داوود عبد السيد بدأ عبد السيد حياته العملية بالعمل كمساعد مخرج في بعض الأفلام ، أهمها (الأرض) ليوسف شاهين ، (الرجل الذي فقد ظله) لكمال الشيخ ، (أوهام الحب) لممدوح شكري . ثم بعد ذلك توقف عبد السيد عن مزاولة هذا العمل .. ... لم أحب مهنة المساعد ، كنت تعساً جداً وزهقان أوي .. لم أحبها ، إنها تتطلب تركيزاً أفتقده .. أنا غير قادر على التركيز إلا فيما يهمني جداً .. عدا ذلك ، ليس لدي أي تركيز.
ولهذا السبب ، قرر أن يحمل الكاميرا وينطلق بها في شوارع القاهرة ، يرصد الحزن والألم في عيون الناس ، ويصنع أفلاماً تسجيلية إجتماعية عنهم . حيث قدم العديد من الأفلام التسجيلية ، أهمها (وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم ـ 1976) ، (العمل في الحقل ـ 1979) ، (عن الناس والأنبياء والفنانين ـ 1980) . وهي بالطبع أفلام قد حققت لعبد السيد فرصة للإحتكاك المباشر مع الناس ، ومعرفة أوسع وأعمق بالمجتمع المصري بكافة طبقاته ، إضافة إلى أنها أكسبته الإحساس بنبض الحياة المتدفق .
يتحدث عبد السيد عن بداية إهتمامه وعلاقته بالسينما ، فيقول : ... لم يكن ضمن طموحي في الطفولة أن أصبح مخرجاً سينمائياً ، ربما أردت أن أكون صحفياً .. إلا أن ما غير حياتي هو ابن خالتي ، وكان يعشق مشاهدة الرسوم المتحركة . وتطور معه الأمر لشراء كاميرا ، وعمل بعض المحاولات في المنزل . وتدريجياً تعددت علاقاته بالعاملين في مجال السينما . وأذكر ، وكنا آنذاك في السادسة عشر ، أن أخذني لأستوديو جلال ، وهو القريب من سكننا بمصر الجديدة ، وكانوا يصورون فيلماً من إخراج أحمد ضياء الدين ، الذي كنت أعرفه بحكم زمالتي وإبنه في المدرسة . ما حدث يومها أني إنبهرت بالسينما بصورة مذهلة . وهذا الأمر أفشل تماماً في تفسيره حتى الآن ، المؤكد إنه ليس النجوم وليس الإخراج وليس التكنولوجيا ، بل شيء آخر غامض حقاً .. قررت بعدها دخول معهد السينما ... .
أما عن تجربته مع السينما التسجيلية ، فيقول : ... إن الفيلم التسجيلي يتيح لك حرية التجريب بدون خوف من الخسارة المادية مثلاً .. أقصد بالتجريب هو أن تعبر عن المضمون الذي لديك بصورة متحررة .. وحين تعبر فقد صار في إمكانك التجريب ، ولو نجح التجريب فستكسب الثقة فيه وتجد القدرة على المزيد منه ... .
وعلى مدى خمسة عشر عاماً ، ظل عبد السيد يصنع بأفلامه حواراً من طرف واحد .. حواراً مفرداته الصورة لا الكلمة ، يصنع الحوار الصامت بالكاميرا . لكن عبد السيد لم يستطع الإستمرار في هذا الصمت .. شعر بضياع جهده ، حيث لا يصل إلى جمهوره الحقيقي . فكان قراره بأن يكتب ويخرج فيلماً روائياً ، ليخرج من دائرة الأفلام التسجيلية المغلقة ، ويلتقي بالطرف الآخر .. الجمهور .. ... عشت أحلم بهذه اللحظة ، وللأسف رحلتي مع الأفلام التسجيلية لم تحقق أي شيء ، لأنه لا يوجد من يهتم بها .. وطالما نادينا بعرضها في دور السينما فبل الفيلم الروائي . من هنا وجدت أنه لا يمكن الوصول لعقل المشاهد إلا من خلال الفيلم الروائي الطويل ... .
