فرع العلم بخبر الواحد ( العلم بخبر الواحد ) له شروط منها ما هو في المخبر وهو الراوي ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ الدال . أما الشروط الراجحة إلى الراوي فخمسة : الأول : التكليف فلا تقبل رواية الصبي والمجنون . ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي واعترض عليه العنبري ، وقال بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة كما حكاه القاضي حسين في تعليقه . قال ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره . قال الفوراني الأصح قبول روايته والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب ، وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة وقد رجعوا إلى النساء وسألوهن من وراء حجاب قال الغزالي في المنخول محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه أما غيره فلا يقبل قطعاً وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية أما لو تحملها صبياً وأداها مكلفاً فقد أجمع السلف على قبولها كما في رواية ابن عباس والحسنين ومن كان مماثلاً لهم كمحمود بن الربيع فإنه روى حديث أنه صضص مج في فيه مجة وهو ابن خمس سنين واعتمد العلماء روايته ، وقد كان من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات ولم ينكر ذلك أحد وهكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر ثم روى وهو عدل مسلم ولا أعرف خلافاً في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق فلا يصح ذلك لأنه وقت الجنون غير ضابط وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة والأولى عدم القبول وعمل أهل المدينة لا تقوم به الحجة على ما سيأتي على أن نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم . الشرط الثاني : الإسلام فلا تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعاً . قال الرازي في المحصول أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم . قال والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا ؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري ، وقال القاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم . لنا أن المقتضى للعمل بها قائم ولا معارض فوجب العمل بها . بيان أن المقتضى قائم أن الاعتقاد لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليها فيحصل ظن الصدق فيجب العمل بها وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتف هاهنا قال واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا فأمر بالتثبت عند نبأ الفاسق ، وهذا الكافر فاسق فوجب التثبت عند خبره ، وأما القياس فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا نقبل روايته فكذا هذا الكافر والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين ، وهذا منصب شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال هذا الكافر جاهل لكونه كافراً لكنه لا يصلح عذراً . والجواب عن الأول أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة وعن الثاني الفرق بين الموضعين أن الكفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل وقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة ومع ظهور الفرق لا يجوز الجمع هكذا قال الرازي . والحاصل أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقاً لم تقبل روايته قطعاً ، وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة أو ترهيب عن معصية فقال الجمهور ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار والغزالي والآمدي لا يقبل قياساً على الفاسق بل هو أولى وقال أبو الحسين البصري يقبل وهو رأي الجويني وأتباعه والحق عدم القبول مطلقاً الأول . وعدم قبوله في ذلك الأمر الخاص في الثاني . ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفر ببدعته ، وبين المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب فاختلفوا فيه على أقوال الأول رد روايته مطلقاً لأنه قد فسق ببدعته فهو كالفاسق بفعل المعصية وبه . قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والقول الثاني أنه يقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف والقول الثالث أنه إذا كان داعية إلى بدعته لم يقبل وإلا قبل وحكاه القاضي عبد الوهاب في المخلص عن مالك وبه جزم سليم . قال القاضي عياض وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل ويحتمل أنه لا يقبل مطلقاً انتهى . والحق أنه لا يقبل فيما يدعو إلى بدعته ويقويها لافي غير ذلك . قال الخطيب وهو مذهب أحمد ونسبه ابن الصلاح إلى الأكثرين ، قال وهو أعدل المذاهب وأولاها . وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجاً واستشهاداً كعمران بن حطان وداود بن الحصين وغيرهما ونقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على ذلك ، قال ابن دقيق العيد جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقاً عليه وليس كما قال ، وقال ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام الخلاف إنما هو في غير الداعية فهو ساقط عند الجمع . قال أبو الوليد الباجي الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه . الشرط الثالث : العدالة ، قال الرازي في المحصول هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى يحصل ثقة النفس بدقة ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحات القادحة في المروءة كالأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاج والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن من جراءته على الكذب يرد الرواية ومالاً فلا انتهى وأصل العدالة في اللغة الاستقامة ، يقال « طريق عدل » : أي مستقيم وتطلق على استقامة السيرة والدين قال الزركشي في البحر : واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ولكن اختلف في معناها فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق ، وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والرذائل المباحة كالبول في الطريق والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة ، قال ابن القشيري والذي صح عن الشافعي أنه قال في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية وفي المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة فلا سبيل إلى رد الكل ولا إلى قبول الكل فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها قال ابن السمعاني لا بد في العدل من أربع شرائط المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم وأن لايعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع . قال الجويني الثقة هي المعتمد عليها في الخبر فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل . وقال ابن الحاجب في العدالة : هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة فزاد قيد عدم البدعة وقد عرفت ما هو الحق في أهل البدع في الشرط الذي مر قبل هذا . والأولى أن يقال في تعريف العدالة إنها التمسك بآداب الشرع فمن تمسك بها فعلاًوتركا فهو العدل المرضي ومن أخل بشيء منها فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل . وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما الرواية والشهادة . نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفاً لا شرعاً فهو تارك للمروءة العرفية ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية . وقد اختلف الناس هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر أم هي قسم واحد ؟ فذهب الجمهور إلى أنها منقسمة إلى صغائر وكبائر ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ويدل عليه ما ثبت عن النبي صضص متواتراً من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر وبعضها بأكبر الكبائر وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق والجويني وابن فورك ومن تابعهم قالوا إن المعاصي كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا وكلها كبائر قالوا ومعنى قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إن تجتنبوا الكفر كفرت عنكم سيآتكم التي هي دون الكفر والقول الأول راجح ، وهاهنا مذهب ثالث ذهب إليه الحلمي ، فقال إن المعاصي تنقسم حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام : صغيرة وكبيرة وفاحشة . فقتل النفس بغير حق كبيرة . فإن قتل ذا رحم له ففاحشة . فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة وجعل سائر الذنوب هكذا . ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد ؟ فقال الجمهور إنها تعرف بالحد ثم اختلفوا في ذلك فقيل إنها المعاصي الموجبة للحد ، وقال بعضهم هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد ، وقال آخرون ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، وثيل ما كان فيه مفسدة ، وقال الجويني ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في حقه وقيل ما ورد الوعيد عليه مع الحد أو لفظ يفيد الكبر ، وقال جماعة إنها لا تعرف إلا بالعدد ، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا ؟ فقيل هي سبع وقيل تسع وقيل عشر وقيل اثنتا عشرة وقيل أربع عشرة وقيل ست وثلاثون وقيل سبعون وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك وقد جمع ابن حجر الهيتمي فيها مصنفاً حافلاً سماه الزواجر في الكبائر وذكر فيه نحو أربعمائة معصية . وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين ، ومن المنصوص عليه منها القتل والزنا واللواطة وشرب الخمر والسرقة والغصب والقذف والنميمة وشهادة الزور واليمين الفاجرة وقطيعة الرحم والعقوق والفرار من الزحف وأخذ مال اليتيم وخيانة الكيل والوزن والكذب على رسول الله صضص وتقديم الصلاة وتأخيرها وضرب المسلم وسب الصحابة وكتمان الشهادة والرشوة والدياثة ومنع الزكاة واليأس من الرحمة أو من المكر والظهار وأكل لحم الخنزير والميتة وفطر رمضان والربا والغلول والسحر وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونسيان القرآن بعد تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع الزوجة عن زوجها بلا سبب ، وقد قيل أن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به وإنما هي مقالة لبعض الصوفية فإنه قال لا صغيرة مع إصرار ، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثاً ولا يصح ذلك بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه فالإصرار على الصغيرة صغيرة والإصرار على الكبيرة كبيرة . وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق . وقد حكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق ، فقال أنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم . قال الجويني والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يوجبوا بقبول روايته فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع . قال الرازي في المحصول إذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقاً لم تقبل روايته وإن لم يعلم كونه فسقاً فإما أن يكون مظنوناً أو مقطوعاً فإن كان مظنوناً قبلت روايته بالاتفاق . قال وإن كان مقطوعاً به قبلت أيضاً . لنا أن ظن صدقه راجح والعلم بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتف فوجب العمل به . احتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه لكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين عن قبول الرواية فالفسقان أولى بذلك المنع . والجواب أنه إذا علم كونه فسقاً دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلافه إذا لم يعلم ذلك ، ويجاب عن هذا الجواب أن إخلاله بأمور دينه إلى حد يجهل معه ما يوجب الفسق يدل أبلغ دلالة على اجترائه على دينه وتهاونه بما يجب عليه من معرفته . واختلف أهل العلم في رواية المجهول : أي مجهول الحال مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه فذهب الجمهور كما حكاه ابن الصلاح وغيره عنهم أن روايته غير مقبولة ، وقال أبو حنيفة تقبل روايته اكتفاء بسلامته من التفسيق ظاهراً ، وقال جماعة إن كان الراويان أو الرواة عنه لا يروون عن غير عدل قبل وإلا فلا وهذا الخلاف فيمن لا يعرف حاله ظاهراً ولا باطناً ، وأما من كان عدلاً في الظاهر ومجهول العدالة في الباطن ، فقال أبو حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح ، وقال الشافعي لا يقبل ما لم تعلم العدالة وحكاه الكيا عن الأكثرين ، وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا القول بالقبول بصدر الإسلام بغلبة العدالة على الناس إذ ذاك ، قالوا وأما المستور في زماننا فلا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد ، وقال الجويني بالوقف إذا روى التحريم إلى ظهور حاله . ولنا مجهول العين وهو من لم يشتهر ولم يرو عنه إلا رواه واحد فذهب جمهور أهل العلم أنه لا يقبل ولم يخالف في ذلك إلا من لم يشترط في الراوي إلا مجرد الإسلام ، وقال ابن عبد البر إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل كابن مهدي وابن معين ويحيى القطان فإنه تنتفي وترتفع عنه الجهالة العينية وإلا فلا ، وقال أبو الحسين بن القطان أن زكاة أحد من أئمة الجرح والتعديل مع روايته عنه وعمله بما رواه قبل إلا فلا وهذا هو ظاهر تصرف ابن حبان في ثقاته فإنه يحكم برفه الجهالة برواية واحدة وحكى ذلك عن النسائي أيضاً . قال أبو الوليد الباجي ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أن الراوي إذا روى عنه اثنان فصاعداً انتفت عنه الجهالة وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول لأنه قد يروي الجماعة عن الواحد لا يعرفون حاله ولا يخبرون شيئاً من أمره ويحدثون بما رووا عنه على الجهالة إذ لم يعرفوا عدالته انتهى . وفيه نظر لأنهم إنما يقولون بارتفاع جهالة العين برواية الاثنين فصاعداً عنه لا بارتفاع جهالة الحال كما سبق ، والحق لأنها لا تقبل رواية مجهول العين ولا مجهول الحال لأن حصول الظن بالمروي لا يكون إلا إذا كان الراوي عدلاً وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من العمل بالظن كقوله سبحانه إن الظن لا يغني من الحق شيئاً وقوله ولا تقف ما ليس لك به علم وقام الإجماع على قبول رواية العدل فكان كالمخصص لذلك العموم فبقي من ليس بعدل داخلاً تحت العمومات وأيضاً قد تقرر عدم قبول رواية الفاسق ومجهول العين أو الحال يحتمل أن يكون فاسقاً وأن يكون غير فاسق فلا تقبل روايته مع هذا الاحتمال لأن عدم الفسق شرط في جواز الرواية عند فلا بد من العلم بوجود هذا الشرط وأيضاً وجود الفسق مانع من قبول روايته فلا بد من العلم بانتفاء هذا المانع ، وأما استدلال من قال بالقبول بما يرونه من قوله صضص نحن نحكم بالظاهر ، فقال الذهبي والمزي وغيرهما من الحفاظ لا أصل له وإنما هو من كلام بعض السلف ولو سلمنا أن له أصلاً لم يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن صدق المجهول غير ظاهر بل صدقه وكذبه مستويان وإذا عرفت هذا فلا يصدهم ما استشهدوا به لهذا الحديث الذي لم يصح بمثل قوله صضص إنما أقضي بنحو ما أسمع وهو في الصحيح وبما روي من قوله صضص لعمه العباس يوم بدر لما اعتذر بأنه أكره على الخروج فقال كان ظاهرك علينا وبما في صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم . الشرط الرابع : الضبط فلا بد أن يكون الراوي ضابطاً لما يرويه ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه وقلة غلطه وسهوه . فإن كان كثير الغلط والسهو ردت روايته إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه وإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما يعلم أنه غلط فيه كذا قال ابن السمعاني وغيره . قال أبو بكر الصيرفي : من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره . ولم يسقط لذلك حديثه ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره لأن المدار على حفظ الحكاية . قال الترمذي في العلل كل من كان متهماً في الحديث بالكذب أو كان مغفلاً يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه انتهى . والحاصل أن الأحوال ثلاثة إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه فمردود إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه فمقبول إلا فيما علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف . قال القاضي عبد الجبار يقبل لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه . وقال الشيخ أبو إسحاق أنه يرد وقيل إنه يقبل خبره إذا كان مفسراً وهو أن يذكر من روى عنه ويعين وقت السماع منه وما أشبه ذلك وإلا فلا يقبل وبه قال القاضي حسين وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة ففي الرواية أولى وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث أو الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح وإن خف ضبطه فحديثه من قسم الحسن وإن كثر غلطه فحديثه من قسم الضعيف ولا بد من تقييد هذا بما إذا لم يعلم بأنه لم يخطئ فيم رواه قال الكيا الطبري ولا يشترط انتفاء الغفلة ولا يوجب لحوق الغفلة له رد حديثه إلا أن يعلم أنه قد لحقته الغفلة فيه بعينه وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية وأنبههم فيما يتعلق بها وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي . الشرط الخامس : أن لا يكون الراوي مدلساً وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد . أما التدليس في المتن فهو أن يزيد في كلام رسول الله صضص كلام غيره فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صضص . وأما التدليس في الإسناد فهو على أنواع : أحدها : أن يكون في إبدال الأسماء فيعبر عن الراوي وعن أبيه بغير اسميهما وهذا نوع من الكذب . وثانيهما : أن يسميه بتسمية غير مشهورة فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي وذلك مثل من يكون مشهوراً باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس إيهاماً للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك الرجل فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفاً وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف . فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلاً على كل حال فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعاني وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح . وثالثهما : أن يكون التدليس بإطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه مثل أن يترك شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه فإن كان المتروك ضعيفاً فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ولا تتضمن التغرير على السامع فلا يكون ذلك قادحاً في عدالة الراوي لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة نحو أن يقول : قال فلان أو روي عن فلان أو نحو ذلك . أما لو قال حدثنا فلان أو أخبرنا وهو لم يحدث ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره هو من ترك ذكره فذلك كذب يقدح في عدالته ، والحاصل أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال حدثنا أو أخبرنا أو سمعت لا إذا لم يقل كذلك لاحتمال أن يكون قد أسقط من لا تقوم الحجة بمثله . أما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ، فالأول : منها أن لا يستحيل وجوده في العقل فإن أحاله العقل رد . والشرط الثاني : أن لا يكون مخالفاً لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال . والشرط الثالث : أن لا يكون مخالفاً لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية ، وأما إذا خالف القياس القطعي فقال الجمهور أنه مقدم على القياس ، وقيل إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس وإن كانت ظنية قدم الخبر وإليه ذهب أبو بكر الأبهري وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إنهما متساويان وقال عيسى بن أبان إن كان الراوي ضابطاً عالماً قدم خبره وإلا محل اجتهاد وقال أبو الحسين البصري إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي فالقياس مقدم وإن كان حكم الأصول مقطوعاً به خاصة دون العلة فالاجتهاد فيه واجب حتى يظهر ترجيح أحدهما فيعمل به وإلا فالخبر مقدم ، وقال أبو الحسين الصيمري لا خلاف في العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف في المستنبطة قال الكيا قدم الجمهور خبر الضابط على القياس لأن القياس عرضه الزلل انتهى . والحق تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح أو حسن على القياس مطلقاً إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه كحديث المصراة وحديث العرايا فإنهما مقدمان على القياس وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ولا ينظروا فيه وما روى عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه . ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده . ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين : عدالة الراوي . ودلالة الخبر ، والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبراً فإن كان خبراً كان النظر في ثمانية أمور الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها . واعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافة لأن قول الأكثر ليس بحجة . ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه خلافاً لمالك وأتباعه لأنهم بعض الأمة ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر . ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافاً لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ولم نتعبد بما فهمه الراوي ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافاً للحنفية وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك ولا يضره كونه في الحدود والكفارات خلافاً للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية واستدلالهم بحديث إدرأوا الحدود بالشبهات باطل فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها ، ولا يضره أيضاً كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافاً للحنفية فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخاً لا يقبل والحق القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة ودعوى أنها ناسخة ممنوعة وهكذا إذا ورد الخبر مخصصاً للعام من كتاب أو سنة فإن مقبول ويبنى العام على الخاص خلافاً لبعض الحنفية وهكذا إذا ورد مقيداً لمطلق الكتاب أو السنة القطعية . وقسم الهندي خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما إلى ثلاثة أقسام : أحدها : أن ما لا يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه فقال القاضي عبد الجبار يقبل لأن الصحابة رفعت كثيراً من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ولم يسألوا عنها هل كانت مقارنة أم لا ؟ قال وهو أولى لأن حمله على كونه مخصصاً مقبولاً أولى من حمله على كونه ناسخاً مردوداً . الثاني : أن يعلم مقارنته له فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون . الثالث : أن يعلم تراخيه عنه وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب . لم يقبله لأن لو قبله لقبل ناسخاً وهو غير جائز ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق انتهى . وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق ولا يضره كون راويه انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلاً فقد يحفظ الفرد ما لا يحفظه الجماعة وبه قال الجمهور إذا كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد . أما إذا كانت منافية فالترجيح ورواية الجماعة أرجح من رواية الواحد وقيل لا نقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية الجماعة وإن كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد إذا كان مجلس السماع واحداً وكانت الجماعة بحيث لا يجوز عليهم الغفلة عن مثل تلك الزيادة وأما إذا تعدد مجلس السماع فتقبل تلك الزيادة بالاتفاق ، ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صضص الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه لأنه زيادة على ما رووه وتصحيح لما أعلوه ، ولا يضره أيضاً كونه خارجاً مخرج ضرب الأمثال . وروي عن إمام الحرمين أنه لا يقبل لأنه موضع تجوز ، فأجيب عنه بأنه وإن كان موضع تجوز فإن النبي صضص لا يقول إلا حقاً لمكان العصمة . وأما الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر : فإنه علم أن للراوي في نقل ما يسمعه أحوالاً : الأول : أن يرويه بلفظه فقد أدى الأمانة كما سمعها ولكنه إذا كان النبي صضص قاله جواباً عن سؤال سائل فإن كان الجواب مستغنياً عن ذكر السؤال كقوله صضص في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فالراوي محير بين أن يذكر السؤال أو يتركه وإن كان الجواب غير مستغن عن ذكر السؤال كما في سؤاله صضص عن بيع الرطب بالتمر ، فقال أينقص إذا جف ؟ فقيل نعم ، فقال فلا إذاً فلا بد من ذكر السؤال وهكذا لو كان الجواب يحتمل أمرين فإذا نقل الراوي السؤال لم يحتمل إلا أمراً واحداً فلا بد من ذكر السؤال وعلى كل حال فذكر السؤال مع ذكر الجواب وما ورد على سبب أولى من الإهمال . الحال الثاني : أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه ، وفيه ثمانية مذاهب : الأول : منها أن ذلك جائز من عارف بمعاني الألفاظ لا إذا لم يكن عارفاً ، فإنه لا يجوز له الرواية بالمعنى . قال القاضي في التقريب بالإجماع ومنهم من شرط أن يأتي بلفظ مرادف كالجلوس مكان القعود أو العكس ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساوياً للأصل في الجلاء والخفاء فلا يأتي مكان الجلي بما هو دونه في الجلاء ولا مكان العام بالخاص ولا مكان المطلق بالمقيد ولا مكان الأمر بالخبر ولا عكس ذلك وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر مما تعبدنا بلفظه كألفاظ الاستفتاح والتشهد وهذا الشرط لا بد منه ، وقد قيل إنه مجمع عليه وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من باب المتشابه كأحاديث الصفات ، وحكى الكيا الطبري الإجماع على هذا لأن اللفظ الذي تكلم به النبي صضص لا يدري هل يساويه اللفظ الذي تكلم به الراوي ويحتمل ما يحتمله من وجوه التأويل أم لا وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من جوامع الكلم فإن كان من جوامع الكلم كقوله : إنما الأعمال بالنيات . من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . الحرب خدعة . الخراج بالضمان العجماء جبار . البينة على المدعي لم تجز روايته بالمعنى وشرط بعضهم أن يكون الخبر من الأحاديث الطوال ، وأما الأحاديث القصار فلا يجوز روايتها بالمعنى ولا وجه لهذا . قال ابن الأنباري في شرح البرهان للمسألة ثلاث صور : أحدها : أن يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود وهذا جائز بلا خلاف . وثانيها : أن يظن دلالته على مثل ما دل عليه الأول من غير أن يقطع بذلك فلا خلاف في امتناع التبديل . ثالثها : أن يقطع بفهم المعنى ويعبر عما فهم بعبارة يقطع بأنها تدل على ذلك المعنى الذي فهمه من غير أن تكون الألفاظ مترادفة فهذا موضع الخلاف . والأكثرون على أنه متى حصل القطع بفهم المعنى مستنداً إلى اللفظ إما بمجرده أو إليه مع القرائن التحق بالمترادف . المذهب الثاني : المنع من الرواية بالمعنى مطلقاً بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف وغيره . هكذا نقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث . وقال أنه مذهب مالك ونقله الجويني والقشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين ، وحكي عن أبي بكر الرازي من الحنفية وهو مذهب الظاهرية نقله عنهم القاضي عبد الوهاب ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين منهم ابن سيرين وبه قال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائيني . ولا يخفى ما في هذا المذهب من الحرج البالغ أو المخالفة لما كان عليه السلف والخلف من الرواة كما تاره في كثير من الأحاديث التي يرويها جماعة فإن غالبها بألفاظ مختلفة مع الاتحاد في المعنى المقصود بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم يأتي في بعض الحالات بلفظ في رواية وفي أخرى بغير ذاك اللفظ مما يؤدي معناه وهذا أمر لا شك فيه . المذهب الثالث : الفرق بين الألفاظ التي لا مجال للتأويل فيها وبين الألفاظ التي للتأويل فيها مجال فيجوز النقل بالمعنى في الأول دون الثاني ، حكاه أبو الحسين بن القطان عن بعض أصحاب الشافعي واختاره الكيا الطبري . المذهب الرابع : التفصيل بين أن يحفظ الراوي اللفظ أم لا فإن حفظه لم يجز له أن يرويه بغيره لأن في كلام رسول الله صضص من الفصاحة ما لا يوجد في غيره وإن لم يحفظ اللفظ جاز له الرواية بالمعنى وبهذا جزم الماوردي والروياني . المذهب الخامس : التفصيل بين الأوامر والنواهي وبين الأخبار فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني . قال الماوردي والروياني : أما الأوامر والنواهي فيجوز روايتها بالمعنى كقوله لا تبيعوا الذهب بالذهب . وروى أنه نهى بيع الذهب بالذهب ، وقوله صضص اقتلوا الأسودين في الصلاة ، وروى أنه أمر أمر بقتل الأسودين في الصلاة قال هذا جائز بلا خلاف لأن أفعل أمر ولا تفعل نهي فيتخير الراوي بينهما وإن كان اللفظ في المعنى محتملاً لإطلاق في إغلاق وجب نقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره . المذهب السادس : التفصيل بين المحكم وغيره فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني كالمجمل والمشترك والمجاز الذي لم يشتهر . المذهب السابع : أن يكون المعنى مودعاً في جملة لا يفهمه العامي إلا بأداء تلك الجملة فلا يجوز روايته إلا بأداء تلك الجملة بلفظها كذا قال أبو بكر الصيرفي . المذهب الثامن : التفصيل بين أن يورده على قصد الاحتجاج والفتيا أو يورده لقصد الرواية فيجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني . فهذه ثمانية مذاهب . ويتخرج من الشروط التي اشترطها أهل مذاهب غير هذه المذاهب . الحال الثالث : أن يحذف الراوي بعض لفظ الخبر فينبغي أن ينظر فإن كان المحذوف متعلقاً بالمحذوف منه تعلقاً لفظياً أو معنوياً لم يجز بالاتفاق ، حكاه الصفي الهندي وابن الأنباري فالتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة والتعلق المعنوي كالخاص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق والمبين بالنسبة إلى المجمل والناسخ بالنسبة إلى المنسوخ ويشكل على هذا المحكي من الاتفاق ما نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي في التقريب من الجواز مطلقاً سواء تعلق بعضه ببعض أم لا وفي هذا ضعف . فإن ترك الراوي لما هو متعلق بما رواه لا سيما ما كان متعلقاً به تعلقاً لفظياً خيانة في الرواية . وإن لم يكن كذلك فاختلفوا على أقوال : أحدها : إن كان قد نقل ذلك هو أو غيره مرة بتمامه جاز أن ينقل البعض وإن