الرئيسيةبحث

حمودة باشا المرادي

البايات أنفسهم(1). فقد بلغ أعلى المناصب وأصبح الساعد الأيمن لحمودة باشا، باي الإيالة التونسية، حتى وصل به الأمر إلى أن أوكلت إليه كل الأمور. وكان هذا الوزير يعد أثرى شخص في الدولة، وتأتت ثروته خاصة من التجارة مع البلاد الأوروبية، وكذلك من استعمال سفنه العديدة في القرصنة؛ كما أدى هذا الوزير دور البنوك، إذ كان يقرض الكثير من وجهاء المملكة مع فائدة طائلة. كل هذا سمح له بأن يكون ثروة طائلة وازت جباية الدولة آنذاك(2) __________ (1) أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان...، مصدر سابق، ج 7، صص. 89 ـ 100. (2) أحمد بن أبي الضياف، المصدر نفسه، ج 7، ص. 98.

(1/8565)



. ... كان الابتداء في بناء الجامع يوم الأحد أول محرم 1223 هـ/ 1808 م، وأقيمت أول صلاة في الجامع يوم الجمعة 12 ربيع الأول 1229 هـ/ 4 مارس 1814 م. وهي تعتبر من أحسن الفترات الحسينية ـ وبنى صاحب الطابع مع الجامع مدرسته المشهورة باسمه. ويوجد الجامع بقرب من منزل المؤسس، كما بنى عدة منجزات أخرى في الحي نفسه(1). وتوجد شمالي الجامع والمدرسة الزاوية البكرية، وغربيها زاوية سيدي شيحة، وجنوبيها زاوية وسبيل __________ (1) خصوصا منها الحمام، الذي يعتبر متأثرا مباشرة بالنمط التركي والذي تم ترتيبه في سنة 1928 م.

(1/8566)



سيدي عبد السلام(1). وهو دليل على أهمية الموقع. ... باشر بناء الجامع وملحقاته(2) المهندس الحاج ساسي بن فريجة(3). ومن المؤكد أن بعض الأسرى الأوروبيين ساهموا في البناء. فيفيدنا محمد بن الخوجة »بوجود أسارى كثيرين بدهاليز أبراج غار الملح ومعامل ترسخاته حلق الوادي وسجون تونس« (4) __________ (1) كما نجد قصر مصطفى خزندار على مقربة من مسكن يوسف صاحب الطابع. هذا، إضافة إلى عدد من المعالم الهامة الأخرى. (2) خاصة المدرسة الطابعية والكتاب. (3) وهو المدفون بقبة سيدي مصطفى الجزيري داخل الباب الجوفي للجامع. (4) محمد بن الخوجة، معالم التوحيد، مصدر سابق، ص. 140.

(1/8567)



. لهذا أذن الباي حمودة باشا بجعل سبعة وعشرين أسيرا من أصيلي مدينة نابولي الواقعة جنوبي إيطاليا(1) في تصرف وزيره لاستخدامهم في البناء. أما النقش على الجص والزخرفة وغيرها من الأعمال الفنية، فقد قام بها تونسيون(2). ... تذكر بعض المصادر أنه أتى بالرخام المستعمل في أطر الأبواب والنوافذ وفي صنع الأعمدة وتيجانها وفي تبليط الأرضية من __________ (1) وهي ربما من الأسباب التي جعلت نمط الجامع متأثرا في بعض أجزائه بالفن والعمارة الإيطالية، خاصة منها أطر الأبواب والنوافذ. (2) ابن الخوجة، المصدر السابق، ص. 140.

(1/8568)



جنوب إيطاليا (حسب محمد بن الخوجة) (1). أما ابن أبي الضياف، فيذكر أن أبا محمد حسين المورالي: »وكان من رؤساء شقوف يوسف (صاحب الطابع)، أنه خصه بنقل الرخام لجامعه من القرنة« (2). إلا أنه من الواضح أن الرخام وارد من كرارة. فقد كانت الإيالة التونسية قد اشترت مقاطع رخام بها، واعتمدت عليها في جل ما بني انطلاقا من القرن 12 هـ/ 18 م والقرن 13 هـ/ 19 م. وقد جازى الوزير هذا القبطان بأن ملكه السفينة بجميع مدافعها وما يوجد عليها من آلات. __________ (1) المصدر نفسه. (2) ابن أبي الضياف، المصدر السابق، ج 7، ص. 97.

