حرب الفِجَار
و في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظ حرب بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان . . تعرف بحرب الفِجَار . . و كانت بعض مما يثور و يتصل بين قبائل العرب من الحروب . . و قد سميت الفجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم إذ تمتنع قبائل العرب عن القتال و يعقدون الأسواق بعُكاظ بين الطائف و نخلة . . و مجنة و ذي مجاز على مقربة من عرفات لتبادل التجارة و التفاخر و الجدل و الحج بعد ذلك عند أصنامهم بالكعبة . . و كانت سوق عكاظ أكثر أسواق العرب شهرة : فيها أنشد أصحاب المعلقات معلقاتهم . . و فيها خطب قس . . و فيها كان اليهود و النصارى و عباد الأصنام يحدّث كل عن رأيه آمنا . . تجتمع فيه العرب للتجارة و التهيؤ للحج من أول ذي القعدة و هو من الأشهر الحرم . .
على أن البرَّاض بن قيس النمريّ . . أحد بني ضَمرة ابن بكر بن عبد مَناة بن كنانة – و كان خليعا - لم يحترم هذه الحرمة حين غافل عُروةَ الرَّحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن هوازن من قيس عيلان و قتله . . و ذلك أن النعمان بن المنذر كان يبعث كل سنة قافلة من الحيرة إلى عكاظ تحمل المسك و تجيء بديلا منه بالجلود و الحبال و أدم الطائف و أقمشة اليمن المزركشة . . فعرض البراض الكناني نفسه عليه ليقود القافلة في حماية قبيلته كنانة . . و عرض عروة الهوازني نفسه كذلك على أن يتخطّى إلى الحجاز طريق نجد . . فقال البراض : أنا أجيرها على بني كنانة . . فقال النعمان : ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد و تهامة . . فقال عروة الرحال و هو يومئذ رجل هوازن : أكلب خليع يجيرها لك أبيت اللعن ؟ أنا أجيرها لك على أهل الشيح و القيصوم من أهل نجد و تهامة . . فقال له البراض : أتجيرها على كنانة ؟ قال : نعم ، وعلى الخلق . . فاختار النعمان عروة الرحَّال فأحفظ ذلك البراض فتبعه يطلب غفلته . . و عروة لا يخشى منه لأنه كان بين ظهراني قومه من غطفان إلى جانب فدك . . حتى إذا كان بتَيْمَن ذي طِلال بالعالية على ماء يقال له : أوارة غفل عُروة . . فوثب عليه البراض فناشده عروة فقال : كانت مني زلة . . و كانت الفعلة مني ضلة . . لكن البراض غاله في الشهر الحرام . . و أخذ قافلته . . و خرج يرتجز : قد كانت الفعلـة مني ضـلّة هلا على غيري جعلت الزلـة فسوف أعلو بالحسام القـلة
و قال البراض في ذلك: وداهيةٍ تُهمُّ الناسَ قبلي شَدَدْتُ لها - بني بكر - ضُلوعي هدمتُ بها بيوتَ بنى كلابٍ وأرضعتُ المواليَ بالضُّروع رفعتُ له بذي طَلَّالَ كفِّي فَخَرَّ يميدُ كالجِذْعِ الصريع
وقال لَبيد بنُ مالك بن جعفر بن كلاب : أبلغْ - إن عَرَضْتَ - بني كلابٍ وعامرَ والخطوبُ لها مَوَاسِي وبلِّغ - إن عَرَّضْتَ - بني نُمَيْر وأخوالَ القتيل بني هلالِ بأن الوافدَ الرَّحَّالَ أمسى مُقيماً عند تَيْمَنَ ذِي طِلَالِ
