معركة الجسر
في (23 من شعبان 13هـ = 22 من أكتوبر 634م) وقعت معركة الجسر بين المسلمين بقيادة أبو عبيد الثقفي والفرس بقيادة "بهمن بن جاذويه"، وجاء في كتاب فتوح البلدان للبلاذري أن معركة الجسر وقعت يوم السبت في آخر شهر رمضان سنة 13هـ، وكانت من أكبر المعارك في العراق، وكانت هزيمة كبيرة للمسلمين رغم ما أبدوه من شجاعة في القتال؛ فبعدما استقرت أمور الحكم في فارس بعد الصراع على السلطة قرر القائد رستم قتال المسلمين، وأعطى راية الفرس لـ"بهمن بن جاذويه" في جيش قوي كثيف، تتقدمه الأفيال المدربة على القتال، وعسكر كل جيش على ضفة من نهر الفرات، فكتب الفرس للمسلمين "إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم".
فقال أبو عبيد: "ما هم بأجرأ منا على الموت"، رغم اعتراض بعد قادة المسلمين في الجيش الذين رأوا أن يقوم المسلمون بقطع الجسر بين الجانبين، ثم ينحاز المسلمون إلى بعض النواحي انتظارا لوصول الإمدادات من المدينة المنورة لمواجهة هذه القوات الكثيفة من الفرس، إلا أن أبا عبيد لم يتذكر مقولة الفاروق عمر: "إن الحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث"، وقرر العبور إلى الفرس.
كانت الخطة الحربية للفرس أن تهاجم الأفيال المدربة على القتال خيول المسلمين، ثم يرمي الفرس المسلمين بالنبال والرماح حتى تحدث الفوضى في الجيش المسلم ويسهل بعد ذلك قتالهم، ولم ينتبه المسلمون الذين عبروا الجسر أنهم بعد العبور أصبحوا محصورين في مكان ضيق لا يتيح لهم المناورة، وعندما بدأ القتال ذُعرت الخيول من الأفيال، وأصيب عدد كبير من الجنود المسلمين بالنبال، ولم يتمكنوا من القيام بعمليات الكر والفر، وقتل من المسلمين أكثر من نصف الجيش، البالغ 10 آلاف مقاتل، وعندما أقبل المسلمون يريدون عبور الجسر إلى معسكرهم مرة أخرى تدافعوا على الجسر وسقط عدد كبير منهم في الماء وماتوا غرقا، فقام المثنى بحماية الجسر حتى يعبر المسلمون إلى الضفة الأخرى دون تدافع.
أما أبو عبيد فإنه استشهد بعدما قام بعملية فدائية رائعة استطاع خلالها أن يقتل أقوى فيل في جيش الفرس، إلا أن الفيل سقط عليه فاستشهد تحته.
كانت الهزيمة في معركة الجسر كبيرة للغاية؛ حتى إن بعض المسلمين تفرقوا في الصحاري، وعاد بعضهم إلى المدينة المنورة، وفُقد البعض الآخر؛ فكانت نكسة عسكرية بكل المقاييس، خاصة أنها وقعت بعد الانتصار الرائع للمسلمين في اليرموك بأربعين يوما، ورغم ذلك ثبت المسلمون في مواقعهم، ولم يؤنب عمر بن الخطاب الفارين، وثبت المثنى بمن معه من المسلمين استعدادا للثأر من الفرس.
تبعات معركة الجسر
كانت أنباء هزيمة الجسر ثقيلة على المسلمين؛ حتى إن عمر بن الخطاب ظل أشهرا طويلة لا يتكلم في شأن العراق؛ نظرا لما أصاب المسلمين هناك، ثم ما لبث أن أعلن النفير العام لقتال الفرس في العراق؛ فتثاقل الناس عليه، وعندما رأى ذلك قرر أن يسير هو بنفسه للقتال والغزو، فأشعل سلوكه ذلك الحماسة في قلوب المسلمين، فقدمت عليه بعض القبائل من الأزد تريد الجهاد في الشام، فرغبهم في الجهاد في العراق، ورغبهم في غنائم كسرى والفرس، وقدمت عليه قبيلة بجيلة، واشترطوا أن يقاتلوا في العراق على أن يأخذوا ربع الغنائم التي يحصلون عليها، فوافق عمر، وبدأت الجموع المجاهدة تتوافد على المثنى، الذي لم يكف عن ترغيب العرب في الجهاد.
معركة البويب.. الوقائع والدروس
واكتملت قوات المسلمين تحت قيادة المثنى بن حارثة، في مكان يسمى "البويب" (يقع حاليا قرب مدينة الكوفة)، وكان نهر الفرات بين الجيشين، وكان يقود الفرس "مهران الهمداني" الذي أرسل إلى المثنى يقول له: "إما أن تعبروا إلينا أو أن نعبر إليكم"، فرد عليه المثنى "أن اعبروا أنتم إلينا". وكان ذلك في (14 من رمضان 14هـ = 31 من أكتوبر 1635م). ويرى بعض المؤرخين أنها وقعت في رمضان سنة 13هـ، إلا أن تتبع ما وقع من أحداث في العراق يجعل الرأي الأقرب للصواب هو 14هـ.
وقد أمر المثنى المسلمين بالفطر حتى يقووا على القتال، فأفطروا عن آخرهم، ورأى المثنى أن يجعل لكل قبيلة راية تقاتل تحتها؛ حتى يعرف من أين يخترق الفرس صفوف المسلمين، وفي هذا تحفيز للمسلمين للصمود والوقوف في وجه الفرس. وأوصى المثنى المسلمين بالصبر والصمت والجهاد؛ لأن الفرس عندما عبروا إلى المسلمين كانوا يرفعون أصواتهم بالأهازيج والأناشيد الحماسية، فرأى المثنى أن ذلك من الفشل وليس من الشجاعة.
وخالط المثنى جيشه مخالطة كبيرة فيما يحبون وفيما يكرهون؛ حتى شعر الجنود أنه واحد منهم، وكانوا يقولون: "لقد أنصفتنا من نفسك في القول والفعل".
ونظم المثنى جيشه، وأمرهم ألا يقاتلوا حتى يسمعوا تكبيرته الثالثة، ولكن الفرس لم يمهلوه إلا أن يكبر تكبيرة واحدة حتى أشعلوا القتال، وكان قتالا شديدا عنيفا، تأخر فيه النصر على المسلمين، فتوجه المثنى إلى الله تعالى وهو في قلب المعركة بالدعاء أن ينصر المسلمين، ثم انتخب جماعة من أبطال المسلمين وهجموا بصدق على الفرس فهزموهم، وعندما استشهد "مسعود بن حارثة" وكان من قادة المسلمين وشجعانهم وهو أخو المثنى قال المثنى: "يا معشر المسلمين لا يرعكم أخي؛ فإن مصارع خياركم هكذا"، فنشط المسلمون للقتال، حتى هزم الله الفرس.
وقاتل مع المثنى في هذه المعركة أنس بن هلال النمري وكان نصرانيا، قاتل حمية للعرب، وكان صادقا في قتاله، وتمكن أحد المسلمين من قتل "مهران" قائد الفرس، فخارت صفوف الفرس، وولوا هاربين، فلحقهم المثنى على الجسر، وقتل منهم أعدادا ضخمة، قدرها البعض بمائة ألف، ولكن هذا الرقم لا يشير إلى العدد الفعلي، ولكنه كناية عن الكثرة فقط.
وقد سميت معركة البويب بـ"يوم الأعشار"؛ لأنه وجد من المسلمين مائة رجل قتل كل منهم عشرة من الفرس، ورأى المسلمون أن البويب كانت أول وأهم معركة فاصلة بين المسلمين والفرس، وأنها لا تقل أهمية عن معركة اليرموك في الشام.
ومن روعة المثنى أنه اعترف بخطأ ارتكبه أثناء المعركة رغم أنه حسم نتيجة المعركة، فقال: "عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم؛ فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها؛ فإنها كانت زلة فلا ينبغي إحراج من لا يقوى على امتناع".
ويحمل هذا الاعتراف من المثنى بعدا إنسانيا إسلاميا وآخر عسكريا؛ فالأول أن هدف الإسلام من الجهاد والقتال ليس إبادة الخصم ولكن كسر شوكته عن إيذاء المسلمين، وألا يكون حائطا منيعا بين الناس وحرية الدخول في الإسلام، ومن ثم فالإبادة ليست شعارا للقتال والحرب الإسلامية. والبعد الآخر أن حصر الهاربين يدفعهم إلى أن يقاتلوا قتال اليأس والانتحار وهو ما قد يقلب ميزان المعركة أو يجعل ثمن الانتصار مكلفا للغاية؛ ولهذا كان من روعة خالد بن الوليد أنه كان يترك في معاركه دوما طريقا لهرب العدو؛ لأن ذلك يغري العدو بالفرار من المعركة وليس الثبات فيها؛ لأن الفرار من المعركة يتم بصورة تشبه العقل الجماعي في التصرف.
من المراجع:
- البلاذري: البلدان وفتوحها وأحكامها - دار الفكر - بيروت - الطبعة الأولى 1412هـ=1992م.
- ابن كثير: البداية والنهاية - مكتبة المعارف - بيروت - الطبعة الثانية 1978م.
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ - دار صادر -بيروت