عصفور السطح | |
أفيش الفيلم بالفرنسية | |
إخراج | فريد بوغدير |
بطولة | سليم بوغدير مصطفى العدواني ربيعة بن عبد الله محمد إدريس هيلين كاتزراس فاطمة بن سعيدان عبد الحميد ڨياس جمال ساسي كارولين شلبي |
موسيقى | أنور براهم |
تاريخ الصدور | 1990 |
مدة العرض | ساعة و35 دقيقة |
اللغة الأصلية | العربية |
عصفور السطح، فيلم تونسي من إنتاج سنة 1990 وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج فريد بوغدير. تدور أحداث الفيلم في حي الحلفوين الشعبي والعتيق أين يعيش نورا بطل الفيلم فترة ماقبل المراهقة. يبرز الفيلم الواقع الإجتماعي عبر إكتشافات نورا من خلال أبناء حيه، أمه وقريباته، والده وبيئاته الإجتماعية.
حقق الفيلم نجاحا جماهيريا كبيرا وحصد عدة جوائز دولية في أمريكا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا،مصر...
فهرس
|
تروي احداث فلم عصفور السطح حكاية الصبي (نورا) وهو يجتاز عالم الطفولة ليدخل عالم الرجال في حي شعبي هو (الحلفاويون)،فيما ينكر عليه اصدقاءه وأهله هذه الرجولة المبكرة رافضين مشاركته لهم في ما يفعلون، ولكنه يستثمر هذا الانكار حين يصبح مصدر المعلومات الجنسية لصديقيه المراهقين عبر دخوله الحمام النسائي في الحي مع والدته، وتستمر الاحداث المحيطة به كاشفة عن تحولات الحي في عين الصبي. الذي يكتشف تلصصه على النساء من قبل حارسة الحمام فيطرد، محولاً نوازعه الجنسية باتجاه خادمة البيت الصغيرة (ليلى)، والتي يسعى إلى اغوائها ليلاً وهي نائمة أكثر من مرة، حتى تتيح له الفتاة نفسها الفرصة ليتحرر من عبء رجولته وليحقق حريته، ولتنتهي الحكاية، بتجاوزه سلطة الاب وعبور مرحلة الطفولة.
ويبدو لمن يتأمل الاحداث قليلاً، ان ثمة نمطاً من السيرة الذاتية في الفلم فالمخرج (فريد بوغدير) كتب السيناريو محاولاً صياغة ذكرياته في قالب سينمائي ولكنه لم ينظر إلى هذه الذكريات بروح التذكر الشفيف فحسب، بل حاول جعلها فرصة لاستعراض بنية المحيط من خلال عيني طفل له من الوعي والتدبير ما يجعله طفلاً مفترضاً يختبئ وراء ملامحه البريئة وعي المخرج الناقد الذي لم يتخذ من ذكرياته إلا سلماً للوصول إلى غايته الاساسية وهي نقد البنية الاجتماعية في كل تحولاتها النفسية والدينية والسياسية والثقافية وهو ما يجعل الجنس والايروتيكا في هذا الفلم معطىً اجتماعياً بل هو ما يجعلهما في الحقيقة غطاءاً جذاباً لقضية غير ايروتيكية تماماً.
ان تأسيس الحكاية الفلمية على السيرة منظوراً اليها بعين الحاضر العاقل يجعل من حلميتها وصفائها عرضة للاسقاطات الواعية والتوظيفات القصدية. الامر الذي يهدد بتزوير السيرة أو تعديلها،او ادعاء وعيها، وهي ليست كذلك اصالة مما يضفي على الحكاية شيئاً من البطولة الخيالية التي تليق بشخصيات الحكايات الخرافية، وربما كان هذا المعنى مقصوداً، ولكنه، على جماليته الفنية يجعل متن الحكاية متضمناً شيئاً من الافتعال وعدم الاتساق والمغايرة غير الفنية مع الواقع الذي يفترض الحاكي / المخرج انه يحاول تصويره كما هو، انطلاقاً من رؤيته النقدية اذ لا تتحقق صحة الرؤية النقدية لواقع مدلس ومزور وغير واقعي، بمعنى ان حكاية الفلم عبر اسسها الظاهرة والباطنة، حاولت تقديم مجتمع مفتعل على انه مجتمع حقيقي وهو ما جعل الاصل السيري فيها محكوماً بوعي المخرج الناقد، فلم يكن واصفاً كما ينبغي للسيرة ان تكون، وانما كان مغيراً لسياقاته ومحاولاً توجيهها بما يخدم قصده، وهو ما قاد الحكاية الفلمية إلى المجاهل قد يراها الطفل، ولكنه ابداً لن يأخذ منها موقفاً واعياً ولا يفسرها في عمقها السحيق كما اراد له بوغدير ان يفعل.
ان لفلم عصفور السطح سمة مميزة تعدل من النظرة إلى العناصر الايروتيكية فيه،وهي كونه فلماً عربياً أي انه معرض رقابياً لغير ما يتعرض له الفلم الغربي من معوقات، وهو ما يقتضي منها اسلوباً فنياً في التعامل مع المحظور رقابياً. ومن هنا فقد كان حضور العناصر الايروتيكية الايمائية اعلى وتيرة من عناصر الجنس الصريح الذي لم تتحقق صراحةً إلا في مشهد واحد فحسب كانت الصراحة فيه ايضاً ايمائية وليست تامة كما هو متوقع منها. وتنتشر العناصر الايروتيكية على مساحة الفلم كله بوصفها قضية رئيسة له بدءاً من المشهد الاول الذي تحضر فيه اللغة بوصفها الايروتيكي من خلال تحرش الصبيين صديقي نورا بالفتيات في السوق تحرشاً لفظياً جنسياً، وانتهاءً بالمشهد الاخير الذي تتزوق فيه العمة لتخرج في مسعى ايروتيكي واضح في كلامها وفي مشيتها وما بين المشهدين كانت العناصر الايروتيكية تتكاتف وتتقاطع لتنسج حكاية الفلم.
وعلى راسها الحوار الذي اسس لمعطيات الايروتيكا الاخرى، فمنذ مشهد السوق الافتتاحي والحوار الايروتيكي هو الذي سيحرك معارف نورا واتجاهه صوب رجولته، على الرغم من تغليف الحوار بمعطيات عاطفية تخفف من حسيته ولكن هذا التخفيف يمثل رؤية حضارية – لغوية، تخص طريقة مجتمعاً ما في الحديث عن الايروتيكا،وهذه الطريقة لا تنفي موضوعها الجنسي مهما حاولت اخفاءه أو تلطيفه أو تهذيب الفاظه.
اما الموسيقى فقد اقترنت ايروتيكياً، في عصفور السطح، بالنشوة، فقد كان الرمز الايروتيكي في الفلم (العم صالح) مغنياً وعازفاً وكان يعامل العزف وكأنه ممارسة جنسية في نشوته، محققاً في ذاته ثالوث اللذة الذي انفرد به عن شخصيات الفلم كلها : الجنس، والشراب، والغناء. ومن هنا كانت موسيقاه تحمل طابعاً ايروتيكياً، في حين خلت الموسيقى الخارجية (موسيقى الفلم التصويرية) من أي إشارة ايروتيكية، إلا اذا عددنا حضورها في لحظات عاطفية يحمل معنى ايروتيكياً، ولكن الموسيقى بذاتها لم تكن تحمل هذا الطابع إلا في مشهد واحد هو مشهد تحرر الفتى بعد ممارسته الجنس مع الخادمة، ولكن الموسيقى في هذا المشهد جاءت خادمة للحركة المنتشية التي وجهت دلالتها صوب الفرح الايروتيكي، لا بذاتها،بل بواسطة التوجيه الذي املته الحركة، واملاه السياق في كون هذا المشهد تابعاً لمشهد ايروتيكي صامت.
واما الاغنية فقد كان لها ايروتيكياً حضوران : حضور ايمائي من خلال الحوار الغنائي بين صالح والخالة والذي اعقبه لقاؤهما في البيت وهذا الحضور اكتسب ايمائيته من كونه خالياً في ذاته من أي إشارة ايروتيكية، فقد كان صالح يغني في حفلة ختان الطفل اخ نورا حين انبرت الخالة لتقاطعه وترد على أغنيته باغنية فيها نغمة حسية عالية، وفيها جرأة في التوظيف الامر الذي جعلها تبث اشعاعاً ايروتيكياً، فهم منه الطرفان ما تحقق في ليلة الحفلة ذاتها في لقائهما الليلي. واما الحضور الاخر فكان حضوراً صريحاً كانت فيه الاغنية موظفة جنسياً بشكل صريح، في الفاظها وسياقها وهو ما تحقق في مشهد الجلسة النسائية التي سبقت حفلة الختان، حيث بدا الحديث يأخذ طابعا جنسيا ساخرا، تتحدث فيه النساء عن رموز جنسية معروفة ثم تغني احداهن (ليلة عرسي هداني باذنجانة) وهي اغنية تنضح بالجنس وكأنها تتويج لحديث النسوة عن الرموز الجنسية.
واما الصمت فقد كان سائداً في معظم المشاهد الايروتيكية، الامر الذي يمنحه طابعاً ايروتيكياً بالواسطة، كما في مشهد التسلل الليلي لنورا صوب فراش الخادمة، ومشهد مراقبة نورا لأبيه وهو يهاجم خالته، ومشاهد الحمام.