ثم إن البراض قد استاق العير إلى خيبر و استخفى بها . . و اتبعه المـُساور بن مالك الغطفاني و أسد بني خيثم الغنوي حتى دخل خيبر . . فكان البراض أول من لقيهما فقال لهما : من الرجلان ؟ . . قالا : من غطفان و غَـنَّى . . فقال البراض : ما شأن غطفان و غنى بهذه البلدة ؟ . . قالا : و من أنت . . قال : من أهل خيبر . . قالا : ألك علم بالبرّاض ؟ . . قال : دخل علينا طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر و لا أدخله بيتا . . فقالا : فأين يكون ؟ . . قال : و هل لكما به طاقة إن دللتكما عليه ؟ . . قالا : نعم . . قال : فانزلا . . فنزلا و عقلا راحلتيْهما . . قال : فأيكما أجرأ عليه و أمضى مقدما و أحد سيفا . . قال الغطفاني : أنا . . قال البراض : فانطلق أدلك عليه و يحفظ صاحبك راحلتيكما . . ففعل . . فانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر خارجة عن البيوت . . فقال البراض : هو في هذه الخربة و إليها يأوي فأنظرني حتى أنظر أثمَّ هو أم لا . . فوقف له و دخل البراض ثم خرج إليه و قال : هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت فهل عندك سيف فيه صرامة ؟ . . قال : نعم . . قال البراض : هات سيفك أنظر إليه أصارم هو ؟ ! . . فأعطاه إياه فهزه البراض ثم ضربه حتى قتله و وضع السيف خلف الباب . . و أقبل على الرجل الآخر فقال الغنوي : ما وراءك ؟ . . قال البراض : لم أر أجبن من صاحبك تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل و الرجل نائم لا يتقدم إليه و لا يتأخر عنه . . قال الغنوي : يا لهفاه ! . . لو كان أحد ينظر راحلتينا ؟ . . قال البراض : هما عليّ إن ذهبت . . فانطلق العنوي و البراض خلفه . . حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة أخذ البراض السيف من خلف الباب ثم ضربه حتى قتله و أخذ سلاحيهما و راحلتيهما ثم انطلق . . و القصة بادية الوضع على ما يظهر . .
و الظاهر أنه لقي بشر بن أبي حازم الأسدي الشاعر في خيبر فأخبره الخبر و أمره أن يُعلم ذلك عبد الله بن جُدعان و هشام بن المغيرة و حرب بن أمية و نوفل بن معاوية الدّيلي و بلعاء بن قيس . . فوافى عكاظ فأخبرهم إن البرَّاض قد قتل عُروةَ . . و هم في الشهر الحرام بعُكَاظ . .فخرجوا مواثلين منكشفين إلى الحرم و هَوازن لا تشعر . . و قد أيقنوا أن هوازن لن ترضى بقتل البراض بعروة . . فالبراض خليع من بني كنانة و عروة الرحال سيد هوازن . . و القوم لابد قاتلون عظيما من قريش . وبلغ الخبر قيساً آخر ذلك اليوم فقال أبو براء : ما كنا من قريش إلا في خدعةٍ . . فخرجوا في آثارهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم . . فاقتتلوا حتى جاء الليل . . . و تراجعت قريش حتى لاذت بالحرم . . فأمسكت عنهم هوازن و قد دخلوا الحرم . . و نادوهم : فناداهم رجل من بني عامرٍ يقال له : الأدرم بأعلى صوته : إنا نعاهد الله أن لا يبطل دم عروة الرحال أبدا و نقتل به عظيما منكم . . و إن ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل و إنا لا نأتلي في جمع . . و قال : لقد وعدنا قريشا و هي كارهة بأنْ تَجئ إلى ضَرْبٍ رَعَابيلِ
فقال حرب بن أمية لابنه أبي سفيان : قل لهم إن موعدكم قابل في هذا اليوم . . و قال خداش بن زهير في هذا اليوم و هو يوم نخلة : يا شدّةً ما شددنا غير كاذبة على سخينة لولا البيت و الحرم لما رأوا خيلنا ترجى أوائلها آساد غيل حمى أشبالها الأجَم و استقبلوا بضراب لا كفاء له بيدي العزّل الأكفال ما كتموا ولّوا شلالا و عُظمُ الخيل لاحقة كما تخب إلى أوطانها النعم ولت بهم كل مِحضار ململمة كأنها لقوة يحثها ضَرَم و كانت العرب تسمي قريشا سخينة لأكلها السخن . .
