الرئيسيةبحث

روبرت أوين

إنه لمن الصعب علينا أن نتخيل أن حياة رجل واحد قد تأخذ كل تلك المنعطفات. كان الفصل الأول في هذه الحياة هو ولادته لأبوين معدمين في ويلز سنة 1771. ترك روبرت أوين المدرسة في سن التاسعة ثم عمل مساعد في تجارة الكتان مع تاجر يدعى مكجفوج، وربما كان باستطاعته أن يظل مع هذا التاجر دائما ويرى اسم المتجر يتحول إلى "مكجفوج و أوين" ، ولكنه وبأسلوب رجل الأعمال البطل قرر الذهاب إلي مانشستر؛ وهناك، وهو في سن الثامنة عشر؛ واعتمادا علي مبلغ 100 جنيها اقترضها من أخوه، أقام نفسه هناك كرجل صناعة صغير في صناعة النسيج. إلا أن البقية السعيدة جاءت بعد ذلك؛ فقد وجد السيد درنكوتر، وهو صاحب مؤسسة الغزل كبري، نفسه ذات صباح بدون مدير مصنع فقام بالإعلان عن هذه الوظيفة في احدي الجرائد المحلية، ولم يكن لدي أوين أي فكرة عن هذه الآلات، ولكنه حصل على هذه الوظيفة بطريقة تعتبر مثالا للإقدام والحظ؛ فقد كتب أوين بعد ذلك بنصف قرن يقول:"ارتديت قبعتي وتوجهت إلى مكتب حسابات السيد درنكوتر، فسألني السيد درنكوتر "ما عمرك؟" فأجبته قائلا " سأكمل العشرين عاما في شهر مايو"، فسألني مرة أخري قائلاً "كم مرة تسكر فيها في الأسبوع؟" فأجبته قائلاً "إنني لم أسكر أبدا طوال حياتيً" وقد علت حمرة الخجل وجنتي بسبب هذا السؤال المفاجئ الغير متوقع. وسألني "ما المرتب الذي تطلبه؟" فأجبنه قائلاً "ثلاثمائة جنية في العام"، فتساءل السيد درنكوتر في دهشة وهو يردد الكلمات التي تفوهت بها "ماذا؟ ثلاثمائة جنية في العام؟ ألا تعلم كم شخصا يتوقون إلي الظفر بهذه الوظيفة. هناك الكثير من الرجال بالخارج لا أعلم كم عددهم ولن يطلبوا مجتمعين ذلك المبلغ الذي من المال طلبته وحدك." فرددت عليه قائلا "لن أقبل أقل من ذلك، فلن احكم نفسي بما يطلبه الآخرين". وكانت هذه لمحة ذكاء من أوين لها وقعها وأثرها في نفس ذلك الرجل، وببلوغه سن العشرين أصبح أوين الصبي الأعجوبة في عالم صناعة النسيج– شاب جذاب ذو أنف مستقيم في وجه طويل جداـ وعينين كبيرتين صريحتين كانتا تعلنا عن سلامة طويته. وخلال ستة أشهر عرض عليه السيد درنكوتر ربع الأرباح الناتجة عن عملية التجارة ولكن ذلك كان فقط بداية عمل ناجح لأوين في التجارة، إذ أنه خلال سنوات قليلة سمع أوين عن وجود بعض المصانع للبيع في قرية نيو لانارك، ومن عجائب القدر أنه قد وقع في غرام ابنة صاحب المصانع، ولكن بدا الحصول علي المصانع أو حتى يد ابنة السيد دال Dale والد هذه الفتاة أمراً عسير المنال، فقد كان السيد دال صاحب المصانع هو أحد أتباع الكنيسة المشيخيه المتعصبة الذي كان بالقطع سيعارض بشدة أفكار أوين الراديكالية المتحررة، وهناك أيضا مشكلة أخري وهي الوسيلة التي تمكنه من جمع المال اللازم لشراء هذه المصانع. ولكن إرادة أوين لم يكن يقف أمامها شئ، فقد توجه إلي السيد دال تماماً مثلما توجه قبل ذلك إلي السيد درنكوتر