واولها الصورة الساكنة (الفوتوغرافية) التي استخدمها بوغدير في مشاهد المعرفة الجنسية، فقد كانت الصور الجنسية في المجلات التي وجدها نورا في دكان أبيه، هي مصدر معرفة نورا وصديقيه الصبيين بالعري الانثوي، وهي مصدر فكرة التسلل إلى الحمام، وقد ركز بوغدير في هذا المشهد على عرض الصور في المجلات في توظيف واضح لامكاناتها الدلالية، في حين كانت صورة (عبد الحليم حافظ) التي جلبتها الخالة وعلقتها في غرفتها بعد انزالها صورة طفلين متجاورين، إشارة ايروتيكية على مفهوم الخالة الحسي للحياة، ومقدمة ايروتيكية ايضاً، وان كانت خفية بعض الشيء على علاقتها بالمغني صالح، فضلاً عن ايحائها بالموروث الشعبي ذي الاصل التراثي، الذي يربط الغناء بالايروتيكا وفقاً لمقولة (الغناء رقية الزنا)(10). ومن العناصر البصرية ايضاً الرموز المرئية وهي التي سادت مشاهد بأكملها،كما في مشهد اجتماع النسوة حيث حضرت الرموز الذكرية كلها (الخيار والجزر والباذنجان) تساوقاً مع حضورها الصوتي في حديث النسوة، كما حضرت رموز فقدان البكارة،والتمثيل الايمائي للايلاج في مشهد حلم نورا الذي تكرر أكثر من مرة، وفي معالجة العمة من قبل الشيخ مختار. فيما كانت الرموز الفرويدية متوافرة في غسل الام لقدمي زوجها، وفي قياس صالح لقدم الخالة بغية صناعة حذاء لها، وفي سقوط قطرات من دم الذبيحة على فخذ الخادمة، كما كانت مشاهد تهيئة الطعام، لاسيما مشهد الحشو، ذات دلالات جنسية واضحة اكدها طولها قياساً إلى دلالتها الاصلية.
وقد توافرت عناصره بدءاً من القبلة وانتهاءً بالعري التام وكانت مشاهد الحمام التي تكررت مرتين في الفلم، طافحة بالعري، فيما كانت محاولات نورا لاغواء الخادمة متدرجة في عريها وصولاً إلى العري التام في مشهد المضاجعة. فيما كانت الملامسة والعناق والقبلة مؤشرات على الفعل الايروتيكي في مشاهد العم صالح والخالة، وفي مشهد الاب وزبونته في المحل. إما مشهد المضاجعة فقد كان العري فيه مغلقاً بزاوية التصوير والغطاء ولكنه كان كافياً تماماً للدلالة على المضاجعة بمعونة قرائن السرير واطفاء الضوء وملامح ابتسامة الخادمة فضلاً عن رقصة الفرح المنتشي التي عبر فيها نورا عن اجتيازه الاختبار الجنسي الاول.
ويمكن القول ان حضور العناصر الايروتيكية في عصفور السطح كماً ونوعاً، يفوق أي حضور لها في أي فلم عربي آخر، لا من حيث جرأتها فحسب بل من حيث تركيزها على هيمنة هذه العناصر على بنية الفلم، وحركة مكوناته باتجاهها، وهي حركة تكشف براعة بوغدير في توظيف هذه العناصر في معظم الاحيان دون ان يعني هذا اغفال بعض اخطائه، لاسيما في تصوير مشاهد الحمام، التي يفترض واقعاً انها أكثر ايروتيكية ووضوحاً، وكما في الحاحه على البعد الفرويدي للرموز، ولاسيما رمز السلطة ورمز الجنس وربط هذه الرموز بالخوف والحلم دون مراعاة لعمر الصبي ورجولته.
تكتسب البنية العميقة في عصفور السطح خصوصيتها من كونه فلماً خارجاً جغرافياً، من اطار السينما الغربية السائدة، كما ان محلية موضوعه تجعل من بنيته تابعة، بشكل ما، لهذه المحلية، وبالتالي تؤسس خصوصية الرؤية. غير ان هذا النظر العام. أي الذي يمكن ان يلحظ في كل فلم خارج آلة السينما الغربية لا يعني الاختلاف ضرورة ولا يعني تميز الرؤية أو خصوصيتها لان المحلية وحدها لا تكفي، لاسيما في فن يكاد يكون غربياً كلياً كفن السينما. ويكون مدار الاختلاف والتميز هنا، هو وعي المبدع بخصوصية محليته وسعيه التواق إلى ادراكها بوصفها بنية قائمة بذاتها، وليس بالقياس على غيرها. مع الابقاء على امكانية القياس في الاداء لا في البنية، لاسيما في الاتجاه النقدي الذي يسعى إلى تحليل معطيات البنية وطرائق ادائها في سبيل تعديلها واعادة صياغتها. غير ان هذا الاتجاه النقدي، حتى بافتراض صحته، لابد من ان يؤسس مقولاته على ايمانه بالاختلاف والخصوصية، وان يقرأ البنية قراءة تضع في حسبانها هذا الامر. ويمكن القول فيما يخص عصفور السطح ان قراءة بوغدير للاداء افضت، بوعي منه أو بغير وعي إلى اساءة قراءة البنية اساءة قصدية. أي ان الامر اختلط على الوعي المبدع فحاكم الاختلاف على وجوده متوهما انه انما يحاكم الاداء السيئ لهذا الاختلاف. وهذا الخلط هو الذي قاد قراءة بوغدير الفلمية لمحيطه المحلي إلى ان تكون متضمنة صورة الاخر المعيار والقياس، وليس المحاور، وهذه المعيارية تعني ضمناً ان اختلاف المحلي ليس كينونته بل هو شذوذه غير المقبول عن القاعدة التي يمثلها الاخر، العالمي بحسب وعي بوغدير. ولان هذا الامر قد تحقق في الاداء فانه يكشف عن محاور البنية العميقة للرؤية، وبطريقة تختلف عما وجدناه أو نجده في الافلام الاخرى، فالرؤية هنا لا تفقد الخصوصية لجهلها أو سطحيتها وانما لتوهم قراءتها والتباسها وهو توهم لا يشعر به القارئ المبدع لانه يقصده اصلاً دون ان يسميه توهماً.
وليس المحظور في هذه الرؤية هو المحظور الرقابي، حتى وان كان اجتماعياً، وانما هو اقرب إلى المصطلح الخاص الذي أَلِفَه الوعي العربي منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، متأثراً بمعطيات الفكر المادي الذي كان يهاجم بنية المحظور، بحسب رؤيته في المجتمع العربي بوصفها ثلاثية الاركان : الجنس والدين والسياسة. وصار الحديث المكرور عن هذه الثلاثية اشبه بالموضة، بل اصبح موضة فعلاً عندما اقتنع الجميع تحت ضغط ظروف متراكمة بان هذه البنية لا تمثل خصوصاً محلياً، وانما هي عناصر تخلف وبنية هدم ينبغي ازالتها، فصارت شجاعة المرء تقاس بخرقه لهذا المحظور، دون ان يعني هذا الخرق بنية بديلة ودون ان يفحص المحظور فحصاً جديداً وينظر فيه، أهو محظور حقاً ؟! ام انه عدو وهمي، وحصان مريب وضع قرب الاسوار لغاية دنيئة ؟ ويمكن للباحث هنا ان يسجل ان السعي إلى خرق المحظور أو حتى الحديث المتكرر عن (محظوريته) انما يكثر في البلدان العربية التي كانت الثقافة الفرنسية أكثر نشاطاً فيها بحكم الاستعمار، لاسيما لبنان والمغرب العربي. الامر الذي يعطي لهذا المحظور طابعاً (فرانكوفونياً)يكشف عن غاياته، التي يمكن تلمسها في مثقفي هذه البلدان وفي المشاكل والهموم التي يتناولونها بصورة دورية ملحة. وهذا الملحظ يكشف ضمناً ان ما هو محظور يبدو محظوراً اقليمياً، وليس بنية حضارة وثقافة، بل هو ان دقق المرء في احوال محيطة، يبدو وهماً بالمحظور على مستوى الواقع لان مساحة الحرية، لاسيما الدينية والجنسية، اعلى بكثير في هذه البلاد، تقنيناً ومجتمعاً، منها في البلدان الاخرى التي يدعى انها تخضع ايضاً لبنية المحظور ذاتها. فضلا عن ان هذا الوهم يتأكد عندما نلحظ المعيار الآخر. الذي يعاني هو الاخر من بنية المحظور وبالدرجة ذاتها وبالاركان نفسها، وما (المكارثية) عنا ببعيد، ولا محاكمات الفكر والفن إلى يومنا هذا ببعيده، حتى على مستوى المسموح به اجتماعياً، فقد تعرض (بازوليني، اوشيما، سكورسيزي وبرتولوتشي) وغيرهم إلى محاكمات بسبب تعرضهم لقضايا (محظورة) في الدين والجنس، على الرغم من علمانية بلدانهم واباحيتها في الواقع وهذا ما يجعل وهم المحظور ليس بنية شرقية يتقاتل مبدعونا لادعاء كشفها وانما نمط بنائي عتيد في الحضارات كلها. ولعله جزء من جوهر كينونتها، بمعنى اختلافها، الذي يستلزم مقاربته وصفياً لا معيارياً وقراءته معرفياً لا قياسياً. وفي ما يخص عصفور السطح، فان مقاربة المحظور فيه محور اساس، بل هو الفلم كله، من الفه إلى يائه، تماشياً مع وعي مخرجه الذي قارب المحظور ذاته، وبصورة أكثر حدة وافتعالاً في فلم آخر له هو (صيف حلق الوادي)(11). وتكرار المقاربة هذا يؤكد تجذر وهم المحظور في وعي بوغدير كما يجذر وهم اعتقاده بضرورة التعرض له في كل مرة، لان هذا التعرض، وهنا وهم ثالث، يؤكد شمولية القراءة والتحليل وكان كل شيء خاضع لسلطة هذا المحظور وواقع تحت