تخرج راي توملينسون في العام 1965 في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا وعمل بعد ذلك ضمن فريق شركة (بي بي إن) في ولاية ماساشوستس الأمريكية لايزال راي توملينسون يعمل في الشركة ذاتها، (بي بي إن)، التي ابتاعتها في العام (2002) شركة جي تي إي وضمتها إلى مجموعتها.
لعل البريد الالكتروني هو أكثر وسائل الاتصال الحديثة انتشاراً وفاعلية في عالمنا الحالي، ومع ذلك لا نكاد نعلم شيئاً عن مولده وتطوره، وعن المبتكر الفذ الذي قدم للبشرية هذه الوسيلة الرائعة.
ثلاث من وسائل الاتصال غيرت أساليب التخاطب والاتصال بين بني البشر في أرجاء المعمورة كافة، وصارت تواريخ ابتكارها نقاطاً مضيئة في تاريخ البشرية الحديث، وبات مخترعوها من المشاهير الذين لولاهم، لما بدت الدنيا كما هي اليوم.
في شهر يوليو من العام 1982 أرسل راي توملينسون أول رسالة الكترونية في التاريخ. وقد وصلت
الرسالة إلى العنوان الذي أُرسلت إليه على الفور، فقد أرسلها راي لنفسه. ولا يذكر توملينسون ما كانت تحتويه الرسالة بالضبط، كل ما يذكره
أنها كانت تجميعاً لعدد من الأحرف التي كتبت في صورة عشوائية مكونة كلمة "QWERTYIOP" ، أو شيء من هذا القبيل.
تخرج راي توملينسون في العام 1965 في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، وهو واحد من أشهر المراكز العلمية في العالم، وعمل بعد ذلك ضمن فريق شركة "بي بي أن" في ولاية ماساشوستس الأمريكية. ومنذ ذلك التاريخ والأحداث تبدو وكأنه ارتبت نفسها بحيث تقوده إلى إحدى المصادفات التاريخية الاستثنائية. وهذا ما حدث حقاً، إذ قادت هذه المصادفات توملينسون نحو اختراعه الذي لم يكن مطلقاً ضمن جدول أعماله، وذلك بعكس بقية اختراعاته، التي كانت تخضع للدراسات المسبقة، وكان يقوم بها إما عن سابق إصرار، أو بطلب من الشركة التي يعمل لديها.
اختارت وزارة الدفاع الأمريكية شركة "بي بي أن" التي يعمل فيها توملينسون، لتقوم ببناء "أربانت" – ARPANET – وهي الأحرف التي ترمز إلى الشبكة التي تربط المعاهد العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية بعضها بعضاً، وتجعلها على اتصال فيما بينها فقط. وذلك على غرار الشبكات المحلية التي تربط بين أجهزة الكمبيوتر في مؤسسة واحدة حالياً. واليوم يطلق على تلك الشبكات المحلية الأولى اسم "جدة الانترنت". فقد كانت تلك هي الشكل الأول أو التجربة الأولى على ما أصبح يعرف اليوم بشبكة الإنترنت، فشبكة اليوم هي ابنة "جدة الانترنت" الشرعية.
شارك توملينسون في تصميم تلك الشبكة ببرنامج بسيط لكتابة الرسائل يدعى SNDMSG وذلك لكي يتمكن العاملون عبر شبكة "أربانت" من أن يتركوا من خلاله رسائل لبعضهم البعض الآخر. وهذا البرنامج لا يرقى إلى مستوى البريد الالكتروني الحالي بطبيعة الحال، ولكنه كان خطوة مهمة على الطريق إليه. وأهمية هذا البرنامج أنه يصنع ملفاً توضع فيه الرسالة، وهو ما يعني أنه لا يستعمل إلا بين شخصين أو أكثر يشتركون في جهاز كمبيوتر واحد. من تلك الأجهزة التي كانت متوافرة في المعاهد والجامعات المشتركة بشبكة آربانت، فالكمبيوترات الشخصية لم تكن قد ظهرت بعد. حيث كان عليه أن ينتظر حتى عام 1981 لتظهر محدثة التحول الأكبر في عالم التكنولوجيا الحديثة التي تسيطر على عالمنا اليوم.
