ديوان اللزوميات أشهر مؤلفات المعري في الشعر وهو يعتبر سجلا حافلا لآراء الشاعر ونظرياته في نواحي الحياة المختلفة.
لزوميات المعرى
د.عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همام)
هذا ديوان رائد في تاريخ الشعر العربى ، وتمتد ريادته حتى العصر الحديث ، الذى شهد ثلاثة دواوين كان أولها «لزوميات مخيمر» للشاعر العبقرى أحمد مخيمر ، ونص على أنه على درب أبى العلاء ، وثانيها للشاعر عبد العزيز السعدنى ، وهو بقال من مدينة الزقازيق ، وثالثها «لزوميات أبى همام» لكاتب هذه السطور ، وتابع هذا النمط في دواوينه الأخرى ، وحين نقول ريادة أبى العلاء لا نعنى أنه غير مسبوق ، فقد شرع له الطريق جمهرة من الشعراء مثل ابن أخت تأبط شراً في «لاميته» المشهورة ، وكثير عزة في ثائيته ، وابن الرومى الذى ركب منه ضروباً من القول.
لكن هؤلاء لم يجعلوه ديدنهم في كلامهم . ولم يتخذوه مطية في كل ما كتبوا ، بل كانوا يركبونه لـماماً ، ولم يفردوا له الدواوين ، غير أن شيخ المعرة ركبه قاصداً على حروف المعجم ، في مجلدات ديوانه الممهور بهذا الاسم ، ويعنى أنه يلزم نفسه ما لا يلزمها من عدم الاكتفاء بحرف روى واحد من باب السعة والاقتدار ، وكان محصوله في اللغة يسعده في هذا ، واللغات الأجنبية تعرف هذا النمط ، وتسميه «القافية الغنية» La Rima Rica كما يعرف النثر العربى مثل هذا الضرب ، ومنه «المقامات اللزومية» للسرقسطى الأندلسى ، وكأن المعرى وقرناءه -وليسوا في قامته ، وقليل ما هم - يرون غير اللزوميات ما يمكن أن يسمى «الشعر الحر» بمعنى آخر غير المعهود الآن ، وقد ركبه أبو العلاء أيضاً في ديوانه الأول «سقط الزند» .
وفى حدود ما أعلم ، كان المعرى أول شاعر في العربية يطلق على مجموعته الشعرية أسماء محددة ، على غير ما هو متواتر قبله ، مثل ديوان فلان من الناس ، وما بعده أيضاً حتى عرف العصر الحديث التسميات ، وكان المعرى رائدا حتى في هذه المسألة الشكلية ، وربما كانت غير شكلية في حالته ، فسقط الزند أول كلامه في المنظوم ، واللزوميات جاء مصليا بعد ذلك .
ولقد ارتبط المعرى بالتاريخ الأدبى لهذه الأمة وعسير على التخيل أن يسقط من ذاكرة الأيام من حسب الأيام وحاسبها ذلك الحساب العسير، وهبه سقط فماذا يبقى في هذا التاريخ الأدبى ، إلا النفر القليل من سابقيه : ابن الرومى ، أبو تمام ، أبو الطيب، الشريف الرضى ، وإخوان هذا الطراز ، لعل الخريطة الشعرية كانت ستتطلع إليه ليسد الثلم الذى يحدثه غيابه ، ولعله أيضاً - وهو التارك للحياة التى يسميها «أم دفر» لننانتها - قد سخرت منه الحياة كما سخر منها طوال أيامه ، فأرخت له في حبال العمر ، ليخنق السادسة والثمانين وكان يتمنى أن تنجذم هذه الآصرة له ولغيره :
فليت وليدا مات ساعة وضعه
ولم يرتضــع من أمه النفساء
وهو الرجل الذى همدت فيه نوازع اللحم والدم أو على الأقل كانت موزوعة لا مدفوعة ؛ نظراً لبنيانه الوهنان ، وحرمانه من لذائذ الطعام والشراب ، اقتدار منه ، وزهادة ، قد أحدقت به السجون الثلاثة كآبة وعجزاً :
أرانى في الثلاثة من سجونــــى
فلا تســـأل عن الخبـــز النبيـــث
لفقــدى ناظرى ، ولزوم بيتــــــى
وكون النفس في الجسم الخبيـث
غير أن وجدانه المتوفز ، وعقله الجبار كانا يفسحان له أن يشرف على الوجود والعدم من عل ، وأن يراقب الأشياء مراقبة الندس اللبيب ، وكانت إحاطته بالعلوم والمعارف في زمنه حرية أن يتنفس من خلالها كل نفس وكل نأمة .