براثنه، وهو ما يقوده إلى تأسيس نقد اجتماعي جزئي احادي الرؤية يقع في الانغلاق ذاته الذي يرزح تحت عبئه المحظور المزعوم. فالانغلاق، بحسب رؤية بوغدير،هو اصل المحظور في السياسة والدين والجنس ولكنه ينغلق فنياً عندما يفرض على تحليله رؤية قبلية صارمة حكمت اصالة بجرم المحظور فيما يتناوله هو من موضوعات. فعلى مستوى السياسة يعرض لنا فلم عصفور السطح التظاهرة والاعتقال والشعارات والخوف ومراعاة مزاج السلطة حتى في اقل درجاتها،دون ان يقدم وعياً مقابلاً، الافي حالة المقبوض عليهم وهم مغيبون في الفلم تماماً إلا بوصفهم شيئاً يخدم معطىً اخر، والا فيما كتبه العم صالح وهو سكران على الحائط مندداً بفكرة (خدمة الكل للزعيم) ولكن وعي صالح هنا مغيب اصالة بالسكر، وكأن العربي لا يتفقه السياسة ولا يدركها ولا يكون له موقف منها إلا وهو فاقد لعقله (سكران) بل ان صمت صالح امام ما كتب عندما قبض عليه عريف الحومة ورجال الامن يؤكد هذا الغياب ويحول السياسة بكل جبروتها وثقلها إلى هوىً عاطفي في وعي العربي، واثبات بطولة فارغة تستعين بالخمر لتثبت ذاتها. لقد اراد المخرج بوغدير في هذا المبنى ان يبين سطوة السياسي وطغيانه وقوة المحظور فيه، ولكنه لم يقدم البنية الفعلية لهذا السياسي ولا لنقيضه، وبدا وعيه في هذا المحور متخلفاً حتى عن الواقع السياسي الفعلي في تونس، الذي يحكي فلمه عن احيائها،كما ان غياب الوعي الناقد، وانحياز المبدع إلى رؤيته افقداه القدرة على تبصر السياسي بشكل اعمق وعلى صياغة الرد عليه بشكل أكثر فاعلية وادراكاً. واما على المستوى الديني، فالمحنة عامة لا ينفرد بها وعي بوغدير، لان صورة الدين الرجعي المتخلف المضاد للحضارة، يمكن ملاحظتها في الخطاب السينمائي العربي بوضوح، وبصورة تلفت الانتباه إلى ما وراء الخطاب، الذي يقبل بالدين بوصفه (فلماً تاريخياً) ويهمشه إلى درجة التزوير بوصفه واقعاً حضارياً واجتماعياً. فالدين بوصفه رديفاً للسلطة ومسوغاً شرعياً لجبروتها وظلمها، هو الذي يسعى الخطاب الواعي إلى تقديمه، وهي رؤية نقدية لها ما يسوغها، ولكن احاديتها والاصرار عليها فيما هو ليس بنقدي يجعل من حضورها الدائم وصورتها الادائية عرضة للشك والبحث عما تحت البنية من دوافع. ولعل من علامات الهيمنة الغربية على الوعي السينمائي، ان الحوار مع الدين في الوعي الغربي يؤمن بامكانية الاختلاف وحق الايمان ولا يهمش الرؤية المضادة حتى لو كان عنيفاً في رفضه لمقولاتها، فيما يفرض هذا الوعي نفسه، عن طريق التثقيف والانتاج المشترك وشروط التلقي الاعلامي، على الوعي الشرقي، والعربي خاصة، ان لا يفعل ذلك، وانما ان يتشنج في رفض الرؤية الدينية وكأنها مرض أو تخلف لا جدى من مناقشته أو علاجه. ويقيناً ان الوعي المغاربي العربي أكثر تقبلا لهذه الهيمنة من خلال تحقيقه رؤيتها، فالدين في الافلام المغاربية وعصفور السطح نموذج لها، تخلف مطلق وعلامة عجز وظلامية وانقطاع عن العالم والحضارة. ولعل الطف ما يلحظ في هذا الباب ان الواقع الاجتماعي المغاربي على العكس من هذه الصورة تماماً، فالدين ليس مؤثراً بوصفه السلطوي، في هذا الواقع، وهو في حالته الواعية محور بنية الوعي الاجتماعي، ومحور حركة الفعل الثوري واتجاهاته، كما كان في ثورة الجزائر وسنوات مقارعة الاستعمار. واذن فان الخطاب السينمائي المغاربي يزور واقعه دينياً ليكون الدين فيه تزمتاً وخرافات وسحراً وانغلاقاً لا شفاء منه. والاهم من كل هذا، أو ربما نتيجة كل هذا، افتقاد الانسانية وعدم الحوار مع الذات والآخر ولعل شخصية الشيخ مختار في عصفور السطح هي الدين كما يراه بوغدير أو كما يريد ان يقدمه على انه رؤيته، وهي شخصية مريضة نفسياً ومنغلقة وعديمة الحس ومتخلفة وذلك باعتبار مطاردته للصبيان وهم يتحرشون بالنساء في السوق، وبمشاركته في ضرب نورا بناءً على وشايته به لابيه، وبرفضه العواطف الغدقة التي تبثها العمة طوال الفلم، وبايمانه بالجن ومحاولته اخراحهم بالحجاب والكي وهذا كله مالوف عرضت له الافلام المصرية حتى صار سمجا وغير منطقي ولكن بوغدير ينفرد بامر لا يشاركه فيه أحد وهو تجارة الرقيق التي اسندها ضمنا إلى مختار عندما جعله يورد الخادمات إلى البيوت فهو الذي جلب ليلى إلى بيت نورا وهو الذي اعادها بعد طردها وهو الذي قبض عمولته في الحالتين وهذا الايماء المذهل وغير المسوغ إلى تجارة الرقيق وربطها بالدين انما يتساوق مع رؤية استشراقية مغرضة تحاول ان تجعل من الاسلام والعرب تجار رقيق لا غير. ومن العجب ان يؤمن بوغدير بهذا رغم تفنيده حتى من قبل مفكري الغرب انفسهم غير ان سطحية الموقف من الدين والسعي إلى ارضاء الاخر عبر تشويه الذات هو ما قاد وعي بوغدير إلى الوقوع في هذا الفخ. واما على المستوى الجنسي فقد كان محور الحكاية الفلمية مبنيا عليه وهو ما يسوغ حضوره المتواصل في الفلم منذ مشهد البداية وحتى مشهد النهاية.غير ان بوغدير لم يحتف بالجنس في هذا الفلم ولا احتفى بخصوصيته، لا في الحكاية ولا في الواقع اذ ان حضور الجنس في الفلم لم يكن لذاته كما يمكن ان توهمنا حكاية الفلم وانما هو حاضر بوصفه جزءا من المحظور، وعنصرا من عناصر نقد البنية الكلية. ويبدو من خلال عصفور السطح ان بوغدير يؤمن بسيطرة الدافع الجنسي على وعي مجتمعه رجالا ونساء وهي سيطرة مرضية تجعل من الحسي محورا لكينونة هذا المجتمع وهدفا لحركته الانسانية.وهذه الحسية الجنسية هي اللب الذي تغطيه قشور المجتمع بمظاهرها فقد اثار حضور الخالة في مشاجرة امام دكان صالح وهجا جنسيا عاما جعل الكل يلتفتون ويتغزلون(يستمنون) ضمنا فيما كان حديث الجنس محور اللقاء النسوي وكان الجنس هاجساً للجميع، ماعدا مختار / الدين، في مقاربة غير معقولة بين الحسية والحياة، وتصل سطوة الجنسي إلى حد الايحاء بزنا المحارم، عندما يتعرض الاب جنسياً لأخت زوجته، غير ان هذا كله لا ينفي الطابع المرضي الذي قدم فيه الجنس في الرؤية، فالنساء سهلات يتقبلن المداعبات الجنسية بيسر ويسمحن بالكثير، كما في مشهد الزبونة وصالح ومشهد الاب وزبونته ومشهد الخالة وصالح ومشاهد نورا وليلى، وكأن الجنس هو الغاية من كل هذا الوجود وتشابك علاقاته، كما ان اختلاف الذوات واتحاد الصفة يجعل من هذا الهدف أكثر وضوحاً، اذ لا فرق بين الواعي وغير الواعي، ولا المحب والكاذب، ولا المتسلط ولا الحنون، فالمجتمع كله مصاب بالهوس وباحث عن اللذة والجنس في عصفور السطح بوصفه محظوراً بحسب رؤية بوغدير، يؤسس اللازمة الكلية للوجود الاجتماعي، ويومئ اليها ولكننا لا نرى وجهاً فعلياً لهذه الازمة ما دام الكل قادرين على الحصول عليه، إلا اذا اعتبرنا الغطاء الاخلاقي الشفاف الذي تتذرع به الشخصيات ووقارها المصطنع هو الازمة، وهو ليس كذلك. لا في الواقع ولا في الاداء.
ان مقاربة المحظور على المستوى العام كانت مفتعلة، مهما كانت الرؤية التي تقف وراءها، فالحكاية الفلمية لم تكن اطلاقاً في حاجة إلى ركنين من ثلاثية المحظور المزعومة، فقد كان دخول السياسي هامشياً وضعيف العلاقة بالحكاية الفلمية بكل ابعادها وعناصرها. وكذلك دخول الديني الذي ينتفي تماماً بحذف شخصية مختار، وهي هامشية في المبنى الفلمي كله، ولن يؤثر اسقاطها على الفلم حكائياً ولن يؤثر حتى على ترميز السلطة وعلاقاتها بالذات الذي يسعى اليه الفلم.
وعليه فالركن الوحيد الذي كان متساوقاً، من حيث الحضور، مع المبنى الفلمي هو الجنس، وكان يمكن لبوغدير ان يوظف معطياته في تأسيس ما اراده من المحظور حتى باركانه الثلاثة ولكنه آثر ان يلصق هذه الاركان لصقاً وهوما جعل مقاربة المحظور شكلية وغير واعية وعياً خلاقاً فضلاً عن تكرارها واستسهالها الفكري، وهو ما يسم الرؤية الكلية بالجمود الفكري والاحادية العقائدية، واضعاً اياها في خانة المحظور نفسه الذي تدعي مقاربته وتنفيذه.
