الرئيسيةبحث

قصة قصيرة

القصة القصيرة : قصة لا تتجاوز بالحجم (عشرة آلاف كلمة) تهدف إلى تقديم حدث وحيد غالبا ضمن مدة زمنية قصيرة و مكان محدود غالبا لتعبر عن موقف او جانب من جوانب الحياة ، لا بد لسرد الحدث في القصة القصيرة ان يكون متحدا و منسجما دون تشتيت . و غالبا ما تكون وحيدة الشخصية او عدة شخصيات متقاربة يجمعها مكان واحد و زمان واحد على خلفية الحدث و الوضع المرد الحديث عنه . الدراما في القصة القصيرة تكون غالبا قوية و كثير من القصص القصيرة تمتلك حسا كبيرا من السخرية أو دفقات مشاعرية قوية لكي تمتلك التأثير و تعوض عن حبكة الحداث في الرواية . يزعم البعض أن تاريخ القصة القصيرة يعود إلى أزمان قديمة مثل قصص العهد القديم عن الملك داود ، و سيدنا يوسف و راعوث . لكن بعض الناقدين يعتبر القصة القصيرة نتاج تحرر الفرد من ربقة التقاليد و المجتمع و بروز الخصائص الفردية على عكس النماط النموذجية الخلاقية المتباينة في السرد القصصي القديم.

يغلب على القصة القصيرة ان يكون أبطالها مغمورون و ليسوا أبطالا فهم من قلب الحياة حيث تشكل الحياة اليومية الموضوع الأساسي للقصة القصيرة و ليست البطولات و الملاحم. ويعتبر ( إدجار ألن بو ) من رواد القصة القصيرة الحديثة في الغرب . وقد ازدهر هذا اللون من الأدب،في أرجاء العالم المختلفة، طوال قرن مضى على أيدي ( موباسان وزولا وتورجنيف وتشيخوف وهاردي وستيفنسن )، ومئات من فناني القصة القصيرة. وفي العالم العربي بلغت القصة القصيرة درجة عالية من النضج على أيدي يوسف إدريس في مصر، و سمير البرقاوي في الأردن ، و زكريا تامر في سوريا ، و محمد المر في دولة الامارات.



عالم القصة القصيرة

حين ينتهي المسار الطويل المنهك إلى المأزق الواضح المعالم، يبدأ التفكير والحلم بمسارمغاير وأفق أفضل. وهذه هي مهمة القصة: إعادة تشكيل العالم وإعادة تفسيره وإعادة تجديد الرؤية وإعادة رسم المجرى للحرية والانطلاق والركض... لأن القصة القصيرة تبقى بحثا فنيا عن معنى الوجود وسعيا حثيثا للإمساك باللحظة المنفلتة وإيقاف الصور والذكريات الهاربة أبدا وتخليدها.

المعنى العميق للوجود قد يكون في اللحظة الهاربة من حياتنا وقد يكون أيضا في العوالم العجائبية الأخرى حيث أسلوب النقل هو بساط الريح أو المكنسة السحرية... وهتان هما الخابيتان التي تنهل منهما القصة القصيرة مادتها: خابية الذاكرة وخابية المخيلة. ومن الصعب أن يتوفر الاثنان في قاص واحد بنفس الدرجة. فقد كان محمد شكري يغرف من خابية الذاكرة في اغلب نصوصه القصصية بينما أوفى أحمد بوزفور لخابية المخيلة. بينما إستطاع الكاتب سمير البرقاوي عبر مجموعته (ذاكرة الرماد ) من أن ينهل من خابية الذاكرة الجمعية ومن خابية المخيلة المبدعة بلغة جديدة .

أما عن مواضيعها فتتنوع بين الهوية والمغايرة والحب والحرية والحياة والبراءة والحوار والسلطة والموت والهجرة...

إن القصة القصيرة شكل من أشكال التعبير والتغيير معا .فالقصة القصيرة كلمة ، والكلمة صورة، والصورة مشروع حياة. لذلك، فالكلمات والصور والأحلام تصبح أشياء واقعية حقيقية إذا ما واكبتها إرادة التحقيق والرغبة في الإنجاز. إن القصة القصيرة الواعية تفتح الخيال على نوافذ جديدة وتنتج عوالم جديدة وتشيع مثلا جديدة وقيما جديدة...