ولا ننسى الإشارة إلى أن جانباً من أسباب تأخر تجربة عبد السيد في مجال الفيلم الروائي ، تعود إلى أنه قد رفض الإستمرار بالعمل كمساعد مخرج ، وكان دخوله المجال الروائي من ميدان خارجي ، ومظلوم إعلامياً ، هو مجال الفيلم التسجيلي ، الذي هيئه حقيقة لخوض المجال الآخر .. ... تخلصت من بعض الخوف من الكاميرا ، وشعرت أنني قادر على تجسيد فكرة في شكل سينمائي .. هذا أعطاني ثقة في أني قادر على تجسيد فكرة ، لا تكون مجرد ورق .. والجزء الأساسي في التعليم هو من كتابة السيناريو . فلا أرى أن هناك إخراجاً وهناك كتابة سيناريو .. عندما تتعلم كتابة سيناريو تتعلم الإخراج .. والأساسي الذي تتعلمه كيفية أن توصل فكرة ... .
وخلال هذه الرحلة مع الفيلم التسجيلي لم ينسى حلمه ، وهو إخراج فيلم روائي . لهذا كان يكتب القصص والسيناريوهات ، حيث بدأ في كتابة أول سيناريو له بعد بضعة أشهر فقط من تخرجه من معهد السينما . البدايات كانت محاولات غير ناضجة ، حتى كتب سيناريوهات ( كفاح رجال الأعمال + الوباء + الصعاليك + بيت الست حياة ) .
ويقول عبد السيد .. ... إن المحاولات الأولى لم تكن ناضجة بما يكفي ، لكي تقنعني بمحاولة إخراجها للنور .. ولكن بمجرد إنتهائي من أول أعمالي الناضجة (كفاح رجال الأعمال) ، لم أتردد لحظة واحدة ( ... ) وبالفعل تعاقدت على إخراج هذا العمل سنة 1980 .. ولكن للأسف ولأسباب تخص المنتج ، لم أتمكن من تنفيذ الفكرة ... .الى هنا ، نكون قد أشرفنا على نهاية موضوعنا هذا . ولكن قبل أن نفعل ذلك ، كان لابد لنا من تسجيل بعض الملاحضات ، وإستخلاص بعض أهم الخصائص والمميزات التي تميز بها أسلوب مخرجنا داود عبد السيد . فبالرغم من أنه لم يقدم سوى ثلاثة أفلام روائية طويلة ، وهي بالطبع ليست كافية لإستنتاج أسلوب خاص به ، إلا أننا هنا أمام حالة خاصة جداً . إذ أن عبد السيد إستطاع أن يقدم سينما خاصة وجديدة ، وأثبت بأنه فنان متمرد على السائد والتقليدي باحثاً عن سينما مختلفة ذات أسلوب خاص يحمل رؤيته الفنية والفكرية ، ومصراً على صنع السينما التي يريدها .. السينما الذاتية والخاصة به .
ذاتية الفيلم :
إن عبد السيد يؤكد في أحد تصريحاته الصحفية ، بأن السينما الجديدة هي نتاج للسينما القديمة وتراثها . وأن السينما الجديدة ليست سينما مختلفة ، وإنما لها طابعاً شخصياً . فذاتية المخرج تظهر في العمل بشكل واضح .. إنه يؤكد دائماً على السينما الذاتية .. ... أنا أقدم الموضوعات التي أشعر بها وأتفاعل معها ، دون النظر لأي ظروف أخرى . والحمد لله فقد إستطعت أن أقدم جزءاً يسيراً من أحلامي ، وأتمنى بأن أوفق في تقديم الكثير من هذه الطموحات ... .
