"هش" ضمن أفلام ألمانية قصيرة و نوعية بدمشق قدم معهد غوته بدمشق وخلال شهر شباط الماضي وعلى مدى عدة أسابيع أفلام ألمانية قصيرة إلى جانب أفلام سورية قصيرة, وكم كنت سعيدا لمشاهدتي إحدى تلك الأماسي الساحرة . ورغم وصولي متأخرا بعض الشيء في تلك الأمسية فقد شاهدت مجموعة أفلام فكرية وساخرة وممتعة بذات الوقت ،وقد حظيت بلحظات نوعية فعلا مع فيلم "هش" أو بالألمانية "fragile" وهي ذات الكلمة بعدة لغات .وهو فيلم من إخراج :زيكاندر غولداو ،إنتاج 2004 ومدته 20 دقيقة وقد حصد العديد من الجوائز العالمية لمستواه النوعي من حيث الفكرة والألوان والموسيقى وأداء الممثلة ،وهو فعلا فيلم متألق ويستحق الاستحسان الذي ناله سواء في لوس أنجلس وترشيحه للأوسكار أو حتى لنيله جائزة أفضل فيلم قصير. يتحدث فيلم هش عن امرأة تقوم برحلة طويلة في أحد أيام شهر أيلول .وهذه الرحلة هي رحلة الموت ،حيث ترتطم سيارتها بشجرة فيما تحاول إنقاذ غزال قفز فجأة أمام سيارتها. وفيما هي تقترب من موتها تحدث معجزة إذ تطلب توديع أحبائها فتتم تلبية طلبها لأنها كما يبدو أنقذت الغزال بموتها .فتتجه إلى ابنتها الصغرى التي تلعب مع غيرها من الأطفال بالمدرسة لتضمها بشدة وتودعها, ثم تتجه إلى ابنتها المراهقة بمدرستها أيضا وهي تجلس مع صديقها وفيما هي تتطلع إلى ابنتها من بعيد لتنتبه البنت لوجود والدتها فتستغرب وجودها فهي لم تودعها إلا منذ وقت قريب أي بالمنزل. ثم تكمل رحلة الوداع الأخيرة لها في هذه الدنيا لتودع آخر شخصين عزيزين على قلبها, وهما زوجها وأمها المريضة بالمشفى ،حيث تتحدث الأم عن موتها طوال الوقت دون أن تعلم بالطبع أن ابنتها ستسبقها في ذلك ،فهي لم تحدثهم عما حصل لها في الحادث ،وأنه يتطلب وقت طويل للقائهم مجددا أي بالعالم الآخر,وتلك اللحظات القاسية بالفعل فضلا عن صوت الريح خلال الفيلم والذي أدى دور موحش جدا. يمتلئ الفيلم باللحظات الساحرة والإنسانية الخالصة,حينما يقرر الإنسان أصعب قراراته وهو توديع أعز الناس عليه وهو يعلم أنه سيفارقهم لامحالة ،فيلم يتميز بلحظات إنسانية نادرة .فيتساوى بالموت كل من الإنسان والحيوان ،كما يطرح تلك اللحظات المفجعة لدى كل البشر وهي مفارقة أعز الناس على القلب ،وأكثرهم إيناسا له في وحشة الحياة والموت ،وهي الوحشة التي لايمكن وصفها. موضوع هذا الفيلم ورغم لحظاته القليلة,فانه يطرح مفهوم هيغل ذاته بالموت, إذ يقول هيغل :"ليست حياة الروح هي تلك التي تنأى بنفسها عن الموت وتتجنب الدمار وإنما هي الحياة التي تتحمل الموت وتتقبله في غير جزع ،وهي لا تظفر بحقيقتها إلا حينما تجد ذاتها في يأس مطلق", فقد توصلت المرأة بموتها إلى "جدل الحب" الذي تحدث عنه هيغل, إذ حاول هيغل تبرير الموت الإنساني "بجدل الحب" الحب الذي يدعو إلى "تجاوز ذاته" في الطفل أي بعودة الإنسان إلى فطرته الصافية وسليقته السليمة ،فالموت أو معاناته أو ألمه هو عنصر تصالح الروح مع ذاتها .وهذا ما حصل في فيلم "هش" فالوداع بحد ذاته هو تصالح مع الذات. عنوان الفيلم "هش" يحمل أيضا معنيان بغاية الأهمية, فالأول يطرح مسألة وجود الإنسان بحد ذاته أو عدمه ،وهو عنوان قريب لمفهوم العبثية ،ولكن أحداث الفيلم أي السعي للوداع بعد أن فرض القدر موت المرأة والذي لاراد له .فيدل على أن العنوان بعيد جدا عن مفهوم العبثية فتلك اللحظات فحسب ساوت حياتها بأكملها لأهمية تلك النظرة الأخيرة بعيدا عن "ساعة الغفلة" التي أصابتها ،أيضا يعبر الفيلم بعنوانه الهام عن مدى ضعف الكائن البشري ومدى صدقه في تلك اللحظات فهو "هش" أمام حقيقة القدر. وهنا أود إيضاح اقتراب مفهوم الموت لدى المخرج المبدع زيكاندر غولداو من المفهوم الإسلامي ففي المفهوم الإسلامي يحمل الموت الكلية المطلقة إذ أن جميع البشر فانون "انك ميت وإنهم ميتون", كما يحمل في طبيعته في نفس الوقت الجزئية المطلقة لأن الموت فردي وشخصي وخاص جدا فكل منا لابد أن يموت هو نفسه ولا يمكن أن يموت نيابة عن غيره أو بدلا منه قال تعالى :"ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة". أخيرا تطلب امرأتنا من ملاك الموت "رجل سبور أي آخر طراز" أن يحقق لها أمنيتها الثانية بعد وداع الأحبة وهي التزلج على الجليد "وكأن الهشاشة تعود لتبرز هنا ففور حلول الصيف سيتكسر هذا الجليد وتجري المياه بعدها تحته" .أما أمنيتها الأخيرة فهي بقاء الغزال على قيد الحياة إن لم نقل أنه بقي كذلك ،وأخيرا يتكرر المشهد الأول بالفيلم أي الحادث لتموت صاحبتنا وتودعنا أيضا كجمهور. وقد تابعت العديد من الأفلام الأخرى بذات الأمسية وسأتحدث عنها بالتأكيد لاحقا. محمد زعل السلوم سوريا دمشق 27/3/2007