لم ينقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز كذا قال القاضي في التقريب والشيخ الشيرازي في اللمع . ثانيها : أنه يجوز إذا لم يتطرق إلى الراوي التهمة ذكره الغزالي . وثالثها : أن الخبر إذا كان لا يعلم إلا من طريق الراوي وتعلق به حكم شرعي لم يجز له أن يقتصر على بعضه دون بعض وإن لم يتعلق به حكم فإن كان الراوي فقيهاً جاز له ذلك وإن كان غير فقيه لم يجز ، قاله ابن فورك وأبو الحسين بن القطان . ورابعها : إن كان الخبر مشهوراً بتمامه جاز الاقتصار من الراوي على البعض وإلا فلا قاله بعض شراح اللمع لأبي إسحاق . وخامسها : المنع مطلقاً . وسادسها : التفصيل بين أن يكون المحذوف حكماً متميزاً عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز فيجوز الحذف وإلا لم يجز قال الكيا الطبري وهذا التفصيل هو المختار . قال الماوردي والروياني : لا يجوز إلا بشرط أن يكون الباقي مستقلاً بمفهوم الحكم كقوله في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فيجوز للراوي أن يقتصر على رواية إحدى هاتين الجملتين وإن كان الباقي لا يفهم معناه فلا يجوز وإن كان مفهوماً ولكن ذكر المتروك يوجب خلاف ظاهر الحكم المذكور كقوله صضص في الأضحية لمن قال له ليس عندي إلا جذعة من المعز فقال تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك فلا يجوز الحذف لأنه لو اقتصر على قوله تجزئك لفهم من ذلك أنها تجزئ عن جميع الناس . هذا حاصل ما قيل في هذه المسألة وأنت خبير بأن كثيراً من التابعين والمحدثين يقتصرون على رواية بعض الخبر عند الحاجة إلى رواية بعضه لا سيما في الأحاديث الطويلة كحديث جابر في صفة حج النبي صضص ونحوه من الأحاديث وهم قدوة لمن بعدهم في الرواية لكن بشرط أن لا يستلزم ذلك الاقتصاد على البضع مفسدة . الحال الرابع : أن يزيد الراوي في روايته للخبر على ما سمعه من النبي صضص فإن كان ما زاده يتضمن بيان سبب الحديث أو تفسير معناه فلا بأس بذلك لكن بشرط أن يبين ما زاده حتى يفهم السامع أنه من كلام الراوي . قال المارودي والروياني يجوز من الصحابي زيادة بيان السبب لكونه مشاهداً للحال ولا يجوز من التابعي وأما تفسير المعنى فيجوز منهما ولا وجه للاقتصار على الصحابي والتابعي في تفسير معنى الحديث فذلك جائز لكل من يعرف معناه معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بين الخبر المروي وبين التفسير الواقع منه بما يفهمه السامع . الحال الخامس : إذا كان الخبر محتملاً لمعنيين متنافيين فاقتصر الراوي على تفسيره بأحدهما فإن كان المقتصر على أحد المعنيين هو الصحابي كان تفسيره كالبيان لما هو المراد وإن كان المقتصر غير صحابي ولم يقع الإجماع على أن المعنى الذي اقتصر عليه هو المراد فلا يصار إلى تفسيره بل يكون لهذا اللفظ المحتمل للمعنيين المتنافيين حكم هو المراد المشترك أو المجمل فيتوقف العمل به على ورود دليل يدل على أن المراد أحدهما بعينه والظاهر أن النبي صضص لا ينطق بما يحتمل المعنيين المتنافيين لقصد التشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية بحيث لا يفهم الراوي لذلك عنه من الصحابة ما أراده بذلك اللفظ بل لا بد من بيانه بما يتضح به المعنى المراد فقد كانوا يسألونه صضص إذا أشكل عليهم شيء من أقواله أو أفعاله فكيف لا يسألونه عن مثل هذا وقد نقل القاضي أبو بكر والجويني عن الشافعي أن الصحابي إذا ذكر خبراً أو أوله وذكر المراد منه فذلك مقبول قال ابن القشيري إنما أراد والله أعلم إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان لأنه اتباع للدليل لا اتباع لذلك التأويل . الحال السادس : أن يكون الخبر ظاهراً في شيء فيحمله الراوي من الصحابة على غير ظاهره إما بصرف اللفظ عن حقيقته أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بما يفيد صرفه عن الظاهر فذهب الجمهور من أهل الأصول إلى أنه يعمل بالظاهر ولا يصار إلى خلافه لمجرد قول الصحابي أو فعله . وهذا هو الحق لأنا متعبدون بروايته لا برأيه كما تقدم وذهب أكثر الحنفية إلى أنه يعمل بما حمله عليه الصحابي لأنه أخبر بمراد النبي صضص ويجاب عن هذا بأنه قد يحمله على ذلك على خلاف ظاهره اجتهاداً منه والحجة إنما هي روايته لا في رأيه وقد يحمله وهماً منه وقال بعض المالكية إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرى إلا بشواهد الأحوال والقرائن يمكن أن يكون بضرب من الاجتهاد كان الرجوع إلى الظاهر متعيناً لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقاً لما في نفس الأمر فلا يترك الظاهر بالمحتمل . ويجاب عنه بأن ذلك الحمل على خلاف الظاهر فيما ليس من مسارح الاجتهاد قد يكون وهماً فلا يجوز اتباعه على الغلط بخلاف العمل بما يقتضيه الظاهر فإنه عمل بما يقتضيه كلام الشارع فكان العمل عليه أرجح وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صضص لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
==
فصل في ألفاظ الرواية اعلم أن الصحابة إذا قال سمعت رسول الله صضص أو أخبرني أو حدثني فذلك لا يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صضص وما كان مروياً بهذه الألفاظ كشافهني رسول الله صضص أو رأيته يفعل كذا فهو حجة بلا خلاف وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صضص كأن يقول قال رسول الله صضص كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صضص وعلى تقدير أن ثم واسطة فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور وهو الحق وخالف في ذلك داود الظاهري فقال أنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ولا حجة لهذا فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب وقد أنكر هذه الرواية عن دود بعض أصحابه فإن قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا بصيغة المبني للمفعول فذهب الجمهور إلى أنه حجة لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة ، وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي والجويني والكرخي وكثير من المالكية أنه لا يكون حجة لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء والأمراء ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور . وحكى ابن السمعاني قولاً ثالثاً وهو الوقف ولا وجه له لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور وظهور وجه يدفع الوقف إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما . وحكى ابن الأثير في جامع الأصول قولاً رابعاً وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصفة حجة لأنه لم يتأمر عليه أحد وبين أن يكون القائل غيره فلا يكون حجة ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر والناهي غير صاحب الشريعة . وذكر ابن دقيق العيد في شرح الإلمام قولاً خامساً وهو الفرق بين كون قائله من أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة وبين كون قائله من غيرهم فلا يكون حجة ولا وجه لهذا أيضاً تقدم وأيضاً فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ويريد غير رسول الله صضص فإنه لا حجة في قول غيره ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صضص أو بعد موته فإن لها حكم الرفع وبها تقوم الحجة . ومثل هذا إذا قال من السنة كذا فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صضص وبه قال الجمهور وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم أنه يحمل على سنة رسول الله صضص في الظاهر وإن جاز خلافه ، وقال في الجديد يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة ويجاب عنه بأن هذا احتمال بعيد والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ليعملوا بها . فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون ؟ قال الكرخي والرازي والصيرفي أنه ليس بحجة لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة لاستناده إلى الشرع وحكى هذا الجويني عن المحققين ويجاب عنه بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع فلا يحمل عليه ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له . وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة . قال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي صضص وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم « سنة العمرين » ونحو ذلك فإن قال الصحابي كنا نفعل في عهد رسول الله صضص كذا أو كانوا يفعلون كذا فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صضص على ذلك ولا بد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صضص فتكون الحجة في التقرير وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا فقد يضاف فعل البعض إلى الكل . وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صضص ثلاثة أقوال فقال قبله أبو الفرج من أصحابنا ورده أكثر أصحابنا وهو الأظهر من مذهبهم قال القاضي أبو محمد والوجه التفصيل بين أن يكون شرعاً مستقلاً كقول أبي سعيد كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صضص صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير الحديث فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صضص فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل كقول رافع بن خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صضص حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صضص نهى عن ذلك ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وقيل أن ذكره الصحابي في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فلا وأما لو قال الصحابي كانوا يفعلون أو كنا نفعل ولا يقول على عهد النبي صضص فلا تقوم بمثل هذه الحجة لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صضص ولا هو حكاية للإجماع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
=======
وأما ألفاظ الرواية من غير الصحابي فلها مراتب بعضها أقوى من بعض المرتبة الأولى : أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ وهذه المرتبة هي الغاية في التحمل لأنها طريقة رسول الله صضص فإنه هو الذي كان يحدث أصحابه وهم يسمعون وهي أبعد من الخطأ والسهو . وقال أبو حنيفة أن قراءة التلميذ على الشيخ أقوى من قراءة الشيخ على التلميذ لأنه إذا قرأ التلميذ على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين وإذا قرأ الشيخ كانت المحافظة منه وحده وهذا ممنوع فالمحافظة في الطريقين كائنة من الجهتين قال الماوردي والروياني ويصح تحمل التلميذ عن الشيخ سواء كانت القراءة عن قصد أو اتفاقاً أو مذاكرة ويجوز أن يكون الشيخ أعمى على ما حفظه ويجوز أن يكون أصم ويجوز أن يكون التلميذ أعمى ولا يجوز أن يكون أصم وكما تجوز الرواية من حفظ الشيخ يجوز أن تكون من كتابه إذا كان واثقاً به ذاكراً لوقت سماعه له ، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا تجوز الرواية من الكتاب ولا وجه لذلك فإن يستلزم بطلان فائدة الكتاب ولا يبعد أن تكون الرواية من الكتاب الصحيح المسموع أثبت من الرواية من الحفظ لأن الحفظ مظنة السهو والنسيان والاشتباه . وللتلميذ في هذه المرتبة التي هي أقوى المراتب أن يقول حدثني وأخبرني وأسمعني وحدثنا وأخبرنا وأسمعنا إذا كان الشيخ قاصداً لإسماعه وحده أو مع جماعة فإن لم يقصد ذلك فيقول سمعته يحدث . المرتبة الثانية : أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع وأكثر المحدثين يسمون هذا عرضاً وذلك لأن التلميذ بقراءته على الشيخ ، كأنه يعرض عليه ما يقرؤه ولا خلاف أن هذه طريقة صحيحة ورواية معمول بها ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه . قال الجويني وشرط صحة هذه الطريقة أن يكون الشيخ عالماً بما يقرؤه التلميذ عليه ولو فرض منه تصحيف أو تحريف لرده عليه ، وإلا لم تصح الرواية عنه . قال وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتاً وأجراساً ولا يأمن تدليساً وإلباساً وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه ؟ قال أبو نصر القشيري وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي فإن صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل وإن لم يعرف معناه . وتصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه ، وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث وكيف لا وفي الحديث « رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه ويسند بذلك الحديث قال وقد صرح الإمام بجواز الإجازة والتعويل عليها وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز ، وقد وافق الجويني على ذلك الشرط الذي ذكره الكيا الطبري والمازري . ويقول التلميذ في هذه الطريقة قرأت على فلان أو أخبرني أو حدثني قراءة عليه وأما إطلاق أخبرني أو حدثني بدون تقييده بقوله قراءة عليه فمنع من ذلك جماعة منهم ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والنسائي لأن ظاهر ذلك يقتضي أن الشيخ هو الذي قرأ بنفسه ، وقال الزهري ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري أنه يجوز لأن القراءة على الشيخ كالقراءة منه ونقله الصيرفي والماوردي والروياني عن الشافعي ، وروي عن الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أنه يجوز في هذه الطريقة أن يقول أخبرنا ولا يجوز أن يقول حدثنا . قال الربيع قال الشافعي إذا قرأت على العالم فقل أخبرنا ، وإذا قرأ عليك فقل حدثنا . قال ابن دقيق العيد وهو باصطلاح المحدثين في الآخر والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين . قال ابن فورك بين حدثني وأخبرني فرق لأن أخبرني يجوز أن يكون بالكتابة إليه وحدثني لا يحتمل إلا السماع . المرتبة الثالثة : الكتابة المقترنة بالإجازة نحو أن يكتب الشيخ إلى التلميذ سمعت من فلان كذا وقد أجزت لك أن ترويه عني وكان خط الشيخ معروفاً فإن تجردت الكتابة عن الإجازة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين حتى قال ابن السمعاني أنها أقوى من مجرد الإجازة وقال الكيا الطبري إنها بمنزلة السماع قال لأن الكتابة أحد اللسانين ، وقد كان النبي صضص يبلغ بالكتابة إلى الغائبين كما يبلغ قبل الخطاب للحاضرين ، وكان رسول الله صضص يكتب إلى عماله تارة ويرسل أخرى . قال البيهقي في المدخل الآثار في هذا كثير من التابعين فمن بعدهم وفيها دلالة على أن جميع ذلك واسع عندهم وكتب النبي صضص شاهدة لقوله قال إلا أن ما سمعه من الشيخ فوعاه وقرأ عليه به أولى بالقبول مما كتب به إليه لما يخاف على الكتاب من التغيير . وكيفية الرواية أن يقول كتب إلي أو أخبرني كتابة ، فإن كان قد ذكر الأخبار في كتابه فلا بأس بقوله أخبرنا وجوز الرازي أن يقول التلميذ أخبرني مجرداً عن قوله كتابة . قال ابن دقيق العيد : وأما تقييده بقوله كتابة فينبغي أن يكون هذا أدباً ، لأن القول إذا كان مطابقاً جاز إطلاقه ، ولكن العمل مستمر على ذلك عند الأكثرين وجوز الليث بن سعد إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالكتابة . قال القاضي عياض إن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث الكتابة ووجوب العمل بها وأنها داخلة في المسند وذلك بعد ثبوت صحتها عند المكتوب إليه ووثوقه بأنها عن كاتبها ومنع قوم من الرواية بها منهم المازري والروياني ، وممن نقل إنكار قبولها الحافظ الدارقطني والآمدي . المرتبة الرابعة : المناولة وهو أن يناول الشيخ تلميذه صحيفة وهي على وجهين : الأول : أن تقترن بالإجازة وذلك بأن يدفع أصله أو فرعاً مقابلاً عليه ويقول هذا سماعي فاروه عني . أو يأتي التلميذ إلى الشيخ بجزء فيه سماعه فيعرضه على الشيخ ثم يعيده إليه ويقول هو من مروياتي فاروه عني . قال القاضي عياض في الإلماع أنها تجوز الرواية بهذه الطريقة بالإجماع . قال المازري لا شك في وجوب العمل بذلك ولا معنى للخلاف في ذلك . قال الصيرفي ولا نقول حدثنا ولا أخبرنا في كل حديث ، وروي عن أحمد وإسحاق ومالك أن هذه المناولة المقترنة بالإجازة كالسماع وحكاه الخطيب عن ابن خزيمة . الوجه الثاني : أن لا تقترن بالإجازة ، بل يناوله الكتاب ويقتصر على قوله هذا سماعي من فلان ولا يقول أروه عني فقال ابن الصلاح والنووي لا تجوز الرواية بها على الصحيح عند الأصوليين والفقهاء وحكى الخطيب عن قوم أنهم جوزوا الرواية بها وبه . قال ابن الصباغ والرازي قال البخاري واحتج بعض أهل الحجاز للمناولة بحديث النبي صضص حيث كتب لأمير السرية كتاباً وقال لا تقرأه حتى تبلغ كذا وكذا ، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صضص وأشار البيهقي إلى أنه لا حجة في ذلك . قال العبدري لا معنى لإفراد المناولة حتى يقول أجزت لك أن تروي عني وحينئذ فهو قسم من أقسام الإجازة . المرتبة الخامسة : الإجازة وهو أن يقول أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث بعينه أو هذا الكتاب أو هذه الكتب فذهب الجمهور إلى جواز الرواية بها ومنع من ذلك جماعة قال شعبة لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة ، وقال أبو زرعة الرازي لو صحت الإجازة لذهب العلم ومن المانعين إبراهيم الحربي وأبو الشيخ الأصفهاني والقاضي حسين والماوردي والروياني من الشافعية وأبو طاهر الدباس من الحنفية وقال من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني فكأنه قال أجزت لك أن تكذب علي . ويجاب عمن قال هؤلاء المانعون بأن الإجازة لا تستلزم بطلان الرحلة وأيضاً المراد من الرحلة تحصيل طريق الرواية وقد حصلت بالإجازة ولا تستلزم ذهاب العلم غاية ما في الباب من روى بالإجازة ترك ما هو أقوى منها من طرق الرواية وهي طريقة السماع والكل طرق للرواية والعلم محفوظ غير ذاهب بترك ما هو الأقوى . وأما قول الدباس إن الإجازة بمنزلة قول الشيخ لتلميذه أجزت لك أن تكذب علي فهذا خلف من القول وباطل من الكلام فإن المراد من تحصيل طريق الرواية هو حصول الثقة بالخبر وهي هنا حاصلة وإذا تحقق سماع الشيخ وتحقق أذنه للتلميذ بالرواية فقد حصل المطلوب من الإسناد ولا فرق بين الطريق المقتضية للرواية تفصيلاً في اتصاف كل واحدة منها بأنها طريق وإن كان بعضها أقوى من بعض . وإذا عرفت هذا علمت أنه لا وجه لما قاله ابن حزم في كتاب الأحكام أنه بدعة غير جائزة . واختلفوا هل يجوز للتلميذ أن يقول في الإجازة حدثني أو أخبرني أو حدثنا أو أخبرنا من غير تقييد بكون ذلك إجازة فمنهم من أجازه ومنهم من منعه إلا بالقيد المذكور وهو أن يقول حدثني إجازة أو أخبرني إجازة . قال ابن دقيق العيد وأجود العبارات في الإجازة أن يقول أجاز لنا . وقيل يجوز أن يقول أنبأني بالاتفاق وهذه الطريقة على أنواع . النوع الأول : أن يجيز في معين لمعين نحو أن يقول أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي فجوز هذا الجمهور ومنعه جماعة منهم الجويني . النوع الثالث : أن يجيز غير معين بغير معين نحو أن يقول أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي جميع مروياتي وقد جوز هذا جماعة منهم الخطيب وأبو الخطيب وأبو الطيب الطبري . ومنعه آخرون وهذا فيما إذا كان المجاز له أهلاً للرواية ، وأما إذا لم يكن أهلاً لها كالصبي فجوز ذلك قوم ومنعه آخرون واحتج الخطيب للجواز بأن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه والإباحة تصح للمكلف وغيره ولا بد من تقييد قول من قال بالجواز بأن لا يروي من ليس بمتأهل للرواية إلا بعد أن يصير متأهلاً لها . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
فصل الصحيح من الحديث الصحيح من الحديث هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط من غير شذوذ ولا علة قادحة فما لم يكن متصلاً ليس بصحيح ولا تقوم به الحجة ومن ذلك المرسل ، وهو أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول الله صضص ويقول قال رسول الله صضص هذا اصطلاح جمهور أهل الحديث ، وأما جمهور أهل الأصول فقالوا المرسل قول من لم يلق النبي صضص قال رسول الله صضص سواء كان من التابعين أو من تابعي التابعين أو ممن بعدهم وإطلاق المرسل على هذا وإن كان اصطلاحاً ولا مشاحة فيه لكن محل الخلاف هو المرسل باصطلاح أهل الحديث فذهب الجمهور إلى ضعفه وعدم قيام الحجة به لاحتمال أن يكون التابعي سمعه من بعض التابعين فلم يتعين أن الواسطة صحابي لا غير حتى يقال قد تقرر أن الصحابة عدول فلا يضر حذف الصحابي وأيضاً يحتمل أنه سمعه من مدع يدعي أن له صحبة ولم تصح صحبته وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وجمهور المعتزلة واختاره الآمدي إلى قبوله وقيام الحجة به . حتى قال بعض القائلين بقبول المرسل أنه أقوى من المسند لثقة التابعي بصحته ولهذا أرسله وهذا غلو خارج عن الإنصاف والحق عدم القبول لما ذكرت من الاحتمال قال الآمدي وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين دون من عداهم ولعله يستدل على هذا بحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وقيد هذا من قال به بأن يكون الراوي من أئمة النقل واختاره ابن الحاجب فإنه قال فإن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا قال ابن عبد البر لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير محترز يرسل عن غير الثقات قال وهذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صضص مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار أو أبو أمامة بن سهل بن حنيف أو عبد الله بن عامر بن ربيعة ومن كان مثلهم عن النبي صضص كذلك من دون هؤلاء كسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد ومن كان مثلهم وكذلك علقمة ومسروق بن الأجدع والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومن كان مثلهم الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم ونحوه مرسل من دونهم كحديث الزهري وقتادة وأبي حازم ويحيى بن سعيد عن رسول الله صضص فيسمى مرسلاً كمرسل كبار التابعين . وقال آخرون حديث هؤلاء عن النبي صضص يسمى منقطعاً لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين انتهى . وفي هذا التمثيل نظر فأبو أمامة بن سهل بن حنيف وعبد الله بن عامر معدودان في الصحابة وأيضاً قوله في آخر كلامه أن الزهري ومن ذكر معه لم يلقوا إلا الواحد والاثنين من الصحابة غير صحيح فقد لقي الزهري أحد عشر رجلاً من الصحابة . قال ابن عبد البر أيضاً وأصل مذهب مالك وجماعة من أصحابه أن مرسل الثقة يجب به الحجة ويلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء طائفة من أصحابنا مراسيل الثقات مقبولة بطريق أولى واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ومن أرسل من الأئمة حديثاً مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته قال والمشهور أنهما سواء في الحجة لأن السلف فعلوا الأمرين قال وممن ذهب إليه أبو الفرج عمر بن محمد المالكي وأبو بكر الأبهر وهو قول أبي جعفر الطبري وزعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين انتهى . ويجاب عن قوله من أرسل من علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته أن الثقة قد يظن من ليس بثقة ثقة عملاً بالظاهر ويعلم غيره من حاله ما يقدح فيه والجرح مقدم على التعديل ويجاب عن قول الطبري إنه لم ينكره أحد إلى رأس المائتين بما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين مع كون ذلك التابعي ثقة محتجاً به في الصحيحين وبما نقله مسلم أيضاً عن ابن سيرين أنه قال كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قيل سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ عنهم وإلى أهل البدع فلا يؤخذ عنهم . ونقل الحافظ أبو عبد الله الحاكم أن المرسل ليس بحجة عن إمام التابعين سعيد بن المسيب وعن مالك بن أنس وجماعة من أهل الحديث ونقله غيره عن الزهري والأوزاعي وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك وغيره قال الخطيب لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بتدليس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه كرواية سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر والحسن البصري وقتادة وغيرهم من التابعين عن رسول الله صضص فإنه قيل هو مقبول إذا كان المرسل ثقة عدلاً وهو قول مالك وأهل المدينة وأبي حنيفة وأهل العراق وغيرهم . وقال الشافعي لا يجب العمل وعليه أكثر الأئمة . واختلف مسقطو العمل بالمرسل في قبول رواية الصحابة خبراً عن النبي صضص ولم يسمعه منه كقول أنس بن مالك ذكر لي أن النبي صضص قال لمعاذ من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة الحديث فقال بعض من لا يقبل مراسيل الصحابة لا نشك في عدالتهم ولكنه قد يروي الراوي عن تابعي أو عن أعرابي لا نعرف صحبته ولو قال لا أروي لكم إلا من سماعي أو من صحابي لوجب علينا قبول مرسله وقال آخرون مراسيل الصحابة كلهم مقبولة لكون جميعهم عدولاً وأن الظاهر فيما أرسلوه أنهم سمعوه من النبي صضص أو من صحابي سمعه من النبي صضص وأما ما رووه عن التابعين فقد بينوه وهو أيضاً قليل نادر لا اعتبار به قال وهذا هو الأشبه بالصواب ثم رجح عدم قبول مراسيل غير الصحابة فقال والذي نختاره سقوط فرض الله بالمرسل بجهالة راويه ولا يجوز قبول الخبر إلا عمن عرفت عدالته ولو قال المرسل حدثني العدل الثقة عندي بكذا لم يقبل حتى يذكر اسمه . مسألة : ولا تقوم الحجة بالحديث المنقطع وهو الذي سقط من رواته واحد ممن دون الصحابة ولا بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات ولا عبرة بكون الراوي لما هذا حال ثقة متثبتاً لأنه قد يخفي عليه من حال من يظنه ثقة ما هو جرح فيه . ولا تقوم الحجة أيضاً بحديث يقول فيه بعض رجال إسناده عن رجل أو عن شيخ أو عن ثقة أو نحو ذلك لما ذكرنا من العلة وهذا مما لا ينبغي أن يخالف فيه أحد من أهل الحديث ولا اعتبار بخلاف غيرهم لأن من لم يكن من أهل الفن لا يعرف ما يجب اعتباره .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
=====
فصل في العدالة وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلا بد من معرفة الطريقة التي تثبت بها وأقوى الطرق المفيدة لثبوتها الاختبار في الأحوال بطول الصحابة والمعاصرة والمعاملة فإذا لم يعثر عليه فعل كبيره ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية فهو ثقة وإلا فلا ثم التزكية وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره والجمهور على قبوله ويكفي أن يقول هو عدل . قال القرطبي لا بد أن يقول هذا عدل رضى ولا يكفي الاقتصار على أحدهما ولا وجه لهذا بل الاقتصار على أحدهما أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال وأما التعديل من واحد فقط فقيل لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة وحكاه القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء قال ابن الأنباري وهو قياس مذهب مالك وقيل يقبل قال القاضي والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً شاهداً أو مخبراً وقيل يشترط في الشهادة اثنان ويكفي في الرواية واحد كما يكفي في الأصل لأن الفرع لا يزيد على الأصل وهو قول الأكثرين كما حكاه الآمدي والصفي الهندي قال ابن الصلاح وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره لأن العدد لا يشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح رواته ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة وأطلق في المحصول قبول تزكية المرأة ، وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل لا في الشهادة ولا في الرواية ثم اختار قبول قومه لها فيهما كما يقبل روايتها وشهادتها انتهى . ولا بد من تقييد هذا بكونها ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله أو يكون الذي وقعت تزيكة المرأة له مثلها ويدل على هذا سؤاله صضص للجارية في قصة الإفك عن حال أم المؤمنين عائشة . وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشاهدته كذا قال الجويني والقاضي أبو بكر وغيرهما قال القاضي وهو أقوى من تزكيته باللفظ ، وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا قال لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده وقيده الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب قال ابن دقيق العيد وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه أما إذا أجزناه فعلمه بالشهادة ظاهراً يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطناً . ومن طرق التزكية الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة فإن ذلك يكفي . قال ابن الصلاح وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في أصول الفقه وممن ذكره من المحدثين الخطيب ومثله بنحو مالك وشعبة والسفيانين وأحمد وابن معين وابن المديني وغيرهم قال القاضي أبو بكر الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة وكأن أمرهما متشكلاً ملتبساً وصرح بأن الاستفاضة أقوى من تقوية الواحد والاثنين قال ابن عبد البر كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صضص يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتبعه على ذلك جماعة من المغاربة وهذا الحديث رواه العقيلي في ضعفائه من جهة ابن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري وقال لا يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف وإبراهيم قال فيه القطان لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا وقال الخلال في كتاب العلل : سئل أحمد عن هذا الحديث . فقيل له : ترى أنه موضوع ؟ فقال : لا هو صحيح . قال ابن الصلاح وفيما قاله اتساع غير مرضي . ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي حكاه أبو الطيب الطبري عن الشافعية ونقل فيه الآمدي الاتفاق واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي والغزالي في المنخول وقال الجويني فيه أقوال : أحدها أنه تعديل له ، والثاني أن ليس بتعديل ، والثالث قال وهو الصحيح أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر ووافق عليه الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل واختار هذا القاضي في التقريب . قال وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا بموجب الخبر فإن الأول يقتضي أنه مستنده والثاني لا يقتضي ذلك لجواز أن يعمل به لدليل آخر وقال الغزالي إن أمكن حمله على الاحتياط فليس بتعديل وإلا فهو تعديل وكذا قال الكيا الطبري ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لا لاعتضاده بذلك فليس بتعديل . ومن طريقة التزكية أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك فإن ذلك تعديل كما اختاره الجويني وابن القشيري والغزالي والآمدي والصفي الهندي وغيرهم قال الماوردي هو قول الحذاق ولا بد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهوراً بيناً إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته بحيث لا تختلف في بعض الأحوال فإن لم يظهر ذلك ظهوراً بيناً فليس بتعديل فإن كثيراً من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ولبيان حالها ومن هذه الطريقة قولهم رجاله رجال الصحيح وقولهم روى عنه البخاري ومسلم أو أحدهما . فرع اختلف أهل العلم في تعديل المبهم كقولهم : « حدثني الثقة أو حدثني العدل » فذهب جماعة إلى عدم قبوله ومنهم أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي والقاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والماوردي والروياني وقال أبو حنيفة يقبل والأول أرجح لأنه وإن كان عدلاً عنده فربما لو سماه كان مجروحاً عند غيره قال الخطيب لو صرح بأن جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يسمه لم نعمل بروايته لجواز أن نعرفه إذا ذكره بخلاف العدالة قال نعم لو قال العالم كل ما أروي عنه وأسميه فهو عدل رضى مقبول الحديث كان هذا القول تعديلاً لكل من روى عنه وسماه كما سبق انتهى . ومن هذا قول الشافعي في مواضع كثيرة حدثني الثقة وكذا كان يقول مالك وهذا إذا لم يعرف من لم يسمه أما إذا عرف بقرينة حال أو مقال كان كالتصريح باسمه فينظر فيه . قال أبو حاتم إذا قال الشافعي أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك وإذا قال أخبرني الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان وإذا قال أخبرني الثقة عن الوليد بن كثير فهو عمرو بن أبي سلمة وإذا قال أخبرني الثقة عن ابن جريح فهو مسلم بن خالد الزنجي وإذا قال أخبرني الثقة عن صالح مولى التوأمة فهو إبراهيم بن أبي يحيى . فرع آخر هل يقبل الجرح والتعديل من دون ذكر السبب أم لا ؟ فذهب جماعة إلى أنه لا بد من ذكر السبب فيهما وذهب آخرون إلى أنه لا يجب ذكر السبب فيهما إذا كان بصيراً بالجرح والتعديل واختار هذا القاضي أبو بكر وذهب جماعة إلى أنه يقبل التعديل من غير ذكر السبب بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد وأيضاً سبب الجرح مختلف فيه بخلاف سبب التعديل أو إلى هذا ذهب الشافعي . قال القرطبي وهو الأكثر من قول مالك قال الخطيب وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم وذهب جماعة إلى أنه يقبل الجرح من غير ذلك السبب ولا يقبل التعديل إلا بذكر السبب قالوا لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الظاهر والحق أنه لا بد من ذكر السبب في الجرح والتعديل لأن الجارح والمعدل قد يظنان ما ليس بجارح جارحاً وقد يظنان ما لا يستقل بإثبات العدالة تعديلاً ولا سيما مع اختلاف المذاهب في الأصول والفروع فقد يكون ما أبهمه الجارح من الجرح هو مجرد كونه على غير مذهبه وعلى خلاف ما يعتقده وإن كان حقاً وقد يكون ما أبهمه من التعديل هو مجرد كونه على مذهبه وعلى ما يعتقده وإن كان في الواقع مخالفاً للحق كما وقع ذلك كثيراً . وعندي أن الجرح المعمول به هو أن يصفه بضعف الحفظ أو بالتساهل في الرواية أو بالإقدام على ما يدل على تساهله بالدين ، والتعديل المعمول به هو أن يصفه بالتحري في الرواية والحفظ لما يرويه وعدم الإقدام على ما يدل على تساهله بالدين فاشدد على هذا يديك تنتفع به عند اضطراب أمواج الخلاف . فإن قلت إذا ورد الجرح المطلق كقول الجارح ليس بثقة أو ليس بشيء أو هو ضعيف فهل يجوز العمل بالمروي مع هذا أم لا ؟ (قلت) يجب حينئذ التوقف حتى يبحث المطلع على ذلك على حقيقة الحال في مطولات المصنفات في هذا الشأن كتهذيب الكمال للمزي وفروعه وكذا تاريخ الإسلام وتاريخ النبلاء والميزان للذهبي . فرع ثالث في تعارض الجرح والتعديل وعدم إمكان الجمع بينهما وفيه أقوال : الأول : أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين وبه قال الجمهور كما نقله عنهم الخطيب والباجي ونقل القاضي فيه الإجماع قال الرازي والآمدي وابن الصلاح إنه الصحيح لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل قال ابن دقيق العيد وهذا إنما يصح على قول من قال أن الجرح لا يقبل إلا مفسراً ، وقد استثنى أصحاب الشافعي من هذا ما إذا جرحه بمعصية وشهد الآخر أن قد تاب منها فإنه يقدم في هذه الصورة التعديل لأن معه زيادة علم . القول الثاني : أنه يقدم التعديل على الجرح لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحاً والمعدل إذا كان عدلاً لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحاً حكى هذا الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ولا بد من تقييد هذا القول بالجرح المجمل إذ لو كان الجرح مفسراً لم يتم ما علل به أن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحاً إلخ . القول الثالث : أنه يقدم الأكثر من الجارحين والمعدلين . قال في المحصول وعدد المعدل إذا زاد قيل أنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد . القول الرابع : أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح حكى هذا القول ابن الحاجب وقد جعل القاضي في التقريب محل الخلاف فيما إذا كان عدم المعدلين أكثر فإن استووا قدم الجرح بالإجماع وكذا قال الخطيب في الكفاية وأبو الحسين بن القطان وأبو الوليد الباجي وخالفهم أبو نصر القشيري ، فقال محل الخلاف فيما إذا استوى عدد المعدلين والجارحين قال فإن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقيل العدالة في هذه الصورة أولى انتهى . والحق الحقيق بالقبول أن ذلك محل اجتهاد للمجتهد وقد قدمنا أن الراجح أنه لا بد من التفسير في الجرح والتعديل فإذا فسر الجارح ما جرح به والمعدل ما عدل به لم يخف على المجتهد الراجح منهما من المرجوح وأما على القول بقبول الجرح والتعديل المجملين من عارف فالجرح مقدم على التعديل لأن الجارح لا يمكن أن يستند في جرحه إلى ظاهر الحال بخلاف المعدل فقد يستند إلى ظاهر الحال وأيضاً حديث من تعارض فيه الجرح والتعديل المجملان قد دخله الاحتمال فلا يقبل . فصل اعلم أن ما ذكرناه من (وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابة فأما فيهم فلا لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم) حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين قال القاضي هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتاباً وسنة كقوله سبحانه كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطاً أي عدولاً وقوله لقد رضي الله عن المؤمنين وقوله والسابقون وقوله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله صضص خير القرون قرني وقولهم في حقهم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه وهما في الصحيح وقوله أصحابي كالنجوم على مقال فيه معروف قال الجويني ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة ولو ثبت التوقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ولما استرسلت على سائر الأعصار قال الكيا الطبري وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل مأجور ، وكما قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا . القول الثاني : أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها قال أبو الحسين بن القطان فوحشي قتل حمزة وله صحبة والوليد شرب الخمر فمن ظهر عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة انتهى . وهذا كلام ساقط جداً فوحشي قتل حمزة وهو كافر ثم أسلم وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف وأما صحابياً عن صحبته قال الرازي في المحصول وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الحافظ عنه في كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملاً ومفصلاً ، أما مجملاً فإنه روى من طعن بعضهم في بعض أخباراً كثيرة يأتي تفصيلها ، وقال رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذباً وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقاً . والجواب مجملاً أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم عن المطاعن وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه . القول الثالث : أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فيجب البحث عنهم . وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً أي من الطرفين لأن الفاسق من الفريقين غير معين وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة ، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها وفيه أيضاً أن الباغي غير معين من الفريقين وهو معين بالدليل الصحيح وأيضاً التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين . القول الرابع : أنهم كلهم عدول إلا من قاتل علياً ، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله وتهاوناً بدينه وجناب الصحبة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالماً وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ولا غمسوا فيها أيديهم وقد عدلوا تعديلاً عاماً بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء على والتأويل لما يقتضي خلافه . القول الخامس : أن من كان مشتهراً منهم بالصحبة والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته دون من قلت صحبته ولم يلازم وإن كانت له رواية ، كذا قال الماوردي وهو ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صضص قليلاً ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم . قال المزي إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق ، وقال ابن الأنباري وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صضص حتى يثبت خلافه ولا التفات إلى ما ذكره أهل السير فإن لا يصح وما يصح فله تأويل صحيح انتهى . وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم . فرع إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول فلا بد من بيان من يستحق اسم الصحبة ، وقد اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي صضص مؤمناً به ولو ساعة سواء روى عنه أم لا وقيل هو من طالت صحبته وروى عنه فلا يستحق اسم الصحبة إلا من يجمع بينهما ، وقيل هو من ثبت له أحدهما أما قول الصحبة أو الرواية والحق ما ذهب إليه الجمهور وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحصل له منه إلا مجرد اللقاء القليل والرؤية ولو مرة ، وقد ذكر بعض أهل العلم اشتراط الإقامة مع النبي صضص سنة فصاعداً أو الغزو معه روي ذلك عن سعيد بن المسيب وقيل ستة أشهر ولا وجه لهذين القولين لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة الذين رووا عنه ولم يبقوا الدية إلا دون ذلك وأيضاً لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع وحكى القاضي عياض عن الواقدي أنه يشترط أن يكون بالغاً وهو ضعيف لاستلزامه لخروج كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة ورووا عن النبي صضص ولم يبلغوا إلا بعد موته ولا تشترط الرؤية للنبي صضص لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم قد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة ، وقد ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أهل الأصول أن الخلاف في مثل هذه المسألة لفظي ولا وجه لذلك فإن من قال بالعدالة على العموم ولا يطلب تعديل أحد منهم ومن اشترط في شروط الصحبة شرطاً لا يطلب التعديل مع وجود ذلك الشرط ويطلبه مع عدمه فالخلاف معنوي لا لفظي . فرع آخر ويعرف كون الصحابي صحابياً بالتواتر والاستفاضة وبكون من المهاجرين أو من الأنصار وبخبر صحابي آخر معلوم الصحبة . واختلفوا هل يقبل قوله أنه صحابي أم لا فقال القاضي أبو بكر يقبل لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب إذا لم يرو عن غيره ما يعارض قوله وبه قال ابن الصلاح والنووي وتوقف ابن القطان في قبول قوله بأنه صحابي وروي عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول ، فقال ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره انتهى . واعلم أنه لا بد من تقييد قول من قال بقبول خبره أنه صحابي بأن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه وإلا لزم قبول خبر كثير من الكذابين الذين ادعوا الصحبة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
==
المقصد الثالث الإجماع وفيه أبحاث البحث الأول : في مسماه لغة واصطلاحاً قال في المحصول الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين : أحدهما : العزم قال الله تعالى : فأجمعوا أمركم ، وقال صضص لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل . وثانيهما : الاتفاق ، يقال أجمع القوم على كذا أي صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر انتهى . واعترض على هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بعلى والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بعلى وأجيب عنه بما حكاه ابن فارس في المقاييس فإنه قال يقال أجمعت على الأمر إجماعاً وأجمعته ، وقد جزم بكونه مشتركاً بين المعنيين أيضاً الغزالي ، وقال القاضي : العزم يرجع إلى الاتفاق لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه ، وقال ابن برهان وابن السمعاني الأول أي العزم أشبه باللغة والثاني أي الاتفاق أشبه بالشرع ويجاب عنه بأن الثاني وإن كان أشبه بالشرع فذلك لا ينافي كونه معنى لغوياً وكون اللفظ مشتركاً بينه وبين العزم قال أبو علي الفارسي : يقال أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر . وأما في الاصطلاح فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صضص بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور والمراد بالاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل ويخرج بقوله مجتهدي أمة محمد صضص اتفاق العوام فإنه لا عبرة بوفاقهم ولا بخلافهم ويخرج منه أيضاً اتفاق بعض المجتهدين وبالإضافة إلى أمة محمد صضص خرج اتفاق الأمم السابقة ويخرج بقوله بعد وفاته الإجماع في عصره صضص فإن لا اعتبار به ويخرج بقوله في عصر من الأعصار ما يتوهم من أن المراد بالمجتهدين جميع مجتهدي الأمة في جميع الأعصار إلى يوم القيامة فإن هذا توهم باطل لأنه يؤدي إلى عدم ثبوت الإجماع إذا لا إجماع يوم القيامة وبعد يوم القيامة لا حاجة للإجماع والمراد بالعصر عصر من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة فلا يعتد بمن صار مجتهداً بعد حدوثها وإن كان المجتهدون فيها أحياء وقوله على أمر من الأمور يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات ومن اشترط في حجية الإجماع انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر زاد في الحد قيد الانقراض ومن اشترط عدم سبق خلاف مستقر زاد في الحد قيد عدم كونه مسبوقاً بخلاف . ومن اشترط عدالة المتفقين أو بلوغهم عدد التواتر زاد في الحد ما يفيد ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
==
البحث الثاني : في إمكان الإجماع في نفسه فقال قوم منهم النظام وبعض الشيعة بإحالة إمكان الإجماع قالوا إن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوماً بالضرورة محال كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال . وأجيب بأن الاتفاق إنما يمتنع فيما يستوي فيه الاحتمال كالمأكول المعين والكلمة المعينة أما عند الرجحان بقيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد . قالوا ثانياً أن اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم وانتشارهم في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم . وأجيب بمنع كون الانتشار يمنع ذلك من جدهم في الطلب وبحثهم عن الأدلة وإنما يمتنع ذلك على من قعد في قعر بيته لا يبحث ولا يطلب . قالوا ثالثاً الاتفاق إما عن قاطع أو ظني وكلاماً باطل أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله فلو كان لنقل ، فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد كيف ولو نقل لأغنى عن الإجماع ، وأما الظني فلأنه يمتنع الاتفاق عادة لاختلاف الأفهام وتباين الأنظار وأجيب بمنع ما ذكر في القاطع إذ قد يستغني عن نقله بحصول الإجماع الذي هو أقوى منه وأما الظني فقد يكون جلياً لا تختلف فيه الأفهام ولا تتباين فيه الأنظار فهذا أعني منع إمكان الإجماع في نفسه هو المقام الأول . المقام الثاني : على تقدير تسليم إمكانه في نفسه منع إمكان العلم به فقالوا لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانياً أما الوجداني فكما يجد أحدنا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صضص ليس من هذا الباب ، وأما الذي لا يكون وجدانياً فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفة لا مجال للعقل فيها إذ كون الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق ولا مجال أيضاً للحس فيها لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته فإذا العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم وذلك متعذر قطعاً ومن ذلك الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب وسائر البلاد الإسلامية فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم فضلاً عن اختيار أحوالهم ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم ومن لم يكن من أهله ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة فضلاً عن الإقليم الواحد فضلاً عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس فضلاً عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها وأيضاً قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام فإنهم قد يعتقدون شيئاً إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر فيمكن أن يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع أهل بلدة أخرى بل لو فرضنا حتماً اجتماع العالم بأسرهم في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفاً فيه وسكت تقية وخوفاً على نفسه . وأما ما قيل من أنا نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة نبينا محمد صضص فإن أراد الاتفاق باطناً وظاهراً مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري وإن أراد ظاهراً فقط استناداً إلى الشهرة والاستفاضة فليس هذا هو المعتبر في الإجماع بل المعتبر فيه العلم بما يعتقده كل واحد من المجتهدين في تلك المسألة بعد معرفة أنه لا حاصل له على الموافقة وأنه يدين الله بذلك ظاهراً وباطناً ولا يمكنه معرفة ذلك منه إلا بعد معرفته بعينه ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذراً ظاهراً واضحاً ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال : « من ادعى وجوب الإجماع فهو كاذب » . والعجب من اشتداد نكير القاضي أبي بكر على من أنكر تصور وقوع الإجماع عادة فإن إنكاره على المنكر هو المنكر وفصل الجويني بين كليات الدين فلا يمتنع الإجماع عليها وبين المسائل المظنونة قلا يتصور الإجماع عليها عادة ولا وجه لهذا التفصيل فإن النزاع إنما هو في المسائل التي دليلها الإجماع وكليات الدين معلومة بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة . وجعل الأصفهاني الخلاف في غير إجماع الصحابة وقال الحق تعذر الاطلاع على الإجماع لا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة وأما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعمل به قال وهو اختيار أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية قال والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوباً في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة وأما من بعدهم فلا . انتهى . المقام الثالث : النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به قالوا لو سلمنا إمكان ثبوت الإجماع عند الإجماع عند الناقلين له لكان نقله إلى من يحتج به من بعدهم مستحيل لأن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد والعادة تحيل النقل تواتر البعد أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقاً وغرباً ويسمعوا ذلك منهم ثم ينقلوه إلى عدد متواتر ممن بعدهم ثم كذلك في كل طبقة إلى أن يتصل به وأما الآحاد فغير معمول به في نقل الإجماع كما سيأتي . وأجيب بأنه تشكيك في ضروري للقطع بإجماع أهل كل عصر على تقديم القاطع على المظنون ولا يخفاك ما في هذا الجواب من المصادرة على المطلوب وأيضاً كون ذلك معلوماً ليس من جهة نقل الإجماع عليه بل من جهة كون كل متشرع لا يقدم الدليل الظني على القطعي ولا يجوز منه ذلك لأن إيثار للحجة الضعيفة على الحجة القوية وكل عاقل لا يصدر منه ذلك . المقام الرابع : اختلف على تقدير تسليم إمكانه في نفسه وإمكان العلم به وإمكان نقله إلينا هل هو حجة شرعية فذهب الجمهور إلى كونه حجة وذهب النظام والإمامية وبعض الخوارج إلى أن ليس بحجة وإنما الحجة مستندة أن ظهر لنا وإن لم يظهر لم نقدر للإجماع دليلاً تقوم به الحجة . واختلف القائلون بالحجية هل الدليل على حجيته العقل والسمع أم السمع فقط فذهب أكثرهم إلى أن الدليل على ذلك إنما هو السمع فقط ومنعوا ثبوته من جهة العقل . قالوا لأن العدد الكثير وإن بعد في العقل اجتماعهم على الكذب فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ كاجتماع الكفار على جحد النبوة ، وقال جماعة منهم أيضاً أنه لا يصح الاستدلال على ثبوت الإجماع بالإجماع كقولهم إنهم أجمعوا على تخطئة المخالف للإجماع لأن ذلك إثبات للشيء بنفسه وهو باطل فإن قالوا إن الإجماع دل على نص قاطع في تخطئة المخالف ففيه إثبات الإجماع بنص يتوقف على الإجماع وهو دور . وأجيب بأن ثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها على وجود النص لا يتوقف على كون الإجماع حجة فلا دور ولا يخفاك ما في هذا الجواب من التعسف الظاهر ولا يصح أيضاً الاستدلال عليه بالقياس لأنه مظنون ولا يحتج بالمظنون على القطعي فلم يبق إلا دليل النقل من الكتاب والسنة . فمن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين قوله : ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه سبحانه جمع بين مشاقة الرسول وأتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحاً لما جمع بينه وبين المحظور فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة . وأجيب بأنا لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين في الآية هو إجماعهم لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم في متابعة الرسول صضص أو في مناصرته أو في الاقتداء به أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال . قال في المحصول أن المشاقة عبارة عن الكفر بالرسول وتكذيبه وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول وذلك باطل لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة . ويجاب بأن العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفاً بالجمع بين الضدين وهو محال ثم قال لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً عند المشاقة كان اتباع سبيل المؤمنين واجباً عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثاً وهو عدم الاتباع أصلاً . سلمنا أنه يجب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة ولكن لا نسلم أنه ممتنع قوله المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر بيانه أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق والآخر في الشق الآخر وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغه . سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلم قلتم إن حصول الكفر ينافي العمل بالإجماع فإن الكفر بالرسول كما يكون بالجهل بكونه صادقاً فقد يكون أيضاً بأمور أخر كشد الزنار ولبس الغيار وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالنبي صضص مع الاعتراف بكونه نبياً وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبياً وشيء من هذه الأنواع كفر لا ينافي العلم بوجوب الإجماع . ثم قال سلمنا أن الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى لأنه ذكر مشاقة الرسول صضص فيها تبين الهدى ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين فيجب أن يكون تبين الهدى شرطاً في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذلك الحكم وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة أيضاً فالإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه . فهم منه تبين صدق قوله بشيء غير قوله فكذا هنا وجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشيء ورآه الإجماع وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع فائدة . سلمنا أنها تقتضي المنع عن متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن هل المراد عن كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك الأول ممنوع وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ مفرد فلا يفيد العموم وأما بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية أن من اتبع كل ما كان مغايراً لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو الكفر بالله وتكذيب الرسول صضص وهذا التأويل متعين لوجهين : لأنا إذا قلنا لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به صالحين ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شيء حتى الأكل والشرب . والثاني : أن الآية أنزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر ، والثاني أن الآية غير سبيلهم مطلقاً لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكاً ولا بد من صرفه إلى المجاز وليس البعض أولى من البعض فتبقى الآية مجملة وأيضاً فإنه لا يمكن جعله مجازاً عن اتفاق الأمة على الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمة محمد صضص على شيء من الأحكام وشرط حسن التجوز حصول المناسبة . سلمنا أنه يجوز جعله مجازاً عن ذلك الاتفاق لكن يجوز أيضاً جعله مجازاً عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشيء فإما أن يكون الإجماع عن استدلال فقد حصل لهم سبيلان الفتوى والاستدلال عليه فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوكة توصل البدن إلى المطلوب هكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل موصلة للذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز . وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب أتباعها في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إيجاب الاستدلال بما استدلوا به على ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة ، وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال فالقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع . ثم قال سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة لكنها إما أن تدل على متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق لأن إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين الذين يوجدون إلى يوم القيامة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين . فإن قلت المؤمنون هم المصدقون والموجودون ، وأما الذين لم يوجودا بعد فليسوا المؤمنين . قلت إذا وجد أهل العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول عند حضور أهل العصر الثاني قولاً لكل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني . سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صضص فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صضص فمهما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى بعد وفاة الرسول صضص وأنها اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع ولكن ذلك غير معلوم في شيء من الاجتماعات الموجودة في المسائل بل المعلوم خلافه لأن كثيراً منهم مات زمان حياة النبي صضص فسقط الاستدلال بهذه الآية . ثم قال سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة لكن دلالة قطعية أم ظنية الأول ممنوع والثاني مسلم لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالأدلة الظنية . قال فإن قلت أنا نجعل هذه المسألة ظنية قلت إن أحداً من الأئمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلاً أصلاً ومنهم من جعله دليلاً قاطعاً فلو اقتناه دليلاً ظنياً لكان هذا تخطئة لكل الأمة وذلك يقدح في الإجماع . والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع ومخالفة كافر وفاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة . سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب والسنة والعقل . أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل والفعل الباطل كقوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والنهي عن الشيء لا يجوز إلا إذا كان المنهى عنه متصوراً . وأما السنة فكثير منها قصة معاذ فإنه لم يجر فيها ذكر الإجماع ولو كان ذلك مدرجاً شرعياً لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ومنها قوله صضص لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي ومنها قوله صضص لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقوله صضص إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وقوله صضص : تعلموا الفرائض وعلموها فإنها أول ما ينسى ، وقوله صضص : من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل . وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات . وأما المعقول فمن وجهين : الأول : أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه فوجب جوازه على الكل كما أنه لما كان كل واحد من الزنج أسود كان الكل أسود . الثاني : أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة أو لأمارة فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العالم تكون واقعة عظيمة ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا وكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة وحينئذ لا يبقى في التمسك بالإجماع فائدة وإن كان لأمارة فهو محال لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها ولأن في الأمة من لم يقل بقول الأمارة حجة فلا يمكن اتفاقهم لأجل الأمارة على الحكم وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ بالإجماع فلو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل وذلك قادح في الإجماع هذا كلام صاحب المحصول وقد أسقطنا منه ما فيه ضعف وما اشتمل على تعسف وفي الذي ذكرناه ما يحتمل المناقشة وقد أجاب عن هذا الذي ذكرناه عنه بجوابات متعسفة يستدعي ذكرها ذكر الجواب عليها منا فيطول البحث جداً ولكنك إذا عرفت ما قدمناه كما ينبغي علمت أن الآية لا تدل على مطلوب المستدلين بها . ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس فأخبر سبحانه عن كون هذه الأمة وسطاً والوسط من كل شيء خياره فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأمة ، فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة . لا يقال الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة لأنا نقول يتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه وحينئذ تجب عصمتهم عن الخطأ قولاً وفعلاً . هذا تقرير الاستدلال بهذه الآية . وأجيب بأن عدالة الرجل عبارة عن قيامه بأداء الواجبات واجتناب المقبحات وهذا من فعله وقد أخبر سبحانه أنه جعلهم وسطاً فاقتضى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله وذلك يقتضي أن يكون غير عدالتهم التي ليست من فعل الله وأجيب أيضاً بأن الوسط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدل يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل . سلمنا أن الوسط من كل شيء خياره فلم قلتم بأن خبر الله تعالى عن خيريتهم يقتضي اجتنابهم لكل المحظورات ولم لا يقال إنه يكفي فيه اجتنابهم للكبائر وأما الصغائر فلا ؟ وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم . ومما يؤيد هذا أنه سبحانه حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة . سلمنا أن المراد اجتنابهم الصغائر والكبائر لكنه سبحانه قد بين أن اتصافهم بذلك ليكونوا شهداء على الناس ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تكون في الآخرة فيجب وجوب تحقق عدالتهم هنالك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حال الأداء لا حال التحمل ، سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا لكن المخاطب بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول الآية وإذا كان كذلك فهذا يقتضي عدالة أولئك دون غيرهم . وقد أجيب عن هذا الجواب بأن الله سبحانه عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد إلا والمخبر عنه مطابق للخبر فلما أطلق الله سبحانه القول بعدالتهم وجب أن يكونوا عدولاً في كل شيء بخلاف شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وإن جازت عليهم الصغيرة لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى بالظاهر . وقوله الغرض من هذه العدالة أداء هذه الشهادة في الآخرة وذلك يوجب عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا يقال لو كان المراد صيرورتهم عدولاً في الآخرة لقال سنجعلكم أمة وسطاً ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة فلا يبقى في الآية تخصيص لأمة محمد صضص بهذه الفضيلة وكونه الخطاب لمن كان موجوداً عند نزول الآية ممنوع وإلا لزم اختصاص التكاليف الشرعية بمن كان موجوداً عند النزول وهو باطل . ولا يخفاك ما في هذه الأجوبة من الضعف وعلى كل حال فليس في الآية دلالة على محل النزاع أصلاً فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولاً لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية نعم بها البلوى فإن ذلك أمر إلى الشارع لا إلى غيره وغاية ما في الآية أن يكون قولهم مقبولاً إذا أخبرونا عن شيء من الأشياء وأما كون اتفاقهم على أمر ديني يصير ديناً ثابتاً عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس في الآية ما يدل على هذا ولا هي مسوقة لهذا المعنى ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام . ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وهذه الخيرية توجب الحقيقة لما أجمعوا عليه وإلا كان ضلالاً فماذا بعد الحق إلا الضلال وأيضاً لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف وهو خلاف المنصوص والتخصيص بالصحابة لا يناسب وروده في مقابلة أمم سائر الأنبياء . وأجيب بأن الآية مهجورة الظاهر لأنها تقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم خلافه ولو سلمنا ذلك لم نسلم أنهم يأمرون بكل معروف هكذا قيل في الجواب ولا يخفاك أن الآية لا دلالة لها على محل النزاع ألبتة فإن اتصافهم بكونهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تصير ديناً ثابتاً على كل الأمة بل المراد أنهم يأمرون بما هو معروف في هذه الشريعة وينهون عما هو منكر فيها فالدليل على كون ذلك الشيء معروفاً أو منكراً هو الكتاب أو السنة لا إجماعهم غاية ما في الباب إن إجماعهم يصير قرينة على أن في الكتاب والسنة ما يدل على ما أجمعوا عليه وإما إنه دليل بنفسه فليس في هذه الآية ما يدل على ذلك . ثم الظاهر أن المراد من الأمة هذه الأمة بأسرها لا أهل عصر من العصور بدليل مقابلتهم بسائر أمم الأنبياء فلا يتم الاستدلال بها على محل النزاع وهو إجماع المجتهدين في عصر من العصور . ومن جملة ما استدلوا به من السنة ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر عنه صضص أنه قال لن تجتمع أمتي على الضلالة وتقرير الاستدلال بهذا الحديث أن عمومه ينفي وجود الضلالة والخطأ ضلالة فلا يجوز الإجماع عليه فيكون ما أجمعوا عليه حقاً . وأخرج أبو داود عن أبي مالك الأشعري عنه صضص أنه قال : إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة . وأخرجه الترمذي عن ابن عمر عنه صضص أنه قال : لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار . وأخرج ابن أبي عاصم عن أنس مرفوعاً نحوه بدون قوله ويد الله مع الجماعة الخ ويجاب عنه بمنع كون الخطأ المظنون ضلالة . وأخرج البخاري ومسلم من حديث المغيرة أنه صضص قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ، وأخرج نحوه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث ثوبان ، وأخرج نحوه مسلم أيضاً من حديث عقبة بن عامر . ويجاب عن ذلك بأن غاية ما فيه أنه صضص أخبر عن طائفة من أمته بأنهم يتمسكون بما هو الحق ويظهرون على غيرهم فأين هذا من محل النزاع ؟ ثم قد ورد تعيين هذا الأمر الذي يتمسكون به ويظهرون على غيرهم بسببه فأخرج مسلم من حديث عقبة مرفوعاً لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك وأخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين ، وأخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعاً لزهير : لا يزال هذا الدين قائماً تقاتل عنه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ومن جملة ما استدلوا به حديث من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر وليس في إلا المنع من مفارقة الجماعة فأين هذا من محل النزاع وهو كون ما أجمعوا عليه حجة ثابتة شرعية وكتاب الله وسنة رسوله موجودان بين أظهرنا وقد وصف الله سبحانه كتابه بقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء فلا يرجع في تبيين الأحكام إلا إليه وقوله سبحانه فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول والرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول الرد إلى سنته . والحاصل أنك إذا تدبرت ما ذكرناه في هذه المقامات وعرفت ذلك حق معرفته تبين لك ما هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ولو سلمنا جميع ما ذكره القائلون بحجية الإجماع وإمكانه وإمكان العلم به فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون ما أجمعوا عليه حقاً ولا يلزم من كون الشيء حقاً وجوب اتباعه كما قالوا أن كل مجتهد مصيب ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه في ذلك الاجتهاد بخصوصه . وإذا تقرر لك هذا علمت ما هو الصواب وسنذكر ما ذكره أهل العلم في مباحث الإجماع من غير تعرض لدفع ذلك اكتفاء بهذا الذي حررناه هنا .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
======
البحث الثالث : اختلف القائلون بحجية الإجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية ؟ فذهب جماعة منهم إلى أنه حجة قطعية وبه قال الصيرفي وابن برهان وجزم به من الحنفية الدبوسي وشمس الأئمة ، وقال الأصفهاني أن هذا القول هو المشهور وأنه يقدم الإجماع على الأدلة كلها ولا يعارضه دليل أصلاً ونسبه إلى الأكثرين . قال بحيث يكفر مخالفه أو يضلل يبدع وقال جماعة منهم الرازي والآمدي أنه لا يفيد إلا الظن ، وقال جماعة بالتفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فيكون حجة قطعية وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي وما ندر مخالفه فيكون حجة ظنية ، وقال البزدوي وجماعة من الحنفية الإجماع مراتب فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السابق بمنزلة خبر الواحد واختار بعضهم في الكل أنه ما يوجب العمل لا العلم فهذه مذاهب أربعة ، ويتفرع عليها الخلاف في كونه يثبت بأخبار الآحاد والظواهر أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت بهما قال القاضي في التقريب وهو الصحيح وذهب جماعة إلى ثبوته بهما في العمل خاصة ولا ينسخ به قاطع كالحال في أخبار الآحاد وقال دل الدليل على قبولها في العمليات ، وأجاب الجمهور عن هذا بأن أخبار الآحاد قد دل الدليل على قبولها ولم يثبت مثل ذلك في الإجماع فإن ألحقناه بها كان إلحاقاً بطريق القياس وصحح هذا القول عبد الجبار والغزالي . قال الرازي في المحصول الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة خلافاً لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعاً للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياساً على السنة ولأنا قد بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكيف القول في تفاصيله ؟ انتهى . قال الآمدي والمسألة دائر على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعاً به وعلى عدم اشتراطه فمن شرط القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيداً في نقل الإجماع ومن لم يشترط لم يمنع وكلام الجويني يشعر بأن الخلاف ليس مبنياً على هذا الأصل بل هو جار مع القول بأن أصل الإجماع ظني وإذا قلنا بالاكتفاء بالآحاد في نقله كالسنة فهل ينزل الظن المتلقي من أمارات وحالات منزلة الظن الحاصل من نقل العدول ، قال ابن الأنباري فيه خلاف .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث الرابع : اختلفوا فيما ينعقد به الإجماع فقال جماعة لا بد من مستند لأن أهل الإجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الأحكام فوجب أن يكون عن مستند ولأنه لو انعقد عن غير مستند لاقتضى إثبات نوع بعد النبي صضص وهو باطل ، وحكى عبد الجبار عن قوم أنه يجوز أن يكون عن غير مستند وذلك بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من دون مستند وهو ضعيف لأن القول في دين الله لا يجوز بغير دليل . وذكر الآمدي أن الخلاف في الجواز لا في الوقوع ورد عليه بأن ظاهر الخلاف في الوقوع قال الصيرفي ويستحيل أن يقع الإجماع بالتواطؤ ولهذا كانت الصحابة لا يرضى بعضهم من بعض بذلك بل يتباحثون حتى أحوج بعضهم القول في الخلاف إلى المباهلة فثبت أن الإجماع لا يقع منهم إلا عن دليل . وجعل الماوردي والروياني أصل الخلاف هل الإلهام دليل أم لا ؟ وقد اتفق القائلون بأنه لا بد له من مستند إذا كان عن دلالة واختلفوا فيما إذا كان عن أمارة فقيل بالجواز مطلقاً سواء كانت الأمارة جلية أو خفيفة قال الزركشي في البحر ونص عليه الشافعي فجوز الإجماع عن قياس وهو قول الجمهور قال الروياني وبه قال عامة أصحابنا وهو المذهب قال ابن القطان لا خلاف بين أصحابنا في جواز وقوع الإجماع عنه في قياس المعنى على المعنى وأما قياس الشبه فاختلفوا فيه على وجهين وإذا وقع عن الأمارة وهي المفيد للظن وجب أن يكون الظن صواباً للدليل على العصمة . والثاني : المنع مطلقاً وبه قال الظاهرية ومحمد بن جرير الطبري فالظاهرية منعوه لأجل إنكارهم القياس ، وأما ابن جرير فقال القياس حجة ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعاً بصحته واحتج ابن القطان على ابن جرير بأنه قد وافق على وقوعه عن خبر الواحد وهم مختلفون فيه فكذلك القياس . ويجاب عنه بأن خبر الواحد قد أجمعت عليه الصحابة بخلاف القياس . والمذهب الثالث : التفصيل بين كون الأمارة جلية فيجوز انعقاد الإجماع عنها أو خفية فلا يجوز حكاه ابن الصباغ عن بعض الشافعية . والمذهب الرابع : أنه لا يجوز الإجماع إلا عن أمارة ولا يجوز عن دلالة للاستغناء بها عنه حكاه السمرقندي في الميزان عن مشايخهم وهو قادح فيما نقله البعض من الإجماع على جواز انعقاد الإجماع عن دلالة . ثم اختلف القائلون يجوز انعقاد الإجماع عن غير دليل هل يكون حجة فذهب الجمهور إلى أنه حجة ، وحكى ابن فورك وعبد الوهاب وسليم الرازي عن قوم منهم أنه لا يكون حجة ثم اخنلفوا هل يجب على المجتهد أن يبحث عن مستند الإجماع أم لا ؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق لا يجب على المجتهد طلب الدليل الذي وقع الإجماع به فإن ظهر له ذلك أو نقل إليه كان أحد أدلة المسألة . قال أبو الحسن السهيلي : إذا أجمعوا على حكم ولم يعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره يجب المصير إليه لأنهم لا يجمعون إلا من دلالة ولا يجب معرفتها . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث الخامس : هل يعتبر في الإجماع المجتهد المبتدع إذا كانت بدعته تقتضي تكفيره فقيل لا يعتبر في الإجماع . قال الزركشي بلا خلاف لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه . قال الصفي الهندي لو ثبت لكان لا يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره بسبب ذلك الاعتقاد لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره وإثبات كفره بإجماعنا وحده دور ، وأما إذا وافقنا هو على ما ذهب إليه كفر فحينئذ يثبت كفره لأن قوله معتبر في الإجماع لكونه من أهل الحل والعقد . قال الهندي وهو الصحيح . الثاني : لا يعتبر . قال الأستاذ أبو منصور قال أهل السنة لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة وهكذا رواه أشهب عن مالك ورواه العباس بن الوليد عن الأوزاعي ، ورواه أبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن وحكاه أبو ثور عن أئمة الحديث قال أبو بكر الصيرفي ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل العلم ، وإن اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر ومن رأى الأرجاء وغير ذلك من اختلاف آراء أهل الكوفة والبصرة إذا كان من أهل الفقه فإذا قيل قالت الخطابية والرافضة كذا لم يلتفت إلى هؤلاء في الفقه لأنهم ليسوا من أهله ، قال ابن القطان الإجماع عندنا إجماع أهل القلم ، فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه . قال قال أصحابنا في الخوارج لا مدخل لهم في الإجماع والاختلاف لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين . وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى واستقرأه من قول أحمد لقوله لا يشهد عندي رجل ليس هو عندي بعدل وكيف أجوز حكمه . قال القاضي يعني الجهمي : القول الثالث : أنه لا ينعقد عليه الإجماع ، وينعقد على غيره يعني أنه يجوز له مخالفة من عداه إلى ما أدى إليه اجتهاده ولا يجوز لأحد أن يقلده كذا حكاه الآمدي وتابعه المتأخرون . القول الرابع : التفصيل بين من كان من المجتهدين المبتدعين داعية فلا يعتبر في الإجماع وبين من لم يكن داعية فيعتبر حكاه ابن حزم في كتاب الأحكام ونقله عن جماهير سلفهم من المحدثين قال وهو قول فاسد لأنا نراعي العقيدة . قال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس ونسبه إلى الجمهور وتابعهم إمام الحرمين والغزالي قالوا لأن من أنكر لا يعرف طرق الاجتهاد ، وإنما هو متمسك بالظواهر فهو كالعامي الذي لا معرفة له ، ولا يخفاك أن هذا التعليل يفيد خروج من عرف القياس وأنكر العمل به كما كان من كثير من الأئمة فإنهم أنكروه عن علم به لا عن جهل له . قال الننوي في باب السواك من شرح مسلم إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون ، وقال صاحب المفهم جل الفقهاء والأصوليين أنه لا يعتد بخلافهم بل هم من جملة العوام وأن من اعتد بهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع والحق خلافه ، وقال القاضي وعبد الوهاب في الملخص يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ويمنع العموم ومن حمل الأمر على الوجوب لأن مدار الفقه على هذه الطرق ، وقال الجويني المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزناً لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ولا تفي النصوص بعضر معاشرها . ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة علم بأن نصوص الشريعة جمع جم ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول . وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها ، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه ألبتة قليلة جداً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث السادس : إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد لم ينعقد إجماعهم إلا به كما حكاه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني وأبو الحسن السهيلي ، قال القاضي عبد الوهاب أنه الصحيح ونقله السرخسي من الحنفية عن أكثر أصحابهم . قال ولهذا قال أبو حنيفة لا يثبت إجماع الصحابة في الأشعار لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عصر الصحابة فلا يثبت إجماعهم بدون قوله والوجه في هذا القول أن الصحابة عند إدراك بعض مجتهدي التابعين فيهم هم بعض الأمة لا كلها ، وقد سئل ابن عمر عن فريضة ، فقال اسألوا ابن جبير فإنه أعلم بها وكان أنس يسأل فيقول سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا . وسئل ابن عباس عن دلج الولد فأشار إلى مسروق ، فلما بلغه جوابه تابعه عليه ، وقال جماعة إنه لا يعتبر المجتهد التابعي الذي أدرك عصر الصحابة في إجماعهم وهو مروي عن إسماعيل بن علية ونفاه القياس وحكاه الباجي عن ابن خواز منداد واختاره ابن برهان في الوجيز . وقيل إن بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة ، ثم وقعت حادثة فأجمعوا عليها وخالفهم لم ينعقد إجماعهم ، وإن أجمعوا قبل بلوغه رتبة الاجتهاد فمن اعتبر انقرض العصر اعتد بخلافه ومن لم يعتبره لم يعتد بخلافه ، وقال القفال إذا عاصرهم وهو غير مجتهد ثم اجتهد ففيه وجهان يعتبر ولا يعتبر . قال بعضهم أنه إذا تقدم الصحابة على اجتهاد التابعي فهو محجوج بإجماعهم قطعاً ، قال الآمدي القائلون بأنه لا ينعقد إجماعهم دونهم اختلفوا فمن لم يشترط انقراض العصر قال إن كان من أهل الاجتهاد قبل إجماع الصحابة لم ينعقد إجماعهم وإلا لم يعتد بخلافه ، قال وهذا مذهب الشافعي وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة وهي رواية عن أحمد ومن اشترط انقراض العصر ، قال لا ينعقد إجماع الصحابة به مع مخالفته وإن بلغ الاجتهاد حال انعقاد إجماعهم أو بعد ذلك في عصرهم قال وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلاً وهو مهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث السابع : إجماع الصحابة حجة بلا خلاف ونقل القاضي عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة أن إجماعهم ليس بحجة ، وقد ذهب إلى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة داود الظاهري وهو ظاهر كلام ابن حبان في صحيحه وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال في رواية أبي داود عنه الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي صضص وعن أصحابه وهو في التابعين مخير ، وقال أبو حنيفة إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا وإذا أجمع التابعون زاحمناهم . قال أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل النقل عن داود بما إذا أجمعوا على حكم من جهة القياس فاختلفوا فيه ، وقال ابن وهب ذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط وهو قول لا يجوز خلافه لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف . فإن قيل فما تقولون في إجماع من بعدهم قلنا هذا لا يجوز لأمرين أحدهما أن النبي صضص أنبأ عن ذلك ، فقال لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين والثاني أن تسعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تمكن من ضبط أقوالهم ومن ادعى هذا لا يخفي على أحد كذبه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث الثامن : إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور لأنهم بعض الأمة ، وقال مالك إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم . قال الشافعي في كتاب اختلاف الحديث قال بعض أصحابنا إنه حجة وما سمعت أحد ذكر قوله إلا عابه وأن ذلك عندي معيب ، وقال الجرجاني إنما أراد مالك الفقهاء السبعة وحدهم والمشهور عنه الأول ويشكل على ما روى عن مالك من حجية إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرئ من العيب أصلاً علمه أو جهله ، ثم خالفهم فلو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسع مخالفته ، وقال الباجي إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقة النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صضص فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء وحكاه القاضي في التقريب عن شيخه الأبهري وقيل يرجح نقلهم عن نقل غيرهم وقد أشار الشافعي إلى هذا في القديم ورجح رواية وحكى يونس بن عبد الأعلى قال قال الشافعي إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به . وقال القاضي عبد الوهاب : إجماع أهل المدينة على ضربين نقلي واستدلالي فالأول على ثلاثة أضرب منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صضص إما قول أو فعل أو إقرار فالأول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس ونحوهن والثاني نقلهم المتصل كعهدة الرقيق وغير ذلك كتركهم أخذ الزكاة من الخضروات مع أنها كانت تزرع بالمدينة وكان النبي صضص والخلفاء بعده لا يأخذون منها قال وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس به لا اختلاف بين أصحابنا فيه . قال والثاني وهو إجماعهم من طريق الاستدلال فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه أحدها أنه ليس بإجماع ولا بمرجح وهو قول أبي بكر وأبي يعقوب الرازي والقاضي أبي بكر وابن فورك والطيالسي وأبي الفرج والأبهري وأنكر كونه مذهباً لذلك . ثانيها أنه مرجح وبه قال بعض أصحاب الشافعي . ثالثها أنه حجة ولم يحرم خلافه وإليه ذهب قاضي القضاة أبو الحسين بن عمر . قال أبي العباس القرطبي أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه لأنه من باب النقل المتواتر ولا فرق بين القول والفعل والإقرار كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي فإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق ولا شك أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر ، ثم قال والنوع الاستدلالي أن عارضه خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا ، وقد صار جماعة إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها . وإجماع أهل الحرمين مكة والمدينة وأهل المصرين البصرة والكوفة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة ، وقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة ولا وجه لذلك وقد قدمنا قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة فمن قال بذلك فهو قائل بحجية إجماع أهل مكة والمدينة والمصرين بالأولى . قال القاضي وإنما خصوا هذه المواضع يعني القائلين بحجية إجماع أهلها لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة ، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ . قال الزركشي وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في كل عصر بل في عصر الصحابة فقط ، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قيل أن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء في هذه البقاع وغير مسلم أنهم اجتمعوا فيها ، وذهب الجمهور أيضاً إلى إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة وروى عن أحمد أنه حجة ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه حجة لما ورد ما يفيد ذلك كقوله صضص بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وقوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وهما حديثان صحيحان ونحو ذلك . وأجيب بأن الحديثين دليلاً على أنهم أهل للاقتداء بهم لا على أن قولهم حجة على غيرهم فإن المجتهد مستعبد بالبحث عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقاً ولو كان مثل ذلك يفيد حجية قول الخلفاء أو بعضهم لكان حديث رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد يفيد حجية قول ابن مسعود وحديث أن أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة يفيد حجية قوله وهما حديثان صحيحان وهكذا حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم يفيد حجية قول كل واحد منهم وفيه مقال معروف لأن في رجاله عبد الرحيم العمي عن أبيه وهما ضعيفان جداً بل قال ابن معين إن عبد الرحيم كذاب وقال البخاري متروك وكذا قال أبو حاتم وله طريق أخرى فيها حمزة النصيبي وهو ضعيف جداً . قال البخاري منكر الحديث ، وقال ابن معين لا يساوي فلساً ، وقال ابن عدي عامة مروياته موضوعة وروي أيضاً من طريق جميل بن زيد وهو مجهول . وذهب الجمهور أيضاً إلى أن إجماع العشرة وحدها ليس بحجة وقالت الزيدية والإمامية هو حجة واستدلوا بقوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً والخطأ رجس فوجب أن يكونوا مطهرين عنه . وأجيب بأن سياق الآية يفيد أنه في نسائه صضص ويجاب عن هذا الجواب بأنه قد ورد الدليل الصحيح أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين وقد أوضحنا الكلام في هذا في تفسيرنا الذي سميناه فتح القدير فليرجع إليه ولكن لا يخفاك أن كون الخطأ رجس لا يدل عليه لغة ولا شرع فإن معناه في اللغة القذر ويطلق في الشرع على العذاب كما في قوله سبحانه قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب وقوله من رجز أليم والرجز الرجس . واستدلوا بمثل قوله قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى وبأحاديث كثيرة جداً تشتمل على مزيد شرفهم وعظيم فضلهم ولا دلالة فيها على حجية قولهم وقد أبعد من استدل بها على ذلك وقد عرفناك في حجية إجماع أهل الأمة ما هو الحق ووروده على القول بحجية بعضها أولى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث التاسع : اتفق القائلون بحجية الإجماع أنه لا يعتبر من سيوجد ولو اعتبر ذلك لم يكن ثم إجماع إلا عند قيام الساعة وعند ذلك لا تكليف فلا يكون في الإجماع فائدة وقد روي الخلاف في ذلك عن أبي عيسى الوارث وأبي عبد الرحمن الشافعي كما حكاه الأستاذ أبو منصور . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث العاشر : اختلفوا هل يشترط انقراض عصر أهل الإجماع في حجية إجماعهم أم لا فذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط وذهب جماعة من الفقهاء ومنهم أحمد بن حنبل وجماعة من المتكلمين منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك إلى أنه يشترط ، وقيل إن كان الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما فلا يشترط وإن كان الإجماع بالسكوت عن مخالفة القائل فيشترط . روي هذا عن أبي علي الجبائي ، وقال الجويني إن كان عن قياس كان شرطاً وإلا فلا . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث الحادي عشر : في الإجماع السكوتي وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار وفيه مذاهب . الأول : أنه ليس بإجماع ولا حجة قاله داود الظاهري وابنه والمرتضى وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره وقال أنه آخر أقوال الشافعي ، وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه . والقول الثاني : أنه إجماع وحجة وبه قال جماعة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول وروي نحوه عن الشافعي . قال الأستاذ أبو إسحق : اختلف أصحابنا في تسميته إجماعاً مع اتفاقهم على وجوب العلم به ، وقال أبو الإسفرائيني هو حجة مقطوع بها وفي تسميته إجماعاً من الشافعية قولان : أحدهما المنع وإنما هو حجة كالخبر والثاني يسمى إجماعاً وهو قولنا . انتهى . واستدل القائلون بهذا القول بأن سكوتهم ظاهر في الموافقة إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة فكان ذلك محصلاً للظن بالاتفاق ، وأجيب باحتمال أن يكون سكوت من سكت على الإنكار لتعارض الأدلة عنده أو لعدم حصول ما يفيده الاجتهاد في تلك الحادثة إثباتاً أو نفياً أو للخوف على نفسه أو ذلك من الاحتمالات . القول الثالث : أنه حجة وليس بإجماع قاله أبو هاشم وهو أحد الوجهين عند الشافعي كما سلف وبه قال الصيرفي واختاره الآمدي . قال الصفي الهندي ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول يعني أنه اجتماع لا حجة ويمكن القول به كالإجماع المروي بالأحاديث عند من لم يقل بحجيته . القول الرابع : أنه إجماع بشرط انقراض العصر لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا وبه قال أنه على الجبائي وأحمد في رواية عنه ونقله ابن فورك في كتاب عن أكثر أصحاب الشافعي ونقله الأستاذ أبو طاهر البغدادي عن الحذاق منهم واختاره ابن القطان والروياني . قال الرافعي إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي ، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع أنه المذهب قال : فأما قبل الانقراض ففيه طريقان إحداهما أنه ليس بحجة قطعاً والثانية على وجهين . القول الخامس : أنه إجماع إن كان فتياً لا حكماً وبه قال ابن أبي هريرة كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب ، ووجه هذا القول أنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم وقيل أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه فلا يكون السكوت دليل الرضا ونقل ابن السمعاني عن ابن أبي هريرة أنه احتج لقوله هذا بقوله أنا نحضر مجلس بعض الحكام ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ولا ننكر ذلك عليهم فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك . القول السادس : أنه إجماع إن كان صادراً عن فتيا قاله أبو إسحاق المروزي وعلل ذلك بأن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشاورة وحكاه ابن القطان عن الصيرفي . القول السابع : أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج كان إجماعاً وإلا فهو حجة وفي كونه إجماعاً وجهان : حكاه الزركشي ولم ينسبه إلى قائل . القول الثامن : إن كان الساكتون أقل كان إجماعاً وإلا فلا ، قاله أبو بكر الرازي وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن الشافعي . قال الزركشي وهو غريب لا يعرفه أصحابه . القول التاسع : إن كان في عصر الصحابة كان إجماعاً وإلا فلا . قال الماوردي في الحاوي والروياني في البحر إن كان عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولاً أو حكم به فأمسك الباقون فهذا ضربان : أحدهما مما يفوت استدراكه كإراقة دم واستباحة فرج فيكون إجماعاً لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم وفي كونه إجماعاً يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا : أحدهما يكون إجماعاً لا يسوغ معه الاجتهاد ، والثاني لا يكون إجماعاً سواء كان القول فتيا أو حكماً على الصحيح . القول العاشر : أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعاً وبه قال إمام الحرمين الجويني قال الغزالي في المنخول المختار أنه لا يكون حجة إلا في صورتين : أحدهما سكوتهم وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع والدواعي تتوفر على الرد عليه . الثاني : ما يسكتون عليه على استمرار العصر وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافاً فأما إذا حضروا مجلساً فأفتى واحد وسكت آخرون فذلك اعتراض لكون المسألة مظنونة والأدب يقتضي أن لا يعترض على القضاة والمفتين . القول الحادي عشر : أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول واختار هذا الغزالي في المستصفى وقال بعض المتأخرين أنه أحق الأقوال لأن إفادة القرائن العلم بالرضا كإفادة النطق له فيصير كالإجماع القطعي . القول الثاني عشر : أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غيره وهذا التفصيل لا بد منه على جميع المذاهب السابقة هذا في الإجماع السكوتي إذا كان سكوتاً عن قول . وأما لو اتفق أهل الحل والعقد على عمل ولم يصدر منهم قول واختلفوا في ذلك ، فقيل إنه كفعل رسول الله صضص لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثوبتها للشارع فكانت أفعالهم كأفعاله وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ، وقال الغزالي في المنخول أنه المختار ، وقيل بالمنع ونقله الجويني عن القاضي إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عدداً على فعل واحد من غير أرباب فالتواطؤ عليه غير ممكن ، وقيل إنه ممكن ولكنه محمول على الإباحة حتى يقوم دليل على الندب أو الوجوب وبه قال الجويني قال القرافي وهذا تفصيل حسن ، وقيل إن كل فعل خرج مخرج البيان أو مخرج الحكم لا ينعقد به الإجماع وبه قال ابن السمعاني .