الهندسة الوراثية ( Genetic engineering )
الهندسة الوراثية مصطلح يُطلق على التقنية التي تغير الموِّرثات (الجينات) الموجودة داخل جسم الكائن الحي. تحتوي خلايا كل الكائنات الحية على مجموعة من هذه المورثات التي تحمل معلومات كيميائية تحدد خصائص وصفات هذا الكائن. وقد استطاع العلماء ـ عن طريق تغيير مورثات الكائن الحي ـ إكساب الكائن وأحفاده سِمَات مختلفة.
ظل مهجِّنو النباتات ومربّو الحيوانات، آلاف السنين، يستعملون طرقًا مختلفة للتناسل للحصول على توليفات مفضلة من المورثات. وقد تمكن المهندسون الوراثيون من إنتاج معظم السلالات المهمة اقتصاديًا من الأزهار والخضراوات والحبوب والأبقار والخيول والكلاب والقطط. كما طَوَّر العلماء ـ في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين ـ طُرقًا لعزل مورثات بعض الكائنات الحية وإعادة إدخالها في خلايا النباتات أو الحيوانات أو الكائنات الأخرى. وقد غيرت هذه التقنية الصفات الوراثية للخلايا أو الكائنات الحية.
كيف يتشكل الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين (د. ن. أ مولف). | |||||||||
|
كيف تُعزل المورثات:
توجد المورثات داخل الخلايا على صورة تراكيب دقيقة خيطية الشكل تسمى الصبغيَّات (الكروموزومات). يحتوي كل صبغي على جزيء واحد من مادة كيميائية تسمى الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين (د ن أ). ويمكن أن يحتوي جزيء د ن أ على آلاف المورثات ويَخْتَزِن داخل تركيبه الكيميائي الصفات التي تحدد الخصائص الوراثية للكائن الحي.يتشابه تركيب د ن أ الطبيعي تمامًا في جميع الكائنات الحية، حيث إنه على شكل سلم حبلي مجدول يُسَمَّى الحلزون المزدوج. وتتكون درجات ذلك السلم الحلزوني من أربعة مركبات كيماوية تسمى القواعد، وتتكون كل درجة من زوج من القواعد. وتتكون غالبية المورثات من عدة آلاف من أزواج القواعد. ويسمى ترتيب أزواج القواعد تتابع القواعد وهو الذي يُوَفِّرُ للخلية المعلومات اللازمة لتصنيع بروتين معين. ويعتمد شكل ووظيفة الخلية على البروتينات التي تُصَنِّعُها. وعليه فإن تتابع القواعد في د ن أ يميز ذلك الكائن عن بقية الكائنات الحية الأخرى.
يتمتع جزيء د ن أ بجانب مقدرته الفائقة على تخزين المعلومات بتركيب يسهل اسْتِنساخه (مضاعفته). وتقوم إنزيمات معينة قُبَيْل انقسام الخلية بتشطير سلم د ن أ طوليًا وذلك عن طريق فصل أزواج القواعد. ثم يُوَجَّه تتابع القواعد في كل شق لإنتاج شق مماثل جديد. وبهذه الطريقة يتم استنساخ صورة طبق الأصل من السلم الأصلي. ★ تَصَفح: الوراثة.
يستعمل العلماء تقنية تسمى الوصل الجيني لعزل المُورّثات، حيث يتم عزل جزء من مادة د ن أ بحجم مورث من كائن ما، ويتم توصيله بجزيء د ن أ من كائن آخر، أو من نفس ذلك الكائن. يتم عزل جزء من د ن أ بحجم المورث بوساطة إنزيمات تُسَمَّى الإنزيمات المحددة التي تتفاعل كيميائيًا مع تتابع قاعدي معين في جزيء من د ن أ حيث ينكسر الجزيء عند تلك النقطة التي تسمى موقع الانشطار. يتم وصل المورث بعد عزله إلى قطعة د ن أ أخرى بوساطة إنزيم يسمى إنزيم الربط. ويُطْلَقُ على الجزيء الهجين الذي تم تكوينه بهذه الطريقة اسم د ن أ المُوَلَّف. يتم بعد ذلك إدخال د ن أ المولف مرة أخرى في الخلية حيث يُسْتَنْسَخُ داخل الخلية عند انقسامها، وبهذه الطريقة تتزايد جزيئات د ن أ المولف بسرعة.