أما عن الموقف من الوجود في القصة القصيرة فيمكن استكشافه من خلا ل تشريح هذين التعريفين للقصة القصيرة:" صرخة" و"مشهد". "فالقصة-الصرخة" تفجر موقفا سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا معلنا وتشحذ الهمم وتعبئ القراء سعيا لتوسيع دائرة التأييد عبر قراءة نص "يفترض" أن يكون فنيا. و"القصة–الصرخة" هذه هي سليلة الأدب الملتزم والعمل الثوري والتعبئة الآنية للمعارك القريبة المدى باستهداف فئات عريضة من القراء ...

أما "القصة-المشهد" فتركز على " تصوير" لحظة هاربة ثم تضمنها المواقف والرؤى لإيقاظ القرارات في القارئ. والفارق بينها وبين "القصة–الصرخة" أنها تستهدف تغيير القارئ وليس التغيير بالقارئ. ولذلك ف"القصة–المشهد" ليست سليلة العمل الثوري ولكنها سليلة العمل التدرجي....

لكن في الحالتين، تبتعد القصة القصيرة عن أن تكون " شكلا خالصا" مثل الموسيقى أو الرقص أو التشكيل. القصة القصيرة مضمون يعبر عن جوهره بشكله ، أو هو شكل يعبر عن مظهره بجوهره. ليس من الحكمة أن يخفي القاص مادة تواصله مع القارئ حين يصبح الأمر موضوع تحليل...

في الشعر، كانت هناك محاولات لردم هذه الهوة بين الشكل والجوهر فابتكر الكاليغرام (caligramme) الذي اشتهر به الفرنسي أبولينير(Appolinaire والأمريكي إ.إ. كامينغ …(e.e. cumming) ويرجى أن تعرف القصة نفس المنحى لمعالجة المضمون بالشكل والشكل بالمضمون.

1)- القصة القصيرة مساحة صغيرة لإعادة تشكيل الحياة:

النور يصبح أقوى حين يركز مجموع أشعته على مساحة صغيرة لكنه يصبح ضبابا إذا اتسعت دائرته... وعلى غرار ذلك، فضيق الحيز في القصة القصيرة أساسه الاحتفاظ بمنظور سردي واحد، عكس الرواية التي

تشتغل على مناظير سردية قد تفوق العشرة كما في روايات ويليام فولكنر حيث نقرأ الرواية الواحدة بلسان شخوصها الحاضرين والغائبين، العاقلين والحمقى، الصغار والكبار...

القصة القصيرة هي مساحة إبداعية تشتغل على أداة واحدة بمسميات متعددة: التكثيف، الرمزية، التركيز، الإيجاز، الصورة الوظيفية... وهذا ما يجعلها قصيرة ورقيا ولكنها لا نهائية قرائيا. فعند الشروع في قراءة قصة قصيرة، يضيع القارئ في عوالمها تماما كما قد يضيع القاص المبتدئ في تدفقها ويفقد القدرة على التحكم في خيوطها...

القصة القصيرة مساحة صغيرة لإعادة تشكيل الحياة. ولذلك فالمهم هو توفر القاص على تجربة حياتية (=مادة الحكي) ورؤية للوجود (=وحدة الموضوع) ومهارة في السرد (=تمكن من أدوات السرد والوصف والحوار).


2)- الكتابة ب" المجموعة القصصية " عوض النصوص الفردية المتفرقة:

قارئ أعمال الروائي الأمريكي أرنست هيمنغواي يستطيع بسهولة رصد أسلوبه المتميز بجمل بسيطة قد تطول أحيانا بسبب ميله الظاهري لاستعمال "واو العطف". والمتتبع لأعمال الأديب والفيلسوف الفرنسي ألبيرت كامو يقرن بين الرجل وأعماله وجمله القصيرة جدا. والمقبل على روايات الكاتب الأمريكي ويليام فولكنر يستعد مسبقا لقراءة جمل طويلة متحررة من قيود القواعد والخوف من ارتكاب الأخطاء مادامت مجرد أفكار في رؤوس الشخوص الروائية...

