الرئيسيةبحث

صحة بدنية

تمهيد الإنسان في هذه الدنيا مركب بدني- نفسي، بدن أنشىء من الأرض ونفس من طور أعلى، ولكل من الطرفين صحته ومرضه واختلاله، ولهما معا صحة هي التوازن بين حياة البدن وحياة النفس. ويجب على الإنسان أن يتعلم كيفا يعيش ، معتنيا بسلامة بدنه مع التعهد لنفسه التي هي حقيقته ، وما البدن إلا أداته . والصحة البدنية، بمعناها الخاص، موضوع عناية طائفة معينة من الأطباء كما أن العناية بالنفس موضوع اهتمام فريق آخر من أطباء البدن ومن المفكرين الحكماء ومن علماء الدين، وإذا كان هذا الفريق قد ظهر منذ قديم فإنه برز خصوصا في عصرنا، بسبب تطور الحضارة الحديثة وما فيها من مشكلات وأنواع من المعاناة يتعرض لها الإنسان المعاصر .

وقد تقدمت المعرفة ووسائل العلاج البدني تقدما كبيرا، وأمكن التغلب على كثير من أنواع الأذى والألم، ولكن بقي كثير مما لا يزال يعرض باستمرار ، ومع ذلك فإن الاجتهاد في مداواة الإنسان لا يتوقف، لأن الإنسان هو المريض، وهو حاول أن يكون لنفسه الطبيب.

على أنه يمكن القول إن علاج البدن أحيانا أسهل، لأن الطبيب هنا يتعامل مع مركب طبيعي، بناؤه من عناصر الطبيعة، ويمكن مداواته بحسب المعرفة بخواص تلك العناصر التي أصبح الطب يعرف منها الكثير ، بفضل الدأب والمثابرة في إجراء التجارب والاختبارات.

أما صحة النفس! ومعالجة أمراضها فهي مشكلة أكبر وأعقد، لأنها تحتاج إلى معرفة قوى النفس وملكاتها ونوإزعها ، وهذه متعددة ومختلفة إلى حد التضارب في هذا الإنسان العجيب الذي تكاملت في طبيعته كل " التراكيب" ، كما يقولون، وكل ذلك فضلا عن أن ما يساور الإنسان من آلام النفس أكثر حدوثا مما يصيب البدن، كما لاحظ أحد أطباء النفوس الذين سنتكلم عنهم فيما بعد، وهو أبو زيد أحمد بن سهل البلخي. وقد اجتهد الحكماء قديما من مختلف الأمم، كما اجتهد أهل الفلسفة العملية، على المستوى الفردي والاجتماعي، وكذلك اجتهد علماء النفس المحدثون في إرشاد الإنسان إلى الراحة من آلامه النفسية، وتنوعت آراؤهم بحسب ظروف حياة الأمم ونوع حضارتها، فمنهم من حاول معالجته من داخل ذاته ومنهم من التمس العلاج من خارجها، وكلهم يحاول تجنب المعاناة والشقاء، رغم اختلافهم في السبل والوسائل.

فكان هناك من نظروا إلى جانب الألم، خصوصا آلام الاشتهاء والحاجة والسعي في إشباع الرغبات ثم العودة إلى ذلك، فرأوا أن وجود الإنسان شر، واتجهوا إلى اقتلاع الاشتهاء من جذوره، كما في بعض الفلسفات الهندية القديمة، وهذا ليس علاجا بل قتلا لاستعدادات الإنسان وملكاته العظيمة.

وهناك من حارب الحواس والشهوات لمصلحة حياة الفكر والمعرفة، كأنه يمارس نوعا من الموت الإرادي، بغية الوصول إلى كمال الفضيلة (أفلاطون على أثر أستاذه سقراط) أو حاول رسم الطريق لسلوك متوازن بين رغبات البدن ومطالب الفكر، لكن مع التمسك بأهمية " الحكمة " التي هي أعظم ما يسعد الإنسان، وهذا هو مجال الأخلاق، كما نجدها مثلا عند أرسطو ومن سار على أثره في الشرق والغرب.