تحتوي بعض أنواع البكتيريا على جزيئات د ن أ دائرية صغيرة تسمى البلازميدات أو (المورثات السيوتوبلازمية) والتي تُوجَدُ داخل الخلية البكتيرية بعيدةً عن صبغيّات تلك البكتيريا. ويمكن عزل بلازميد ما وتشطيره عند نقطة الانشطار بوساطة إنزيم حصر، ويمكن بعد ذلك وصله إلى قطعة من د ن أ من أي مصدر بوساطة إنزيم ربط لتكوين جزيء دائري هجين من د ن أ. وعند خلط بلازميدات د ن أ الهجينة مع خلايا بكتيريا معدة بطريقة خاصة، تأخذ بعض خلايا تلك البكتيريا الجزيئات الهجينة بعملية تدعىالتحول. تُوضَعُ بعد ذلك خلطة خلايا تلك البكتيريا في وسط استنبات خاص بحيث تتوزع خلايا البكتيريا المتحولة عن بعضها بمسافات بعيدة. وتنمو كل خلية من خلايا البكتيريا المتحولة بما اكتسبته من خصائص وراثية جديدة وتعطينا مجموعة أو كتلةً خلويةً تسمَّى النسيلة، وهي مجموعة من الخلايا المتطابقة وراثيًا. ★ تَصَفح:النسيلة.
استخدامات الهندسة الوراثية:
وجد الباحثون استخدامات مهمة للهندسة الوراثية في مجالات الطب والصناعة والزراعة. ويتوقعون استخدامات جديدة وعديدة في المستقبل.في الطب. ينشأ عدد من الأمراض البشرية نتيجة لفشل بعض الخلايا في تصنيع بروتينات معينة مثل فشل بعض خلايا جُزُر لانجرهانز في غدة البنكرياس في تصنيع هورمون الإنسولين مما ينشأ عنه داء السكري. وفي هذه الحالة يمكن للعلماء إنتاج كميات كبيرة من الإنسولين في "مصانع" البكتيريا وذلك عن طريق وصل مورث الأنسولين من خلايا الإنسان في بلازميدات من خلايا البكتيريا الإشريكية القولونية. وبهذه الطريقة تُنْتَج كميات كبيرة من الأنسولين لعلاج مرضى داء السكري في البشر.
وقد تمكن العلماء في عام 1896م من إنتاج لقاح ضد مرض التهاب الكبد البائي عن طريق الهندسة الوراثية في خلايا خميرة أُدْخِل فيها مورث من فيروس التهاب الكبد البائي مكنها من إنتاج بروتين خاص بذلك الفيروس. ويؤدي حقن ذلك البروتين إلى حفز جهاز المناعة لديهم لإنتاج أجسام مضادة للفيروس تحميهم من المرض الذي يسببه.كما تمكن الباحثون أيضًا من إنتاج الأنترفرونات وهي بروتينات نشطة تحمى خلايا الجسم السليمة من الإصابة بالفيروسات. وتنتج هذه الأنترفرونات من خلايا البكتيريا الإشريكية القولونية عن طريق الهندسة الوراثية. وقد تم اختبار فعاليتها في العديد من الأمراض. ★ تَصَفح: الإنترفرون.
يعاني كثير من الناس من أمراض ناشئة عن عيوب وراثية ورثوها من آبائهم. وقد استعمل العلماء تقنية د ن أ المولف باختبار د ن أ المأخوذ من خلايا الأجنة في أرحام أمهاتهم لتحديد إمكانية إصابة الأطفال بالأمراض. وقد يتوصل الأطباء إلى علاج الأطفال داخل أرحام أمهاتهم لمنع الأمراض. واستقصى الباحثون أيضًا طرق المعالجة الجينية لعلاج الأمراض. وتتمثل هذه الطرق في غرس مورثات من شخص آخر أو من كائن حي آخر في خلايا المريض المنزرعة خارج الجسم، ثم إعادة تلك الخلايا المتحولة إلى جسم ذلك المريض مرة أخرى.
في الصناعة. تم استعمال الأحياء المجهرية (الجراثيم) المعالجة بالهندسة الوراثية في تحسين كفاءة إنتاجية الأغذية. وعلى سبيل المثال فإن إنزيم الرينين (خميرة الأنفحة) الذي يستعمل في إنتاج الجبن الذي ينتج في معدة العجول، أصبح ينتج بصورة أرخص عن طريق تقنية الوصل الجيني.
وللهندسة الوراثية إمكانات كبرى في مقاومة التلوث، حيث يعمل الباحثون الآن على إنتاج كائنات دقيقة معالجة بالهندسة الوراثية يُمْكِنُها تحليل النفايات والمواد السامة والمخلفات الشائعة الأخرى تحليلاً كيميائياً لايضر بالبيئة.