حتى أصبح المستحيل حقيقة قائمة، إذ اقترض أوين المال واشترى المصانع وتمكن من الزواج من ابنة ذلك الرجل في الصفقة ذاتها. وربما استقرت الأمور عند ذلك الحد, فخلال عام واحد تمكن أوين من تغيير مجتمع نيو لانارك، وفي غضون خمسة أعوام أصبح التعرف عليها عسيراً ، وبعد مرور عشرة أعوام نالت شهرة عالمية. وكان ذلك يعد إنجازاً كبيراً في ذلك الوقت لأي رجل، فبالإضافة إلى اشتهاره في أوروبا بالحصافة والوقار استطاع روبرت أوين تحقيق ثروة خاصة تقدر بحوالي 60.000 جنيها علي الأقل. ولكن الأمور لم تستقر علي ذلك الوضع، فرغم ذلك الصعود السريع كان أوين يري نفسه علي أنه رجل أفكار ومبادئ وليس فقط رجل مواقف وأعمال فلم تكن نيو لانارك مجرد تطبيق جاف لفلسفة الإحسان، بل إنها كانت فرصة لاختبار وتجريب النظريات التي أبدعها حول الإسهام في رقي البشرية بصفة عامة، ذلك لأن أوين كان علي مقتنعا بأن البشر لا يختلفون كثيرا عن البيئة التي يعيشون فيها وإذا ما تم تغيير هذه البيئة ستظهر جنة حقيقية علي سطح الأرض. وفي نيو لانارك استطاع أن يختبر صحة أفكاره، كما لو كان في معمل، وعندما نجحت هذه الأفكار بشكل يفوق كل التوقعات، فقد أنه لا يوجد مانع من تطبيقها علي العالم الكبير بشكل أوسع. وقد واتته الفرصة سريعا، فقد هدأت حدة حروب نابليون وعند اشتعالها مرة أحرى حدثت الاضطرابات. وعصفت بالبلد سلسلة مما كان مالثوس سيطلق عليه اسم "الكساد العام"؛ففي الفترة فيما بين 1816 و 1820 وباستثناء عام واحد فقد كانت حالة التجارة والأعمال شديدة السوء. وكان هذا الفقر المدقع يهدد بانفجار الموقف في البلد؛ فقد اندلعت أعمال الشغب التي تنادي "بالخبز أو الدم"، وسيطرت حالة من الهستريا والجنون علي زمام هذا البلد. وهنا قام كل من دوقي يورك وكنت وهيئة من كبار الشخصيات بتشكيل لجنة للبحث في أسباب الأزمة، وبالطبع، وكما جرت العادة، كان من الضروري استدعاء السيد أوين، المشهور بإحسانه، لكي يقدم لهم آراءه. ولكن في الحقيقة كانت هذه اللجنة غير مهيأة بشكل كاف لتقبل ما قدمه أوين من آراء؛ لقد كانت بلا شك تنتظر منه أن يقدم طلبا بإصلاح حال المصانع، وهو الذي اشتهر بإقدامه على تقصير يوم العمل وإلغاءه لعمالة الأطفال في مصانعه، وبدلا من ذلك وجدت الهيئة أوين يقدم لها مخططا لإعادة التنظيم الاجتماعي على نطاق واسع. وكان ما أقترحه أوين هو أن حل مشكلة الفقر يكمن في جعل الفقراء أنفسهم أفراداً منتجين، ومن أجل تحقيق هذه الغاية فقد دافع عن تكوين قري تعاونية يعمل فيها ما بين 800 إلي 1200 شخص سوياً سواء في المزرعة أو المصنع من أجل تكوين وحدة اكتفاء ذاتي. وكانت علي العائلات أن تعيش في منازل علي شكل متوازي الأضلاع - وقد جذبت هذه الكلمة نظر الرأي العام على الفور- ولكل أسرة شقة خاصة بها ولكن الأسر رغم ذلك تشترك في حجرات الجلوس وحجرات القراءة والمطابخ. أما عن الأطفال فوق سن الثالثة فيجب