يقول توملينسون "لم يكن صندوق البريد إلا ملفاً يكتب فيه المستخدم رسالته، ولا يمكن للقارئ إعادة الكتابة عليه أو تحريره، يمكنه قراءته فقط". وكما ذكرنا، فقد كان الهدف ترك الرسائل من الشخص الذي انتهى عمله على الجهاز للشخص الذي سيتولى أمره من بعده، من دون الحاجة للقاء. في هذه الأثناء كان توملينسون قد صمم برنامجاً آخر يدعى "سيبنت" – يسمح بنقل الملفات من جهاز كمبيوتر إلى أخر على أن يكون الجهازان مرتبطين بشبكة أربانت.
"إن لم تجد رابطاً ما بين هذين البرنامجين فأنت لست مخترعاً". مثل هذه العقلية الفذة التي تربط بين المخترعات المختلفة كانت متوافرة عند توملينسون، وهي التي جعلته يفكر بالبريد الإلكتروني. "الأمر واضح: إنها مسألة تقارب فكرتين معاً". فهناك برنامج S NDMSG وهو برنامج لكتابة الرسائل على الكمبيوتر نفسه، وبرنامج CYPNET وهو برنامج ينقل الملفات من كمبيوتر إلى آخر. إذن لماذا لا يصبح كلا البرنامجين برنامجاً واحداً، برنامجاً ينقل الرسائل إلكترونياً من جهاز كمبيوتر إلى آخر؟ في هذه اللحظة ولد البريد الالكتروني، في ذهن توملينسون أولاً. ولم يحتج الأمر إلا إلى "إضافة الحلقة الناقصة"، كما يقول توملينسون.
والحلقة الناقصة كانت دمج برنامج CYPNET الذي ينقل الملفات، ببرنامج SNDMSG الذي يكتب الرسالة، وكان نتاج هذا الاندماج البريد الالكتروني.
اشارة @ تبعث من العدم أتاح هذا الابتكار الفرصة للجميع لاستخدام البريد الإلكتروني، ولكن المشكلة أن الرسالة كانت حتى ذلك الوقت لا تحمل أي دليل على مكان مرسلها. وكانت هذه المشكلة هي التي أرقت توملينسون، فشبكة "أربانت" موزعة على 15 جهازاً في أماكن متفرقة من الولايات المتحدة، منها ماهو موجود في ماساشوستس، حيث مقر شركة "بي بي إن" التي يعمل فيها توملينسون، هذا التشتت هو الذي جعل توملينسون يفكر في ابتكار رمز يوضع بين اسم المرسل والموقع الذي يفترض أن ترسل منه الرسالة. "تأملت لوحة المفاتيح. حاولت العثور على رمز لا يستعمله الأشخاص عادة ضمن أسمائهم، لم أرد أن يكون هذا الرمز رقماً. فكان الرمز @ هو ما اخترته من الرموز الموجودة على لوحة المفاتيح. إنه حرف الجر الوحيد الموجود على اللوحة". وبالطبع فإن هذا الرمز الذي وقع اختيار توملينسون عليه يقرأ على أنه حرف الجر " at" باللغة الانجليزية والذي يشير إلى المكان الذي تنطلق منه الرسالة.
لم يتوقع توملينسون أبداً أن يكون لهذا الرمز الذي اختاره الأثر الذي يبدو عليه الآن، حيث بات حرفاً قائماً بذاته، يستخدم ضمن أسماء الشركات وعلى اللوحات الإعلانية، مثل أي حرف آخر. "لقد استغرق الأمر ما بين 20 و40 ثانية للتفكير". ما كان يقصده توملينسون هو أن يوضح المرسل مكان وجوده عند إرسال الرسالة، وليس أكثر. أي أنه يضع الرمز بين اسمه ومكان وجوده، فيتضمن العنوان اسم المرسل ومكان وجوده.