السائد، إذن، هو أن الأسلوب هو الرجل. لكنني أعتقد أن نصوصي ضد النمطية، ضد كل أشكال النمطية. فالنص هو ما يجب أن يحدد الشكل القصصي، أي أن يكون الشكل الفني منسجما ومضمون النص: ان يكون للنص هوية في ذاته، لا أن يكون الشكل دلالة على هوية خارجية هي هوية كاتبه.

التقنيات والطرائق الأسلوبية والسردية يجب أن تنبعث من رحم النص الإبداعي، لا أن تفرض عليه من الخارج. لكل نص شكله الخاص وأساليبه الخاصة وطرائقه الخاصة.

هذا عن الشكل النهائي للنص القصصي أما عن مسار تشكل النص، فهناك من يكتب ب"المجموعة القصصية" وهناك من يكتب بالنصوص الفردية المتفرقة. فمن يكتب ب"المجموعة القصصية" يفكر، أولا، في مبحث يتخذ شكل عنوان للمجموعة القصصية ثم تتفرع عناوين النصوص ثم تتناسل النصوص داخل مبحث واحد ...


3)- امتلاك مشروع جمالي ونظري لكتابة القصة القصيرة مسألة حيوية:

أيهما أسبق، الإبداع أم التنظير؟

يصعب الجزم في أسبقية هذا على ذاك. ولكن يمكن القول ألا وجود للواحد في معزل عن الآخر أو غيابه. فكل قاص يمر بثلاث مراحل أساسية: أولها مرحلة التجريب والمسودات اللانهائية، وثانيها مرحلة البحث عن " المشترك" بين مسودات نصوصه ومحاولة وضع " إطار نظري" يضبط أعماله ويميزها، وثالثها مرحلة الدفع بالتفرد إلى أقصى مداه بالثورة على كل نمطية وعلى كل تقعيد...إنه ارتقاء من " الفكرة العابرة " إلى " التصور النظري المضمر" إلى " المشروع الجمالي المعلن" والذي يبقى أرقى وأنضج أشكال التنظير في الكتابة الإبداعية عموما والكتابة القصصية خصوصا.

والمشروع الجمالي يلعب ثلاثة أدوار هامة في حياة القاص المبدع: الدور الأول يجعل من المشروع الجمالي ذاتا " مبدعة" لنصوص لا نهائية. فهو يرسم "الصورة الكبرى" ويترك للنصوص الفردية فرصة إبداع التفاصيل.

أما الدور الثاني فيتجلى في دور "الرقيب" الذي يمارسه المشروع الجمالي، بعد اكتماله ونضجه، على القاص. وقد تصل سلطة هذا "الرقيب" حد حذف كلمة أو عبارة أو جملة أو فقرة كاملة من نص ما... بل قد يبلغ هذا "الرقيب" من السلطة ما يجعله يؤجل نشر نص ما أو حتى إلقائه نهائيا في سلة المهملات...

أما الدور الثالث والأخير الذي يمارسه المشروع الجمالي المعتمد على القاص فيتمثل في ربط المبدع بالجنس الأدبي ربطا نهائيا وزواجا أبديا يعرف فيه هذا بذاك.

إن امتلاك مشروع جمالي ونظري لكتابة القصة القصيرة مسألة حيوية تكسب الإبداع القصصي وعيا جماليا أخاذا وخلفية ثقافية عميقة.


4)-القاص الحقيقي يعلم أن بداية النص ونهايته تنتظره في ذهن القارئ:

النص القصصي هو بنية فنية تتكون من مجموعة من المتواليات التي، تحت التصحيح وإعادة الإنشاء، تفترض إعادة كتابة النص برمته ثانية وثالثة ورابعة إلى درجة يصعب معها تذكر المسودة الأولى للبداية الأولى...