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث الثاني عشر : هل يجوز الإجماع على شيء وقد وقع الإجماع على خلافه فقيل إن كان الإجماع الثاني من المجمعين على الحكم الأول كما لو اجتمع أهل مصر على حكم ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع عنه وأجمعوا على ذلك الذي ظهر لهم ففي جواز الرجوع خلاف مبني على الخلاف المتقدم في اشتراط انقراض عصر أهل الإجماع فمن اعتبره جوز ذلك ومن لم يعتبره لم يجوزه ، أما إذا كان الإجماع من غيرهم فمنعه الجمهور لأنه يلزم تصادم الإجماعين وجوزه أبو عبد الله البصري قال الرازي وهو الأولى . واحتج الجمهور بأن كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له وقال أبو عبد الله البصري إنه لا يقتضي ذلك لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية هي حصول إجماع آخر قال الصفي الهندي ومأخذ أبي عبد الله قوي ، وحكى أبو الحسن السهيلي في آداب الجدل له في هذه المسألة أنها إذا أجمعت الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على قول آخر فعن الشافعي جوابان : أحدهما : وهو الأصح أنه لا يجوز وقوع مثله لأن النبي صضص أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة . والثاني : لو صح وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة وقال وقيل إن كل واحد منهما حق وصواب على قول من يقول إن كل مجتهد مصيب وليس بشيء انتهى . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث الثالث عشر : في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف قال الرازي في المحصول : إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك إجماعاً لا تجوز مخالفته خلافاً لكثير من المتكلمين وكثير من الفقهاء الشافعية والحنفية ، وقيل هذه المسألة على وجهين : أحدهما : أن لا يستقر الخلاف وذلك بأن يكون أهل الاجتهاد في مهلة النظر ولم يستقر لهم قول كخلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قتال مانعي الزكاة وإجماعهم عليه بعد ذلك ، فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع صارت المسألة إجماعية بلا خلاف ، وحكى الجويني والهندي أن الصيرفي خالف في ذلك . الوجه الثاني : أن يستقر الخلاف ويمضي عليه مدة ، فقال القاضي أبو بكر بالمنع وإليه مال الغزالي ونقله ابن برهان في الوجيز عن الشافعي وجزم به الشيخ أبو إسحاق في اللمع ونقل الجويني عن أكثر أهل الأصول الجواز واختاره الرازي والآمدي ، وقيل بالتفصيل وهو الجواز فيما كان دليل خلافه القاطع عقلياً كان أو نقلياً ونقل الأستاذ أبو منصور إجماع أصحاب الشافعي على أنه حجة وبذلك جزم الماوردي والروياني فأما لو وقع الخلاف بين عصر ثم ماتت إحدى الطائفتين من المختلفين وبقيت الطائفة الأخرى ، فقال الأستاذ أبو إسحاق إنه يكون قول الباقين إجماعاً واختاره الرازي والهندي قال الرازي في المحصول لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت أدلة الإجماع ورجح القاضي في التقريب أنه لا يكون إجماعاً قال لأن الميت في حكم الباقي الموجود والباقون هم بعض الأمة لا كلها وجزم به الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب الجدل وكذا الخوارزمي في الكافي ، وحكى أبو بكر الرازي في هذه المسألة قولاً ثالثاً ، فقال إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة لأن قول الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منه زمان وقد شهدت ببطلان قول المنقرضة فوجب أن يكون قولها حجة وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعاً لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث الرابع عشر : إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث اختلفوا في ذلك على أقوال : الأول : المنع مطلقاً لأنه كاتفاقهم على أنه لا قول سوى هذين القولين . قال الأستاذ أبو منصور وهو قول الجمهور قال الكيا إنه صحيح وبه الفتوى وجزم به القفال الشاشي والقاضي أبو الطيب الطبري والروياني والصيرفي ولم يحكيا خلافه إلا عن بعض المتكلمين ، وحكى ابن القطان الخلاف في ذلك عن داود . القول الثاني : الجواز مطلقاً حكاه ابن برهان وابن السمعاني عن بعض الحنفية والظاهرية ونسبه جماعة منهم القاضي عياض إلى داود وأنكر ابن حزم على من نسبه إلى داود . القول الثالث : إن ذلك القول الحادث بعد القولين إن لزم منه رفعهما لم يجز إحداثه وإلا جاز ، وروي هذا التفصيل عن الشافعي واختاره المتأخرون من أصحابه ورجحه جماعة من الأصوليين منهم ابن الحاجب واستدلوا له بأن القول الحادث الرافع للقولين مخالف لما وقع الإجماع عليه والقول الحادث الذي لم يرفع القولين غير مخالف لهما بل موافق لكل واحد منهما من بعض الوجوه . ومثل الاختلاف على قولين : الاختلاف على ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فإنه يأتي في القول الزائد على الأقوال التي اختلفوا فيها ما يأتي في القول الثالث من الخلاف . ثم لا بد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر أما إذا لم يستقر فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث الخامس عشر : إذا استدل أهل العصر بدليل وأولوا بتأويل فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء الأول أو إحداث تأويل غير التأويل الأول فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لأن الإجماع والاختلاف إنما هو في الحكم على الشيء بكونه كذا ، وأما الاستدلال بالدليل أو العمل بالتأويل فليس من هذا الباب . قال ابن القطان وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم ويكون إجماعاً على الدليل لا على الحكم . وأجيب عنه بأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها نعم إن أجمعوا على إنكار الدليل الثاني لم يجز إحداثه لمخالفة الإجماع وذهب بعض أهل العلم إلى الوقف وذهب ابن حزم إلى التفصيل بين النص فيجوز الاستدلال به ويبين غيره فلا يجوز إحداثه وبين الخفي فيجوز لجواز اشتباهه على الأولين . قال أبو الحسين البصري إلا أن يكون في صحة ما استدلوا به إبطال ما أجمعوا عليه ، وقال سليم الرازي إلا أن يقولوا ليس فيها دليل إلا الذي ذكرناه فيمتنع . وأما إذا عللوا الحكم بعلة فهل يجوز لمن بعدهم أن يعلله بعلة أخرى ؟ فقال الأستاذ أبو منصور وسليم الرازي هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا لا علة إلا هذه أو تكون العلة الثانية مخالفة للعلة الأولى في بعض الفروع فتكون حينئذ الثانية فاسدة . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث السادس عشر : هل يمكن وجود دليل لا معارض له اشترك أهل الإجماع في عدم العلم به قيل بالجواز إن كان عمل الأمة موافقاً له وعدمه إن كان مخالفاً له واختار هذا الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي ، وقيل بالجواز مطلقاً ، وقيل بالمنع مطلقاً . قال الرازي في المحصول يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به لأن عدم العلم بذلك الشيء إذا كان صواباً لم يلزم من إجماعهم عليه محذور . وللمخالف أن يقول لو اجتمعوا على عدم العلم بذلك الشيء لكان عدم العلم به سبيلاً لهم وكان يجب اتباعهم فيه حتى يحرم تفصيل العلم به . قال الزركشي في البحر هما مسألتان : إحداهما : هل يجوز اشتراك الأمة في الجهل بما لم يكلفوا به ؟ فيه قولان . الثانية : هل يمكن وجود خبر أو دليل لا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به ؟ وأما ذكر واحد من المجمعين خبراً عن الرسول صضص يشهد بصحة الحكم الذي انعقد عليه الإجماع ؟ فقال ابن برهان في الوجيز أنه يجب عليه ترك العمل بالحديث ، وقال قوم إن ذلك يستحيل وهو الأصح من المذاهب فإن الله سبحانه عصم الأمة عن نسيان حديث في الحادثة ولولا ذلك خرج الإجماع عن أن يكون قطعياً وبناه في الأوسط على الخلاف في انقراض العصر فمن قال ليس بشرط منع الرجوع ومن اشترط جوزه والجمهور على الأول يتطرق إلى الحديث احتمالات من النسخ والتخصيص ما لا يتطرق إلى الإجماع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
البحث السابع عشر : لا اعتبار بقول العوام في الإجماع ولا وفاقاً ولا خلافاً عند الجمهور لأنهم ليسوا من أهل النظر في الشرعيات ولا يفهمون الحجة ولا يعقلون البرهان ، وقيل يعتبر قولهم لأنهم من جملة الأمة وإنما كان قول الأمة حجة لعصمتها من الخطأ ولا يمتنع أن تكون العصمة لجميع الأمة عالمها وجاهلها حكى هذا القول ابن الصباغ وابن برهان عن بعض المتكلمين واختاره الآمدي ونقله الجويني وابن السمعاني والصفي الهندي عن القاضي أبي بكر . قال في مختصر التقريب فإن قال قائل فإذا أجمع الأمة على حكم من الأحكام مما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام كوجوب الصلاة والزكاة وغيرهما فما هذا سبيله يطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه ، وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشذ عن العوام فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فقال بعضهم العوام يدخلون في حكم الإجماع وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفاصيل الأحكام فقد عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل الأحكام فهو مقطوع به فهذا مساهمة منهم في الإجماع وإن لم يعلموا على التفصيل . ومن أصحابنا من زعم لا يكونون مساهمين في الإجماع فإنه إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا يتحقق كونهم من أهل الإجماع . قال أبو الحسين في المعتمد اختلفوا في اعتبار قول العامة في المسائل الاجتهادية ، فقال قوم العامة وإن وجب عليها اتبع العلماء فإن إجماع العلماء لا يكون حجة على أهل العصر حتى لا تسوغ مخالفتهم إلا بأن يتبعهم العامة من أهل عصرهم فإن لم يتبعوهم لم يجب على أهل العصر الثاني من العلماء اتباعهم . وقال آخرون بل هو حجة مطلقاً وحكى القاضي عبد الوهاب وابن السمعاني أن العامة معتبرة في الإجماع في العام دون الخاص . قال الرويني في البحر إن اختص بمعرفة الحكم العلماء كنصب الزكوات وتحريم نكاح المرأة وعمتها وخالتها لم يعتبر وفاق العامة معهم وإن اشترك في معرفته الخاصة والعامة كأعداد الركعات وتحريم بنت البنت فهل يعتبر إجماع العوام معهم فيه وجهان أصحهما لا يعتبر لأن الإجماع إنما يصح عن نظر واجتهاد والثاني يعم لاشتراكهم في العلم به قال سليم الرازي إجماع الخاصة هل يحتاج معهم فيه إلى إجماع العامة ؟ فيه وجهان والصحيح أنه لا يحتاج فيه إليهم . قال الجويني حكم المقلد حكم العامي في ذلك إذ لا واسطة بين المقلد والمجتهد . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
فرع إجماع العوام عند خلو الزمان عن مجتهد عند من قال بجواز خلوه عنه هل يكون حجة أم لا فالقائلون باعتبارهم في إجماع مع وجود المجتهدين يقولون بأن إجماعهم حجة والقائلون بعدم اعتبارهم لا يقولون بأنه حجة وأما من قال بأن الزمان لا يخلو عن قائم بالحجة فلا يصح عنده هذا التقدير . البحث الثامن عشر : الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك ومن عدا أهل ذلك الفن هو في حكم العوام فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غير أهل الفن ومن لا فلا وخالف في ذلك ابن جني فقال في كتاب الخصائص إنه لا حجة في إجماع النحاة قال الزركشي في البحر ولا خلاف في اعتبار قول المتكلم في الكلام والأصولي في الأصول وكل واحد يعتبر قوله إذا كان من أهل الاجتهاد في ذلك الفن وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه ففي اعتبار خلافه في الفقه وجهان حكاهما الماوردي وذهب القاضي إلى أن خلافه معتبر قال الجويني وهو الحق وذهب معظم الأصوليين منهم أبو الحسن ابن القطان إلى أن خلافه لا يعتبر لأنه ليس من المفتين ولو وقعت له واقعة لزم أن يستفتي المفتي فيها قال الكيا والحق قول الجمهور لأأن من أحكم الأصوليين فهو مجتهد فيهما قال الصيرفي في كتاب الدلائل إجماع العلماء لا مدخل لغيرهم فيه سواء المتكلم وغيره وهم الذين تلقنوا العلم من الصحابة وإن اختلفت آراؤهم وهم القائمون بعلم الفقه وأما من انفرد بالكلام لم يدخل في جملة العلماء فلا يعد خلافاً على من ليس مثله وإن كانوا حذاقاً بدقائق الكلام . البحث التاسع عشر : إذا خالف أهل الإجماع واحد من المجتهدين فقط فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون إجماعاً ولا حجة قال الصيرفي ولا يقال لهذا شاذ لأن الشاذ من كان في الجملة ثم شذ كيف يكون محجوباً بهم ولا يقع اسم الإجماع إلا به قال إلا أن يجمعوا على شيء من جهة الحكاية فيلزمه قبول قولهم أما من جهة الاجتهاد فلا لأن الحق قد يكون معه ، وقال الغزالي والمذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ونقله الآمدي عن محمد بن جرير الطبري وأبي الحسين الخياط من معتزلة بغداد . قال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين والشرط أن يجمع جمهور تلك الطبقة ووجوههم ومعظمهم ولسنا نشترط قول جميعهم وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم نسمع به فإن السلف الصالح كانوا يعلمون ويتسترون بالعلم فربما كان الرجل قد أخذ الفقه الكثير ولا يعلم به جاره قال والدليل على هذا أن الصحابة لما استخلفوا أبا بكر انعقدت خلافته بإجماع الحاضرين ومعلوم أن من الصحابة من غاب قبل وفاة النبي صضص إلى بعض البلدان ومن حاضري المدينة من لم يحضر البيعة ولم يعتبر ذلك مع اتفاق الأكثرين قال الصفي الهندي والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي واحتج ابن جرير على عدم اعتبار قول الأقل بارتكابه الشذوذ المنهي عنه . وأجيب بأن الشذوذ المنهي عنه هو ما يشق عصا المسلمين لا في أحكام الاجتهاد ، وقال الأستاذ أبو إسحاق أن ابن جرير قد شذ عن الجماعة في هذه المسألة فينبغي أن لا يعتبر خلافه . وقيل إنه حجة وليس بإجماع ورجحه ابن الحاجب فإنه قال لو قدر المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن إجماعاً قطعياً والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون المرجح متمسك المخالف وقيل إن عدد الأقل أن بلغ عدد التواتر لم ينعقد إجماع غيرهم وإن كانوا دون عدد التواتر انعقد الإجماع دونهم كذا حكاه الآمدي قال القاضي أبو بكر أنه الذي يصح عن ابن جرير وقيل أتباع الأكثر أولى ويجوز خلافه حكاه الهندي وقيل أنه لا ينعقد إجماع مع مخالفة الاثنين الواحد حكاهما الزركشي في البحر وقيل إن استوعب الجماعة الاجتهاد فيما يخالفهم كان خلاف المجتهد معتداً بن كخلاف ابن عباس في العول وإن أنكروه لم يعتد بخلافه وبه قال أبو بكر الرازي أبو عبد الله الجرجاني من الحنفية قال شمس الأمة السرخسي إنه الصحيح . البحث الموفى عشرين : الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر وحكى الرازي في المحصول عن الأكثر أنه ليس بحجة فقال الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعاً للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياساً على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكذا القول في تفاصيله انتهى . وأما عدد أهل الإجماع فقيل لا يشترط بلوغهم عدد التواتر خلافاً للقاضي ونقل ابن برهان عن معظم العلماء أنه يجوز انحطاط عددهم عقلاً عن عدد التواتر وعن طوائف من المتكلمين أنه لا يجوز عقلاً وعلى القول بالجواز فهل يكون إجماعهم حجة أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه حجة وهو قول الأستاذ أبي إسحاق وقال إمام الحرمين الجويني يجوز ولكن لا يكون إجماعهم حجة المجمعين عند عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقياً ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور لكن يقطع بأن ما ذهب إليه دون عدد التواتر ليس سبيل المؤمنين لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع فلا تحرم مخالفته ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن لا يشترط ذلك فيه بل يكفي فيه الظهور لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفاً عن دليل قاطع وهو يوجب كونه متواتراً وإلا لم يكن قاطعاً فيما يقوم مقام نقله متواتراً وهو الحكم بمقتضاه يجب أن يكون صادراً عن عدد التواتر وإلا لم يقطع بوجوده . قال الأستاذ وإذا لم يبق في العصر إلا مجتهد واحد فقوله حجة كإجماع ويجوز أن يقال للواحد أمة كما قال تعالى : إن إبراهيم كان أمة ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين . قال الزركشي في البحر وبه جزم ابن سريج في كتاب الودائع فقال وحقيقة الإجماع هو القول بالحق ولو من واحد فهو إجماع وكذا إن حصل من اثنين أو ثلاثة . والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر رضي الله عنه لما امتنعت بنو حنيفة من الزكاة فكانت مطالبة أبي بكر لها حقاً عند الكل وما انفرد لمطالبتها غيره قال هذا كلامه وخلاف إمام الحرمين فيه أولى وهو الظاهر لأن الإجماع لا يكون إلا من اثنين فصاعداً ونقل ابن القطان عن أبي هريرة أنه حجة . قال الكيا المسألة مبنية على تصور اشتمال العصر على المجتهد الواحد والصحيح تصوره وإذا قلنا به ففي انعقاد الإجماع بمجرد قوله خلاف وبه قال الأستاذ أبو إسحاق قال والذي حمله على ذلك أنه لم يكن لاختصاص الإجماع بمحل معنى يدل عليه فسوى بين العدد والفرد ، وأما المحققون سواء فإنهم يعبرون العدد ، ثم يقولون المعتبر عدد التواتر فإذاً مستند الإجماع مستند إلى طرد العادة بتوبيخ من يخالف العصر الأول وهو يستدعي وفور عدد من الأولين وهذا لا يتحقق فيما إذا كان في العصر إلا مجتهد واحد فإنه لا يظهر فيه استيعاب مدارك الاجتهاد . خاتمة قول القائل لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في كذا قال الصيرفي لا يكون إجماعاً لجواز الاختلاف وكذا قال ابن حزم في الأحكام ، وقال في كتاب الإعراب أن الشافعي نص عليه في الرسالة وكذلك أحمد بن حنبل ، وقال ابن القطان قول القائل لا أعلم خلافاً إن كان من أهل العلم فهو حجة وإن لم يكن من الذين كشفوا الإجماع والاختلاف فليس بحجة ، وقال الماوردي إذا قال : لا أعرف بينهم خلافاً فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد فاختلف أصحابنا فأثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد وزعم قوم أن العالم إذا قال لا أعلم خلافاً فهو إجماع وهو قول فاسد . قال ذلك محمد بن نصر المروزي فإنا لا نعلم أحداً منه لأقاويل أهل العلم ولكن فوق كل ذي علم عليم ، وقد قال الشافعي في زكاة البقر لا أعلم خلافاً في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع والخلاف في ذلك مشهور فإن قوماً يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل ، وقال مالك في موطئه وقد ذكر الحكم برد اليمين وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس ولا بلد من البلدان والخلاف فيه شهير وكان عثمان رضي الله عنه لا يرى رد اليمين ويقضي بالنكول وكذلك ابن عباس ومن التابعين الحكم وغيره وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت فإذا كان مثل من ذكرنا يخفي عليه الخلاف فما ظنك بغيره ؟ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المقصد الرابع في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين والظاهر والمؤول والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ وسنجعل لكم من هذه باباً مستقلاً إن شاء الله ، ففي الأوامر والنواهي بابان : الباب الأول في مباحث الأمر : والباب الثاني في مباحث النهي أما الباب الأول ففيه فصول ، وهي أحد عشر فصلاً ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الأول في تعريف لفظ الأمر قال في المحصول اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص واختلفوا في كونه حقيقة في غيره فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضاً . والجمهور على أنه مجاز فيه وزعم أبو الحسين أنه مشترك بين القول المخصوص وبين الشيء وبين الصفة وبين الشأن والطريق والمختار أنه حقيقة في القول المخصوص فقط . إنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعاً للاشتراك انتهى ويجاب عنه بأن مجرد الإجماع على كون أحد المعاني حقيقة لا ينفي حقيقة ما عداه والأولى أن يقال أن الذي سبق إلى الفهم من لفظ ألف ميم راء عند الإطلاق هو القول المخصوص والسبق إلى الفهم دليل الحقيقة والأصل عدم الاشتراك ولو كان مشتركاً لتبادر إلى الفهم جميع ما هو مشترك فيه ولو كان متواطئاً لم يفهم منه القول المخصوص على انفراده واستدلاله على أنه حقيقة في القول المخصوص بأنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد ويسمى الأكل أمراً والشرب أمراً ولكان يشتق للفاعل اسم الأمر وليس كذلك لأن من قام أو قعد لا يسمى آمراً وأيضاً الأمر له لوازم ولم يوجد منها شيء في الفعل فوجب أن لا يكون الأمر حقيقة في الفعل وأيضاً يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال ما أمر به ولكن فعله . وأجيب بمنع كون من شأن الحقيقة الاطراد وبمنع لزوم الاشتقاق في كل الحقائق وبمنع عدم وجود شيء من اللوازم في الفعل وبمنع تجويزهم لنفيه مطلقاً واستدل القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين الأول : أن أهل اللغة يستعملون لفظ الأمر في الفعل وظاهر الاستعمال الحقيقة ومن ذلك قوله سبحانه حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور والمراد منه هنا العجائب التي أظهرها الله عز وجل وقوله أتعجبين من أمر الله أي من فعله وقوله وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وقوله تجري في البحر بأمره وقوله مسخرات بأمره ومن ذلك قول الشاعر : لأمر ما يسود من يسود وقول العرب في أمثالها المضروبة « لأمر ما جدع قصير أنفه » والأصل في الإطلاق الحقيقة . الوجه الثاني : أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول فقيل في الأول أوامر وفي الثاني أمور والاشتقاق علامة الحقيقة . وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم استعمال اللفظ في الفعل من حيث أنه فعل أما قوله حتى إذا جاء أمرنا فلا مانع من أن يراد منه القول أو الشأن وإنما يطلق اسم الأمر على الفعل لعموم كونه شأناً لا لخصوص كونه فعلاً . وكذا الجواب عن الآية الثانية ، وأما قوله سبحانه وما أمر فرعون برشيد فلم لا يجوز أن يكون المراد هو القول بل الأظهر ذلك لما تقدم من قوله فاتبعوا أمر فرعون أي أطاعوه فيما أمرهم به . سلمنا أنه ليس المراد القول فلم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقته وأما قوله وما أمرنا إلا واحدة فلم لا يجوز إجراؤه على الظاهر ويكون معناه أن من شأنه سبحانه أنه إذا أراد شيئاً وقع كلمح بالبصر . وأما قوله : تجري في البحر بأمره وقوله : مسخرات بأمره فلا يجوز حمل الأمر فيهما على الفعل لأن الجري والتسخير إنما حصل بقدرته لا بفعله فوجب حمله على الشأن والطريق وهكذا قول الشاعر المذكور والمثل المشهور . وأما قولهم أن الأصل الحقيقة فمعارض بأن الأصل عدم الاشتراك . وأجيب عن الوجه الثاني بأنه يجوز أن يكون الأمور جمع الأمر بمعنى الشأن لا بمعنى الفعل . سلمنا لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة . واستدل أبو الحسين بقوله بأن من قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد فإذا قال هذا أمر بالفعل أوامر فلان مستقيم أو تحرك هذا الجسم لأمر وجاء زيد لأمر عقل السامع من الأول القول ومن الثاني الشأن ومن الثالث أن الجسم تحرك لشيء ومن الرابع أن زيداً جاء لغرض من الأغراض وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل وأجيب بأن هذا التردد ممنوع بل لا يفهم ما عدا القول إلا بقرينة مانعة من حمل اللفظ عليه كما إذا استعمل في موضع لا يليق بالقول .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الثاني : اختلف في حد الأمر بمعنى القول اختلف في حد الأمر بمعنى القول . فقال القاضي أبو بكر وارتضاه جماعة من أهل الأصول أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به . قال في المحصول وهذا خطأ لوجهين أما أولاً فلأن لفظي المأمور والمأمور به مشتقان من الأمر فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور وأما ثانياً فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر وعند المعتزلة موافقة الإرادة فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور . وقال أكثر المعتزلة في حده : إنه قول القائل لمن دونه إفعل أو ما يقوم مقامه قال في المحصول وهذا خطأ من وجوه . الأول : أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظه إفعل لشيء أصلاً حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع دونه لا يقال فيه أنه أمر ولو أنها صدرت عن النائم أو الساهي أو على سبيل انطلاق اللسان بها إتفاقاً أو على سبيل الحكاية يقال فيه أنه أمر ولو قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى لفظ إفعل وبإزاء معنى لفظ فعل لكان المتكلم بلفظ فعل آمراً وبلفظ إفعل مخبراً فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل . الوجه الثاني : أن تحديد ماهية الأمر من حيث هو أمر وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات فإن التركي قد يأمر وينهي وما ذكروه لا يتناول الألفاظ العربية . فإن قلت قولنا أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين الذين ذكرتهما . قلت قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائماً مقامه في الدلالة على كونه طلباً للفعل أو يعني به شيئاً آخر فإن كان المراد هو الثاني فلا بد من بيانه وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه إفعل أو ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل كافياً وحينئذ يقع التعرض بخصوص صيغة إفعل ضائعاً . الوجه الثالث : سنبين أن الرتبة غير معتبرة وإذا ثبت فساد هذين الحدثين فنقول الصحيح أن يقال الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير انتهى . ولا يخفاك أن ما أجاب به من هذه الوجوه الثلاثة لا يرد على ذلك الحد . أما الوجه الأول فتقدير الإهمال أو الصدور لا عن قصد ليس مما يقتضي النقض به لخروجه عن الكلام المعتبر عند أهل اللغة وأما النقض بغير لغة العرب فغير وارد فإن مراد من حد الأمر بذلك الحد ليس إلا باعتبار ما يقتضيه لغة العرب لا غيرها وأما عدم اعتبار الرتبة فمصادرة على المطلوب ويرد على الحد الذي ارتضاه آخراً وقال إنه الصحيح النهي فإن طلب الفعل بالقول لأن الكف فعل ويرد على قيد الاستعلاء قوله تعالى حكاية عن فرعون ماذا تأمرون والأصل الحقيقة وقد أورد على الحد الذي ذكرته المعتزلة أنه يرد على طرده قول لقائل لمن دونه إفعل إذا صدر عن مبلغ لأمر الغير أو حاك له ويرد على عكسه إفعل إذا صدر من الأدنى على سبيل الاستعلاء ولذلك يذم بأنه أمر من هو أعلى منه . وأجيب عن الإيراد الأول بأن المراد قول إفعل مراداً به ما يتبادر منه عند الإطلاق وعن الثاني بأنه ليس قولاً لغيره إفعل وعن الثالث بمنع كونه أمراً عندهم واعترض عليه بأنه تعريف الأمر بالأمر ولا يعرف الشيء بنفسه وإن أسقط هذا القيد بقي صيغة إفعل مجردة فيلزم تجرده مطلقاً حتى عما يؤكد كقوله . وأجيب عنه بأن المراد القرائن الصارفة عما يتبادر منها إلى الفهم عند إطلاقها . وقيل في حده هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء واعترض على عكسه بأكفف وانته واترك وذر فإنها أوامر لا يصدق عليها الحد لعدم اقتضاء الفعل غير الكف فيها واعترض على طرده بلا تترك ولا تنته ونحوهما فإنها نواة ويصدق عليها الحد . وأجيب بأن المحدود هو النفسي فيلتزم أن معنى لا تترك معنى الأمر النفسي ومعنى اكفف وذر النهي فاطرد وانعكس . وقيل في حده هو صيغة افعل بإرادات ثلاث وجود اللفظ ودلالتها على الأمر والامتثال واحترز بالأولى عن النائم إذ يصدر عنه صيغة إفعل من غير إرادة وجود اللفظ وبالثانية عن التهديد والتخيير والإكرام والإهانة ونحوها وبالثالثة عن الصيغة التي تصدر عن المبلغ والحاكي فإنه لا يريد الامتثال واعترض عليه بأنه إن أريد بالأمر المحدود المعنى النفسي أفسد الحد جنسه فإن المعنى ليس بصيغة . وأجيب بأن المراد المحدود اللفظ وبما في الحد المعنى الذي هو الطالب واستعمل المشترك الذي هو لفظ الأمر في معنييه اللذين هما الصيغة المعلومة والطلب بالقرينة العقلية ، وقيل في حده أنه أراد العقل واعترض عليه بأنه غير جامع لثبوت الأمر ولا إرادة كما في أمر السيد لعبده بحضرة من توعد السيد على ضربه لعبده بالإهلاك إن ظهر أنه لا يخالف أمر سيده والسيد يدعي مخالفة العبد في أمره ليدفع عن نفسه الإهلاك فإنه يأمر عبده بحضرة المتوعد له ليعصيه ويشاهد المتوعد عصيانه ويخلص من الهلاك فهاهنا قد أمر وإلا لم يظهر عذره وهو مخالف الأمر ولا يريد منه العمل لا أنه لا يريد ما يفضي إلى هلاكه وإلا كان مريداً هلاك نفسه وإنه محال . وأجيب عنه بأنه مثله يجيء في الطلب لأن العاقل لا يطلب ما يستلزم هلاكه وإلا كان طلباً لهلاكه ودفع بالمنع لجواز أن يطلب العاقل الهلاك لغرض إذا علم عدم وقوعه ورد هذا الدفع بأن ذلك إنما يصح في اللفظي أما النفسي فالطلب النفسي كالإرادة النفسية فلا يطلب الهلاك بقلبه كما لا يريده ، وقال الآمدي لو كان الأمر إرادة لوقعت المأمورات بمجرد الأمر لأن الإرادة صفة تخصص المقدور بوقت وجوده فوجودها فرع وجود مقدور مخصص ، والثاني باطل لأن إيمان الكفار المعلوم عدمه عند الله تعالى لا شك أنه مأمور به فيلزم أن يكون مراداً ويستلزم وجوده مع أنه محال ، وأجيب عن هذا بأن لا يلزم من حد الأمر بإرادة الفعل لأنه من المعتزلة والإرادة عندهم بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر بالنسبة إليه سبحانه وتعالى العلم بما في الفعل من المصلحة ، إذا تقرر لك ما ذكرنا وعرفت ما فيه فاعلم أن الأولى بالأصول تعريف الأمر الصيفي لأن بحث هذا العلم عن الأدلة السمعية وهي الألفاظ الموصلة من حيث المعلوم بأحوالها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام والأمر الصيغي في اصطلاح أهل العربية صيغته المعلومة سواء كانت على سبيل الاستعلاء أو لا وعند أهل اللغة في صيغته المعلومة المستعملة في الطلب الجازم مع الاستعلاء هذا باعتبار لفظ الأمر الذي هو ألف ميم را بخلاف فعل الأمر نحو اضرب فإنه لا يشترط فيه ما ذكر بل يصدق مع العلو وعدمه وعلى هذا أكثر أهل الأصول . ولم يعتبر الأشعري قيد العلو وتابعه أكثر الشافعية واعتبر العلو المعتزلة جميعاً إلا أبا الحسين منهم ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني من الشافعية .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . الفصل الثالث اختلف أهل العلم في صيغة إفعل وما في معناه هل هي حقيقة في الوجوب اختلف أهل العلم في صيغة افعل وما في معناه هل هي حقيقة في الوجوب أو فيه مع غيره أو في غيره فذهب الجمهور إلى أنها حقيقة في الوجوب فقط وصححه ابن الحاجب والبيضاوي . قال الرازي وهو الحق وذكر الجويني أنه مذهب الشافعي قيل وهو الذي أملاه الأشعري على أصحابه وقال أبو هاشم وعامة المعتزلة وجماعة من الفقهاء وهو رواية الشافعي أنها حقيقة الندب ، وقال الأشعري والقاضي بالوقف . فقيل أنهما توقفا في أنه موضوع للوجوب والندب وقيل توقفا بأن قالا لا ندري بما هو حقيقة فيه أصلاً ، وحكى السعد في التلويح عن الغزالي وجماعة من المحققين أنهم ذهبوا إلى الوقف في تعيين المعنى الموضوع له حقيقة ، وحكى أيضاً عن ابن سريج الوقف في تعيين المعنى المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له عنده لأنه موضوع عنده بالاشتراك للوجوب والندب والإباحة والتهديد ، وقيل أنها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكاً لفظياً وهو قول الشافعي في رواية عنه ، وقيل إنها مشتركة اشتراكاً لفظياً بين الوجوب والندب والإباحة ، وقيل إنها موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب : أي ترجيح الفعل على الترك ونسبه شارح التحرير إلى أبي منصور الماتريدي ومشايخ سمرقند وقيل إنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة وهو الإذن برفع الحرج عن الفعل وبه قال المرتضى من الشيعة . وقال جمهور الشيعة إنها مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد . استدل القائلون بأنها حقيقة في الوجوب لغة وشرعاً كما ذهب إليه الجمهور أو شرعاً فقط كما ذهب إليه البلخي وأبو عبد الله البصري والجويني وأبو طالب بدليل العقل والنقل . أما العقل فإنا نعلم من أهل اللغة قبل ورود الشرع أنهم أطبقوا على ذم عبد لم يمتثل أمر سيده وأنهم يصفونه بالعصيان ولا يذم ويوصف بالعصيان إلا من كان تاركاً لواجب عليه ، وأما المنقول فقد تكرر استدلال السلف بهذه الصيغة مع تجردها عنه القرائن على الوجوب ، وشاع ذلك وذاع بلا نكير ، فأوجب العلم العادي باتفاقهم عليه . واعترض بأن استدلالهم بها على الوجوب كان في صيغ من الأمر محتفة بقرائن الوجوب بدليل استدلالهم بكثير منها على الندب ، وأجيب بأن استدلالهم بما استدلوا منها على الندب إنما كان بقرائن صارفة عن المعنى الحقيقي وهو الوجوب معينة للمعنى المجازي وهو الندب علمنا ذلك باستقراء الواقع منهم في الصيغ المنسوب إليها الوجوب والصيغ المنسوب إليها الندب في الكتاب والسنة وعلمنا بالتتبع أن فهم الوجوب لا يحتاج إلى قرينة لتبادره إلى الذهن بخلاف فهم الندب فإنه يحتاج إليها . واعترض على هذا الدليل أيضاً بأنه استدلال بالدليل الظني في الأصول لأنه إجماع سكوتي مختلف في حجيته كما تقدم ولا يستدل بالأدلة الظنية في الأصول . وأجيب بأنه لو سلم كون ذلك الدليل ظنياً لكفى في الأصول وإلا تعذر العمل بأكثر الظواهر لأنها لا تفيد إلا الظن والقطع لا سبيل إليه كما لا يخفى على من تتبع مسائل الأصول وأيضاً نحن نقطع بتبادر الوجوب من الأوامر المجردة عن القرائن الصارفة ، وذلك يوجب القطع به لغة وشرعاً . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى لإبليس ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق ، بل الذم وأنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به له في ضمن قوله سبحانه للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فدل ذلك على أن معنى الأمر المجرد عن القرائن الوجوب ولو لم يكن دالاً على الوجوب لما ذمه الله سبحانه وتعالى على الترك ، ولكان لإبليس أن يقول إنك ألزمتني السجود . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون فذمهم على ترك فعل ما قيل لهم افعلوه ، ولو كان الأمر يفيد الندب لما حسن هذا الكلام كما أنه لو قال لهم الأولى أن تفعلوا ويجوز لكم تركه فإنه ليس له أن يذمهم على تركه واعترض على هذا بأنه سبحانه وتعالى إنما ذمهم لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر لا لأنهم تركوا المأمور به ، والدليل عليه قوله ويل يومئذ للمكذبين وأيضاً فصيغة إفعل قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها . فلعله سحانه وتعالى إنما ذمهم ، لأنه قد كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب . وأجيب عن الاعتراض الأول بأن المكذبين في قوله ويل يومئذ للمكذبين إما أن يكونوا هم الذين تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا أو غيرهم ، فإن كان الأول جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع والويل بسبب التكذيب ، وإن يكن الثاني لم يكن إثبات الويل للإنسان بسبب التكذيب منافياً لثبوت الذم لإنسان آخر بسبب تركه للمأمور به . وأجيب عن الاعتراض الثاني بأن الله سبحانه وتعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا ، فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرينة . واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه وتعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي يعرضون عنه بترك مقتضاه أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم لأنه رتب على ترك مقتضى أمره إصابة الفتنة في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة فأفادت الآية بما تقتضيه إضافة الجنس من العموم أن لفظ الأمر يفيد الوجوب شرعاً مع تجرده عن القرائن إذ لولا ذلك لقبح التحذير . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : أفعصيت أمري أي تركت مقتضاه فدل على أن تارك المأمور به عاص وكل عاص متوعد وهو دليل الوجوب لهذه الآية ، ولقوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم والأمر الذي أمره به هو قوله اخلفني في قومي وهو أمر مجرد عن القرائن ، واعترض على هذا بأن السياق لا يفيد ذلك . وأجيب بمنع كونه لا يفيد ذلك . واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة والقضاء بمعنى الحكم وأمراً مصدراً من غير لفظة أو حال أو تمييز ولا يصح أن يكون المراد بالقضاء ما هو المراد في قوله فقضاهن سبع سماوات لأن عطف الرسول عليه يمنع ذلك فتعين أن المراد الحكم ، والمراد من الأمر القول لا الفعل . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والمراد منه الأمر حقيقة ، وليس بمجاز عن سرعة الإيجاد كما قيل وعلى هذا يكون الوجود مراداً بهذا الأمر أي أراد الله أنه كلما وجد الأمر يوجد المأمور به فكذا في كل أمر من الله تعالى ومن رسول الله صضص واستدلوا أيضاً بما صح عنه صضص من قوله لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره فهاهنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة فهذا يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة والإجماع قائم على أنه مندوب فلو كان المندوب مأموراً به لكان الأمر قائماً عند كل صلاة ، فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به واعترض على هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يقال إن مراده لأمرتهم على وجه يقتضي الوجوب بقرائن تدل عليه لا مجرد الأمر ورد بأن كلمة لولا دخلت على الأمر فوجب أن لا يكون الأمر حاصلاً والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمراً والإلزام التناقض والمراد مجرد الأمر . واستدلوا أيضاً بذلك فقال لا إنما أنا شافع فنفى صضص الأمر منه مع ثبوت الشفاعة الدالة علىالندب وذلك يدل على أن المندوب غير مأمور به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب . واستدلوا أيضاً بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستدلون بالأوامر على الوجوب ولم يظهر مخالف منهم ولا من غيرهم في ذلك فكان إجماعاً واستدلوا أيضاً بأن لفظ افعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معاً أو في غيرهما والأقسام الثلاثة الآخرة باطلة فتعين الأول لأنه لو كان للندب فقط لما كان الواجب مأموراً به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط ولو كان لما لزم الجمع بين الراجح فعله مع جواز تركه وبين الراجح فعله مع المنع من تركه والجمع بينهما محال ولو كان حقيقة في غيرهما لزم أن يكون الواجب والمندوب غير مأمور بهما وأن يكون الأمر حقيقة فيما لا ترجح فيه وهو باطل ومعلوم أن الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعاً من الترك . واستدل القائلون بأنها حقيقة في الندب بما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة : قال سمعت رسول الله صضص يقول : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك الذين من قبلكم من كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فرد ذلك إلى مشيئتنا وهو معنى الندب . وأجيب عن هذا بأنه دليل للقائلين بالوجوب لا للقائلين بالندب لأن ما لا نستطيعه لا يجب علينا وإنما يجب علينا ما نستطيعه والمندوب لا حرج في تركه مع الاستطاعة . واحتجوا أيضاً بأنه لا فرق بين قول القائل لعبده اسقني وبين قوله أريد أن تسقيني فليس إلا مجرد الإخبار بكونه مريداً للفعل وليس فيه طلب للفعل وهذا أشق ما احتجوا به مع كونه مدفوعاً بما سمعت وقد احتجوا بغير ذلك مما لا يفيد شيئاً . واحتج القائلون بأن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب والندب أو بينهما وبين الإباحة اشتراكاً لفظياً بأنه قد ثبت إطلاقها عليهما أو عليها والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجيب بما تقدم من أن المجاز أولى من الاشتراك وأيضاً كان يلزم أن تكون الصيغة حقيقة في جميع معاني الأمر التي سيأتي بيانها لأنه قد أطلق عليها ولو نادراً ولا قائل بذلك . واحتج القائلون بأن الصيغة موضوعة لمطلق الطلب بأنه ثبت الرجحان في المندوب كما ثبت في الواجب وجعلها للوجوب بخصوصه لا دليل عليه وأجيب بأنه قد دل الدليل عليه كما تقدم في أدلة القائلين بالوجوب وأيضاً ما ذكروه هو إثبات اللغة بلوازم الماهيات وذلك أنهم جعلوا الرجحان لازماً للوجوب والندب وجعلوا صيغة الأمر لما بهذا الاعتبار واللغة لا تثبت بذلك . واحتج القائلون بالوقف بأنه لو ثبت تعيين الصيغة لمعنى من المعاني لثبت بدليل ولا دليل . وأجيب بأن الدليل قد دل على تعيينها باعتبار المعنى الحقيقي للوجوب كما قدمنا . وإذا تقرر لك هذا عرفت أن الراجح ما ذهب إليه القائلون بأنها حقيقة في الوجوب فلا تكون لغيره من المعاني إلا بقرينة لما ذكرناه من الأدلة ومن أنكر استحقاق العبد المخالف لأمر سيده للذم وأنه يطلق عليه بمجرد هذه المخالفة اسم العصيان فهو مكابر ومباهت فهذا يقطع النزاع باعتبار العقل . وأما باعتبار ما ورد في الشرع وما ورد من حمل أهله للصيغ المطلقة من الأوامر على الوجوب ففيما ذكرناه سابقاً ما يغني عن التطويل ولم يأت من خالف هذا بشيء يعد به أصلاً . واعلم أن هذا النزاع إنما هو في المعنى الحقيقي للصيغة كما عرفت ، وأم مجرد استعمالها فقد تستعمل في معان كثيرة . قال الرازي في المحصول : قال الأصوليون صيغة افعل مستعملة في خمسة عشر وجهاً للإيجاب كقوله أقيموا الصلاة وللندب كقوله فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ويقرب من التأديب كقوله صضص لابن عباس : كل مما يليك فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم قسماً مغايراً للمندوب وللإرشاد كقوله فاستشهدوا فاكتبوا والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا فإنه لا ينتقص الثواب بترك الاستشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله ، وللإباحة ككلوا واشربوا وللتهديد كاعملوا ما شئتم واستفزز من استطعت ويقرب منه الإنذار كقوله قل تمتعوا وإن كان قد جعلوه قسماً آخر ، وللامتنان فكلوا مما رزقكم الله وللإكرام ادخلوها بسلام آمنين وللتسخير كونوا قردة وللتعجيز فاتوا بسورة من مثله وللإهانة ذق إنك أنت العزيز الكريم وللتسوية اصبروا أو لا تصبروا وللدعاء رب اغفر لي وللتمني كقوله : - ألا أيها الليل الطويل ألا انجل - . وللاحتقار ألقوا ما أنتم ملقون وللتكوين كن فيكون انتهى . فهذه خمسة عشر معنى ومن جعل التأديب والإنذار معنيين مستقلين جعلها سبعة عشر معنى وجعل بعضهم من المعاني الأذن نحو كلوا من الطيبات والخبر نحو فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً والتفويض نحو فاقض ما أنت قاض والمشورة كقوله فانظر ماذا ترى والاعتبار نحو انظروا إلى ثمره إذا أثمر والتكذيب نحو قل هاتوا برهانكم والالتماس كقولك لنظيرك : افعل ، والتلهيف نحو موتوا بغيظكم والتصبير نحو فذرهم يخوضوا ويلعبوا فتكون جملة المعاني ستة وعشرين معنى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . الفصل الرابع التكرار وعلاقته بصيغة الأمر ذهب جماعة من المحققين إلى أن صيغة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب من غير إشعار بالوحدة والكثرة واختاره الحنفية والآمدي وابن الحاجب والجويني والبيضاوي : قال السبكي وأراه رأى أكثر أصحابنا يعني الشافعية واختاره أيضاً المعتزلة وأبو الحسين البصري وأبو الحسن الكرخي قالوا جميعاً إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به لا أن الأمر يدل عليها بذاته ، وقال جماعة أن صيغة الأمر تقتضي المرة الواحدة لفظاً وعزاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني إلى أكثر الشافعية . وقال إنه مقتضى كلام الشافعي وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء وبه قال أبو علي الجبائي وأبو هاشم وأبو عبد الله البصري وجماعة من قدماء الحنفية . وقال جماعة أنها تدل على التكرار مدة العمر مع الإمكان وبه قال أبو إسحاق الشيرازي والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين . وإنما قيدوه بالإمكان لتخرج أوقات ضروريات الإنسان وقال الغزالي في المستصفى أن مرادهم من التكرار العموم قال أبو زرعة يحتمل أنهم أرادوا التكرار المستوعب لزمان العمر وهو كذلك عند القائل لكن بشرط الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان ويحتمل أنهم أرادوا ما ذهب إليه بعض الحنفية والشافعية من أن الصيغة المقتضية للتكرار هي المعلقة على شرط أو صفة . وقيل إنها للمرة وتحتمل التكرار وهذا مروي عن الشافعي . وقيل بالوقف واختلف في تفسير معنى هذا الوقف فقيل المراد منه لا ندري أوضع للمرة أو للتكرار أو للمطلق وقيل المراد منه لا يدري مراد المتكلم للاشتراك بينها وبه قال القاضي أبو بكر وجماعة وروي عن الجويني . احتج الأولون بإطباق أهل العربية على هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص رمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود وغيرهما إنما هو من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فحصل من مجموع الهيئة والمادة أن تمام مدلول الصيغة هو طلب الفعل فقط والبراءة بالخروج عن عهدة الأمر تحصل بفعل المأمور به مرة واحدة لتحقق ما هو المطلوب بإدخاله في الوجود بها ولهذا يندفع ما احتج به من قال إنها للمرة حيث قال إن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها وذلك لأن حصوله بها لا يستدعي اعتبارها جزءاً من مدلول الأمر لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق كما عرفت . واحتج الأولون أيضاً بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل والمرة والتكرار خارجان عن حقيقة فوجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ولا يتقيد بأحدهما . واعترض على هذا بأنه استدلال بمحل النزاع فإن منهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالمرة ومنهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالتكرار . واحتجوا أيضاً بأن المرة والتكرار من صفات الفعل كالقلة الكثرة ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة منهما واعترض على هذا بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة على المرة والتكرار والكلام في الصيغة هل هي تدل على شيء منهما أم لا ؟ واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما والمدعي إنما هو للدلالة ظاهراً لا نصاً . احتج القائلون بالتكرار أن تكرر المطلوب في النهي فعم الأزمان فوجب التكرار في الأمر لأنهما طلب . وأجيب بأن هذا قياس في اللغة وقد تقرر بطلانه وأجيب أيضاً بالفرق بينهما لأن النهي لطلب الترك ولا يتحقق إلا بالترك في كل الأوقات والأمر لطلب الإتيان بالفعل وهو يتحقق بوجوه مرة واعترض على هذا بأنه مصادرة على المطلوب لأن كون إثباته يحصل بمرة هو عين النزاع إذ للمخالف أن يقول هو للتكرار لا للمرة . وأجيب عن أصل التكرار بأنه يستلزم المنع من فعل غير المأمور به لأنه يستغرق جميع الأوقات ومن ضروريات البشر أنه يشغله شأن عن شأن آخر فيتعطل عما سواه مما هو مأمور به وعن مصالح دينه ودنياه بخلاف النهي فإن دوام الترك لا يشغله عن شيء من الأفعال . واعترض على هذا بأن النزاع إنما هو في مدلول الصيغة هل تدل على التكرار أم لا ؟ وإرادة المتكلم التكرار لا تستلزم كون التكرار مدلولاً للصيغة فيجوز أن يكون اللفظ دالاً على التكرار لكن المتكلم لا تتعلق به إرادته . واستدل القائلون بالتكرار أيضاً بأن الأمر نهى عن أضداده وهي كل ما لا يجتمع مع المأمور به ومنها تركه وهو أي النهي يمنع من المنهي عنه دائماً فيتكرر الأمر في المأمور به إذا لو لم يتكرر واكتفى بفعله مرة في وقت واحد لم يمنع من أضداده في سائر الأوقات . وأجيب بأن تكرار النهي الذي تضمنه الأمر فرع تكرر الأمر فإثبات تكرر الأمر بتكرر النهي دور لتوقف كل من التكرارين على الآخر . واحتج من قال بأنه يتكرر إذا كان معلقاً على شرط أو صفة بأنه تكرر في نحو قوله وإن كنتم جنباً فاطهروا وأجيب بأن الشرط هنا علة فيتكرر المأمور به بتكررها اتفاقاً ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته والنزاع إنما هو دلالة الصيغة مجردة . قال الرازي في المحصول أن صيغة افعل لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود فوجب أن لا تدل على التكرار بيان الأولى أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى : أقيموا الصلاة ومنها ما جاء على غير التكرار كما في الحج وفي حق العباد أيضاً قد لا يفيد التكرار . فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه السيد على ترك التكرار للأمة العقلاء ولو كرر العبد الدخول حسن من السيد أن يلومه ويقول له إني أمرتك بالدخول وقد دخلت فيكفي ذلك وما أمرناك بتكرار الدخول وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال احفظ دابتي فحفظها ثم أطلقها يذم . إذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين وما ذلك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجوه وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام والأمر لا دلالة فيه ألبتة على التكرار ولا على المرة الواحدة بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من ضروريات الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه ثم أطال الكلام استدلالاً للمذهب الأول ودفعاً لحجج المذاهب الآخرة مما قد تقدم حاصل معناه . وإذا عرفت جميع ما حررناه تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشيء يعتد به . هذا إذا كان الأمر مجرداً عن التعليق بعلة أو صفة أو شرط أما إذا كان معلقاً بشيء من هذه فإن كان معلقاً على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة وإثبات الحكم بثبوتها فإذا تكررت تكرر وليس التكرار مستفاداً هاهنا من الأمر وإن كان معلقاً على شرط أو صفة . فقد ذهب كثير ممن قال أن الأمر لا يفيد التكرار إلى أنه مع هذا التعليق يقتضي التكرار لا من حيث الصيغة بل من حيث التعليق لها على ذلك الشرط أو الصفة إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضي ذلك وإلا فلا تكرار كقول السيد لعبده : اشتر اللحم إن دخلت السوق . وقول الرجل لامرأته . إن دخلت الدار فأنت طالق . وكذا لو قال أعط الرجل العالم درهماً أو أعط الرجل الفقير درهماً . والحال أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه فإن حصلت حصل التكرار وإلا فلا . فلا يتم استدلال المستدلين على التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار لأن ذلك خارج عن محل النزاع وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها أهل الأصول لا يأتي بفائدة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الخامس : اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أو لا اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أم لا ؟ فالقائلون بأنه يقتضي التكرار يقولون بأنه يقتضي الفور لأنه يلزم القول بذلك مما لزمهم من استغراق الأوقات بالفعل المأمور على ما مر وأما من عداهم فيقولون المأمور به لا يخلو إما أن يكون مقيداً بوقت يفوت الأداء بفواته أو لا وعلى الثاني يكون لمجرد الطلب فيجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به وهذا هو الصحيح عند الحنفية وعزي إلى الشافعي وأصحابه واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي . قال ابن برهان لم ينقل عن أبي حنيفة و الشافعي نص وإنما فروعهما تدل على ذلك . قال في المحصول والحق أنه موضوع لطلب الفعل وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فوراً أو تراخياً انتهى . وقيل أنه يقتضي الفور فيحب الإتيان به في أول أوقات الامكان للفعل المأمور به وعزى إلى المالكية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية ، وقال القاضي الأمر يوجب إما الفور أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال وتوقف الجويني في أنه باعتبار اللغة للفور أو التراخي قال فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما على الاخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور لعدم احتمال وجوب التراخي وقيل بالوقف في الامتثال أي لا ندري هل يأثم إن بادر أو ان أخر لاحتمال وجوب التراخي . استدل القائلون بالتكرار المستلزم لاقتضاء الفور بما تقدم في الفصل الذي قبل هذا وقد تقدم دفعه واحتج من قال بأنه في غير المقيد بوقت لمجرد الطلب بما تقدم أيضاً من أن دلالته لا تزيد على مجرد الطلب بفور أو تراخي لا بحسب المادة ولا بحسب الصيغة لأن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فلزم أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط وكونها دالة على الفور أو التراخي خارج عن مدلوله وإنما يفهم ذلك بالقرائن فلا بد من جعلها حقيقة للقدر المشترك بين القسمين دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع لافادة القدر المشترك بين القسمين لا يكون فيه إشعار بخصوصية أحدهما على التعيين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة فثبت أن اللفظ لا إشعار له بخصوص كونه فوراً ولا بخصوص كونه تراخياً واحتجوا أيضاً بأنه يحسن من السيد أن يقول لعبده افعل الفعل الفلاني في الحال أو غداً ولو كان كونه فوراً داخلاً في لفظ افعل لكان الأول تكراراً والثاني نقضاً وأنه غير جائز . واحتجوا أيضاً بأن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا تفعل وبين قولنا افعل إلا أن الأول خبر والثاني إنشاء لكن قولنا تفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات فإنه يكفي في صدقه الإتيان به في أي وقت كان فكذلك الأمر وإلا لكان بينهما فرق سوى كون أحدهما خبراً والثاني إنشاء . واحتج القائلون بالفور بأن مخبر بكلام خبري كزيد قائم ومنشىء كبعت وطالق يقصد الحاضر عند الإطلاق عن القرائن حتى يكون موجوداً للبيع والطلاق بما ذكر فكذا الأمر والجامع بينه وبين الخبر كون كل منهما من أقسام الكلام وبينه وبين سائر الإنشاآت التي يقصد بها الحاضر كون كل منها إنشاء . وأجيب بأن ذلك قياس في اللغة لأنهم قاسوا الأمر في أفادته الفور على الخبر والانشاء للجامع المذكور وهو مع اتحاد الحكم غير جائز فكيف مع اختلافه فإنه في الخبر والانشاء تعين الزمان الحاضر للمظروفية ويمتنع ذلك في الأمر لأن الحاصل لا يطلب . واحتجوا ثانياً بأن النهي يفيد الفور فكذا الأمر والجامع بينهما كونهما طلباً . وأجيب بأنه قياس في اللغة وقد تقدم بطلانه وأيضاً الفور في النهي ضروري لأن المطلوب الترك مستمراً على ما مر بخلاف الأمر وأيضاً المطلوب بالنهي هو الامتثال لأنه يفيد الفور ، فالمراد أن الفور ضروري في الامتثال للنهي . واحتجوا ثالثاً بأن الأمر نهي عن الأضداد والنهي للفور فيلزم أن يكون الأمر للفور . وأجيب بما تقدم من الدفع بمثل هذا في الفصل الذي قبل هذا . واحتجوا رابعاً بأن الله ذم إبليس على عدم الفور بقوله ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك حيث قال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا فدل على أن للفور وإلا لما استحق الذم لأنه لم يتضيق عليه وقته . وأجيب عن هذا بأن ذلك حكاية حال فلعله كان مقروناً بما يدل على الفور ولا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف فإنه لو كان مجرد التجويز مسوغاً لدفع الأدلة لم يبق دليل إلا وقيل فيه مثل ذلك . وأجيب أيضاً بأن هذا الأمر لإبليس مقيد بوقت وهو وقت نفخ الروح في آدم بدليل قوله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فذم إبليس على تركه الامتثال للأمر في ذلك الوقت المعين . واحتجوا خامساً بقوله سبحانه وتعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله فاستبقوا الخيرات وأجيب بأن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب الفور لما فيهما من الأمر بالمسارعة والاستباق لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور . واحتجوا سادساً بأنه لو جاز التأخير لجاز إما ألى بدل أو غير بدل والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل . أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالانفاق ليس كذلك . وأما فساد القسم الثاني فذلك يمنع من كونه واجباً لأنه يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه إلى غير بدل . وأجيب باختيار الشق الأول ويقوم البدل مقام المبدل في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل ورد بأنه إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان فهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد حصل ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية وإنما يتم ما ذكروه من الجواب بتقدير اقتضاء الأمر للتكرار وهو باطل كما تقدم واحتجوا سابعاً بأنه لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين أو إلى آخر أزمنة الامكان والأول منتف لأن الكلام في غير الموقت والثاني تكليف ما لا يطلق لكونه غير معين عند المكلف والتكليف بإيقاع الفعل في وقت مجهول تكليف بما لا يطاق . وأجيب بالنقض الاجمالس والنقض التفصيلي أما الاجمالي فلجواز التصريح بالإطلاق بأن يقول الشارع إفعل ولك التأجير فإنه جائز إجماعاً بإيجاب التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان أم جواز التأخير إلى وقت يعينه المكلف فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق لتمكنه من الامتثال في أي وقت أراد إيقاع الفعل فيه . واحتج القاضي لما ذهب إليه أنه ثبت في خصال الكفارة بأنه لو أتى بإحداها أجزأ ولو أخل بها عصى وأن العزم يقوم مقام الفعل فلا يكون عاصياً إلا بتركهما . وأجيب بأن الطاعة إنما هي بالفعل بخصوصه فهو مقتضى الأمر فوجوب العزم ليس مقتضاه . واستدل الجويني على ما ذهب إليه من الوقف بأن الطلب متحقق والشك في جواز التأخير فوجب الفور ليخرج عن العهدة بيقين . واعتراض عليه بأن هذا الاستدلال لا يلائم ما تقدم له من التوقف في كون الأمر للفور وأيضاً وجوب المبادرة ينافي قوله المتقدم حيث قال أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب واعتراض عليه أيضاً بأن التأخير لا نسلم أنه مشكوك فيه بل التأخير جائز حقاً لما تقدم من الأدلة فالحق قول من قال أنه لمطلق الطلب من غير تقييد بفور ولا تراخ ولا ينافي هذا اقتضاء بعض الأوامر للفور كقول القائل أسقني أطعمني فإنما ذلك من حيث أن مثل هذا الطلب يراد منه الفور فكان ذلك قرينة على إرادته به وليس النزاع في مثل هذا إنما النزاع في الأوامر المجردة عن الدلالة على خصوص الفور أو التراخي كما عرفت .