لويس بريل 1809إلى 1852م الكفيف الذي أضاء ظلمات المكفوفين
في قرية قريبة من العاصمة باريس كان الاب يعيش ويعمل في حانوت خاص به يصنع عدة الخيل من حدوات ومهاميز وغير ذلك، وكان فرحا بابنه الصغير لويس ابن الاعوام الثلاثة الذي يحاول المشي إلى الحانوت واللعب في ادوات والده، فيجتهد في رفع بعض الاشياء الثقيلة من مكانها او يلقي شيئا ما هنا او هناك كعادة الاطفال في اللعب والشقاوة. وذات يوم كان يلعب كعادته فأخذ سكينا وراح يقلد اباه ويقطع الجلد كما يفعل ابوه وفجأة وفي غفلة من الاخرين افلتت السكين واصابت احدى عينيه ففقدت بصرها ولسوء التطبيب آنذاك انتقلت العدوى إلى العين الاخرى بعد زمن قليل فاصبح لا يرى من الدنيا شيئا وكانت صدمة قاسية للاسرة وحسبت ان لويس الطفل الشقي والمرح قد فقد كل شيء في حياته واشفقوا في جزع من المصير المظلم الذي ينتظره الا ان لويس حاول بكل الطرق ان يثبت لهم ولنفسه انه قادر على مواصلة الحياة كالمبصرين تماما فعمل كبائع في بعض الاحيان كما تعلم مهارة العزف على آلة الاورجون, كل هذا كي يصحح الخطأ الذي ارتكبه في حق نفسه وهو لا يزال طفلا لا يعي, وعندما بلغ العاشرة من عمره ونظرا لاصراره واجتهاده حصل على منحة تعليمية فارسله ابوه إلى المعهد القومي لتعليم الاطفال المكفوفين في باريس لكي يتعلم الموسيقى والعلوم. كان الصبي لويس طموحا محبا للعلم لايريد ان تمنعه عاهته من النجاح المرموق في الحياة، لكن صدمته كانت كبيرة بسبب طرق التعليم العقيمة والبطيئة التي تكاد تقتل اي موهبة في زملائه المكفوفين، حيث كانت الكتب المستعملة تطبع على ورق سميك باحرف عادية كبيرة تضغط على الورق من جهة فتبرز من الجهة الاخرى يلمسها الكفيف باصبعه فيدرك ما فيها,, ولان لويس لم يجد في استعمال هذا الخط ما يشبع رغبته وبدلا من القنوط والاحباط، بدأ يفكر في ايجاد طريقة اخرى تمكنه من القراءة بسهولة، وان يدون ما يشاء من علوم ايضا, واثناء انشغاله بتلك الفكرة وبينما كان يطالع احدى الصحف مع صديق له عثر على خبر عجيب ملك عليه فكره، ومفاده ان ضابطا بالجيش الفرنسي ابتكر طريقة جديدة يستطيع بها الجنود تلقي الاوامر في الظلام، وذلك بأن يبرز على ورق سميك اشكالا من النقاط اقصاها اثنتي عشرة نقطة يعبر كل منها عن امر من الامور العسكرية، يدركه الجندي اذا لمسه في الظلام. وومض لهيب العبقرية في فؤاده فجأة, لقد وجد ضالته في هذا الكشف وعلى الفور ذهب لويس إلى هذا الضابط وناقش اختراعه طويلا ثم عاد وهو أكثر اصرارا على ايجاد لغة للمكفوفين تفك لهم شفرة العالم الغامض حولهم, كان امام لويس مشكلتان رئيسيتان الاولى ان النقاط التي اقرها الضابط الفرنسي كثيرة 12 نقطة وبالتالي فإن التدريب عليها واستعمالها سيكون مرهقا اما المشكلة الثانية فهي البحث عن بديل اخر للرموز العادية في الكتابة الخطية اخذ لويس يضاعف جهده ليجد رموزا للحروف وبأقل عدد ممكن من النقاط يمكن ادراكها ولمسها وكثيرا ما طلع عليه الفجر وهو غارق في التفكير منعزل عن الاخرين يعيش تجاربه وحلمه الوحيد على الورق,, وبعد عناء مرير وفي سنة 1824م بينما كان لويس في الخامسة عشرة من عمره اهتدى إلى الحل واستطاع ان يجد رموزا للحروف الابجدية من خلال اللعب بست دوائر فحسب يعاد تظليلها بشكل بارز تبعا لكل حرف، فمثلا حرف الالف يكتب بمجموعة دوائر فارغة مع تظليل واحدة منها وحرف الباء يكتب بتظليل دائرتين من تلك الدوائر بينما حرف الظاء يقتضي تظليل النقاط الست ورغم انها تبدو طريقة مجهدة للمبصرين الا انها اضاءت الحياة للمكفوفين وادركوها بسهولة حيث جربها لويس بنفسه على زملائه في الدراسة. وبدلا من ان يفتخر اساتذته والمعلمون القائمون على إدارة المدرسة فوجىء لويس بأنهم يستهجنون طريقته ويدعون انها تبعد بين المكفوفين وبين العالم الذي يعيشون فيه ومما اصابه بالحسرة والكمد انهم حاربوا تلك الطريقة بكل قوة وحرموا على التلاميذ استخدامها الا ان الصغار شعروا بالراحة معها واستعملوها سرا خاصة وهم يرون تفوق لويس في الرياضة والموسيقى والتاريخ والجغرافيا بل انه تخرج من المدرسة واصبح معلما للموسيقى وهو بعد لم يبلغ العشرين. ورغم عمله في التدريس واخلاصه في خدمة من حرموا من نعمة البصر مثله الا ان اصحاب الشأن ابوا ان يعترفوا بطريقته الجديدة والتي عرفت بطريقة بريل, هذا الجحود لم يمنعه من تطوير طريقته خلال سنوات عديدة حتى بعد ان اعتلت صحته حيث اصيب بمرض الدرن ولاشك ان اخلاصه الشديد في العمل بجانب احباطه النفسي من التنكر لجهوده كانا سببا من اسباب وفاته مبكرا وهو بعد لم يبلغ من العمر ثلاثة واربعين عاما. واخيرا بعد عامين على رحيله يعترف المسؤولون لاول مرة بجليل عمله وفائدة طريقته التي انارت دنيا المعرفة امام الملايين من المكفوفين والتي خلدت اسم هذا الشاب المكافح وجعلت فرنسا تحتفل بمئوية وفاته في احتفال مهيب عام 1952م حيث نقلت رفاته إلى مستوى العظماء الذين قدموا للانسانية خدمات تسجل اسماءهم خالدة على مر العصور وان كان لويس بريل لم يلق في حياته الا الجحود والنكران والاحباط والدرن، ولولا صبره وايمانه بنفسه ما استطاع ان يحفر اسمه ويدونه على طرف كل لسان حين نقول طريقة بريل في الكتابة ونقصد تلك الطريقة السحرية التي اضاءت غياهب الظلام امام الملايين من المكفوفين في سائر انحاء المعمورة.