بدأت الإرهاصات الأولى لموسيقي الجاز تقريباً في منتصف القرن التاسع عشر، و في ولاية نيو أورليانز الواقعة على نهر المسسيبي الهاديء، حيث احتوت تلك المدينة في ذلك الوقت خليط من المهاجرين الأسبان و الانجليز و الفرنسيين يكونون معاً طبقة الأسياد حيث يمتلك كل منهم عدد وفيراً من العبيد الذين يسخرونهم في جميع الأعمال و خاصة الزراعة.
و في هذه الظروف التاريخية و السياسية و الاجتماعية التى تزامنت مع إلغاء نظام الرق و العبودية عام 1863 و نهاية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865 من جهة أخري ، وجد العبيد الزنوج أنفسهم أحرار في مدينة نيو أورليانز التى تكثر فيها علب الليل و صالات الرقص الأوربي مثل الفالس و البولكا التى تنتشر في كل أنحاء المدينة خصوصاً شارع رامبارت. و هكذا بدأت الموسيقي الأوربية رويداً رويداً تختلط بالايقاعات و الألحان التى احتفظ بها الزنوج و توارثوها جيل بعد جيل لأنهم كانوا يرددونها أثناء العمل في حقول القطن و أثناء سمرهم في ميدان الكونجو، كما أخذ الزنوج يستعدون هذه الايقاعات من خلال صنع الطبول الضخمة التى تسمى تام تام أو بامبولاس. و امتزجت تلك الألحان الأفريقية أيضاً بالألحان التى تعلموها في الكنيسة الكاثوليكية و البروتستانيه مع صرخات عذاب العبودية و تعبيرات روحهم المكتئبة المتأثرة بالموسيقي الوثنية و الموسيقا الأوربية التى كانت منتشرة في ذلك الوقت.
فهرس
|
بعد نهاية الحرب الأهلية و تحرر العبيد، التفت الزنوج حديثي التحرر حولهم فوجدوا عدد كبيراً من الآلات النحاسية المبعثرة هنا و هناك من مخلفات الحرب التى تركتها فرق الموسيقا العسكرية، فجمعوها و أخذوا يحاولون النفخ فيها محاولين عزف تلك الألحان و المارشات العسكرية أو عزف أى نغمة تخرج منهم تلقائياً. و هكذا بالفطرة و السليقة ابتكروا و هم لا يدرون أسس موسيقا الجاز كما أصبحت الآلات النحاسية هى الآلات الأساسية لعزفها. و في عام 1895 تكونت في مدينة نيو أورليانز أول فرقة تعزف موسيقا الجاز برآسة بادى بولدن ، و كانت الموسيقا التى تعزفها هذه الفرقة ليست مدونة بل تعتمد أساساً على الارتجال و التقسيم المشترك و الانطلاق بالأصوات في كل اتجاه. ثم أخذت الفرق تتكاثر و تنتشر و تجذب إليها جمهوراً متزايداً من الشباب، و احتلت تلك الموسيقا مكاناً بارزاً في صالات الرقص و الحدائق العامة و مناسبات الأفراح و الزواج و حتى في السير أمام الجنازات.
كثرة فرق الجاز بشكل كبير، و لأنها كانت كثيرة التنقل من مكان لمكان فالبيانو لم يدخل في تكوين هذه الفرق إلا حوالى 1920 . و منذ بداية القرن العشرين أخذ الجاز يتقدم بشكل متعثر للأمام. ففي البداية حاول بعض البيض تكون فرق خاصه بهم تعزف موسيقي الجاز التى يدونونها بالنوتة و لكنهم لم يصبوا النجاح، لأن الروح الزنجية الصارخة التى كانت الطابع الأغلب على موسيقي الجاز وقتها كانت تعوزهم. لكن الموسيقين البيض لم يفقدوا الأمل و عملوا بعد ذلك على تطور نوع جديد من موسيقي الجاز أطليق عليه اسم ديكسي لاند ، أخذ ينتشر تدريجياً في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بفضل الأفلام السينمائية و شركات الاسطوانات حتى قامت الحرب العالمية الثانية. في هذا الوقت و أثناء الحرب العالمية الأولى انتقلت زعامة موسيقي الجاز من نيواورليانز إلى شيكاغو التى احتوت على عدد أكثر من الملاهى و البارات و علب الليل، كما انتشرت موسيقا الجاز وقتها في أكثر من ولاية مثل بالتيمور و واشنطن و نيويورك و بوسطن، و في كل مدينة كانت فرق الجاز تحاول أن تضم إليها عازفين من مدينة نيواورليانز التى كانت تعتبر المعهد الذى أخرج أشهر العازفين و أمهرهم في الارتجال.