بتأثير من الثقافة الغربية التي صار للسلطة فيها علم نفس قائم بذاته، كانت مداخلة المبدعين العرب مع هذا الوجود دون نسيان خصوصية القهر السياسي والسعي إلى الحرية بصورتها الظاهرة، لا بعمقها الفلسفي، الذي يتحكم في المجتمعات التي تتعرض طويلاً إلى الاستبداد. والحال ان ما هو آني قد نمطى على ما هو جوهري وغير متزمن، وافقده، بالالتباس وتبادل المواقع، قدرته على تحريك الجوهر الجمالي في الوجود، بمعنى ان البحث عن مظاهر الحرية قد اخفى في تقلباته وآنيته وتعدد الرؤى فيه، الجوهر الحي للحرية بوصفها شرطاً انسانياً اصيلاً في علاقة الانسان بذاته وبما حوله. وهذا الشرط الجوهري الخفي في معظم الاحيان لا ينفي اهمية وخطورة مقاربة المظهري بحثاً عنه، فالسعي المحموم إلى الحرية لا يمكن ان يكون في الجوهر فحسب إلا على مستوى الوعي الخلاق، فيما يحتاج الوعي العام السائد إلى المظهر لاثبات اتجاه سعيه الجوهري وتصديق مقولاته والاستمرار فيه. ومن هنا تأسست الرؤية الشكلية للحرية بوصفها مكاسب آنية يحصل عليها المرء بالنضال، وليس بوصفها اشكالية وجودية كبرى يخضع الجميع لجوهرها المتحرك الذي يتمظهر في الآني والزائل ومن هنا كانت الحرية السياسية والحرية الجنسية أكثر مظهرين مطلوبين للحرية الاصلية، ولم يكن لهذين المظهرين من معنى لولا تجذر مفهوم السلطة في الوعي الانساني بوصفها قوة ضاغطة على الحرية أو كابتة لحركتها، ان لم تكن عند البعض الضديد الجذري لها. وعليه فان محور السلطة والحرية يمثل اصلاً من اصول البنية العميقة للرؤية العامة في الخطاب الفني، لاسيما بتأثيرات القراءات الماركسية والفرويدية، وما نشأ عنهما لهذا المحور.
وفي رؤية المبدع السينمائي، في فلم عصفور السطح، كان حضور السلطة واضحاً بكل تجلياته، بدءاً من سلطة العرف / الدين في المشهد الاول التي تمنع حرية الصبيان في التحرش، ومروراً بسلطة الاب / الفلقة، وحارسة الحمام /الطفولة،والام / الخادمة، وعريف الحومة /الاعتقال،والحلم / الغيلان وانتهاءً بنهاية الفلم التبشيرية بكسر السلطة على مستويين : المرأة / الجنس، والطفل /الرجولة وهو ما تعرض له محور السلطة في الفلم، الذي هو الاب، الذي فقد كل مقومات سلطته في لحظة واحدة، اذ خرجت اخته وابنه عن طوعه في مشهد النهاية، وهو مشهد له رمزية عالية لان البنية البطريركية (الابوية) للمجتمع العربي كما يراها بوغدير هي الاصل في كل تجليات السلطة وتمثلاتها ولذا فان سقوطها الواقعي والرمزي انما هو ايذان بسقوط ما ينتمي اليها في ابويته الدين والسياسة ويلحظ هنا ان مفهوم السلطة في وعي بوغدير ينتمي اصالة إلى السائد الثقافي وليس إلى الخاص الابداعي بمعنى ان هذا المفهوم عن السلطة هو نفسه الذي عرضته الرؤية السائدة في افلام مصرية كثيرة وفي افلام اجنبية ايضا واسس له الخطاب النفسي والاجتماعي حتى صار مشاعا ولكن مشايعته هذه لاتعني انه صحيح مطلقا وانه الرؤية الوحيدة في تفسير السلطة ولو كان بوغدير أكثر تاملا لحاول عزل عناصر السلطة إلى ايجابية وسلبية وإلى جوهرية وعرضية لان هذا العزل هو الذي يؤسس الحضاري وهو سلطة ايضا ويهمش ضديده جاعلا من السلطة كالحرية تماما اسلوبا في الوعي قابلا للتوجه بحسب الرؤية التي تقوده. فالسلطة ليست شرا بذاتها كما ان الحرية ليست شرا بذاتها ولكنه يمكن ان يصبحا شرا مطلقا ومصدرا ازليا لانواع لا تحصى من الشرور. وعدم التفرقة هذه هي التي جعلت من السلطة مقابلاً ضدياً للحرية، في وعي بوغدير، على الرغم من انهما جوهران متحركان متقابلان، ينتهيان إلى الفعل الانساني الصميم نفسه، وما الفرق بينهما إلا في الاتجاه وليس في بنية الوجود. وحتى لو آمنا، مع بوغدير، بهذه الضدية فان مفهوم الحرية في وعيه كان مشوشاً وغير عميق، فالحرية كما قدمها الفلم، هي التحقق الجنسي، لا المشروط بالحوار، بل بالعلاقة الفوقية أو الخديعة واستثمار التفاوت، فلو لم تكن ليلى خادمة لما كان لنورا ان يدنو منها، ولولا تحريض الخالة والموقف العام في البيت لما استطاعت العمة الجهر برغباتها والخروج، ثم يبقى السؤال الأهم، هل الحرية في عرف بوغدير هي هذا التحقق والخروج، الذي هو سعي للتحقق الجنسي ايضاً ؟ بمعنى هل الحرية اصالة في المبنى الجنسي فحسب،وهل هي في مظهره الجسمي الخالص ؟ اذا كان الامر كذلك،وهو ما يقوله الفلم، فان ازمة المظهر والجوهر متأصلة في مفهوم بوغدير للحرية، فهو يجعل المظهر الآني الزائل الاحادي علامة أو مماهياً للجوهر المتحرك المتعدد غير المتزمن، وهذا ما يقود إلى القول ان رؤية المبدع للحرية هي نفسها رؤيته للسلطة ولكن من منطلق آخر، يمكن ان نسميه التكافؤ السلطوي أو انتقال القوى اذ ان سقوط سلطة الاب يعني ضمناً صعود سلطة الذات وتحرير الابن يتضمن، بحسب وعي بوغدير في الفلم، انهاء الصلة بالمحيط حوارياً،والتعامل معه وفقاً لقانون سلطته الجديد فالامر ليس حرية بل سعياً إلى المشاركة في السلطة، ولو على حساب حرية الاخر، فالجنس الذي حقق حرية (نورا) القى بثقل سلطته على جسد ليلى ومستقبلها، وحرية العمة قربتها منزلة من مستوى العاهرة، لانها تبحث، مخالفة لشرطها الانساني عن أي ذكر، وبعد فشل محاولاتها، الحرة والانسانية مع مختار – وحرية الخالة التي احتفى بها الفلم كثيراً، لا تعدو ان تكون في التحقق الجنسي العابر، وغير المسوغ، حتى على مستوى الايروتيكا، مع زير نساء هو بذاته، بحكم صفة الزير التي يمتلكها يمثل أكبر مهانة للوعي الحر واكبر اذلال سلطوي يمكن ان تتعرض له المرأة، وهو ما اغفله بوغدير في خضم تساهلاته ولهوه بالقضايا الكبيرة.
تشتمل الرؤية الفنية وقبلها الوعي الذاتي لكل مبدع غير غربي، على وجه من وجوه محنة الاخر وعلاقة الذات به. وهذا الاشتمال، الجوهري في الوعي، هو الذي يحدد التغاير والمخالفة أهما في العمق من الرؤية أم في ظاهرها السطحي ؟ ولا يعني هذا ان الموقف السلبي من الاخر هو العلامة على الخصوصية، بل الايمان بحق الخصوصية في الوجود نداً مكافئاً للاخر، وليس تابعاً له، أو صورة من صوره الهامشية. كما ان هذا لا يعني خلو وعي المبدع الغربي من هذه الاشكالية، ولكن صورتها أكثر حدة ووضوحاً بحكم هيمنة الرؤية الغربية ومركزيتها في الوعي غير الغربي، الذي ينطلق اصلا من نقطة شروع غير عادلة في هذا التوازي الوجودي، فقد سبقه الغربي فعلاً ووعياً، أي ان السبق الغربي في ارض الواقع، تكنولوجياً وعلمياً، خلف وعياً محايثاً يؤمن بالسبق حضارياً، وثقافياً، وهو ما يعزز وجود المركزية الغربية في ذاتها وفي ذات المتلقي غير الغربي. ولسنا نبتدع قولاً اذا اومأنا إلى السينما بالذات، على انها اعلى مراحل هذا السبق، لانها فن غربي بالكامل، نشأة وتطوراً ومقولات، بل وحتى جمالية اصلية ونظرية تكوينية. الامر الذي يجعل من صورة الاخر أكثر ارتكازاً وعمقاً في وعي المبدع السينمائي منها في وعي المبدع الشعري أو التشكيلي مثلاً. وعلى الرغم من ان فلم عصفور السطح، لا يتعرض لقضية الذات والاخر في احداثه اطلاقاً، إلا انه يتضمنها اصالة من خلال القياس والمقارنة، ومن خلال رؤية الحضور والغياب التي تنبني على النص على التناقض حتى قبل حدوث التماس. فالصورة التي عرضها بوغدير للمجتمع التونسي، بصفته العربية الاسلامية، تتضمن اصالة صورة نقيضها، بحسب وعي بوغدير ايضاً، الغربي، الذي هو معيار صحتها وصوابها، وبناءً على مقولاته تفحص مقولاتها وتقبل أو ترفض، ومن هنا تأسس مبنى القوة على سند الاخر ومشابهته، فالعم صالح قوي، لانه كالاخر، لا يبالي بالدين ولا بالسياسة ولا بالمحظور، الجنسي، وهو حكيم كالاخر، والخالة قوية لانها تشبه النموذج الافتراضي للاخر، ومنذ أول حضور لها، وهي سافرة، ضاحكة، قياساً على الحجاب والصمت والحياء الذي شهدناه في ملتقى النسوة عند حضور الاب. وهذه القوة الممنوحة للنموذجين المقاربين للاخر انما هي قوة لمفهومه اولاً، وليس لنماذجه، وهي قوة لتمثله كما هو، بعينه هو، ووفقاً لشروطه هو، وليس وفقاً لتلقي الذات غير المشروط إلا برؤيتها وقوانينها. وإلى جانب النموذج العيني، كان حضور الاخر معرفياً، في اخطر النقاط المحورية في الفلم، فالصبيان يكتشفون الجسد نفسه وفقاً لجمالية الاخر ومواضعاته، اذ ان أول تلقي للجسد عندهم هو المجلة الجنسية الاجنبية التي سرقها (نورا) من دكان ابيه وعرضها على اصدقائه. غير ان الباحث يعتقد ان اخطر مواضع الجسد وفقاً لجمالية الاخر، قد تحققت في محاولات نورا اغواء ليلى، فقد كان يلح على تعرية صدرها، وهي لمحة غربية اصيلة (12)، قد لا يفكر بها اطلاقاً صبي ما زال الصدر النسائي يذكره بالثدي والامومة، فضلاً عن ان الفلم بعد ان جعل تعرية الصدور في الحمام امراً مألوفاً ابقى العري الانثوي مكتوماً،وهو ما يجعله محور فضول نورا، في جسد ليلى. ومعنى هذا كله ان بوغدير صاغ شهوات نورا وفقاً لشهوته هو، أو وفقاً لما كان سيقوم به لو كان مكانه، متخذاً من الجسد وفقاً لمعطيات الاخر، مجالاً لتحقيق معرفته، وليس لتحقيق شهوته، وهو ما يجعل المعرفة القادمة من الاخر نقطة اصيلة في المفهوم الذاتي عن الجسد، ويجعل من الوعي اسيراً لرؤية الاخر للعري ومكامن الشهوة ونقاطها وعناصر تحققها، بل واسلوبها ايضاً واوضاعها الايروتيكية، ويندغم هذا في سيادة البصري، الذي هو محور الحضارة المعاصرة على السمعي الذي هو محور حضارة الذات، مما يؤسس لمفارقة حضارية اصيلة يعالجها الوعي لا بمحاولة التقريب، بل بالغاء الذات من خلال وهم الايمان بصواب الاخر، حتى على المستوى الجنسي.
ان حضور الاخر، حتى على المستوى الفعلي في الانتاج، يجعل من الذات محكومة بجعله ضمن امكاناتها وحساباتها، والتصرف وفقاً لوجوده، وهذا امر متحقق في البنية ذاتها من خلال علاقة الافراد ولكنه يتخذ منحى خطيراً ويوصل إلى نتائج كارثية عندما يصبح معياراً للذاتي، وحاكماً عليه، لان الذاتي في هذه الحال، لا يلغى ولا يندمج وانما يشوه ويزور، بغية تقريبه من النموذج رفضاً أو قبولاً. ومعنى هذا ان صورة الوعي بالذات التي عرضها عصفور السطح، بكل محاورها وتجلياتها، لم تكن وصفية اصلاً ولا بريئة من التوجيه القبلي وفقاً لثقافة الاخر ورؤيته ولعل أهم ما تكشف عنه هذه الصورة هي امكانية (شرقنة الشرق) كما يسميها ادوارد سعيد، داخل الوعي الشرقي، أي اقناعه بان رؤية الغربي له وقراءته لمعطياته ليست رؤية ولا قراءة تحتملان الانحياز إلى الذات أو القصور، بل هما الحقيقة ذاتها واليقين الواقعي المطلق الذي ينطبق على البنية، وهو ما يعني ضمناً ان يفكر الشرقي وفقاً لوعي الغربي حتى في شرقيته الذاتية، وهنا يكف الخارج عن ان يكون خارجاً بل يتماهى مع الداخل ساعياً إلىتوحيد وجهي الصورة، لا باجراء حوار بينهما، بل بتعديل احدهما بما يطابق الاخر، بدعوى وجوب تعديله لانه خارج على ما يجب ان يكون، وهو بالذات ما عرضته رؤية بوغدير عن المجتمع التونسي الذي همشته وانتقت منه ما يجعل مقولاته ضده حقيقية وصحيحة، وبالتالي ما يجعل تغيره مطلباً ملحاً وواجباً نقدياً واعياً،ولكنها لم تكتف بالتحريض على هذا التغيير بل اشترطت الصورة والوجهة والرؤية التي يجب ان يكون عليها، وهي مطابقة الاخر عبر التبعية له، حتى في الشهوة الجنسية.
من الطبيعي ان يسعى كل مبدع، وفي كل عمل ابداعي، إلى اثبات ذاته نفسياً أو امام الاخرين، وهذا هو سر الحاجة إلى عرض الابداع وتقديمه للناس، ولكن تهميش المركز للاطراف يجعل من اثبات الذات فنياً قضية مصيرية تسكن الوعي وتشكل جزءاً من الرؤية لانها تقود المبدع إلى موضوعات بعينها وتناول بعينه، بل ان يفرض عليه احياناً اسلوباً بعينه في الاداء. وهذا الامر يكاد يكون سمة الوعي النامي، الذي يحاول مفارقة السائد دون ان يكون خلاقاً، لان هذا الوعي هو الذي يفتقد الحس بالاختلاف والخصوصية ويفترض رضا المتلقي قبل رضاه الذاتي، أي انها سمة الوعي الذي يمتلك الفنية ولكنه يفتقد الاصالة الفكرية والاستقلال في الرؤية،وهو ما يجعله تابعاً فكرياً لقوانين الاخر كما يضعها لنفسه. ويمكن القول عموماً، بان المخرجين العرب، يقعون تحت طائلة هذا الامر، لان الوصول إلى الاخر هو حلمهم كما هو حلم غيرهم، ولكنهم يفهمون هذا الوصول فهماً خاطئاً عندما يفترضون ان الاخر يشترط فكره وجماليته اساسين لفنهم. وفي عصفور السطح نجد هذا الامر واضحاً، لا بتأثر بوغدير بمعطيات المدرسة الفرنسية والمدرسة الايطالية، فنياً وادائياً فحسب، بل في طريقة التداخل الموضوعي والتكويني التي يبني عليها فلمه، فقد اراد ان يغرب (الحلفاوين) تغريباً واقعياً ليعطي للحكاية طابعاً فلكلورياً يجعل من قبولها عند الاخر أكثر امكاناً، وكانت الملابس والامكنة وعناصر الحلم والمأكولات والحمام والاحتفالات، مسعى إلى اثارة روح الشرق في المتلقي، بوصفه الغامض الحسي الجميل، المليء بالالفة، وهي صورة الشرق كما تصورها الغرب وصدقها، كما ان نقد البنية، في محظوراتها الثلاثة، ونماذج الحكاية واتجاهات القص، واللغة التبشيرية التي كرسها الفلم، هذه كلها سعت إلى ارضاء الاخر، من خلال اثبات الذات فنياً امامه، لا بالخصوصية والتفرد، بل ببراعة التقليد وامكانية تغيير الموضوعات مع بقاء عمق الرؤية وشروطها وعناصر انتاجها كما هي، وهذا التقليد البارع، الذي يمثل النموذج (الشاهيني) ذروة نجاحه، وقبوله من قبل الاخر، هو الذي يعقد الصلة بين هدفين متباعدين : الاول / تطمين الاخر على ملكيته الفنية من خلال تقليدها ومتابعتها وعدم التفكير في نقضها أو تعديلها، والثاني / مداعبة غرور الاخر بتصديق مقولاته عن الذات وهو ما تكشفه شروط الانتاج المشترك، لاسيما في الاتجاه الفرانكوفوني، ويكشفه ايضاً الاحتفاء غير الطبيعي بالسينما الغريبة عندما تهمش قضاياها وروحها وتسعى إلى نقد الذات وفقاً للرؤية المركزية للسينما الايرانية والسينما المغاربية في موضوعات بعينها وفقاً لمعالجات خاصة، تستخدم الامكانية الفنية العالية في ايصال رسالة ملتبسة تخدم الاخر وتكرسه على حساب الذات، وتجعل من اثبات الذات فنياً وهماً وفراغاً لا عمق له، ولعباً شكلياً يفتقد القدرة على الصمود بذاته، دون تطبيل الاخر له، وتلميعه اعلامياً، وهو تلميع مؤقت، كمؤقتية الابداع الذي تخدمه، ريثما يأتي مخدوع آخر.
ان انتماء فلم عصفور السطح إلى الدراما الاجتماعية يعني تعدد البنى التركيبية فيه، وتداخل وظائفها، فإلى جانب بنية الحدث الاصلي، وهي اكتشاف نورا لرجولته ثمة بنى محايثة كثيرة مثلت التداخل التكويني في أي مجتمع شعبي في حي مثل الحلفاوين، في بلد شرقي مسلم. وقد افضى هذا التداخل الذي فرز علىاساس الحدث الاصلي، إلى تنوع وظائف الشخصيات بما يقارب التنوع النموذجي في الحكاية، مدللا على اثر ثقافة بوغدير في وعيه، وملاحظته للاطار الاجتماعي لبنية الحكاية، وسعيه إلى توثيقها وتدعيمها بالبنى المحيطة.
من الصعب اعتبار نورا ذاتاً فاعلة في هذا الفلم، وان كانت البطولة الادائية معقودة لها، لان وظيفة التلقي المعرفي التي سيطرت على علاقة نورا بالمحيط هي التي عوقت فاعليته، فكانت صفة الذات الباحثة أولى بها واقرب إلى مفهوم فاعليته. وهو ما ينطبق على صديقيه (منصف ومنير) اللذين يمكن اعتبارهما مساعدين في البحث ايضاً مما يجعلهما باحثين مثلهما مثل نورا ومثل ليلى بشكل اقل، واكثر سلبية. ويمكن من خلال هذا استنتاج ان صفة الذات الباحثة التي تنطبق على المراهقين في الفلم، تتوازى ذهنياً مع فعلهم الواقعي، ومع صورتهم الفنية، فهم يبحثون لهم عن مكان في عالم الكبار، دون ان ينفي هذا البحث انتماءهم إلى عالم اقل شأناً، أو ينفي قدرتهم على الفعل وفقاً لامكاناتهم، وهي امكانات تبدو خلال رؤية الفلم اقل من فاعلية الكبار. كما يمكن القول ان انتصار نورا، وليلى ضمناً، انما هو في تحولهما من ذاتين باحثتين إلى ذاتين فاعلتين، أي إلى كائنين صالحين للدخول في عالم الكبار.
وهي عناوين السلطة الرمزية كما تصورها بوغدير، وعلى رأسها الاب والشيخ مختار وحارسة الحمام ورجال الحلم المخيفين الذين يراهم نورا وفقاً لحكاية امه. ويلحظ ان هذه العناصر رجالية في معظمها، وهو ما يسوغ مفهوم السلطة الابوية الذي يراه الفلم، إلا حارسة الحمام التي حرص الفلم على تشويهها انثوياً من خلال ضخامة جسدها وملبسها وعن طريق ايحاء مهم جداً هو خرسها، فكأن المرأة لا تكون قامعة إلا عندما تفقد علامتها الايروتيكية الاهم في حضارة سمعية، فهي بحكم هذا الخرس تفتقد الاس الايروتيكي الذي يميز نساء الفلم جميعاً واللواتي كن يعبرن عن ايروتيكيتهن المقموعة عبر الصوت اولاً كما في ضحكات زبونة صالح وفي اغنية الخالة وفي صرخات العمة في اثناء معالجتها، ومن هنا يكون فقدان الصوت عند الانثى معادلاً لفقدان الرقة والانوثة وتبعاً للثنائية الصارمة التي ارتضاها بوغدير، فان ما ليس بانثى ان هو الاذكر، مهما كان شكله ملتبساً ومشتت الدلالة ويلحظ ايضاً ان تعبير العناصر القامعة عن سلطتها كان عنيفاً وغير شريف في معظم الاحيان كما انها تعاني في العموم من ازدواجية معايير تكشف عن هشاشة سلطتها وتبرر قمعيتها بالمرض والفساد، فالاب يضرب ويدعي الشرف فيما هو يغازل الخالة والزبائن، ومختار يشي ويخون ويشارك في الضرب والايذاء ورجال الحلم بايديهم سياخ تقطر دماً ووجوههم مخيفة، وكذلك حارسة الحمام المتلصصة التي تمسك بنورا وتضربه وتهدده في مشهد اخر. وهذا الطابع الذي تشترك فيه العناصر القامعة انما هو طابع وظيفي بحكم سلطتها القمعية، وهو ما يقوي رمزيتها السياسية والاجتماعية.
بسبب الاصل السيري لحكاية الفلم، فقد بدأ انحياز بوغدير إلى شخصياته عاطفياً /فكرياً في آن معاً، فهو يحلل عناصر القمع احادياً كما يحلل عناصر العون احادياً، متجاهلاً امكانية التداخل، وتبدل الوظائف بحسب الاحوال. ولذا فقد كانت الام والعمة عنصري المساعدة الرئيسين في الفلم دون ان يحدد بوغدير اسباب اتجاههما هذا فاذا كان حنين الام سبباً فما مسوغ العمة وهي ذات ظروف تخلق القمع والعدوانية خلقاً ؟ ولماذا لا يكون هذان العنصران قامعين ايضاً ما دام القمع متأصلاً في البنية، كما يراه بوغدير، وهو امر له مصداقيته الواقعية. يبدو ان الهوى العاطفي هو الذي حدد وظيفة هذين العنصرين على العكس من قوة توظيف المكان عنصراً مساعداً، فقد وفق المخرج في منح المكان هذه الوظيفة لطبيعة المكان في الحلفاوين، من حيث التداخل والامتداد ولكون المكان عنصراً اصيلاً في مهمة البحث والاكتشاف التي هي مهمة نورا، كما انه ملجأ ذو ايحاء فرويدي من سطوة السلطة الابوية ولذا فان المكان هو ما يفر اليه (نورا) من غضب الاب ومن الفشل ومن الحاجة الجنسية ايضاً واما العصفور فقد كان عنصراً زائداً على البنية اصلاً ويبدو مجرد تناص مع (عصفور شاهين) بوصفه ممثلاً للحرية ولكن هامشية العصفور تتأتى من افتعال حضوره ونسبية أو انعدام تأثيره الدرامي في شخصية نورا، فضلاً عن انعزاله عن المبنى الحكائي لاسيما عندما يتم اطلاقه قبل تحرر نورا جنسياً ولا يمكن تقويل هذا الاطلاق بوعي نورا باهمية الحرية وتحريره الطير على هذا الاساس لا لان نورا اصغر من ان يعي هذا بل لان البناء الفلمي لم يعمد إلى مثل هذا حتى على مستوى الاشارة والتلميح ولذا فان شخصية العصفور تفتقد دلالتها في ذاتها وفي السياق ومن هنا كان افتعالها.
واعني بها العناصر التي تؤسس الرؤية وتحدد ماهيتها وهي اخطر العناصر الحكيائية واهم ما يحسب للوعي المبدع وعليه ايضاً، وهذه العناصر هي شخصيتا : العم صالح والخالة، فعلى الرغم من امكانية جعل هذين العنصرين مساعدين للذات الباحثة بحكم تعاطفهما معها وسعيهما إلى معونتها، إلا ان حضورهما في الفلم اخطر بكثير من الذات الباحثة نفسها، ويمكن القول ان هذين العنصرين هما الفاعلان على مستوى الوعي وعلى مستوى الاداء وفقاً للرؤية العميقة التي اراد بوغدير ايصالها. واهم ما يميز هذين العنصرين تحررها من المقولات الاجتماعية وخرقهما للمحظور فهي مطلقة، وهو اسكافي نسائي وكلاهما يبدو مرفوضاً من الوعي السائد، اخلاقياً وطبقياً، وهذا فيما يبدو، تفسير بوغدير لحريتهما، وهما اقوى العناصر تأثيراً على الذات الباحثة فضلاً عن قوتهما الذاتية وهما ايضاً ممثلاً مقولات بوغدير السياسية والاجتماعية، ونموذجاه للاخر المرضي عنه، أو الذات المتغيرة وفقاً لكينونة الاخر. ومن هنا اعتناء بوغدير بتكوينهما وسعيه إلى تصويرهما بصورة محببة من قبل المحيط والمتلقي وقد كانت اقوالهما وتصرفاتهما وكل ما يتعلق بهما ذاتياً ومحيطياً أكثر عناية وامتلاء وحيوية من بقية الشخصيات، على الرغم من ان المبنى الاجتماعي التي تعرض له بوغدير نقدياً هو الذي انبت هذين العنصرين وهما متأثران به، ولكن بوغدير حاول فصلهما، من خلال قدوم الخالة من بيئة اخرى، ومن خلال خصوصية الذات المبدعة عند صالح بوصفه مغنياً وفناناً، وكأن بوغدير يؤمن بان الاخر القادم من بعيد مختلف كما الفنان، وهما وحدهما القادران على كسر المحظور وتحريك جمود الوعي والحياة. كما يوحي بذلك مشهد دخول الخالة إلى بيت اختها، وفتح حقيبة سفرها، وهو مشهد يؤسس لاختلافها كما يؤسس لدهشة المحيط تجاه حضورها الذي يبدو حضارياً ومتطوراً، وهو ما يقودنا إلى فهم سبب تغييب اسم الخالة في الفلم كما يمكن ان يفهم سبب اختيار ممثلة اجنبية تعيش في تونس لهذا الدور ويفهم ايضاً سعي بوغدير إلى صياغة صورة ايروتيكية مثالية لها فهي لا تتعرى كما بنات الحمام ولكنها تحقق ذاتها بالدلع الانثوي والصراحة والذهاب ليلاً إلى من تحب وتعاملها معه كند له وليس (كمطلقة ووحدانية).
واما بناء الشخصيات فيمكن القول ان افتعال بعض تصرفاتها لا ينفي براعة بنائها وصدق انتمائها الاحتماعي وهي جميعاً ذات بنية موفقة وديناميكية وهو ما جعل الاداء الفلمي بديعاً سلساً ومنح الفلم مصداقية فنية عالية اذ ان بناء الشخصيات المحكم ادى إلى بناء فني محكم وجعل من بنية الاداء في عمومها النقطة الاكثر اشراقاً وبراعة في الرؤية وهو ما يؤكد براعة التقليد دون ان ينفي موهبة المخرج واحكامه لصنعته الفنية وادواته التعبيرية ذلك الاحكام الذي يجعل منه مخرجاً مبدعاً متميزاً ولكنه لا يمنحه صفة الوعي الخلاق بشموليتها وتراكب مبانيها وعمقها الابداعي.
تنبغي الاشارة اولاً إلى ان عصفور السطح يمثل ذروة من ذرى السينما العربية في نصه الفلمي فنياً وجمالياً وادائياً. وهو بحكم كونه كذلك يستحق الاشادة به من حيث تميزه الاسلوبي وخصوصيته الفنية مع ان اصول جماليته السينمائية تعود إلى السينما الفرنسية والسينما الايطالية ولكن هذا لا يقدح مطلقاً في موهبة مخرجه ولا في متانة السيناريو وسلاسة الايقاع والرهافة البصرية التي ابدع بها بوغدير التكوينات في الفلم. ويمكن القول ان كون المخرج ناقداً سينمائياً مثقفاً متمرساً ادى إلى استيعابه الاصول الفنية والجمالية والتقنية للابداع السينمائي وقاد إلى ان يتميز عصفور السطح في محيطه الاقليمي والعربي بما يجعله نقطة متقدمة في مسيرة السينما العربية فنياً دون ان يلغي تحفظنا عليه في بنية الوعي العميقة والرؤية المؤسسة للنص فقد استفاد فريد بوغدير من معطيات الاداء بشمولية وعمق فني واضح وكانت عناصر الاداء المختلفة تتضافر في انتاج ما يريد منها من دلالات بحساب دقيق لا يفتقد الحيوية ولا تنقصه الروح الخاصة التي تخلق مذاقاً متميزاً يشعر به من يشاهد الفلم.
