الفرع السابع : الالف واللام الحرفية لا الإسمية تفيد العموم إذا دخلت على الجمع سواء كان سالماً أو مكسراً وسواء كان من جموع القلة أو الكثرة وكذا إذا دخلت على اسم الجمع كركب وصحب وقوم ورهط وكذا إذا دخلت على اسم الجنس . وقد اختلف في اقتضائها للعموم إذا دخلت على هذه المذكورات على مذاهب ثلاثة . الأول : أنه إذا كان هناك معهود حمل على العهد فإن لم يكن حملت على الاستغراق واليه ذهب جمهور أهل العلم . الثاني : انها تحمل على الاستغراق إلا ان يقوم دليل على العهد . الثالث : انها تحمل عند فقد العهد على الجنس من غير استحقاق وحكاه صاحب الميزان عن ابي علي الفارسي وابي هاشم والراجح المذهب الأول ، وقال ابن الصباغ هو إجماع الصحابة . قال في المحصول مستدلاً على هذا المذهب لنا وجوه . الأول : ان الأنصار لما طلبوا الامامة احتج عليهم أبو بكر بقوله صضص الائمة من قريش والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على خص هذه الصورة وامثالها عن الموضوع اللغوي على أنه قد حكى الروياني في البحر عن ابن عباس و احمد بن حنبل انها تطلق الاربع جميعاً بخلاف ما عدا هذه الصورة وامثالها فانه يحمل على العموم كما لو قال مالي صدقة ومن هذا قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وقوله صضص هو الطهور ماؤه والحل ميتته . الفرع التاسع : الاسماء الموصولة كالذي والتي والذين واللات . وذو الطائية وجمعها وقد صرح القرافي والقاضي عبد الوهاب بانها من صيغ العموم ، وقال ابن السمعاني جميع الاسماء المبهمة تقتضي العموم ، وقال اصحاب الاشعري انها تجري في بابها مجرى اسم منكور كقوله سبحانه : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وما خرج من ذلك فلقرينة تخصصه عن موضوعه اللغوي . الفرع العاشر : نفب المساواة بين الشيئين كقوله لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فذهب جمهور الشافعية وطوائف من الاصوليين والفقهاء إلى أنه يقتضي العموم وذهبت الحنفية والمعتزلة و الغزالي والرازي إلى أنه ليس بعام . استدل الأولون بانه نكرة في سياق النفي لأن الجملة نكرة باتفاق النحاة وكذلك توصف بها النكرات دون المعارف . واستدل الرازي في المحصول لللاخرين بوجهين : الأول : أن نفي الاستواء مطلقاً أي في الجملة أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين الامرين لا اشعار فيه بهما فلا يلزم من نفيه نفيهما . الثاني : أنه أما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه والأول باطل وإلا لوجوب إطلاق لفظ المساواة على جميع الأشياء لأن كل شيئين لا بد أن يستويا في بعض الأمور من كونهما معلومين وموجودين ومذكورين وفي سلب ما عداهما عنهما ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي لأنهما في العرف كالمتناقضين فإن من قال هذا يساوي ذاك فمن أراد تكذيبه قال لا يساويه والمناقضان لا يصدقان معاً فوجب أن لا يصدق على شيئين ألبتة لأنهما متساويان وغير متساويين ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي المساواة الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي فإذا قلنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه . وأجيب عن الدليل الأول بأن عدم إشعار الأعم بالأخص إنما هو في طريق الإثبات لا في طريق النفي فإن الأعم يستلزم نفي الأخص ولولا ذلك لجاز مثله في كل نفي فلا يعلم نفي أبداً إذ يقال في لا رجل رجل أعم من الرجل بصيغة العموم فلا يشعر به وهو خلاف ما ثبت بالدليل . وأجيب عن الدليل الثاني بأنه إذا قيل لا مساواة فإنما يراد نفي مساواة يصح انتفاؤه وإن كان ظاهراً في العموم وهو من قبيل ما يخصصه العقل نحو الله خالق كل شيء أي خالق كل شيء يخلق . والحاصل أن مرجع الخلاف إلى أن المساواة في الإثبات هل مدلولها لغة المشاركة في كل الوجوه حتى يكون اللفظ شاملاً أو مدلولها المساواة في بعض الوجوه حتى يصدق بأي وجه فإن قلنا بالأول لم يكن النفي للعموم لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب وإن قلنا بالثاني كان للعموم لأن نقيض الجزئي الموجب كلي سالب . وخلاصة هذا أن صيغة الاستواء أما لعموم سلب التسوية أو الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قوله الأئمة من قريش لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين . قال الوجه الثاني : إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق أما أنه يؤكد فكقوله فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع وأما أنه بعد التأكيد أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار معرفة كما نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل معلوم للمخاطب ، فأما الصرف إلى ما دون فإنه لا يفيد المعرفة لأن بعض المجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولاً . قال الوجه الرابع : أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم على ما تقدم ، وممن حكى إجماع الصحابة على إفادة هذا التعريف للعموم ابن الهمام في التحرير ، وحكى ايضاً إجماع أهل اللغة على صحة الاستثناء . قال الزركشي في البحر وظاهر كلام الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه ونقله ابن القشيري عن المعظم و صاحب الميزان عن أبي بكر السراج النحوي فقال إذا تعارض جهة العهد والجنس يصرف إلى الجنس وهذا هو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع قالا لأن الجنس يدخل تحت العهد والعهد لا يدخل تحت الجنس ، وروى عن إمام الحرمين الجويني أنه مجمل لأن عمومه ليس من صيغته بل من قرينة نفي المعهود فتعين الجنس لأنه لا يخرج عنها وهو قول ابن القشيري قال الكيا الهراس أنه الصحيح لأن الألف واللام للتعريف وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية فيكتسب اللفظ جهة الإجمال لاستوائه بالنسبة إليهما انتهى . والكلام في هذا البحث يطول جداً فقد تكلم فيه أهل الأصول وأهل النحو وأهل البيان بما هو معروف وليس المراد هنا إلا بيان ما هو الحق وتعيين الراجح من المرجوح ومن أمعن النظر وجود التأمل علم أن الحق الحمل على الاستغراق إلا أن يوجد هناك ما يقتضي العهد وهو ظاهر في تعريف الجنس . وأما تعريف الجمع مطلقاً واسم الجمع فكذلك أيضاً لأن التعريف يهدم الجمعية ويصيرها للجنس وهذا يدفع ما قيل من أن استغراق المفرد أشمل . الفرع الثامن : تعريف الإضافة وهو من مقتضيات العموم كالألف واللام من غير فرق بين كون المضاف جمعاً نحو عبيد زيد أو اسم جمع نحو جاءني ركب المدينة أو اسم جنس نحو وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ومنعت العراق درهمها ودينارها ومنعت الشام قفيزها وصاعها وقد صرح الرازي أن المفرد المضاف يعم من اختياره بأن المعرف بالألف واللام لا يعم قال الصفي الهندي في النهاية وكون المفرد المضاف للعموم وإن لم يكن منصوصاً لكن نفيه التسوية بين الإضافة ولام التعريف يقتضي العموم والحق أن عموم الإضافة أقوى ولهذا لو حلف لا يشرب الماء حنث بشرب القليل منه لعدم تناهي إفراده ولو حلف لا يشرب ماء البحر لا يحنث إلا بكله انتهى . وفي هذا الفرق نظر ولا ينافي إفادة إضافة اسم الجنس للعموم ما وقع من الخلاف فيمن قال زوجتي طالق وله أربع زوجات فإن من قال أنها لا تطلق إلا واحدة استدل بأن العرب قد لسلب عموم التسوية فعلى الأول يمتنع ثبوت شيء من إفرادها وعلى الثاني لا يمتنع ثبوت البعض وهذا يقتضي ترجيح المذهب الثاني لأن حرب النفي سابق وهو يفيد سلب العموم لا عموم السلب وأما الآية التي وقع المثال بها فقد صرح فبها بما يدل على أن النفي باعتبار بعض الأمور وذلك قوله أصحاب الجنة هم الفائزون فإن يفيد أنهما لا يستويان في الفوز بالجنة وقد رجح الصفي الهندي أن نفي الاستواء من باب المجمل من المتواطئ لا من باب العام وتقدمه إلى ترجيح الإجمال الكيا الطبري . الفرع الحادي عشر : إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط فإن كان غير متعد فهل يكون النفي له نفياً لمصدره وهو نكرة فيقتضي العموم أم لا حكى القرافي عن الشافعية والمالكية أنه يعم وقال إن القاضي عبد الوهاب في الإفادة نص على ذلك وإن كان متعدياً ولم يصرح بمفعوله نحو لا أكلت وإن أكلت ولا كان له دلالة على مفعول معين فذهبت الشافعية والمالكية و أبو يوسف وغيرهم إلى أنه يعم وقال أبو حنيفة لا يعم واختاره القرطبي من المالكية والرازي من الشافعية وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة نحو يعطي ويمنع فلا يدل على مفعول لا بالخصوص ولا بالعموم . قال الاصفهاني لا فرق بين المتعدي واللازم والخلاف فيهما على السواء . وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني والغزالي والآمدي والصفي الهندي أن الخلاف إنما هو في الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي أو الشرط هل يعم مفاعيله أم لا في الفعل اللازم فإنه لا يعم . والذي ينبغي التعويل عليه أنه لا فرق بينهما في نفس مصدريهما فيكون النفي لهما نفياً لهما ولا فرق بينهما وبين وقوع النكرة في سياق النفي وأما فيما عدا المصدر فالفعل المتعدي لا بد له من مفعول به فحذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا لا يدل على جميع ما يمكن أن يكون مفعولاً على جهة الجمع بل على جهة البدل قال وهؤلاء أخذوا الماهية مقيدة ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازع في ذلك . الفرع الثاني عشر : الأمر للجميع بصيغة الجمع كقوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة عمومه وخصوصه يكون باعتبار ما يرجع إليه أن السيد إذا أشار إلى جماعة من عبيده وقال قوموا فمن تخلف عن القيام منهم استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ للشمول فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة قال في المحصول لأن تلك القرينة أن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام انتهى . وممن صرح أن عموم صيغة الجمع في الأمر وخصوصها يكون باعتبار مرجعها الإمام الرازي في المحصول والصفي الهندي في النهاية وذكر القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي عبد الله البصري أن قول القائل افعلوا يحمل على الاستغراق وقال أبو الحسين البصري الأولى أن يصرف إلى المخاطبين سواء كانوا ثلاثة أو أكثر وأطلق سليم الرازي في التقريب أن المطلقات لا عموم فيها . فائدة قال إمام الحرمين الجويني و ابن القشيري أن أعلى صيغ العموم أسماء الشرط والنكرة في النفي وادعيا القطع بوضع ذلك للعموم وصرح الرازي في المحصول أن أعلاها أسماء الشرط والاستفهام ثم النكرة المنفية لدلالتها بالقرينة لا بالوضع وعكس الصفي الهندي فقدم النكرة المنفية على الكل وقال ابن السمعاني أبين وجوه العموم وألفاظ الجمع ثم اسم الجنس المعرف باللام وظاهره أن الإضافة دون ذلك في المرتبة وعكس الإمام الرازي في تفسيره فقال الإضافة أدل على العموم من الألف واللام والنكرة المنفية أدل على العموم منها إذا كانت في سياق النفي والتي بمن أدل من المجردة عنها قال أبو علي الفارسي أن مجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة . وقال الكيا الطبري في التلويح ألفاظ العموم أربعة : أحدها عام بصيغة ومعناه كالرجال والنساء ، والثاني عام لا بصيغته كالرهط ونحوه من أسماء الأجناس قال وهذا لا خلاف فيه ، والثالث ألفاظ مبهمة نحو ما ومن وهذا يعم كل أحد ، والرابع النكرة في سياق النفي نحو لم أر رجلاً وذلك يعم لضرورة صحة الكلام وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغته والعموم فيه من القرينة فلهذا لم يختلفوا فيه وقد قدمنا في الفرع الثالث ما يفيد أن لفظ كل أقوى صيغ العموم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة : قال جمهور أهل الأصول أن جمع القلة المنكر ليس بعام لظهوره في العشرة فما دونها وأما جمع الكثرة المنكر فذهب جمهور المحققين إلى أنه ليس بعام وخالف في ذلك الجبائي وبعض الحنفية و ابن حزم وحكاه ابن برهان عن المعتزلة واختاره البزدوي وابن الساعات وهو أحد وجهي الشافعية كما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفرائني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي . احتج الجمهور بأن الجمع المنكر لا يتبادر منه عند إطلاقه عن قرينة العموم نحو رأيت رجالاً استغراق الرجال كما أن رجلاً عند الإطلاق لا يتبادر منه الاستغراق لإفراد مفهومه ولو كان للعموم لتبادر منه ذلك فليس الجمع المنكر عاماً كما أن رجلاً كذا قال في المحصول لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا فيقال رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايراً لكل واحد من تلك الأقسام فلا يكون دالاً عليها وأما الثلاثة فهي مما لا بد فيه فيثبت أنه يفيد الثلاث فقط . احتج القائلون أنه يفيد العموم بأنه قد ثبت إطلاقه على كل مرتبة من مراتب الجموع فإذا حملناه على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه فكان أولى وأجيب بمنع إطلاقه على كل مرتبة حقيقة بل هو للقدر المشترك بينها كما تقدم ولا دلالة له على الخصوص أصلاً . واحتجوا ثانياً بأنه لو لم يكن للعموم لكان مخصصاً بالبعض واللازم منتف لعدم المخصص وامتناع التخصيص بلا خصوص . وأجيب بالنقص برجل ونحوه مما ليس للعموم ولا مختصاً بالبعض بل شائع يصلح للجمع ولا يخفاك ضعف ما استدل به هؤلاء القائلون بأنه للعموم فإن دعوى عموم رجال لكل رجل مكابرة لما هو معلوم من اللغة ومعاندة لما يعرفه كل عارف بها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة : اختلفوا في أقل الجمع وليس النزاع في لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين كما ذكر ذلك إمام الحرمين الجويني والكيا الهراس وسليم الرازي فإن جمع موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء وذلك حاصل في الاثنين والثلاثة وما زاد على ذلك بلا خلاف قال سليم الرازي بل قد يقع على الواحد كما يقال جمعت الثوب بعضه إلى بعض قال الشيخ أبو إسحاق الإسفرائني لفظ الجمع في اللغة له معنيان الجمع من حيث الفعل المشتق منه الذي هو مصدر جمع يجمع جمعاً والجمع الذي هو لقب وهو اسم العدد قال وبعض من لم يهتد إلى هذا الفرق خلط الباب فظن أن الجمع الذي هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي هو بمعنى الفعل فقال إذا كان الجمع بمعنى الضم فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما فوجب أن يكون جمعاً وثبت أن الاثنين أقل الجمع وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة وسائر أهل العلم وذكر إمام الحرمين الجويني أن الخلاف ليس في مدلول مثل قوله قد صغت قلوبكما وقول القائل ضربت رؤوس الرجلين وقطعت بطونهما بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع سواء كان للسلامة أو التكسير وذكر مثل هذا الأستاذ أبو منصور والغزالي . إذا عرفت هذا ففي أقل الجمع مذاهب : الأول : أن أقله اثنان وهو المروي عن عمر وزيد بن ثابت وحكاه عبد الوهاب عن الأشعري وابن الماجشون . قال الباجي وهو قول القاضي أبي بكر بن العربي وحكاه ابن خوازمنداد عن مالك واختاره الباجي ونقله صاحب المصادر عن القاضي أبي يوسف وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وحكاه سليم الأشعري وبعض المحدثين قال ابن حزم هو قول جمهور أهل الظاهر وحكاه ابن الدهان النحوي عن محمد بن داود وأبي يوسف والخليل ونفطويه ، قال وسأل سيبويه الخليل فقال الاثنان جمع وعن ثعلب أن التثنية جمع عند أهل اللغة واختاره الغزالي . واستدلوا بقوله سبحانه قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة لأنهم طلبوا إلهاً مع الله ، ثم قالوا كما لهم آلهة فدل على أنه إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة الآلهة واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : فإن كان له إخوة فأطلق الأخوة والمراد أخوان فما فوقهما إجماعاً . وأجيب بأنه قد ورد للاثنين مجازاً كما يدل على ذلك ما روى عن ابن عباس أنه قال لعثمان ليس الأخوان أخوة في لسان قومك فقال عثمان لا أنقض أمراً كان قبلي وتوارثه الناس أخرجه ابن خزيمة والحاكم وصححه ابن عبد البر والبيهقي فلم ينكر ذلك عثمان بل عدل إلى التأويل وهو الحمل على خلاف الظاهر بالإجماع ، وبمثل هذا يجاب عما استدلوا به من قوله تعالى : إنا معكم مستمعون والمراد موسى وهارون ، وأيضاً قد قيل بمنع كون المراد موسى وهارون فقط بل هما من فرعون وأما استدلالهم بما عنه صضص أنه قال الاثنان فما فوقهما جماعة فهو استدلال خارج عن محل النزاع لأنه لم يقل الاثنان فما فوقهما جمع بل قال جماعة يعني أنهما تنعقد بهما صلاة الجماعة . المذهب الثاني : أن أقل الجمع ثلاثة وبه قال الجمهور وحكاه ابن الدهان النحوي عن جمهور النحاة وقال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه أنه مذهب سيبويه وهذا هو القول الحق الذي عليه أهل اللغة والشرع وهو السابق إلى الفهم عند إطلاق الجمع والسبق دليل الحقيقة ولم يتمسك من خالفه بشيء يصلح للاستدلال به . المذهب الثالث : إن أقل الجمع واحد هذا حكاه بعض أهل الأصول وأخذه من كلام إمام الحرمين وقد ذكر ابن فارس في فقه العربية صحة إطلاق الجمع وإرادة الواحد ومثله قوله تعالى : فناظرة بم يرجع المرسلون المراد بالمرسلين نوح قال القفال الشاشي في كتابه في الأصول بعد ذكر الأدلة وقد يستوي حكم التثنية وما دونها بديل كمخاطب للواحد بلفظ الجمع في قوله قال رب ارجعون ، و إنا له لحافظون وقد تقول العرب للواحد افعلا افعلوا وهو ظاهر في أن ذلك مجاز وظاهر كلام الغزالي أنه مجاز بالاتفاق وذكر المازري أن القاضي أبا بكر حكى الاتفاق على أنه مجاز ولم يأت من ذهب إلى أنه حقيقة بشيء يعتد به أصلاً بل جاء باستعمالات وقعت في الكتاب العزيز وفي كلام العرب خارجة على طريقة المجاز كما تقدم وليس النزاع في جواز التجوز بلفظ الجمع عن الواحد أو الاثنين بل النزاع في كون ذلك معناه حقيقة . المذهب الرابع : الوقف . حكاه الأصفهاني في شرح المحصول عن الآمدي قال الزركشي وفي ثبوته نظر وإنما أشعر به كلام الآمدي فإنه قال في آخر المسألة وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين فعلى الناظر الاجتهاد في الترجيح وإلا فالوقف لازم هذا كلام ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبا انتهى ، ولا يخفاك أن هذا الموطن ليس من مواطن الوقف فإن موطنه إذا توازنت الأدلة موازنة يصعب الترجيح بينهما وأما مثل هذه المسألة فلم يأت من خالف الجمهور بشيء يصدق عليه اسم الدليل فضلاً عن أن يكون صالحاً لموازنة ما يخالفه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة : الفعل المثبت إذا كان له جهات فليس بعام في أقسامه لأنه يقع على صفة واحدة فإن عرف تعين وإلا كان مجملاً يتوقف فيه مثل قول الراوي صلى بعد غيبوبة الشفق فلا يحمل على الأحمر والأبيض وكذلك صلى في الكعبة فلا يعم الفرض والنفل هكذا قال القاضي . والقفال الشاشي والأستاذ أبو منصور ، والشيخ أبو حامد الإسفرائني ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وسليم الرازي وابن السمعاني ، وإمام الحرمين الجويني ، وابن القشيري ، والإمام فخر الدين الرازي واستدلوا على ذلك بأنه إخبار عن فعل ومعلوم أن الفاعل لم يفعل كل ما اشتمل عليه تسمية ذلك الفعل مما لا يمكن استيعاب فعله فلا معنى للعموم في ذلك قال الغزالي وكما لا عموم له بالنسبة إلى أحوال الفعل فلا عموم له بالنسبة إلى الأشخاص بل يكون خاصاً في حقه صضص إلا أن يدل دليل من خارج لقوله صضص صلوا كما رأيتموني أصلي وهذا غير مسلم فإن دليل التأسي به صضص كقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ونحو ذلك يدل على أن ما فعله صضص فسائر أمته مثله إلا أن يدل دليل على أنه خاص به وأطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه ثم اختار في نحو قوله نهى عن بيع الغرر وقضى بالشفعة للجار أنه يعم الغرر والجار مطلقاً وقد تقدمه إلى ذلك شيخه ابن الأنباري والآمدي وهو الحق لأن مثل هذا ليس بحكاية للفعل الذي فعله بل حكاية لصدور النهي منه عن بيع الغرر والحكم منه بثبوت الشفعة للجار لأن عبارة الصحابي يجب أن تكون مطابقة للمقول لمعرفته باللغة وعدالته ووجوب مطابقة الرواية لمسموع . وبهذا تعرف ضعف ما قاله في المحصول من أن قول الصحابي ينهى عن بيع الغرر والحكم منه ثبوت الشفعة لا يفيد العموم لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية والذي رآه الصحابي حتى روى النهي يحتمل أن يكون خاصاً بصورة واحدة وان يكون عاماً ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم . قال وأيضاً قول الصحابي قضى رسول الله صضص بالشاهد واليمين لا يفيد العموم وكذا قول الصحابي سمعت رسول الله صضص يقول قضيت بالشفعة لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف ويكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية عن فعل معين ماض فأما قول النبي صضص قضيت بالشفعة وقول الراوي أنه قضى بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن جانب العموم راجح في الصورتين كليهما ، أما قوله نهى عن بيع الغرر وقضى بالشاهد واليمين فرجحان عمومه وضعف دعوى احتمال كونه خاصاً في غاية الوضوح لما قدمنا نقل الآمدي عن الاكثرين مثل ما ذكره صاحب المحصول وهو خلاف الصواب وإن قال به الأكثرون لأن الحجة في الحكاية لثقة الحاكي ومعرفته ، وحكى عن بعض أهل الأصول التفصيل بين أن يقترن الفعل بحرف أن فيكون للعموم كقوله قضى أن الخراج بالضمان وبين أن لا يقترن فيكون خاصاً نحو قضى بالشفعة للجار وقد حكى هذا القول القاضي في التقريب والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق والقاضي عبد الوهاب وصححه وحكاه عن أبي بكر القفال وجعل بعض المتأخرين النزاع لفظياً من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغة المذكورة نحو أمر وقضى والمثبت للعموم فيها هو باعتبار دليل خارجي انتهى . وأما نحو قول الصحابي كان النبي صضص يفعل كذا فلا يجري فيه الخلاف المتقدم لأن لفظ كان هو الذي دل على التكرار لا لفظ الفعل الذي بعدها نحو كان يجمع وإنما الخلاف في قول الراوي ونحوه وهذا إذا دلت قرينة على عدم الخصوص كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم فيفهم أنه بيان فنتبعه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة العاشرة : ذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع المال إلا أن يخص بدليل قال الشافعي مخرج هذه الآية عام في الأموال وكان يحتمل أن يكون بعض الأموال دون بعض الأموال دون بعض فدلت السنة على أن الزكاة في بعض المال دون بعض وقال في موضع آخر ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعضه . واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأن هذه الصيغة من صيغ العموم لأنها جمع مضاف وقد تقدم أن ذلك من صيغ العموم فيكون المعنى خذ من كل واحد واحد من أموالهم صدقة إذ معنى العموم ذلك وهو المطلوب . وأجيب عن هذا بمنع كون معنى العموم ذلك وذهب الكرخي من الحنفية وبعض أهل الأصول ورجحه ابن الحاجب إلى أنه لا يعم بل إذا أخذ من جميع أموالهم صدقة واحدة فقد أخذ من أموالهم صدقة وإلا لزم أخذ الصدقة من كل درهم ودينار ونحوهما واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله . وأجيب بأن الجمع لتضعيف المفرد خصوصاً مثل المال والعلم والمال قد يراد به المفرد فيكون معنى الجمع المعرف باللام أو الإضافة جميع الأفراد وقد يراد به الجنس فيكون معناه جميع الأنواع بالأموال والعلوم والتعويل على القرائن ، وقد دل العرف وانعقد الإجماع على أن المراد في مثل خذ من أموالهم الأنواع لا الإفراد وأما ما يتوهم من أن معنى الجمع العام هو المجموع من حيث هو مجموع أو كل واحد من المجموع لا من الآحاد حتى بنوا عليه أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فمدفوع بأن اللام والإضافة يهدمان الجمع ويصيرانه للجنس وذهب الآمدي إلى الوقف ، فقال وبالجملة فالمسألة محتملة ومأخذ الكرخي دقيق انتهى . وقد اختلف النقل عن الكرخي فنقل عنه ابن برهان ما تقدم ونقل عنه أبو بكر الرازي أنه ذهب إلى أنه يقضي عموم وجوب الأخذ في سائر أصناف الأموال . ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم العموم أن لفظ من الداخلة على الأموال تمنع من العموم وأجاب عن ذلك القرافي بأن لا بد من تعلقها بمحذوف وهو صفة للصدقة والتقدير كائنة أو مأخوذة من أموالهم وهذا لا ينافي العموم لأن معنى كائنة أو مأخوذة من أموالهم أن لا يبقى نوع من المال إلا ويؤخذ منه الصدقة وقال بعضهم الجار والمجرور الذي هو من أموالهم أن كان متعلقاً بقوله خذ فالمتجه ما قال الكرخي لأن التعلق مطلق والصدقة نكرة في سياق الإثبات فيحصل الامتثال بصدقة واحدة من نوع واحد وإن كان متعلقاً بقوله صدقة فالقول قول الجمهور لأن الصدقة إنما تكون من أموالهم إذا كانت من كل نوع من أموالهم قال الزركشي وفيه نظر لأنه إذا كان المعتبر دلالة العموم الكائنة في أموالهم فإنها كلية فالواجب حينئذ من كل نوع من أنواع الأموال عملاً بمقتضى العموم ولا نظر إلى تنكير صدقة وأنه نكرة في سياق الإثبات فلا عموم له على الوجهين أيضاً انتهى . ولا يخفاك أن دخول من هاهنا على الاموال لا ينافي ما قاله الجمهور بل هو عين مرادهم لأنها لو حذفت لكانت الآية دالة على أخذ جميع أنواع الأموال فلما دخلت أفاد ذلك أنه يؤخذ من كل بعضه وذلك البعض هو ما ورد تقديره في السنة المطهرة من العشر في بعض ونصف العشر في بعض آخر وربع العشر في بعض آخر ونحوه هذه المقادير الثابتة بالشريعة كزكاة المواشي ثم هذا العموم المستفاد من هذه الآية قد جاءت السنة المطهرة بما يفيد تخصيصه ببعض الأنواع دون بعض فوجب بناء العام على الخاص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الحادية عشرة : الألفاظ الدالة على الجمع بالنسبة إلى دلالتها على المذكر والمؤنث على أقسام الأول ما يختص به أحدهما ولا يطلق على الآخر بحال كرجال للمذكر ونساء للمؤنث فلا يدخل أحدهما في الآخر بالإجماع إلا بدليل خارج من قياس أو غيره . الثاني : ما يعم الفريقين بوضعه وليس لعلامة التذكير والتأنيث في مدخل كالناس والأنس والبشر فيدخل فيه كل منهما بالإجماع . الثالث : ما يشملهما بأصل وضعه ولا يخص بأحدهما إلا ببيان وذلك نحو ما ومن فقيل أنه لا يدخل فيه النساء إلا بدليل ولا وجه لذلك بل الظاهر أنه مثل الناس والبشر ونحوهما كما في قوله سبحانه وتعالى ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى فلولا عمومه لهما لم يحسن التقسيم من بعد ذلك وممن حكى الخلاف في هذه الصورة من الأصولين أبو الحسين في المعتمد والكيا الهراس في التلويح وحكاه غيرهما عن بعض الحنفية وإنهم لأجل ذلك قالوا أن المرتدة لا تقتل لعدم دخولها في قوله صضص من بدل دينه فاقتلوه لكن الموجود في كتبهم أنها تعم الجميع وصرح به البزدوي و شراح كتابه و ابن الساعاتي وغيرهم إذ نقل الرازي في المحصول الإجماع على أنه لو قال من دخل داري من أرقائي فهو حر دخل فيه الإماء وكذلك لو علق بهذا اللفظ وصية أو توكيلاً أو إذناً في أمر لم يختص بالذكر وأما إمام الحرمين الجويني فخص الخلاف بما إذا كان شرطية قال الصفي الهندي والظاهر أنه لا فرق بينهما وبين من الموصولة والاستفهامية وإن الخلاف جار في الجميع انتهى . ولا يخفاك أن دعوى اختصاص من بالذكور لا ينبغي أن ننسب إلى من له أدنى فهم بل لا ينبغي أن تنسب إلى من يعرف لغة العرب . الرابع : ما يستعمل بعلامة التأنيث في المؤنث وبحذفها في المذكر وذلك الجمع السالم نحو مسلمين للذكور ومسلمات للإناث ونحو فعلوا وفعلن فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل النساء فيما هو للذكور إلا بدليل كما لا يدخل الرجال فيما هو النساء إلا بدليل . قال القفال وأصل هذا أن الأسماء وضعت للدلالة على المسمى فحصل كل نوع بما يميزه فالألف والتاء جعلتا علماً لجمع الإناث والواو والياء والنون لجمع الذكور والمؤمنات غير المؤمنين وقاتلوا خلاف قاتلن ثم قد تقوم قرائن تقتضي استواءهما فيعلم بذلك دخول الإناث في الذكور وقد لا تقوم قرائن فيلحقن بالذكور بالاعتبار والدلائل كما يلحق المسكوت عنه بالمذكور بدليل . ومما يدل على هذا إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فلولا أن التسمية للمذكر لم يكن حظه فيها كحظ المؤنث ولكن معناه أنهما إذا اجتمعا استثقل إفراد كل منهما بوصف فغلب المذكر وجعل الحكم له فدل على أن المقصود هو الرجال والنساء توابع انتهى . قال الأستاذ أبو المنصور الرازي وهذا قول أصحابنا واختاره القاضي أبو الطيب وابن السمعاني والكيا الهراس ونصره ابن برهان والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونقله عن معظم الفقهاء ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة وذهبت الحنفية كما حكاه عنهم سليم الرازي وابن السمعاني وابن الساعاتي إلى أنه يتناول الذكور والإناث وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي حنيفة وحكاه الباجي عن ابن خوازمنداد وروى نحوه عن الحنابلة والظاهرية والحق ما ذهب إليه الجمهور من عدم التناول إلا على طريقة التغليب عند قيام المقتضى لذلك لاختصاص الصيغة لغة ووقوع التصريح بما يختص بالنساء مع ما يختص بالرجال في نحو إن المسلمين والمسلمات وقد ثبت في سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله سبحانه ذكر إلا الرجال فنزلت . قال ابن الأنباري لا خلاف بين الأصوليين والنحاة أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى تناوله الجنسين لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور . قال الزركشي في البحر وحاصلة الإجماع على عدم الدخول حقيقة وإنما النزاع في ظهوره لاشتهاره عرفاً . قال الصفي الهندي وكلام إمام الحرمين يشعر بتخصيص الخلاف بالخطابات الواردة من الشرع لقرينة عليه وهي المشاركات في الأحكام الشرعية قال واتفق الكل أن المذكر لا يدخل تحته وإن ورد مقترناً بعلامة التأنيث ومن أقوى ما احتج به القائلون بالتعميم إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، وعلى هذا ورد قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعاً في خطاب آدم وحواء وإبليس . ويجاب على هذا بأنه لم يكن ذلك بأصل الوضع ولا بمقتضى اللغة ، بل بطريق التغليب لقيام الدليل عليه وذلك خارج عن محل النزاع ولا يلزم من صحة إرادة الشيء من الشيء إرادته منه ، إذا ورد مطلقاً بغير قرينة ولم يذكر أحد من أهل اللغة ولا من علماء العربية أن صيغة الذكور عند إطلاقها موضوعة لتناول الجمع وهذا ظاهر واضح لا ينبغي الخلاف في مثله ولم يأت القائلون بالتناول بدليل يدل على ما قالوه لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع ولا من جهة العقل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية عشرة : ذهب الجمهور إلى أن الخطاب بمثل يا أيها الناس ونحوها من الصيغ يشمل العبيد والإماء وذهب جماعة إلى أنه لا يعمهم شرعاً وقال أبو بكر الرازي من الحنفية إن كان الخطاب في حقوق الله فإنه يعمهم دون حقوق الآدميين فلا يعمهم . والحق ما ذهب إليه الأولون ولا ينافي ذلك خروجهم في بعض الأمور الشرعية ، فإن ذلك إنما كان لدليل يدل على رفع الخطاب عنهم بها . قال الأستاذ أبو منصور والقاضي أبو الطيب والكيا الطبري أن الذي عليه اتباع الأئمة الأربعة وهو الصحيح من مذهب الشافعي أنهم يدخلون إتباعاً لموجب الصيغة ولا يخرجون إلا بدليل ولم يأت القائلون بخلاف ما ذهب إليه الجمهور بدليل يدل على ما ذهبوا إليه فإن ما زعموه من إجماع أهل العلم على عدم وجوب بعض الأمور الشرعية عليهم لا يصلح للاستدلال على محل النزاع لأن عدم وجوب ذلك عليهم لدليل خارجي اقتضى ذلك فكان كالمخصص لعموم الصيغة الشاملة لهم . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة عشرة : ذهب الجمهور إلى دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين نحو يا أيها الناس إذا ورد مطلقاً وذهب بعض الشافعية إلى اختصاصه بالمسلمين ، وقيل يدخلون في حقوق الله تعالى لا في حقوق الآدميين . قال الصفي الهندي والقائلون بعدم دخول العبيد والكفار أن زعموا أنه لا يتناولهم من حيث اللغة فهو مكابرة ، وإن زعموا التناول لكن الكفر والرق في الشرع خصصهم فهو باطل للإجماع على أنهما مكلفان في الجملة وأما الخطاب الخاص بالمسلمين أو المؤمنين فحكى ابن السمعاني عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم من الكفار ، ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور والمسلمين خصصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص بدليل قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة . قال الزركشي وفيه نظر ، لأن الكلام في التناول بالصيغة لا بأمر خارج وقال بعضهم لا يتناولهم لفظاً وإن قلنا أنهم مخاطبون إلا بدليل منفصل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة عشرة : الخطاب الوارد شفاهاً في عصر النبي صضص يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا ويسمى خطاب المواجهة قال الزركشي لا خلاف في شموله من بعدهم من المعدومين حال صدوره ، لكن هل هو باللفظ أو بدليل آخر من إجماع أو قياس فذهب جماعة من الحنفية والحنابلة إلى أنه يشملهم باللفظ وذهب الأكثرون إلى أنه لا يشملهم باللفظ لما عرف بالضرورة من دين الإسلام أن كل حكم تعلق بأهل زمانه صضص فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة كما في قوله سبحانه لأنذركم به ومن بلغ وقوله صضص بعثت إلى الناس كافة وقوله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم إلى قوله وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان الخلاف في أن خطاب المشافهة هل يشمل غير المخاطبين قليل الفائدة ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطبين وإما أن يقال أن المحكم يقصر على المخاطبين إلا أن يدل دليل على العموم في تلك المسألة بعينها وهذا باطل لما علم قطعاً من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص انتهى . وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها المختلفون في هذه المسألة لأنا نقطع بأن الخطاب الشفاهي إنما يتوجه إلى الموجودين وإن لم يتناولهم الخطاب فلهم حكم الموجودين في التكليف بتلك الأحكام حيث كان الخطاب مطلقاً ولم يرد ما يدل على تخصيصهم بالموجودين .