الرئيسيةبحث

حريق القاهرة



كانت معاهدة 1354 هـ - 1936 م، نقطة تحول خطير في تاريخ العلاقات المصرية البريطانية، فقد قدمت بريطانيا بعض التنازلات مقابل الإعتراف المصري الرسمي بشرعية الوجود البريطاني العسكري، ولكن في النطاق الذي حددته المعاهدة بحيث تنسحب القوات البريطانية من أراضي مصر كلها، وتتمركز في منطقة القناة وحدها.

فهرس

حكومة الوفد تلغي المعاهدة

وجاء إلغاء المعاهدة ليكشف حقيقة هذا الوجود البريطاني، وينسف كل مبررات بقائه، فقد أعلنت حكومة الوفد في 27 ربيع الأول 1369 هـ - 16 يناير 1950 م، على لسان "مصطفى النحاس" أن معاهدة 1354 هـ - 1936 م، قد فقدت صلاحيتها كأساس للعلاقات المصرية البريطانية، وأنه لامناص من تقرير إلغائها فسقطت دعاوى بريطانيا حول حقوقها في مصر كما سقطت من قبل دعوى الحماية.

وفي 18 محرم 1371 هـ - 18 أكتوبر 1951 م، وقف "مصطفى النحاس" ليعلن إلغاء المعاهدة وملحقاتها، وسط تأييد حافل من نواب الحكومة والمعارضة.

نتائج إلغاء المعاهدة

أدى إلغاء المعاهدة إلى إلغاء الإمتيازات والإعفاءات التي كانت تتمتع بها القوات البريطانية الموجودة في مصر، مثل: إلغاء جميع الإعفاءات المالية التي تشمل الرسوم الجمركية على المهمات العسكرية والأسلحة والعتاد والمؤن، وكذلك الرسوم المستحقة على السفن التي تمر بالمياه المصرية لخدمة القوات البريطانية.

كما امتنعت السكك الحديدية المصرية عن أداء أية خدمات للقوات البريطانية، أو نقل أي مهمات أو عتاد لها، ومنعت الحكومة المصرية دخول الرعايا البريطانيين إلى البلاد، ما لم يكونوا حاصلين على تأشيرات دخول من السلطات القنصلية المصرية في البلاد التي قدموا منها، وأنهت تصاريح إقامة البريطانيين الذين يخدمون في القوات البريطانية.

موقف التنظيمات الوطنية من إلغاء المعاهدة

وفي 21 محرم 1371 هـ - 21 أكتوبر 1951 م، اتخذ مجلس الوزراء بجلسته السرية مجموعة من القرارات تعبر عن جدية الحكومة في قرار إلغاء المعاهدة، فقررت اتخاذ جميع السبل المؤدية إلى عدم تعاون العمال المصريين مع القوات البريطانية، وصرف أجور هؤلاء العمال، وتوفير الأعمال البديلة لهم.

كما قررت مقاومة القوات البريطانية إذا مااجتازت منطقة القناة، مهما كانت النتائج، والدفاع عن القاهرة حتى النهاية.

وأخذ الشعب المصري زمام المبادرة بنفسه ليضع إلغاء الإتفاقية موضع التنفيذ، فرفعت التنظيمات الوطنية على اختلاف اتجاهاتها لواء الكفاح المسلح، وشكلت كتائب التحرير التي شاركت فيها التنظيمات المختلفة الإخوان المسلمون، الحزب الاشتراكي (مصر الفتاة)، الشيوعيون.

خسائر بريطانيا تتوالى

وكانت الخسائر البريطانية نتيجة العمليات الفدائية فادحة، خاصة في الفترة الأولى، وكذلك فإن انسحاب العمال المصريين من العمل في معسكرات الإنجليز أدى إلى وضع القوات البريطانية في منطقة القناة في حرج شديد.

وحينما أعلنت الحكومة عن فتح مكاتب لتسجيل أسماء عمال المعسكرات الراغبين في ترك عملهم مساهمة في الكفاح الوطني سجل "91.572" عاملاً أسماءهم في الفترة من 16 محرم 1371 هـ - 16 أكتوبر 1951 م وحتى 2 ربيع الأول 1371 هـ 30 نوفمبر 1951 م.

كما توقف المتعهدون عن توريد الخضراوات واللحوم والمستلزمات الأخرى الضرورية لإعاشة 80 ألف جندي وضابط بريطاني.

خطط بريطانيا ضد قرار إلغاء المعاهدة

ووجدت بريطانيا نفسها في موقف صعب، وقررت أن تتخذ عددًا من الإجراءات والتدابير لإجبار حكومة الوفد عن التراجع عن موقفها، ووضعت ثلاث خطط لذلك:

1. خطة للعمل السياسي والدبلوماسي لإحراج الحكومة.

2. خطة عسكرية لاحتلال مدينة القاهرة، أو القيام بانقلاب عسكري يقوم به الملك بمساعدة الجيش.

3. خطة تخريبية لحرق القاهرة.

وقد سارت بريطانيا عدة خطوات في سبيل تحقيق الخطة الأولى، فقامت بعملية هدم كفر أحمد عبده بالسويس في أوائل ربيع الأول 1371 هـ - ديسمبر 1951 م في عملية استعراضية ضخمة، اشتركت فيها 250 دبابة و 500 مصفحة، وعدد من الطائرات، وكانت تهدف من ورائها إلى إظهار الحكومة المصرية بمظهر الضعف، ومحاولة امتهانها والنيل منها، وتحطيم روح المقاومة الشعبية عند المصريين.

وقد ردت الحكومة المصرية على هذا العمل المستفز بسحب السفير المصري من لندن، وطرد جميع المواطنين البريطانيين من خدمة الحكومة المصرية، وإصدار تشريع جديد يقضي بتوقيع عقوبات على المتعاونين مع القوات البريطانيين، وإباحة حمل السلاح.

مزيد من المؤامرات

سعت بريطانيا إلى مؤامرة جديدة لبث الفرقة بين صفوف المصريين، فقام عدد من عملائها بإشعال النار في كنيسة بمدينة "السويس" أثناء غارة بريطانية على المدينة في 7 ربيع الآخر 1371 هـ 4 يناير 1952 م، وقد حاولت بريطانيا إلصاق التهمة بالفدائيين لزرع الفتنة الطائفية بين المصريين، واستعداء الرأي العام العالمي على الحكومة الوفدية والفدائيين، ولكن مالبثت التحقيقات أن كشفت عن مسؤولية جماعة "إخوان الحرية" التي تمولها المخابرات البريطانية عن الحادث.

وأقدمت القوات البريطانية على مغامرة أخرى لاتقل رعونة أو استفزازًا عن محاولاتها السابقة لإهانة الحكومة وإذلالها حتى ترجع عن قرارها بإلغاء المعاهدة، ففي صباح يوم الجمعة 27 ربيع الآخر 1371 هـ - 25 يناير 1952 م استدعى القائد البريطاني بمنطقة القناة "البريجادير أكسهام" ضابط الإتصال المصري، وسلمه إنذارًا بأن تسلم قوات البوليس المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وتجلو عن دار المحافظة والثكنات، وترحل عن منطقة القناة كلها.

ورفضت المحافظة الإنذار البريطاني وأبلغته إلى وزير الداخلية "فؤاد سراح الدين" الذي أقر موقفها، وطلب منها الصمود والمقاومة وعدم الإستسلام.

بطولة رجال الشرطة ضد البريطانيين

وقبل غروب شمس ذلك اليوم حاصرت الدبابات والمصفحات البريطانية مبنى المحافظة بسبعة آلاف جندي بريطاني مزودين بالأسلحة، ومدافع الميدان، بينما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين لايزيد على ثمانمائة في الثكنات وثمانين في المحافظة، لايحملون غير البنادق.

واستخدم البريطانيون كل ما معهم من الأسلحة في قصف مبنى المحافظة، واستمر الجنود المصريون البواسل يقاومون حتى نفدت آخر طلقة معهم بعد ساعتين من القتال، وسقط منهم خمسون شهيدًا، وأصيب نحو ثمانين آخرين، وأسر من بقي منهم.

وانتشرت أخبار الحادث في مصر كلها، واستقبل المصريون تلك الأنباء بالغضب والسخط، وخرجت المظاهرات العارمة في القاهرة، واشترك جنود الشرطة مع طلاب الجامعة في مظاهراتهم في صباح السبت 28 ربيع الآخر 1371 هـ - 26 يناير 1952 م.

وانطلقت المظاهرات تشق شوارع القاهرة التي امتلأت بالجماهير الغاضبة، حتى غصت الشوارع بالجماهير الذين راحوا ينادون بحمل السلاح ومحاربة الإنجليز.

ثورة القاهرة

وإزاء الثورة العارمة لأبناء مصر في القاهرة والأقاليم، أدركت بريطانيا أن خطتها الثانية محفوفة بالمخاطر، وأن دخول قواتها إلى القاهرة أضحى مغامرة وخيمة العواقب، بعد أن صار الوجود البريطاني في منطقة القناة كلها مهددًا بالخطر، نتيجة العمليات الفدائية المستمرة التي أقضت مضاجع البريطانيين.

وكذلك فإن قيام الملك بانقلاب عسكري بمساعدة المخابرات البريطانية ليطيح بحكومة الوفد أصبح أمرًا غير ممكن، خاصة بعد أن تنامى العداء للملك في داخل الجيش الذي أصبح يحمّل الملك مسؤولية النكبة التي مني بها في حرب 1367 هـ - 1948 م بسبب الخيانة وقضية الأسلحة الفاسدة.

ولم يبق أمام البريطانيين سوى البديل الثالث، ووجد البريطانيون الفرصة سانحة لتنفيذ مؤامراتهم وحرق القاهرة مستغلين المظاهرات التي عمت العاصمة.

واحترقت القاهرة

في ساعات قلائل التهمت النار نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة.

ففي الفترة مابين الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا والساعة الحادية عشرة مساءً التهمت النار نحو 300 محل بينها أكبر وأشهر المحلات التجارية في مصر، و 30 مكتبًا لشركات كبرى، و 117 مكتب أعمال وشققا سكنية، و 13 فندقًا كبيرًا منها: شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا، و 40 دار سينما بينها ريفولي وراديو ومترو وديانا وميامي، و 8 محلات ومعارض كبرى للسيارات، و 10 متاجر للسلاح، و 73 مقهى ومطعمًا وصالة منها جروبي والأمريكين، و 92 حانة، و 16 ناديًا. وقد أسفرت حوادث ذلك اليوم عن مقتل 26 شخصًا، وبلغ عدد المصابين بالحروق والكسور 552 شخصًا.

كما أدت إلى تشريد عدة آلاف من العاملين في المنشآت التي احترقت، وقد أجمعت المصادر الرسمية وشهود العيان على أن الحادث كان مدبرًا وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، فقد اتضح أنهم كانوا على معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وأنهم كانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة في تنفيذ العمليات التي كلفوا بها، كما كانوا يحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد إستيلين لصهر الحواجز الصلبة على النوافذ والأبواب، وقد استخدموا نحو 30 سيارة لتنفيذ عملياتهم في وقت قياسي، كما أن اختيار التوقيت يعد دليلاً آخر على مدى دقة التنظيم والتخطيط لتلك العمليات، فقد اختارت هذه العناصر بعد ظهر يوم السبت حيث تكون المكاتب والمحلات الكبرى مغلقة بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع، وتكون دور السينما مغلقة بعد الحفلة الصباحية.

ومن الملاحظ أن جميع الحرائق تمت بأسلوب واحد وهو مايدل على أن المنفذين ينتمون إلى تنظيم واحد، وأن وراءهم خطة مدبرة بعناية فائقة.

جزاء سِنِمَّار

وفي نفس ليلة الحريق قدم رئيس الوزارة "النحاس باشا" استقالته، ولكن الملك رفضها، واجتمع مجلس الوزراء، وقرر مواجهة الموقف بإعلان الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد، ووقف الدراسة في المدارس والجامعات إلى أجل غير مسمى.

وتم تعيين "النحاس باشا" حاكمًا عسكريًا عامًا في نفس الليلة، فأصدر قرارًا بمنع التجول في القاهرة والجيزة من السادسة مساءً حتى السادسة صباحًا، وأصدر أمرًا عسكريًا بمنع التجمهر، واعتبار كل تجمع مؤلف من خمسة أشخاص أو أكثر مهددًا للسلم والنظام العام يعاقب من يشترك فيه بالحبس.

وكانت تلك الأحداث كلها هي الشرارة التي أشعلت الثورة، ودفعت الضباط الأحرار إلى التعجيل بثورتهم ضد الملك والإنجليز بعد أقل من ستة أشهر على حريق القاهرة.