النص القصصي المكتوب هو انعكاس أو صورة للنص القصصي الخام في دواخل الكاتب. وفي هذا السعي للتطابق، يكتب النص مرات ومرات ويجرب بدايات ونهايات يصعب معها، في آخر المطاف، تذكر البداية الأولى والنهاية الأولى. فالنص لا يبدأ على الورق حتى ينضج في داخل الكاتب وتكتمل خيوطه... والقاص الحقيقي يعلم أن بداية النص ونهايته تنتظره في ذهن القارئ. وتأسيسا على ذلك، فالقاص الحقيقي ليس ذاك الذي يبذر وقته في الانضباط لشكل قار من البدايات والنهايات ولكن القاص الحقيقي هو من يضع نصب عينيه " انسجام النص مع ذاته" و "احترام حرية القارئ ": جمالية العرض القصصي وقدسية حرية القارئ.

لا مكان للنمطية، إذن!

ليس ثمة نموذج أمثل لكل البدايات والنهايات. فلكل بدايته المتفردة ولكل خاتمته المتميزة إذا كانت حركيته الداخلية تقتضي تلك البداية وتلك النهاية.

من حيث المبدأ، "البداية" توظف لتقديم خيوط الحكاية للقارئ. أما "النهاية" فتوظف لتقديم المغزى من الحكاية أو استخلاص الموقف من الوجود في النص.أغلب النصوص الباحثة عن الوحدة العضوية والحبكة المنسوجة تبدأ من نهايتها وتتقدم عكسيا بحثا عن بدايتها عبر متواليات قصصية تضمن لها ذلك التطورالسلس...والنص

القصصي التقليدي يندرج ضمن هذه الفئة من النصوص: "النصوص النامية".

أما النوع الثاني، "النص التأملي"، فلا يدخل في حساباته تطور الأحداث ومهارة الحبكة. فالبدايات بالنسبة إليه ليست ذات قيمة، المهم هو إيقاف الزمن الهارب والاستمتاع باللحظة التي كانت دوما هاربة...

الفرق بين النوعين هو فرق بين "نص نامي" متفاعل يرتكز غالبا على المحاكاة و"نص تأملي" انعزالي صوفي. وداخل كل نوع يتناسل التفرد والاختلاف بحيث يصعب تحديد البداية والنهاية الملائمة للنص قبل نية إعداده للنشر.

5)-ما بين احتراف الإبداع القصصي وتجريب النقد الأدبي:

الكتابة تبقى كتابة غايتها إما تغيير العالم وإعادة تفسيره في حالة الحماس والاندفاع وإما الاستعاضة عن الشعور بالعجز عن ذلك التغيير في حالة" فتور" تلك الحماسة وذلك الاندفاع من فرط تكبد الهزائم والاحباطات.

لكن الكتابة، سواء كانت إبداعا أو نقدا أو متابعة أو بحثا علميا، تبقى تلبية لدافع خفي قوي نضج بما فيه الكفاية في أعماق الذات وصار يطرق الباب طالبا الخروج " للتحقق" دون اعتبار للتخصص الإبداعي والتفريع الأجناسي والمعرفي...

والقصة القصيرة، بنفسها القصير وميلها للتركيز والإيجاز والتكثيف والإيحائية، تتيح هذه الفرصة: فرصة المساهمة في تغيير العالم... ولو على الورق  ! وأعتقد أن كتابا آخرين كانوا يراوحون بين الإبداع والتنظير مثل إ.م. فورستر ورولان بارت وجون بول سارتر وأمبرتو إيكو....


6)-حقول اشتغال القصة القصيرة ومواقفها من الوجود:

القصة القصيرة تشتغل على ثنائيات متقابلة: الوجود والعدم، التطور والثبات، الفعل واللافعل، الواقع والمثال، الحياة والموت ، القول والفعل، الوضوح والغموض، اليقين والشك، الاستقرار والتيه، الإنفتاح والتطرف، الفرد والمجتمع، الحب والكراهية، الحرب والسلم، المنطوق والمسكوت عنه... ومن خلال هذه الثنائيات، ينتصر النص القصصي لأحدهما على حساب الآخر مفصحا عن موقفه من الوجود وعن خلفيته الإيديولوجية وسنده السوسيو- ثقافي.