراح خليا عن رحيل وعن شد

فاحسن قراها بالقراءة ناظمًا ** عليها جوابًا فهي من جملة الوفد

وقد طولت جبرًا لضعف نظامها ** كما ستر الوجه المشوّه بالبرد

وصل على المختار والآل انهم ** لحسن ختام النظم واسطة العقد

وقد صفحنا عن جوابها إيجازًا واختصارًا إدراكًا للمأمول وتحصيلًا للمسئول، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب لما قام يدعو الناس إلى إقامة سنة النبي ﷺ ودينه وهديه ليقتفوا به وبأصحابه من بعده فَيُقَوّموا الشريعة التي عليها من سلف من الأمة، عاداه الناس وآذوه، ونسبوا كل عقيدة باطلة وفعل قبيح إليه، وانقسموا فيه بين مكفر ومخرج، وأجلبوا بجيوشهم ومدافعهم عليه، وما ذنبه إلا أنه يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فهو الداعي إليه، وهو القائم عليه، ممتثلًا قول الله تبارك وتعالى ومقتديًا برسوله ﷺ وبمن مضى من الصحابة والتابعين في إقامة الدين { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ومن أعرض ونأى بجانبه عن ملة نبيه محمد ﷺ نبي الرحمة الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة فقد أخطأ وضل وأضل فإلى أين العدول عن ملته أصن تطلب النجاة في غير طريقته، أيدعى مسلم إتباع من لا يشك أنه على الصراط المستقيم وأنه رسول رب العالمين أرسله بالهدى ودين الحق فيتركه ويتبع الشيطان الرجيم الذي قد أخبر الله عنه { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }.

هامش

  1. عبارة الشافعي في باب اجتماع الجنائز بعد أن ذكر الرواي حديث طاوس أن النبي ﷺ نهى أن تبني القبور أو تجصص: "وقد رَأَيْت من الْوُلَاةِ من يَهْدِمَ بِمَكَّةَ ما يُبْنَى فيها فلم أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ ذلك"