يربوا على انفصال لكي ينالوا قسطاً من التعليم والتدريب يسهم في تشكيل شخصياتهم بشكل إيجابي لمواجهة مشاكل وصعوبات المستقبل. وحول المدرسة يوجد هناك حدائق مخصصة للأطفال الأكبر سنا ومن حولها تمتد الحقول الغنية بالمحاصيل الوافرة- بالقطع باستخدام المجاريف وليست المحاريث. وبعيداً عن المناطق المأهولة بالسكان تكون هناك وحدة تصنيع (المصنع)، وبالتالي ستكون تلك هي مدينة حدائق منظمة، أو ما يطلق عليه الكيبوتز kibbutz أو الكوميون commune. اندهشت اللجنة من هذه الأفكار، فلم يكونوا مستعدين للحث علي تبني فكرة تأسيس مجتمعات شيوعية منظمة في وقت كان يعم فيه نظام الاستبهال الاقتصادي، لذلك فقد شكروا السيد أوين وتجاهلوا أفكاره كلية، إلا أن السيد أوين أصر علي مراجعة إمكانية تطبيق هذه الأفكار وقدم إلي البرلمان العديد من المنشورات التي تشرح آرائه. ومرة أخرى تكلل عزمه بالنجاح؛ ففي العام 1819 تم تشكيل لجنة خاصة تتضمن (دافيد ريكاردو) بغرض جمع رأس المال الكافي لإنشاء قرية كاملة من هذه القرى التعاونية علي سبيل التجربة وكان رأس المال يقدر بحوالي 96.000 جنيهاً. كان ريكاردو متشككا بعض الشئ رغم استعداه لإعطاء هذه الخطط حقها في التجربة العملية، ولكن البلد نفسها لم تكن متشككة علي الإطلاق، لأنها كانت تري هذه الأفكار أفكاراً بغيضة. ولعل هذا ما دفع أحد كتاب الافتتاحيات في إحدى الصحف إلي القول بأن: "روبرت أوين، محسن وصاحب مصانع غزل القطن... يري أن البشر كلهم عبارة عن نباتات عديدة قد اجتثت من فوق الأرض منذ آلاف السنين ويلزم إعادتهم إليها، ولذلك فهو يريد أن يزرعهم مرة أخري في قطع مربعة من الأرض ولكن علي الموضة الحديثة." وكان وليم كوبت، الذي نفي بعد ذلك إلى أمريكا بسبب أفكاره الراديكالية، أشد سخريه من مشروع أوين؛ فقد كتب قائلاً: "هذا السيد المهذب يريد إنشاء مجتمعات من الشحاذين... وسوف تكون النتيجة هي السلام الرائع، والسعادة والمصلحة القومية، إني لا أرى سبيلا إلى تسوية الخلافات الصغيرة بين أولئك الأشخاص ذوي العيون التي أفناها التعب والأنوف الحمراء كالدم. علي أية حال، فإن مخطط السيد أوين يتمتع بالقبول الذي يلقاه أي شيء جديد، لأنني، وكل البشر أيضا، لم نسمع قبل ذلك عن مجتمع الشحاذين هذا... وداعاً سيد أوين لانارك" لم يكن في ذهن أوين بالطبع تشكيل مجتمعات من الشحاذين، بل علي العكس تماماً من ذلك كان يعتقد أن الشحاذين أنفسهم يمكن أن يكونوا منتجين للثروات، إذا أتيحت لهم فرصة العمل، وهنا ستتحول عاداتهم المعيشية السيئة إلي أخري فاضلة تحت تأثير البيئة الطيبة التي سيعيشون فيها. وبالتالي فإن الشحاذين ليس هم فقط الوحيدون الذين سيتم الارتقاء بمستواهم، فهذه القرى التعاونية ستكون أفضل وأرقي من حياة المجتمعات الصناعية الصاخبة والتي تحاول المجتمعات الأخري محاكاتها. ولكن كان من الواضح أن أوين هو الوحيد الذي يعتنق هذه الأفكار