كاميرا القلم :
ولتحقيق طموحاته في السينما التي يصنعها عبد السيد ، فهو يمتب بنفسه سيناريوهات أفلامه .. أي أنه يتبنى مفهوم "سينما المؤلف" . وهذا بالطبع يجعله في حرية فنية ، يستطيع بها تجسيد ما يريده هو من رؤى فنية وفكرية ، يصبح مسئولاً عنها مسئولية كاملة .. ... أنا أكتب لأنني أريد أن أخرج أفلامي . والحقيقة أنني أحب الكتابة ، فهي مهنة صعبة ومتعبة ، ولكني في الأساس مخرج أحاول أن أبحث عن كاتب يجسد رؤيتي على الورق ، فلا أجده بسهولة ... .
والكتابة ـ كما يقول عبد السيد ـ مهمة صعبة ، بإعتبار أن الكاتب يعمل على ورق أبيض ، أي على فراغ ، أما المخرج فعنده جسم يحققه . لذلك فتحقيق الرؤية في الكتابة ، بالنسبة لعبد السيد ، أصعب من تحقيقها في الإخراج . فعبد السيد لا يمانع في إخراج سيناريو لكاتب آخر ، ولكن المشكلة كما يقول هي أنه لا يجد الكاتب الذي يشاركه نفس الهدف في العمل . لذلك فهو لا يرحب بإخراج سيناريوهات الآخرين .. ... أنا أقوم بكتابة أفلامي لأنني مؤمن بأنه يجب أن يكون هناك تفاهم كامل بين كاتب السيناريو والمخرج . ومن هنا فأنا لا أفكر لحظة واحدة في إخراج أعمال من تأليف الآخرين ، مهما إستهوتني الأفكار التي تطرحها .
الحائط الرابع :
ثم أن هناك خاصية أخرى لسينما عبد السيد ، تتعلق بأماكن التصوير . فهو يفضل التصوير في الأستوديو على الأماكن الطبيعية ، حيث يقول : ... لا أكره التصوير في الأستوديو ، بالعكس أفضله ، وهذه هي السينما . أن تكون لك الحرية في فتح الحائط الرابع للديكور ، وأن تعيد الواقع في شكل قد يكون أقوى إكتمالاً من الواقع ... . وهو بذلك مقتنع بأن الأستوديو والديكورات هي ما يوفر الإمكانيات المثلى للتصوير . وهذا بالطبع لا يمنعه من اللجوء أحياناً إلى الواقع والأماكن الطبيعية إذا لزم الأمر .. ... لوكان في إمكاني بناء الميناء في الصعاليك ، لما ترددت ... .
ومن الواضح جداً بأن عبد السيد دقيق وحذر في إختياره لأماكن التصوير والديكور والإكسسوارات ، وحريص أكثر على مطابقتها للواقع .. وذلك لإضفاء مصداقية وواقعية على كادراته ، لتكون أكثر قرباً وإقناعاً للمتفرج . وعبد السيد ، كما سبق وأشرنا ، قد صور في الأستوديو وفي الأماكن الطبيعية ، ولكن لا أحد يستطيع التفريق بين الإثنين ، ولا يمكن أن ننسى ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ بأنه قد توصل إلى أعلى درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع في فيلم (الكيت كات) .
إشكالية التوصيل :
أما بالنسبة لقضية التوصيل والتواصل مع الجمهور ، فهي قضية هامة بالنسبة لعبد السيد ، هذا لأنه فنان تهمه قضايا ومشاكل واقعه ، بل وحريص على مخاطبة أكبر عدد من الناس . كما أنه في نفس الوقت يريد أن يكون راضياً عن عمله ، ويحقق من خلال العملية الإبداعية نضجاً فنياً . إنها طبعاً معادلة صعبة ، لكنه مصر على تحقيقها ، بل ونجح فعلاً في تحقيقها ، وأفلامه تشهد له بذلك . فهو يتحدث في هذا الصدد ، ويقول : ... أريد فيلمي فيه الحد الأدنى من الجاذبية .. أحد أهدافي المهمة جداً هو الإتصال ، وداخل هذا الإطار في الوصول ، يقف الواحد ويقول : عايز أعمل اللي أنا عايزه ، داخل إطار أن هناك مبدئياً جسراً بينك وبين الناس ... .