بعد هذا الاختيار ارسل توملينسون أول رسالة الكترونية لنفسه، من جهاز كمبيوتر إلى جهاز آخر، وكان الجهازان بطبيعة الحال مرتبطين بشبكة "أربانت" وكانا موجودين في مقر شركة "بي بي إن" التي يعمل فيها توملينسون في ماساشوستس. كانت الرسالة كما ذكرنا تجميعاً لأحرف تشكل معاً كلمة QWERTYIOP أو شيء من هذا القبيل، وهي كلمة لا تعني شيئاً.
لم ينشر توملينسون اختراعه على الملأ فوراً، وطلب من مساعده بريتشفيل ألا يخبر أحداً عن الموضوع، فلم يطلب منه أحد مثلاً هذا الاختراع. لكن قلق توملينسون سرعان ما زال عندما أخبره زميل ثالث يدعى لاري روبرتس أنه سيستخدم اختراعه. وخلال فترة وجيزة بات اختراع تولمينسون وسيلة اتصاله المثلى بالزملاء الآخرين واتصالهم ببعضهم البعض الآخر، ولم يمض الكثير من الوقت حتى اكتسح اختراع توملينسون الجديد مستخدمي "أربانت"، وجلهم من المحاضرين في الجامعات الأمريكية، وأظهرت الدراسات التي أجريت في تلك الفترة أن 75 في المائة من الاتصالات في شركة "أربانت" كانت تتم باستخدام البريد الالكتروني الجديد. الذي يرى توملينسون أن أهم ما فيه هو أن استخدامه لا يشترط وجود أي من مرسل الرسالة أو مستقبلها، كما هو الحال في اختراع الهاتف مثلاً.
لا يزال راي توملينسون يعمل في الشركة ذاتها، "بي بي إن"، التي ابتاعتها في العام الماضي شركة "جي تي إي" وضمتها إلى مجموعتها. وينصب عمل توملينسون الآن على تطوير برمجيات التجارة الإلكترونية، لجعلها أكثر أمناً، وعلى رغم أنه غيّر باختراعه العالم، فإنه لم يتغير، بل إن ذلك لم يزده إلا تواضعاً، فمكتبه في كيمبردج في ولاية ماساشوستس، لا يثير الاهتمام أبداً. ولم تجعله فكرة ثراء بعضهم بالاعتماد على اختراعه هو نادماً على شيء. يقول وهو يضحك "عادة ما ينتهي الابتكار بمكافأة. لكن هذا الابتكار كان استثناء!".
واختفت "أربانت" وظهرت شبكة جديدة إلى حيز الوجود، هي شبكة الإنترنت، وأصبح مئات الملايين حول العالم يستخدمون البريد الالكتروني ويعرفون الرمز @ حق المعرفة.
ولم يبق من أصل البريد الالكتروني الذي ابتكره توملينسون إلا المبادئ الأساسية. فاستخدام البريد الالكتروني ضمن شبكة يشغلها الآلاف لا يقارن أبداً بالبريد الالكتروني الذي ينتقل ضمن شبكة تضم مئات الملايين من المستخدمين.
الفرق بين الإنترنت وأربانت، ربما كان السبب في ضياع حق راي توملينسون، بالشهرة على الأقل. فـ "جدة الانترنت" "أربانت"، شبكة محلية، وبذلك فهي ليست مجالاً رحباً يمكن للجميع الاسفادة منه كما هو الحال بالنسبة للإنترنت لذلك لم ينتشر ابتكار توملينسون إلا بين فئة ضيقة من مستخدمو شبكة أربانت الذين لا يقارنون أبداً بأعداد مستخدمي شبكة الانترنت الذين وصل عددهم إلى المليار مستخدم ولعل هذا هو ما جعل توملينسون لا يقدر مدى أهمية اختراع، يستخدمه عدد محدود من الأشخاص.
انتهت تلك المرحلة، وبدأت مرحلة جديدة، هي مرحلة الإنترنت، التي تعني بالإنكليزية الشبكة العالمية، حيث لا مجال لفئة ضيقة احتكار استخدامها، ولأن توملينسون لم يسجل البريد الإلكتروني كاختراع باسمه، ويحصل بالتالي على براءة اختراع، كما فعل ويفعل الكثيرون، بات البريد الإلكتروني دون مالك، وانتشر بين كل مستخدمي الإنترنت، وذلك بعكس العدد المحدود الذي كان يستخدم "آربانت" وبقي البريد الإلكتروني اختراعاً من دون مخترع، يستخدمه الملايين حول العالم من خلال استخدامهم لشبكة الإنترنت.