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة عشرة : الخطاب الخاص بالأمة نحو : يا أيها الأمة لا يشمل الرسول صضص قال الصفي الهندي بلا خلاف وكذا قال القاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة وأما إذا كان الخطاب بلفظ يشمل الرسول نحو يا أيها الناس ، يا أيها الذين آمنوا ، يا عبادي فذهب الأكثرون إلى أنه يشمله وقال جماعة لا يشمله وان لم يكن كذلك كان شاملاً له واستنكر هذا التفصيل إمام الحرمين الجويني لأن القول فيهما جميعاً مسند إلى الله سبحانه والرسول مبلغ خطابه إلينا فلا معنى للتفرقة . وفصل بعض أهل الأصول بتفصيل آخر فقال إن كان الخطاب من الكتاب فهو مبلغ عن الله سبحانه مندرج تحت عموم الخطاب وإن كان من السنة فإما أن يكون مجتهداً أو لا فإن قلنا مجتهد فيرجع إلى أن المخاطب هل يدخل تحت الخطاب أم لا وإن لم يكن مجتهداً فهو مبلغ والمبلغ داخل تحت الخطاب والحق أن الخطاب بالصيغة التي تشمله يتناوله بمتقضى اللغة العربية لا شك في ذلك لا شبهة حيث كان الخطاب من جهة الله سبحانه تعالى ، وإن كان الخطاب من جهته صضص فعلى الخلاف الآتي في دخول المخاطب في خطابه . وما قيل من أنه لا فائدة في الخلاف في هذه المسألة مدفوع بظهور الفائدة في الخطابات العامة وإذا فعل صضص ما يخالفها . فإن قلنا أنه داخل في العموم كان فعله تخصيصاً وإن قلنا ليس بداخل لم يكن فعله مخصصاً لذلك العموم بل يبقى على عمومه . وأما الخطاب المختص بالرسول صضص نحو يا أيها النبي الرسول ويا أيها النبي فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل تحته الأمة إلا بدليل من خارج وقيل أنه يشمل الأمة روى ذلك عن أبي حنيفة وأحمد واختاره إمام الحرمين وابن السمعاني . قال في المحصول وهؤلاء أن زعموا أن ذلك مستفاد من اللفظ فهو جهالة وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وما يجري مجرى ذلك فهو خارج عن هذه المسألة لأن الحكم عندنا إنما أوجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي صضص فقط بل بالدليل الآخر انتهى . قال الزركشي وما قالوه بعيد إلا أن يحمل على التعبير بالكبير عن اتباعه فيكون مجازاً لا حقيقة . وحكى إمام الحرمين أنه قال إما أن ترد الصيغة في التخصيص أو لا فإن وردت فهو خاص ، وإلا فهو عام لأنا لم نجد دليلاً قاطعاً على التخصيص ولا على التعميم انتهى . ولا يخفاك ضعف هذا التفصيل وركاكة ما أخذه لأن النزاع إنما هو في نفس الصيغة وهي خاصة بلا شك فورودها في محل التخصيص لا يزيدها تخصيصاً باعتبار اللفظ ورودها في محل التعميم لا يوجب من حيث اللفظ أن تكون عامة فإن كان ذلك في حكم الدليل على فهو غير محل النزاع .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة عشرة : الخطاب الخاص بواحد من الأمة أن صرح بالاختصاص به كما في قوله صضص تجزئك ولا تجزئ أحداً بعد فلا شك في اختصاصه بذلك المخاطب وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب فذهب الجمهور إلى أنه مختص بذلك المخاطب ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج ، وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية أنه يعم بدليل ما روى من قوله صضص حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ، وما روى عنه صضص إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة ونحو ذلك ولا يخفى أن الاستدلال بهذا خارج عن محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه كان له حكمه بذلك الدليل ، وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة هل تعم بمجردها أم لا فمن قال إنها تعمها بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة العرب ولا تقتضيه بوجه من الوجوه . قال القاضي أبو بكر هو عام بالشرع لا بالوضع للقطع باختصاصه به لغة . قال إمام الحرمين الجويني لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي وقيل بل الخلاف معنوي لا لفظي لأنا نقول الأصل ما هو هل هو مورده الشرعي أو مقتضى اللغة قال الصفي الهندي لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي . قال الزركشي والحق أن التعميم منتف لغة ثابت شرعاً والخلاف في أن للعادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرب إليها أولاً فأصحابنا يعنى الشافعية يقولون لا قضاء للعادة في ذلك كما لا قضاء للغة والخصم يقول إنها تقتضي بذلك انتهى . والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه الحق ، ويوجبه الإنصاف عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة ، بل بالدليل الخارجي ، وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صضص الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة فكان هذا مع الأدلة الدالة على عموم الرسالة وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيداً لإلحاق غير ذلك المخاطب به في ذلك الحكم عند الإطلاق إلى أن يقوم الدليل الدال على اختصاصه بذلك . فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص لا كما قيل أن الراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم لأنه قد قام كما ذكرناه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة عشرة : اختلفوا في المخاطب بكسر الطاء هل يدخل في عموم خطابه ؟ فذهب الجمهور إلى أنه يدخل ولا يخرج عنه إلا بدليل . قال الأستاذ أبو منصور وهو الصحيح من مذهب الشافعي . قال الأستاذ أبو منصور وفائدة الخلاف فيما إذا ورد منه صضص لفظ عام في إيجاب حكمه أو حظره أو إباحته هل يدل ذلك على دخوله فيه أم لا قال ابن برهان في الأوسط ذهب معظم العلماء إلى أن الأمر لا يدخل تحت الخطاب ونقل عبد الجبار وغيره من المعتزلة دخوله انتهى . ونقله لهذا القول عن معظم العلماء يخالف نقل الأستاذ أبي منصور والرازي في المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى وغيرهم فإنهم جعلوا دخول المخاطب في خطابه مذهب الأكثرين ، وقال إمام الحرمين الجويني أن خطابه يتناوله بنفسه ولكنه خارج عنه عادة فذهب إلى التفصيل وتابعه على هذا التفصيل الكيا الهراس . قال الصفي الهندي هذه المسألة قد تعرض في الأمر مرة وفي النهي مرة وفي الخبر مرة والجمهور على دخوله انتهى . والذي ينبغي اعتماده أن يقال إن كان مراد القائل بدخوله في خطابه أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلم وضعاً فليس كذلك وإن كان المراد أنه يشمله حكماً فمسلم إذا دل عليه دليل وكان الوضع شاملاً له كألفاظ العموم.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة عشرة : اختلفوا في المقتضي هل هو عام أم لا ؟ ولا بد من تحرير تصويره قبل نصب الخلاف فيه فنقول المقتضي بكسر الضاد هو اللفظ الطالب للإضمار بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء وهناك مضمرات متعددة فهل يقدر جميعها أو يكتفي بواحد منها وذلك التقدير هو المقتضى بفتح الضاد وقد ذكروا لذلك أمثلة مثل قوله تعالى : الحج أشهر معلومات ومثل قوله صضص رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فإن هذا الكلام لا يستقيم بلا تقدير لوقوعهما من الأمة فقدروا في ذلك تقديرات مختلفة كالعقوبة والحساب والضمان ونحو ذلك ونحو قوله صضص إنما الأعمال بالنيات وأمثال ذلك كثيرة فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحمل على العموم في كل ما يحتمله لأنه أعم فائدة وذهب بعضهم إلى أنه يحمل على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه معلوم بالإجماع قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وهذا كله خطأ لأن الحمل على الجميع لا يجوز وليس هناك لفظ يقتضي العموم ولا يحمل على موضع الخلاف لأنه ترجيح بلا مرجع انتهى . وذهب الجمهور إلى أنه لا عموم له بل يقدر منها ما دل الدليل على إرادة فإن لم يدل دليل على إرادته واحد منها بعينه كان مجملاً بينها وبتقدير الواحد منها الذي قام الدليل على أنه المراد يحصل المقصود وتندفع الحاجة فكان ذكر ما عداه مستغنى عنه . وأيضاً قد تقرر أنه يجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على قدر الحاجة وهذا هو الحق وقد اختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والغزالي وابن السمعاني وفخر الدين الرازي والآمدي وابن الحاجب . قال الرازي في المحصول مستدلاً للقائلين بعموم المقتضى بأن إضمار أحد الحكمين ليس بأولى من إضمار الآخر فإما أن لا يضمر حكم أصلاً وهو غير جائز لأنه تعطيل لدلالة اللفظ أو يضمر الكل وهو المطلوب وهكذا استدل لهم ولم يجب عن ذلك . وأجاب الآمدي عنه بأن قولهم ليس إضمار البعض أولى من البعض إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين وليس كذلك بل إضمار حكم ما والتعيين إلى الشارح ثم أورد عليه بأنه يلزم الإجمال . وأجاب بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة الأصلي وكل منهما يعني الإجمال وإضمار الكل خلاف الأصل . قال ابن برهان وإذا قلنا ليس بمجمل فقيل يصرف إطلاقه في كل عين إلى المقصود واللائق به وقيل يضمر الموضع المختلف فيه لأن المجمع عليه مستغن عن الدليل حكى ذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي . قال الأصفهاني في شرح المحصول أن قلنا المقتضى له عموم أضمر الكل وإن قلنا لا عموم له فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف الاستعمال قبل الشرع أو يضمر حكم من غير تعيين وتعيينه إلى المجتهد والأول اختيار الغزالي والثاني اختيار الآمدي والثالث التوقف انتهى . وهذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يفهم بدليل يدل على تعيين أحد الأمور الصالحة للتقدير أما إذا قام الدليل على ذلك فلا خلاف في أنه يتعين للتقدير ما قام الدليل على تقديره كقوله سبحانه حرمت عليكم الميتة و حرمت عليكم أمهاتكم فإنه قد قام الدليل على أن المراد في الآية الأولى تحريم الأكل وفي الثانية الوطء .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة عشرة : اختلفوا في المفهوم هل له عموم أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أن له عموماً وذهب القاضي أبو بكر الغزالي وجماعة من الشافعية إلى أنه لا عموم له . قال الغزالي من يقول بالمفهوم قد يظن أن له عموماً ويتمسك به ثم رده بأن العموم من عوارض الألفاظ والمفهوم ليست دلالته لفظية فإذا قال في سائمة الغنم الزكاة فنفى الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم أو يخص . أورد ذلك صاحب المحصول فقال إن كنت لا تسميه عموماً لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الإلفاظ فالنزاع لفظي وإن كنت تعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فهو باطل لأن البحث على أن المفهوم هل له عموم أم لا ومتى ثبت كون المفهوم حجة لزم القطع بانتفائه عما عداه لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة انتهى . قال القرافي والظاهر من حال الغزالي أنه إنما خالف في التسمية لأن لفظ العموم إنما وضع للفظ لا للمعنى . قال ابن الحاجب إنما أراد الغزالي أن العموم لم يثبت بالمنطوق به فقط بل بواسطته وهذا مما لا خلاف فيه وقال الخلاف لا يتحقق في هذه المسألة . قال ابن الأنباري في شرح البرهان أن القائل بأن للمفهوم عموماً مستنده أنه إذا قيل له في سائمة الغنم الزكاة فقد تضمن ذلك قولاً آخر وهو لا زكاة في المعلوفة وهو ولو صرح بذلك لكان عاماً في المقصود أما إذا وجدنا صورة من صور المفهوم موافقة للمنطوق به فهل نقول بطل المفهوم بالكلية حتى لا يتمسك به في غير تلك الصورة ؟ . أو نقول يتمسك به فيما وراء ذلك هذا موضع نظر . قال والأشبه بناء ذلك على أن مستند المفهوم ماذا هل هو البحث عن فوائد التخصيص كما هو اختيار الشافعي فلا يصح أن يكون له عموم وإن قلنا استناده إلى عرف لغوي فصحيح وخرج من كلامه وكلام الشيخ أن الخلاف معنوي وليس الخلاف لفظياً كما زعموا انتهى . قال العضد في شرحه لمختصر المنتهى وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف لأنه أن فرض النزاع في أن مفهومي المرافقة والمخالفة يثبت بهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق من الصور أو لا فالحق النفي وهو مراد الغزالي وهم لا يخالفونه فيه ولا ثالث هاهنا يمكن فرضه محل النزاع . والحاصل أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير العام بأنه ما يستغرق في محل النطق أو ما يستغرق في الجملة انتهى . قال الزركشي ما ذكروه من عموم المفهوم حتى يعمل به فيما عدا المنطوق يجب تأويله على أن المراد ما إذا كان المنطوق جزئياً وبيانه أن الإجماع على أن الثابت بالمفهوم إنما هو نقيض المنطوق والإجماع على أن نقيض الجزئي المثبت كلي سالب ومن هاتين المقدمتين يعلم أن ما كان منطوقه كلياً سالباً كان مفهومه جزئياً سالباً فيجب تأويل قولهم أن المفهوم عام على ما إذا كان المنطوق به خاصاً ليجتمع أطراف الكلام انتهى . وقد تقدم في مسألة الخلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ فقط أم من عوارض الألفاظ والمعاني ؟ وكذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في بحث المفهوم ما إذا تأملته زادك بصيرة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الموفية للعشرين : قال الإمام الشافعي ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال قال في المحصول مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال النبي صضص أمسك أربعاً منهن وفارق سائرهن ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع والترتيب فكان إطلاقه القول دالاً على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معاً أو على الترتيب ، وهذا فيه نظر لاحتمال أنه صضص عرف خصوصاً فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل انتهى . ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال إنما يصار إليه إذا كان راجحاً وليس بمساو فضلاً عن أن يكون راجحاً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الحادية عشرون : ذكر علماء البيان أن حذف المتعلق يشعر بالتعميم نحو زيد يعطي ويمنع ونحو قوله تعالى : والله يدعو إلى دار السلام فينبغي أن يكون ذلك من أقسام العموم وإن لم يذكره أهل الأصول . قال الزركشي وفيه بحث فإن ذلك مما أخذ من القرائن وحينئذ فإن دلت القرينة على أن المقدر يجب أن يكون عاماً فالتعميم من عموم المقدر سواء ذكر أو حذف وإلا فلا دلالة على التعميم فالظاهر أن العموم فيما ذكر إنما هو لدلالة القرينة على أن المقدر عام والحذف إنما هو لمجرد الاختصار لا للتعميم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية والعشرون : الكلام العام على طريقة المدح أو الذم نحو إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم ونحو والذين هم لفروجهم حافظون ذهب الجمهور إلى أنه عام ولا يخرجه عن كونه عاماً حسبما تقضيه الصيغة كونه مدحاً أو ذماً وذهب الشافعي وبعض أصحابه إلى أنه لا يقتضي العموم وحكى أبو الحسين بن القطان والأستاذ أبو منصور وسليم الرازي وابن السمعاني وجهين في ذلك لأصحاب الشافعي وروى القول بعدم عمومه عن القاشاني والكرخي نقله عن الأول أبو بكر الرازي وعن الثاني ابن برهان وقال الكيا الهراس أنه الصحيح وبه جزم القفال الشاشي وقال لا يحتج بقوله والذين يكنزون الذهب والفضة على وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما بل مقصود الآية الوعيد لتارك الزكاة وكذا لا يحتج بقوله والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم على ما يحل منها وما لا يحل وكان فيها بيان أن الفرج لا يجب حفظه عنهما ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما يحل بالنكاح أو بملك اليمين صير فيه إلى ما قصد تفصيله مثل حرمت عليكم أمهاتكم انتهى والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدم التنافي بين قصد العموم والمدح أو الذم ومع عدم التنافي يجب التمسك بما يفيده اللفظ من العموم ولم يأت من منع من عمومه عند قصد المدح أو الذم بما تقوم به الحجة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة والعشرون : ورود العام على سبب خاص وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وحكوا ذلك إجماعاً كما رواه الزركشي في البحر . قال ولا بد في ذلك من تفصيل وهو أن الخطاب أما أن يكون جواباً لسؤال سائل أو لا فإن كان جواباً فإما أن يستقل بنفسه أو لا فإن لم يستقل بحيث لا يحصل الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه السؤال قوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم وقوله في الحديث أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذا وكقولك القائل وطئت في نهار رمضان عامداً فيقول عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج يدل على أنه عام في المكلفين أو في كل من كان بصفته . ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان فقال يعتق رقبة فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان وقوله يعتق وإن كان خاصاً بالواحد لكنه لما كان جواباً عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع كان الجواب كذلك وصار السؤال معاداً في الجواب. قال الغزالي وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله في كل وصف مؤثر للحكم وجعل القاضي في التقريب من هذا الضرب قوله أنتوضأ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه قال لأن الضمير لا بد له من أن يتعلق بما قبله ولا يحسن أن يبتدأ به قال الزركشي وفي هذا نظر لأن هذا ضمير شأن ومن شأنه صدر الكلام وإن لم يتعلق بما قبله . قال وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني وهو الصواب وبه صرح ابن برهان وغيره ، وإن استقل الجواب بنفسه بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاماً تاماً مفيداً للعموم فهو على ثلاثة أقسام لأنه أما أن يكون أخص أو مساوياً أو أعم . الأول : أن يكون الجواب مساوياً له يزيد عليه ولا ينقص كما لو سئل عن ماء البحر فقال ماء البحر لا ينجسه شيء فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف ، وكذلك قال ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني وابن القشيري وغيرهم . الثاني : أن يكون الجواب أخص من السؤال مثل أن يسأل عن أحكام المياه فيقول ماء البحر طهور فيختص ذلك بماء البحر ولا يعم بلا خلاف كما حكاه الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما . الثالث : أن يكون الجواب أعم من السؤال وهما قسمان : أحدهما : أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر وجوابه صضص بقوله هو الطهور ماؤه والحل ميتته فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم بل يعم حال الضرورة والاختيار كذا قال ابن فورك وصاحب المحصول وغيرهما وظاهر كلام القاضي أبي الطيب وابن برهان أنه يجري في هذا الخلاف الآتي في القسم الثاني وليس بصواب كما لا يخفى . القسم الثاني : أن يكون الجواب أعم من السؤال في ذلك الحكم الذي وقع السؤال عنه كقوله لما سئل عن كقوله لما سئل عن ماء بئر بضاعة الماء طهور لا ينجسه شيء ، وكقوله لما سئل عمن اشتري عبداً فاستعمله ثم وجد فيه عيباً الخراج بالضمان ، وهذا القسم محل الخلاف وفيه مذاهب : المذهب الأول : الأول أنه يجب قصره على ما خرج عليه السؤال وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي وحكاه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسليم الرازي وابن برهان وابن السمعاني عن المزني وأبي ثور القفال والدقاق وحكاه أيضاً الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري وحكاه أيضاً بعض المتأخرين عن الشافعي وحكاه القاضي عبد الوهاب والباجي عن أبي الفرج من أصحابهم وحكاه الجويني في البرهان عن أبي حنيفة ، وقال إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي وكذا قال الغزالي في المنخول ومعه فخر الدين الرازي في المحصول قال الزركشي والذي في كتب الحنفية وصح عن الشافعي خلافه ونقل هذا المذهب القاضي أبي الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك . المذهب الثاني : أنه يجب حمله على العموم لأن عدول المجيب عن الخاص المسؤول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ولأن الحجة قائمة بما يفيده اللفظ وهو يقتضي العموم ووروده على السبب لا يصلح معارضاً وإلى هذا ذهب الجمهور . قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان وهو مذهب الشافعي واختاره أبو بكر الصيرفي وابن القطان قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن القشيري والكيا الطبري والغزالي إنه الصحيح وبه جزم القفال الشاشي قال والأصل أن العموم له حكمه إلا أن يخصه دليل والدليل قد اختلف فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه فذاك وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه وحكا هذا المذهب ابن كنج عن أبي حنيفة والشافعي وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر الشافعية والحنفية وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية وحكاه الباجي عن أكثر المالكية والعراقيين . قال القاضي في التقريب وهو الصحيح لأن الحكم معلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ولو قال ابتداء وجب حمله على العموم فكذلك إذا صدر جواباً انتهى . وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع وهو عام ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب ومن ادعى أنه يصلح لذلك فليأت بدليل تقوم به الحجة ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك وإذا ورد في بعض المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محله بل يقصر عليه ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل يخصه وبين سائر العمومات الواردة على أسباب خاصة حتى يكون ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملاً لها . المذهب الثالث : الوقف حكاه القاضي في التقريب ولا وجه له لأن الأدلة هنا لم تتوازن حتى يقتضي ذلك التوقف . المذهب الرابع : التفصيل بين أن يكون السبب هو سؤال سائل فيختص به وبين أن يكون السبب مجرد وقوع حادثة كان وذلك القوم العام وارداً عند حدوثها فلا يختص بها كذا حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي . المذهب الخامس : أنه إن عارض هذا العام الوارد سبب عموم آخر خرج ابتداء بلا سبب فإنه يقصر على سببه وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه قال الأستاذ أبو منصور هذا هو الصحيح انتهى . وهذا لا يصلح أن يكون مذهباً مستقلاً فإن هذا العام الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة فهو دليل خارج يوجب القصر ولا خلاف في ذلك على المذاهب كلها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة والعشرون : ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص عند الجمهور والحاصل أنه إذا وافق الخاص العام في الحكم فإن كان بمفهومه ينفي الحكم عن غيره فمن أخذ بمثل ذلك المفهوم خصص به على الخلاف الآتي في مسألة التخصيص بالمفهوم . وأما إذا لم يكن له مفهوم فلا يخصص به ومثال ذلك قوله صضص أيما إهاب دبغ فقد طهر مع قوله صضص في حديث آخر في شاة ميمونة دباغها طهورها فالتنصيص على الشاة في الحديث الآخر لا يقتضي تخصيص عموم أيما إهاب دبغ فقد طهر لأنه تنصيص على بعض إفراد العام بلفظ لا مفهوم له إلا مجرد مفهوم اللقب فمن أخذ به خصص به ومن لم يأخذ به لم يخصص به ولا متمسك لمن قال بالأخذ به كما سيأتي . ومن أمثلة المسألة قوله صضص جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وفي لفظ آخر وتربتها ظهوراً وقوله الطعام بالطعام مع قوله في حديث آخر البر بالبر إلخ وقد احتج الجمهور على عدم التخصيص بالمواقف للعام وذكر الحكم على بعض الأفراد التي شملها العام ليس بمناف فلا يكون ذكره مخصصاً وقد أنكر بعض أهل العلم وقوع الخلاف في هذه المسألة . وقال لما كان أبو ثور ممن يقول بمفهوم اللقب ظن أنه يقول بالتخصيص وليس كذلك . قال الزركشي فإن قلت : فعلى قول الجمهور ما فائدة هذا الخاص مع دخوله في العام ؟ قلت يجوز أن تكون فائدته عدم جواز تخصيصه أو التفخيم له أو إثبات المزيد له على غيره من الأفراد قال ابن دقيق العيد إن كان أبو ثور نص على هذه القاعدة فذاك وان كان اخذها له بطريق الاستنباط من مذهبه في مفهوم اللقب فلا يدل على ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة والعشرون : إذا علق الشارع حكماً على علة هل تعم تلك العلة حتى يوجد الحكم بوجودها في كل صورة ؟ فقال الجمهور بالعموم في جميع صور وجود العلة وقال القاضي أبو بكر لا يعم ثم اختلف القائلون بالعموم هل العموم باللغة أو بالشرع والظاهر أن ذلك العموم بالشرع لا باللغة فإنه لم يكن في الصيغة ما يقتضي ذلك بل اقتضى ذلك القياس وقد ثبت التعبد به كما سيأتي ، واحتج من قال بعدم العموم بأنه يحتمل أن يكون المذكور جزء علة والجزء الآخر خصوصية المحل ، وأجيب عنه بأن مجرد الاحتمال لا ينتهض للاستدلال فلا يترك به ما هو الظاهر ولكنه ينبغي تقييد هذه المسألة بأن يكون القياس الذي اقتضته العلة من الأقيسة التي ثبتت بدليل نقل أو عقل لا بمجرد محض الرأي والخيال المختل وسيأتي بمعونة الله إيضاح ذلك مستوفى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة والعشرون : اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازاً ؟ فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقاً سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل وسواء كان بلفظ أو بغيره واختاره البيضاوي وابن الحاجب والصفي الهندي قال ابن برهان في الأوسط وهو المذهب الصحيح ونسبه الكيا الطبري إلى المحققين ووجهة أنه موضوع للمجموع فإذا أريد به البعض فقد أريد به غير ما وضع له وذلك هو المجاز . وأيضاً لو كان حقيقة في البعض كما كان حقيقة في الكل لزم أن يكون مشتركاً فيكون حقيقة في معنيين مختلفين والمفروض أنه حقيقة في معنى واحد . وأيضاً قد تقرر أن المجاز خير من الاشتراك كما تقدم فيكون مقدماً عليه . وذهب جماعة عن أهل العلم إلى أنه حقيقة فيما بقي مطلقاً قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني وهذا مذهب الشافعي وأصحابه وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ونقله ابن برهان عن أكثر الشافعية وقال إمام الحرمين هو مذهب جماعة الفقهاء وحكاه ابن الحاجب عن الحنابلة . قالوا ووجه ذلك أن اللفظ إذا كان متناولاً حقيقة باتفاق فالتناول باق على ما كان عليه ولا يضره طرد عدم تناول الغير وأجيب بأنه كان يتناوله مع غيره والآن يتناوله وحده وهما متغايران وقالوا أيضاً أنه يسبق إلى الفهم من غير قرينة وأجيب بأنه إنما يسبق إلى الفهم مع القرينة إذ السابق مع عدمها هو العموم وهذا دليل المجاز قال العضد وقد يقال إرادة الباقي معلومة دون القرينة إنما المحتاج إلى القرينة عدم إرادة الإخراج انتهى . ويجاب عنه بأنه إرادة الباقي وحده دون غيره يحتاج إلى قرينة . وذهب جماعة إلى أنه أن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة وان خص بمنفصل فمجاز حكاه الشيخ أبو حامد وابن برهان وعبد الوهاب عن الكرخي وغيره من الحنفية . قال عبد الوهاب هو قول أكثرهم قال ابن برهان وإليه مال القاضي ونقله عنه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع واحتجوا بأنه مع التخصيص بمتصل كلام واحد . ويجاب بأن ذلك المخصص المتصل هو القرينة التي كان سببا لفهم ارادة الباقي من لفظ العموم وهو معنى المجاز ولا فرق بين قرينة قريبة أو بعيدة متصلة أو منفصلة وذهب عبد الجبار إلى عكس هذا القول حكى ذلك عنه ابن برهان في الاوسط ولا وجه له وحكى الآمدي أنه أن خص بدليل لفظي كان حقيقة في الباقي سواء كان ذلك المخصص اللفظ متصلاً أو منفصلاً وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازاً ولا وجه لهذا أيضاً لأن القرينة قد تكون لفظية وقد تكون غير لفظية وحكى أبو الحسين في المعتمد عن عبد الجبار أنه أن خص بالشرط والصفة فهو حقيقة وإلا فهو مجاز ولا وجه له أيضاً وقد استدل له بما لا يصلح للاحتجاج به على محل النزاع وقال أبو الحسين البصري إن كان المخصص مستقلاً فهو مجاز سواء كان عقلياً أو لفظياً وذلك كقول المتكلم بالعام أردت به البعض الباقي بعد الإخراج وان لم يكن مستقلاً فهو حقيقة كالاستثناء والشرط والصفة واختار هذا فخر الدين الرازي فإنه قال في المحصول قول أبي الحسين وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صار مجازاً وإلا فلا وتقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان عقلية ولفظية أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات ، وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني ، وفي هذين القسمين يكون العام مجازا والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملاً في غير مسماه لقرينة مخصصة وذلك هو المجاز . فإن قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص . قلت فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجازاً أصلاً لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال أنه وحده حقيقة في كذا ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازاً عنه والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا انتهى . ويجاب عنه بمنع كونه يفضي إلى ذلك ومجرد إمكان أن يقال لا اعتبار به بل الاعتبار بالدلالة الكائنة في نفس الدال مع عدم فتح باب الإمكان المفضي إلى سد باب الدلالة مطلقاً فضلاً عن سد باب مجرد المجاز ، وحكى الآمدي عن أبي بكر الرازي أنه أن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة وإلا فهو مجاز واختاره الباجي من المالكية وهذا لا ينبغي أن يعد مذهباً مستقلاً لأنه لا بد أن يبقى أقل الجمع وهو محل الخلاف ولهذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي أن محل الخلاف فيما إذا كان الباقي أقل الجمع فأما إذا بقي واحد أو اثنان كما لو قال لو تكلم الناس ثم قال أردت زيداً خاصة فإنه يصير مجازاً بل خلاف لأنه اسم جمع والواحد والاثنان ليسا بجمع انتهى . وهكذا لا ينبغي أن يعد مذهباً مستقلاً ما اختاره إمام الحرمين من أنه يكون حقيقة فيما بقي ومجازاً فيما أخرج ، لأن محل النزاع هو فيما بقي فقط هل يكون العام فيه حقيقة أم لا ؟ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة والعشرون : اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا ومحل الخلاف فيما إذا خص بمبين أما إذا خص بمبهم كما لو قال تعالى : اقتلوا المشركين إلا بعضهم فلا يحتج به على شيء من الإفراد بلا خلاف إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج وأيضاً إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً وقد نقل الإجماع على هذا جماعة منهم القاضي أبو بكر وابن السمعاني والأصفهاني قال الزركشي في البحر وما نقلوه فليس بصحيح وقد حكى ابن برهان في الوجيز فصحح العمل به مع الإيهام واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل من المخرج والأصل عدمه فيبقى على الأصل ونعمل به إلى أن نعمل بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام ، وإنما يكون معارضاً عند العلم به . قال الزركشي وهو في الإضراب عن المخصص والعمل بالعام في جميع أفراده وهو بعيد وقد رد الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ولا قائل به انتهى . وقال بعض الشافعية بإحالة هذا محتجاً بأن البيان لا يتأخر وهذا يؤدي إلى تأخره ، وأما إذا كان التخصيص بمبين فقد اختلفوا في ذلك على أقوال : الأول : أنه حجة في الباقي وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة لأن اللفظ العام كان متناولاً للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به ولو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور وهو محال . وأيضاً المقتضى للعمل به فيما بقي موجود وهو دلالة اللفظ عليه والمعارض مفقود فوجد المقتضى وعدم المانع ، فوجب ثبوت الحكم . وأيضاً قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع . وأيضاً قد قيل أنه ما من عموم إلا وقد خص وأنه لا يوجد عام غير مخصص فلو قلنا أنه غير حجة فما بقي للزم إبطال كل عموم ، ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما يثبت بعمومات . القول الثاني : أنه ليس بحجة فيما بقي ، وإليه ذهب عيسى بن أبان وأبو ثور كما حكاه عنهما صاحب المحصول وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق وحكاه الغزالي عن القدرية . قال ثم منهم من قال يبقى أقل الجمع لأنه المتيقن قال إمام الحرمين ذهب كثير من الفقهاء الشافعية والمالكية والحنفية و الجبائي و ابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصت صارت مجملة ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات وإليه مال عيسى بن أبان انتهى . واستدلوا بأن معنى العموم حقيقة غير مراد مع تخصيص البعض وسائر ما تحته من المراتب مجازات وإذا كانت الحقيقة غير مرادة وتعددت المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها . وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعين أحدهما وما قدمنا من الأدلة فقد دلت على حمله على الباقي فيصار إليه . القول الثالث : أنه إن خص بمتصل كالشرط والصفة فهو حجة فيما بقي وإن خص بمنفصل فلا ، بل يصير مجملاً حكاه الأستاذ أبو منصور عن الكرخي ومحمد بن شجاع الثلجي بالمثلثة والجيم . قال أبو بكر الرازي كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول في العام إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ وصار حكمه موقوفاً على دلالة أخرى من غير فيكون بمنزلة اللفظ ، وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ فيقول أن الاستثناء غير مانع بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى انتهى . ولا يخفاك أن قوله سقط الاستدلال باللفظ مجرد دعوى ليس عليها دليل وقوله وصار حكمه الخ ضم دعوى إلى دعوى والأصل بقاء الدلالة والظاهر يقتضي ذلك فمن قال برفعها أو بعدم ظهورها لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ولا دليل أصلاً . القول الرابع : إن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى : اقتلوا المشركين لأن القيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة للسارق فيه بمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ وإليه ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي . ويجاب عنه بأن محل النزاع دلالة اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص وهي كائنة في الموضعين والاختلاف بكون الدلالة في البعض الآخر باعتبار أمر خارج لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدال أصلاً وظاهراً . القول الخامس : إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ولا يحتاج إليه كاقتلوا المشركين فهو حجة لأن مراده بين قبل إخراج الذمي وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى : أقيموا الصلاة فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها وإليه ذهب عبد الجبار وليس هو بشيء ولم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل . القول السادس : أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع لأنه المتعين ولا يجوز فيما زاد عليه هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيري وقال أنه يحكم ، وقال الصفي الهندي لعله قول من لا يجوز تخصيص التثنية . وقد استدل لهذا القائل بأن أقل الجمع هو المتيقن والباقي مشكوك فيه ورد بمنع كون الباقي مشكوكاً فيه لما تقدم من الأدلة . القول السابع : أنه يتمسك به في واحد فقط حكاه في المنخول عن أبي هاشم وهو أشد تحكماً مما قبله . القول الثامن : الوقف فلا يعمل به إلا بدليل حكاه أبو الحسين بن القطان وجعله مغايراً لقول عيسى بن أبان ومن معه وهو مدفوع بأن الوقف إنما يحسن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة وليس هناك شيء من ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة والعشرون : إذا ذكر العام وعطف عليه بعض أفراده مما حق العموم أن يتناوله كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فهل يدل ذكر الخاص على أنه غير مراد باللفظ العام أم لا ؟ وقد حكى الروياني في البحر عن والده في كتاب الوصية أنه حكى اختلاف العلماء في هذه المسألة فقال بعضهم هذا المخصوص لا يدخل تحت العام لأنا لو جعلناه داخلاً تحته لم يكن لإفراده بالذكر فائدة . قال الزركشي في البحر وعلى هذا جرى أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني وظاهر كلام الشافعي يدل عليه فانه قال في حديث عائشة في الصلاة الوسطى وصلاة العصر أنه يدل على أن الصلاة الوسطى ليست العصر لأن العطف يقتضي المغايرة قال الروياني أيضاً وقال بعضهم هذا المخصوص بالذكر هو داخل تحت العموم وفائدته التأكيد وكأنه ذكر مرة بالعموم ومرة بالخصوص وهذا هو الظاهر وقد أوضحنا هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرحنا للمنتقى . وإذا كان المعطوف خاصاً فاختلفوا هل يقتضي تخصيص المعطوف عليه أم لا فذهب الجمهور إلى أنه لا يوجبه وقالت الحنفية يوجبه وقيل بالوقف ومثال هذه المسألة صضص لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده فقال الأولون لا يقتل المسلم بالذمي لقوله لا يقتل مؤمن بكافر وهو عام في الحربي والذمي لأنه نكرة في سياق النفي وقالت الحنفية بل هو خاص والمراد به الكافر الحربي بقرينة عطف عليه وهو قوله ولا ذو عهد في عهده فيكون التقدير ولا ذو عهد في عهده بكافر قالوا والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع لأن المعاهد يقتل بالمعاهد فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه . قال الأولون وهذا التقدير ضعيف لوجوه : أحدها : أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين المتعاطفين من كل وجه . الثاني : أن قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا يحتاج إلى إضمار قوله بكافر لأن الإضمار خلاف الأصل ، والمراد حينئذ أن العهد عاصم من القتل وقد صرح أبو عبيد في غريب الحديث بذلك فقال أن قوله ولا ذو عهد جملة مستأنفة وإنما قيده بقوله في عهده لأنه لو اقتصر على قوله ولا ذو عهد لتوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج منه لا يقتل ، فلما قال في عهده علمنا اختصاص النهي بحالة العهد . الثالث : أن حمل الكافر المذكور على الحرب يلا يحسن لأن إهدار دمه معلوم من الدين بالضرورة فلا يتوهم أحد قتل مسلم به . وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وليس هناك ما يقتضي التطويل وقد قيل على ما ذهب إليه الأولون ما وجه الارتباط بين الجملتين إذ لا يظهر مناسبة لقوله ولا ذو عهد في عهده مطلقاً مع قوله لا يقتل مسلم بكافر . وأجاب عن ذلك الشيخ أبو إسحاق والسلام لا يقتل مسلم بكافر حتى أن ينجرد هذا عدا الكلام فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره فعقبه بقوله ولا ذو عهد في عهده .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة والعشرون : نقل الغزالي والآمدي وابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص واختلفوا في قدر البحث والأكثرون قالوا إلى أن يغلب الظن بعدمه وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إلى القطع به وهو ضعيف إذ القطع لا سبيل إليه واشتراطه يفضي إلى عدم العمل بك لعموم . واعلم أن في حكاية الإجماع نظراً فقد قال في المحصول قال ابن شريح لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص فإذا لم يوجد بعد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء ما لم يظهر دلالة مخصصة . واحتج الصيرفي بأمرين : أحدهما : لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لم يجز التمسك بالحقيقة إلا بعد البحث هل يوجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله . بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم وبيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظاهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا وإذا وجب ذلك في العرف وجب أيضاً في الشرع لقوله صضص ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن والأمر الثاني أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم التخصيص فيكفي في إثبات ظن الحكم . واحتج ابن شريح أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة وأن لا يكون والأصل أن لا يكون حجة لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت الظن انتهى كلام المحصول ، وما ذكره من أن ما وجب في العرف وجب في الشرع ممنوع . وما استدل به زاعماً أنه من قول رسول الله صضص لم يثبت من وجه معتبر ولا شك أن الأصل عدم التخصيص فيجوز التمسك بالدليل العام لمن كان من أهل الاجتهاد الممارسين لأدلة الكتاب والسنة العارفين بها فإن عدم وجود المخصص لمن كان كذلك يسوغ له التمسك بالعام بل هو فرضه الذي تعبده الله به ولا ينافي ذلك تقدير وجود المخصص فإن مجرد هذا التقدير لا يسقط قيام الحجة بالعام ولا يعارض أصالة عدم الوجود وظهوره .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الموفية ثلاثين : في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به بخصوص قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في كتاب البيع والفرق بينهما أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد أقل وما ليس بمراد هو الأكثر وقال أبو علي بن أبي هريرة العام المخصوص المراد به هو الأكثر وما ليس بمراد هو الأقل قال ويفترقان أن العام الذي أريد به الخصوص ما يكون المراد باللفظ أقل وما ليس بمراد باللفظ أكثر . والثاني : أن المراد فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو مقترن به ، وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان أن يتنبه للفرق بين قولنا هذا عام أريد به الخصوص وبين قولنا هذا عام مخصوص فإن الثاني أعم من الأول ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهر العموم ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ كان عاماً مخصوصاً ولم يكن عاماً أريد به الخصوص ويقال إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج وهذا متوجه إذا قصد العموم بخلاف ما إذا نطق بالعام مريداً به بعض ما يتناوله . قال الزركشي وفرق بعض الحنابلة بينهما بوجهين الآخرين . أحدهما : أن المتكلم إذا أطلق اللفظ العام ، فإن أراد به بعضاً معيناً فهو العام الذي أريد به الخصوص وإن إراد سلب الحكم عن بعض منه فهو العام المخصوص مثاله قام الناس فإذا أردت به سلب القيام عن زيد فهو عام مخصوص . والثاني : أن العام الذي أريد به الخصوص إنما يحتاج إلى دليل معنوي يمنع إرادة الجميع فيتعين له البعض والعام المخصوص يحتاج إلى تخصيص اللفظ غالباً كالشرط والاستثناء والغاية . قال وفرق بعض المتأخرين بأن العام الذي أريد به الخصوص هو أن يطلق العام ويراد به بعض ما يتناوله وهو مجاز قطعاً لأنه استعمال اللفظ في بعض مدلوله وبعض الشيء غيره قال وشرط الإرادة في هذا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكفي طردها في أثنائه لأن المقصود منها نقل اللفظ من معناه إلى غيره واستعماله في غير موضعه وليست الإرادة فيه إخراجاً لبعض المدلول بل إرادة استعمال اللفظ في شيء آخر غير موضعه كما يراد باللفظ مجازه ، وأما العام المخصوص فهو العام المخصوص فهو العام الذي أريد به معناه مخرجاً منه بعض أفراده فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ ولا تأخرها عنه بل يكفي كونها في أثنائه كالمشيئة في الطلاق . وهذا موضع خلافهم في أن العام المخصوص مجاز أو حقيقة ومنشأ التردد أن إرادة إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ مراداً به الباقي أو لا وهو يقوى كونه حقيقة لكن الجمهور على المجاز والنية فيه مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه إلى غيره وقال علي بن عيسى النحوي إذا أتى بصورة العموم والمراد به الخصوص فهو مجاز إلا في بعض المواضع إذا صار الأظهر الخصوص كقولهم غسلت ثيابي وصرمت نخلي وجاءت بنو تميم وجاءت الأزد انتهى . قال الزركشي وظن بعضهم أن الكلام في الفرق بينهما مما أثاره المتأخرون وليس وكذلك فقد وقعت التفرقة بينهما في كلام الشافعي وجماعة من أصحابنا في قوله تعالى : وأحل الله البيع هل هو عام مخصوص أو عام أريد به الخصوص انتهى . ولا يخفاك أن العام الذي أريد الخصوص هو ما كان مصحوباً بالقرينة عن التكلم به على إرادة المتكلم به بعض ما يتناوله بعمومه وهذا لا شك في كونه مجازاً لا حقيقة لأنه استعمال اللفظ في بعض ما وضع له سواء كان المراد منه أكثره أو أقله فإنه لا مدخل للتفرقة بما قيل من إرادة الأقل في العام الذي أريد به الخصوص وإرادة الأكثر في العام المخصوص . وبهذا يظهر لك أن العام الذي أريد به الخصوص مجاز على كل تقدير وأما العام المخصوص فهو الذي لا تقوم قرينة عند تكلم المتكلم به على أنه أراد بعض أفراده فيبقى متناولاً لأفراده على العموم وهو عند هذا التناول حقيقة فإذا جاء المتكلم بما يدل على إخراج البعض منه كان على الخلاف المتقدم هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الباب الرابع في الخاص والتخصيص والخصوص
المسألة الأولى : في حده فقيل الخاص هو اللفظ الدال على مسمى واحد ويعترض عليه بأن تقييده بالوحدة غير صحيح فإن تخصيص العام قد يكون بإخراج أفراد كثيرة من أفراد العام وقد يكون بإخراج نوع من أنواعه أو صنف من أصنافه إلا أن يراد بالمسمى الواحد ما هو أعم من أن يكون فرداً أو نوعاً أو صنفاً لكنه يشكل عليه إخراج أفراد متعددة نحو أكرم القوم إلا زيداً وعمراً وبكراً . ثم يرد على هذا الحد أيضاً أنه يصدق على كل دال على مسمى واحد سواء كان مخرجاً أولاً . قيل في حده هو ما دل على كثرة مخصوصة ويعترض عليه بان التخصيص قد يكون بفرد من الأفراد نحو أكرم القوم إلا زيداً وليس زيد وحده بكثر ، وأيضاً يعترض عليه بأنه يصدق على كل لفظ يدل على كثرة سواء كان مخرجاً من عموم أم لا . إلا أن يراد بهذين الحدين تحديد الخاص من حيث هو خاص وأما التخصيص وهو المقصود بالذكر هنا فهو في اللغة الأفراد ومنه الخاصة وفي الاصطلاح تمييز بعض الجملة بالحكم كذا قال ابن السمعاني . ويرد عليه العام الذي أريد به الخصوص . وقيل بيان ما لم يرد بلفظ العام ويرد عليه أيضاً بيان ما لم يرد بالعام الذي أريد به الخصوص وليس من التخصيص . وقال العبادي التخصيص بيان المراد بالعام ويعترض عليه بأن التخصيص هو بيان ما لم يرد بالعام لا بيان ما أريد به . وأيضاً يدخل فيه العام الذي أريد به الخصوص . وقال ابن الحاجب التخصيص قصر العام على بعض مسمياته واعترض عليه بأن لفظ القصر يحتمل القصر في التناول أو الدلالة أو الحمل أو الاستعمال . وقال أبو الحسين هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه واعترض عليه بأن ما أخرج فالخطاب لم يتناوله . وأجيب بأن المراد ما يتناوله الخطاب بتقدير عدم المخصص وقيل هو تعريف أن العموم للخصوص وأورد عليه أنه تعريف التخصيص بالخصوص وفيه دور . وأجيب بأن المراد بالتخصيص المحدود التخصيص في الاصطلاح وبالخصوص المذكور في الحد هو الخصوص في اللغة فتغايراً فلا دور . قال القفال الشاشي إذا ثبت تخصيص العام ببعض ما اشتمل عليه علم أنه غير مقصود بالخطاب وأن المراد ما عداه ولا نقول إنه داخل في الخطاب فخرج منه بدليل وإلا لكان نسخاً ولم يكن تخصيصاً فإن الفارق بينهما أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص بيان ما قصد باللفظ العام قال الكيا الطبري والقاضي عبد الوهاب معنى قولنا إن العموم مخصوص أن المتكلم به قدر أراد بعض ما وضع له دون بعض وذلك مجاز لأنه شبيه بالمخصوص الذي يوضع في الأصل للخصوص وإرادة البعض لا تصيره موضوعاً في الأصل لذلك ولو كان حقيقة لكان العام خاص وهو متناف وإنما يصير خاصاً بالقصد كالأمر يصير أمراً بالطلب والاستدعاء وقد ذكر مثل هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي . وأما الخصوص فقيل هو كون اللفظ متناولاً لبعض ما يصلح له لا لجميعه ويعترض عليه بالعام الذي أريد به الخصوص وقيل هو كون اللفظ متناولاً للواحد المعين الذي لا يصلح إلا له ويعترض على تقييده بالوحدة مثل ما تقدم . قال العسكري الفرق بين الخاص والخصوص بأن الخاص هو ما يراد به بعض ما ينطوي عليه لفظه بالوضع والخصوص ما اختص بالوضع لا بالإرادة . وقيل الخاص ما يتناول أمراً واحداً بنفس الوضع والخصوص أن يتناول شيئاً دون غيره وكان يصح أن يتناوله ذلك الغير . وأما المخصص فيطلق على معان مختلفة فيوصف المتكلم بكونه مخصصاً للعام بمعنى أنه أراد به بعض ما تناوله ويوصف الناصب لدلالة التخصيص بأنه مخصص ويوصف الدليل بأنه مخصص كما يقول السنة تخصص الكتاب ويوصف المعتقد لذلك بأنه مخصص . وإذا عرفت أن المقصود في هذا الباب ذكر حد التخصيص دون الخاص والخصوص فالأولى في حده أن يقال هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية : في الفرق بين النسخ والتخصيص إعلم أنه لما كان التخصيص شديد الشبه بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بعض ما يتناوله اللفظ احتاج أئمة الأصول إلى بيان الفرق بينهما من وجوه : الأول : أن التخصيص ترك بعض الأعيان والنسخ ترك الأعيان كذا قال الأستاذ الاسفرائني . الثاني : أن التخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال بخلاف النسخ فإنه لا يتناول إلا الأزمان قال الغزالي وهذا ليس بصحيح إن الأعيان والأزمان ليسا من أفعال المكلفين والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص يرد على الفعل في بعض الأحوال انتهى . وهذا الذي ذكره هو فرق مستقل فينبغي أن يكون هو الوجه الثالث . الوجه الرابع : أن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد بخلاف النسخ فإنه يكون لكل الأفراد ذكره البيضاوي . الوجه الخامس : أن النسخ تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص بخلاف التخصيص قاله أيضاً الأستاذ واختاره البيضاوي واعترض عليه إمام الحرمين . الوجه السادس : أن التخصيص تقليل والنسخ تبديل حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي واعترض بأنه قليل الفائدة . الوجه السابع : أن النسخ يتطرق إلى كل حكم سواء كان ثابتاً في حق شخص واحد أو أشخاص كثيرة والتخصيص لا يتطرق إلا إلى الأول ومنهم من عبر عن هذا بعبارة أخرى فقال التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل فيه . الوجه الثامن : أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازاً على الخلاف السابق والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية . الوجه التاسع : أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ ولا يجوز تأخير التخصيص عن وقت العمل بالمخصوص . الوجه العاشر : أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى ولا يجوز التخصيص قال القرافي وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيراً أو المراد أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة أما كلها فلا لأن قواعد العقائد لم تنسخ . الوجه الحادي عشر : أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص فإنه بيان المراد باللفظ العام . ذكره القفال الشاشي والعبادي في زياداته . الوجه الثاني عشر : أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ . ذكره الماوردي . الوجه الثالث عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون مقترناً بالعام أو متقدماً عليه أو متأخراً عنه ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدماً على المنسوخ ولا مقترناً به بل يجب أن يتأخر عنه . الوجه الرابع عشر : أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع . الوجه الخامس عشر : أن التخيصص يجوز أن يكون بالإجماع والنسخ لا يجوز أن يكون بالإجماع . الوجه السادس عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون في الأخبار والأحكام والنسخ يختص بأحكام الشرع . الوجه السابع عشر : أن التخصيص على الفور والنسخ على التراخي ذكره الماوردي قال الزركشي وفيه نظر . الوجه الثامن عشر : أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع ونسخه به غير واقع وهذا فيه ما سيأتي من الخلاف . الوجه التاسع عشر : أن التخصيص لا يدخل في غير العام بخلاف النسخ فإنه يرفع حكم العام والخاص . الوجه الموفى عشرين : أن التخصيص يؤذن بـأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في الحال وإن كان غير مراد فيما بعده هذا جملة ما ذكروه من الفروق ، وغير خاف عليك أن بعضها غير مسلم ، وبعضها يمكن دخوله في البعض الآخر منها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة : اتفق أهل العلم سلفاً وخلفاً على أن التخصيص للعمومات جائز ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد به وهو معلوم من هذه الشريعة المطهرة لا يخفى على من له أدنى تمسك بها حتى قيل إنه لا عام إلا وهو مخصوص إلا قوله تعالى: والله بكل شيء عليم قال الشيخ علم الدين العراقي ليس في القرآن عام غير مخصوص إلا أربعة مواضع أحدها قوله:حرمت عليكم أمهاتكم فكل ما سميت أما من نسب أو رضاع وإن علت فهي حرام ، ثانيها قوله كل من عليها فان كل نفس ذائقة الموت ثالثها قوله تعالى والله بكل شيء عليم ، رابعها قولهوالله على كل شيء قدير . واعترض على هذا بأن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات وهي أشياء وقد ألحق بهذه المواضع الأربعة قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقد استدل من لا يعتد به بما لا يعتد به فقال إن التخصيص يستلزم الكذب كما قال من قال بنفس المجاز أنه ينفي فيصدق في نفيه ورد ذلك بأن صدق النفي إنما يكون بقيد العموم وصدق الإثبات بقيد الخصوص فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد وما قالوه من أنه يلزم البداء مردود بأن ذلك إنما يلزم لو أريد العموم الشامل لما خصص لكنه لم يرد ابتداء وإنما أريد الباقي بعد التخصيص وقد قيد بعض المتأخرين خلاف من خالف في جواز التخصيص ممن لا يعتد به بالأخبار لا بغيرها من الإنشاءات ومن جملة من قيده بذلك الآمدي وعلى كل حال فهو قول باطل ومذهب عن حلية التحقيق والحق عاطل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة : اختلفوا في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب : المذهب الأول : أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام وإليه ذهب الأكثر وحكاه الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي قال وإليه مال إمام الحرمين ونقله الرازي عن أبي الحسين البصري ونقله ابن برهان عن المعتزلة قال الأصفهاني ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد نعم اختاره الغزالي والرازي . المذهب الثاني : أن العام إن كان مفرداً كمن والألف واللام نحو اقتل من في الدار واقطع السارق جاز التخصيص إلى أقل المراتب وهو واحد لأن الاسم يصلح لهما جميعاً وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع وذلك إما ثلاثة أو اثنان على الخلاف قاله القفال الشاشي وابن الصباغ قال الشيخ أبو إسحاق الإسفرائيني لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد فيما إذ لم تكن الصيغة جمعاً كمن والألف واللام . المذهب الثالث : التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء والبدل فيجوز إلى الواحد وإلا فلا يجوز قال الزركشي حكاه ابن المطهر وهذا المذهب داخل في المذهب السادس كما سيأتي . المذهب الرابع : أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقاً على حسب اختلافهم في أقل الجمع حكاه ابن برهان وغيره . المذهب الخامس : أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم حكاه إمام الحرمين في التلخيص عن معظم أصحاب الشافعي قال وهو الذي اختاره الشافعي ونقله ابن السمعاني في القواطع عن سائر أصحاب الشافعي ما عدا القفال وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني في أصول عن إجماع الشافعية وحكاه ابن الصباغ في العدة عن أكثر الشافعية وصححه القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور . المذهب السادس : إن كان التخصيص بمتصل فإن كان بالاستثناء أو البدل جاز إلى الواحد نحو أكرم الناس إلا الجهال وأكرم الناس إلا تميماً وإن كان بالصفة أو الشرط فيجوز إلى اثنين نحو أكرم القوم الفضلاء أو إذا كانوا فضلاء وإن كان التخصيص بمنفصل وكان في العام المحصور القليل كقولك قتلت كل زنديق وكانوا ثلاثة أو أربعة ولم تقتل سوى اثنين جاز إلى اثنين وإن كان العام غير محصور أو كان محصوراً كثيراً جاز بشرط كون الباقي قريباً من مدلول العام هكذا ذكره ابن الحاجب واختاره . قال الأصفهاني في شرح المحصول ولا نعرفه لغيره . احتج الأولون بأنه لو قال قائل قتلت كل من في المدينة ولم يقتل إلا ثلاثة عد لاغياً مخطئاً في كلامه وهكذا لو قال أكرمت كل العلماء ولم يكرم إلا ثلاثة أو قتلت جميع بني تميم ولم يقتل إلا ثلاثة . واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة بأن ذلك أقل الجمع على الخلاف المتقدم ويجاب بأن ذلك خارج عن محل النزاع فإن الكلام إنما هو في العام والجمع ليس بعام ولا تلازم بينهما واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد بأنه يجوز أن يقول أكرم الناس إلا الجهال وإن كان العالم واحداً ويجاب عنه بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام موجوداً في الخارج ومثل هذه الصورة اتفاقية ولا يعتبر بها فالناس هاهنا ليس بعام بل هو للمعهود كما في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس فإن المراد بالناس المعهود وهو نعيم بن مسعود والمعهود ليس بعام استدلوا أيضاً بأنه يجوز أن يقول القائل أكلت الخبز وشربت الماء والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز . وأجيب عن ذلك بأنه غير محل النزاع فإن كل واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود والذهني وهو الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب وهو مقدار معلوم ، والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام أنه لا بد أن يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولاً للعام ولو في بعض الحالات وعلى بعض التقادير كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية والكلمات العربية ولا وجه لتقييد الباقي بكونه أكثر مما قد خص أو بكونه أقرب إلى مدلول العام فإنه هذه الأكثرية والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر الأقرب هما مدلولا العام على التمام فإنه بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده كما يصير غير شامل لها عند إخراج أكثرها ولا يصح أن يقال هاهنا إن الأكثر في حكم الكل لأن النزاع في مدلول اللفظ ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد التخصيص من باب الحقيقة أو المجاز ولو كان المخرج فرداً واحداً . وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد بكون الباقي بعد التخصيص أكثر أو أقرب إلى مدلول العام عرفت أيضاً أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعاً لأن النزاع في معنى العموم لا في معنى الجمع ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون الصيغة مفردة لفظاً كمن وما والمعرف باللام وبين كونها غير مفردة فإن هذه الصيغ التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة والاعتبار إنما هو بالمعاني لا بمجرد الألفاظ .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة : اختلفوا في المخصص على قولين حكاهما القاضي عبد الوهاب في الملخص و ابن برهان في الوجيز . أحدهما : أنه إرادة المتكلم والدليل كاشف عن تلك الإرادة . وثانيهما : أنه الدليل الذي وقع به التخصيص واختار الأول ابن برهان وفخر الدين الرازي في محصوله فإنه قال المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم لأنها المؤثرة ويطلق على الدال على الإرادة مجازاً وقال أبو الحسين في المتعمد العام يصير عندنا خاصاً بالأدلة ويصير خاصاً في نفس الأمر بإرادة المتكلم والحق أن المخصص حقيقة هو المتكلم لكن لما كان المتكلم يخصص بالإرادة أسند التخصيص إلى إرادته فجعلت الإرادة مخصصة ، ثم جعل ما دل على إرادته وهو الدليل اللفظي أو غيره مخصصاً في الاصطلاح والمراد هنا إنما هو الدليل فنقول المخصص للعام إما أن يستقل بنفسه فهو المنفصل وإما أن لا يستقل بل يتعلق معناه باللفظ إلى قبله فهو المتصل ، فالمنفصل سيأتي إن شاء الله وأما المتصل فقد جعله الجمهور أربعة أقسام الاستثناء المتصل والشرط والصفة والغاية وزاد القرافي وابن الحاجب بدل البعض من الكل وتابع الأصفهاني في ذلك قائلاً أنه في نية طرح ما قبله قال القرافي وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر هذه الخمسة وسبعة أخرى وفي الحال وظرف الزمان وظرف المكان والمجرور مع الجار والتمييز والمفعول معه والمفعول لأجله فهذه اثنا عشر ليس فيها واحد يستقل بنفسه ، ومتى اتصل بما يستقل بنفسه عموماً كان أو غيره صار غير مستقل بنفسه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المسألة السادسة : لا خلاف في جواز الاستثناء من الجنس كقام القوم إلا زيداً وهو المتصل ولا تخصيص إلا به وأما المنقطع فلا يخصص به نحو جاءني القوم إلا جاراً فالمتصل ما كان اللفظ الأول منه يتناول الثاني وفي معنى هذا ما قيل إن المتصل ما كان الثاني جزءاً من الأول والمنقطع ما لا يكون الثاني جزءاً من الأول . قال ابن السراج ولا بد في المنقطع من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثني منه قال ابن مالك لا بد فيه من تقدير الدخول في الأول كقولك قام القوم إلا جاراً لما ذكر القوم تبادر الذهن إلى أتباعهم المألوفة فذكر الجار في الاستثناء لذلك هو فمستثنى تقديراً . قال أبو بكر الصيرفي يجوز الاستثناء من غير الجنس ولكن يشترط أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما وإلا لم يجز كقوله : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس فاليعافير قد تؤانس فكأنه قال ليس بها من يؤانس به إلا هذا النوع . وقد اختلف في الاستثناء المنقطع هل وقع في اللغة أم لا فقال الزركشي من أهل اللغة من أنكره وأوله تأويلاً رده به إلى الجنس وحينئذ فلا خلاف في المعنى ، وقال العضد في شرحه لمختصر المنتهى لا نعرف خلافاً في صحته لغة . واختلفوا أيضاً هل وقع في القرآن أم لا فأنكر بعضهم وقوعه فيه ، وقال ابن عطية لا ينكر وقوعه في القرآن إلا أعجمي . واختلفوا أيضاً هل هو حقيقة أم مجاز على مذاهب . المذهب الأول : أنه حقيقة واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني ، ونقله ابن الخباز عن ابن جني . قال الإمام الرازي وهو ظاهر كلام النحويين وعلى هذا فإطلاق لفظ الاستثناء على المستثنى المنقطع هو بالاشتراك اللفظي . المذهب الثاني : أنه مجاز وبه قال الجمهور قالوا لأنه ليس فيه معنى الاستثناء وليس في اللغة ما يدل على تسميته بذلك . المذهب الثالث : أنه لا يسمى استثناء لا حقيقة ولا مجازاً حكاه القاضي في التقريب و الماوردي ، وقال الخلاف لفظي . قال الزركشي بل هو معنوي فإن من جعله حقيقة جوز التخصيص به إلا فلا ، ثم بعد الاختلاف في كونه حقيقة أو مجازاً اختلفوا في حده ولا يتعلق بذلك كبير فائدة فقد عرفت أنه لا يخصص به وبحثنا إنما هو في التخصيص ولا يخصص إلا بالمتصل فلنقتصر على الكلام المتعلق به .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة : قد قال قائل إن الاستثناء في لغة العرب متعذر لأنه إذا قيل قام القوم إلا زيداً فلا يخلو إما أن يكون داخلاً في العموم أو غير داخل قال والقسمان باطلان . أما الأول : فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع إخراجه من النسبة والإلزام توارد الإثبات والنفي على محل واحد وهو محال . وأما الثاني : فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه وأجاب الجمهور عن هذا بأنه إنما يلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد لو لم يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج ، أما إذا كان كذلك فلا توارد فإن المراد بقول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة إنما هو سبعة وإلا ثلاثة قرينة إرادة السبعة من العشرة إرادة الجزء باسم الكل كما في سائر المخصصات للعموم أورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج والعشرة نص في مدلولها والنص لا يتطرق إليه تخصيص وإنما التخصيص في الظاهر . قال الزركشي وما قاله من الإجماع مردود فإن مذهب الكوفيين أن الاستثناء لا يخرج شيئاً فإذا قلت قام القوم إلا زيداً فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بالقيام ولا بنفيه . قال بعض المحققين وهذا الجواب الذي أجاب به الجمهور لا يستقيم غيره لأن الله سبحانه قال : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من لفظ الألف . وأجاب القاضي أبو بكر الباقلاني بأن قول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة بمنزلة سبعة من غير إخراج وأنهما كإسمين وضعا لمسمى واحد أحدهما مفرد والآخر مركب وجرى صاحب المحصول على هذا واختاره إمام الحرمين واستنكر قول الجمهور وقال إنه محال لا يعتقده لبيب . قال ابن الحاجب وهذا المذهب خارج عن قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد لأنا نقطع بأن دلالة الاستثناء بطريق الإخراج . وأجاب آخرون بأن المستثنى منه مراد بتمامه ثم أخرج المستثنى ثم حكم بالإسناد بعده تقديراً وإن كان قبله ذكراً فالمراد بقولك عشرة إلا ثلاثة عشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة ثم أسند إلى الباقي تقديراً فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج . قال ابن الحاجب وهو الصحيح ورجحه الصفي الهندي وجماعة من أهل الأصول . والفرق بين هذا الجواب والجواب الذي قبله بأن الأفراد في هذا غير مرادة بكمالها وفي الجواب الذي قبله هي مرادة بكمالها والاستثناء إنما هو لتفسير النسبة للدلالة على عدم المراد . وأيضاً الفرق بين هذه الثلاثة الأجوبة أن جواب الجمهور يدل على أن الثلاثة تخصيص وعلى الجواب الثاني ليست بتخصيص وعلى الثالث محتملة ، فقيل الأظهر أنها تخصيص ، وقيل ليست بتخصيص . قال الماوردي أصل هذه الخلاف في الاسثناء من العدد هل يكون الاستثناء فيه كقرينة غيرت وضع الصيغة أو لم تغيره وإنما كشفت عن المراد بها فمن جعل أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها . قال بالأول وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع هو الدال على العدد المنفى ومن لم يجعل أسماء العدد كالنصوص فإن العشرة استعملت في عشرة ناقصة جعل الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه كما دل قوله لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله اقتلوا المشركين . قال فالحاصل أن مذهب الأكثرين أنك استعملت العشرة في سبعة مجازاً دل عليه قوله إلا ثلاثة والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة ثم حذفت منها ثلاثة ثم حكمت بالسبعة فكأنه قال له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة أو عشرة إلا ثلاثة له عندي وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه ثم أخرج الثلاثة ثم حكم كما أنك تخرج عشرة دراهم في الكيس ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي وهي السبعة انتهى . والظاهر ما ذهب إليه الجمهور لأن الإسناد إنما يتبين معناه بجميع أجزاء الكلام وعلى كل حال فالمسألة قليلة الفائدة لأن الاستثناء قد تقرر وقوعه في لغة العرب تقرراً مقطوعاً به لا يتيسر لمنكر أن ينكره وتقرر أن ما بعده آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف وليس النزاع إلا في صحة توجيه ما تقرر وقوعه وثبت استعماله ، وما ذكرناه في المقام يكفي في ذلك ويندفع به تشكيك من شك في هذا الأمر المقطوع به فلا نطول باستيفاء ما قيل في أدلة تلك الأجوبة وما قيل عليها . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة : يشترط في صحة الاستثناء شروط : الأول : الاتصال بالمستثنى منه لفظاً بأن يكون الكلام واحداً غير منقطع ويحق به ما هو في حكم الاتصال وذلك بأن يقطعه لعذر كسعال أو عطاس أو نحوهما مما لا يعد فاصلاً بين أجزاء الكلام فإن انفصل لا على هذا الوجه كان لغواً ولم يثبت حكمه . قال في المحصول الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو أقيم مقامه والدليل على هذا التعريف أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنوياً كدلالة العقل والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف وإما أن يكون لفظياً وهو إما أن يكون منفصلاً فيكون مستقلاً بالدلالة وإلا كان لغواً وهذا أيضاً خارج عن الحد أو متصلاً وهو إما التقييد بالشرط أو الصفة أو الغاية أو الاستثناء . أما التقييد بالصفة فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال لا يتناول القصار بخلاف قولنا أكرم بني تميم إلا زيداً فإن الخارج وهو زيد تتناوله صيغة الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط . وأما التقييد بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى : إلى المرافق بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه انتهى . وقد ذهب إلى اشتراط الاتصال جمهور أهل العلم وروى عن ابن عباس أنه يصح الاستثناء وإن طال الزمان ثم اختلف عنه فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبداً وقد رد بعض أهل العلم وقالوا لم يصح عن ابن عباس ومنهم إمام الحرمين والغزالي لما يلزم من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق لإمكان تراخي المستثنى وقال القرافي المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة كمن حلف وقال إن شاء الله وليس هو في الإخراج بألا وأخواتها . قال ونقل العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت قال المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد ذلك ولم يخصص انتهى . ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس لعله لم يعلم بأنها ثابتة في مستدرك الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين بلفظ إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة وقد روى عنه هذا غير الحاكم من طرق كما ذكره أبو موسى المديني وغيره . وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء بعد سنة ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات فالرواية عن ابن عباس قد صحت ولكن الصواب خلاف ما قاله . ويدفعه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صضص أنه قال من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ولو كان الاستثناء جائزاً على التراخي لم يوجب التكفير على التعيين ولقال فليستثن أو يكفر . وأيضاً هو قول يستلزم بطلان جميع الإقرارات والإنشاءات لأن من وقع ذلك منه يمكن أن يقول من بعد قد استثنيت فيبطل حكم ما وقع منه وهو خلاف الإجماع وأيضاً يستلزم أنه لا يصح صدق ولا كذب لجواز أن يرد على ذلك الاستثناء فيصرفه عن ظاهره . وقد احتج لما قاله ابن عباس بما أخرجه أبو داود وغيره أنه صضص لأغزون قريشاً ثم سكت ثم قال إن شاء الله وليس في هذا ما تقوم به الحجة لأن ذلك السكوت يمكن أن يكون بعارض يعرض يمنع عن الكلام وأيضاً غاية ما فيه أنه يجوز له أن يستثني في اليمين بعد سكوته وقتاً يسيراً ولا دليل على الزيادة على ذلك وقول ابن عباس إنه إذا قال شيئاً ولم يستثن فله أن يستثني عند الذكر قال وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه انتهى . وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه ويروى عن سعيد بن جبير أنه يجوز الاستثناء ولو بعد يوم أو أسبوع أو سنة وعن طاوس يجوز ما دام في المجلس وعن عطاء يجوز له أن يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة وروى عن مجاهد أنه يجوز إلى سنتين . واعلم أن الاسثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر قد دلت عليه الأدلة الصحيحة منها حديث لأغزون قريشاً المتقدم ومنها ما ثبت في الصحيح من قوله صضص ولا يعضد شجرها ولا يختلي خلاها فقال العباس إلا الأذخر فإن لقينهم وبيوتهم فقال صضص إلا الأذخر ومنها ما ثبت في الصحيح أيضاً في حديث سليمان لما قال « لأطوفن الليلة » ومنها قوله صضص في صلح الحديبية إلا سهيل بن بيضاء . الشرط الثاني : أن يكون الاستثناء غير مستغرق فإن كان مستغرقاً فهو باطل بالإجماع كما حكاه جماعة من المحققين منهم الرازي في المحصول فقال أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق ومنهم ابن الحاجب فقال في مختصر المنتهى الاستثناء المستغرق باطل بالاتفاق واتفقوا أيضاً على جواز الاستثناء إذا كان المستثنى أقل مما بقي من المستثنى منه واختلفوا إذا كان أكثر مما بقي منه فمنع ذلك قوم من النحاة منهم الزجاج وقال لم ترد به اللغة ولأن الشيء إذا نقص يسيراً لم يزل عنه اسم ذلك الشيء فلو استثنى أكثر لزال الاسم قال ابن جني لو قال له عندي مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلماً بالعربية وكان عبثاً من القول وقال ابن قتيبة في كتاب المسائل إن ذلك يعني استثناء الأكثر لا يجوز في اللغة لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير أغفلته أو نسيته لقلته ثم تداركته بالاستثناء ثم ذكر مثل كلام الزجاج قال الشيخ أبو حامد أنه مذهب البصريين من النحاة وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم وأجازه أكثر الأصوليين نحو عندي له عشرة إلا تسعة فيلزمه درهم وهو قول السيرافي وأبي عبيدة من النحاة محتجين بقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين والمتبعون له هم الأكثر بدليل قوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور وقوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله صضص عن الرب عز وجل يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم وقد أطعم سبحانه وكسا الأكثر من عباده بلا شك وقد أجيب عن هذا الدليل بأنه استثناء منقطع ولا وجه لذلك ومن جملة المانعين من استثناء الأكثر أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وابن درستويه من النحاة وهو أحد قولي الشافعي والحق أنه لا وجه للمنع لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع ولا من جهة العقل . وأما جواز استثناء المساوي فبالأولى وإليه ذهب الجمهور وهو واقع في اللغة وفي الكتاب العزيز نحو قوله سبحانه قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا وقد نقل القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والمازري والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح استثناء المساوي ولا وجه لذلك . ومن المانعين استثناء المساوي ابن قتيبة فإنه قال القليل الذي يجوز استثناؤه هو الثلث فما دونه . الشرط الثالث : أن يلي الكلام بلا عاطف فأما إذا وليه حرف العطف نحو عندي له عشرة دراهم وإلا درهماً أو فإلا درهما كان لغوا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني بالاتفاق . الشرط الرابع : أن لا يكون الاستثناء من شيء معين مشار إليه كما لو أشار إلى عشرة دراهم فقال إن هذه الدراهم لفلان إلا هذا وهذا فقال إمام الحرمين في النهاية أن ذلك لا يصح لأنه إذا أضاف الإقرار إلى معين اقتضى الإقرار الملك المطلق فيها فإذا أراد الاستثناء في البعض كان رجوعا عن الإقرار انتهى . والحق جوازه ولا مانع منه ومجرد الإقرار في ابتداء الكلام موقوف على انتهاثه من غير فرق بين مشار إليه وغير مشار إليه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة : اتفقوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي وأما الاستثناء من النفي فذهب الجمهور إلى أنه إثبات وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء لا يكون إثباتا وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة وهي عدم الحكم قالوا فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات . واختلف كلام فخر الدين الرازي فوافق الجمهور في المحصول واختار مذهب الحنفية في تفسيره والحق ما ذهب إليه الجمهور ودعوى الواسطة مردودة على أنها لو كان لها وجه لكان مثل ذلك لازماً في الاستثناء من الإثبات واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله . وأيضاً نقل الأئمة عن اللغة يخالف ما قالوه ويرد عليه ولو كان ما ذهبوا إليه صحيحاً لم تكن كلمة التوحيد توحيداً فإن قولنا لا إله إلا الله هو استثناء من نفي وقد ثبت عنه صضص أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . وقد استدلت الحنفية بأن الاستثناء هو مأخوذ من قولك ثنيت الشيء إذا صرفته عن وجه فإذا قلت لا عالم إلا زيد فهاهنا أمران أحدهما هذا الحكم و الثاني نفس العلم فقولك إلا زيد يحتمل أن يكون عائداً إلى الأول وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعلم فيبقى المستثنى مسكوتاً عنه غير محكوم عليه بنفي في ولا إثبات ويحتمل أن يكون عائداً إلى الثاني وحينئذ يلزم تحقق الثبوت لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة لكون عود الاستثناء إلى الأول أولى إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية لا على الأعيان الخارجية فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى . وحكى عنهم الرازي في المحصول أنهم احتجوا بقوله صضص لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور ولا يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء بل يدل على عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين هكذا حكى عنهم المحصول ولم يتعرض للرد عليهم . ويجاب عن الأول بمنع ما قالوه ولو سلم أنه لا يستفاد الإثبات من الوضع اللغوي لكان مستفاداً من الوضع الشرعي وعن الثاني بأنه إن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع الشرعي فلا بد من اعتبار تمام ما اشترط الشرع في النكاح والصلاة وإن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع اللغوي فدخول الباء في المستثنى قد أفاد معنى غير المعنى الذي مع عدمها فإن دخولها ليس بمخرج مما قبله لأن لم نقل لا نكاح إلا الولي ولا صلاة إلا الطهور بل قلنا إلا بولي وإلا بطهور فلا بد من تقدير متعلق هو المستثنى منه فيكون التقدير لا نكاح يثبت بوجه إلا مقترناً بولي أو نحو ذلك من التقديرات قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام وكل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة يعني كلمة الشهادة وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم منهم بذلك والقبول له من غير زيادة ولا احتياج إلى أمر آخر ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه لأنه المقصود الأعظم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة العاشرة : اختلفوا في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة هل يعود إلى الجميع أو إلى الأخيرة كقوله سبحانه : والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله إلا من تاب فذهب الشافعي وأصحابه إلى أنه يعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل وقد نسب ابن القصار هذا المذهب إلى مالك . قال الزركشي وهو الظاهر من مذاهب أصحاب مالك ونسبه صاحب المصادر إلى القاضي عبد الجبار وحكاه القاضي أبو بكر عن الحنابلة قال ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال في قوله صضص لا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه قال أرجو أن يكون الاستثناء على كله وذهب أبو حنيفة وجمهور أصحابه إلى عوده إلى الجملة الأخيرة إلا أن يقوم دليل على التعميم واختاره الفخر الرازي وقال الأصفهاني في القواعد أنه الأشبه ونقله صاحب المعتمد عن الظاهرية وحكى عن أبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي وإليه ذهب أبو علي الفارسي كما حكاه عنه الكيا الطبري وابن برهان وذهب جماعة إلى الوقف حكاه صاحب المحصول عن القاضي أبي بكر والمرتضى من الشيعة . قال سليم الرازي في التقريب وهو مذهب الأشعرية واختاره إمام الحرمين الجويني والغزالي وفخر الدين الرازي . قال في المحصول بعد حكاية الوقف عن أبي بكر والمرتضى إلا أن المرتضى توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك ومنهم من فصل القول فيه وذكروا وجوهاً . وأدخلها في التحقيق ما قيل أن الجملتين من الكلام إما أن يكونا من نوع واحد أو من نوعين فإن كان الأول فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون كذلك فإن كان الثاني فإما أن تكونا مختلفتي الاسم والحكم أو متفقتي الاسم مختلفتي الحكم أو مخنلفتي الاسم متفقتي الحكم . فالأول : كقولك أطعم ربيعة واخلع على مضر إلى الطوال والأظهر هاهنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها إلا وقد تم غرضه الأولى فلو كان الاستثناء راجعاً إلى جميع الجمل لم يكن قد تم غرضه ومقصوده من الجملة الأولى . والثاني : كقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال . والثالث : كقولنا أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال والحكم أيضاً هاهنا كما ذكرنا لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة فالظاهر أنه لم ينتقل إلى أخراهما إلا وقد تم غرضه من الأولى بالكلية . وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى فإما أن يكون حكم الأولى مضمراً في الثانية كقوله أكرم ربيعة ومضر إلا الطوال أو اسم الأولى مضمراً في الثانية كقوله أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال فالاستثناء راجع إلى الجملتين لأن الثانية لا تستقل كلاماً إلا مع الأولى فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما . وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام فإما أن تكون القصة واحدة أو مختلفة ، فإن كانت مختلفة فهو كقولنا أكرم ربيعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية فالاستثناء راجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها ، وأما إن كانت القصة واحدة فكقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية فالقصة واحدة وأنواع الكلام مختلفة . فالجملة الأولى أمر ، والثانية نهي ، والثالثة خبر فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها . وأما إن كانت القصة واحدة حق لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف لا بمعنى الاشتراك ، بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا ، وهذا هو اختيار القاضي انتهى . قال ابن فارس في كتاب فقه اللغة العربية إن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد كآية المحاربة وإن دل على منعه امتنع فآية القذف انتهى . ولا يخفاك أن هذا خارج عن محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل الدليل كان المعتمد ما دل عليه وإنما الخلاف حيث لم يدل الدليل على أحد الأمرين . واستدل أهل المذهب الأول بأن الجمل إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة ، قالوا بدليل الشرط والاستثناء بالمشيئة فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعاً . وأجيب أيضاً عن القياس على الشرط بالفرق بينهما ، وذلك بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر ، ويجاب عن الأول بأن الجمل المتعاطفة لها حكم المفردات ودعوى اختصاص ذلك بالمفردات لا دليل عليها ، وعن الثاني بأنه يمنع مثل هذا الفرق ، لأن الاستثناء يفيد مفاد الشرط في المعنى . واستدل أهل المذهب الثاني بأن رجوع الاستثناء إلى ما يليه من الجمل هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل . ويجاب عنه بمنع دعوى الظهور والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن القيد الواقع بعد جمل إذا لم يمنع مانع من عوده إلى جميعها لا من نفس اللفظ ولا من خارج عنه فهو عائد إلى جمعها ، وإن منع مانع فله حكمه ولا يخالف هذا ما حكوه عن عبد الجبار وجعلوه مذهباً رابعاً من أن الجمل إن كانت كلها مسوقة لمقصود واحد انصرف إلى الجميع ، وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة . فإن كونها مسوقة لأغراض مختلفة هو مانع من الرجوع إلى الجميع . وكذا لا ينافي هذا ما جعلوه مذهباً خامساً وهو أنه إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاددة فإنه يختص بالأخيرة لأن كون الواو للابتداء هو مانع من الرجوع إلى الجميع . وكذلك لا ينافي هذا ما حكوه مذهباً سادساً من كون الجملة الثانية إن كانت إعراضاً وإضراباً عن الأولى اختص بالأخيرة لأن الإعراض والإضراب مانع من الرجوع إلى الجميع ، وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وساقوا من أدلة المذاهب ما لا طائل تحته فإن بعضها احتجاج بقصة خاصة في الكتاب أو السنة قد قام الدليل على اختصاصها بما اختصت به وبعضها يستلزم القياس في اللغة وهو ممنوع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الحادية عشرة : إذا وقع بعد المستثنى والمستثنى منه جملة تصلح أن تكون صفة لكل واحد منهما فعند الشافعية أن تلك الجملة ترجع إلى المستثنى منه وعند الحنفية إلى المستثنى فإذا قال عندي له ألف درهم إلا مائة . قضيت ذلك فعند الشافعية أنه يكون هذا الوصف راجعاً إلى المستثنى منه فيكون مقراً بتسعمائة مدعياً لقضائها فإن برهن على دعواه فذلك وإلا فعليه ما أقر به وعند الحنفية يرجع الوصف إلى المستثنى فيكون مقراً بألف مدعياً لقضاء مائة منه . وهكذا إذا جاء بعد الجمل ضمير يصلح لكل واحدة منها نحو أكرم بني هاشم وأكرم بني المطلب وجالسهم . أما إذا كان الضمير أو الوصف لا يصلح إلا لبعض الجمل دون بعض كان للتي يصلح لها دون غيرها نحو أكرم القوم وأكرم زيداً العالم وأكرم القوم وأكرم زيداً وعظمه . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية عشرة : التخصيص بالشرط وحقيقته في اللغة العلامة كذا قيل واعترض عليه بما في الصحاح وغيره من كتب اللغة بأن الذي بمعنى العلامة هو الشرط بالتحريك وجمعه أشراط ومنه أشراط الساعة أي علاماتها وأما الشرط بالسكون فجمعه شروط هذا جمع الكثرة فيه ويقال في جمع القلة منه أشرط كفلوس وأفلس . وأما حقيقة في الاصطلاح فقال الغزالي الشرط ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عنده واعترض عليه بأنه يستلزم الدور لأنه عرف الشرط بالمشروط وهو مشتق منه فيتوقف على تعلقه ، وبأنه غير مطرد لأن جزء السبب كذلك فإنه لا يوجد السبب بدونه ولا يلزم أن يوجد عنده وليس بشرط . وأجيب عن الأول بأن ذلك بمثابة قولنا شرط الشيء ما لا يوجد ذلك الشيء بدونه وظاهر أن تصور حقيقة المشروط غير محتاج إليه في تعقل ذلك وعن الثاني بأن جزء السبب قد يوجد المسبب بدونه إذا وجد سبب آخر . وقال في المحصول إن الشرط هو الذي يتوقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته ، وقال ولا ترد عليه العلة لأنها نفس المؤثر والشيء لا يتوقف على نفسه ولا جزء العلة ولا شرط العلة لأن العلة تتوقف عليه في ذاتها انتهى . واعترض عليه بأنه غير منعكس لأن الحياة شرط في العلم القديم ولا يتصور هاهنا تأثير ومؤثر إذ المحوج إلى المؤثر هو الحدوث ، وقيل الشرط ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر لا على جهة السببية فيخرج السبب وجزؤه ، ورد بأن الفرق بين السبب والشرط يتوقف على فهم المعنى المميز بينهما ففيه تعريف الشيء بمثله في الخفاء ، وقيل هو ما استلزم عدمه عدم أمر مغاير وهو كالذي قبله . وأحسن ما قيل في حده أنه ما يتوقف عليه الوجود ولا دخل له في التأثير والإفضاء فيخرج جزء السبب لأنه وإن توقف عليه السبب لكن له دخل في الإفضاء إليه ويخرج سبب الشيء بالنسبة إليه بالطريق الأولى وتخرج العلة لأنها وإن توقف عليها الوجود فهي مع ذلك مؤثرة والشرط ينقسم إلى أربعة أقسام عقلي وشرعي ولغوي وعادي . فالعقلي كالحياة للعلم فإن العقل هو الذي يحكم بأن العلم لا يوجد إلا بحياة فقد توقف وجوده على وجودها عقلاً . والشرعي كالطهارة للصلاة فإن الشرع هو الحاكم بأن الصلاة لا توجد إلا بطهارة فقط توقف وجود الصلاة على وجود الطهارة شرعاً . واللغوي كالتعليقات نحو أن ما دخلت عليه أداة الشرط هو الشرط والمعلق عليه هو الجزاء . ويستعمل الشرط اللغوي في السبب الجعلي كما قال إن دخلت الدار فأنت طالق والمراد أن الدخول سبب للطلاق يستلزم وجوده وجوده لا مجرد كون عدمه مستلزماً لعدمه من غير سببيته وبهذا صرح الغزالي والقرافي وابن الحاجب وشراح كتابه ويدل على هذا القول النحاة في الشرط والجزاء بأن الأول سبب والثاني مسبب . والشرط العادي كالسلم لصعود السطح فإن العادة قاضية بأن لا يوجد الصعود إلا بوجود السلم أو نحوه مما يقوم مقامه . ثم الشرط قد يتحد وقد يتعدد ومع التعدد قد يكون كل واحد شرطاً مستقلاً فيحصل المشروط بحصول واحد منها فإذا قال إن دخلت الدار وأكلت وشربت فأنت طالق لم تطلق إلا بالدخول والأكل والشرب وإن قال إن دخلت أو أكلت أو شربت فأنت طالق طلقت بواحدة منها . واعلم أن الشرط كالاستثناء في اشتراط الاتصال وفي تعقبه لجمل متعددة . قال الرازي في المحصول اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل هل يرجع حكمه إليها بالكلية فاتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي على رجوعه إلى الكل . وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه حتى إنه إذا كان متأخراً اختص بالجملة الأخيرة وإن كان متقدماً اختص بالجملة الأولى والمختار التوقف كما تقدم في مسألة الاستثناء ، ثم قال اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام ودليله ما مر في الاستثناء واتفقوا على أنه يجوز التقييد بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي وإن اختلفوا فيه على الاستثناء انتهى . فقد حكى الاتفاق في هاتين الصورتين كما تراه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة عشرة : التخصيص بالصفة وهي كالاستثناء إذا وقعت بعد متعدد والمراد بالصفة هنا هي المعنوية على ما حققه علماء البيان لا مجرد النعت المذكور في علم النحو . قال إمام الحرمين الجويني في النهاية الوصف عند أهل اللغة معناه التخصيص فإذا قلت رجل شاع هذا في الرجال فإذا قلت طويل اقتضى ذلك تخصيصاً فلا تزال تزيد وصفاً فيزداد الموصوف اختصاصاً وكلما كثر الوصف قل الموصوف . قال المازري ولا خلاف في اتصال التوابع وهي النعت والتوكيد والعطف والبدل وإنما الخلاف في الاستثناء . وقال الرازي في المحصول : الصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شيء واحد كقولنا رقبة مؤمنة ولا شك في عودها إليها أو عقيب شيئين وهاهنا فإما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر كقولك أكرم العرب والعجم المؤمنين فهاهنا الصفة عائدة إلى الجملة الأخيرة وإن كان للبحث فيه مجال كما في الاستثناء والشرط انتهى . قال الصفي الهندي إن كانت الصفات كثيرة وذكرت على الجمع عقب جملة تقيدت بها أو على البدل فلواحدة غير معينة منها وإن ذكرت عقيب جمل ففي العود إلى كلها أو إلى الأخيرة خلاف انتهى . وأما إذا توسطت الصفة بين جمل ففي عودها إلى الأخيرة خلاف كذا قيل ولا وجه للخلاف في ذلك فإن الصفة تكون لما قبلها لا لما بعدها لجواز تقدم الصفة على الموصوف . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المسألة الرابعة عشرة : التخصيص لغاية وهي نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها ولها لفظان وهما حتى وإلى كقوله تعالى: ولا تقربوهن حتى يطهرن وقوله وأيديكم إلى المرافق قال الرازي في المحصول التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بالخلاف لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم تكن الغاية مقطعا فلم تكن الغاية غاية قال ويجوز اجتماع الغايتين كما لو قيل لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن فهاهنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة عبر عن الأولى بالغاية مجازا لقربها منها واتصالها بها. قال الزركشي ونوزع بأن هاتين الغايتين لشيئين لأن التحريم الناشىء عن دم الحيض غاية انقطاع الدم فإذا انقطع حدث تحريم آخر ناشيء عن دم الغسل والغاية الثانية غاية هذا التحريم ، وقد أطلق الأصوليون كون الغاية من المخصصات ولم يقيدوا ذلك وقيد ذلك بعض المتأخرين بالغاية التي تقدمها لفظ يشملها لو لم يؤت بها كقوله تعالى: حتى يعطوا الجزية فإن هذه الغاية لو لم يؤت بها لقاتلنا المشركين أعطوا الجزية أو لم يعطوها. واختلفوا في الغاية نفسها هل تدخل في المغيا كقولك أكلت حتى قمت هل يكون القيام محلا للأكل أم لا، وفي ذلك مذاهب : الأول : أنها تدخل فيما قبلها . والثاني : لا تدخل وبه قال الجمهور كما حكاه في البرهان . والثالث : إن كانت من جنسه دخلت وإلا فلا . وحكاه أبو إسحاق المروزي عن المبرد . والرابع : إن تميزت عما قبلها بالحس نحو أتموا الصيام إلى الليل لم تدخل وإن لم تتميز بالحس مثل وأيديكم إلى المرافق دخلت الغاية وهي المرافق . ورجح هذا الفخر الرازي . والخامس : إن اقترنت بمن لم يدخل نحو بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة لم تدخل وإن لم تقترن جاز أن تكون تحديداً وأن تكون بمعنى مع وحكاه إمام الحرمين في البرهان عن سيبويه وأنكره عليه ابن خروف ، وقال لم يذكر سيبويه حرفاً منهما ولا هو مذهبه . والسادس : الوقف واختاره الآمدي ، وهذه المذاهب في غاية الانتهاء وأما غاية الابتداء ففيها مذهبان الدخول وعدمه وجعل الأصفهاني الخلاف في الغايتين غاية الابتداء وغاية الانتهاء على السواء فقال وفيها مذاهب تدخلان ولا تدخلان وتدخل غاية الابتداء دون الانتهاء وتدخلان أن اتحد الجنس لا أن اختلف وتدخلان إن لم يتميز ما بعدهما عما قبلهما بالحس وإلا لم تدخلا فيما قبلهما وفيه نظر بل الظاهر أن الأقوال المتقدمة هي في غاية الانتهاء لا في غاية الابتداء . وأظهر الأقوال وأوضحها عدم الدخول إلا بدليل من غير فرق بين غاية الابتداء والانتهاء . والكلام في الغاية الواقعة بعد متعدد كما تقدم في الاستثناء .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة عشرة : التخصيص بالبدل أعني بدل البعض من الكل نحو أكلت الرغيف ثلثه وأكرم القوم علماءهم ومنه قوله سبحانه ثم عموا وصموا كثير منهم وقد جعله من المخصصات جماعة من أهل الأصول منهم ابن الحاجب وشراح كتابه . قال السبكي ولم يذكره الأكثرون لأن المبدل منه في نية الطرح فلا تحقق فيه لمحل يخرج منه فلا تخصيص به وفيه نظر لأن الذي عليه المحققون كالزمخشري أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر بل هو للتمهيد والتوطئة وليفاد بمجموعها فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد قال السيرافي زعم النحويون أنه في حكم تنحية الأول وهو المبدل منه ولا يريدون إلغاءه وإما مرادهم أن البدل قائم بنفسه وليس تبيينه الأول كتبيين النعت الذي هو من تمام المنعوت وهو معه كالشيء الواحد انتهى . ولا يشترط فيه ما يشترط في الاستثناء من بقاء الأكثر عند من اعتبر ذلك بل يجوز إخراج الأكثر وفاقاً نحو أكلت الرغيف ثلثه أو نصفه أو ثلثيه . ويلحق ببدل البعض بدل الاشتمال لأن كل واحد منهما فيه بيان وتخصيص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة عشرة : التخصيص بالحال وهو في المعنى كالصفة لأن قولك أكرم من جاءك راكباً يفيد تخصيص الإكرام بمن تثبت له صفة الركوب وإذا جاء بعد جمل فإنه يكون للجميع قال البيضاوي بالاتفاق نحو أكرم بني تميم وأعط بني هاشم نازلين بك وفي دعوى الاتفاق نظر فإنه ذكر الفخر الرازي في المحصول أنه يختص بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة أو بالكل على قول الشافعي . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة عشرة : التخصيص بالظروف والجار والمجرور نحو أكرم زيداً اليوم أو في مكان كذا وإذا تعقب أحدهما جملاً كان عائداً إلى الجميع . وقد ادعى البيضاوي الاتفاق على ذلك كما ادعاه في الحال ويعترض عليه بما في المحصول فإنه قال في الظرف والجار والمجرور إنهما يختصان بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة أو بالكل على قول الشافعي كما قال في الحال صرح بذلك في مسألة الاستثناء المذكور عقب جمل ، ويؤيد ما قاله البيضاوي ما قاله أبو البركات ابن تيمية فإنه قال فأما الجار والمجرور فإنه ينبغي أن يتعلق بالجميع قولاً واحداً ، وأما لو توسط فقد ذكر ابن الحاجب في مسألة لا يقتل مسلم بكافر أن قولنا ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً يقتضي أن الحنفية يقيدونه بالثاني . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة عشرة : التخصيص بالتمييز نحو عندي له رطل ذهباً وعندي له عشرون درهماً فإن الإقرار يتقيد بما وقع به التمييز من الأجناس أو الأنواع وإذا جاء بعد جمل نحو عندي له رطل ذهباً أو ملء هذا فإنه يعود إلىالجميع وظاهر كلام البيضاوي عوده إلى الجميع بالاتفاق . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة عشرة : المفعول له والمفعول معه فإن كل واحد منهما يقيد الفعل بما تضمنه من المعنى فإن المفعول له معناه التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الفعل نحو ضربته تأديباً فيفيد تخصيص ذلك الفعل بتلك العلة والمفعول معه معناه تقييد الفعل بتلك المعية نحو ضربته وزيداً فيفيد أن ذلك الضرب الواقع على المفعول به مختص بتلك الحالة التي هي المصاحبة بين ضربه وضرب زيد . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الموفية عشرين : التخصيص بالعقل فقد فرغنا بمعونة الله من ذكر المخصصات المتصلة وهذا شروع في المخصصات المنفصلة وقد حصروها في ثلاثة أقسام : العقل ، والحس ، والدليل السمعي . قال القرافي والحصر غير ثابت فقد يقع التخصيص بالعوائد كقولك رأيت الناس فما رأيت أفضل من زيد فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس وكذا التخصيص بقرائن الأحوال كقولك لغلامك ائتني بمن يخدمني فإن المراد الإتيان بمن يصلح لذلك ولعل القائل بانحصار المخصصات المنفصلة في الثلاثة المذكورة يجعل التخصيص بالقياس مندرجاً تحت الدليل السمعي وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل فذهب الجمهور إلى التخصيص به وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به . قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التخصيص بالعقل قد يكون بضرورته كقوله تعالى : الله خالق كل شيء فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقاً لنفسه وبنظره كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإن تخصيص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل ، والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ . إما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فيلزم من ذلك صدق النقيضين وهو محال أو يرجع النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معاً وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل ، وأما البحث اللفظي فهو أن العقل هل يسمى مخصصاً أم لا ؟ فنقول إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والنقل قد يكون دليلاً على تحقق تلك الإرادة فالعقل قد يكون دليل المخصص لا نفس المخصص ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصاً للكتاب ولا السنة مخصصة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ انتهى . قال القاضي أبو بكر الباقلاني وصورة المسألة أن صيغة العام إذا وردت واقتضى العقل عدم تعميمها فيعلم من جهة العقل أن المراد به ما قدمناه أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها ، وفصل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فيمتنع التخصيص به فإن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه كالذي دل العقل على نفيه فيجوز التخصيص به نحو الله خالق كل شيء فقلنا المراد ما خلا الصفات لدلالة العقل على ذلك انتهى . ولا يخفاك أن هذا التفصيل لا طائل تحته فإنه لم يرد بتخصيص العقل إلا الصورة الثانية أما الصورة الأولى فلا خلاف أن الشرع ناقل عما يقتضيه العقل من البراءة . قال القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وابن القشيري والغزالي والكيا الطبري وغيرهم إن النزاع لفظي إذ مقتضى ما يدل عليه العقل ثابت إجماعاً لكن الخلاف في تسميته تخصيصاً فالخصم لا يسميه لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص وهو الإرادة لا العقل وكذا قال الأستاذ أبو منصور إنهم احتجوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم واختلفوا في تسميته تخصيصاً ، وقيل الخلاف راجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين فمن منع من تخصيص العقل فهو رجوع منه إلى أن العقل لا يحسن ولا يقبح وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل وقد أنكر هذا الأصفهاني وهو حقيق بأن يكون منكراً فالكلام في تلك المسألة غير الكلام في هذه المسألة كما سبق تقريره وقد جاء المانعون من تخصيص العقل بشبه مدفوعة كلها راجعة إلى اللفظ لا إلى المعنى وقد عرفت أن الخلاف لفظي فلا نطيل بذكرها ، قال الرازي في المحصول فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به ؟ قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه عنه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل انتهى . وأجاب غيره بأن النسخ إما بيان مدة الحكم وإما رفع الحكم على التفسيرين وكلاهما محجوب عن نظر العقل بخلاف التخصيص فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة . وليس التخصيص بالعقل من التخصيص فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة . وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل العقل على دليل الشرع بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه المانع قطعي وهو دليل العقل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الحادية والعشرون : التخصيص بالحس فإذا ورد الشرع بعموم يشهد الحس باختصاصه ببعض ما اشتمل عليه العموم كان ذلك مخصصاً للعموم قالوا ومنه قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء بأمر ربها وقوله يجبى إليه ثمرات كل شيء قال الزركشي وفي عد هذا نظر لأنه من العام الذي أريد به الخصوص وهو خصوص ما أوتيته هذه ودمرته الريح لا من العام المخصوص . قال ولم يحكوا الخلاف السابق في التخصيص بالعقل وينبغي طرده ونازع العبدري في تفريقهم بين دليل الحس ودليل العقل لأن أصل العلوم كلها الحس . ولا يخفاك أن ما ذكره الزركشي في دليل الحس يلزمه مثله في دليل العقل فيقال له إن قوله تعالى : الله خالق كل شيء وقوله ولله على الناس حج البيت من العام الذي أريد به الخصوص لا من العام المخصوص وإلا فما الفرق بين شهادة العقل وشهادة الحس . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية والعشرون : التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب وذهب بعض الظاهرية إلى عدم جوازه وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ ولا يكون إلا بالسنة لقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم . يجاب عنه بأن كونه صضص مبيناً لا يستلزم أن لا يحصل بيان الكتاب بالكتاب وقد وقع ذلك الوقوع دليل الجواز فإن قوله سبحانه : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء يعم الحوامل وغيرهن فخص أولات الأحمال بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وخص منه أيضاً المطلقة قبل الدخول بقوله فما لكم عليهن من عدة تعتدونها . وهكذا قد خصص عموم قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومثل هذا كثير في الكتاب العزيز . وأيضاً ذلك الدليل الذي ذكروه معارض بما هو أوضح منه دلالة وهو قوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقد جعل ابن الحاجب في مختصر المنتهى الخلاف في هذه المسألة لأبي حنيفة وأبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وحكى عنهم أن الخاص إن كان متأخراً وإلا فالعام ناسخ وهذه مسألة أخرى سيأتي الكلام فيها ولا اختصاص لها بتخصيص الكتاب بالكتاب ، وكما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب فكذلك يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب عند جمهور أهل العلم وعن أحمد بن حنبل روايتان وعن بعض أصحاب الشافعي المنع قال ابن برهان وهو قول بعض المتكلمين قال مكحول ويحيى بن كثير السنة تقضي على الكتاب والكتاب لا يقضي على السنة ولا وجه للمنع فإن استدلوا بقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم فقد عرفت عدم دلالته على المطلوب مع كونه معارضاً بما هو أوضح دلالة منه كما تقدم . ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة المتواترة إجماعاً كذا قال الأستاذ أبو منصور وقال الآمدي لا أعرف فيه خلافاً وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائني لا خلاف في ذلك إلا ما يحكى عن داود في إحدى الروايتين قال ابن كج لا شك في الجواز لأن الخبر المتواتر يوجب العلم كما أن ظاهر الكتاب يوجبه . وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع بصحتها ويجوز تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة وهو مجمع عليه إلا أنه حكى الشيخ أبو حامد الإسفرائني عن داود أنهما يتعارضان ولا يبني أحدهما على الآخر ولا وجه لذلك . واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقاً وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقاً وحكاه الغزالي في المنخول عن المعتزلة ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق . وذهب عيسى بن أبان إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي متصلاً كان أو منفصلاً كذا حكاه صاحب المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى عنه . وقد سبق إلى حكاية ذلك عنه إمام الحرمين الجويني في التلخيص وحكى غير هؤلاء عنه أنه يجوز تخصيص العام بالخبر الأحادي إذا كان قد دخله التخصيص من غير تقييد لذلك بكون المخصص الأول قطعياً . وذهب الكرخي إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل سواء كان قطعياً أو ظنياً وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلاً لم يجز وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف . وحكي عنه أنه قال يجوز التعبد بوروده ويجوز أن يرد لكنه لم يقع . وحكى عنه أيضاً أنه لم يرد بل ورد المنع ولكن الذي اختاره لنفسه هو الوقف كما حكى ذلك عنه الرازي في المحصول . واستدل في المحصول على ما ذهب إليه الجمهور بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم فوجب تقديمه على العموم . واحتج ابن السمعاني على الجواز بإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم بقوله صضص إنا معشر الأنبياء لا نورث وخصوا التوارث بالمسلمين عملاً بقوله صضص لا يرث المسلم الكافر وخصوا قوله اقتلوا المشركين بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس وغير ذلك كثير . وأيضاً يدل على جواز التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صضص من غير تقييد فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجباً وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتماً ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية . وقد استدل المانعون مطلقاً بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح فقال عمر « كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة » يعني قوله أسكنوهن وأجيب عن ذلك بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث لا لرده تخصيص عموم الكتاب بالسنة الآحادية فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي بل قال كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة ؟ ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره بلفظ قال عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا قول امرأة لعلها حفظت أو نسيت فأفاد هذا أن عمر رضي الله عنه إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت ولو علم بأنها حفظت ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته . قال ابن السمعاني إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها . أما ما أجمعوا عليه كقوله « لا ميراث لقاتل ولا وصية لوارث » فيجوز تخصيص العموم به قطعاً ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها ولا يضر عدم انعقاده على روايتها . وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد كذلك يجوز تخصيصه بالقراءة الشاذة عند من نزلها منزلة الخبر الآحادي . وقد سبق الكلام في القرآن في مباحث الكتاب . وهكذا يجوز التخصيص لعموم الكتاب وعموم المتواتر من السنة بما ثبت من فعله صضص إذا لم يدل دليل على اختصاصه به كما يجوز بالقول . وهكذا يجوز التخصيص بتقريره صضص . وقد تقدم البحث في فعله صضص وفي تقريره في مقصد السنة بما يغني عن الإعادة . وأما التخصيص بموافق العام فقد سبق الكلام عليه في باب العموم وكذلك سبق الكلام على العام إذا عطف عليه ما يقتضي الخصوص وعلى العام الوارد على سبب خاص فهذه المباحث لها تعلق بالعام وتعلق بالخاص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة والعشرون : في التخصيص بالقياس ذهب الجمهور إلى جوازه . قال الرازي في المحصول وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيراً . وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى عن هؤلاء وزاد معهم الإمام الرابع أحمد بن حنبل وحكاه ابن الهمام في التحرير . وحكى القاضي عبد الجبار عن الحنابلة عن أحمد روايتين . وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم الرازي عن ابن سريج . وذهب أبو علي الجبائي إلى المنع مطلقاً ونقله الشيخ أبو حامد وسليم الرازي عن أحمد بن حنبل وقيل إن ذلك إنما هو في رواية عنه قال بها طائفة من أصحابه . ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني عن طائفة من المتكلمين وعن الأشعري وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يجوز إن كان العام قد خصص قبل ذلك بنص قطعي كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر في التقريب والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأطلق صاحب المحصول الحكاية عنه ولم يقيدها بكون النص قطعياً وحكى هذا المذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعض العراقيين . وذهب الكرخي إلى أنه يجوز إن كان قد خص بدليل منفصل وإلا فلا كذا حكاه عنه صاحب المحصول وغيره . وذهب الاصطخري إلى أنه يجوز إن كان القياس جلياً وإلا فلا كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد وسليم الرازي وحكاه الشيخ أبو حامد [الصا] عن إسماعيل بن مروان من أصحاب الشافعي . وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي ومبارك بن أبان وأبي علي الطبري وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى عن ابن سريج والصحيح عنه ما تقدم . وذهب الغزالي إلى أنه إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى فإن تعادلا فالوقف . واختاره المطرزي ورجحه الفخر الرازي واستحسنه القرافي والقرطبي . وذهب الآمدي إلى أن العلة إن كانت منصوصة أو مجمعاً عليها جاز التخصيص به وإلا فلا . وقد حكى إمام الحرمين في النهاية مذهبين لم ينسبهما إلى من قالهما . أحدهما : أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجاً من ذلك العام وإلا فلا وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائني القياس إن كان جلياً مثل فلا تقل لهما أف جاز التخصيص به الإجماع وإن كان واضحاً وهو المشتمل على جميع معنى الأصل كقياس الربا فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا إلا طائفة شذت لا يعتبر بقولهم وإن كان خفياً وهو قياس علته الشبه فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به ومنهم من شذ فجوزه . قال الأستاذ أبو منصور والأستاذ أبو إسحاق أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي . واختلفوا في الخفي على وجهين والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضاً وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع . واحتج الجمهور بأن العموم والقياس دليلان متعارضين والقياس خاص فوجب تقديمه . وبهذا يعرف أنه لا ينتهض احتجاج المانعين بقولهم لو قدم القياس على عموم الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى وأنه باطل لأن هذا التقديم إنما يكون عند إبطال أحدهما بالآخر فأما عند الجمع بينهما وإعمالهما جميعاً فلا وقد طول أهل الأصول الكلام في هذا البحث بإيراد شبه زائفة لا طائل تحتها وسيأتي تحقيق الحق إن شاء الله تعالى في باب القياس فمن منع من العمل به مطلقاً منع من التخصيص به ومن منع من بعض أنواعه دون بعض منع من التخصيص بذلك البعض ومن قبله مطلقاً ، والتفاصيل المذكورة هاهنا من جهة القابلين له مطلقاً إنما هي باعتبار كونه وقع هنا مقابلاً لدلالة العموم ، والحق الحقيق بالقبول أنه يخصص بالقياس الجلي لأنه معمول به لقوة دلالته وبلوغها إلى حد يوازن النصوص وكذا يخصص بما كانت علته منصوصة أو مجمعاً عليها أما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النص وأما العلة المجمع عليها فلكون ذلك الإجماع قد دل على دليل مجمع عليه وما عدا هذه الثلاثة الأنواع من القياس فلم تقم الحجة بالعمل به من أصله . وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا في القياس على وجه يتضح به الحق اتضاحاً لا يبقى عنده ريب لمرتاب .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة والعشرون : في التخصيص بالمفهوم ذهب القائلون بالعمل بالمفهوم إلى جواز التخصيص بالمفهوم . قال الآمدي لا أعرف خلافاً في تخصيص العموم بالمفهوم بين القائلين بالعموم والمفهوم وسيأتي الكلام على المفاهيم والمعمول به منها وغير المعمول به وقد تقدم الكلام على التخصيص بمفهوم اللقب ، وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الحنفية و ابن سريج المنع من التخصيص بالمفهوم وذلك مبني على مذهبهم في عدم العمل بالمفهوم ، قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام قد رأيت في بعض مصنفات المتأخرين ما يقتضي تقديم العموم وفي كلام صفي الدين الهندي أن الخلاف إنما هو في مفهوم المخالفة أما مفهوم الموافقة فاتفقوا على التخصيص به قال الزركشي والحق أن الخلاف ثابت فيهما ، أما مفهوم المخالفة فكما إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم كما في قوله في أربعين شاة شاة ثم قال في سائمة الغنم الزكاة فإن المعلوفة خرجت بالمفهوم فيخصص به عموم الأول وذكر أبو الحسين بن القطان أنه لا خلاف في جواز التخصيص به ومثل بما ذكرناه ، وكذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني إذا ورد العام مجرداً على صفة ثم أعيدت الصفة متأخرة عنه كقوله اقتلوا المشركين مع قوله قبله أو بعده اقتلوا أهل الأوثان من المشركين كان ذلك موجبا للتخصيص بالاتفاق ويوجب المنع من قتل أهل الكتاب وتخصيص ما بعده من العموم انتهى ، وإنما حكى الصفي الهندي الإجماع على التخصيص بمفهوم الموافقة لأنه أقوى من مفهوم المخالفة ولهذا يسميه بعضهم دلالة النص وبعضهم يسميه القياس الجلي وبعضهم يسميه المفهوم الأولى وبعضهم يسميه فحوى الخطاب وذلك كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف وقد اتفقوا على العمل به وذلك يستلزم الاتفاق على التخصيص به . والحاصل أن التخصيص بالمفاهيم فرع العمل بها وسيأتي بيان ما هو الحق فيها إن شاء الله تعالى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة والعشرون : في التخصيص بالإجماع قال الآمدي لا أعرف فيه خلافاً وكذلك حكى الإجماع على جواز التخصيص بالإجماع الأستاذ أبو منصور ، قال ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام بعض ما يقتضيه ظاهره وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع ، وقال ابن القشيري إن من خالف في التخصيص بدليل العقل يخالف هنا وقال القرافي الإجماع أقوى من النص الخاص لأن النص يحتمل نسخه والإجماع لا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي ، وجعل الصيرفي من أمثلته قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله قال وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة ومثله ابن حزم بقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون واتفقت الأمة على أنهم لو بذلوا فلساً أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم قال والجزية بالألف فعلمنا أنه أراد جزية معلومة ومثله ابن الحاجب بآية حد القذف وبالإجماع على التصنيف للعبد ، والحق أن المخصص هو دليل الإجماع لا نفس الإجماع كما تقدم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة والعشرون : في التخصيص بالعادة ذهب الجمهور إلى عدم جواز التخصيص بها وذهب الحنفية إلى جواز التخصيص بها ، قال الصفي الهندي وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون النبي صضص أوجب أو حرم شيئاً بلفظ عام ، ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها أو بفعل بعضها فهل تؤثر تلك العادة حتى يقال المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه أو بفعله أو لا تؤثر في ذلك بل هو باق على عمومه متناول لذلك البعض ولغيره . الثاني : أن تكون العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلاً ، ثم إنه عليه السلام نهاهم عن تناوله بلفظ متناول له ولغيره كما لو قال نهيتكم عن أكل الطعام فهل يكون النهي مقتصراً على ذلك الطعام بخصوصه أم لا بل يجري على عمومه ولا تؤثر عاداتهم . قال والحق أنها لا تخصص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو عام والعادة ليست بحجة حتى تكون معارضة له انتهى . وقد اختلف كلام أهل الأصول وصاحب المحصول وأتباعه تكلموا على الحالة الأولى واختار فيها أنه إن علم جريان العادة في زمن النبي صضص مع عدم منعه عنها فيخصص بها والمخصص في الحقيقة هو تقريره صضص ، وإن علم عدم جريانها ولم يخصص بها إلا أن يجمع على فعلها فيكون تخصيصاً بالإجماع . وأما الآمدي وابن الحاجب فتكلموا على الحالة الثانية . قال الرزكشي وهما مسألتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى فتفطن لذلك فإن بعض من لا خبرة له حاول الجمع بين كلام الإمام الرازي في المحصول وكلام الآمدي وابن الحاجب ظناً منه أنهما تواردا على محل واحد وليس كذلك وممن صرح بأنهما حالتان القرافي في شرح التنقيح وفرق بأن العادة السابقة على العموم تكون مخصصة والعادة الطارئة بعد العموم لا يقضي بها على العموم انتهى . والحق أن تلك العادة إن كانت مشتهرة في زمن النبوة بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصصة لأن النبي صضص إنما يخاطب الناس بما يفهمون وهم لا يفهمون إلا ما جرى عليه التعارف بينهم وإن لم تكن العادة كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها ، والعجب ممن يخصص كلام الكتاب والسنة بعادة حادثة بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قوم وتعارفوا بها ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم فيه الشارع فإن هذا من الخطأ البين والغلط الفاحش ، أما لو قال المخصص بالعادة الطارئة إنه يخصص بها ما حدث بعد أولئك الأقوام المصطلحين عليها من التحاور في الكلام والتخاطب بالألفاظ فهذا مما لا بأس به ولكن لا يخفى أن بحثنا في هذا العلم إنما هو عن المخصصات الشرعية فالبحث عن المخصصات العرفية لما وقع التخاطب به من العمومات الحادثة من خلط هذا الفن بما ليس منه والخبط في البحث بما لا فائدة فيه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة والعشرون : في التخصيص بمذهب الصحابي ذهب الجمهور إلى أنه لا يخصص بذلك وذهبت الحنفية والحنابلة إلى أنه يجوز التخصيص به على خلاف بينهم في ذلك فبعضهم يخصص به مطلقاً وبعضهم يخصص به إن كان هو الراوي للحديث . قال الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو حامد الإسفرائني وسليم الرازي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إنه يجوز التخصيص بمذهب الصحابي إذا لم يكن هو الراوي للعموم وكان ما ذهب إليه منتشراً ولم يعرف له مخالف في الصحابة لأنه إما إجماع أو حجة مقطوع بها على الخلاف وأما إذا لم ينتشر فإن خالفه غيره فليس بحجة قطعاً وإن لم يعرف له مخالف فعلى قول الشافعي الجديد ليس بحجة فلا يخصص به وعلى قوله القديم هو حجة يقدم على القياس وهل يخصص به العموم فيه وجهان . وأما إذا كان الصحابي الذي ذهب إلى التخصيص هو الراوي للحديث فقد اختلف قول الشافعي في ذلك والصحيح عنه وعن أصحابه وعن جمهور أهل العلم أنه لا يخصص به خلافاً لمن تقدم والدليل على ذلك أن الحجة إنما هي في العموم ومذهب الصحابي ليس بحجة فلا يجوز التخصيص به . واستدل القائلون بجواز التخصيص بأن الصحابي العدل لا يترك ما سمعه من النبي صضص ويعمل بخلافه إلا لدليل قد ثبت عنده يصلح للتخصيص . وأجيب عنه بأنه قد يخالف ذلك الدليل في ظنه وظنه لا يكون حجة على غيره فقد يظن ما ليس بدليل دليلاً والتقليد للمجتهد من مجتهد مثله لا يجوز لا سيما في مسائل الأصول فالحق عدم التخصيص بمذهب الصحابي وإن كانوا جماعة ما لم يجمعوا على ذلك فيكون من التخصيص بالإجماع وقد تقرر الكلام عليه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة والعشرون : في التخصيص بالسياق قد تردد قول الشافعي في ذلك وأطلق الصيرفي جواز التخصيص به ومثله بقوله سبحانه : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم وكلام الشافعي في الرسالة يقتضيه فإنه بوب لذلك باباً فقال باب الصنف الذي قد بين سياقه معناه وذكر قوله سبحانه : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر قال فإن السياق أرشد إلى أن المراد أهلها وهو قوله : إذ يعدون في السبت قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص قال ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضاً حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم . قال ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما اشتبه على كثير من الناس فإن التخصيص بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصاً فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره كما في والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين أما التبيين ففي المجملات وأما التعيين ففي المحتملات وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا يمكنك حصره انتهى . والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك ، وإن لم يكن السياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة والعشرون : في التخصيص بقضايا الأعيان وذلك كإذنه صضص بلبس الحرير للحكة . وفي جواز التخصيص بذلك قولان للحنابلة . ولا يخفى أنه إذا وقع التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الإذن بالشيء أو الأمر به أو النهي عنه فهو من باب التخصيص بالعلة المعلقة على الحكم ولا يجوز التخصيص بالاستصحاب قال أبو الخطاب الحنبلي إنه لا يجوز التخصيص للعموم بالبقاء على حكم الأصل الذي هو الاستصحاب بلا خلاف . قال القاضي عبد الوهاب في الإفادة ذهب بعض ضعفاء المتأخرين إلى أن العموم يخص باستصحاب الحال قال لأنه دليل يلزم المصير إليه ما لم ينقل عنه ناقل فيجوز التخصيص به كسائر الأدلة وهذا في غاية التناقض لأن الاستصحاب من حقه أن يسقط بالعموم فكيف يصح تخصيصه به إذ معناه التمسك بالحكم لعدم دليل ينقل عنه والعموم دليل ناقل . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الموفية ثلاثين : في بناء العام على الخاص قد تقدم ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز فإذا كان العام الوارد من كتاب أو سنة قد ورد معه خاص يقتضي إخراج بعض أفراد العام من الحكم الذي حكم به عليها فإما أن يعلم تاريخ كل واحد منهما أو لا يعلم فإن علم فإن كان المتأخر الخاص فأما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب فإن علم فإن كان المتأخر الخاص فإما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب فإن تأخر عن وقت العمل بالعام فهاهنا يكون الخاص ناسخاً لذلك اقدر الذي تناوله من أفراد العام قال الزركشي في البحر وفاقاً ولا يكون تخصيصاً لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعاً ، وإن تأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به ففي ذلك خلاف مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فمن جوزه جعل الخاص بياناً للعام وقضى به عليه ومن منعه حكم بنسخ العام في القدر الذي عارضه فيه الخاص كذا قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني وسليم الرازي قال ولا يتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها وإنما يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وابن الصباغ في العدة . قال الصفي الهندي من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالمعتزلة أحال المسألة ومنهم من جوزهما فاختلفوا فيه فالذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن الخاص مخصص للعام لأنه وإن جاز أن يكون ناسخاً لذلك القدر من العام لكن التخصيص أقل مفسدة من النسخ وقد أمكن حمله عليه فتعين . ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام وتخلل بينهما ما يمكن المكلف بهما من العمل أو الاعتقاد بمقتضى العام كان الخاص ناسخاً لذلك القدر الذي تناوله من العام لأنهما دليلان وبين حكميهما تناف فيجعل المتأخر ناسخاً للمتقدم من الإمكان دفعاً للتناقض قال وهو ضعيف انتهى . فإن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص فعند الشافعية يبني العام على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن وما تناوله العام ظاهر مظنون والمتيقن أولى . وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه والقاضي عبد الجبار إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم . وذهب بعض المعتزلة إلى الوقف ، وقال أبو بكر الرازي إذا تأخر العام كان ناسخاً لما تضمنه الخاص ما لم يقم له دلالة من غيره على أن العموم مرتب على الخصوص انتهى . والحق في هذه الصورة البناء وإن تأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص لكنه قبل وقت العمل به فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالقاضي عبد الجبار فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ فتعين عليه البناء أو التعارض فيما تنافيا فيه وجعل الكيا الطبري الخلاف في هذه المسألة مبنياً على تأخير البيان فقال من لك يجوز تأخيره عن مورد اللفظ جعله ناسخاً للخاص ، وهذه الأربع الصور إذا كان تاريخهما معلوماً فإن جهل تاريخهما ، فعند الشافعي وأصحابه والحنابلة والمالكية وبعض الحنفية والقاضي عبد الجبار أنه يبني العام على الخاص . وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر من غيرهما وحكى نحو ذلك عن القاضي أبي بكر الباقلاني والدقاق . والحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء وليس عنه مانع يصلح للتشبث به والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء وما علل به المانعون في الصور المتقدمة من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة غير موجود هنا وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام والأقوى أرجح وأيضاً إجراء العام على عمومه إهمال للخاص وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام وأيضاً قد نقل أبو الحسين الإجماع على البناء مع جهل التاريخ . والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير المذكورة في هذه المسألة . وما احتج به القائلون بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط المتأخر على السابق كما لو كان المتأخر خاصاً فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة فلا ينتهض لترجيحه على قوي الدلالة . وأيضاً في البناء جمع وفي العمل بالعام ترجيح والجمع مقدم على الترجيح . وأيضاً في العمل بالعام إهمال للخاص وليس في التخصيص إهمال للعام كما تقدم . وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الكلام على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وفي الكلام على جواز النسخ قبل إمكان العام إن شاء الله . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الباب الخامس في المطلق والمقيد : وفيه مباحث أربعة البحث الأول : في حدهما . أما المطلق فقيل في حده ما دل على شائع في جنسه ومعنى هذا أن يكون حصة محتملة لحصص كثيرة مما يدرج تحت أمر فيخرج من قيد الدلالة المهملات ويخرج من قيد الشيوع المعارف كلها لما فيها من التعيين إما شخصاً نحو زيد وهذا أو حقيقة نحو الرجل وأسامة أو حصة نحو فعصى فرعون الرسول أو استغراقاً نحو الرجال وكذا كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل . وقيل في حده هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده والمراد بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود . وقد اعترض عليه بأنه جعل المطلق والنكرة سواء وبأنه يرد عليه أعلام الأجناس كأسامة وثعالة فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي هي . وأجاب عن ذلك الأصفهاني في شرحه للمحصول بأنه لم يجعل المطلق والنكرة سواء بل غاير بينهما فإن المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي والنكرة الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة . قال وأما إلزامه بعلم الجنس فمردود بأنه وضع للماهية الذهنية بقيد التشخيص الذهني بخلاف اسم الجنس وإنما يرد الاعتراض بالنكرة على الحد الذي أورده الآمدي للمطلق فإنه قال هو الدال على الماهية بقيد الوحدة وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب فإنه قال في حده هو ما دل على شائع في جنسه وقيل المطلق هو ما دل على الذات دون الصفات ، وقال الصفي الهندي المطلق الحقيقي ما دل على الماهية فقط والإضافي مختلف نحو رجل ورقبة فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عامل ورقبة مؤمنة ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي لأنه يدل على واحد شائع وهما قيدان زائدان على الماهية . وأما المقيد فهو ما يقابل المطلق على اختلاف هذه الحدود المذكورة في المطلق فيقال فيه هو ما دل لا على شائع في جنسه فتدخل فيه المعارف والعمومات كلها أو يقال في حده هو ما دل على الماهية بقيد من قيودها أو ما كان له دلالة على شيء من القيود . البحث الثاني : اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقاً لا مقيداً حمل على إطلاقه وإن ورد مقيداً حمل على تقييده وإن ورد مطلقاً في موضع آخر فذلك على أقسام : الأول : أن يختلفا في السبب والحكم فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق كما حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني والكيا الهراس وابن برهان والآمدي وغيرهم . القسم الثاني : أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر كما لو قال إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وقال في موضع آخر إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب وابن فورك والكيا والطبري وغيرهم . وقال ابن برهان في الأوسط اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل والصحيح من مذهبهم أنه يحمل ، ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في تفسيره أن أبا حنيفة يقول بالحمل في هذه الصورة . وحكى الطرسوسي الخلاف فيه عن المالكية وبعض الحنابلة وفيه نظر فإن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب وهو من المالكية . ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين فرجح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق أي دال على أن المراد بالمطلق هو المقيد وقيل إنه يكون نسخاً أي دالاً على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق والأول أولى وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدماً أو متأخراً أو جهل السابق فإنه يتعين الحمل كما حكاه الزركشي . القسم الثالث : أن يختلفا في السبب دون الحكم كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين فهذا القسم هو موضع الخلاف فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد . وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد . وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ولا يدعى وجوب هذا القياس بل يدعى أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا . قال الرازي في المحصول وهو القول المعتدل قال واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين أما الأول يعني مذهب جمهور الشافعية فضعيف جداً لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضاً للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظاً . وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد فكذا هاهنا . والجواب عن الأول بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض لا في كل شيء وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد . وعن الثاني أنا إنما قيدناه بالإجماع ، وأما القول الثاني يعني ذهب الحنفية فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور انتهى . قال إمام الحرمين الجويني في دفع ما قالوه من أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن كتاب الله فيه النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة ، قد ادعى أمراً عظيماً انتهى . ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل . وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل فإن قام الدليل على تقييده قيد وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة . قال الرزكشي وهذا أفسد المذاهب لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائداً إليها ولا يعدل إلى غيره . وفي المسألة مذهب خامس وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في المقيد فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال . قال الماوردي وهذا أولى المذاهب . قلت بل هو أبعدها من الصواب . القسم الرابع : أن يختلفا في الحكم نحو اكس يتيماً أطعم يتيماً فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف . وحكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب . البحث الثالث : اشترط القائلون بالجمل شروطاً سبعة : الأول : أن يكون المقيد من باب الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فلا يحمل أحدهما على الآخر وهذا كإيجاب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء مع الاقتصار على عضوين في التيمم فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء حتى يلزم التيمم في الأربعة الأعضاء لما فيه من إثبات حكم لم يذكر وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات كما ذكرنا ، وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي والشيخ أبو حامد الإسفرائني والماوردي والروياني . ونقله الماوردي عن الأبهري من المالكية ونقل الماوردي أيضاً عن ابن خيران من الشافعية أن المطلق يحمل على المقيد في الذات وهو قول باطل . الشرط الثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها فهي شرط في الجمع وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله : من بعد وصية توصون بها أو دين وإطلاق الميراث فيما أطلق فيه فيكون ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين . فأما إذا كان المطلق دائراً بين قيدين متضادين نظر فإن كان السبب مختلفاً لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل فيحمل على ما كان القياس عليه أولى أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى ، وممن ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والماوردي وحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق على اشتراطه . قال الزركشي وليس كذلك فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافاً لأصحابنا ولم يرجح شيئاً . الشرط الثالث : أن يكون في باب الأوامر والإثبات أما في جانب النفي والنهي فلا فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي وهو غير سائغ ، وممن ذكر هذا الشرط الآمدي وابن الحاجب ، وقالا لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما لعدم التعذر فإذا قال لا تعتق مكاتباً كافراً ولا مسلماً إذ لو أعتق واحداً منهما لم يعمل بهما وأما صاحب المحصول فسوى بين الأمر والنهي ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي والنهي بل يجري في جميع أقسام الكلام . قال الزركشي وقد يقال لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل أفراد بعض مدلول العام وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور فلا وجه لذكره هاهنا انتهى . والحق عدم الحمل في النفي والنهي ، وممن اعتبر هذا الشرط ابن دقيق العيد وجعله أيضاً شرطاً في بناء العام على الخاص . الشرط الرابع : أن لا يكون في جانب الإباحة . قال ابن دقيق العيد إن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة إذ لا تعارض بينهما وفي المطلق زيادة قال الزركشي وفيه نظر . الشرط الخامس : أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل فإن أمكن بغير إعمالهما فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما ذكره ابن الرفعة في المطلب . الشرط السادس : أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد فلا يحمل المطلق على المقيد هاهنا قطعاً . الشرط السابع : أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد فإن قام دليل على ذلك فلا تقييد . البحث الرابع : اعلم أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جار في تقييد المطلق فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص فذلك يغنيك عن تكثير المباحث في هذا الباب . فائدة قال في المحصول إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين كيف يكون حكمه ؟ مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقاً في قوله سبحانه : فعدة من أيام أخر وصوم التمتع الوراد مقيداً بالتفريق في قوله فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وصوم كفارة الظهار الوارد مقيداً بالتتابع في قوله فصيام شهرين متتابعين قال فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظاً ترك المطلق هاهنا على إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله هاهنا على ما كان القياس عليه أولى انتهى . وقد تقدم في الشرط الثاني من المبحث الذي قبل هذا المبحث الكلام في المطلق الدائر بين قيدين متضادين وإنما ذكرنا هذه الفائدة لزيادة الإيضاح .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الباب السادس في المجمل والمبين