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل السادس في الأمر المعين ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به كان ذلك الأمر به نهياً عن الشيء المعين المضاد له سواء كان الضد واحداً كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهياً عن الكفر وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهياً عن السكون أو كان الضد متعدداً كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهياً عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك . وقيل ليس نهياً عن الضد ولا يقتضيه عقلاً واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب وقيل أنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم فقال أنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي ففي الأول نهي تحريم وفي الثاني نهي كراهة ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي ومنهم أيضاً من جعل النهي عن الشيء أمراً بضده كما جعل الأمر بالشيء نهياً عن ضده ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه . واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده والنهي عن الشيء ليس أمراً بضده وذلك لنفيهم الكلام النفسي ومع اتفاقهم على هذا النفي أن نفي كون كل واحد منهما عيناً لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين حكماً في الضد أم لا فأبو هاشم ومتابعوه قالوا لا يوجب شيء منهما حكماً في الضد بل الضد مسكوت عنه وأبو الحسين وعبد الجبار قالا الأمر يوجب حرمة الضد وفي عبارة أخرى عنهم يدل عليها وفي عبارة ثالثة عنهم يقتضيها ، وقال الرازي والقاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام وأتباعهم من المتأخرين الأمر يقتضي كراهة الضد ولو كان إيجاباً والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة ولو كان النهي تحريماً ، وقال جماعة منهم صدر الإسلام وشمس الأئمة وغيرهما أن النزاع إنما هو في أمر الفور لا التراخي وفي الضد الوجودي المستلزم للترك لا في الترك قالوا وليس النزاع في لفظ الأمر والنهي بأن يقال للفظ الأمر نهي وللفظ نهي وللفظ النهي أمر للقطع بأن الأمر موضوع بصيغة افعل والنهي موضوع بصيغة لا تفعل وليس النزاع أيضاً في مفهومها للقطع بأنهما متغايران بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهي وطلب الترك الذي هو النهي عين طلب فعل ضده الذي هو الأمر وهكذا حرروا محل النزاع . وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط إذا قيل بأنه ليس نهياً عن ضده أو به وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى عن فعل الضد لأنه خالف أمراً ونهياً وعصى بهما وهكذا في النهي . استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده بأنه لو لم يكن الأمر بالشيء نهياً عن ضده لمكان إما مثله أو ضده أو خلافه واللازم باطل بأقسامه أما الملازمة فلأن كل متغايرين إما أن يتساويا في صفات النفس أو لا والمعنى بصفات النفس ما لا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد عليه كالإنسانية للإنسان والحقيقة والوجود بخلاف الحدوث والتحيز فإن تساويا فيها فهما مثلان كسوادين أو بياضين وإلا فإما أن يتنافيا بأنفسهما أي يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتيهما أولاً فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض وإلا فخلافان كالسواد والحلاوة وأما انتفاء اللازم بأقسامه فلأنهما لو كانا ضدين أو مثلين لم يجتمعا في محل واحد وهما يجتمعان إذ جواز الأمر بالشيء والنهي عن ضده معاً ووقوعه ضروري ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل واحد منهما مع ضد الآخر ومع خلافه لأن الخلافين حكمهما كذلك كما يجتمع السواد وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده وهو الأمر بضده وذلك محال لأنه يكون الأمر حينئذ طلب ذلك الشيء في وقت طلب فيه عدمه ، وأجيب بمنع كون لازم كل خلافين ذلك أي جواز اجتماع كل مع ضد الآخر لجواز تلازمهما الضد للآخر وحينئذ فالنهي جواز الانفكاك في المتغايرين كالجوهر مع العرض والعلة مع المعلول فلا يجامع أحد الخلافين على تقدير تلازمهما الضد الآخر وحينئذ فالنهي إذا ادعى كون الأمر إياه إذا كان طلب ترك ضد المأمور به اخترنا كونهما خلافين ولا يجب اجتماع النهي اللازم من الأمر مع ضد طلب المأمور به كما زعموا كالأمر بالصلاة والنهي عن الأكل فإنهما خلافان ولا يلزم من كونهما خلافين اجتماع الصلاة المأمور بها مع إباحة الأكل الذي هو ضد النهي عن الأكل . واستدلوا أيضاً بأن فعل السكون عين ترك الحركة وطلب فعل السكون طلب لترك الحركة وطلب تركها هي النهي . وأجيب بأن النزاع على هذا يرجع لفظياً في تسمية فعل المأمور به تركاً لضده وفي تسميته طلبه نهياً فإن كان ذلك باعتبار اللغة فلم يثبت فيها ما يفيده ذلك . ورد بمنع كون النزاع لفظياً بل هو في وحدة الطلب القائم بالنفس بأن يكون طلب الفعل عين طلب ترك ضده . وأجيب ثانياً بحصول القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد وإنما يتم ما ذكروه من كون فعل السكون عين ترك الحركة فيما كان إحدهما ترك الآخر لا في الأضداد الوجودية فطلب ترك أحدهما لا يكون طلباً للمأمور به لأنه يتحقق تركه في ضمن ضد آخر . واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده ولا نقيضه بأنه لو كان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد ومستلزماً له لزم تعقل الضد والقطع حاصل بتحقق الأمر بالشيء مع عدم خطور الضد على البال واعترض بأن الذي لا يخطر بالبال من الأضداد إنما هو الأضداد الجزئية وليست مرادة للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده ، بل المراد الضد العام ، وهو ما لا يجامع المأمور به وتعقله لازم للأمر والنهي إذا طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حصوله والعلم بالعدم ملزوم للعلم بالضد الخاص والضد الخاص ملزوم للضد العام ، فلا بد من تعقل الضد العام في الأمر بالشيء وكذلك لا بد منه في النهي عن الشيء . ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من عدم التوارد ، فإن شرط التوارد الذي هو مدار الاعتراض كون مورد الإيجاب والسلب للمتخاصمين بحيث يكون قول كل منهما على طرف النقيض لقول الآخر والمستدل إنما نفى خطور الضد الخاص على الإطلاق فقول المعترض إن الذي لا يخطر هو الأضداد الجزئية موافقة معه فيها فلا تتحقق المناظرة بينهما باعتبار ذلك . نعم يجاب عنه بأن مراد المعترض من ذلك بيان غلط المستدل من حيث أنه اشتبه عليه مراد القائل بأن الأمر بالشيء نهي عن الضد فزعم أن مراده الأضداد الجزئية ، وليس كذلك ، بل الضد العام ، ولا يصح نفي خطورة بالبال لما تقدم فحينئذ تنعقد المناظرة بينهما ويتحقق التوارد ، وأيضاً هذا الاعتراض متناقض في نفسه ، فإن قول المعترض إن ما لا يخطر بالبال هو الأضداد الجزئية يناقض قوله إن العلم بعدم الفعل ملزوم العلم بالضد الخاص ، لأن الإيجاب الجزئي نقيض السلب الكلي عند اتحاد النسبة . وأجيب بمنع توقف الأمر بالفعل على العمل بعدم التلبس بذلك الفعل في حال الأمر به لأن المطلوب مستقبل فلا حاجة للطالب إلى الالتفات إلى ما في الحال من وجود الفعل أو عدمه ولو سلم توقف الأمر بالفعل على العلم بعدم التلبس به فالكف عن الفعل المطلوب مشاهد محسوس فقد تحقق ما توقف عليه الأمر بالفعل من العلم بعدم التلبس به ولا يستلزم شهود الكف بالسكون عن الحركة اللازمة لمباشرة الفعل المأمور به ولو سلم لزوم تعقل الضد في الجملة فمجرد تعلقه ليس ملزوماً لتعلق الطلب تركه الذي هو معنى النهي عن الضد لجواز الاكتفاء في الأمر بالشيء بمنع ترك الفعل المأمور به فترك المأمور به ضد له وقد تعقل حيث منع عنه لكنه فرق بين المنع عن الترك وبين طلب الكف عن الترك . وتوضيحه أن الآمر بفعل غير مجوز تركه فقد يخطر بباله تركه من حيث إنه لا يجوزه ملحوظاً بالتبع لا قصداً وبهذا الاعتبار يقال منع تركه ولا يقال طلب الكف عن تركه لأنه يحتاج إلى توجه قصدي . واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده بأن أمر الإيجاب طلب فعل يذم بتركه فاستلزم النهي عن تركه وعما يحصل الترك به وهو الضد للمأمور به فاستلزم الأمر المذكور النهي عن ضده . واعترض على هذا الدليل بأنه لو تم لزم تصور الكف عن الكف عن المأمور به لكل أمر إيجاب وتصور الكف عن الكف لازم لطلب الكف عن الكف واللازم باطل للقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الكف عن الكف ولو سلم تصور الكف عن الكف منع كون الذم بالترك جزء الأمر الإيجابي أو لازم مفهومه لزوماً عقلياً واستلزام الأمر الإيجابي النهي عن تركه فرع كون الذم بالترك جزءاً أو لازماً ، وما قيل من أنه لو سلم أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده لزم أن لا مباح إذ ترك المأمور به وضده يعم المباحات والمفروض أن الأمر يستلزم النهي عنها والمنهي منه لا يكون مباحاً فغير لازم إذ المراد من الضد المنهي عنه الضد المفوت لأمر وليس كل ضد مفوتاً ولا كل مقدر من المباحات ضداً مفوتاً كخطوة في الصلاة وابتلاع ريقه وفتح عينه ونحو ذلك فإنها أمور مغايرة بالذات للصلاة وبهذا الاعتبار يطلق الضد للصلاة لكنها لا تفوت الصلاة . وزاد القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده كما أن الأمر بشيء يتضمن النهي عن ضده دليلاً آخر فقالوا أن النهي طلب ترك فعل وتركه بفعل أحد أضداده فوجب أحد أضداده وهو الأمر لأن ما لا يحصل الواجب إلا به واجب . ودفع بأنه يلزم كون كل من المعاصي المضادة واجباً كالزنا فإنه من حيث كونه تركاً للواط لكونه ضداً له يكون واجباً ويكون اللواط من حيث كونه تركاً للزنا واجباً . ودفع أيضاً بأنه يستلزم أن لا يوجد مباح لأن كل مباح ترك المحرم وضد له فإن قيل غاية ما يلزم وجوب أحد المباحات المضادة لا كلها فيقال أن وجوب أحد الأشياء لا على التعيين بحيث يحصل ما هو الواجب بأداء كل واحد منها ينافي الإباحة كما في خصال الكفارة ودفع أيضاً بمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به . ورد بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به لجاز تركه وذلك يستلزم جواز ترك المشروط في الواجب وجواز فعل المشروط في المحرم بدون شرطه الذي لا يتم إلا به واستدل المخصصون لأمر الإيجاب بأن استلزام الذم للترك للنفي إنما هو في أمر الوجوب واستدل القائل بأن الأمر يقتضي كراهة الضد ولو إيجاباً والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة بمثل ما استدل به القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل وإن النهي أمر بالضد المتحد وفي المتعدد بواحد غير معين . ويجاب عنه بأن ذكر الكراهة في جاتب الأمر وذكر السنية في جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم ، وإذا عرفت ما حررناه من الأدلة والردود بها فاعلم أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بالمعنى الأعم فإن اللازم بالمعنى الأعم هو أن يكون تصور الملزوم واللازم معاً كافياً في الجزم باللزوم بخلاف اللازم بالمعنى الأخص فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم وهكذا النهي عن الشيء فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل السابع الاتيان بالمأمور به على وجهه والخلاف الواقع بين أهل الأصول هل يوجب الإجزاء أو لا إعلم أن الإتيان بالمأمور به على وجهه الذي أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول . هل يوجب الأجزاء أم لا ؟ وقد فسر الأجزاء بتفسيرين أحدهما حصول الإمتثال به والآخر سقوط القضاء به فعلى التفسير الأول أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي تحقق الإجزاء المفسر بالامتثال وذلك متفق عليه فإنه معنى الامتثال وحقيقته ذلك وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه جماعة من أهل الأصول أن الإتيان بالمأمور به على وجه يستلزم سقوط القضاء وقال القاضي عبد الجبار لا يستلزم . استدل القائلون بالاستلزام بأنه لو لم يستلزم سقوط القضاء لم يعلم امتثال أبداً واللازم منتف فالملزوم مثله أما الملازمة فلأنه حينئذ يجوز أن يأتي بالمأمور به ولا يسقط عنه بل يجب عليه فعله مرة أخرى قضاء وكذلك القضاء إذا فعله لم يسقط كذلك وأما انتفاء اللازم فمعلوم قطعاً واتفاقاً ورأياً إن القضاء عبارة عن استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء والفرض أنه قد جاء بالمأمور به على وجهه ولم يفت منه شيء وحصل المطلوب بتمامه فلو أتى به استدراكاً لكان تحصيلاً للحاصل . قال في المحصول فعل المأمور به يقتضي الإجزاء خلافاً لأبي هاشم وأتباعه . لنا وجوه : الأول : أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وإنما قلنا إنه أتى بما أمر به لأن المسألة مرفوضة فيما إذا كان الأمر كذلك وإنما قلنا يلزم أن يخرج عن العهدة لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولاً للمأتي أو لغيره والأول باطل لأن الحاصل لا يمكن تحصيله . والثاني : باطل لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولاً لغيره ذلك الذي وقع مأتيا به ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر وقد فرضناه كذلك هذا خلف . والثاني أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانياً وثالثاً أو يتفصى عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم والأول باطل لما بينا على أن الأمر يفيد التكرار والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للأجزاء إلا كونه كافياً في الخروج عن عهدة الأمر . والثالث : أنه لو لم يقتض الأجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده إفعل فإذا فعلت لا يجزىء عنك لو قال ذلك أحد لعد مناقضاً . احتج المخالف بوجوه : الأول : أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر يجب أن لا يدل على الأجزاء بمجرده . والثاني : أن كثيراً من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها والمضي فيها ولا تجزئه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه . والثالث : أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأموراً به فأما أن الإتيان به يكون سبباً لسقوط التكليف فذاك لا يدل عليه بمجرد الأمر . والجواب عن الأول أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول النهي يدل على منعه من فعله وذلك لا ينافي أن نقول إنك لو أتيت به لجعلته سبباً لحكم آخر أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضائه المأمور به مرة واحدة فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضياً لشيء ، وعن الثاني أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على حد الوجه الذي وقع به على وجه آخر وذلك الوجه لم يوجد وعن الثالث إن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضياً بعد ذلك وذلك هو المراد بالإجزاء .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الثامن اختلفوا هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول اختلفوا هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول ؟ هذه المسألة لها صورتان : الصورة الأولى : الأمر المقيد كما إذا قال افعل في هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت فقيل لا يقتضي لوجهين : الأول : أن قول القائل لغيره افعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول الأمر وإذا لم يتناوله لم يدل عليه بنفي ولا إثبات . الثاني : أن أوامر الشرع تارة لا تستلزم وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارة تستلزمه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال فلا يلزم القضاء إلا بأمر جديد وهو الحق وإليه ذهب الجمهور وذهب جماعة من الحنابلة والحنفية والمعتزلة إلى أن وجوب القضاء يستلزمه بالأداء في الزمان المعين لأن الزمان غير داخل في الأمر بالفعل ورد بأنه داخل لكونه من ضروريات الفعل المعين وقته وإلا لزم أن يجوز التقديم على ذلك الوقت المعين واللازم باطل فالملزوم مثله . الصورة الثانية : الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعد أو يحتاج إلى دليل فمن لم يقل بالفور يقول إن ذلك الأمر المطلق يقتضي الفعل مطلقاً فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بفعله ومن قال بالفور قال إنه يقتضي الفعل بعد أول أوقات الإمكان وبه قال أبو بكر الرازي ومن القائلين بالفور من يقول إنه لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد . قال في المحصول ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره افعل هل معناه افعل في الزمان الثاني ؟ فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع ثم كذلك أبداً أو معناه في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الأول الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثاني لم يقتضه والحق أن الأمر المطلق يقتضي الفعل من غير تقييد بزمان فلا يخرج المكلف عن عهدته إلا بفعله وهو أداء وإن طال التراخي لأن تعيين بعض أجزاء الوقت له لا دليل عليه واقتضاؤه الفور لا يستلزم أنه بعد أول أوقات الإمكان قضاء بل غاية ما يستلزمه أن يكون المكلف آثماً بالتأخير عنه إلى وقت آخر . وقد استدل للقائلين بأن الأمر المقيد بوقت معين لا يقتضي إيقاع ذلك الفعل في وقت آخر بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لكان مقتضياً للقضاء واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملازمة فبينة إذ الوجوب أخص من الاقتضاء وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم وأما انتفاء اللازم فلأنا قاطعون بأن قول القائل صم يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة بوجه من وجوه الاقتضاء ولا يتناوله أصلاً واستدل لهم أيضاً بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لاقتضاه ولو اقتضاه لكان أداء فيكونان سواء فلا يأثم بالتأخير وأجيب عن بأن الأمر المقيد بوقت أمر بإيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين فإذا فات قبل إيقاع الفعل فيه بقي الوجوب مع نقص فيه فكان إيقاعه فيما بعد قضاء ، ويرد هذا بمنع بقاء الوجوب بعد انقضاء الوقت المعين ، واستدل القائلون بأن القضاء بالأمر الأول بقولهم الوقت للمأمور به كالأجل للدين فكما أن الدين لا يسقط بترك تأديته في أجله المعين بل يجب القضاء فيما بعده فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته المعين ويجاب عن هذا بالفرق بينهما بالإجماع على عدم سقوط الدين إذا انقضى أجله ولم يقضه من هو عليه وبأن الدين يجوز تقديمه على أجله المعين بالإجماع واستدلوا محل النزاع فإنه لا يجوز تقديمه عليه بالإجماع . واستدلوا أيضاً بأنه لو وجب بأمر جديد لكان أداء لأنه أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين فكان كالأمر بفعله ابتداء . ويجاب عنه بأنه لا بد في الأمر بالفعل بعد انقضاء ذلك الوقت من قرينة تدل على أنه يفعل استدراكاً لما فات أما مع عدم القرينة الدالة على ذلك فما قالوه يلزم ولا يضرنا ولا ينفعهم . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل التاسع اختلفوا هل الأمر بالشيء أو بذلك الشيء أم لا اختلفوا هل الأمر بالشيء أو بذلك الشيء أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى الثاني وذهب جماعة إلى الأول . احتج الأولون بأنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء لكان قول القائل لسيد العبد مر عبدك ببيع ثوبي تعدياً على صاحب العبد بالتصرف في عبده بغير إذنه ولكان قول صاحب الثوب بعد ذلك للعبد لا تبعه مناقضاً لقوله للسيد مر عبدك ببيع ثوبي لورود الأمر والنهي على فعل واحد . وقال السبكي إن لزوم التعدي ممنوع لأن التعدي هو أمر عبد الغير بغير أمر سيده فإن أمره للعبد متوقف على أمر سيده وليس بشيء لأن النزاع في أن قوله مر عبدك الخ هل هو أمر للعبد ببيع الثوب أم لا ، لا في أن السيد إذا أمر عبده بموجب مر عبدك هل يتحقق عند ذلك أمر للعبد من قبل القائل مر عبدك يجعل السيد سفيراً أو وكيلاً . وأما استدلالهم بما ذكروه من المناقضة ، فقد أجيب عنه بأنه المراد هنا منعه من البيع بعد طلبه منه وهو نسخ لطلبه منه . واحتج الآخرون بأوامر الله سبحانه لرسوله صضص بأن يأمرنا فإنا مأمورون بتلك الأوامر وكذلك أمر الملك لوزيره بأن أمر فلاناً بكذا فإن الملك هو الآمر بذلك المأمور لا الوزير . وأجيب بأنه فهم ذلك في الصورتين من قرينة أن المأمور أولاً هو رسول ومبلغ عن الله وأن الوزير هو مبلغ عن الملك لا من لفظ الأمر المتعلق بالمأمور الأول ومحل النزاع هو هذا . أما لو قال قل لفلان افعل كذا فالأول آمر والثاني مبلغ بلا نزاع ، كذا نقل عن السبكي وابن الحاجب واختار السعد التسوية بينهما والأول أولى قال في المحصول فلو قال زيد لعمرو كل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك فالأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء في هذه الصورة ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب عليك فلاناً فهو واجب أما لو لم يقل ذلك كما في قوله صضص : مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي انتهى . وهذا الحديث ثابت في السنن ومما صلح مثالاً لمحل النزاع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قوله صضص لعمر وقد طلق ابنه عبد الله امرأته وهي حائض مرة فليراجعها وقيل إنه ليس بما يصلح مثالاً لهذه المسألة لأنه قد صرح فيه بالأمر من الشارع بالمراجعة حيث قال فليراجعها بلام الأمر وإنما يكون مثالاً لو قال مره بأن يراجعها والظاهر أنه من باب قل لفلان افعل كذا وقد تقدم الخلاف فيه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل العاشر اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية يقتضي الآمر بها أو بشيء من جزئياتها اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية يقتضي الآمر بها أو بشيء من جزئياتها على التعيين أم هو أمر بفعل مطلق تصدق عليه الماهية ويخبر به عنها صدق الكلي على جزئياته من غير تعيين ؟ فذهب الجمهور إلى الثاني وقال بعض الشافعية بالأول . احتج الأولون بأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب وإلا امتنع الامتثال وهو خلاف الإجماع ووجه ذلك أنها لو وجدت في الأعيان لزم تعدها كلية في ضمن الجزئية فمن حيث أنها موجودة تكون شخصية جزئية ومن حيث إنها الماهية الكلية تكون كلية وأنه محال فمن قال لآخر بع هذا الثوب فإن هذا لا يكون أمر ببيعه بالغبن ولا بالثمن الزائد ولا بالثمن المساوي لأن هذه الأنواع مشتركة في مسمى البيع وتمييزه كل واحد منها بخصوص كونه بالغبن أو بالثمن الزائد أو المساوي وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمراً بما به يمتاز كل واحد من الأنواع عن الآخر بالذات ولا يالاستلزام وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون ألبتة أمراً بشيء من أنواعه لكن إذا دلت القرينة على إرادة بعض الأنواع حمل اللفظ عليه . قال في المحصول وهذه قاعدة شريفة برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله . ومما يوضح المقام ويحصل به المرام من هذا الكلام ما ذكره أهل علم المعقول من أن الماهيات ثلاث . الأول : الماهية لابشرط شيء من القيود ولا بشرط عدمها وهي التي يسميها أهل المنطق الماهية المطلقة ويسمونها الكلي الطبيعي ، والخلاف في وجودها في الخارج معروف والحق أن وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه . والثانية : الماهية بشرط لا شيء : أي بشرط خلوها عن القيود ويسمونها الماهية المجردة ولا خلاف بينهم في أنها لا توجد في الخارج . والثالثة : الماهية بشرط شيء من القيود ولا خلاف في وجودها في الخارج . وتحقيقه أن الماهية قد تؤخذ بشرط أن تكون مع بعض العوارض كالإنسان بقيد الوحدة ، فلا يصدق على المتعدد وبالعكس وكالمقيد بهذا الشخص ، فلا يصدق على فرد آخر ، وتسمى الماهية المخلوطة والماهية بشرط شيء ولا ارتياب في وجودها في الأعيان ، وقد تؤخذ بشرط التجرد عن جميع العوارض ، وتسمى المجردة والماهية بشرط لا شيء ولا خفاء في أنها لا توجد في الأعيان بل في الأذهان ، وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجردة بل مع تجويز أن يقارنها شيء من العوارض وأن لا يقارنها وتكون مقولاً على المجموع حال المقارنة وهي الكلي الطبيعي والماهية لا بشرط شيء والحق وجودها في الأعيان لكن لا من حيث كونها جزءاً من الجزئيات المحققة على ما هو رأي الأكثرين بل من حيث إنه يوجد شيء تصدق هي عليه وتكون عينه بحسب الخارج ، وإن تغايرا بحسب المفهوم وبمجموع ما ذكرناه يظهر لك بطلان قول من قال إن الأمر بالماهية الكلية يقتصر الأمر بها ولم يأتوا بدليل يدل على ذلك دلالة مقبولة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . الفصل الحادي عشر اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين هل يكون الثاني للتأكيد فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة أو للتأسيس فيكون المطلوب الفعل مكرراً اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين هل يكون الثاني للتأكيد فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة أو للتأسيس فيكون المطلوب الفعل مكرراً وذلك نحو أن يقول صل ركعتين صل ركعتين فقال الجبائي وبعض الشافعية أنه للتأكيد وذهب الأكثر إلى أنه للتأسيس ، وقال أبو بكر الصيرفي بالوقف في كونه تأسيساً أو تأكيداً فكان الحمل على ما هو أكثر وإلحاق الأقل به أولى وبأن الأصل البراءة من التكليف المتكرر فلا يصار إليه مع الاحتمال . ويجاب بمنع كون التأكيد أكثر في محل النزاع فإن دلالة كل لفظ على مدلول مستقل هو الأصل الظاهر وبمنع صحة الاستدلال بأصلية البراءة أو ظهورها فإن تكرار اللفظ يدل على مدلول كل واحد منهما أصلاً وظاهراً لأن أصل كل كلام وظاهره الإفادة لا الإعادة وأيضاً التأسيس أكثر والتأكيد أقل وهذا معلوم عند كل من يفهم لغة العرب . وإذا تقرر لك رجحان هذا المذهب عرفت منه بطلان ما احتج به القائلون بالوقف من أنه قد تعارض الترجيح في التأسيس والتأكيد . أما لو لم يكن الفعلان من نوع واحد فلا خلاف أن العمل بهما متوجه نحو صل ركعتين صم يوماً وهكذا إذا كانا من نوع واحد ولكن قامت القرينة الدلالة على أن المراد التأكيد نحو صم اليوم صم اليوم ونحو صل ركعتين صل ركعتين فإن التقيد باليوم وتعريف الثاني يفيدان أن المراد بالثاني هو الأول وهكذا إذا اقتضت العادة أن المراد التأكيد نحو اسقني ماء وهكذا إذا كان التأكيد بحرف العطف نحو صل ركعتين وصل ركعتين لأن التكرير المفيد للتأكيد لم يعهد إيراده بحرف العطف وأقل الأحوال أن يكون قليلاً والحمل على الأكثر أولى . أما لو كان الثاني مع العطف معرفاً بالظاهر التأكيد نحو صل ركعتين وصل الركعتين لأن دلالة اللام على إرادة التأكيد أقوى من دلالة حرف العطف على إرادة التأسيس . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الباب الثاني في النواهي وفيه مباحث ثلاثة البحث الأول : اعلم أن النهي في اللغة معناه المنع . يقال نهاه عن كذا أي منعه عنه ومنه سمي العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب ويمنعه عنه وهو في الاصطلاح القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء فخرج الأمر لأنه طلب فعل غير كف وخرج الالتماس والدعاء لأنه لا استعلاء فيهما وأورد على هذا الحد قول القائل كف بقيد عن كذا وأجيب بأنه يلتزم كونه من جملة أفراد النهي فلا يرد النقض به ولهذا قيل إن اختلافهما باختلاف الحيثيات والاعتبارات فقولنا كف عن الزنا باعتبار الإضافة إلى الكف أمر وإلى الزنا نهي وأوضح صيغ النهي لا تفعل كذا ونظائرها ويلحق بها اسم لا تفعل من أسماء الأفعال كمه فإن معناه لا تفعل وصه فإن معناه لا تتكلم وقد تقدم في حد الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يريد في هذا المقام من الكلام اعتراضاً ودفعاً . البحث الثاني : اختلفوا في معنى النهي الحقيقي فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقي هو التحريم وهو الحق ورد فيما عداه مجازاً كما في قوله صضص لا تصلوا في مبارك الإبل فإنه للكراهة . وكما في قوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا فإنه للدعاء وكما في قوله تعالى : لا تسألوا عن أشياء فإنه للإرشاد وكما في قول السيد لعبده الذي لم يمتثل أمره لا تمتثل أمري فإنه للتهديد وكما في قوله تعالى : ولا تمدن عينيك فإنه للتحقير وكما في قوله تعالى : ولا تحسبن الله غافلاً فإنه لبيان العاقبة وكما في قوله تعالى : لا تعتذروا اليوم فإنه للتأييس وكما في قولك لمن يساويك لا تفعل فإنه للالتماس . والحاصل أنه يرد مجازاً لما ورد له الأمر كما تقدم ولا يخالف الأمر إلا في كونه يقتضي التكرار في جميع الأزمنة وفي كونه للفور فيجب ترك الفعل في الحال . قيل ويخالف الأمر أيضاً في كون تقدم الوجوب قرينة دالة على أنه للإباحة ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني الإجماع على أنه لا يكون تقدم الوجوب قرينة للإباحة وتوقف الجويني في نقل الإجماع ومجرد هذا التوقف لا يثبت له في نقل الأستاذ . واحتج القائلون بأنه حقيقة في التحريم بأن العقل يفهم الحتم من الصيغة المجردة عن القرينة وذلك دليل الحقيقة واستدلوا أيضاً باستدلال السلف بصيغة النهي المجردة عن التحريم وقيل أنه حقيقة في الكراهة واستدلوا على ذلك بأن النهي إنما يدل على مرجوحية المنهي عنه وهو لا يقتضي التحريم . وأجيب بمنع ذلك بل السابق إلى الفهم عند التجرد هو التحريم وقيل مشترك بين التحريم والكراهة فلا يتعين أحدهما إلا بدليل وإلا كان جعله لأحدهما ترجيحاً من غير مرجح وقالت الحنفية إنه يكون للتحريم إذا كان الدليل قطعياً ويكون للكراهة إذا كان الدليل ظنياً ورد بأن النزاع إنما هو في طلب الترك وهذا طلب قد يستفاد بقطعي فيكون قطعياً وقد يستفاد بظني فيكون ظنياً . البحث الثالث : في اقتضاء النهي للفساد . فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه أي لذات الفعل أو لجزئه وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحاً ذاتياً كان النهي مقتضياً للفساد المرادف للبطلان سواء كان ذلك الفعل حسياً كالزنا وشرب الخمر أو شرعياً كالصلاة والصوم . والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعاً لا لغة وقيل إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعاً وقيل أن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط دون المعاملات وبه قال أبو الحسين البصري والغزالي والرازي وابن الملاحي والرصاص . واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعاً بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات والأنكحة والبيوع وغيرها وأيضاً لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة واللازم باطل لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا فكان فعله كلا فعل وامتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى لفوات الزائد من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة وإن كانت راجحة امتنعت الصحة لخلوه عن المصلحة أيضاً بل لفوت قدر الرجحان من مصلحة النهي . واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعاً . واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعاً بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد . وأجيب بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه لا لدلالة اللغة . واستدلوا ثانياً بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم والنهي نقيضه والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضياً للفساد . وأجيب بأن الأمر يقتضي الصحة شرعاً لا لغة فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع. واستدال القائلون بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات بأن العبادات دون المعاملات بأن العبادات المنهى عنها لو صحت لكانت مأموراً بها ندباً لعموم أدلة مشروعية العبادات فيجتمع النقيضان لأن الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الترك وهو محال وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات فلأنه لو اقتضاه في غيرها لكان غسل النجاسة بماء مغصوب والذبح بسكين مغصوبة وطلاق البدعة والبيع في وقت النداء والوطء في زمن الحيض غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة وحل الذبيحة وأحكام الطلاق والملك وأحكام الوطء واللازم باطل فالملزوم مثله . وأجيب بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه بل لأمر خارج ولو سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي فلا يرد النقيض بها . وذهب جماعة من الشافعية والحنفية والمعتزلة إلى أنه لا يقتضي الفساد لا لغة ولا شرعاً لا في العبادات ولا في المعاملات . قالوا لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعاً لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعاً باطل أما الملازمة فظاهرة ، وأما بطلان اللازم فلأن الشارع لو قال نهيتك عن الربا نهي تحريم ولو فعلت لكان البيع المنهى عنه موجباً للملك لصح من غير تناقض لا لغة ولا شرعاً . وأجيب بمنع الملازمة لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط . وذهبت الحنفية إلى ما لا تتوقف أن معرفته على الشرع كالزنا وشرب الخمر يكون النهي عنه لعينه ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه أو المجاور له فيكون النهي حينئذ عنه لغيره فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان الحائض وأما الفعل الشرعي وهو ما يتوقف معرفته على الشرع فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول . والحق أن كل مهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه وفساده المرادف للبطلان اقتضاء شرعياً ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي . ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق عليه وهو قوله صضص كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد والمنهي عنه ليس عليه أمرنا فهو رد وما كان رداً أي مردوداً كان باطلاً وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع وأنه باطل لا يصح وهذا هو المراد بكون النهي مقتضياً للفساد وصح عنه صضص أنه قال : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه وذلك هو المطلوب ودع عنك ما روعوا به من الرأي هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه أما لو كان النهي عنه لوصفه وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة فذهب الجمهور إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه بل على فساد نفس الوصف واحتجوا لذلك بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر وأيضاً كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض ولا ذبح ملك الغير لحرمته إجماعاً وذهب جماعة إلى أنه يقتضي فساد الأصل محتجيين بأن النهي ظاهر في الفساد من غير فرق بين كونه لذاته أو لصفاته وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن وقع ويكون دليلاً على خلاف ما يقتضيه الظاهر ، وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه وليس ذلك لذاته ولا لجزئه لأنه صوم وهو مشروع بل لكونه صوماً في يوم العيد وهو وصف لذات الصوم . قال بعض المحققين من أهل الأصول أن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عن الشيء مقيداً بصفة نحو لا تصل كذا ولا تبع كذا وحاصله ما ينهي عن وصفه لا ما يكون الوصف علة للنهي . وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة فقيل لا يقتضي الفساد لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين والظاهر أنه يضاد وجود أصله لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان كما صرح به الشافعي وأتباعه وجماعة من أهل العلم فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد لا فرق بينهما ، وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته ولجزئه ولوصف لازم ولوصف مجاور ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل أو في الوصف ولهم في ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة ، ثم النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال والأزمنة والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف والنهي عنه لوصف مفارق أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفاً بذلك الوصف وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه لأن النهي عن إيقاعه مقيداً بهما يستلزم فساده ما داما قيدا له . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
في العموم وفيه ثلاثون مسألة المسألة الأولى : في حده وهو في اللغة شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظاً أو غيره ومنه قولهم عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم وأما حده في الاصطلاح ، فقال في المحصول هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد كقوله الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا تدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم ولا التثنية ولا الجميع لأن لفظ رجلان ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفيد أن الاستغراق ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه . وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك والذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معاً انتهى . وقد سبقه إلى بعض ما ذكره في هذا الحد أبو الحسين البصري فقال العام هو اللفظ المستغرق لما يصلح له ورد عليه المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد واندفع الاعتراض عنه بزيادة قيد بوضع واحد ثم ورد عليه نحو عشرة ومائة ونحوهما لأنه يستغرق ما يصلح له من المتعدد الذي يفيده وهو معنى الاستغراق ودفع بمثل ما ذكره في في المحصول ، وقال أبو علي الطبري هو مساواة بعض ما تناوله لبعض واعترض عليه بلفظ التثنية فإن أحدهما مساو للآخر وليس بعام ، وقال القفال الشاشي أقل العموم شيئان كما أن الخصوص واحد وكأنه نظر إلى المعنى اللغوي وهو الشمول والشمول حاصل في التثنية وإلا فمن المعلوم أن التثنية لا تسمى عموماً لا سيما إذا قلنا أقل الجمع ثلاثة فإذا سلب عن التثنية أقل الجمع فسلب العموم عنها أولى وقال المازري العموم عند أئمة الأصول هو القول المشتمل على شيئين فصاعداً والتثنية عندهم عموم لما يتصور فيها من معنى الجمع والشمول الذي لا يتصور في الواحد ولا يخفي ما يرد عليه . وقال الغزالي هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً واعترض عليه أنه ليس بجامع ولا مانع أما كونه ليس بجامع فلخروج لفظ المعدوم والمستحيل فإنه عام ومدلوله ليس بشيء وأيضاً الموصولات مع صلاتها مع جملة العام وليست بلفظ واحد وأما أنه ليس بمانع فلأن مثنى يدخل في الحد مع أنه ليس بعام وكذلك قل جمع لمعهود وليس بعام . وقد أجيب عن الأول بأن المعدوم والمستحيل شيء لغة وإن لم يكن شيئاً في الاصطلاح وعن الثاني بأن الموصولات هي التي ثبت لها العموم والصلات مبينات لها وقال ابن فورك اشتهر من كلام الفقهاء أن العموم هو اللفظ المستغرق وليس كذلك لأن الاستغراق عموم ما دونه عموم وأقل العموم اثنان ، وقال ابن الحاجب أن العام هو ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقاً ضربة فقوله ما دل جنس وقوله على مسميات يخرج نحو زيد وقوله باعتبار أمر اشتركت فيه يخرج نحو عشرة فإن العشرة دلت على آحاد لا باعتبار أمر اشتركت فيه لأن آحاد العشرة أجزاء العشرة لا جزئياتها فلا يصدق على واحد واحد أنه عشرة وقوله مطلقاً ليخرج المعهود فانه يدل على مسميات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين وقوله ضربة أي دفعة واحدة ليخرج نحو رجل مما يدل على مفرداته بدلاً لا شمولاً . ويرد عليه خروج نحو علماء البلد مما يضاف من العمومات إلى ما يخصصه مع أنه عام قصد به الاستغراق ووجه ورود ذلك عليه من حيث اعتباره في التعريف بقيد الإطلاق مع أن العام المضاف قد قيد بما أضيف هو إليه . وأجيب بأن الذي اشتركت المسميات فيه هو علماء البلد مطلقاً لا العالم وعالم البلد لم يتقيد بقيد وإنما قيد العلماء ، وورد عليه أيضاً أنه قد اعتبر الأفراد في العام وعلماء البلد مركب وأجيب بأن العام إنما هو المضاف من حيث أنه مضاف إليه خارج . وأورد عليه الجمع المنكر كرجال فإنه يدل على مسميات وهي آحاده باعتبار ما اشتركت فيه وهو مفهوم رجل مطلقاً لعدم العهد وليس بعام عند من يشترط الاستغراق . وقد أورد على المعتبرين للاستغراق في حد العام مطلقاً مفرداً كان أو جمعاً أن دلالته على الفرد تضمينه إذ ليس الفرد مدلولاً مطابقياً ، لأن المدلول المطابقي هو مجموع الأفراد المشتركة في المفهوم المعتبر فيه على ما صرحوا به ولا لازماً ولا يمكن جعله أي الفرد مما يصدق عليه العام لصيرورته بمنزلة كلمة واحدة في الاصطلاح العلماء ، وليس مما يصدق على إفراده بدلاً ، بل شمولاً ولا يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بكل جزئي . وأجيب بأنه يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بالجزء لزوماً لغوياً وأن ذلك مما يكفي في الرسوم وفيه نظر . وإذا عرفت ما قيل في حد العام علمت أن أحسن الحدود المذكورة هو ما قدمنا عن صاحب المحصول لكن مع زيادة قيد دفعة فالعام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية : ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ فإذا قيل هذا لفظ عام صدق على سبيل الحقيقة ، وقال القاضي أبو بكر إن العموم والخصوص يرجعان إلى الكلام ثم الكلام الحقيقي هو المعنى القائم دون الصيغ انتهى . واختلف الأولون في اتصاف المعاني بالعموم بعد اتفاقهم على أنه حقيقة في الألفاظ ، فقال بعضهم أنها تتصف به حقيقة كما تتصف به الألفاظ ، وقال بعضهم أنها تتصف به مجازاً ، وقال بعضهم أنها لا تتصف به لا حقيقة ولا مجازاً . احتج القائلون بأنه حقيقة فيهما بأن العموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد فكما صح في الألفاظ باعتبار شمول لفظ لمعان متعدد بحسب الوضع صح في المعاني باعتبار شمول لفظ لمعان متعددة بحسب لا يتصور شمول أمر معنوي لأمور متعددة كعموم المطر الخصب ونحوهما ، وكذلك ما يتصوره الإنسان من المعاني الكلية فإنها شاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها ، ولذلك يقول المنطقيون : العام ما لا يمنع تصوره وقوع الشركة فيه والخاص بخلافه . وأجيب بأن العام شمول أمر لمتعدد وشمول المطر والخصب ونحوهما ليس كذلك إذا لموجود في مكان غير الموجود في المكان الآخر وإنما هو أفراد من المطر والخصب وأيضا ما ذكروه عن المنطقيين غير صحيح فانهم يطلقون ذلك على الكلي لا على العام : ورد بمنع كونه يعتبر في معنى العموم لغة هذا القيد بل يكفي الشمول سواء كان هناك أمر واحد أو لم يكن . ومنشأ الخلاف هذا هو ما وقع من الخلاف في معنى العموم فمن قال معناه شمول أمر لمتعدد إلا الموجود الذهني شخصيته منع من إطلاقه حقيقة على المعاني فلا يقال هذا المعنى عام لأن الواحد بالشخص لا شمول ولا يتصف بالشمول لمتعدد إلا الموجود الذهني ووحدته ليست بشخصية فيكون عنده إطلاق العموم على المعاني مجازاً لا حقيقة كما صرح به الرازي . ومن فهم من اللغة أن الأمر الواحد الذي أضيف إليه الشمول في معنى العموم أعم من الشخصي ومن النوعي أجاز إطلاق العام على المعاني حقيقة . وقيل إن محل النزاع إنما هو من صحة تخصيص المعنى العام كما يصح تخصيص اللفظ العام لا في اتصاف المعاني بالعموم ، وفيه بعد فإن نصوص هؤلاء المختلفين مصرحة بأن خلافهم في اتصاف المعاني بالعموم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة : هل يتصور العموم في الأحكام حتى يقال حكم قطع السارق عام أنكره القاضي وأثبته الجويني وابن القشيري وقال المازري الحق بناء هذه المسألة على أن الحكم يرجع إلى قول أو إلى وصف يرجع إلى الذات فإن قلنا بالثاني لم يتصور العموم لما تقدم في الأفعال وإن قلنا يرجع إلى قول فقوله سبحانه السارق يشمل كل سارق فنفس القطع فعل والأفعال لا عموم لها . قال القاضي أبو عبد الله الصيمري الحنفي في كتابه مسائل الخلاف في أصول الفقه دعوى العموم في الأفعال لا تصح عند أصحابنا ودليلنا أن العموم ما اشتمل على أشياء متغايرة والفعل لا يقع إلا على درجة واحدة ، وقال الشيخ أبو إسحاق لا يصح العموم إلا في الألفاظ ، وأما في الأفعال فلا يصح لأنها تقع على صفة واحدة ، فإن عرفت صفته مثل قول الراوي جمع بين الصلاتين في السفر فهذا مقصور على السفر ومن الثاني قوله في السفر فلا يدري أنه كان طويلاً أو قصيراً فيجب التوقف فيه ولا يدعي فيه العموم ، وقال ابن القشيري أطلق الأصوليون أن العموم والخصوص لا يتصور إلا في الأقوال ولا يدخل في الأفعال أعني في ذواتها فأما في أسمائها فقد يتحقق ولهذا لا نتحقق ادعاء العموم في أفعال النبي صضص . قال شمس الأئمة السرخسي ذكر أبو بكر الجصاص أن العموم حقيقة في المعاني والأحكام كما هو في الأسماء والألفاظ وهو غلط فإن المذهب عندنا أنه لا يدخل المعاني حقيقة وإن كان يوصف به مجازاً . قال القاضي عبد الوهاب في الإفادة الجمهور على أنه لا يوصف بالعموم إلا القول فقط وذهب قوم من أهل العراق إلى أنه يصح ادعاؤه في المعاني والأحكام ومرادهم بذلك حمل الكلام على عموم الخطاب وإن لم يكن هناك صيغة كقوله حرمت عليكم الميتة فإنه لما لم يصح تناول التحريم لها عمها بتحريم جميع التصرفات من الأكل والبيع واللمس وسائر أنواع الأنتفاع وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم بعموم ولا خصوص وكذلك قوله إنما الأعمال بالنيات عام في الأجزاء والكمال والذي يقوله أكثر الأصوليين والفقهاء واختصاصه بالقول وإن وصفهم الجور والعدل بأنه عام مجاز انتهى . فعرفت بما ذكرناه وقوع الخلاف في اتصاف الأحكام بالعموم كما وقع الخلاف في اتصاف المعاني به . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة : اعلم أن العام عمومه شمولي وعموم المطلق بدلي وبهذا يصح الفرق بينهما فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة فصح إطلاق اسم العموم عليه باعتبار الحيثية . والفرق بين عموم الشمول البدل أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد وعموم البدل كلي من حيث أنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه ولكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة قال في المحصول اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي هي من غير أن يكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة سلباً كان ذلك القيد أو إيجاباً فهو المطلق وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا تتناول ما يدل عليها فهو اسم العدد وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام وبهذا ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا بعينه فإن كونه واحداً وغير معين قيدان زائدان على الماهية انتهى ، فيجعل في كلامه هذا معنى المطلق عن التقييد فلا يصدق إلا على الحقيقة من حيث هي هي وهو غير ما عليه الاصطلاح عند أهل هذا الفن وغيرهم كما عرفت مما قدمنا ، وقد تعرض بعض أهل العلم للفرق بين العموم والعام فقال العام هو اللفظ المتناول والعموم تناول اللفظ لما يصلح له فالعموم مصدر والعام فاعل مشتق من هو المصدر وهما متغايران لأن المصدر والفعل غير الفاعل قال الزركشي في البحر ومن هذا يظهر الإنكار على عبد الجبار وابن برهان وغيرهما في قولهم العموم اللفظ المستغرق ، فإن قيل أرادوا بالمصدر اسم الفاعل قلنا استعماله فيه مجاز ولا ضرورة لارتكابه مع إمكان الحقيقة وفرق القرافي بين الأعم والعام بأن الأعم إنما يستعمل في المعنى والعام في اللفظ ، فإذا قيل هذا أعم تبادر الذهن للمعنى وإذا قيل هذا عام تبادر الذهن للفظ .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المسألة الخامسة : ذهب الجمهور إلى العموم له صيغة موضوعة له حقيقة وهي أسماء الشرط والاستفهام والموصلات والجموع المعرفة تعريف الجنس والمضافة واسم الجنس والنكرة والمنفية والمفردة والمحلي باللام ولفظ كل وجميع ونحوها وسنذكر إن شاء الله الاستدلال على عموم هذه الصيغ ونحوه ذكراً مفصلاً . قالوا لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة لتعذر جمع الآحاد على المتكلم فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام . واحتجوا أيضاً بأن السيد إذا قال لعبده لا تضرب أحداً فهم منه العموم حتى لو ضرب واحداً عد مخالفاً والتبادر دليل الحقيقة والنكرة في النفي للعموم حقيقة فللعموم صيغة وأيضاً لم يزل العلماء يستدلون بمثل والسارق والسارقة فاقطعوا و الزانية والزاني فاجلدوا وقد كان الصحابة يحتجون عند حدوث الحادثة عند الصيغ المذكورة على العموم ، ومنه ما ثبت عنه صضص لما سئل عن الحمر الأهلية ، فقال لم ينزل علي في شأنها إلا هذه الآية الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وما ثابت أيضاً من احتجاج عمرو بن العاص لما أنكر عليه ترك الغسل من الجنابة والعدول إلى التيمم مع شدة البرد ، فقال سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم فقرر ذلك رسول الله صضص وكم يعد العاد من مثل هذه المواد . وما أجيب به عن ذلك بأنه إنما فهم بالقرائن جواب ساقط لا يلتفت إليه ولا يعول عليه وقال محمد ابن المنتاب من المالكية ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفبة أنه ليس للعموم صيغة تخصه ، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص وهو أقل الجمع أما اثنان أو ثلاثة على الخلاف في أقل الجمع ولا يقتضي العموم إلا بقرينة قال القاضي في التقريب والإمام في البرهان يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها على أقل المراتب انتهى . ولا يخفاك أن قولهم موضوع للخصوص مجرد دعوى ليس عليها دليل والحجة قائمة عليهم لغة وشرعاً وعرفاً وكل من يفهم لغة العرب واستعمالات الشرع لا يخفي عليه هذا . وقال جماعة من المرجئة أن شيئاً من الصيغ لا يقتضي بذاته ولا مع القرائن بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري . قال في البرهان نقل مصنفوا المقامات عن أبي الحسن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية وهذا النقل على الإطلاق زلل فإن أحداً لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ تشعر به كقول القائل رأيت القوم واحداً واحداً لم يفتن منهم أحد وإنما كرر هذه الألفاظ لقطع توهم من يحسبه خصوصاً إلى غير ذلك وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع انتهى . ولا يخفاك أن هذا المذهب مدفوع بمثل ما دفع به الذي قبله وبزيادة على ذلك وهو أن إهمال القرائن المقتضية لكونه عاماً شاملاً عناد ومكابرة ، وقال قوم بالوقف ونقله القاضي في التقريب عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع بل تبقى على التردد هذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائل رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها انتهى . وقد اختلف الواقفية في محل الوقف على تسعة أقوال : الأول : وهو المشهور من مذهب أئمتهم القول به على الإطلاق من غير تفصيل . الثاني : أن الوقف إنما هو في الوعد والوعيد دون الأمر والنهي حكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي . قال وربما ظن مذهب أبي حنيفة لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة . الثالث : القول بصيغ العموم في الوعد والوعيد والتوقف فيما عدا ذلك وهو قول جمهور المرجئة . الرابع : الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها . الخامس : الوقف في الوعيد دون الوعد قال القاضي وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق . السادس : الفرق بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيئاً من أدلة السمع وكانت وعداً ووعيداً فعلم أن المراد بها للعموم وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به حكاه القاضي في مختصر التقريب . السابع : الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع عنه صضص وأما من سمع منه وعرف تصرفاته فلا وقف فيه كذا حكاه المازري . الثامن : التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم دون ما إذا لم يتقيد . التاسع : إن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيرها حكاه المازري عن بعض المتأخرين ، وقد علمت اندفاع مذهب الوقف على الإطلاق بعدم نوازن الأدلة التي تمسك بها المختلفون في العموم بل ليس بيد غير أهل المذهب الأول شيء مما يصح إطلاق اسم الدليل عليه فلا وجه للتوقف ولا مقتضى له . والحاصل أن كون المذهب الأول هو الحق الذي لا سترة به ولا شبهة فيه ظاهر لكل من يفهم فهماً صحيحاً ويعقل الحجة ويعرف مقدارها في نفسها ويعرف مقدار ما يخالفها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة : في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك الصيغ للعموم وفيه فروع : الفرع الأول : في من وما وأين ومتى للاستفهام فهذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص أو لهما على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول . أما أنه لا يجوز أن يقال أنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك وأما أنه لا يجوز أن يقال بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثلاً إذا قال من عندك فلا بد أن تقول سألتني عن الرجال أو النساء فإذا قال عن الرجال فلا بد أن تقول سألتني عن العرب أو العجم فإذا قال عن العرب فلا بد أن تقول عن ربيعة أو مضر وهكذا إلى أن تأتي على جميع الأقسام الممكنة وذلك لأن اللفظ أما أن يقال أنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة في الخصوص والأول باطل لأن أحداً لم يقل به والثاني يقتضي أن لا يحس من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام لأن الجواب لا بد أن يكون مطابقاً للسؤال فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال وذلك غير جائز فثبت أن لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير واجبة أما أولاً فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال ، وأما ثانياً فإنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات . وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم والخصوص فمتفق عليه فبطلت هذه الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول . الفرع الثاني : في صيغة ما ومن في المجازاة فإنها للعموم ويدل عليه أن قول القائل من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركاً بين العموم والخصوص لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام لكنه قد حسن ذلك بدون استفهام فدل على عدم الاشتراك كما سبق في الفرع الذي قبل هذا وأيضاً لو قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء من هذا الكلام وحسن ذلك معلوم من عادة أهل اللغة ضرورة والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك أنه لا نزاع أن المستثنى من الجنس يصح دخوله تحت المستثنى منه فأما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر والأول باطل وإلا لم يبق فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر كقولك جاءني فقهاء إلا زيداً وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقولك جاءني الفقهاء إلا زيداً والفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب . الفرع الثالث : في أن صيغة كل وجميع يقيدان الاستغراق ويدل على ذلك أنك إذا قلت جاءني كل عالم في البلد أو جميع علماء البلد فإنه يناقضه قولك ما جاءني كل عالم في البلد وما جاءني جميع علماء البلد ولذلك يستعمل كل واحد من هذين الكلامين في تكذيب الآخر والتناقض إلا إذا أفاد لكل الاستغراق لأن النفي عن الكل لا يناقض الثبوت في البعض وأيضاً صيغة الكل والجميع مقابلة لصيغة البعض ولولا أن صيغتهما غير محتملة للبعض لم تكن مقابلة وأيضاً إذا قال القائل ضربت كل من في الدار أو ضربت جميع من في الدار سبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت صيغة الكل أو الجمع مشتركة بين الكل والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر وإذا قال السيد لعبده اضرب كل من دخل داري أو جميع من دخل داري فضرب كل واحد ممن دخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه بضرب جميعهم وله أن يعترض عليه إذا ترك البعض منهم ومثله لو قال رجل لرجل أعتق كل عبيدي أو جميع عبيدي ثم مات لم يحصل الامتثال إلا بعتق كل عبد له ولا يحصل امتثاله بعتق البعض وأيضاً لا يشك عارف بلغة العرب أو بين قول القائل جاءني رجال وجاءني كل الرجال وجميع الرجال فرقاً ظاهراً وهو دلالة الثاني على الاستغراق دون الأول وإلا لم يكن بينهما فرق ومعلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن الاستغراق جاءوا بلفظ كل وجميع وما يفيد مقادهما ولو لم يكونا للاستغراق لكان استعمالهم لهما عند إرادتهم للاستغراق عبثاً . قال القاضي عبد الوهاب : ليس بعد كل في كلام العرب كلمة أعم منها ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة تقول كل امرأة أتزوجها فهي طالق وجاءني القوم كلهم فيفيد أن المؤكد به عام وهي تشمل العقلاء وغيرهم والمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع فلذلك كانت أقوى صيغ العموم وتكون في الجميع بلفظ واحد تقول كل النساء وكل القوم وكل رجل وكل امرأة . قال سيبويه معنى قولهم كل رجل كل رجال فأقاموا رجلاً مقام رجال لأن رجلاً شائع في الجنس والرجال ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه بكل ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء ولا يقال جاء زيد كله انتهى . وقد ذكر علماء النحو والبيان الفرق بين أن يتقدم النفي على كل وبين أن تتقدم هي عليه فإذا تقدمت على حرف النفي نحو كل القوم لم يقم أفادت التنصيص على انتفاء قيام كل فرد فرد وإن تقدم النفي عليها مثل لم يقم كل القوم لم تدل إلا على نفي المجموع وذلك بصدق بانتفاء القيام عن بعضهم ويسمى الأول عموم السلب والثاني سلب العموم من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد والثاني لم يفد العموم في حق كل أحد إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم . قال الفراء وهذا شيء اختصت به كل من بين سائر صيغ العموم قال وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان وأصلها قوله صضص كل ذلك لم يكن لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت انتهى . وإذا عرفت هذا في معنى كل فقد تقرر أن لفظ جميع هو بمعنى كل الإفرادي وهو معنى قولهم أنها للعموم الإحاطي لا وقيل يفترقان من جهة كون دلالة على كل فرد بطريق النصوصية بخلاف جميع وفرقت الحنفية بينهما بأن كل تعم الأشياء على سبيل الإنفراد وجميع تعمها على سبيل الاجتماع ، وقد روى أن الزجاج حكى هذا الفرق عن المبرد . الفرع الرابع : لفظ أي فإنها من جملة صيغ العموم إذا كانت شريطة واستفهامية كقوله تعالى أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقوله أيكم يأتيني بعرشها وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين الجويني وابن الصباغ وسليم الرازي والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والرازي والآمدي والصفي والهندي وغيرهم قالوا وتصلح للعاقل وغيره . قال القاضي عبد الوهاب في التخليص إلا أنها تتناول على جهة الانفراد دون الاستغراق ولهذا إذا قلت أي الرجلين عندك لم يجب إلا بذكر واحد قال ابن السمعاني في القواطع وأما كلمة أي فقيل كالنكرة لأنها تصحبها لفظاً ومعنى تقول أي رجل فعل هذا وأي دار دخل قال الله تعالى : أيكم يأتيني بعرشها وهي في المعنى نكرة لأن المراد بها واحد منهم انتهى . قال الزركشي في البحر . وحاصل كلامهم أنها للاستغراق البدلي والشمولي لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم والشمولي وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء ومنهم من لم يعده كالغزالي وابن القشيري لأجل النحاة أنها بمعنى بعض إذا أضيفت إلى معرفة وقول الفقهاء أي وقت دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول كما في كلما . والحق أن عدم التكرار لا ينافي العموم وكون مدلولها أحد الشيئين قدر مشترك بينهما وبين بقية الصيغ في الاستفهام . وقال صاحب اللباب من الحنفية وأبو زيد في التقويم كلمة أي نكرة لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة ألا ترى إلى قوله أيكم يأتيني بعرشها ولم يقل يأتوني لو قال لغيره أي عبيدي ضربته فهو حر فضربهم لم يعتق إلا واحد فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم بقوله أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه جميعاً عتقوا لعموم فعل الضرب . وصرح الكيا الطبري بأنها ليست من صيغ العموم فقال وأما أي فهي اسم مفرد يتناول جزءاً من الجملة المضافة قال الله سبحانه وتعالى : أيكم يأتيني بعرشها فجاء به واحد وقال أيكم أحسن عملاً وصرح القاضي حسين والشاشي أنه لا فرق بين الصورتين المذكورتين وأن العبيد يعتقون جميعاً فيهما وجزم ابن الهمام في التحرير بأنها في الشرط والاستفهام ككل مع النكرة وكالبعض مع المعرفة وهو المناسب لما جوزه النحاة فيها فإن الفرق بين قول القائل أي رجل تضرب اضرب وبين أي الرجل تضرب اضرب ظاهر لا يخفى . الفرع الخامس : النكرة في النفي فإنها تعم وذلك لوجهين : الأول : أن الأنسان إذا قال أكلت اليوم شيئاً فمن أراد تكذيبه قال ما أكلت اليوم شيئاً فذكرهم هذا النفي عن تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضاً له فلو كان قوله ما أكلت اليوم شيئاً لا يقتضي العموم لما تناقضا لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي . الوجه الثاني : أنها لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفياً لجميع الإلهة سوى الله سبحانه وتعالى فتقرر بهذا أن النكرة المنفية بما أو لن أو لم أو ليس أو لا مفيدة للعموم وسواء دخل حرف النفي على فعل نحو ما رأيت رجلاً أو على الاسم نحو لا رجل في الدار ونحو ما أحد قائماً وما قام أحد ، وقال القاضي عبد الوهاب في الإفادة قد فرق أهل اللغة بين النفي في قوله ما جاءني أحد وما جاءني من أحد وبين دخوله على النكرة من أسماء الجنس فيما جاءني رجل وما جاءني من رجل فرأوا تساوي اللفظين في الأول وأن من زائدة فيه وافتراق المعنى في الثاني لأن قوله ما جاءني رجل يصلح أن يراد به الكل وأن يراد به رجل واحد فإذا دخلت من أخلصت النفي للاستغراق ، وقال إمام الحرمين الجويني هي للعموم ظاهراً عند تقدير من فإن دخلت من كانت نصاً والمشهور في علم النحو الخلاف بين سيبويه والمبرد . فسيبويه قال إن العموم مستفاد من النفي قبل دخول من والمبرد قال أنه مستفاد من لفظ من والحق ما قاله سيبويه وكون من تفيد النصوصية بدخولها لا ينافي الظهور الكائن قبل دخولها . قال أبو حيان مذهب سيبويه أن ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس وهذا هو الصحيح انتهى ولو لم تكن من صيغ العموم قبل دخول من لما كان نحو قوله تعالى : لا يعزب عنه مثقال ذرة لا تجزي نفس عن نفس شيئا مقتضياً للعموم ، وقد فرق بعضهم بين حروف النفي الداخلة على النكرة بفرق لا طائل تحته فلا نطول بذكره . واعلم أن حكم النكرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة الواقعة في سياق النفي وما خرج عن ذلك من الصور فهو لنقل العرف له عن الوضع اللغوي . الفرع السادس : لفظ معشر ومعاشر وعامة وكافة وقاطبة وسائر من صيغ العموم في مثل قوله يا معشر الجن والإنس و« نحن معاشر الأنبياء لا نورث » و« جاءني القوم عامة » وقاتلوا المشركين كافة و« ارتدت العرب قاطبة » وجاءني سائر الناس إن كانت مأخوذة من سور البلد وهو المحيط بها كما قاله الجوهري وإن كانت من أسأر بمعنى أبقى فلا تعم ، وقد حكى الأزهري الاتفاق عن أنها مأخوذة من المعنى الثاني وغلطوا الجوهري . وأجيب عن الأزهري بأنه قد وافق الجوهري على ذلك السيرافي في شرح كتاب سيبويه و أبو منصور الجواليقي في شرح أدب الكاتب وابن بري وغيرهم والظاهر أنه للعموم وإن كانت بمعنى الباقي لأن المراد بها شمول ما دخلت عليه سواء كانت بمعنى الجميع أو الباقي كما تقول اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين وخالف في ذلك القرافي والقاضي عبد الوهاب .