وجدت السليقة العربية في أبى العلاء نموذجها الذى يمثلها أوفى تمثيل ، فهو ينتمى إلى الأرومة العربية نسباً ودارا، وثقافة ، وعاش عصراً مفعماً بجلائل الأحداث ، ونالت قريته «المعرة» طرفاً من هذه الحوادث ، وتدخل فيها الشاعر متشفعاً فحقن الأحداث قبل أن تتفاقم ، ومع ذلك ظل نادماً أن خرج من محبسه .
وقرية المعرة غدت ذائعة الصيت ، بفضل شاعرها، وكأى من مدائن كبرى تغبطها وتحسدها هذا الشرف الرفيع .
تحدث الناس قديماً وحديثاً عن ثقافة أبى العلاء وتراحبها ، كما تحدثوا عن عقيدته ، بعضهم يرفعه إلى مصاف الملائكة المقربين ، وآخرون يهوون به إلى مدارك المردة والشياطين ، غير أن الرجل كان مثل الناس من ماء وطين ، لكنهم اصطلحوا على ثقافته وشاعريته ، وزهادته ، وحسبه هذا .
كانت «اللزوميات» فتحاً مبيناً في الشعر العربى لا بتشكيلاتها الموسيقية فحسب . وإن كانت واردة ، لكن بما تثيره وبما تحتويه ، واستن الرجل فيها لنفسه مهيعا خاصا ، طرقه بعضهم قبله وبعده لكنه المتفرد «وما قصبات السبق إلا لمعبد» ، ونعتقد - والمعرى من الشعراء الأصدقاء الذين نعود إليهم دائماً - أن اللزوميات هى الشعر الحقيقى للمعرى ، أو وجهه الأول حين تزدحم الوجوه ، وأن «سقط الزند» يمثل ملامح أولية أو «قرزمة» المعرى مع نضجها ، نقول ذلك وفى وعينا ما قاله النقاد عنها إنها نتيجة اللعب والعبث ، أو هى فكر لا تسرى فيه أعراق الشاعرية كما ألفها الناس ، لأن الفكر -فى رأينا دائماً- وجه أساس في بناء الشعر ، ولم يكن المعرى بعيداً عن هذا الرأى ، حين نعت لزومياته بأنه توخى فيها صدق الكلمة ، ونزهها عن الكذب والميط ، ولا يعنى ذلك صدق الواقع وجفافه وبرودته ، لأن الخيال صدق أيضاً ، ولم يكن المعرى -على كل حال- من رجال الخيال الجامح المتوثب ، وإن كانت له في اللزوميات لقطات من غريب الخيال ، حين تصور مثلاً أن التراب الإنسانى تتبدل به الأحوال ويتغرب بعد بلى الأجساد حيث يقول :
ويحمل من دار لأخرى وما درى
فواهــــا له بعــــد البلـــــى يتغــرب
ومثل يجزئ عن أمثلة لأن مثل هذه الغرائب تساوره كثيراً في كل اللزوميات .
تحدث المؤرخون عن حجم اللزوميات وعدد الكراسات التى كتبت فيها ، وأجملها أستاذنا الدكتور حسين نصار في صدر تحقيقه لها ، والمحك أنها كثيرة، والاختلاف في عدد الكراسات لا يعتد به ، حيث لا ندرى حجم كل كراسة ولا ما حوت، لكننا ندرى أنها حظيت باهتمام الناس قديماً وحديثاً رواية ودراية ، حيث شرحها البعض أو أجزاء منها ، كما جعلها الباحثون موضوعا لرسائلهم الجامعية ، وآخرهم رسالة تحت إشراف كاتب هذه السطور للباحث المجتهد محمود الطويل عن «اللزوميات» : دراسة أسلوبية ، بعد أن درس في الماجستير شعر الشريف الرضى : دراسة أسلوبية .
وعسير أن يعدد المرء الدراسات التى قامت حول المعرى ، لكننا لا نغفل دراسات طه حسين ، والعقاد خاصة في كتابه «رجعة أبى العلاء» ،وتصورها خيرى شلبى رواية ثانية للعقاد بعد «سارة» ، لكن العقاد احتذى فيها المعرى في رسالة الغفران ، وهى «رجعة أبى العلاء» نمط فريد في الدرس الأدبى والنفسى المعاصر ، وبين يدى دراسات كثيرة بمناهج متعددة لدراسة المعرى وشعره ، ومنها أيضاً عدد خاص من مجلة «الهلال» يونيه 1938 اختص بجوانب متعددة من أبى العلاء ، وكتبها أفذاذ ذلك الزمن الجميل .
ولدى أيضاً طبعات متعددة من «اللزوميات» أقدمها وأهمها طبعة حجرية منقولة عن مخطوطة كتبها عبد الواحد بن عبد الرفيع أوسط صفر 639 هـ ، وحضر لمقابلتها محمد عبد الجبار بن محمد المالكى ، لخزانة الأمير أبى زكريا المقدسى ، والطبعة الحجرية تمت في الهند 1303 هـ في المطبعة الحسينية ، وعليها هوامش وتعليقات شديدة الفائدة منقولة من المخطوطة ، ثم طبعت في مطبعة الجمالية بمصر 1915 م - 1333 هـ توفر على تصحيحها وتفسير غريبها أمين عبد العزيز ، وفى سنة 1924 طبعها أمين عبد العزيز الخانجى بتقديم كامل كيلانى ، في جزئين من مجلد واحد ، وثمة طبعات أخرى ، آخرها كما ذكرنا آنفا 1992 بإشراف الدكتور حسين نصار ومجموعة من تلاميذه ، وأفاد من الطبعات السابقة ، وبخاصة الطبعة الحجرية .
والملاحظ عموماً على تلك الطبعات خاصة في الشروح التفسير اللغوى القليل جداً ، وربما يأتى الشرح للكلمات المعروفة ، وتترك الكلمات التى في حاجة إلى شروح ، ولا تسلم تلك الطبعات أيضاً من بلاءات المراجعة المطبعية التى هى ديدن القائمين على الطبع الآن - إلا من رحم ربك وهم قليل ، كما تتفشى أخطاء العروض وتسميات البحور بغير أسمائها الصحيحة ، ولعل مركز تحقيق التراث ورئيسه عالم جليل (د. حسين نصار) يتدارك هذا الفائت ، وفى نسختنا تصويبات اللغة والعروض نقدمها حسبة لوجه صديقنا أبى العلاء ، وصديقنا حسين نصار.
للزوميات سحر خاص يقع في شباكه الناس من أهل الشعر والأدب ، وربما يقبل عليه من كان في الشرخ من الشباب ، حيث يشعل في نفوسهم - وهى مشتعلة - الغضب والقنوط ، لأن الرجل - رغم بعده عن شرة الشباب إبان نظمها - كان عارم السخرية ، عاتى القنوط ، فيعوذ به الشباب الذين لا تعطيهم الحياة بقدر طماحهم وآمالهم فيستدبرون الدنيا وهم أشد تعلقا بها وإقبالا عليها ، حيث الظمأ أشد ، وهكذا يظل أبو العلاء يسخر منا ومن ذاته ومن قوله الذى نردده معه :
أف لـما نحــــن فيـــه من عنــــت
فكلنــــا فـــى تحيـــل ودلــــس !!
ما النحو ما الشعر ما الكلام وما
مرقــــش والـمسيب بن علـــــــس
أو من قوله :
أعللت علة «قال» وهى قديمة
أعيا الأطبة كلهم إبراؤها
ولعله كان ينعى «القول» وهو عليل أجوف حين لا يجدى القول شيئاً بجانب «العمل» كما نعى شيخه المتنبى : «قد أفسد «القول» حتى أحمد الصمم» ، لكننا مضطرون إلى «القول» ولو عليلا وإلا :
مل الـمـقام فكم أعاشــــر أمـــــة
أمرت بغيــــر صلاحها أمراؤهــا
ظلموا الرعية واستجازوا كيدهــا
وعدوا مصالحهــا وهم أجراؤهــا
ووجدت دنيانــــا تشابه ظامئـــــــا
لا تستقيـــــم لناكــح أقراؤهـــــــا
هويـــت ولم تسعف وراح عتيهـــا
تعبا وفاز براحــــة فقراؤهــــــــــا
وتجادلــــــت فقاؤها من حبــهــــا
وتقرأت لتنالهـــــــــا قراؤهــــــــــا
وإذا زجرت النفس عن شغف بها
فكـــــأن زجـــــــر غويها إغراؤهـا
ولعلنا نرضى أبا العلاء بعض رضى بهذا «القول» عنه ، أو لا نرضيه فالأمر لديه سواء ، لأنه أخذ علينا متوجهنا حيث صوته يهتف من وراء القرون :
إن مدحونى ساءنى مدحهم
وخلت أنى في الثرى سخت .