(1/8569)



ويبدو أن حسونة المورالي نفسه هو الذي تبرع برخام قبر يوسف صاحب الطابع. كما احتفظ هذا الأخير بكمية هامة من الرخام والآجر ومربعات الخزف وآلات الردم في مخازنه: »ما يبني جامعا آخر«(1)، إلا أنها سرقت كلها بعد موته. ... لكن حسنات صاحب الطابع لم تمنعه من أن يموت مقتولا. فبعد موت حمودة باشا، اغتنم الفرصة أعداء الوزير وعلى رأسهم الوزير أبو عبد الله محمد زروق، ففتكوا به، وذلك قبل أن يتم صومعة جامعه سنة 1230 هـ/ 1814 م، ولم يقدم أحد بعد المؤسس على إتمامها، ولم تكمل __________ (1) راجع ابن أبي الضياف، المصدر نفسه.

(1/8570)



نهائيا إلا منذ حوالي ربع قرن. ودفن المؤسس بتربته في الجامع الذي تعلوه قبة بديعة الصنع تذكرنا في نمطها بقبة التربة الباشية، خاصة في شكلها وفي حجمها وفي طريقة إثرائها بالنقشة حديدة. ... يتم الصعود إلى الجامع عن طريق مدرج أول رئيس يفتح على ساحة الحلفاوين، وعن طريق مدرج خلفي يذكرنا في نمطه بالمدرج الخلفي لجامع حمودة باشا. هذا، إضافة إلى مدرج ثالث قريبا من مدخل زاوية سيدي شيحة، يشبه في نمطه مداخل زاوية سيدي عبد القادر وزاوية سيدي قاسم الجليزي وكذلك دار لصرم... (1) __________ (1) وهي كلها معالم مرتبة موجودة داخل مدينة تونس العتيقة.

(1/8571)



. ... لا يختلف الجامع في تصميمه وفي عناصره المعمارية عن بقية الجوامع المؤسسة خلال الفترة التي تلت انتصاب الأتراك العثمانيين بالبلاد. فللصحن شكل U اللاتينية، وهو يحيط ببيت الصلاة من ثلاث جهات: الأقسام الشرقية والشمالية والغربية، كما تظل بيت الصلاة هذه ثلاثة أروقة أهمها على الإطلاق ذلك الذي يوجد في الناحية الشمالية للصحن؛ وهو متكون من بائكة ذات تسعة عقود لها شكل حدوي، وهي محمولة عن طريق أعمدة مجزعة. أما التيجان، فهي من النمط التركي الذي انتشر آنذاك. غير أن الصدفة المحلية للقسم الأسفل للتاج تعتبر

(1/8572)



من العناصر الجديدة بالنسبة إلى تيجان الأعمدة بصفة عامة، كما تعلوها زئبقة طويلة تنتهي في الأعلى بهلال. وإن كان الهلال من العناصر التي نعثر عليها في الكثير من تيجان تلك الفترة، فإن الزئبقة تعتبر من العناصر المضافة والمتميزة على تيجان هذا الجامع. كما أن زرقة الأقنثة التي تنحدر انطلاقا من الشكل الحلزوني الموجود في كل من الزوايا الأربع للتاج، لها شكل قلما نعثر عليه في تيجان الأعمدة الأخرى. ... نلاحظ في قصر دار حسين أن يوسف صاحب الطابع هو الذي أضاف فيه القسم الثاني للطابق العلوي بما فيها الصدفات

(1/8573)



البحرية التي تعلو النوافذ المحيطة بهذا الصحن، ونجد في الجامع النمط نفسه الذي يميز هذه الصدفات التي تعلو هي أيضا النوافذ والأبواب المنفتحة على بيت الصلاة والمظللة للأروقة. لكن تلك التي توجد بالجامع تعتبر أثرى وأجمل من الموجودة بدار حسين؛ فقد زخرفت من الداخل بأشكال تضفي عليها جمالا فتانا. ... كما أن المئذنة هي من النمط نفسه الذي منه المنارات الأخرى التي نلاحظها في جوامع يوسف داي وحمودة باشا والجامع الجديد، لكن يمكن اعتبار مئذنة صاحب الطابع أكثر رشاقة وأناقة وارتفاعا من الأخريات. وفي

(1/8574)



المكان نفسه الذي أشرنا إليه في جامع محمد باي المرادي وجامع حمودة باشا والجامع الجديد، نجد أيضا محرابا خارجيا بجامع صاحب الطابع، أي في الصحن الشرقي، وهو يشبه في نمطه وفي زخارفه المحاريب الراجعة إلى النصف الثاني للقرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي وبداية القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي. فإن كان القسم الأسفل مكسوا بلوحات من الخزف ذات التأثير المغربي، فقد حليت الطاقية بنقوش جصية مقسمة إلى خمسة أجزاء متأثرة بالنمط الأندلسي والتركي على حد سواء.

(1/8575)



... أما بيت الصلاة نفسها فهي تتكون من سبع مسكبات لها كلها الأبعاد نفسها. وهي منفصلة بعضها عن بعض عن طريق أروقة يبلغ عددها تسعة، لها هي أيضا الأبعاد نفسها. ويمتاز جامع صاحب الطابع بسقفه المتكون من أقبية طولية يبلغ عددها سبعة، لها اتجاه شرق ـ غرب ويحدها يمنة ويسرة قبوان طوليان آخران لكل منهما اتجاه شمال ـ جنوب، وهي كلها مزخرفة بنقوش جصية بديعة. إلا أننا نلاحظ اختلافا في أنماط الزخارف بين القبو والآخر، وتمثل في مجملها تأثيرات تركية؛ وهي تتكون من مزهريات وغصون وأوراق وزهور، ثم نجد في البعض

(1/8576)



الآخر أطباق نجوم صغيرة تتوسط مربعات متكونة من أشكال هندسية، إلخ. مما يضفي على هذه السقوف الكثير من الجمال والبهجة، وهي تذكرنا في شكلها وفي نمط نقوشها بقبو طولي موجود بإحدى قاعات تربة البايات، فهي ترجع هي أيضا إلى بداية القرن الماضي. وإضافة إلى القباب السبع، توجد أربع منها بزوايا بيت الصلاة، وتتشابه كل اثنتين في زخارفها. إذ توجد بالناحية الجنوبية (شرق المحراب وغربه) قبتان لهما الشكل نفسه. فقاعدة كل قبة مربعة الشكل، ولها في زواياها الأربع عقد زاوية محلى هو أيضا بنقوش جصية. ويتم الانتقال إلى

(1/8577)



الطاقية عن طريق رقبة مستديرة الشكل. أما القسم الأخير لكل من هذين القبتين، فقد حلي في وسطه عن طريق نجمة تنطلق نحو أطباق نجمية ذات تأثير تركي، وإن كان للقبتين الأخريين الموجودتين بالزاوية الشمالية الشرقية والشمالية الغربية شكل القبتين الأوليين نفسه، فتختلف زخارف طاقيتهما عن القبتين الأخريين. فلهذه نجمة مثمنة تتفرع عنها ثمانية ضلوع، تتوسط كلا منها مزهرية. كما توجد قبة خامسة تواجه قبة المحراب من الناحية الشمالية، وهي تعلو الباب الأوسط الذي يفتح على بيت الصلاة من ناحيتها الشمالية. وبالطبع،

(1/8578)



فإن وجود أربع قباب بزوايا بيت الصلاة، إضافة إلى قبة المحراب وقبتين أخريين، يشكل نمطا فريدا من نوعه بمدينة تونس. ... أما الأعمدة المجزعة والتيجان التي تعلوها، فلها الشكل نفسه الذي لاحظناه بخصوص الأعمدة الحاملة للأروقة الخارجية. كما أن العقود لها شكل عقود بائكات الصحن نفسه، وهي تشابه في نمطها الأعمدة الموجودة بدار البارون درلنجي وكذلك أعمدة دار باش حامبة... ... يظهر ثراء الجامع بارزا للعيان في الواجهات الداخلية لبيت الصلاة التي كسيت بلوحات الرخام المستورد من كرارة والتي تعلوها مربعات الخزف،

(1/8579)



وينتهي الجدار في قسمه الأعلى بنقوش جصية بديعة الصنع. أما جدار القبلة، فيتوسطه المحراب، وهو يعتبر تطورا بالنسبة إلى محاريب الجوامع الأخرى الراجعة إلى القرن 11 هـ/ 17 م و12 هـ/ 18 م. فجوف المحراب مكسو بلوحات رخام تذكرنا بتلك التي نجدها في تربة البايات وكذلك بدار البارون درلنجي وبقصر باردو... وهو الرخام نفسه الذي كسيت به طاقية المحراب(1) __________ (1) ... صنع هذا المرمر الأبيض من قطعة واحدة. أما الأقسام المجوفة، فقد وضع داخلها مستطيلات من الرخام الملون المكون من قطع صغيرة الحجم، ويبلغ سمكها سنتمترا واحدا.

(1/8580)



، كما يستند العقد الحدوي للمحراب على عمودين مجزعين لهما لون أسود. ... تعتبر قبة المحراب هي أيضا فريدة من نوعها، إذ كسيت كل أقسامها السفلى انطلاقا من المربع، ثم الرقبة التي تتلوه والتي تتخذ شكلا مثمنا، بلوحات من المرمر يحد كل واحدة منها إفريز من الرخام الأسود. أما الطاقية، فكسيت بعشرة صفوف أفقية من النقوش الجصية المخرمة التي تذكر بخلية النحل، وهو نمط نادر ليس في تونس فقط، بل خارجها أيضا.

(1/8581)



... كما أن المنبر يشبه في نمطه بقية المنابر التي لاحظناها في الجوامع المؤسسة خلال القرنين الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي والثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي. لكن الصانع تفنن هنا في تزويقه بالرخام، مما جعل منه أجمل المنابر القارة والمبنية بالبلاد التونسية. ... للجامع إذن طابع خاص به. وهو من أكثر الجوامع تأثرا بالنمط التركي. فبالرغم من وجود العناصر المستوحاة من الطابع الإيطالي والمحلي، فإن الشكل العام يبرهن على أن الفن والعمارة التركية كان لهما حضور متميز في بداية القرن الماضي.

(1/8582)



... هكذا نرى أن الحضور العثماني في الخمسة الجوامع هذه كان متميزا. فبالرغم من مواصلة اعتماد الأنماط المحلية في بعض عناصرها، اتجه البناة والمؤسسون إلى الأخذ عن الفن والعمارة التركية بالرغم من تساؤلات العديد من المؤرخين والمستشرقين عن إمكان تأكيد وجود فن ومعمار عثماني بالبلاد التونسية وبمدينة تونس بالذات؛ كما أن بعضهم حاول التقليل من شأن هذا الحضور أو مسحه تماما. لكن جامع محمد باي المرادي، وكذلك تربة الباي يفندان هذه الآراء؛ كما أن الجوامع الأخرى تعتبر دليلا قاطعا على الحضور العثماني:

(1/8583)



... 1 ـ وبالذات عنصر الصحن ذي النمط الجديد الذي يحيط ببيت الصلاة من ثلاث جهات (الشرق والغرب والشمال) والذي عوض الصحن المستطيل الشكل. ... 2 ـ المنبر المبني والمثرى بلوحات المرمر. ... 3 ـ المحراب المغشى بالمرمر. ... 4 ـ ظهور تيجان أعمدة جديدة في بداية الفترة العثمانية، والتي ليس لها أي علاقة بالتأثيرات التركية. لكن نتيجة لظهورها خلال تلك الفترة، أصبح يطلق عليها: »تاج العمود التركي«. ... 5 ـ وجود محراب بالصحن الشرقي لكل جامع، وهو ما لا نجده قبل وصول الأتراك العثمانيين.

(1/8584)



... 6 ـ من بين أهم العناصر الجديدة، المئذنة المثمنة الشكل. فهذا النمط من المآذن أدخله يوسف داي، وتبناه فيما بعد الدايات المراديون والبايات الحسينيون. أما الصومعة الموحدية الشكل، فاستغني عنها لفائدة المآذن الجديدة. ... 7 ـ تربة المؤسس التي انطلقت مع جامع يوسف داي. ... 8 ـ بعض هذه الجوامع ـ خاصة منها الجامع الأول (يوسف داي) والأخير، جامع صاحب الطابع ـ حصل إلحاقها بمجمع اجتماعي واقتصادي وثقافي. ... تلك بعض نماذج التأثيرات العثمانية بمدينة تونس، إلا أنها لا تمثل إلا قسما من هذا الحضور الثري