في الزراعة. تم الحصول على كميات هائلة من هورمون نمو يوجد في الأبقار من بكتيريا معالجة بالهندسة الوراثية. ويستعمل هذا الهورمون في أبقار الحليب لزيادة إنتاجيتها من الحليب وفي أبقار اللحوم لتنتج لحومًا قليلة الدهن. وتُستخدم الهندسة الوراثية أيضًا لزيادة القيمة الغذائية للذرة الشامية ولزيادة كفاءتها في مقاومة مبيدات العشب الضار،كما تستعمل البكتيريا المعالجة بالهندسة الوراثية أيضا لحماية المحاصيل من الحشرات الضارة ومن الصقيع.
نبذة تاريخية:
قامت الهندسة الوراثية على أكتاف علم الوراثة، وهو العلم الذي نشأ في أوائل القرن العشرين، ولكنه بُني على تجارب قام بها الراهب النمساوي جريجور مندل في منتصف القرن التاسع عشر. ★ تَصَفح:علم الوراثة.كان علماء الوراثة الأمريكيون أول من طوَّر تقنيات عزل وترقيع المورثات في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. وفي أواخر تلك الحقبة استعمل الباحثون تقنية د ن أ المولَّف لهندسة البكتيريا وراثيًا لإنتاج كميات قليلة من الإنسولين والأنترفرون. ومع بداية الثمانينيات من القرن العشرين تم تطويع وسائل الهندسة الوراثية لإنتاج كلتا المادتين بكميات هائلة. وقد كان الإنسولين المنتج من البكتيريا المعالجة بالهندسة الوراثية أول عقار مُنْتَج بتلك الطريقة سمحت السلطات في الولايات المتحدة الأمريكية باستعماله عام 1982م.
وقد تمكن علماء الوراثة أيضًا في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، من إحداث تقدم في تقنيات الهندسة الوراثية مكنتهم من إضافة مورثات إلى خلايا الكائنات الراقية، وذلك بغرسهم المورث البشري المتحكم في إنتاج هورمون النمو في الفئران، مما أدى إلى نموها ضعف حجمها الطبيعي.كما نجح الباحثون عام 1982م في نقل مورث من أحد أنواع ذبابة الفاكهة لأخرى. وفي نفس العام برهن علماء الوراثة على إمكانية نقل المورثات بين أنواع النبات المختلفة. وأدخل العلماء عام 1987م مورثًا من إحدى خلايا البكتيريا في نبات الطماطم مكنه من مقاومة اليساريع.
وقد مُنِحَتْ في الولايات المتحدة الأمريكية أول براءة إنتاج لنبات معالج بالهندسة الوراثية في عام 1986م، وهو صنف من القمح ذي قيمة غذائية عالية.كما مُنِحَتْ أيضًا في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1988م، أول براءة إنتاج لحيوان معالج بالهندسة الوراثية وذلك لسلالة من الفئران تُستخدم في أبحاث السرطان.
القلق حول الهندسة الوراثية:
أحدثت التجارب التي أجريت في مجال الهندسة الوراثية قلقًا كبيرًا في أوساط الناس بالرغم من فوائدها الجمة العديدة. فقد عارض البعض تجارب الهندسة الوراثية من منطلق مخاوفهم من إنتاج بكتيريا ضارة لايمكن التحكم فيها. وعارضها آخرون من منطلق مخاوفهم من الأضرار البيئية التي قد تنشأ من الإدخال المتعمد لكائنات تم تغيير تركيبها الوراثي. علاوة على ذلك فقد تساءل العديد من الناس عن مدى أخلاقية التعامل مع المادة الوراثية للمخلوقات الحية.وقد ظهر القلق نحو تجارب الهندسة الوراثية لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية عندما أصدرت الحكومة الأمريكية في عام 1976م، قوانين تحتم ضرورة توفير كل أسباب التحكم في الوسائل المختبرية الخاصة بوصل الجينات. وقد سنت العديد من الدول الأخرى قوانين مماثلة، إلا أنه سرعان ما بدأ التخلص من تلك القوانين تدريجيًا فيما بين عامي 1978م و 1982م، بعد أن ثبت أن هذه التجارب البحثية قد برهنت على حسن الاستخدام.كما أقرت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1985م، قوانين تَحْكُم التجارب المتعلقة بنقل المورثات لمعالجة العيوب الوراثية في الناس. وقد أقرت في عام 1987م، لجنة من الأكاديمية القومية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية بأن نقل الجينات بين أنواع الكائنات المختلفة لايسبب أضرارًا خطيرة للبيئة.
★ تَصَفح أيضًا: التخريط الجيني.