عبد الوهاب عزام.. الدبلوماسي الأديب أحمد تمام عبد الوهاب عزام في شبابه يتفق "عبد الوهاب عزام" مع "رفاعة الطهطاوي" في أن كلا منهما سافر إلى أوربا إماما للبعثة التعليمية التي ترسلها الدولة للنابغين من أبنائها، ولم يكتفِ كل منهما بأداء ما كُلِّف به من عمل وبمهام الوظيفة التي سافر من أجلها، بل تجاوزها إلى آفاق أرحب وعوالم أفسح من الفكر والثقافة، وعادا يملآن الحياة العلمية في مصر حركة ونشاطا، ويتصدران قائمة من نهضوا بأمتهم الإسلامية، وإن اختلفا في الوسيلة والتخصص. وكان عبد الوهاب عزام نسيج وحده بين كتاب عصره، نموذجا حيا للإنسان الذي يجمع بين العلم الواسع والخلق النبيل داعية للثقافة الإسلامية وبكل لغاتها الكبرى العربية والفارسية والتركية والأوردية، مؤمنا بأن بلاد الإسلام كلها وطن له. المولد والنشأة في قرية الشوبك الغربي التابعة لمحافظة الجيزة بمصر ولد عبد الوهاب عزام في 28 من المحرم (1312 هـ من أغسطس 1894م)، وحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بالأزهر وبعد أن نهل منه التحق بمدرسة القضاء بالشرعي، وتخرج فيها أول زملائه سنة (1339 هـ= 1920م)؛ فاختير مدرسا بها. ولم يقف طموحه عند هذا الحد من التعليم، بل سارع إلى الالتحاق بالجامعة الأهلية، ونال منها شهادة الليسانس في الآداب والفلسفة سنة (1342هـ = 1923م). السفر إلى لندن اختير عبد الوهاب عزام في السنة التي تخرج فيها في الجامعة إماما في السفارة المصرية بلندن، وكان ذلك الإجراء متبعا في السفارات المصرية في ذلك الوقت، وانتهز عبد الوهاب هذه الفرصة للمعرفة، فالتحق بمدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن، وكان يزامله في الدراسة العالمان الجليلان "محمد مهدي علام" و"حامد عبد القادر" عضوا مجمع اللغة العربية، ونال منها درجة الماجستير بأطروحته عن التصوف عند "فريد الدين العطار" سنة (1347هـ= 1928م). العودة إلى الوطن وبعد عودته إلى القاهرة عُيِّن مدرسًا بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وفي أثناء عمله حصل على الدكتوراه بأطروحته "شاهنامة الفردوسي" في الأدب الفارسي سنة (1351هـ= 1932م)، وظل يعمل في الكلية حتى أصبح رئيسًا لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية، ثم عميدا للكلية في سنة (1365هـ = 1945م). ثم ترك العمل الجامعي وانتقل إلى العمل الدبلوماسي فعمل وزيرًا مفوضًا لمصر في المملكة العربية السعودية سنة (1367هـ= 1947م)، ثم سفيرا لمصر في باكستان سنة (1370هـ= 1950م)، ثم عاد ليعمل سفيرًا لمصر في السعودية، ثم اختارته السعودية ليؤسس جامعة الرياض ويديرها، فظل بها حتى لقي ربه. وإلى جانب هذه الوظائف الرفيعة شغل عدة مراكز علمية، فكان عضوًا بالمجلس الأعلى لدار الكتب، واختير عضوًا عاملاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1366هـ= 1946م)، وعضوًا مراسلاً بالمجمعين العلمي العربي بدمشق وبغداد. إنتاجه العلمي كان عبد الوهاب عزام عميق الثقافة العربية والإسلامية والأدبية؛ فقد درس بالأزهر دراسة منظمة، واطلع على الثقافة الأوربية، فقد كان يجيد الإنجليزية والفرنسية، ووقف على أدب الشعوب الإسلامية، فقد كان متمكنًا من الفارسية والتركية والأوردية ينقل عنها إلى العربية، وأتاحت له رحلاته المتعددة إلى كثير من دول العالم واتصاله بأدبائها أن يضيف إلى أدبه زادًا قويا وتجارب غنية وفكرًا عميقًا. وجاء إنتاجه الفكري ممثلا لنشاطه الدائب وفكره العربي الإسلامي؛ فهو أديب شاعر له مقالات رائعة في كثير من المجلات، وشعر ندي، وهو باحث دارس له دراسات وفصول في الأدب والتاريخ والتصوف، وهو أيضا رحالة طاف كثيرا من البلاد كتب عن مشاهداته ورحلاته، وهو مترجم حاذق نقل عن الفارسية آثارا خالدة من روائع الأدب. وكان عبد الوهاب عزام في كل ما كتب صاحب رسالة ومنهج يدعو إلى التمسك بالإسلام وفضائله وسمو غاياته وتعاليمه وإلى العمل على رفع شأن العرب والعروبة، وقد أفصح هو عن قصده النبيل في مقدمة كتابه "الأوابد"، الذي يقول عنه: "هو عبارة عن مقالات ومنظومات تقصد إلى ما أقصد إليه في كل كتبي، من رفيع الأسلوب الأدبي في اللغة العربية وتيسيره، وإعلاء المستوى الروحي والخلقي، والاعتزاز بأنفسنا، والاعتداد بتاريخنا". الأديب الشاعر يعد عبد الوهاب عزام واحدًا من أساطين الأدب العربي الحديث، له نتاج راق من المقالات الأدبية المتفرقة في بطون الدوريات القديمة، جمع بعضها في كتاب، وكثير منها لا يزال حبيسا ينتظر النور، وهو فيما يكتب داعي إصلاح لم تبهره الثقافة الغربية مثلما بهرت غيره، وإنما كان صاحب قلم مؤمنا صادقا ومصلحا حكيما وكاتبا بليغا. ومن أشهر ما كتب سلسلة مقالات كتبها لمجلة الرسالة الغراء بعنوان "أمم حائرة"، تناول فيها الأسرة والمدرسة والمرأة والعدل والحضارة الغربية، وسأنقل بعض ما كتبه عن المرأة الشرقية التي تابعت المرأة في الغرب، وقلدتها دون نظر أو تفكير، مهاجمًا صاحب الدعوات إلى تحرر المرأة من كل خلق وشرف، فيقول: "جعلتموها وسيلة إلى كل كسب، وشركا لكل صيد، وجلبتم بها المشترين إلى متاجركم، ونشرتم صورها في آلاف الأشكال للترويج لبضائعكم وجذب القراء إلى صحفكم، وأخذتموها إلى سواحل البحار وإلى مسابح الملاهي، فعريتموها ولهوتم بها ليلاً ونهارًا وسرًا وجهارًا، وكذبتم على أنفسكم وعلى الحقائق، فقلتم حررناها وأسعدناها، وليس للمرأة في هذا كل تحرير ولا لها من السعادة نصيب، إنها مسخرة مسيرة بأهواء الرجال وإشراك عباد المال". وله كتاب "النفحات" خصه بالحديث عن رمضان وروحه الندية ومعانيه السامية، وجمع فيه خطرات نفسه، وسانحات فكره، وقصائد من شعره، يربطها كلها أنها تدور حول رمضان، ومن شعره الرقيق الذي يحمل خواطره في الشهر الكريم: قد تساوينا جميعا ***** حين قمنا للصلاة وركعنا وسجدنا***** فاستوت منا الجباه إنما نحن سواء ***** عمنا شرع الإله جمعتنا واجبات ***** وحقوق في الحياه غير أنا في فنون العيش ما فينا اشتباه من ذكي وغبي ***** وأخي جد ولاه الرحالة الجوَّاب طاف عبد الوهاب عزام بكثير من دول العالم وكتب عن رحلاته ومشاهداته فصولا من أروع فصول الأدب والتاريخ، ووقف عند كل بقعة لها في التاريخ ذكر، واستروح نسائم الماضي في أماكن الغزوات، وزار المساجد والقصور الباقية، واستعاد عند كل مشهد ذكريات الرجال والأبطال، وحين تقرأ له فصوله التي كتبها عن رحلاته فإنه لا يكتفي بصورة الحاضر التي يشاهدها، وإنما يغوص بك إلى أعماق التاريخ فيحدثك عما كان في هذا المكان من الأعلام وما ارتبط بهم من الأحداث، ويجعل الحاضر موصولاً بالماضي، وقد سجّل عزام خواطر أسفاره في كتابه "رحلات عزام". وسأنقل لك مشاعره التي سجلها بقلمه البليغ عن طوافه بالبيت الحرام مع الحجيج، بقوله: "كم قلب محزون حمل إلى هذا الجناب شكواه، وفؤاد معذب يبث في هذه الساحة نجواه، وكم آثم حط في هذا الفناء الأوزار ليمحقها بالتوبة والاستغفار، كم نفس مظلومة وكم مكلوم جاء بجراحاته وأرسل آهاته وآناته، كم ضارع على هذا الباب، ووراء هؤلاء من المشرق والمغرب قلوب توجهت شطر البيت كما تتوجه الإبر إلى القطب، وتنزع إليه نزوع الغريب إلى ولده وداره". مترجم آداب الشعوب الإسلامية محمد إقبال كان عزام داعية إلى تحقيق الأخوة الإسلامية وإعادة الصلة الوثيقة بين الأمة العربية والعالم الإسلامي بعد أن تعالت الأصوات للفصل بينهما، ودراسة أدب الشعوب الإسلامية؛ فاتجه إلى شعر "محمد إقبال" شاعر باكستان ونقل بعض دواوينه من الفارسية إلى العربية، وكان به كلفا ومعجبا، وهذه الدواوين هي: ديوان الأسرار والرموز، وبيان مشرق، وضرب الكليم. ومما ترجمه لإقبال قصيدة نظمها وهو يزور مسجد قرطبة، فنقلها إلى العربية شعرًا، وقدم لها بقوله: نظر إقبال إلى مسجد قرطبة فلم يصف بناءه، ولكن وصف الإيمان والعشق والجهاد وغيرها من المعاني التي حملها المسلمون في أرجاء العالم، وأقامت هذا البناء الخالد، ثم يستهل عزام ترجمته الشعرية بقوله: أمسجد قرطبة للوجود ***** من العشق جئت فنلت الخلود سواء.. نشيد ونقش ونحت ***** بديع الفنون: دماء الكُبُود فللقلب من قطرةٍ مرمر ***** ومن قطرةٍ أنَّة أو نشيد فضاؤك نور ولحنيَ نار ***** هما للقلوب الهدى والصمود وترجم فصولا من المثنوي لجلال الدين الرومي، ونقل مقتطفات كثيرة عن الشعر الفارسي والتركي إلى العربية ونشرت بمجلة الرسالة وغيرها. بحوثه وكتبه لعبد الوهاب عزام دراسات وبحوث في التاريخ والتصوف والأدب، فكتب عن المتنبي شاعر العربية الكبير دراسة بعنوان "ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام"، ودرس شخصية المعتمد بن عباد أحد ملوك الطوائف الأندلسي فكتب عن مأساته، وله دراسة عن محمد إقبال والأدب الفارسي. وله مجموعة بحوث في اللغات الشرقية، قدمها إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة عن الصلات بين اللغة العربية واللغات الإسلامية والألفاظ الفارسية والتركية في اللغة العامية المصرية، والألفاظ العربية في اللغات الإسلامية غير العربية وغيرها. وشارك في تحقيق التراث العربي فنشر "الشاهنامة" التي نقلها البنداري إلى العربية، وحقق ديوان المتنبي، واشترك مع آخرين في تحقيق كتاب "الورقة" لـ محمد بن الجراح، و"مجالس الصاحب بن عباد". يذكر له أنه خاض معركة فكرية مع "عبد العزيز فهمي" باشا عضو مجمع اللغة العربية، حين تقدم باقتراح يقضي باستعمال الحروف اللاتينية مكان الحروف العربية، فانبرى له عزام ودحض دعواه؛ لأنه كان يعلم خطورة دعواه، وما كان من أمر التراث الإسلامي في تركيا بعد إلغاء مصطفى كمال أتاتورك الحروف العربية واستعمال الحروف اللاتينية بدلا منها، وانتهت هذه المعركة برفض المجمع اللغوي لهذا الاقتراح، وقُضي على هذه الفكرة الخبيثة التي تريد إلغاء اتصال الناس بقرآنهم وسنة نبيهم. وفاته وبعد أن ترك عزام خدمة الحكومة سفيرًا، انصرف إلى العبادة وبنى مسجدًا في حلوان جلس فيه للناس يفسر القرآن ويروي حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكأنه يريد أن يجدد ما عرفته الثقافة الإسلامية من مجالس العلم التي كانت تعقد في المساجد، وانقرضت بعد ظهور المدارس والجامعات. وفي أخريات عمره عمل بالمملكة العربية السعودية مديرًا لجامعة الرياض التي أسسها، وظل هناك حتى لقي ربه في (8 من رجب 1378 هـ= 8 من يناير 1959م)، وتم نقل جثمانه إلى القاهرة حيث دفن في مسجده بحلوان.