ويؤمن بصحتها؛ فذوي العقول الجادة كانوا يرون خطط أوين علي أنها خطر يهدد نظام الأشياء القائم، أما الأفراد المتعصبون فكانوا يرون ذلك علي أنه مسرحية هزلية. ولم يتم جمع المال اللازم لإنشاء هذه القرية التعاونية ولكن لم يكن هناك شيئا يمكنه كبح جماح ذلك المحسن. لقد كان قبل ذلك ذا نزعة إنسانية إلا انه الآن صاحب مذهب إنساني محترف، وهو وإن كان قد حقق ثروة فإنه قد كرس كل ثروته لتحقيق أفكاره، إذ باع نصيبه في نيو لانارك وفي العام 1824 شرع في بناء مجتمعه المستقبلي، ولم يكن من الغريب أن يختار أمريكا لتنفيذ هذه المشروع، لأنه لم يكن ليجد مكانا يبني فيه دولته المثالية أفضل من مكان يحيا فيه بشر عاشوا الحرية السياسية لمدة خمسين عام؟ أما عن الموقع الذي اختاره فقد اشتري من طائفة دينية ألمانية قطعة من الأرض تقدر بحوالي ثلاثون ألف هكتاراً على ضفاف نهر الواباش في بوزي كاونتي بولاية إنديانا. وفي الرابع من يوليو للعام 1826 أعلن أوين الاستقلالية الفكرية التامة لهذه البقعة من الأرض – أي أعلن استقلالها عن الملكية الخاصة، وحتى اعتناق الأديان الغير عقلانية والزواج – ثم تركها للتطور من تلقاء ذاتها حاملة اسما جميلا طموح وهو "نيو هارموني أو الانسجام الجديد". ولو تنجح الفكرة ولم تكن لتنجح، وذلك لأن أوين كان قد تخيل إمكانية وجود مجتمع مثالي ينبثق إلي هذا العالم من العدم ولم يكن مستعدا لاقتطاع مجتمع جديد من المجتمع القديم. ولم يكن هناك تخطيطا؛ فلقد جاء حوالي 800 مستوطنا للمعيشة في هذه المنطقة وبعد مرور عدة أسابيع سادت المنطقة حالة من الفوضى وعدم النظام، ولم يكن أحداً من أفراد هذا المجتمع الجديد قد أخذ حذره من الخداع والاحتيال؛ فأوين نفسه قد خدعه أحد الرفاق عندما قام بإقامة مصنعا للويسكي علي احدي الأراضي التي انتزعها من أصحابها بالقوة. وبما إن أوين لم يكن هناك في معظم الوقت فقد أدي ذلك إلي ظهور مجتمعات متنافسة: فظهر تجمع "ماكلوريا" بزعامة ويليام ماكلور، ومجتمعات أخرى تحت قيادة منشقين آخرين، فقد كان دافع الكسب أقوى من أن يتقيد بالأفكار. ولو أرجعنا النظر لظهر لنا أنه من المدهش أن مجتمعا مثل هذا قد نجح في الوجود لفترة مثل هذه. وبحلول العام 1828 كان من الجلي أن هذا المشروع قد فشل واضطر أوين إلي بيع الأرض (مع العلم أنه فقد حوالي أربعة أخماس ثروته في هذه المغامرة) ثم ذهب ليناقش مخططه مع الرئيس جاكسون، ثم توجه بعد ذلك إلي سانا آنا في المكسيك، فلم يبدي أي من الشخصين شيئا سوي الاهتمام المهذب بأفكاره. ورجع أوين مرة أخري إلي إنجلترا، وكان لا يزال السيد أوين المحسن (وإن كان قد جرح قليلا في تجربته السابقة)، ولكن حياته العملية كانت على وشك أن تأخذ منعطفها الأخير الغير متوقع؛ فمعظم الآراء السائدة في ذلك الوقت، لفترة، كانت تسخر من القرى التعاونية التي كان أوين يدعو إلي إنشاءها إلا أن تعاليمه قد رسخت في قسم واحد من المجتمع ألا وهو طبقة العمال. وكان هذا الوقت هو وقت ظهور الاتحادات التجارية الأولى، وأصبح زعماء عمال الغزل وصانعو الفخار والبناءون يعتبرون أوين الرجل الذي يمكنه أن يتحدث من أجل مصالحهم، بل ويعتبرونه قائدهم. فعلي خلاف أقرانه، كان العمال يأخذون تعاليمه مأخذ الجد- وبينما كانت أفكاره الخاصة بالقرى التعاونية مثار جدل لجان الصفوة، برزت في كل أنحاء البلد مجتمعات تعاونية حقيقية من الطبقة العاملة بناءاً علي أفكاره التي كان ينادي بها، ولكن بصورة أكثر اعتدالا: فظهرت تعاونيات المنتجين وتعاونيات المستهلكين، حتى أن البعض منهم كان يحاول تنفيذ نفس أفكار السيد أوين حرفيا ويستغنون تماماً عن المال. وبدون استثناء فقد فشلت تجربة تعاونيات المنتجين و نجم عن التبادلات التجارية بدون مال حالة من الإفلاس الشنيع. ولكن لابد أن نعترف أن أحد خصائص النزعة أو الحركة التعاونية قد بدأت تضرب بجذورها في المجتمع، فقد قام حوالي 28 من الأشخاص المخلصين أطلقوا علي أنفسهم أسم "رواد روشديل" بتأسيس حركة تعاونيات المستهلكين، وكانت الحركة ذات أهمية عابرة بالنسبة لأوين، ولكن بمرور الوقت بدأت هذه الحركة تزدهر وتقوي حتى أصبحت أحد أهم مصادر القوي في حزب العمال في بريطانيا العظمي، ومن المثير للعجب أن هذه الحركة التي لم تمثل لأوين أهمية كبيرة أوين، نجحت في البقاء بعد اختفاء كل المشاريع التي أفنى فيها قلبه وقوته. ولم يعد هناك وقت عند أوين للتعاونيات لسبب وجيه وهو أنه لدى عودته من أمريكا تصور حملة صليبية أخلاقية كبيرة واندفع فيها بحماسه المعتاد. فذلك الرجل الذي كان ذات مرة الصبي فقير، ثم الرأسمالي، ثم المخطط الاجتماعي، جمع حوله الآن كل قادة حركة الطبقة العاملة. وأنعم علي مشروعه باسم رائع ومدهش، فقد أسماه "الإتحاد الأخلاقي القومي الكبير للطبقات المنتجة والمفيدة"، وتم اختصار الاسم بعد فترة قصيرة إلي "الاتحاد القومي الكبير للمهن المترابطة"، ولكن نظراً لطول هذا الاسم أيضا فقد تم اختصاره إلي "الإتحاد القومي الكبير"، وتحت رايته اجتمع قادة اتحاد العمال، وفي العام 1833 تم الإعلان رسمياً عن قيام حركة الطبقة العاملة الإنجليزية. كان هذا الإتحاد إتحاداً وطنيا قوميا علي مستوي الأمة والشعب كله وكان هو بشير الاتحادات الصناعية التجارية في العصر الحالي. وكان أعضاء هذا الإتحاد يقدرون بحوالي 500000 ألف - وهو رقم خرافي في ذلك الوقت- وكان يضم فعليا كل الاتحادات المهمة في إنجلترا آنذاك، ولكنه علي خلاف الاتحادات الحديثة، لم يكن هدفه مقصورا علي ساعات العمل والأجور أو حتى طريقة الإدارة، بل كان الإتحاد القومي الكبير أداة مهمة ليس في تحسين الأوضاع الاجتماعية فحسب بل وأيضا في إحداث التغيير الاجتماعي العميق. وبينما كان برنامجه ينادي بتحسين الأجور وتحسين أحوال العمل، فإنه قد مضى أيضا في الدعاية لمزيج غير واضح من الفري التعاونية، وإلغاء المال، وعدد من الأفكار الأخرى المأخوذة من كتابات أوين. وهنا تحدي أوين البلد كلها من أجل تحقيق قضيته الأخيرة، ولكنه فشل أيضا؛ فلم تكن إنجلترا قد تأهلت بعد لإقامة اتحاد قومي للنقابات المهنية تماماً مثلما كانت أمريكا غير مؤهلة لتتحول إلي جنة مثالية. ولم تستطع الاتحادات المحلية السيطرة على أعضاءها، وأدت الإضرابات المحلية إلي إضعاف جسد الاتحاد القومي. وقد سقط أوين ومعاونيه في عداء متبادل؛ فقد اتهموه بالإلحاد والزندقة، واتهمهم هو بأنهم يشعلون الحقد والبغضاء والكراهية بين الطبقات. وتدخلت الحكومة بعنف وقوة وبدلت قصارى جهدها لتدمير هذه الحركة النامية والمتزايدة، وقد سمعت طبقة أصحاب العمل في "الاتحاد القومي" نعي الملكية الخاصة ونادوا بالمقاضاة في ظل قوانين معادية للاتحاد. ولم يكن بإمكان أعتى الحركات أن تصمد في وجه مثل هذه الحملة الشعواء. وفي غضون عاميين انهار الإتحاد ولعب أوين في سن الرابعة والستين أخر أدواره التاريخية. لقد استمر لمدة عشرين عاماً أخري؛ الرجل العظيم الهرم الذي يساند الطبقة العاملة والذي يحاول نشر أفكاره التعاونية، ويفضل استخدام الفأس (المجراف)، لا يثق في المال. وفي العام 1839 كان له لقاء مع الملكة فيكتوريا بالرغم من احتجاجات العديد من جماعة من علية القوم عرفت باسم "جمعية المكافحة السلمية لعدم الولاء". ولكن أوين كان قد انتهى، وفي أواخر أيامه وجد ملاذه في الدراسات الروحية، وهو ما نجده في كتابات كثير عنده ويمكننا أن نلمسه في "سيرته الذاتية" الرائعة. وتوفي ذلك الرجل في العام 1858 عن عمر يناهز السابعة والثمانين عاماً، وكان لا يزال طموحا. يا لها من قصة رومانسية ومذهلة! وإذا نظرنا إلي الوراء نري أن قصة حياة ذلك الرجل هي ما يجذبنا بشدة أكثر من أفكاره نفسها، فلم يأتي أوين في حياته كلها بشئ جديد ولم يكن مفكراً مرنا طوال حياته. ويصفه أحد الكتاب المعاصرين بطريقة صادمة قائلا:"لم يكن روبرت أوين يختلف كثيراً عن كتاب تقدم بقراءته"، وكان ماكولاي، الذي كان يهرب من سماع صوته يصفه بأنه كان "دائما شخص مضجر". ولم يكن ذلك الرجل، بأي درجة من درجات الخيال، عالم اقتصاد، ولكنه كان أكثر من ذلك: لقد كان مبدعا اقتصاديا قام بإعادة تشكيل المواد الخام التي يجب على علماء الاقتصاد أن يتعاملوا معها. وكان أوين، مثل كل الاشتراكيين اليوتوبيين، يريد للعالم أن يتغير، ولكن بينما كان الآخرون يكتبون، بقوة أو بغيرها، كان أوين يحاول جاهداً أن يطبق هذه الكتابة والنظريات حتى تتحول إلي واقع حقيقي وملموس. ولكن إذا أعدنا التفكير ربما نجد أن الرجل قد ترك لنا وراءه فكرة عظيمة وهذه الفكرة تتضح بأسلوب ساحر في الفقرة التالية من السيرة الذاتية لابنه روبرت دال أوين.


كمال المصري


المصدر: "فلاسفة الدنيا"، تأليف روبرت هيلبرونر، ترجمة كمال عبدالعاطي المصري، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2007.