استناداً إلى فكرة البحث الطفولي التي سادت الفلم فقد كانت كاميرا بوغدير بديلاً في معظم الاحيان عن عيون الباحثين ودليلاً على حركتهم الدائبة في محاولة الامساك بمعنى ما يحيط بهم وفهمهم له ومن هنا كانت الحركة سمة بارزة للكاميرا في هذا الفلم وهي سمة اسلوبية من جهة تميز عمل (بوغدير) وتؤكد انتماءه الجمالي إلى السينما الفرنسية وهي ايضاً سمة مضمونية لانها تؤسس لمعنى البحث فنياً وكان الحضور الايروتيكي لحركة الكاميرا ذكورياً يجعل من دخول الكاميرا على الكادر اختراقاً يوازي الرغبة الجنسية وهو ما يمكن تلمسه في مشهد ملاحقة الصبيان لإحدى الفتيات في السوق وفي مشهد دخول نورا المتكرر إلى غرفة ليلى فقد ادت الكاميرا المحمولة حركة بديلة عن الفاعل مما حملها بمعناه الايروتيكي فيما كانت حركة الـ(Pan) الهادئة في مشهد الحفلة وفي مشهد بحث ليلى عن غرفة نورا يوحي بالاطمئنان والاكتشاف الهادئ الذي يخبئ تحت جلده حركة هائلة وطاقة شهوية مكتومة وهو ما تحقق باعلى مستوياته الايروتيكية في مشاهد الحمام. فيما كان الثبوت دالاً عن الاستقرار الزائف مضمونياً وايروتيكياً ولذا فقد كانت الكاميرا ثابتة في معظم مشاهد الاب والشيخ مختار ورجال الحلم المخيفين، وهو ما يؤكد المعنى القمعي الجامد لوجودهم بحسب رؤية بوغدير. وعلى هذا يكون بوغدير قد وظف المعاني الجمالية لحركة الكاميرا توظيفاً تعبيرياً غايته خدمة القصد وتوجيهه وهو ما يعني تناغم الجمالي والمضموني في اداء بوغدير الامر الذي افقد نقده الاجتماعي السمة الوعظية واعطاه طابعاً حلمياً شفافاً يجعله اقرب إلى الحكاية المشوقة منه إلى نقد البنية السائدة. واما نوعية اللقطات فقد غلب على الفلم تكوين اللقطة المتوسطة واللقطة العامة بحكم كونه دراما اجتماعية ولم يستخدم بوغدير اللقطة الكبيرة إلا في مواضع معينة اذ وظفها لانتاج دلالة الكشف عن الداخل الخفي في ملاحظة نورا الجنسية، كما في مشاهد الحمام، ووظفها لانتاج دلالة الخوف والاهمية الرمزية كما في قطرات الدم على فخذ ليلى ولم تخرج بقية اللقطات القريبة على قلتها عن هذين المعنيين، وهو ما يعني ابقاء بوغدير على معناها الجمالي السائد ويؤكد اتقان بوغدير لادوات انتاج المعنى السينمائي.
يمكن الحكم على جمالية بوغدير على انها جمالية مكانية من المشاهدة الأولى لعصفور السطح لا لان الموضوع يقتضي هذا التركيز الفني على المكان بل لان تشكيل المكان يمثل اس الجمالية التي تعتمدها السينما. ويبدوان تسمية الفلم بـ(الحلفاوين) وهو اسم الحي الشعبي، لها مدلولها المكاني الذي يؤكد انتماء بوغدير إلى هذه الجمالية. والمكان في عصفور السطح على واقعيته يتخذ منحىً رمزياً واضحاً فهو الملجأ الامومي وهو عتبة التجاوز ومنطلق الهرب وهو محيط الدهشة وموقعها، وهو قبل كل هذا عالم الطفل المكتشف الحر. وعلى الرغم من سيادة الالفة والحب بين الفلم والمكان إلا ان ثمة امكنة تثير الخوف في نفس نورا وهي امكنة الحلم وموضع رجاله المخيفين غير ان هذه الامكنة قليلة وتثير توجس الاكتشاف أكثر مما تثير خوفاً قادماً. وعلى المستوى الايروتيكي يكاد يكون المكان باكمله ايروتيكياً أو يرتبط بالايروتيكية فالسوق والبيت ومحل صالح وبيت صالح والازقة المظلمة والسلالم والتداخل المعماري كل ذات ايحاءات رحمية فرويدية ويغلب على الظن ان بوغدير يقصدها بهذه الدلالة فقد كان للرمز الفرويدي عنده مكان اثير. واما الحمام، وغرفة ليلى فيمثلان قمة التحقق الايروتيكي لمفهوم الرحم المكاني لاسيما الطريقة التي صور بها الحمام وابخرته التي تشبه في سياقها الكلي الرحم فيما كان مكان (ليلى) باباً للشهوة يغلقه ويفتحه نورا بحسب طغيان الايروتيكا وطغيان موانعها ايضاً ويحقق بوغدير الدلالة ذاتها في البحر عندما يجعله موضعاً للمعرفة الايروتيكية. واما النوافذ والسطوح فهي محطات الاكتشاف، فمن خلالها تلصص نورا على النساء، ورأى صالح وخالته ورأى ابوه يتحرش بخالته، ومن خلالها تحققت ايروتيكيته حين قفز على السطح راقصاً بعد نومه مع ليلى وكانت السلالم صلته بالمحيط الخارجي هي الوسيلة التي تخلص بها من سلطة ابيه في نهاية الفلم. ان هذه الامكنة قد تكون حيادية في ذاتها وقد تكون ذات مضامين موجهة ولكنها في الحالين لا تكتسب جماليتها من ذلك وهذا هو عنصر تميز المكان في عصفور السطح، اذ ان جماليته تنبع من رهافة الحس به والعلاقة معه وهو ما انجح توظيفه حسب ما يراد له. ومعنى هذا ان علاقة بوغدير بالمكان تسبق وعيه بوظائفه أو بالدلالات الكامنة فيه وما الجمالية التي صور بها المكان إلا احتفاءً بتلك العلاقة بغض النظر عن بعدها الدلالي دون اهمال واعٍ لهذه الدلالات ولكن خارج التحقق الجمالي الاصيل للمكان. وكأن بوغدير يحتفل بالمحيط لا بناسه، وكأنه يفصل بين المكان والمكين في سعي حميم إلى تأسيس هذه الغرائبية المبنية على مفارقة قاسية مفادها:- ما اجمل المكان لو تبدل ساكنوه.
تنبني كثير من عناصر الاداء في عصفور السطح على ثقافة بو غدير التي يمكن ان نلمح انها ماركسية / فرويدية وهي الرؤية السائدة في التفسير النفسي - الاجتماعي والتي يقتضيها موضوع الفلم. غير ان ما يميز بوغدير في عصفور السطح هو عدم تركه اية فرصة لاستثمار الرمز الفرويدي دون استخدامها ولا يعني هذا الرموز الجنسية فحسب بل البنية العميقة لهذه الرموز من خلال العلاقات الاجتماعية ومفاهيم السلطة والقمع والقيم. اذ يمكن ان نلحظ هذه القيم والرموز في تصرفات شخصيات الفلم عموماً دون استثناء، فيما كانت الرموز الايروتيكية الفرويدية مع تغطيتها بالموروث الشعبي التونسي غناءً وتصوراً كانت هذه الرموز سيدة التعبير في مفاصل سينمائية كاملة ففي علاقة العمة بمختار، كانت رموز الجنس لفرويدية واضحة ومتكررة حتى في حلم نورا عن هذه العلاقة. وكذلك في مشاهد الطعام والحديث عنه فقد سيطرت الرموز الفرويدية لغوياً وبصرياً وكذلك الامر في عناصر علاقة الاب بالابن وعلاقة الام بالابن لاسيما في مشاهد الحمام فيما كانت العلاقة الحميمة بالخالة اقرب إلى التعويض الاوديبي عن سطوة الاب على الام. وفي العموم يمكن للقارئ ان يؤول كثيراً من العناصر الفلمية تاويلاً فرويدياً دون خوف من تقويل هذه العناصر لان وعي بوغدير يطفح بهذه الرموز ويسعى إلى تفسير محيطه الفلمي من خلالها ايماناً منه بمقولاتها وهو ما يمكن رؤيته في المكان بوضوح مبالغ فيه.
ولعل الملابس من اهمها فقد سعى بوغدير إلى اضفاء الطابع الشعبي على ملابس فلمه فكانت اردية النساء والرجال التونسية هي عناصرها المميزة ما عدا ملابس الصبيان التي كانت اوربية تماماً. ولعل أهم ما يلحظ في هذا الباب ان اضفاء الطابع التونسي على الملابس لم يكن مضخماً أو مفتعلاً وكانت دلالته متساوقة مع مضمون الفلم وايقاعه غير ان الزي الذي يرتديه الشيخ مختار كان مختلفاً بنية وسياقاً فهو يرتدي ملابس تراثية كأنه شخصية خارجة من افلام صدر الاسلام بعمامة سوداء وبرنس يغطي جسده مما يجعله غريباً عن المكان وكأنه قادم اليه من عصر آخر وكان هذا التوظيف قصدياً في نقد المحظور الديني وتغريبه وابراز تخلفه وكانت ايروتيكية هذا الزي سلبية بحكم سلبية شخصية لابسها ووظيفته، إما ملابس النساء فان اغرب ما فيها ايروتيكياً قشريتها أي ان سطح الحجاب أو غطاء الرأس يخفي تحته بنية شهوية واضحة وفيها كثير من السفور ولعل سفور الخالة خارج الدار هو علامة اختلافها السطحي عن المحيط تعبيراً عن حريتها غير ان هذا التعبير يفتقد دلالته اذا لاحظنا ازدواجية الملابس ايروتيكياً في الفلم.ومثل ذلك يقال عن ملابس ليلى والتي على رغم من اوربيتها فان حريتها تتمثل في كشفها عن اجزاء كبيرة من الجسم في حالة العمل والحركة كما في حالة النوم ولعل هذا الامكان هو الذي نبه نورا إلى وجود ليلى الايروتيكي وقاده إلى محاولة التجريب معها ويلحظ حضور الملابس الداخلية الايروتيكي في الفلم لاسيما في علاقة الخالة بنورا وقد منحها بوغدير ايحاءً بنمط ايروتيكي مغاير في علاقة حمالة الصدر باحد الصبيين.
واما الاضاءة فقد وظفها بوغدير ببراعة لاسيما في المعطى الايروتيكي الذي يحمله الحلم الذي طغى عليه النور الخافت والظلام وكذلك مشاهد التسلل إلى غرفة ليلى التي كانت فيها الاضاءة ناعمة هادئة هدوءاً ايروتيكياً يعطي للنائمة طابعاً حلمياً مقصوداً، غير ان اجمل توظيف لهذا العنصر كان في الاضاءة الناعمة الخافتة في مشهد اكتشاف نورا لليلى في فراشه ثم التعبير عن الفعل باطفاء الضوء يعقبه مشهد نهاري طبيعي ساطع وهذا التوظيف المبدع يؤكد الامكانية الايروتيكية للضوء التي فهمها بوغدير وحققها جمالياً ومضمونياً.
على الرغم من سطوة الرقابة الاجتماعية والصناعية فقد كان فلم عصفور السطح جريئاً في محيطه. وهو بحكم ذلك وبحكم موضوعه المبني على قضية ايروتيكية قد سعى إلى استثمار جرأته في تنويع مداه الايروتيكي في محاولة لمساوقة تنوع هذا المدى في الواقع المنقود فضلاً عن الاهمية الدلالية لهذا التنوع لاسيما على مستوى الانماط. ويمكن القول ان النمط السائد في الفلم هو التلصصية، وهو ما يتناسب مع عيني الطفل الباحثتين ومع معوقات التعبير الايروتيكي اجتماعياً والتي تجعل من التلصص المنفذ الايروتيكي الاول في معرفة الاخر. وقد كانت مشاهد الحمام قمة هذا النمط الواضحة على مستوى التلصص النصي والتلصص على مستوى التلقي أي في بنية النص وفي بنية العرض فقد استعرض بوغدير العري حتى بلا عيني نورا. وكان التلصص قائماً ايضاً في علاقة صالح والخالة، وقد افرغه بوغدير من ايروتيكيته بشكل غير واقعي،لاسيما من طفل مخنوق بالرغبة، يشاهد امامه خالته وصديقه في مشهد ايروتيكي فيبتسم ويغادر المكان. واما النمط الايروتيكي الاخر في الفلم فقد اومأ اليه بوغدير من خلال جلب نورا لمشد حمالة صدر خالته لصديقه (مقابل اعداد من مجلات) وهو ما يوحي بالاستمناء، ومثل ذلك يمكن ان يقال عن جلب العلك لصالح، ولكن دلالة العلك اقل ايروتيكية من حمالة الصدر، وكان هذا النمط أكثر منطقية من الانماط الاخرى في مجتمع حرماني، ومن صبية مراهقين، اذ ان الاستمناء يكون الحل الاسهل والاكثر امناً في مثل هذه البنية، وكان اغفال بوغدير لهذا النمط في حياة نورا والصديق الاخر نقطة ضعف في واقعية الايروتيكية في الفلم. واما النمط الجنسي الطبيعي فقد اشار اليه بوغدير ثلاث مرات انتجت الباب والضحكة، المرة الأولى عندما دخل صالح وإحدى زبوناته إلى داخل الدكان بعد مقدمة اغوائية واضحة، فيما انتجت صورة العناق الأولى والسياق والحوار، المرة الثانية عندما التقت الخالة بصالح، فيما كانت قمة الوضوح الايروتيكي مخبوءة لمشهد مضاجعة نورا وليلى، حيث دل المكان والظلام والعري التام والسرير، فضلاً عن المقدمات السابقة على تحقق هذا المبنى. ويمكن القول ان التنوع الايروتيكي في عصفور السطح كان اقل تمثيلاً للواقع، حتى على مستوى الرمز والايماء، وهو ما جعل قصة نورا الباحث عن الايروتيكا تفتقد شيئاً من حيويتها، لان كثيراً من المواقف الايروتيكية في الفلم، كانت تولد دلالة الرهبة والخوف والاشمئزاز كالحلم، وتحرش الاب بالخالة، ومشهد الطمث، ومشهد الختان ومشاهد اخرى، وهو ما يجعل رغبة نورا تتحوجه وجوباً إلى الذات، عبر الاستمناء، لاسيما في حال وجود مجلات عارية ومشاهد حمامية تثير المخيلة وتعينها، كما ان التلصصية اتخذت اتجاهاً اخلاقياً ينافي الواقع وينافي بعض المعطيات في الفلم نفسه، فقد كان عري الخالة اقرب إلى التلصص لانها كانت تستعين بنورا في مناولتها مشداتها، أو في اقفال مشد الصدر، ولابد لطفل مخنوق بالرغبة ان يتلصص حتى ولو من باب الفضول، والحق ان كثيراً من تصرفات نورا الايروتيكية تثير الحيرة والاستغراب في عدم واقعيتها، لاسيما في تقبله لعلاقة خالته بصالح وفي جلبه المشد لصديقه، وفي جرأته مع ليلى مع انها تنام بجوار عمته، ومن عدم ملاحظته للجو الايروتيكي المثير الذي اوجدته خالته في البيت. فنورا كما صوره بوغدير، يتعإلى على مواضعات واقعه كالشرف والعيب والقرابة، فضلاً عن تعاليه عن محيطه الايروتيكي واصراره البطولي على غزو جسد الخادمة التي تبدو أكبر منه، فضلاً عن سلبيتها الايروتيكية عامة، وهو ما أثر في بنية الوعي المنتجة وان كانت براعة المخرج الادائية قادرة على تغطية هذه التناقضات بالجمالية ورهافة الايقاع والسيناريو المتقن.
على الرغم من حصول الطفل (سليم بوغدير) على جائزة التمثيل في مهرجان قرطاج السينمائي فانه، نقطة ضعف في الاداء التمثيلي في هذا الفلم، لا في ذاته بل في سياقه. فالسن الذي يعطيه المتلقي لسليم يمنع توظيفه في مبنى ايروتيكي قصدي، كما يمنع صداقته الغريبة لاثنين أكبر منه سناً بكثير،وهو اصغر بوضوح من موضوعه الايروتيكي (ليلى) ولعل اقتناع فريد بوغدير بقدرات سليم بوغدير جعله يتجاوز قواعد الموضوع الذي يشتغل عليه. ومن هنا فقد كان اداء سليم نقطة عدم الاقناع الوحيدة في الفلم مع انها محور حركة الحدث. وكان مركز عدم الاقناع في تحققه الايروتيكي مع ليلى، فهو في القسم الاول من الفلم لا يعدو ان يكون طفلاً طرد من جنة النساء وعالمهن ليدخل عالم الرجال، وهي فكرة تعرض لها أكثر من فلم لعل منها فلم المخرج رضوان الكاشف (عرق البلح) مع الاختلاف الرؤية، وهذا المبنى طبيعي في واقعيته واقناعه، ولكن سعي بوغدير إلى ربط تحقق الحرية بالجنس الكامل اوقعه في مطب العلاقة بين نورا وليلى ولعل في حوارهما اثناء خروج الام إلى الحمام. ولعبة الغسل التي لعباها معاً ما يؤكد صغر السن، فقد تعامل الطرفان مع العري تعاملهما مع اللعب، وهو ممكن مع نورا، ولكنه غير ممكن مع ليلى، بل انه مع معرفة نورا المتنامية، عبر الحمام والمجلات، يبقى غير ممكن ايضاً. ومن هنا اضاعت علاقة فريد بوغدير بسليم بوغدير فرصة اختيار مراهق حقيقي، يشتعل بالرغبة ويقنع المتلقي باحترافه فيها، وهو ما كان يمكن ان يحرك الفلم باتجاه اخر، مع ملاحظة ان وجود المراهق سيفقد الفلم نغمته الطفولية. ويمكن القول ان بوغدير دمج بين رؤيتين متغايرتين اثرتا على الاداء التمثيلي : خروج الطفل من جنة النساء ودخوله عالم الرجال من جهة والتجربة الجنسية الكاملة الأولى في حياة صبي من جهة اخرى. وكان ممكناً ان تتحقق كل منهما على حدة ولكن فريد ارادهما معاً في صورة سليم فوقع في عدم الاقناع الجزئي. واما بقية الممثلين فان الحكم بجودة ادائهم يمكن ان يكون عاماً مع ملاحظة تأسيس السيناريو على تقوية شخصيتي صالح والخالة،وهو ما دفع اداءهما إلى مقدمة النص الفلمي، عبر التعاطف معهما، كما ان اداء الام يبدو قصدياً بحسب السيناريو ايضاً. وفي العموم يمكن القول ان الاداء التمثيلي تحت إدارة بوغدير، قد اسهم في تقوية دلالات الفلم واثراء تميزه.
عصفور السطح (الحلفاويون)
اخراج : فريد بوغدير
سيناريو : فريد بوغدير
مونتاج : مفيد التلالي
انتاج : تونس – 1991
بطولة : سليم بوغدير – محمد ادريس
بوابة تونس: تصفح مقالات ويكيبيديا المهتمة بـتونس. |
بوابة تونس: تصفح مقالات ويكيبيديا المهتمة بـتونس. |