الفصل الثاني الإجمال في الكتاب والسنة اعلم أن الإجمال واقع في الكتاب والسنة قال أبو بكر الصيرفي ولا أعلم أحداً أبى هذا غير داود الظاهري وقيل إنه لم يبق مجمل في كتاب الله تعالى بعد موت النبي صضص وقال إمام الحرمين إن مختار ما يثبت التكليف به لا إجمال فيه لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال وما لا يتعلق به تكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته صضص . قال الماوردي والروياني يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان لأنه صضص بعث معاذاً إلى اليمن وقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله الحديث وتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها قالا وإنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا لا يفهمونه لأحد الأمرين : الأول : أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يتعقبه من البيان فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة بها لجاز أن تنفر النفوس منها ولا تنفر من إجمالها . والثاني : أن الله تعالى جعل من الأحكام جلياً وجعل منها خفياً ليتفاضل الناس في العمل بها ويثابوا على الاستنباط لها فلذلك جعل منها مفسراً جلياً وجعل منهما مجملاً خفياً . قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي وحكم المجمل التوقف فيه إلى أن يفسر ولا يصح الاحتجاج بظاهره في شيء يقع فيه النزاع قال الماوردي إن كان الإجمال من جهة الاشتراك واقترن به تبيينه أخذ به فإن تجرد عن ذلك واقترن به عرف يعمل به فإن تجرد عنهما وجب الاجتهاد في المراد منه وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط فصار داخلاً في المجمل لخفائه وخارجاً منه لإمكان الاستنباط .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الثالث الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب والأول إما أن يكون بتصريفه نحو قال من القول والقيلولة ونحو مختار فإنه صالح للفاعل والمفعول . قال العسكري ويفترقان تقول في الفاعل مختار لكذا وفي المفعول مختار من كذا ومن قوله تعالى : لا تضار والدة بولدها ولا يضار كاتب ولا شهيد وأما أن يكون بأصل وضعه فإما أن تكون معانيه متضاده كالقرء للطهر والحيض والناهل للعطشان والريان أو متشابهة غير متضادة فإما أن يتناول معاني كثيرة بحسب خصوصياتها فهو المشترك وأما بحسب معنى تشترك فيه فهو المتواطئ . والإجمال كما يكون في الأسماء على ما قدمنا يكون في الأفعال كعسعس بمعنى أقبل وأدبر ويكون في الحروف كتردد الواو بين العطف والابتداء وكما يكون في المفردات يكون في المركبات نحو قوله تعالى : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح لتردده بين الزوج والولي ويكون أيضاً في مرجع الضمير إذا تقدمه أمران أو أمور يصلح لكل واحد منها ويكون في الصفة نحو طبيب ماهر لترددها بين أن تكون للمهارة مطلقاً أو للمهارة في الطب ويكون في تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على الحقيقة فإن اللفظ يصير مجملاً بالنسبة إلى تلك المجازات إذ ليس الحمل على بعضها أولى من الحمل على البعض الآخر ، كذا قال الآمدي والصفي الهندي وابن الحاجب . وقد يكون في فعل النبي صضص إذا فعل فعلاً يحتمل وجهين احتمالاً واحداً . وقد يكون قد ورد في الأوامر بصيغة الخبر كقوله تعالى : والجروح قصاص وقوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن فذهب الجمهور إلى أنها تفيد الإيجاب وقال آخرون يتوقف فيها حتى يرد دليل يبين المراد بها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الرابع فيما لا إجمال فيه وهو أمور قد يحصل فيها الاشتباه على البعض فيجعلها داخلة في قسم المجمل وليست منه . الأول : في الألفاظ التي علق التحريم فيها على الأعيان كقوله تعالى : حرمت عليكم الميتة حرمت عليكم أمهاتكم فذهب الجمهور إلى أنه لا إجمال في ذلك ، وقال الكرخي والبصري إنها مجملة . احتج الجمهور بأن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل هذا طعام حرام هو تحريم أكله ومن قول القائل هذا المرأة حرام هو تحريم وطئها وتبادر الفهم دليل الحقيقة فالمفهوم من قوله حرمت عليكم الميتة و تحريم الأكل لأن ذلك هو المطلوب من تلك الأعيان ، وكذا قوله حرمت عليكم أمهاتكم فإن المفهوم منه هو تحريم الوطء . واحتج الكرخي والبصري بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة فكيف إذا كانت موجودة فإذا لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان وذلك الفعل غير مذكور وليس بعضها أولى من بعض فإما أن يضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير جائز أو يتوقف في الكل وهو المطلوب وأيضاً لو دلت على تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع وليس كذلك . وأجيب بأنه لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان لكن قوله ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع فإن العرف يقتضي إضافة التحريم إلى الفعل المطلوب منه وهو تحريم الاستمتاع وتحريم الأكل فهذا البعض متضح متعين بالعرف . الثاني : لا إجمال في مثل قوله تعالى : وامسحوا برؤوسكم وإلى ذلك ذهب الجمهور وذهب الحنفية إلى أنه مجمل لتردده بين الكل والبعض والسنة بينت البعض وحكاه في المعتمد عن أبي عبد الله البصري . ثم اختلف القائلون بأن لا إجمال فقالت المالكية إنه يقتضي مسح الجميع لأن الرأس حقيقة في جميعه والباء إنما دخلت للإلصاق . وقال الشريف المرتضى فيما حكاه عنه صاحب المصادر إنه يقتضي التبعيض قال لأن المسح فعل متعد بنفسه غير محتاج إلى حرف التعدية بدليل قوله مسحته كله فينبغي أن يفيد دخول الباء فائدة جيدة فلو لم يفد البعض يبقى اللفظ عارياً عن الفائدة . وقالت طائفة أنه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم وهو القدر المشترك بين مسح الكل والبعض فيصدق بمسح البعض ونسبه في المحصول إلى الشافعي . قال البيضاوي وهو الحق : ونقل ابن الحاجب عن الشافعي وأبي الحسين وعبد الجبار ثبوت البعض بالعرف . والذي في المعتمد لأبي الحسين وعبد الجبار أنها تفيد في اللغة تعميم مسح الجميع لأنه متعلق بما سمي رأساً وهو اسم لجملة الرأس لا للبعض ولكن العرف يقتضي إلصاق المسح بالرأس إما بجميعه ، وإما ببعضه لصدق الاسم عليه وعبارة الشافعي في كتاب أحكام القرآن أن من مسح رأسه شيئاً فقد مسح برأسه ولم تحتمل الآية إلا هذا . قال فدلت السنة أنه ليس على المرء مسح رأسه كله وإذا دلت السنة على ذلك فمعنى الآية أن من مسح شيئاً من رأسه أجزأه انتهى . فلم يثبت التبعيض بالعرف كما زعم ابن الحاجب . ولا يخفاك أن الأفعال المنسوبة إلى الذوات تصدق بالبعض حقيقة لغوية فمن قال ضربت رأس زيد أو ضربت برأسه صدق ذلك بوقوع الفعل على جزء من الرأس فهكذا مسحت رأس زيد ومسحت برأسه . وعلى كل حال فقد جاء في السنة المطهرة مسح كل الرأس ومسح بعضه فكان ذلك دليلاً مستقلاً على أنه يجزئ مسح البعض سواء كانت الآية من قبيل المجمل أم لا . الثالث : لا إجمال في مثل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا عند الجمهور ، وقال بعض الحنفية إنها مجملة إذ اليد العضو من المنكب والمرفق والكوع لاستعمالها فيها والقطع للإبانة والشق لاستعماله فيهما . وأجاب الجمهور بأن اليد تستعمل مطلقة ومقيدة فالمطلقة تنصرف إلى الكوع بدليل آية التيمم وآية السرقة وآية المحاربة . وأجاب بعضهم بأن اليد حقيقة في العضو إلى المنكب ولما دونه مجاز فلا إجمال في الآية وهذا هو الصواب . وقد جاءت السنة بأن القطع من الكوع فكان ذلك مقتضياً للمصير إلى المعنى المجازي في الآية . ويجاب عما ذكر في القطع بأن الإجمال إنما يكون مع عدم الظهور في أحد المعنيين وهو ظاهر في القطع لا في الشق الذي هو مجرد قطع بدون إبانة . الرابع : لا إجمال في نحو « لا صلاة إلا بطهور ، لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . لا صيام من لم يبيت الصيام من الليل . لا نكاح إلا بولي . لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » وإلى ذلك ذهب الجمهور قالوا لأنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه لا صلاة صحيحة ولا صيام صحيح ولا نكاح صحيح فلا إجمال وإن لم يثبت عرف شرعي فإن ثبت فيه عرف لغوي وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى نحو لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد فيتعين ذلك فلا إجمال وإن قدر انتفاؤهما فالأولى حمله على نفي الصحة دون الكمال لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى بخلاف ما لا يكمل فكان أقرب المجازين إلى الحقية المتعذرة فلا إجمال وهذا بناء منهم على أن الحقيقة متعذرة لوجوب الذات في الخارج ويمكن أن يقال إن المنفى هو الذات الشرعية والتي وجدت ليست شرعية فيبقى حمل الكلام على حقيقته وهي نفي الذات الشرعية فإن دل دليل على أنه لا يتوجه النفي إليها كان توجهه إلى الصحة أولى لأنها أقرب المجازين إذ توجيهه إلى نفي الصحة يستلزم نفي الذات حقيقة بخلاف توجيهه إلى الكمال فإنه لا يستلزم نفي الذات فكان توجيهه إلى الصحة أقرب المجازين إليها فلا إجمال وليس هذا من باب إثبات اللغة بالترجيح بل من باب ترجيح أحد المجازين على الآخر بدليل . وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وأبو عبد الله البصري إلى أنه مجمل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي . واختلف هؤلاء في تقرير الإجمال على ثلاثة وجوه : الأول : أنه ظاهر في نفي الوجود وهو لا يمكن لأنه واقع قطعاً فاقتضى ذلك الإجمال . الثاني : أنه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم فصار مجملاً . الثالث : أنه متردد بين نفي الجواز ونفي الوجوب فصار مجملاً قال بعض هؤلاء في تقرير الإجمال إما أن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة ولأنه قد يفضي أيضاً إلى التناقض لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معاً كان نفي الصحة يقتضي نفيها ونفيها يستلزم نفي الذات وكان نفي الكمال يقتضي ثبوت الصحة فكان مجملاً من هذه الحيثية وهذا كله مدفوع بما تقدم . الخامس : لا إجمال في نحو قوله : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان مما ينفي فيه صفة والمراد نفي لازم من لوازمه وإلى ذلك ذهب الجمهور لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع نفي المؤاخذة ورفع العقوبة فإن السيد إذا قال لعبده رفعت عنك الخطأ كان المفهوم منه أني لا أؤاخذك به ولا أعاقبك عليه فلا إجمال . قال الغزالي قضية اللفظ رفع نفس الخطأ والنسيان وهو غير معقول فالمراد به رفع حكمه لا على الإطلاق بل الحكم الذي علم بعرف الاستعمال قبل الشرع وهو رفع الإثم فليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيرهما وقال أبو الحسين وأبو عبد الله البصري إنه مجمل لأن ظاهره نفس رفع الخطأ والنسيان وقد وقعا . وقد حكى شارح المحصول في هذه المسألة ثلاثة مذاهب : أحدها أنه مجمل . والثاني الحمل على رفع العقاب آجلاً والإثم عاجلاً . قال وهو مذهب الغزالي . والثالث رفع جميع الأحكام الشرعية واختاره الرازي في المحصول وممن حكى هذه الثلاثة المذاهب القاضي عبد الوهاب في الملخص ونسب الثالث إلى أكثر الفقهاء من الشافعية والمالكية واختار هو الثاني . والحق ما ذهب إليه الجمهور للوجه الذي قدمنا ذكره . السادس : إذا دار لفظ الشارع بين مدلولين أن حمل على أحدهما أفاد معنى واحداً وإن حمل على الآخر أفاد معنيين ولا ظهور له في أحد المعنيين اللذين دار بينهما قال الصفي الهندي ذهب الأكثرون إلى أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر في إفادة المعنيين اللذين هما أحد مدلوليه وذهب الأقلون إلى أنه مجمل وبه قال الغزالي واختاره ابن الحاجب واختار الأول الآمدي لتكثير الفائدة . قال الآمدي والهندي محل الخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن حقيقة في المعنيين فإنه يكون مجملاً أو حقيقة في أحدهما فالحقيقة مرجحة وظاهرة جعل الخلاف فيما إذا كانا مجازين لأنهما إذا لم يكونا حقيقتين ولا أحدهما حقيقة والآخر مجازاً فما بقي إلا أن يكونا مجازين . قال الزركشي والحق أن صورة المسألة أعم من ذلك وهو اللفظ المحتمل لمتساويين سواء كانا حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة مرجوحة والآخر مجازاً راجحاً عند القائل بتساويهما ويكون ذلك باعتبار الظهور والخفاء انتهى . والحق أنه مع عدم الظهور في أحد مدلوليه يكون مجملاً ولا يصح جعل تكثير الفائدة مرجحاً ولا رافعاً للإجمال فإن أكثر الألفاظ ليس لها إلا معنى واحد فليس الحمل على كثرة الفائدة بأولى من الحمل على المعنى الواحد لهذه الكثيرة التي لا خلاف فيها . السابع : لا إجمال فيما كان له مسمى لغوي ومسمى شرعي كالصوم والصلاة عند الجمهور بل يجب الحمل على المعنى الشرعي لأن النبي صضص بعث لبيان الشرعيات لا لبيان معاني الألفاظ اللغوية والشرع طارئ على اللغة وناسخ لها فالحمل على الناسخ المتأخر أولى وذهب جماعة إلى أنه مجمل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحاب الشافعي . وذهب جماعة إلى التفصيل بين أن يرد على طريقة الإثبات فيحمل على المعنى الشرعي وبين أن يرد على طريقة النفي فمجمل لتردده . فالأول كقوله صضص « إني صائم » فيستفاد منه صحة نية النهار . والثاني كالنهي عن صوم أيام التشريق فلا يستفاد منه صحة صومها واختار هذا التفصيل الغزالي وليس بشيء . وثم مذهب رابع وهو أنه لا إجمال في الإثبات الشرعي والنهي اللغوي واختاره الآمدي ولا وجه له أيضاً ، والحق ما ذهب إليه الأولون لما تقدم . وهكذا إذا كان للفظ محمل شرعي ومحمل لغوي فإنه يحمل على المحمل الشرعي لما تقدم . وهكذا إذا كان له مسمى شرعي ومسمى لغوي فإنه يحمل على الشرعي لما تقدم أيضاً . وهكذا إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي واللغوي فإنه يقدم العرفي على اللغوي .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الخامس في مراتب البيان للأحكام ، وهي خمسة بعضها أوضح من بعض الأول : بيان التأكيد وهو النص الجلي الذي لا يتطرق إليه تأويل كقوله تعالى في صوم التمتع فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة وسماه بعضهم بيان التقرير . وحاصله أنه في الحقيقة التي تحتمل المجاز والعام المخصوص فيكون البيان قاطعاً للاحتمال مقرراً للحكم على ما اقتضاه الظاهر . الثاني : النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء كالواو وإلى في آية الوضوء فإن هذين الحرفين مقتضيان لمعان معلومة عند أهل اللسان . الثالث : نصوص السنة الواردة بياناً لمشكل في القرآن كالنص على ما يخرج عند الحصاد مع قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق . الرابع : نصوص السنة المبتدأة مما ليس في القرآن نص عليها ولا بالإجمال ولا بالتبيين ودليل كون هذا القسم من بيان الكتاب قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . الخامس : بيان الإشارة وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني وقيس عليها غيرها لأن الأصل إذا استنبط منه معنى وألحق به غيره لا يقال لم يتناوله النص بل تناوله لأن النبي صضص أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربوبيات بالأربعة المنصوص عليها لأن حقيقة القياس بيان المراد بالنص وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل التكليف بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد . ذكر هذا المراتب الخمس للبيان الشافعي في أول الرسالة وقد اعترض عليه قوم وقالوا قد أهمل قسمين وهما الإجماع وقول المجتهد إذا انقرض عصره وانتشر من غير نكير قال الزركشي في البحر إنما أهملهما الشافي لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي لأن الإجماع لا يصدر إلا عن دليل فإن كان نصاً فهو من الأقسام الأول وإن كان استنباطاً فهو الخامس . قال ابن السمعاني يقع بيان المجمل بستة أوجه : أحدها بالقول وهو الأكثر . والثاني بالفعل . والثالث بالكتاب كبيان أسنان الديات وديات الأعضاء ومقادير الزكاة فإنه صضص بينها بكتبه المشهورة . والرابع بالإشارة كقوله الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني ثلاثين يوماً ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات وحبس إبهامه في الثالثة إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين . والخامس بالتنبيه وهو المعاني والعلل التي نبه بها على بيان الأحكام كقوله في بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا جف وقوله في قبلة الصائم أرأيت لو تمضمض . السادس ما خص العلماء بيانه عن اجتهاد وهو ما فيه الوجوه الخمسة إذا كان الاجتهاد موصولاً إليه من أحد وجهين إما من أصل يعتبر هذا الفرع به وإما من طريق أمارة تدل عليه وزاد شارح اللمع وجهاً سابعاً وهو البيان بالترك كما روى أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار . قال الأستاذ أبو منصور رتب بعض أصحابنا ذلك فقال أعلاها رتبة ما وقع من الدلالة بالخطاب ثم بالفعل ثم بالإشارة ثم بالكتابة ثم بالتنبيه على العلة قال ويقع بيان من الله سبحانه وتعالى بها كلها خلا الإشارة انتهى . قال الزركشي لا خلاف أن البيان يجوز بالقول واختلفوا في وقوعه بالفعل والجمهور على أنه يقع بياناً خلافاً لأبي أسحاق المروزي منا والكرخي من الحنفية . حكاه الشيخ أبو إسحاق في التبصرة انتهى . ولا وجه لهذا الخلاف فإن النبي بين الصلاة والحج بأفعاله ، وقال صلوا كما رأيتموني أصلي حجوا كما رأيتموني أحج وخذوا عني مناسككم ولم يكن لمن منع من ذلك متمسك لا من شرع ولا من عقل بل مجرد مجادلات ليست من الأدلة في شيء ، وإذا ورد بعد المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح لبيانه فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو البيان قولاً كان أو فعلاً والثاني تأكيد له وقيل إن المتأخر إن كان الفعل لم يحمل على التأكيد لأن الأضعف لا يؤكد الأقوى وإن جهل المتقدم منهما فلا يقضي على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقضي بحصول البيان بواحد منهما لم نطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر وقيل يكونان بمجموعهما بياناً قيل هذا إذا تساويا في القوة فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم وروداً وإلا لزم التأكيد بالأضعف هذا إذا اتفق القول والفعل ، أما إذا اختلفا فذهب الجمهور أن المبين هو القول ورجح هذا فخر الدين الرازي وابن الحاجب سواء كان متقدماً أو متأخراً ويحمل الفعل على الندب لأن دلالة القول على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أولى وقال أبو الحسين البصري المتقدم منهما هو البيان كما في صورة اتفاقهما .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل السادس في تأخير البيان عن وقت الحاجة اعلم أن كل ما يحتاج إلى البيان من مجمل وعام ومجاز ومشترك وفعل متردد ومطلق إذا تأخر بيانه فذلك على وجهين : الأول : أن يتأخر عن وقت الحاجة وهو الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب وذلك في الواجبات الفورية لم يجز لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا يطاق وأما من جوز التكليف بما لا يطاق فهو يقول بجوازه فقط لا بوقوعه فكان عدم الوقوع متفقاً عليه بين الطائفتين ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه . قال ابن السمعاني لا خلاف في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطئ إذا نظر فهذانك القربان لا خلاف فيهما انتهى . الوجه الثاني : تأخيره عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل وذلك في الواجبات التي ليست بفورية حيث يكون الخطاب لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة أوله ظاهر وقد استعمل في خلافه كتأخير التخصيص والنسخ ونحو ذلك وفي ذلك مذاهب : الأول : الجواز مطلقاً ، قال ابن برهان وعليه عامة علمائنا من الفقهاء والمتكلمين ونقله ابن فورك والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني عن ابن سريج والأصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والقفال وابن القطان والطبري والشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي واختاره الرازي في المحصول وابن الحاجب وقال الباجي عليه أكثر أصحابنا وحكاه القاضي عن مالك واستدلوا بقوله سبحانه : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه وثم للتعقيب مع التراخي وقوله في قصة نوح وأهلك وحكمه تناول ابنه وبقوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ثم لما سأل ابن الزبعري عن عيسى والملائكة نزل قوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية وبقوله فأن لله خمسه لم يبين بعد ذلك أن السلب للقاتل وبقوله أقيموا الصلاة ثم وقع بيانها بعد ذلك بصلاة جبريل وبصلاة النبي صضص وبقوله وآتوا الزكاة وبقوله والسارق والسارقة فاقطعوا وبقوله ولله على الناس حج البيت ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة ونحو هذا كثير جداً . المذهب الثاني : المنع مطلقاً ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني عن أبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي وأبي حامد المروزي ونقله الأستاذ أبو إسحاق عن أبي بكر الدقاق قال القاضي وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية و ابن داود الظاهري ونقله ابن القشيري عن داود الظاهري ونقله المازري والباجي عن الأبهري . قال القاضي عبد الوهاب قالت المعتزلة والحنفية لا بد أن يكون الخطاب متصلاً بالبيان أو في حكم المتصل احترازا من انقطاعه بعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض قال ووافقهم بعض المالكية والشافعية ، واستدل هؤلاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع فقالوا لو جاز ذلك فإما أن يكون إلى مدة معينة أو إلى الأبد وكلاهما باطل أما إلى مدة معينة فلكونه تحكما ولكونه لم يقل به أحد وأما إلى الأبد فلكونه يلزم المحذور وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم . وأجيب عنهم باختيار جوازه إلى مدة معينة عند الله وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه فلا تحكم هذا أنهض ما استدلوا به على ضعفه وقد استدلوا بما هو دونه في الضعف فلا حاجة لنا إلى تطويل البحث بما لا طائل تحته . المذهب الثالث : أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره حكاه القاضي أبو الطيب والقاضي عبد الوهاب وابن الصباغ عن الصيرفي وأبي حامد المروزي . قال أبو الحسين بن القطان لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل كقوله : أقيموا الصلاة وكذا لا يختلفون أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي صضص والفعل يتأخر عن القول لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله : والسارق والسارقة فاقطعوا فقد اختلفوا فيه فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه كما هو مذهب أبي بكر الصيرفي وكذا حكى اتفاق أصحاب الشافعي على جواز تأخير بيان المجمل ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني ولم يأتوا بما يدل على عدم جواز التأخير فيما عدا ذلك إلا ما لا يعتد به ولا يلتفت إليه . المذهب الرابع : أنه يجوز تأخير بيان العموم لأنه قبل البيان مفهوم ولا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه قبل البيان غير مفهوم حكاه الماوردي والروياني وجهاً لأصحاب الشافعي ونقله ابن برهان في الوجيز عن عبد الجبار ولا وجه له . المذهب الخامس : أنه يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي ، ولا يجوز تأخير بيان الأخبار كالوعد والوعيد حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة ولا وجه له أيضاً . المذهب السادس : عكسه ، حكاه الشيخ أبو إسحاق مذهباً ولم ينسبه إلى أحد ولا وجه له أيضاً ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله مذهباً قال لأن موضوع المسألة التكليفي فلا تذكر فيها الأخبار قال الزركشي وفيه نظر . المذهب السابع : أنه يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره ذكر هذا المذهب أبو الحسين في المعتمد وأبو علي وأبو هاشم وعبد الجبار ولا وجه له أيضاً لعدم الدليل الدال على عدم جواز التأخير فيما عدا النسخ وقد عرفت قيام الأدلة المتكثرة على الجواز مطلقاً فالاقتصار على بعض ما دلت عليه دون بعض بلا مخصص باطل . المذهب الثامن : التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك دون ما له ظاهر كالعام والمطلق والمنسوخ ونحو ذلك فإنه لا يجوز التأخير في الأول ويجوز في الثاني نقله فخر الدين الرازي عن أبي الحسين البصري والدقاق والقفال وأبي إسحاق وقد سبق النقل عن هؤلاء بأنهم يذهبون إلى خلاف ما حكاه عنهم ولا وجه لهذا التفصيل . المذهب التاسع : أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلاً ولا تغييراً جاز مقارناً وطارئاً وإن كان تغييراً جاز مقارناً ولا يجوز طارئاً بالحال . نقله السمعاني عن أبي زيد من الحنفية ولا وجه له أيضاً فهذه جملة المذاهب المروية في هذه المسألة وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهراً واضحاً لا ينكره من له أدنى خبرة بها وممارسة لها وليس على هذه المذاهب المخالفة لما قاله المجوزون أثارة من علم ، وقد اختلف القائلون بجواز التأخير في جواز تأثير البيان على التدريج بأن يبين بياناً أولاً ثم يبين بياناً ثانياً كالتخصيص بعد التخصيص والحق الجواز لعدم المانع من ذلك لا من شرع ولا عقل فالكل بيان .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الباب السابع في الظاهر والمؤول ، وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول : في حدهما ، فالظاهر في اللغة هو الواضح قال الأستاذ والقاضي أبو بكر لفظه يغني عن تفسيره . وقال الغزالي هو المتردد بين أمرين وهو في أحدهما أظهر ، وقيل هو ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة مرجوحة فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح ويطلق على اللفظ الذي يفيد معنى سواء أفاد معه إفادة مرجوحة أو لم يفد ولهذا يخرج النص فإن إفادته ظاهرة بنفسه ونقل إمام الحرمين أن الشافعي كان يسمي الظاهر نصاً ، وقيل هو في الاصطلاح ما دل دلالة ظنية إما بالوضع كالأسد للسبع المفترس أو بالعرف كالغائط للخارج المستقذر إذ غلب فيه بعد أن كان في الأصل للمكان المطمئن من الأرض . والتأويل مشتق من آل يؤول إذا رجع تقول آل الأمر إلى كذا أي رجع إليه وما آل الأمر مرجعه . وقال النضر بن شميل إنه مأخوذ من الأيالة وهي السياسة يقال لفلان علينا إيالة وفلان أيل علينا أي سائس فكان المؤول بالتأويل كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه . وقال ابن فارس في فقه العربية التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال ما آل هذا الأمر مصيره واشتقاق الكلمة من الأول وهو العاقبة والمصير واصطلاحاً صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله وفي الاصطلاح حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد فإن أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد بدليل يصيره راجحاً لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مساً وفاسد . قال ابن برهان وهذا الباب أنفع كتب الأصول وأجلها ولم يزل الزال إلا بالتأويل الفاسد وأما ابن السمعاني فأنكر على إمام الحرمين إدخاله لهذا الباب في أصول الفقه وقال ليس هذا من أصل الفقه في شيء إنما هو كلام يورد في الخلافيات . واعلم أن الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ . وإذا عرفت معنى الظاهر فاعلم أن النص ينقسم إلى قسمين أحدهما يقبل التأويل وهو قسم من النص مرادف للظاهر والقسم الثاني لا يقبله وهو النص الصريح وسيأتي الكلام على هذا في الباب الذي بعد هذا الباب . الفصل الثاني فيما يدخله التأويل وهو قسمان أحدهما أغلب الفروع ولا خلاف في ذلك ، والثاني الأصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عز وجل . وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب : الأول : أنه لا مدخل للتأويل فيها بل يجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها وهذا قول المشبهة . والثاني : أن لها تأويلاً ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله قال ابن برهان وهذا قول السلف . قلت وهذا هو الطريقة الواضحة والمنهج المصحوب بالسلام عن الوقوع في مهاوي التأويل لما لا يعلم تأويله إلا الله وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الاقتداء وأسوة لمن أحب التأسي على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة . والمذهب الثالث : أنها مؤولة قال ابن برهان والأول من هذه المذاهب باطل والآخران منقولان عن الصحابة ونقل هذا المذهب الثالث عن علي وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة . قال أبو عمرو بن الصلاح الناس في هذه الأشياء الموهمة للجهة ونحوها فرق ثلاث : ففرقة تؤول وفرقة تشبه وثالثة ترى أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وإطلاقه سائغ وحسن قبولها مطلقة كما قال مع التصريح بالتقديس والتنزيه والتبري من التحديد والتشبيه قال وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها واختارها أئمة الفقهاء وقادتها . وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين يصدف عنها ويأباها وأفصح الغزالي في غير موضع بهجر ما سواها حتى ألجم آخراً في إلجامه كل عامل وعامي عما عداها . قال وهذا كتاب إلجام العوام عن علم الكلام وهو آخر تصانيف الغزالي مطلقاً حث فيه على مذهب السلف ومن تبعهم . قال الذهبي في النبلاء في ترجمة فخر الدين الرازي ما لفظه : وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى ، إليه يصعد الكلم الطيب واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي انتهى . وذكر الذهبي في النبلاء في تجرمة إمام الحرمين الجويني أنه قال ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة هكذا نقل عنه صاحب النبلاء في ترجمته وقال في موضع آخر في ترجمته في النبلاء إنه قال ما لفظه اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السلف انتهى . وهؤلاء الثلاثة أعني الجويني والغزالي والرازي هم الذين وسعوا دائرة التأويل وطولوا ذيوله وقد رجعوا آخراً إلى مذهب السلف كما عرفت فلله الحمد كما هو له أهل وقال ابن دقيق العيد ونقوله في الألفاظ المشكلة إنها حق وصدق وعلى الوجه الذي أراده الله ومن أول شيئاً منها فإن كان تأويله قريباً على ما يقتضيه لسان العرب وتفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه ولم نبدعه وإن كان تأويله بعيداً توقفنا عليه واستبعدناه ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التنزيه وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي في البحر والكلام في هذا يطول لما فيه من كثرة النقول عن الأئمة الفحول . الفصل الثالث في شروط التأويل الأول أن يكون موافقاً لوضع اللغة أو عرف الاستعمال وإعادة صاحب الشرع وكل تأويل خرج عن هذا فليس صحيح . الثاني أن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه إذا كان لا يستعمل كثيراً فيه . الثالث إذا كان التأويل بالقياس فلا بد أن يكون جلياً لا خفياً ، وقيل أن يكون مما يجوز التخصيص به على ما تقدم ، وقيل لا يجوز التأويل بالقياس أصلاً . والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قد يكون قريباً فيترجح بأدنى مرجح ، وقد يكون بعيداً فلا يترجح إلا بمرجح قوي ولا يترجح بما ليس بقوي وقد يكون متعذراً لا يحتمله اللفظ فيكون مردوداً لا مقبولاً . وإذا عرفت هذا تبين لك ما هو مقبول من التأويل مما هو مردود ولم يحتج إلى تكثير الأمثلة كما وقع في كثير من كتب الأصول .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الباب الثامن من المقصد الرابع في المنطوق والمفهوم وفيه أربع مسائل المسألة الأولى : في حدهما ، فالمنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق أي يكون حكماً للمذكور وحالاً من أحواله والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق أي يكون حكماً لغير المذكور وحالاً من أحواله . والحاصل أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحاً وتارة من جهته تلويحاً فالأول المنطوق والثاني المفهوم . والمنطوق ينقسم إلى قسمين : الأول ما لا يحتمل التأويل وهو النص والثاني ما يحتمله وهو الظاهر . والأول أيضاً ينقسم إلى قسمين : صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن وغير صريح إن دل عليه بالالتزام . وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة فدلالة الاقتضاء هي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود التكلم . ودلالة الإيماء أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيداً وسيأتي بيان هذا في القياس . ودلالة الإشارة حيث لا يكون مقصوداً للمتكلم . والمفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة . فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقاً للملفوظ به فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب وإن كان مساوياً له فيسمى لحن الخطاب . وحكى الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين : أحدهما أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ واللحن ما لاح في اللفظ . وثانيهما أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه واللحن ما دل على مثله وقال القفال أن فحوى الخطاب ما دل المظهر على المسقط واللحن ما يكون محالاً على غير المراد والأولى ما ذكرناه أولاً . وقد شرط بعضهم في مفهوم الموافقة أن يكون أولى من المذكور وقد نقله إمام الحرمين الجويني في البرهان عن الشافعي وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ونقله الهندي عن الأكثرين . وأما الغزالي وفخر الدين الرازي وأتباعهما فقد جعلوه قسمين : تارة يكون أولى وتارة يكون مساوياً وهو الصواب فجعلوا شرطه أن لا يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة للحكم من المعنى المنطوق به قال الزركشي وهو ظاهر كلام الجمهور من أصحابنا وغيرهم . وقد اختلفوا في دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية على قولين حكاهما الشافعي في الأمر وظاهر كلامه ترجيح أنه قياس ونقله الهندي في النهاية عن الأكثرين قال الصيرفي ذهبت طائفة جلة سيدهم الشفاعي إلى أن هذا هو القياس الجلي وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع إنه الصحيح وجرى عليه القفال الشاشي فذكره في أنواع القياس قال سليم الرازي الشافعي يومئ إلى أنه قياس جلي لا يجوز ورود الشرع بخلافه قال وذهب المتكلمون بأسرهم الأشعرية والمعتزلة إلى أنه مستفاد من النطق وليس بقياس قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني الصحيح من المذاهب أنه جار مجرى النطق لا مجرى دلالة النص لكن دلالته لفظية . ثم اختلفوا فقيل إن المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى وقيل إنه فهم بالسياق والقرائن وعليه المحققون من أهل هذا القول كالغزالي وابن القشيري والآمدي وابن الحاجب والدلالة عندهم مجازية من باب إطلاق الأخص وإرادة الأعم قال الماوردي والجمهور على أن دلالته من جهة اللغة لا من القياس . قال القاضي أبو بكر الباقلاني القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه قال ابن رشد لا ينبغي للظاهرية أن يخالفوا في مفهوم الموافقة لأنه من باب السمع والذي رد ذلك يرد نوعاً من الخطاب قال الزركشي وقد خالف فيه ابن حزم قال ابن تيمية وهو مكابرة . المسألة الثانية : مفهوم المخالفة وهو حيث يكون السكوت عنه مخالفاً للمذكور في الحكم إثباتاً ونفياً فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به ويسمى دليل الخطاب لأن دليله من جنس الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه . قال القرافي وهل المخالفة بين المنطوق والمسكوت بضد الحكم المنطوق به أو نقيضه الحق الثاني . ومن تأمل المفهومات وجدها كذلك . وجميع مفاهيم المخالفة حجة عند الجمهور إلا مفهوم اللقب ، وأنكر أبو حنيفة الجميع وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع عن القفال الشاشي وأبي حامد المروزي وأما الأشعري فقال القاضي إن النقلة نقلوا عنه القول بالمفهوم كما نقلوا عنه نفي صيغ العموم وقد أضيف إليه خلاف ذلك وأنه قال بمفهوم الخطاب وذكر شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتاب السير أنه ليس بحجة في خطابات الشرع وأما في مصطلح الناس وعرفهم فهو حجة وعكس ذلك بعض المتأخرين من الشافعية فقال هو حجة في كلام الله ورسوله وليس بحجة في كلام المصنفين وغيرهم كذا حكاه الزركشي . واختلف المثبتون للمفهوم في مواضع . أحدها : هل هو حجة من حيث اللغة أو الشرع ؟ وفي ذلك وجهان : للشافعية حكاهما الماوردي والروياني قال ابن السمعاني والصحيح أنه حجة من حيث اللغة وقال الفخر الرازي لا يدل على النفي بحسب اللغة لكنه يدل عليه بسحب العرف العام وذكر في المحصول في باب العموم أنه يدل عليه العقل . الموضع الثاني : اختلفوا أيضاً في تحقيق مقتضاه أنه هل يدل على نفي الحكم عما عدا المنطوق به مطلقاً سواء كان من جنس المثبت أو لم يكن أو تختص دلالته بما إذا كان من جنسه فإذا قال في الغنم السائمة الزكاة فهل نفى الزكاة عن المعلوفة مطلقاً سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو هو مختص بالمعلوفة من الغنم وفي ذلك وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد الإسفرائني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني والفخر الرازي قال الشيخ أبو حامد والصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فقط . قلت هو الصواب . الموضع الثالث : هل المفهوم المذكور يرتقي إلى أن يكون دليلاً قاطعاً أو لا يرتقي إلى ذلك قال إمام الحرمين الجويني إنه يكون قطعياً وقيل لا . الموضع الرابع : إذا دل الدليل على إخراج صورة من صور المفهوم فهل يسقط المفهوم بالكلية أو يتمسك في البقية ؟ وهذا يمشي على الخلاف في حجية العموم إذا خص وقد تقدم الكلام في ذلك . الموضع الخامس : هل يجب العمل به قيل البحث عما يوافقه أو يخالفه من منطوق أو مفهوم آخر ؟ فقيل حكمه حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص وحكى القفال الشاشي في ذلك وجهين : المسألة الثالثة : للقول بمفهوم المخالفة شروط : الأول : أن لا يعارضه ما هو أرجح منه من منطوق أو مفهوم موافقة وأما إذ عارضه قياس فلم يجوز القاضي أبو بكر الباقلاني ترك المفهوم به مع تجويزه ترك العموم بالقياس كذا قال ولا شك أن القياس المعمول به يخصص عموم المفهوم كما يخصص عموم المنطوق وإذا تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما وكان كل واحد منهما معمولاً به فالمجتهد لا يخفي عليه الراجح منهما من المرجوح وذلك يختلف باختلاف المقامات وبما يصاحب كل واحد منهما من القرائن المقوية له . قال شارح اللمع دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه كالنص والتنبيه فإن عارضه أحدهما سقط وإن عارضه عموم صح التعلق بعموم دليل الخطاب على الأصح وإن عارضه قياس جلي قدم القياس وأما الخفي فإن جعلناه حجة كالنطق قدم دليل الخطاب وإن جعلناه كالقياس فقد رأيت بعض أصحابنا يقدمون كثيراً القياس في كتب الخلاف والذي يقتضيه المذهب أنهما يتعارضان . الشرط الثاني : أن لا يكون المذكور قصد به الامتنان كقوله تعالى : لتأكلوا منه لحماً طرياً فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطري . الشرط الثالث : أن لا يكون المنطوق خرج جواباً عن سؤال متعلق بحكم خاص ولا حادثة خاصة بالمذكور هكذا قيل ولا وجه لذلك فإنه لا اعتبار بخصوص السبب ولا بخصوص السؤال وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك احتمالين قال الزركشي ولعل الفرق يعني عموم اللفظ وعموم المفهوم أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة بخلاف اللفظ العام . قلت وهذا فرق قوي لكنه إنما يتم في المفاهيم التي دلالتها ضعيفة أما المفاهيم التي دلالتها قوية قوة تلحقها بالدلالات اللفظية فلا . قال ومن أمثلته قوله تعالى : لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة فلا مفهوم للأضعاف لأنه جاء على النهي عما كانوا يتعاطونه بسبب الآجال كان الواحد منهم إذا حل دينه يقول إما أن تعطي وإما أن تربي فيتضاعف بذلك أصل دينه مراراً كثيرة فنزلت الآية على ذلك . الشرط الرابع : أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال كقوله صضص لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تحد الحديث فإن التقييد بالإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر لتفخيم الأمر . الشرط الخامس : أن يذكر مستقلاً فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد فإن قوله في المساجد لا مفهوم له لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقاً . الشرط السادس : أن لا يظهر من السياق قصد التعميم فإن ظهر فلا مفهوم له كقوله تعالى والله على كل شيء قدير للعلم بأن الله سبحانه قادر على المعدوم والممكن وليس بشيء فإن المقصود بقوله على كل شيء التعميم . الشرط السابع : أن لا يعود على أصله الذي هو المنطوق بالإبطال أما لو كانت كذلك فلا يعمل به . الشرط الثامن : أن لا يكون قد خرج مخرج الأغلب كقوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم فإن الغالب كون الربائب في الحجور فقيد به لذلك لا لأن حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة . المسألة الرابعة : في أنواع مفهوم المخالفة : النوع الأول : مفهوم الصفة ، وهي تعليق الحكم على الذات بأحد الأوصاف نحو في سائمة الغنم زكاة والمراد بالصفة عند الأصوليين تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر يختص ببعض معانيه ليس بشرط ولا غاية ولا يريدون به النعت فقط وهكذا عند أهل البيان فإن المراد بالصفة عندهم هي المعنوية لا النعت وإنما يخص الصفة بالنعت أهل النحو فقط وبمفهوم الصفة أخذ الجمهور وهو الحق لما هو معلوم من لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان فوصف بأحدهما دون الآخر كان المراد به ما فيه تلك الصفة دون الآخر ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وبعض الشافعية والمالكية إنه لا يؤخذ به ولا يعمل عليه ووافقهم من أئمة اللغة الأخفش ابن فارس وابن جني . وقال المازري من الشافعية بالتفصيل بين أن يقع ذلك جواب سائل فلا يعمل به وبين أن يقع ابتداء فيعمل به فإنه لا بد لتخصيصه بالذكر من موجب وفي جعل هذا التفصيل مذهباً مستقلاً نظر فإنه قد تقدم أن من شرط الأخذ بالمفهوم عند القائلين به أن لا يقع جواباً لسؤال . وقال أبو عبد الله البصري إنه حجة في ثلاث صور أن يرد مورد البيان كقوله في سائمة الغنم الزكاة أو مورد التعليم كقوله صضص في خبر التحالف والسلعة قائمة أو يكون ما عدا الصفة داخلاً تحت الصفة كالحكم بالشاهدين فإنه يدل على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد لأن الداخل تحت الشاهدين ولا يدل على نفي الحكم فيما سوى ذلك وقال إمام الحرمين الجويني بالتفصيل بين الوصف المناسب وغيره فقال بمفهوم الأول دون الثاني وعليه يحمل نقل الرازي عنه للمنع ونقل ابن الحاجب عنه للجواز ، وقد طول أهل الأصول الكلام على استدلال هؤلاء المختلفين لما قالوا به وليس في ذلك حجة واضحة لأن المبحث لغوي واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة وعملهم به معلوم لكل من له علم بذلك . النوع الثاني : مفهوم العلة وهو تعليق الحكم بالعلة نحو حرمت الخمر لإسكارها والفرق بين هذا النوع والنوع الأول أن الصفة قد تكون علة كالإسكار وقد لا تكون علة بل متممة كالسوم فإن الغنم هي العلة والسوم متمم لها قال القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والخلاف فيه وفي مفهوم الصفة واحد . النوع الثالث : مفهوم الشرط ، والشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه المشروط ولا يكون داخلاً في المشروط ولا مؤثراً فيه وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين إن أو إذا أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني وهذا هو الشرط اللغوي وهو المراد هنا لا الشرعي ولا العقلي وقد قال به القائلون بمفهوم الصفة ووافقهم على القول به بعض من خالف في مفهوم الصفة ولهذا نقله أبو الحسين السهيلي في آداب الجدل عن أكثر الحنفية . ونقله ابن القشيري عن معظم أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء وذهب أكثر المعتزلة كما نقله عنهم صاحب المحصول إلى المنع من الأخذ به ، ورجح المنع المحققون من الحنفية وروي عن أبي حنيفة ، ونقله ابن التلمساني عن مالك . واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والآمدي وقد بالغ إمام الحرمين في الرد على المانعين ولا ريب أنه قول مردود وكل ما جاؤوا به لا تقوم به الحجة والأخذ به معلوم من لغة العرب والشرع فإن من قال لغيره إن أكرمتني أكرمتك ومتى جئتني أعطيتك ونحو ذلك مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف بين كل من يفهم لغة العرب وإنكار ذلك مكابرة وأحسن ما يقال لمن أنكره عليك بتعلم لغة العرب فإن إنكارك لهذا يدل على أنك لا تعرفها . النوع الرابع : مفهوم العدد وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائداً كان أو ناقصاً وقد ذهب إليه الشافعي كما نقله عنه أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن أحمد بن حنبل وبه قال مالك وداود الظاهري وبه قال صاحب الهداية من الحنفية ومنع من العمل به المانعون بمفهوم الصفة . قال الشيخ أبو حامد وابن السمعاني وهو دليل كالصفة سواء . والحق ما ذهب إليه الأولون والعمل به معلوم من لغة العرب ومن الشرع فإن من أمر بأمر وقيده بعدد مخصوص فزاد المأمور على ذلك العدد أو نقص عنه فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص كان هذا الإنكار مقبولاً عند كل من يعرف لغة العرب . فإن ادعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به مع كونه نقص عنه أو زاد عليه كانت دعواه هذه مردودة عنه كل من يعرف لغة العرب . النوع الخامس : مفهوم الغاية وهو مد الحكم بإلى أو حتى وغاية الشيء آخره وإلى العمل به ذهب الجمهور وبه قال بعض من لم يعمل بمفهوم الشرط كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين قال ابن القشيري وإليه ذهب معظم نفاة المفهوم وكذا قال القاضي أبو بكر حاكياً لذلك . وحكى ابن برهان وصاحب المعتمد الاتفاق عليه قال سليم الرازي لم يختلف أهل العراق في ذلك وقال القاضي في التقريب صار معظم نفاة دليل الخطاب إلى أن التقييد بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية قال لهذا أجمعوا على تسميتها غاية وهذا من توقيف اللغة معلوم فكان بمنزلة قولهم تعليق الحكم بالغاية موضوع للدلالة على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها انتهى . ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحنفية والآمدي ولم يتمسكوا بشيء يصلح للتمسك به قط بل صمموا على منعه طرداً لباب المنع من العمل بالمفاهيم وليس ذلك بشيء . النوع السادس : مفهوم اللقب وهو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام زيد أو اسم النوع نحو في الغنم زكاة ولم يعمل به أحد إلا أبو بكر الدقاق كذا قيل ، وقال سليم الرازي في التقريب صار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا يعني الشافعية وكذا حكاه عن بعض الشافعية ابن فورك ثم قال وهو الأصح قال الكيا الطبري في التلويح إن ابن فورك كان يميل إليه وحكاه السهيلي في نتائج الفكر عن أبي بكر الصيرفي ونقله عبد العزيز في التحقيق عن أبي حامد المروزي . قال الزركشي والمعروف عن أبي حامد إنكار القول بالمفهوم مطلقاً وقال إمام الحرمين الجويني في البرهان وصار إليه الدقاق وصار إليه طوائف من أصحابنا ونقله أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد عن منصوص أحمد قال وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية انتهى . ونقل القول به عن ابن خوازمنداد والباجي وابن القصار ، وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص ، وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلاً آخر وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره . والحاصل أن القائل به كلاً أو بعضاً لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية ومعلوم من لسان العرب أن من قال رأيت زيداً لم يقتض أنه لم ير غيره قطعاً وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع . النوع السابع : مفهوم الحصر وهو أنواع أقواها : ما وإلا نحو : ما قام إلا زيد . وقد وقع الخلاف فيه هل هو من قبيل المنطوق أو المفهوم وبكونه منطوقاً جزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الملخص ورجحه القرافي في القواعد وذهب الجمهور إلى أنه من قبيل المفهوم وهو الراجح والعمل به معلوم من لغة العرب ولم يأت من لم يعمل به بحجة مقبولة . ثم الحصر بإنما وهو قريب مما قبله في القوة . قال الكيا الطبري وهو أقوى من مفهوم الغاية وقد نص عليه الشافعي في الأم وصرح هو وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي بما وإلا وذهب ابن سريج وأبو حامد المروزي أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل بما تضمنه من الاحتمال وقد وقع الخلاف هل هو منطوق أو مفهوم والحق أنه مفهوم وأنه معمول به كما يقتضيه لسان العرب ثم حصر المبتدأ في الخبر وذلك بأن يكون معرفاً باللام أو الإضافة نحو العالم زيد وصديقي عمرو فإنه يفيد الحصر إذ المراد بالعالم وبصديقي هو الجنس فيدل على العموم إذ لم تبن هناك قرينة تدل على العهد فهو يدل على نفي العلم من غير زيد ونفي الصداقة من غير عمرو وذلك أن الترتيب الطبيعي أن يقدم الموصوف علىالوصف فإذا قدم الوصف على الموصوف معرفاً باللام أو الإضافة أفاد العدول مع ذلك التعريف أن نفي ذلك الوصف عن غير الموصوف مقصود للمتكلم وقيل إنه يدل على ذلك بالمنطوق . والحق أن دلالته مفهومية لا منطوقية وإلى ذلك ذهب جماعة من الفقهاء والأصوليين ومنهم إمام الحرمين الجويني والغزالي وأنكره جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني والآمدي وبعض المتكلمين والكلام في تحقيق أنواع الحصر محرر في علم البيان وله صور غير ما ذكرناه هاهنا وقد تتبعتها من مؤلفاتهم ومن مثل كشاف الزمخشري وما هو على نمطه فوجدتها تزيد على خمسة عشر نوعاً وجمعت في تقرير ذلك بحثاً . النوع الثامن : مفهوم الحال أي تقييد الخطاب بالحال ، وقد عرفت أنه من جملة مفاهيم الصفة لأن المراد الصفة المعنوية لا النعت ، وإنما أفردناه بالذكر تكميلاً للفائدة . قال ابن السمعاني ولم يذكره المتأخرون لرجوعه إلى الصفة وقد ذكره سليم الرازي في التقريب و ابن فورك . النوع التاسع : مفهوم الزمان كقوله تعالى : الحج أشهر معلومات وقوله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وشيخه وهو في التحقيق داخل في مفهوم الصفة باعتبار متعلق الظرف المقدر كما تقرر في علم العربية . النوع العاشر : مفهوم المكان نحو جلست أمام زيد وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وفخر الدين الرازي ومن ذلك لو قال بع في مكان كذا فإنه يتعين وهو أيضاً راجع إلى مفهوم الصفة لما عرفت في النوع الذي قبله .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الباب التاسع من المقصد الرابع في النسخ
المسألة الأولى : في حده وهو في اللغة الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمس الظل والريح آثار القدم ومنه تناسخ القرون وعليه اقتصر العسكري ويطلق ويراد به النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومن قوله تعالى : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ومنه تناسخ المواريث ثم اختلفوا هل هو حقيقة في المعنيين أم في أحدهما دون الآخر فحكى الصفي الهندي عن الأكثرين أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل وقال القفال الشاشي إنه حقيقة في النقل . وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب والغزالي إنه حقيقة فيهما مشترك بينهما لفظاً لاستعماله فيهما ، وقال ابن المنبر في شرح البرهان إنه مشترك بينهما اشتراكاً معنوياً لأن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب مقداراً مشتركاً وهو الرفع وهو في الظل بين لأنه زال بضده وفي نسخ الكتاب متعذر من حيث إن الكلام المنسوخ بالكتابة لم يكن مستفاداً إلا من الأصل فكان للأصل بالإفادة خصوصية فإذا نسخ الأصل ارتفعت تلك الخصوصية وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع وقيل القدر المشترك بينهما هو التغيير وقد صرح به الجوهري . قال في المحصول فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنك تنقله إليه أو تنقل حكايته ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرناً بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً عن الأول فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة دفعاً للاشتراك وعليكم الترجيح . الجواب عن الأول من وجهين . أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين . فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس . وعن الثاني أنه النقل أخص من الزوال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة حصلت عقيبها صفة أخرى فإذا مطلق العدم أعم من عدم تحصل شيء آخر عقيبة وإذا اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في الخاص على ما تقدم تقريره في كتاب اللغات انتهى . وأما في الاصطلاح فقال جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني والصيرفي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والغزالي والآمدي وابن الأنباري وغيرهم هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه ، وإنما آثروا الخطاب على النص ليكون شاملاً للفظ والفحوى والمفهوم فإنه يجوز نسخ جميع ذلك . وقالوا الدال على ارتفاع الحكم ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم وقالوا بالخطاب المتقدم ليخرج إيجاب العبادات ابتداء فإنه يزيل حكم العقل ببراءة الذمة ولا يسمى نسخاً لأنه لم يزل حكم خطاب . وقالوا على وجه لولاه لكان ثابتاً لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رافعاً لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي . وقالوا مع تراخيه عنه لأنه لو اتصل لكان بياناً لمدة العبادة لا نسخاً . وقد اعترض على هذا الحد بوجوه . الأول : أن النسخ هو نفس الارتفاع والخطاب إنما هو دال على الارتفاع وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع . الثاني : أن التقييد بالخطاب خطأ لأن النسخ قد يكون فعلاً كما يكون قولاً . الثالث : أن الأمة إذا اختلفت على قولين ثم أجمعت بعد ذلك على أحدهما فهذا الإجماع خطاب مع أن الإجماع لا ينسخ به . الرابع : أن الحكم الأول قد يثبت بفعل النبي صضص وليس هو الخطاب . قال الرازي في المحصول والأولى أن يقال الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتاً بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً . وفيه أن قوله مثل الحكم الذي الخ يشمل ما كان مماثلاً له في وجه من الوجوه فلا يتم النسخ لحكم إلا برفع جميع المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلة عليه وقال الزركشي المختار في حده اصطلاحاً أنه رفع الحكم الشرعي بخطاب وفيه أن الناسخ قد يكون فعلاً لا خطاباً وفي أيضاً أنه أهمل تقييده بالتراخي ولا يكون نسخ إلا به . وقال ابن الحاجب في مختصر المنتهى إنه في الاصطلاح رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر . واعترض عليه بأن الحكم راجع إلى كلام الله سبحانه وهو قديم والقديم لا يرفع ولا يزول . وأجيب بأن المرفوع تعلق الحكم بالمكلف لا ذاته ولا تعلقه الذاتي . وقال جماعة هو في الاصطلاح الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي مع التأخير عن موارده ويرد على قيد الخطاب ما تقدم فالأولى أن يقال هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية : النسخ جائز عقلاً واقع سمعاً بلا خلاف في ذلك بين المسلمين إلا ما يروي عن أبي مسلم الأصفهاني فإنه قال أنه جائز غير واقع وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلاً فظيعاً وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية . وأما الجواز فلم يحك الخلاف فيه إلا عن اليهود وليس بنا إلى نصب الخلاف بيننا وبينهم حاجة ولا هذه بأول مسألة خالفوا فيها أحكام الإسلام حتى يذكر خلافهم في هذه المسألة ولكن هذا من غرائب أهل الأصول على أنا قد رأينا في التوراة في غير موضع أن الله سبحانه رفع عنهم أحكاماً لما تضرعوا إليه وسألوا منه رفعها وليس النسخ إلا هذا ولهذا لم يحكه من له معرفة بالشريعة الموسوية إلا عن طائفة من اليهود وهم الشمعونية ولم يذكروا لهم دليلاً إلا ما ذكره بعض أهل الأصول من أن النسخ بداء والبداء ممتنع عليه وهذا مدفوع بأن النسخ لا يستلزم البداء لا عقلاً ولا شرعاً وقد جوزت الرافضة البداء عليه عز وجل لجواز النسخ وهذه مقالة توجب الكفر بمجردها . والحاصل أن النسخ جائز عقلاً واقع شرعاً من غير فرق بين كونه في الكتاب أو السنة وقد حكى جماعة من أهل العلم اتفاق أهل الشرائع عليه فلم يبق في المقام ما يقتضي تطويل المرام . وقد أو لجماعة خلاف أبي مسلم الأصفهاني المذكور سابقاً بما يوجب أن يكون الخلاف لفظياً . قال ابن دقيق العيد نقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ لا بمعنى أن الحكم الثابت لا يرتفع بل بمعنى أنه ينتهي بنص دل على انتهائه فلا يكون نسخاً . ونقل عنه أبو إسحاق الشيرازي والفخر الرازي وسليم الرازي أنه إنما أنكر الجواز وأن خلافه في القرآن خاصة لا كما نقل عنه الآمدي وابن الحاجب أنه أنكر الوقوع . وعلى كلا التقديرين فذلك جهالة منه عظيمة للكتاب والسنة ولأحكام العقل فإنه إن اعترف بأن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع فهذا بمجرده يوجب عليه الرجوع عن قوله وإن كان لا يعلم ذلك فهو جاهل بما هو من الضروريات الدينية وإن كانا مخالفاً لكونها ناسخة للشرائع فهو خلاف كفري لا يلتفت إلى قائله . نعم إذا قال إن الشرائع المتقدمة مغياة بغاية هي البعثة المحدية وأن ذلك ليس بنسخ فذلك أخف من إنكار كونه نسخاً غير مقيد بهذا القيد . فإن قلت ما الحكمة في النسخ ؟ قلت قال الفخر الرازي في المطالب العالية إن الشرائع قسمان منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد ومنها سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع . فالأول يمتنع طروء النسخ عليه كمعرفة الله وطاعته أبداً ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله تعالى . قال الله تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا . والثاني : ما يمكن طريان النسخ والتبديل عليه وهو أمور تحصل في كيفية إقامة الطاعات الفعلية والعبادات الحقيقية وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا توطئوا عليها خلفاً عن سلف صارت كالعادة عند الخلق وظنوا أن أعيانها مطلوبة لذاتها ومنعهم ذلك عن الوصول إلى المقصود وعن معرفة الله وتمجيده فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من هذه الأنواع رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة انقطعت الأوهام من الاشتغال بتلك الظواهر إلى علام السرائر . وقيل الحكمة أن هذا الخلق طبع على الملالة من الشيء فوضع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا في أدائها . وقيل بيان شرف نبينا صضص فإنه نسخ بشريعته شرائعهم وشريعته لا ناسخ لها . وقيل الحكمة حفظ مصالح العبد فإذا كانت المصلحة لهم في تبديل حكم بحكم وشريعة بشريعة كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة . وقيل الحكمة بشارة المؤمنين برفع الخدمة عنهم وبأن رفع مؤنتها عنهم في الدنيا مؤذن برفعها في الجنة وذكر الشافعي في الرسالة أن فائدة النسخ رحمة الله بعبادة والتخفيف عنهم . وأورد عليه أنه قد يكون بأثقل ويجاب عنه بأن الرحمة قد تكون بالأثقل أكثر من الأخف لما يستلزمه من تكثير الثواب والله لا يضيع عمل عامل فتكثير الثواب في الأثقل يصيره خفيفاً على العامل يسيراً عليه لما يتصوره من جزالة الجزاء . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة : للنسخ شروط الأول أن يكون المنسوخ شرعياً لا عقلياً . الثاني أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخراً عنه فإن المقترن كالشرط والصفة والاستثناء لا يسمى نسخاً بل تخصيصاً . الثالث أن يكون النسخ بشرع فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخاً بل هو سقوط تكليف . الرابع أن لا يكون المنسوخ مقيداً بوقت أما لو كان كذلك فلا يكون انقضاء وقته الذي قيد به نسخاً له . الخامس أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا إذا كان دونه في القوة لأن الضعيف لا يزيل القوي . قال الكيا وهذا مما قضى به العقل بل دل الإجماع عليه فإن الصحابة لم ينسخوا نص القرآن بخبر الواحد وسيأتي لهذا الشرط مزيد بيان . السادس أن يكون المقتضى للمنسوخ غير المقتضى للناسخ حتى لا يلزم البداء كذا قيل . قال الكيا ولا يشترط بالاتفاق أن يكون اللفظ الناسخ متناولاً لما تناوله المنسوخ أعني بالتكرار والبقاء لا يمنع فهم البقاء بدليل آخر سوى اللفظ . السابع أن يكون مما يجوز نسخه فلا يدخل النسخ أصل التوحيد لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت . قال سليم الرازي وكل بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت قال سليم الرازي وكل ما لا يكون إلا على صفة واحدة كمعرفة الله ووحدانيته ونحوه فلا يدخله النسخ ومن هاهنا يعلم أنه لا نسخ في الأخبار إذ لا يتصور وقوعها على خلاف ما أخبر به الصادق وكذا قال الكيا الطبري وقال الضابط فيما ينسخ ما يتغير حاله من حسن إلى قبح . قال الزركشي واعلم أن في جواز نسخ الحكم المعلق بالتأبيد وجهين حكاهما الماوردي والروياني وغيرهما . أحدهما المنع لأن صريح التأييد مانع من احتمال النسخ . والثاني الجواز قالا وأنسبهما الجواز قال ونسبه ابن برهان إلى معظم العلماء ونسبه أبو الحسين في المعتمد إلى المحققين لأن العادة في لفظ التأبيد المستعمل في لفظ الأمر المبالغة لا الدوام .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة : اعلم أنه يجوز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به بلا خلاف قال الماوردي وسواء عمل به كل الناس كاستقبال بيت المقدس أو بعضهم كفرض الصدقة عند مناجاة الرسول ولا خلاف أيضاً في جواز النسخ بعد التمكين من الفعل الذي تعلق به الحكم بعد علمه بتكليفه به وذلك بأن يمضي من الوقت المعين ما يسع الفعل وقد حكى الخلاف في ذلك عن الكرخي وأما النسخ قبل علم المكلف بوجوب ذلك الفعل عليه كما إذا أمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن يعلم النبي صضص بوجوب شيء على الأمة ثم ينسخه قبل أن يعملوا به فحكى السمعاني في ذلك الاتفاق على المنع . قال الزركشي وليس كذلك ففي المسألة وجهان لأصحابنا حكاهما الأستاذ أبو منصور والكيا انتهى . ويرد على المنع ما ثبت في ليلة المعراج من فرض خمسين صلاة ثم استقرت على خمس ولا وجه لما قيل أن ذلك كان على سبيل التقرير دون النسخ قال ابن برهان في الوجيز نسخ الحكم قبل علم المكلف بوجوبه جائز عندنا ومنعت من ذلك المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة وزعموا أن النسخ قبل العلم يتضمن تكليف المحال . قال وهذه المسألة فرع تكليف ما لا يطاق فإذا قضينا بصحته صح النسخ حينئذ . قال واحتج علماؤنا في هذه المسألة بقصة المعارج فإن الله تعالى أوجب على الأمة خمسين صلاة ثم نسخها قبل علمهم بوجوبها وهذا لا حجة فيه لأن النسخ إنما كان بعد العلم فإن رسول الله صضص أحد المكلفين وقد علم ولكنه قبل جميع الأمة وعلم الجميع لا يشترط فإن التكليف استقر بعلم رسول الله صضص فلا اعتماد على هذا الحديث ، ويجاب عنه بأن عدم علم الأمة يقتضي وقوع النسخ قبل علم المكلفين بما كلفوا به وهو محل النزاع . وحكى القاضي أبو بكر وغيره عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن مثل هذا لا يكون نسخاً وقال بعض المتأخرين نسخ الحكم قبل علم المكلف بالحكم المنسوخ اتفقت الأشاعرة على جوازه والمعتزلة على منعه . وحكى الفقهاء في المسألة طريقين : أحدهما أن للشافعي في المسألة قولين والثاني الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام التعريفية فمنعوه في الأول وجوزوه في الثاني كتكليف الغافل وهو مذهب أبي حنيفة انتهى . وأما إذا كان المكلف قد علم بوجوبه عليه ولكن لم يكن قد دخل وقته وسواء كان موسعاً كما لو قال اقتلوا المشركين غداً ثم نسخ عنهم في ذلك اليوم أو يكون على الفور ثم نسخ قبل التمكن من الفعل أو يؤمر بالعبادة مطلقاً ثم نسخ قبل مضي وقت يمكن فعلها فيه فذهب الجمهور إلى الجواز ونقله ابن برهان عن الأشعرية وجماعة من الحنفية ونقله غيرهم عن معتزلة البصرة قال القاضي في التقريب وهو قول جميع أهل الحق ، وذهب أكثر الحنفية كما قاله ابن السمعاني والحنابلة والمعتزلة إلى المنع وبه قال الكرخي والجصاص والماتريدي والدبوسي والصيرفي ، احتج الجمهور بأنه لا مانع من ذلك لا عقلاً ولا شرعاً مع أن المقتضى موجود وهو أنه رفع تكليف قد ثبت على المكلف فكان نسخاً وليس في ذلك ما يستلزم البداء ولا المحال لأن المصلحة التي جاز النسخ لأجلها بعد التمكن من الفعل وبعد دخول الوقت يصح اعتبارها قبل التمكن من الفعل وقبل دخول الوقت للقطع بأن تبديل حكم بحكم ورفع شرع بشرع كان فيهما وأما إذا كان قد دخل وقت المأمور به لكن وقع نسخه قبل فعله إما لكونه موسعاً أو لكونه أراد أن يشرع فيه فنسخ فقال سليم الرازي وابن الصباغ إنه لا خلاف بين أهل العلم في جوازه وجعلوا صورة الخلاف فيما إذا كان النسخ قبل دخول الوقت وكذا نقل الإجماع في هذه الصورة ابن برهان وبعض الحنابلة والآمدي وبه صرح إمام الحرمين في البرهان وأما إذا كان قد دخل وقته وشرع في فعله فنسخ قبل تمام الفعل فقال القرافي لم أر فيه نقلاً وجعلها الأصفهاني في شرح المحصول من صور الخلاف فمن قال بالجواز جوز هذه الصورة ومن قال بالمنع منعها ، وأما إذا وقع النسخ بعد خروج الوقت قبل الفعل قال الزركشي فمقتضى استدلال ابن الحاجب أنه يمتنع بالاتفاق ووجهه بأن التكليف بذلك الفعل المأمور به بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء الوقت وإذا انتفى فلا يمكن رفعه لامتناع رفع المعدوم لكن صرح الآمدي في الأحكام بالجواز وأنه لا خلاف فيه قيل ولا يتأتى إلا إذا صرح بوجوب القضاء أو على القول بأن الأمر بالأداء يستلزم القضاء . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة : إنه لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل وإليه ذهب الجمهور وهو الحق الذي لا سترة به فإنه قد وقع النسخ في هذه الشريعة المطهرة لأمور معروفة لا إلى بدل ، ومن ذلك نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول ونسخ ادخار لحوم الأضاحي ونسخ تحريم المباشرة بقوله سبحانه : فالآن باشروهن ونسخ قيام الليل في حقه صضص ، وأما ما تمسك به المخالفون وهم بعض المعتزلة وقيل كلهم والظاهرية من قوله سبحانه : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فلا دلالة في ذلك على محل النزاع فإن المراد نسخ لفظ الآية كما يدل على ذلك قوله : نأت بخير منها أو مثلها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية ولو سلمنا لجاز أن يقال إن إسقاط ذلك الحكم خير من ثبوته في ذلك الوقت وقد نص الشافعي في الرسالة على أنه يختار ما ذهب إليه القائلون باشتراط البدل فقال وليس ينسخ فرض أبداً إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة قال وكل منسوخ في كتاب الله وسنته صضص هكذا . قال الصيرفي وأبو إسحاق إنما أراد الشافعي بهذه العبارة أنه ينقل من حظر إلى إباحة من إباحة إلى حظر أو يخبر على حسب أحوال المفروض كما في المناجاة فإنه كان يناجي النبي صضص بلا تقديم صدقة ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم على ما كانوا عليه وهذا الحمل هو الذي ينبغي تفسير كلام الشافعي به فإن مثله لا يخفي عليه وقوع النسخ في هذه الشريعة بلا بدل ولا شك في أنه يجوز ارتفاع التكليف بالشيء والنسخ مثله لأنه رفع تكليف ولم يمنع من ذلك شرع ولا عقل بل دل الدليل على الوقوع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة : النسخ إلى بدل يقع على وجوه الأول أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في التخفيف والتغليظ وهذا لا خلاف فيه وذلك كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة . الثاني : نسخ الأغلظ بالأخف وهو أيضاً مما لا خلاف فيه وذلك كنسخ العدة حولاً بالعدة أربعة أشهر وعشراً . الثالث : نسخ الأخف إلى الأغلظ فذهب الجمهور إلى جوازه خلافاً للظاهرية والحق الجواز والوقوع كما في نسخ وضع القتال في أول الإسلام بفرضه بعد ذلك ونسخ التخيير بين الصوم والفدية بفرضية الصوم . ونسخ تحليل الخمر بتحريمها . ونسخ نكاح المتعة بعد تجويزها . ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان . واستدل المانعون بقوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وبقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وأجيب بأن المراد اليسر في الآخرة وهذا الجواب وإن كان بعيداً لكن وقوع النسخ في هذه الشريعة للأخف بالأغلظ يوجب تأويل الآية ولو بتأويل بعيد على أنه يمكن أن يقال إن الناسخ والمنسوخ هما من اليسر والأغلظية في الناسخ إنما هي بالنسبة إلى المنسوخ وهو بالنسبة إلى غيره تخفيف ويسر . وأما الجواب عن الآية الثانية فظاهر لأن الناسخ الأغلظ ثوابه أكثر فهو خير من المنسوخ من هذه الحيثية . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة : في جواز نسخ الأخبار وفيه تفصيل وهو أن يقال إن كان خبراً عما لا يجوز تغيره . كقولنا العالم حادث فهذا لا يجوز نسخه بحال ، وإن كان خبراً عما يجوز تغيره فإما أن يكون ماضياً أو مستقبلاً والمستقبل إما أن يكون وعداً أو وعيداً أو خبراً عن حكم كالخبر عن وجوب الحج فذهب الجمهور إلى جواز النسخ لهذا الخبر بجميع هذه الأقسام . وقال أبو علي وأبو هاشم لا يجوز النسخ لشيء منها قال في المحصول وهو قول أكثر المتقدمين ، استدل الجمهور على الجواز أن الخبر إن كان عن أمر ماض كقوله عمرت نوحاً ألف سنة جاز أن يبين من بعد أنه عمره ألف سنة إلا خمسين عاماً وإن كان مستقبلاً وكان وعداً أو وعيداً كقوله لأعذبن الزاني أبدا فيجوز أن يبين من بعد أنه أراد ألف سنة وإن كان خبراً عن حكم الفعل في المستقبل كان الخبر كالأمر في تناوله الأوقات المستقبلة فصح إطلاق الكل مع إرادة البعض لما تناوله بموضوعه . قال الزركشي إن كان مدلول الخبر مما لا يمكن تغيره بأن لا يقع إلا على وجه واحد كصفات الله وخبر ما كان من الأنبياء والأمم وما يكون من الساعة وآياتها كخروج الدجال فلا يجوز نسخه بالاتفاق كما قاله أبو إسحاق المروزي وابن برهان في الأوسط لأنه يفضي إلى الكذب وإن كان مما يصح تغيره بأن يقع على الوجه المخبر عنه ماضياً كان أو مستقبلاً وعداً أو وعيداً أو خبراً عن حكم شرعي فهو موضوع الخلاف فذهب أبو عبد الله وأبو الحسين البصريان وعبد الجبار والفخر الرازي إلى جوازه مطلقاً ونسبه ابن برهان في الأوسط إلى المعظم وذهب جماعة إلى المنع منهم أبو بكر الصيرفي كما رأيته في كتابه وأبو إسحاق المروزي كما رأيته في كتابه في الناسخ والمنسوخ والقاضي أبو بكر وعبد الوهاب والجبائي وابنه أبو هاشم وابن السمعاني وابن الحاجب وقال الأصفهاني إنه الحق ومنهم من فصل ومنع من الماضي لأنه يكون تكذيباً دون المستقبل لجريانه مجرى الأمر والنهي فيجوز أن يرفع لأن الكذب يختص بالماضي ولا يتعلق بالمستقبل ، قال الشافعي لا يجب الوفاء بالوعد وإنما يسمى من لم يف بالوعد مخلفاً لا كاذباً وهذا التفصيل جزم به سليم وجرى عليه البيضاوي في المنهاج وسبقهما إليه أبو الحسين بن القطان . أقول والحق منعه في الماضي مطلقاً وفي بعض المستقبل وهو الخبر بالوعد لا بالوعيد ولا بالتكليف أما التكليف فظاهر لأنه رفع حكم عن مكلف وأما بالوعيد فلكونه عفواً لا يمتنع من الله سبحانه بل هو حسن يمدح فاعله من غيره ويمتدح به في نفسه وأما الماضي فهو كذب صراح إلا أن يتضمن تخصيصاً أو تقييداً أو تبييناً لما تضمنه الخبر الماضي فليس بذلك بأس ، وهذه المسألة لها إلمام بمسألة الحسن والقبح المتقدم ذكرها في بعض أطرافها دون بعض ، وقد استدل المانعون مطلقاً باستلزام ذلك الكذب وهو استدلال باطل فإن ذلك الاستلزام إنما هو في بعض الصور كما عرفت لا في كلها وقد نقل أبو الحسين في المعتمد عن شيوخ المعتزلة منع النسخ في الوعد والوعيد . قال الزركشي وأما عندنا فكذلك في الوعد لأنه إخلاف والخلف في الأنعام يستحيل على الله وبه صرح الصيرفي في كتابه وأما في الوعيد فنسخه جائز كما قال ابن السمعاني قال ولا يعد ذلك خلفاً بل عفواً وكرماً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة : في نسخ التلاوة دون الحكم والعكس ونسخهما معاً وقد جعل أبو إسحاق المروزي وابن السمعاني وغيرهما ذلك ستة أقسام : الأول : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ونسخ العدة حولاً بالعدة أربعة أشهر وعشراً فالمنسوخ ثابت التلاوة والحكم وإلى جواز ذلك ذهب الجمهور بل ادعى بعضهم الإجماع عليه ، وقد حكى جماعة من الحنفية والحنابلة عدم الجواز عن بعض أهل الأصول قالوا لأنه إذا انتفى الحكم فلا فائدة في التلاوة وهذا قصور عن معرفة الشريعة وجهل كبير بالكتاب العزيز فإن المنسوخ حكمه الباقية تلاوته في الكتاب العزيز مما لا ينكره من له أدنى قدم في العلم . الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه وثبت حكم الناسخ ورسمه كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة ونسخ صيام عاشوراء بصيام رمضان قال أبو إسحاق المروزي ومنهم من جعل القبلة من نسخ السنة بالقرآن وزعم أن استقبال بيت المقدس بالسنة لا بالقرآن . الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه كقوله تعالى : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا بقوله تعالى : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله وقد ثبت في الصحيح أن هذا كان قرآناً يتلى ثم نسخ لفظه وبقي حكمه . الرابع : ما نسخ حكمه ورسمه ونسخ رسم الناسخ وبقي حكمه كما ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل عشر رضعات متتابعات يحرمن فنسخن بخمس رضعات فتوفي رسول الله صضص وهن فيما يتلى من القرآن . قال البيهقي فالعشر مما نسخ رسمه حكمه والخمس مما نسخ رسمه وبقي حكمه بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسماً وحكمها باق عندهم . قال ابن السمعاني وقولها وهن مما يتلى من القرآن بمعنى أنه يتلى حكمها دون لفظها وقال البيهقي المعنى أنه يتلوه من لم يبلغه نسخ تلاوته ، ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه وبه جزم شمس الأئمة السرخسي لأن الحكم لا يثبت بدون دليله ولا وجه لذلك فإن الدليل ثابت موجود محفوظ ونسخ كونه قرآناً لا يستلزم عدم وجوده ولهذا رواه الثقات في مؤلفاتهم . الخامس : ما نسخ رسمه لا حكمه ولا يعلم الناسخ له وذلك كما ثبت في الصحيح . لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب فإن هذا كان قرآناً ثم نسخ رسمه . قال ابن عبد البر في التمهيد قيل إنه في سورة ص وكما ثبت في الصحيح أيضاً أنه نزل في القرآن حكاية عن أهل بئر معونة أنهم قالوا بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا وكما أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث زر بن جبيش عن أبي بن كعب عن النبي صضص قرأ عليه لم يكن الذين كفروا وقرأ فيها أن ذات الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيراً فلن يكفر قال الحاكم صحيح الإسناد فهذا مما نسخ لفظه وبقي معناه وعده ابن عبد البر في التمهيد مما نسخ خطه وحكمه وحفظه قال ومنه قول من قال إن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة . السادس : ناسخ صار منسوخاً وليس بينهما لفظ متلو كالمواريث بالحلف والنصرة فإنه نسخ التوارث بالإسلام والهجرة ونسخ التوارث بالإسلام والهجرة بآية المواريث قال ابن السمعاني وعندي أن القسمين الأخيرين تكلف وليس يتحقق فيهما النسخ وجعل أبو إسحاق المروزي التوريث بالهجرة من قسم ما علم أنه منسوخ ولم يعلم ناسخه . والحاصل أن نسخ التلاوة دون الحكم أو الحكم دون التلاوة أو نسخهما معاً لم يمنع منه مانع شرعي ولا عقلي فلا وجه للمنع منه لأن جواز تلاوة الآية حكم من أحكامها وما تدل عليه الأحكام حكم آخر لها ولا تلازم بينهما وإذا ثبت ذلك فيجوز نسخهما ونسخ أحدهما كسائر الأحكام المتباينة ولنا أيضاً الوقوع وهو دليل الجواز كما عرفت مما أوردناه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة : لا خلاف في جواز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة وجواز نسخ الآحاد بالآحاد ونسخ الآحاد بالمتواتر وأما نسخ القرآن أو المتواتر من السنة بالآحاد فقد وقع الخلاف في ذلك في الجواز والوقوع . أما الجواز عقلاً فقال به الأكثرون وحكاه سليم الرازي عن الأشعرية والمعتزلة ونقل ابن برهان في الأوسط الاتفاق عليه . فقال لا يستحيل عقلاً نسخ الكتاب بخبر الواحد بلا خلاف وإنما الخلاف في جوازه شرعاً . وأما الوقوع فذهب الجمهور كما حكاه ابن برهان وابن الحاجب وغيرهما إلى أنه غير واقع ونقل ابن السمعاني وسليم في التقريب الإجماع على عدم وقوعه وهكذا حكى الإجماع القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وذهب جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم إلى وقوعه وهي رواية عن أحمد وذهب القاضي في التقريب والغزالي وأبو الوليد الباجي والقرطبي إلى التفصيل بين زمان النبي صضص وما بعده فقالوا بوقوعه في زمانه . احتج المانعون بأن الثابت قطعاً لا ينسخه مظنون ، واستدل القائلون بالوقوع بما ثبت من أن أهل قباء لما سمعوا مناديه صضص وهم في الصلاة يقول ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صضص . وأجيب بأنهم علموا بالقرائن واستدل أيضاً القائلون بالوقوع بأنه صضص كان يرسل رسله لتبليغ الأحكام وكانوا يبلغون الأحكام المبتدأة وناسخها . ومن الوقوع نسخ قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الأية بنهيه صضص عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهو آحاد . وأجيب بأن المعنى لا أجد الآن والتحريم وقع في المستقبل . ومن الوقوع نسخ نكاح المتعة بالنهي عنها وهو آحاد ونحو ذلك كثير . ومما يرشدك إلى جواز النسخ بما صح من الآحاد لما هو أقوى متناً أو دلالة منها أن الناسخ في الحقيقة إنما رافعاً لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه وذلك ظني وإن كان دليله قطعياً فالمنسوخ إنما هو هذا الظني لا ذلك القطعي فتأمل هذا . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة العاشرة : يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة عند الجمهور كما حكى ذلك عنهم أبو الطيب الطبري وابن برهان وابن الحاجب قال ابن فورك في شرح مقالات الأشعري وإليه ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري وكان يقول إن ذلك وجد في قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين فإنه منسوخ بالسنة المتواترة ، وهي قوله لا وصية لوارث لأنه لا يمكن أن يجمع بينهما . قال ابن السمعاني وهو مذهب أبي حنيفة وعامة المتكلمين وقال سليم الرازي وهو قول أهل العراق قال وهو مذهب الأشعري والمعتزلة وسائر المتكلمين قال الدبوسي هو قول علمائنا يعني الحنفية قال الباجي قال به عامة شيوخنا وحكاه ابن الفرج عن مالك قال ولهذا لا تجوز عنده الوصية للوارث للحديث فهو ناسخ لقوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية . وذهب الشافعي في عامة كتبه كما قال ابن السمعاني إلى أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وإن كانت متواترة وبه جزم الصيرفي والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية وقال الأستاذ أبو منصور أجمع أصحاب الشافعي على المنع وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز ثم اختلف المانعون فمنهم من منعه عقلاً وشرعاً ومنهم من منعه شرعاً لا عقلاً . واستدل على ذلك بقوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها الآية قالوا ولا تكون السنة خيراً من القرآن ومثله قالوا ولم نجد في القرآن آية منسوخة بالسنة . وقد استنكر جماعة من العلماء ما ذهب إليه الشافعي من المنع حتى قال الكيا الهراس : هفوات الكبار على أقدراهم ومن عد خطؤه عظم قدره قال وقد كان عبد الجبار كثيراً ما ينظر مذهب الشافعي في الأصول والفروع فلما وصل إلى هذا الموضع قال هذا الرجل كبير ولكن الحق أكبر منه قال ولم نعلم أحداً منع من جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد عقلاً فضلاً عن المتواتر فلعله يقول دل عرف الشرع على المنع منه وإذا لم يدل قاطع من السمع توقفنا وإلا فمن الذي يقول إنه عليه السلام لا يحكم بقوله في نسخ ما ثبت في الكتاب وإن هذا مستحيل في العقل . والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه وأول من أخرجه قالوا لا بد أن يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها انتهى . ولا يخفاك أن السنة شرع من الله عز وجل كما أن الكتاب شرع منه سبحانه وقد قال ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وأمر سبحانه باتباع رسوله في غير موضع في القرآن فهذا بمجرده يدل على أن السنة الثابتة عنه ثبوتاً على حد ثبوت الكتاب العزيز حكمها حكم القرآن في النسخ وغيره وليس في العقل ما يمنع من ذلك ولا في الشرع ، وقوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ليس فيه إلا ما يجعله الله منسوخاً من الآيات القرآنية سيبدله بما هو خير منه أو بما هو مثله للمكلفين وما أتانا على لسان رسوله فهو كما أتانا منه كما قال سبحانه : إن هو إلا وحي يوحى وكما قال قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي قال أبو منصور البغدادي لم يرد الشافعي مطلق السنة بل أراد السنة المنقولة آحاداً واكتفى بهذا الإطلاق لأن الغالب في السنة الآحاد ، قال الزركشي في البحر والصواب أن مقصود الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له وهو تعظيم عظيم وأدب مع الكتاب والسنة وفهم لموقع أحدهما من الآخر وكل من تكلم في هذه المسألة لم يقع على مراد الشافعي بل فهموا خلاف مراده حتى غلظوه وأولوه انتهى . ومن جملة ما قيل إن السنة فيه نسخت القرآن الآية المتقدمة أعني قوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية وقوله وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار وقوله قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية فإنها منسوخة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وقوله حرمت عليكم الميتة فإنها منسوخة بأحاديث الدباغ على نزاع طويل في كون ما في هذه الآيات منسوخاً بالسنة . وأما نسخ السنة بالقرآن ، فذلك جائز عند الجمهور وبه قال بعض من منع من نسخ القرآن بالسنة وللشافعي في ذلك قولان حكاهما القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وإمام الحرمين وصححوا جميعاً الجواز قال ابن برهان هو قول المعظم وقال سليم هو قول عامة المتكلمين والفقهاء ، وقال السمعاني إنه الأولى بالحق وجزم به الصيرفي ولا وجه للمنع قط ولم يأت في ذلك ما يتشبث به المانع لا من عقل ولا من شرع بل ورد في الشرع نسخ السنة بالقرآن في غير موضع ، فمن ذلك قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية كذلك نسخ صلحه صضص لقريش على أن يرد لهم النساء بقوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار ونسخ تحليل الخمر بقوله تعالى : إنما الخمر والميسر الآية ونسخ تحريم المباشرة بقوله تعالى : فالآن باشروهن ونسخ صوم يوم عاشوراء بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه ونحو ذلك مما يكثر تعداده .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الحادية عشرة : ذهب الجمهور إلى أن الفعل من السنة ينسخ القول كما أن القول ينسخ الفعل وحكى الماوردي والروياني عن ظاهر قول الشافعي أن القول لا ينسخ إلا بالقول وأن الفعل لا ينسخ إلا بالفعل ولا وجه لذلك فالكل سنة وشرع ، ولا يخالف في ذلك الشافعي ولا غيره وإذا كان كل واحد منهما شرعاً ثابتاً عن رسول الله صضص فلا وجه للمنع من نسخ أحدهما بالآخر ولا سيما وقد وقع ذلك في السنة كثيراً . ومنه قوله صضص في السارق فإن عاد في الخامسة فاقتلوه ثم رفع إليه سارق في الخامسة فلم يقتله فكان هذا الترك ناسخاً للقول ، وقال الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ثم رجم ماعزا ولم يجلده فكان ذلك ناسخاً لجلد من ثبت عليه الرجم ، ومنه ما ثبت في الصحيح من قيامه صضص للجنازة ، ثم ترك ذلك فكان نسخاً وثبت عنه صضص صلوا كما رأيتموني أصلي ثم فعل غير ما كان يفعله وترك بعض ما كان يفعله فكان ذلك نسخاً وهذا كثير في السنة لمن تتبعه ، ولم يأت المانع بدليل يدل على ذلك لا من عقل ولا من شرع وقد تابع الشافعي في المنع من نسخ الأقوال بالأفعال ابن عقيل من الحنابلة ، وقال الشيء إنا ينسخ بمثله أو بأقوى منه يعني والقول أقوى من الفعل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية عشرة : الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به عند الجمهور إما كونه لا ينسخ فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة رسول الله صضص والنسخ لا يكون بعد موته وأما في حياته فالإجماع لا ينعقد بدونه بل يكون قولهم المخالف لقوله لغواً باطلاً لا يعتد به ولا يلتفت إليه وقولهما الموافق بعد لا اعتبار به بل الاعتبار بقوله وحده والحجة فيه لا في غيره . فإذا عرفت هذا علمت أن الإجماع لا ينعقد إلا بعد أيام النبوة وبعد أيام النبوة قد انقطع الكتاب والسنة فلا يمكن أن يكون الناسخ منهما ولا يمكن أن يكون الناسخ للإجماع إجماعاً آخر لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فذلك يستلزم أن يكون الإجماع الأول خطأ والإجماع لا يكون خطأ فبهذا يستحيل أن يكون الإجماع ناسخاً أو منسوخاً ولا يصلح أيضاً أن يكون الإجماع منسوخاً بالقياس لأن من شرط العمل به أن لا يكون مخالفاً للإجماع . وقد استدل من جوز ذلك بما قيل من أن الأمة إذا اختلفت على قولين فهو إجماع على أن المسألة اجتهادية يجوز الأخذ بكليهما ثم يجوز إجماعهم على أحد القولين كما مر في الإجماع فإذا أجمعوا بطل الجواز الذي هو مقتضى ذلك الإجماع وهذا هو النسخ . وأجب بأنا لا نسلم ذلك لوقوع الخلاف فيه كما تقدم ولو سلم فلا يكون نسخاً لما تقدم من أن الإجماع الأول مشروط بعدم الإجماع الثاني وقال الشريف المرتضى إن دلالة الإجماع مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده . قال فالأقرب أن يقال إن الأمة أجمعت على أن ما ثبت بالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به أي لا يقع ذلك لا أنه غير جائز ولا يلتفت إلى قول عسى بن أبان إن الإجماع ناسخ لما وردت به السنة من وجوب الغسل من غسل الميت انتهى . قال الصيرفي ليس للإجماع حظ في نسخ الشرع لأنهم لا يشرعون ولكن إجماعهم يدل على الغلط في الخبر أو رفع حكمه لا أنهم رفعوا الحكم وإنما هم أتباع لما أمروا به ، وقال بعض الحنابلة يجوز النسخ بالإجماع لكن لا بنفسه بل بسنده فإذا رأينا متناً صحيحاً والإجماع بخلافه استدللنا بذلك على نسخ وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ وإلا لما خالفوه . وقال ابن حزم جوز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح والإجماع على خلافه قال وذلك دليل على أنه منسوخ قال وهذا عندنا غلط فاحش لأن ذلك معدوم لقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكلام الرسول وحي محفوظ انتهى . وممن جوز كون الإجماع ناسخاً الحافظ البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه ومثله بحديث الوادي الذي في الصحيح حين نام رسول الله صضص فما أيقظهم إلا حر الشمس ، وقال في آخره فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد للوقت قال فإعادة الصلاة المنسية بعد قضائها حال الذكر وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين لا يجب ولا يستحب .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة عشرة : ذهب الجمهور إلى أن القياس لا يكون ناسخاً ونقله القاضي أبو بكر في التقريب عن الفقهاء والأصوليين قالوا لا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس لأن القياس يستعمل مع عدم النص فلا يجوز أن ينسخ النص ولأنه دليل محتمل والنسخ يكون بأمر مقطوع ولأن شرط القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه ولأنه إن عارض نصاً أو إجماعاً فالقياس فاسد الوضع وإن عارض قياساً آخر فتلك المعارضة إن كانت بين أصلي القياس فهذا يتصور فيه النسخ قطعاً إذ هو من باب نسخ النصوص وإن كانت بين العلتين فهو من باب المعارضة في الأصل والفرع لا من باب القياس . قال الصيرفي لا يقع النسخ إلا بدليل توقيفي ولا حظ للقياس فيه أصلاً . وحكى القاضي أبو بكر عن بعضهم أن القياس ينسخ به المتواتر ونص القرآن ، وحكى عن آخرين أنه مما ينسخ به أخبار الآحاد فقط ، وحكى الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي إذا كانت علته منصوصة لا مستنبطة . وجعل الهندي محل الخلاف في حياة الرسول صضص وأما بعده فلا ينسخ به الاتفاق ، وأما كونه منسوخاً فلا شك أن القياس يكون منسوخاً بنسخ أصله وهل يصح نسخه مع بقاء أصله في ذلك خلاف الحق منعه وبه قال قوم من الأصوليين . وقال آخرون إنه يجوز نسخه في زمن الرسول بالكتاب والسنة والقياس وأما بعد موته فلا ورجحه صاحب المحصول وجماعة من الشافعية .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة عشرة : في نسخ المفهوم وقد تقدم تقسيمه إلى مفهوم مخالفة ومفهوم موافقة : أما مفهوم المخالفة فيجوز ذلك مع نسخ أصله وذلك ظاهر ويجوز نسخه بدون نسخ أصله وذلك كقوله صضص الماء من الماء فإنه نسخ مفهومه بما ثبت من قوله صضص إذا قعد بين شعبها الأربع وجدها فقد وجب الغسل وفي لفظ إذا لاقى الختان الختان فهذا نسخ مفهوم الماء من الماء وبقي منطوقه محكماً غير منسوخ لأن الغسل واجب من الإنزال بلا خلاف . وأما النسخ الأصل دون المفهوم ففي جوازه احتمالان ذكرهما الصفي الهندي قال والأظهر أنه لا يجوز . قال سليم الرازي في التقريب من أصحابنا من قال يجوز أن يسقط اللفظ ويبقى دليل الخطاب والمذهب أنه لا يجوز ذلك لأن الدليل إنما هو تابع للفظ يستحيل أن يسقط الأصل ويكون الفرع باقياً . وأما مفهوم الموافقة فاختلفوا هل يجوز نسخه وللنسخ به أم لا أما جواز النسخ به فجزم القاضي بجوازه في التقريب وقال لا فرق في جواز النسخ بما اقتضاه نص الكتاب وظاهره جوازه بما اقتضاه فحواه ولحنه ومفهومه وما أوجبه العموم ودليل الخطاب عند مثبتها لأنه كالنص أو أقوى منه انتهى . وكذا جزم بذلك ابن السمعاني قال لأنه مثل النطق وأقوى ونقل الآمدي والفخر الرازي الاتفاق على أنه ينسخ به ما ينسخ بمنطوقه قال الرزكشي في البحر وهو عجيب فإن في المسألة وجهين لأصحابنا وغيرهم حكاهما الماوردي في الحاوي والشيخ أبو إسحاق في اللمع و سليم الرازي وصححوا المنع و الماوردي نقله عن الأكثرين قال لأن القياس فرع النص الذي هو أقوى فلا يجوز أن يكون ناسخاً له . قال والثاني وهو اختيار ابن أبي هريرة وجماعة الجواز وأما جواز نسخه فهو ينقسم إلى قسمين : الأول أن ينسخ مع بقاء أصله ، والثاني أن ينسخ تبعاً لأصله ولا شك في جواز الثاني وأما الأول فقد اختلف فيه الأصوليون على قولين : أحدهما : الجواز وبه قال أكثر المتكلمين وجعلوه مع أصله كالنصين يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر ونقله سليم عن الأشعري وغيره من المتكلمين بناء على أصلهم أن ذلك مستفاد من اللفظ فكانا بمنزلة لفظين فجاز نسخ أحدهما مع بقاء حكم الآخر . القول الثاني : المنع وصححه سليم الرازي وجزم به الروياني والماوردي ونقله ابن السمعاني عن أكثر الفقهاء لأن ثبوت لفظه موجب لفحواه مفهومه فلم يجز نسخ الفحوى مع بقاء موجبه كما لا ينسخ القياس مع بقاء أصله ، وذهب بعض المتأخرين إلى التفصيل فقال إن كان علة المنطوق لا تحتمل النقص جاز كما لو قال لغلامه لا تعط زيداً درهماً قاصداً بذلك حرمانه ثم يقول أعطه أكثر من درهم ولا تعطه درهماً لاحتمال أنه انتقل من علة حرمانه إلى علة مواساته . وهذا التفصيل قوي جداً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة عشرة : في الزيادة على النص هل تكون نسخاً لحكم النص أم لا وذلك يختلف باختلاف الصور فالزائد إما أن يكون مستقلاً بنفسه أولاً . الأول : المستقل إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة علىالصلاة فليس بناسخ لما تقدم من العبادات بلا خلاف . قال في المحصول اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا تكون نسخاً للعبادات انتهى . ومعلوم أنه لا يخالف في مثل هذا أحد من أهل الإسلام لعدم التنافي وأما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور وذهب بعض أهل العراق إلى أنها تكون نسخاً لحكم المزيد عليه كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى لأنها تجعلها غير الوسطى . وهو قول باطل لا دليل عليه ولا شبهة دليل فإن الوسطى ليس المراد بها المتوسطة في العدد بل يراد بها الفاضلة ولو سلمنا أن المراد بها المتوسطة في العدد لم تكن تلك الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليه فقد علم توسطها عند نزول الآية وصارت مستحقة لذلك الوصف وإن خرجت عن كونها وسطى . قال القاضي عبد الجبار ويلزمهم زيادة عبادة على العبادة الأخيرة لأن هذه المزيدة تصير أخيرة وتجعل تلك التي كانت أخيرة غير أخيرة وهو خلاف الإجماع وألزمهم صاحب المحصول بأنه لو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك العدد فيكون نسخاً يعني وهو خلاف الإجماع . الثاني : الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات وزيادة التغريب على الجلد وزيادة وصف الرقبة بالإيمان وقد اختلفوا فيه على أقوال : الأول : أن ذلك لا يكون نسخاً مطلقاً وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم ومن المعتزلة علي وأبو هاشم سواء اتصلت بالمزيد عليه أولاً ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من أجزاء المزيد عليه بدونها أو غير مانعة . الثاني : أنها نسخ وهو قول الحنفية قال شمس الأئمة السرخسي وسواء كانت الزيادة في السبب أو في الحكم . قال ابن السمعاني أما أصحاب أبي حنيفة فقالوا إن الزيادة على النص بعد استقرار حكمة توجب النسخ حكاه الصيمري عن أصحابه على الإطلاق واختاره بعض أصحابنا قال ابن فورك والكيا وعزى إلى الشافعي أيضاً . الثالث : إن كان المزيد عليه بنفي الزيادة بفحواه فإن تلك الزيادة نسخ كقوله في سائمة الغنم الزكاة فإنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة وإن كان لا ينفي تلك الزيادة فلا يكون نسخاً حكاه ابن برهان وصاحب المعتمد وغيرهما . الرابع : أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغيراً شرعياً حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعلها قبلها لم يعتد به وذلك كزيادة ركعة تكون نسخاً وإن كان المزيد عليه يصح فعله بدون الزيادة لم تكن نسخاً كزيادة التغريب على الجلد وإليه ذهب عبد الجبار كما حكاه عنه صاحب المعتمد و ابن الحاجب وغيرهما وحكاه سليم عن اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني والاستراباذي والبصري . الخامس : التفصيل بين أن تتصل به فهي نسخ وبين أن تنفصل عنه فلا تكون نسخاً حكاه ابن برهان عن عبد الجبار أيضاً واختاره الغزالي . السادس : إن تكن الزيادة مغيرة لحكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخاً إن لم تغير حكمه في المستقبل بأن كانت مقارنة لم تكن نسخاً حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة قال صاحب المعتمد وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري . السابع : أن الزيادة إن رفعت حكماً عقلياً أو ما ثبت باعتبار الأصل كبراءة الذمة لم تكن نسخاً لأنا لا نعتقد أن العقل يوجب الأحكام ومن يعتقد إيجابه لا يعتقد أن رفعها يكون نسخاً وإن تضمنت رفع حكم شرعي كانت نسخاً حكى هذا التفصيل ابن برهان في الأوسط عن أصحاب الشافعي وقال أنه الحق واختاره الآمدي وابن الحاجب والفخر الرازي والبيضاوي وهو اختيار أبي الحسين البصري في المعتمد وهو ظاهر كلام القاضي أبي بكر الباقلاني في مختصر التقريب وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني في البرهان . قال الصفي الهندي إنه أجود الطرق وأحسنها فهذه الأقوال كما ترى . قال بعض المحققين إن هذه التفاصيل لا حاصل لها وليست في محل النزاع فإنه لا ريب عند الكل أن ما رفع حكماً شرعياً كان نسخاً حقيقة وليس الكلام هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان وما لم يكن كذلك فليس بنسخ فإن القائل إنما فصل بين ما رفع حكماً شرعياً وما لا يرفع كأنه قال إن كانت الزيادة نسخاً وإلا فلا وهذا لا حاصل له وإنما النزاع منهم هل ترفع حكماً شرعياً فتكون نسخاً أو لا فلا تكون نسخاً فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكماً شرعياً لوقع الاتفاق على أنها ليست بنسخ ولكن النزاع في الحقيقة إنما هو في أنها رفع أم لا انتهى . قال الزركشي في البحر واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعاً به فلا ينسخ إلا بقاطع كالتغريب فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخاً نفاه لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد ولما لم يكن عند الجمهور نسخاً قبلوه إذ لا معارضة . وقد ردوا يعني الحنفية بذلك أخباراً صحيحة لما اقتضت زيادة على القرآن والزيادة نسخ ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد فردوا أحاديث تعين الفاتحة في الصلاة وما ورد في الشاهد واليمين وما ورد في أيمان الرقبة وما ورد في اشتراط النية في الوضوء انتهى . وإذا عرفت أن هذه هي الفائدة في هذه المسألة التي طالت ذيولها وكثرت شعبها هان عليك الخطب وقد قدمنا في المسألة التاسعة من مسائل هذا الباب ما عرفته .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة عشرة : لا خلاف في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها لأنه كان واجباً في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه ولا خلاف أيضاً في أن ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخاً لها كذا نقل الإجماع الآمدي والفخر الرازي ، وأما نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة سواء كان جزءاً لها كالشطر أو خارجاً كالشرط فاختلفوا فيه على مذاهب . الأول : أن نسخه لا يكون نسخاً للعبادة بل يكون بمثابة تخصيص العام قال ابن برهان وهو قول علمائنا وقال ابن السمعاني إليه ذهب الجمهور من أصحاب الشافعي واختاره الفخر الرازي والآمدي قال الأصفهاني إنه الحق وحكاه صاحب المعتمد عن الكرخي . الثاني : أنه نسخ للعبادة وإليه ذهب الحنفية كما حكاه عنهم ابن برهان وابن السمعاني . الثالث : التفصيل بين الشرط فلا يكون نسخه نسخاً للعبادة وبين الجزء كالقيام والركوع في الصلاة فيكون نسخه نسخاً لها وإليه ذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي وصححه القرطبي قالوا لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط بخلاف الجزء وهذا في الشرط المتصل أما الشرط المنفصل فقيل لا خلاف في أن نسخه ليس بنسخ للعبادة لأنهما عبادتان منفصلتان ، وقيل إن كان مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ إلا به فيكون نسخه نسخاً لها من غير فرق بين الشرط والجزاء وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ بدونه فلا يكون نسخه نسخاً لها وهذا هو المذهب الرابع ، حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع ، احتج القائلون بأنه لا يكون نسخاً مطلقاً من غير فرق بين الشرط والشطر بأنهما أمران فلا يقتضي نسخ أحدهما نسخ الآخر ، وأيضاً لو كان نسخاً للعبادة لافتقرت في وجوبها إلى دليل آخر غير الدليل الأول وأنه باطل بالاتفاق ، واحتج القائلون بأن نسخ الشطر يقتضي نسخ العبادة دون نسخ الشرط بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد ورفع أجزائها من دون الركعة لأن تلك العبادة قبل النسخ كانت غير مجزئه بدون الركعة . وأجيب بأن للباقي من العبادة أحكاماً مغايرة لأحكامها قبل رفع ذلك الشطر فكان النسخ مغايراً لنسخ تلك العبادة وأيضاً الثابت في الباقي هو الوجوب الأصلي والزيادة باقية على الجواز الأصلي وإنما الزائل وجوبها فارتفع حكم شرعي لا إلى حكم شرعي فلا يكون ذلك نسخاً . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة عشرة : في الطريق التي يعرف بها كون الناسخ ناسخاً وذلك أمور : الأول : أن يقتضي ذلك اللفظ بأن يكون فيه ما يدل على ما تقدم أحدهما وتأخر الآخر . قال الماوردي المراد بالتقدم التقدم في النزول لا في التلاوة فإن العدة بأربعة شهور وعشرة سابقة على العدة بالحول في التلاوة مع أنها ناسخة لها . ومن ذلك التصريح في اللفظ بما يدل على النسخ كقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة ومثل قوله : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات . الثاني : أن يعرف الناسخ من المنسوخ بقوله صضص كأن يقول هذا ناسخ لهذا أو ما في معنى ذلك كقوله : نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها . الثالث : أن يعرف ذلك من فعله صضص كرجمه لماعز ولم يجلده فإنه يفيد نسخ قوله الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة . قال ابن السمعاني وقد قالوا إن الفعل لا ينسخ القول في قول أكثر الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ للقول بقول آخر فيكون القول منسوخاً بمثله من القول والفعل مبين لذلك . الرابع : إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان ونسخ الحقوق المتعلقة بالمال بالزكاة ذكر معنى ذلك ابن السمعاني . قال الزركشي وكذا حديث من غل صدقته فقال صضص أن آخذوها وشطر ماله قال فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم لهذا الحديث فدل ذلك على نسخه انتهى . وقد ذهب الجمهور إلى أن إجماع الصحابة من أدلة بيان الناسخ والمنسوخ قال القاضي يستدل بالإجماع على أن معه خبراً وقع به النسخ لأن الإجماع لا ينسخ به ولم يجعل الصيرفي الإجماع دليلاً على تعين النص للنسخ بل جعله متردداً بين النسخ والغلط . الخامس : نقل الصحابي لتقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر إذ لا مدخل للاجتهاد فيه . قال ابن السمعاني وهو واضح إذا كان الخبران غير متواترين أما إذا قال في المتواتر أنه كان قبل الآحاد ففي ذلك خلاف وجزم القاضي في التقريب بأنه لا يقبل ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد وهو غير جائز وقال القاضي عبد الجبار يقبل وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحد . السادس : كون أحد الحكمين شرعياً والآخر موافقاً للعادة فيكون الشرعي ناسخاً وخالف في ذلك القاضي أبو بكر والغزالي لأنه يجوز ورود الشرع بالنقل عن العادة ثم يرد نسخه ورده إلى مكانه . وأما حداثة الصحابي وتأخر إسلامه فليس ذلك من دلائل النسخ . وإذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ بوجه من الوجوه فرجح قوم منهم ابن الحاجب الوقف وقال الآمدي إن علم افتراقهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه فالواجب أما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المقصد الخامس من مقاصد هذا الكتاب القياس وما يتصل به من الاستدلال المشتمل على التلازم والاستصحاب وشرع من قبلنا والاستحسان والمصالح المرسلة ثم ماله اتصال بالاستدلال، وفيه فصول سبعة ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .