الرئيسيةبحث

سيدي الكبير البليدة


عندما يتنكر الحاضر للماضي سيدي الكبير·· مؤسس البليدة الذي تخلى عنه أهلها


خليفة قرطي 2006-05-30


بدأت قصة التآلف بين الإنسان والمكان والتاريخ مع بداية القرن السادس عشر الميلادي، كانت البليدة آنذاك، كغيرها من كثير من الأماكن في الجزائر، ملاذا لأولئك العرب المسلمين الأندلسيين الذين كان من بينهم العلماء والقادة والساسة· وكان من حسن حظ مدينة البليدة أن يستقر بها أحد هؤلاء القادمين، وكان عالما ومهندس ري· تجمع معظم الروايات التي تتداولها المصادر والذاكرة المتواترة على أن الوجود الفعلى لمدينة البليدة كان مع العقد الثالث من القرن السادس عشر الميلادي· وهو القرن الذي وصل فيه العلامة أحمد سيدي الكبير إلى المنطقة التي لم يكن يتواجد بها آنذاك سوى بعض القبائل العربية والبربرية· وكان أبرزها وأشهرها قبيلة أولاد سلطان· وكانت تقيم بما يعرف اليوم بحي الدويرات· وقد آزر أولاد سلطان هذا الوافد إليهم من الأندلس وساعدوه على إقامة مجمع للوافدين معه في المكان المعروف بوادي الرمان· وقد تعزز وجود الأندلسيين بعد ذلك وبرزوا بإمرة سيدي الكبير كمجتمع منظم ومتحضّر· وبدأت تظهر النواة الأولى لمدينة البليدة الحالية حول مسجد سيدي الكبير الذي شيد بساحة أول نوفمبر، أو ساحة التوت، غير بعيد عن مسجد الكوثر· ونشأت من حول المسجد مرافق أخرى كانت ضرورية لحياة سكان المدينة كالفرن والحمام وغيرها·· وهكذا توسعت المدينة بعد ذلك وأحيطت بالأسوار وجعلت لها سبعة أبواب لاتزال مسمياتها متداولة إلى يومنا هذا، كباب السبت وباب الجزائر وباب الزاوية وغيرها· وقد استثمر سيدي الكبير معرفته وخبرته العلمية في تطوير المكان، فاستغل وفرة المياه وخصوبة الأراضي في إنشاء البساتين الخضراء التي تدر خيراتها من مختلف أصناف الفواكه والخضروات ما لم يكن معروفا بين السكان الأصليين، ونضد الحدائق الغناء وأجرى فيها جداول وعيونا، فتحول المكان إلى غير ما كان عليه· وقد عبر عن هذه الدهشة عالم مليانة الشهير سيدي أحمد بن يوسف عندما زارها يوما بعبارته المعروفة سموك البليدة، أما أنا فأسميك الوريدة· وكان للأندلسيين الذين اندمجوا في المجتمع البليدي عن طريق الإقامة الدائمة ثم المصاهرة، الأثر الكبير في تحديد ملامح المدينة لاحقا من الناحية الاجتماعية والثقافية· فالمجتمع البليدي اليوم لا يزال يحتفظ بالعادات والتقاليد التي حملها الأندلسيون معهم· ولينظر الناظر إلى الأطعمة والألبسة وطقوس الزواج والموسيقى وهندسة المنازل وأشياء أخرى· تقع منطقة سيدي الكبير التي أصبحت حيا سكنيا، على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الجنوب من مدينة البليدة وسط مناظر طبيعية خلابة تنسج لوحتها الجبال والغابات ومياه الوادي، وادي سيدي الكبير، الذي أصبح ينسب إلى مؤسس المدينة· وهنا أيضا تنسج بعض الروايات، هي أقرب إلى الأسطورة، في علاقة العالم سيدي الكبير بالوادي، وكيف أنه شق مجراه بعصا كان يحملها· وبعيدا عن أجواء الأسطورة تتحدد علاقة سيدي الكبيرـ المكان الحالي ـ بسيدي الكبير العالم من خلال الضريح الذي أقيم له في المنطقة التي لم تكن في زمنه سوى منتزه يسر الناظرين؛ حيث يوجد جثمانه هناك· وقد أصبح مع مرور الوقت مزارا إلى جانب أضرحة أخرى كضريح سيدي بلقاسم، ثم نشأت من حول الضريحين أضرحة أخرى لأعيان المدينة من السكان الأصليين أو الأتراك الذين استوطنوا بالبليدة فترة من الزمن· وشيّد مسجد صغير بالقرب من الضريح كان زاوية لحفظ القرآن وتدريس مختلف العلوم الشرعية يؤمه طلبة العلم من أماكن مختلفة· وقد اكتسب المكان أهمية بالغة لدى البليديين وغيرهم من سكان المناطق المجاورة، وحتى البعيدة وأصبح المقام محجا للتبرك والزيارة· لكن المكان بدأ يفقد بريقه منذ أزيد من عقد من الزمان، فقد تخلى الناس هناك عن كثير من الطقوس، وسكنه الخوف، كما سكن أماكن كثيرة في الوطن، وانقطع الناس عن زيارة المقام الذي تعرض للتلف والحرق في الزمن الأحمر، وكادت الذاكرة تسقط سيدي الكبير من بين تلافيفها·