و في هذا الوقت كانت فرق موسيقي الجاز تتكون من سبعة أو ثمانية عازفين، ثم ظهر في نيويورك و في حى هارلم تحديداً فلتشر هندرسون و ديوك الينجتون و كان من الموسيقيين الدارسين و قاما بمضاعفة عدد العازفين في فرقتهم و كتبوا النوتات الموسيقية لكل عازف و قللوا من فواصل الارتجال التى كانت من خصائص الجاز و أطلقوا على هذا النوع من الموسيقي الجاز الجاد. صادف هذا التجديد الكثير من النجاح و زاد عليه الإقبال في فنادق نيويورك الفاخرة و في الملاهى الليلية و حتى في الحفلات التى كانت تقيمها الجامعات و المدارس في مختلف المناسبات. و شجع هذا النجاح الكثير من الفرق التى سارت على نفس الطريق، و ظهر في الثلاثينات عدد من الموسيقين البيض المهرة من خريجى المعهد الموسيقي مثل تومى دورساى و شقيقه وينى جودمان ، و حقق هذا النوع من الجاز الكثير من النجاح و الانتشار نتيجة لظهور محطات الردايو العديدة و تسجيل الاسطوانات.
بداية من عام 1945 بدأ الموسيقيون في فرق الجاز ثورة ضد الوظيفة التقليدية للموسيقا التى يعزفونها و هى تحريك أرجل الراقصين، و ظهر اعتقد بين عدد من موسيقي الجاز بأنهم يقدمون فن راقي يستحق الاصغاء و الاستماع إليه باحترام. و هكذا أخذت موسيقا الجاز طريقاً جديداً فاختفي منها الارتجال و قل استعمال الايقاعات الساخنة و أصبحت المؤلفات الجديدة تميل إلى البطء و إلى التعبير العاطفي في ألحان ذات طابع غنائي و أطلق على هذا النوع الموسيقي اسم الجاز البارد.
استمراراً لتطور الجاز، قام جيل ايفانز عام 1955 بتكوين أول فرق السيفوجاز و هو عبارة عن تكوين موسع يشتمل على آلات الأوركسترا السيمفونى الكامل مضافاً إليها آلات فرق الجاز التقليدية، و تبعه في ذلك جنتر شولر و غيرهم، و رغم كل هذا التطور لم تختفي فرق الجاز التقليدية الصغيرة أبداً.
في الستينات كان الجاز قد بلغ أوج مجده و سموه أرفع المستويات، وقتها كان الجاز فن راقي تتبناه الطبقي البرجوازية الأمريكية ، و يعزف في الأوبرا و القاعات الفاخرة، حتى ظهر سيسل تايلور و هو عازف بيانو نادى بالعودة بالجاز إلى أصوله القديمة بعد أن كان قد بلغ في سموه أرفع المستويات. و كان أحد زعماء هذه الحركة كولتران الذى قال في إحدى المرات : (( أحب أن أري الناس من حولى يرقصون و أنا أعزف))
انتشرت الجاز بعد ذلك في كل أنحاء العالم بداية من الستينات مع ظهور التلفاز و انتشاره و نمو صناعة الموسيقي بشكل متضخم، و أخذت الجاز في كل منطقة ما يشبه الطابع المحلي، فظهر الجاز اللاتينى نسبة لأمريكا اللاتينية ، و الأورينتال جاز أو الجاز الشرقي و يقصد به الجاز العربي، بل و حتى الجاز اليابانى.