وكما ساعدت الانترنت على انتشار البريد الالكتروني، فإنها ساعدت في المقابل على ضياع اسم راي توملينسون. والسرعة الرهيبة التي انتشرت من خلالها كوسيلة اتصال معلوماتية حديثة، لم تدع مجالاً أمام توملينسون للتفكير في مدى أهمية اختراعه، الذي فكر فيه وأحسن استغلاله القائمون على موقع هوت ميل H otmail ، التابع لشركة مايكروسوفت، والذين قدموا البريد الالكتروني خدمة مجانية للمشتركين في الشبكة، مراهنين على أن هذا الاختراع هو اختراع المستقبل، ولقد نجحوا في كسب الرهان.
البريد الالكتروني الآن إن الطريقة التي يعمل بها البريد الالكتروني بسيطة جداً، فما عليك إلا أن تقوم بكتابة الرسالة، ثم عنوان المرسل اليه، متضمناً الرمز @، ثم تضغط على زر الإرسال، بعد ذلك تذهب رسالتك إلى خادم (سيرفر) شركتك المزودة للإنترنت، الذي يتحقق من صحة العنوان، ويقرر المسار الذي ستسير به رسالتك عبر الشبكة العالمية، نحو خادم شركة المرسل اليه المزودة للإنترنت، حيث تصله في صندوق البريد المخصص للمستخدمين، ولقراءة الرسالة، يقوم المرسل اليه، مستقبل الرسالة، بفتح صندوق بريده الالكتروني ليقرأ الرسالة من كمبيوتره الخاص أو من أي جهاز آخر متصل بشبكة الإنترنت حول العالم. الأمر برمته لا يستغرق أكثر من 20 ثانية لوصول الرسالة لمتسلمها، وفي هذا توفير كبير للوقت والمال، ولذا، فإن البريد الالكتروني يضع البريد العادي في مهب الريح، حيث تتفوق إمكانات البريد الالكتروني عليه بدرجات كبيرة، وبالإضافة إلى إرسال الرسائل الكتابية، يمكنك عبر البريد الالكتروني إرسال ملفات موسيقية أو برامج أو صور أو غير ذلك من الملفات التي ترسل مع الرسالة الالكترونية في صورة ملحقات ATTACHMENTS .
والرسالة الالكترونية كبيرة الشبه بالرسالة الورقية التقليدية، فهي تتكون من مقدمة، تحتوي على عناوين المرسل والمستبقبل وعنوان الرسالة ووقت إرسالها، وجسم يحتوي على النص المكتوب. وتماماً كما يفعل الشخص بالرسالة التقليدية، فإن عليه التأكد من صحة العنوان ، لأنه سيضيع في حالة كتابته بطريقة خاطئة، فإن كان العنوان الخاطئ ملكاً لشخص آخر، فإنه يصل إلى هذا الشخص، وإن لم يكن العنوان المكتوب بالطريقة الخطأ يخص أحداً فإن الرسالة تعود إلى العنوان الذي أُرسلت منه.
واليوم، يستخدم ملايين الأشخاص حول العالم البريد الالكتروني، وقلة منهم فقط تذكر صانعه راي توملينسون الذي توصل إلى اختراعه مصادفة، تماماً مثل عشرات الاختراعات التي غيرت وجه التاريخ، وهو ما يتضح من خلال هذا الاستخدام الواسع له. ولا شك في أن ذلك يؤكد أن هذا الابتكار كان حتمياً، وأنه لو لم يوجد، لكان من الضروري إيجاده. وأن كان كل اختراع على هذه الدرجة من الأهمية يذكر ويذكر معه صاحبه فإن البريد الالكتروني يذكر وكأن وجوده من طبيعة الأمور، أما صاحبه فلا أحد يكترث له أو به حتى لو كان على درجة من العبقرية مثل راي توملينسون الذي لم يستغرق منه ابتكار وسيلة الاتصال هذه التي غيرت وجه التاريخ سوى 30 ثانية.