سينما الشخصيات :
إن عبد السيد يهتم كثيراً بشخصياته أكثر من إهتمامه بالقضية المطروحة كقضية ، مقتنعاً تماماً بأن أية قضية إنما تبرز عندما تتألق الشخصية وتعبر عن أحلامها وطموحاتها بصدق . وهو بذلك لا يبحث إطلاقاً عن حكاية تقليدية ، وإنما يبحث عن نماذج وحالات نمطية تعيشها شخصياته . ثم أنه يقدم هذه الشخصيات ويتركها تعيش واقعها وتتصرف بتلقائية حتى ولو أدى ذلك إلى تصرفات لا أخلاقية .. إنه يتابعها فقط ، ويقدمها كما هي .. لا يدينها بل ينظر إليها برحمة ويتلمس لها الأعذار والدوافع ، ويتفهم حاجات النفس والجسد .. ... عندما أكتب أفلامي أكون في حالة خاصة ولا أتدخل في تطور الشخصيات ، بل أتركها كما هي ، تأخذ إمتدادها الطبيعي ... .
نهايات متعددة :
ويتميز عبد السيد بتقديم نهايات مختلفة عن التقليد في أفلامه . فبناء النهاية عنده يشكل أسلوباً خاصاً ، حيث تبدو الأفلام متعددة النهايات . ففي مشهد من (الكيت كات) ، عندما يظهر الشيخ حسني متوجهاً إلى عمق الكادر وهو يجر العربة التي تحكل جثمان عم مجاهد ، يعتقد المتفرج بأن هذا المشهد ، المؤثر والمليء بالحزن والأسى ، هو النهاية .. إلا أن عبد السيد يتجاوز كل هذا الحزن ، ليدفع بنا إلى أكثر مشاهد الفيلم مرارة وسخرية ، وهو مشهد حديث الشيخ حسني في الميكروفون .. وبالرغم من عبثية هذا المشهد وجماليته كنهاية طبيعية للفيلم ، إلا أنه لا يحقق لعبد السيد هدفه ورؤيته ، ليعود إلى يوسف ـ بعد أن تخلص من عجزه ـ وهو منطلق مع والده في شوارع القاهرة في مغامرة مجنونة على الدراجة ، لينتهي بهما المطاف في نهر النيل ، مع إشراقة الصباح الرائعة ، ليخرجان بثياب مبللة تجمعهما ضحكات صافية وساخرة ، معلنة إنهزام اليأس والإحباط والعجز . هذا ما أراد عبد السيد الوصول إليه في فيلم (الكيت كات) .
الفرسان الجدد والسينما المختلفة :
إن مخرجنا داود عبد السيد واحد من هؤلاء الفرسان الذين يغامرون بأفلام مختلفة ، تحاول الخروج على التقاليد السائدة للسينما المصرية . ويجمعهم شيء رئسي واحد ، وهو أن السينما بالنسبة لهم ليست وسيلة لأكل العيش فقط .. يقول عبد السيد : ... الترفيه جزء مهم لا ينكره أحد ، والأهم هو كون السينما وسيلة تعبير ، وهو ما لا نجده في السينما التقليدية . إن السينما من وجهة نظري شخصية .. وأعتقد بأن هذا هو ما يجمعني بمحمد خان وخيري بشارة وعلي بدر خان ، مع إختلاف كبير جداً في الإساليب وفي الأفكار الفنية والسياسية وغيرها .. إننا مهتمون بالسينما كفن ... .
وأخيراً ، نختم موضوعنا هذا بتصريح للمخرج داود عبد السيد ، عن أفكاره ومشاريعه المستقبلية ، حيث يقول : ... الأفكار غزيرة والمشاريع كثيرة ، وأحياناً أخاف من غزارة الأفكار .. لا أريد ورائي ديوناً .. أشعر بأن كل سيناريو أكتبه دين وعلي أن أحوله إلى فيلم ، أن أكمله وأجعله فيلماً .. والواحد لا يريد أن يظل يكتب الأفكار على الورق ، بل يرغب في أن يكون هناك توازن بين السيناريو وصنعه ...