ولم يقم تلك السنة سوق عُكاظ فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة ومَنْ لحق بهم من الأحابيش و هم الحارث بن عبد مناة بن كنانة و عَضَل و القارة و دِيش و المصطلق من خزاعة لحلفهم بالحارث بن عبد مناة . . يتأهبون لهذه الحرب سنةً . . و تأهبت قيس عيلان . . ثم حضروا من قابل . . و رؤساء قريش : عبد الله بن جدعان و هشام بن المغيرة و حرب بن أمية و أبو أحيحة سعيد بن العاص و عُتبة بن ربيعة و العاص بن وائل و معمر بن حبيب الجمحي و عكرمة بن عامر ابن هاشم بن عبد مناف و خرجوا متساندين . . يقال : بل أمرُهم إلى عبد الله بن جُدعان . . و قد سلّح يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كميّ بأداة كاملة سوى من سلح من قومه . . و يقال : بل كان أمر كنانة كلها إلى حرب بن أمية . . و كان على القلب . . و على إحدى مجنبتيها عبد الله بن جدعان . . و على الأخرى كريز بن ربيعة . .
و جمعت سُليم و هوازن جموعهما و أحلافهما من غير كلاب و بني كعب فإنهما لم يشهدا من الفجار إلا يوم نخلة . . وكان في قيس : أبو براء عامر بن مالك بن جعفر و سبيعُ بن ربيعة بن معاوية النصري و دريد بن الصَمَة و مسعود بن معتِّب الثقفي و أبو عروة بن مسعود و عوف بن أبي حارثة المريّ و عباس بن رِعْل السلمي فهؤلاء الرؤساء و القادة . . ويقال : بل أمرهم جميعًا إلى أبي براء . . وكانت الراية بيده وهو سوى صفوفهم و يقال : بل كان أمر هوازن كلها إلى مسعود بن معتب الثقفي . .
فالتقوا بشمطة من عكاظ في الأيام التي تواعدوها على قرن الحول . . و تناهض الناس و زحف بعضهم إلى بعض . . فكانت الدائرة في أول اليوم لكنانة على هوازن حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن و صابرت و انقشعت كنانة . . فاستحرّ القتل فيهم فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل . . و لم يقتل من قريش أحد يذكر . . فكان يوم شمطة لهوازن على كنانة . .
و مرت سنة و جمع هؤلاء و أولئك فالتقوا على قرن الحول في ثالث أيام عكاظ عند العبلاء . . و دارت الحرب و قتل من قريش العوام بن خويلد والد الزبير بن العوام و شقيق خديجة . . و ستحزن عليه خديجة حزنا يفوق حزنها على أبيها الذي مات في نفس العام . . قتله مرة بن مُعتَب الثقفي . . و قال رجل من ثقيف : منَّا من اتَّرك العوام مجندلا تنتابه الطير لحما بين أحجار و انتصرت في هذا اليوم هوازن على كنانة . . و فيه يقول خداش بن زهير : ألم يبلغك ما لقيت قريش و حيّ بني كنانة إذ أُبيروا دهمناهم بأرعن مكفهر فظل لنا بعَقْوتهم زئير
و انصرم عام و خرجت قريش و كنانة . . و خرج آل عبد المطلب فيمن خرج . . و حمل ابن جدعان مائة رجل على مائة بعير ممن لم تكن له حمولة . . و كانت لهوازن على كنانة يومان . . يوم شمطة و يوم العبلاء . . و كانت قريش و كنانة تطمع في النصر و إزالة ما لحق بهم من عار . .
و التقى هؤلاء و أولئك على قرن الحول في الثالث من أيام عكاظ بشَرِب . . فحميت قريش و كنانة . . و قيد أمية و حرب ابنا أمية بن عبد شمس و أبو سفيان بن حرب أنفسهم كيلا يفروا فسموا العنابس – الأسود - . . و صابرت بنو مخزوم و بنو بكر . . و راح أبو ربيعة بن المغيرة يقاتل برمحين فسمي بذي الرمحين . . و استبسل قصيّ بن المغيرة و هاشم بن المغيرة في القتال . . فانهزمت هوازن و قتلت قتلا ذريعا . . و انهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر فإنهم ثبتوا . .
و قال عبد الله بن الزَّبعري يمدح بني المغيرة : ألا لله قــوم و لَدت أخت بني سهم هشام و أبو عبد مناف مدره الخصم و ذو الرمحين أشبال من القوة و الحزم فهذان يزودان و ذا من كثب يرمي
و قال جذل الطعان : جاءت هوازن أرسالا و إخوتها بنو سليم فهابوا الموت و انصرفوا فاستقبلوا بضراب فضَّ جَمْعهم مثل الحريق فما عاجوا و لا عطفوا
و كان يوم شرب و هو أعظم أيام الفجار يوما . . و هو الذي حضره رسول الله . . و قد ذكر رسول الله الفِجار بعد سنوات من رسالته فقال : قد حضرته مع عمومتي و رميت فيها بأسهم و ما أحب أني لم أكن فعلت . . أو كما قال : "كنت أنبل على أعمامي" أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها . .
و قد اختلف فيما قام به رسول الله من عمل في هذه الحرب . . فقال أناس : إنه كان يجمع السهام التي تقع من هوازن و يدفعها إلى أعمامه ليردوها إلى خصومهم . . و قال آخرون : بل اشترك فيها و رمى السهام بنفسه . . و لعله قد فعل كلا الأمرين إذ امتدت الحرب أربع سنين . . فليس ما يمنع من صحة الروايتين . . فيكون قد جمع السهام لأعمامه أول الأمر ثم رمى من بعد ذلك . .
و انقضت سنة . . ثم خرجت قريش و أراد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أن يخرج مع الخارجين لكن حرب بن أمية أشفق من خروجه . . فقد كان يتيما في حجره فضن به . . و التقى قريش و كنانة بهوازن و بني سُليم بالحريرة . . و هي حرّة إلى جانب عكاظ . .و دار قتال شديد فقتل أبو سفيان بن أمية أخو حرب بن أمية . . و قتل خلق من الجانبين . . و كانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن انضوى إليهم . . ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس فقتلوهم قتلأ ذريعًا . . ثم نادى عتبة بن ربيعة القرشي يومئذ وإِنَّه لشاب ما كملتَ له ثلاثون سنة إلى الصلح نادى : يا معشر نضر علام تقاتلون ؟ . . فقالت له هوازن : ما تدعو إليه ؟ . . قال الصلح قالوا : و كيف . . قال : نُدي قتلاكم و نرهنكم رهائن عليها و نعفو عن دياتنا . . قالوا : و من لنا بذلك ؟ . . قال : أنا . . قالوا : و من أنت ؟ ! . .
و هو نوع من صلح البادية . . ذلك بأن يدفع من كانوا أقل قتلى دية العدد الزائد على قتلاهم من الفريق الآخر . . و دفعت قريش دية عشرين رجلا من هوازن فوقع الصلح على ذلك . . و دفعوا إلي هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن خزام ابن أخي خديجة بنت خويلد . . فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن دياتهم . . و هدموا ما كان بينهم من العداوة والشر . . و انقضت حرب الفجار . . و ذهب البراض مثلا في الشقاوة . .
و خشي الطرفان أن تثور حروب في الأشهر الحرم فاتفقا على أن يترك كل من يرد إلى عكاظ سلاحه عند عبد الله بن جدعان . . حتى إذا ما انتهت أيام الموسم أعاد عبد الله بن جدعان إلى كلٍ سلاحه . .
يقول ابن سعد : و كانت الفجار بعد الفيل بعشرين سنة . . و في البداية و النهاية قال السهيلي : و الفجار بكسر الفاء على وزن قتال . . و كانت الفجارات في العرب أربعة ذكرهن المسعودي . . و آخرهن فجار البراض هذا . . و قد ذكر الأموي حروب الفجار و أيامها و استقصاها مطولا فيما رواه عن الأثرم . . و هو المغيرة بن علي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك . .