الرئيسيةبحث

جامع هواجيويه

كانت شيآن تحمل اسم تشانغآن، وهي عاصمة الصين في عهد أسرة تانغ (618-907م). وهي بداية طريق الحرير المعروف. ونظرا إلى أن الصين وبلاد العرب قد حافظتا على علاقات حسن الجوار بينهما، فقد كانت تشانغآن مقصد لأعداد كبيرة من العرب الذين جاءوا للتجارة أو للإستيطان. ويضاف إلى ذلك أن جماعة من أهل الشيعة الهاربين من اضطهاد الأمويين، وجماعة من المسلمين العرب العسكريين الذين عاونوا أسرة تانغ في الإطاحة بعصيان آن لو شان، قد استوطنوا هذه المدينة.

وفي شيآن اليوم بضعة عشر مسجداً وجامعاً. ولكن جامع هواجيويه الذي تعني (التوعية) هو الأكبر من نوعه حجما. وقد سمي هذا الإسم لوقوعه في زقاق هواجيويه غربي برج الطبول بالمدينة. وترى في الجامع أعداد كبيرة من الأنصاب الحجرية. وتقول الكتابات المنقوشة على أحد الأنصاب الحجرية الذي ظهر سنة 1405م أن الحاج ساي وهو من ذرية السيد شمس الدين من الجبل السابع قد أمر سنة 1392م بإعلان الأمر الإمبراطوري التالي: "لقد تقررت مكافأة كل أسرة من المسلمين بخمسين سبيكة من الفضة ومائة حزمة من الحرير، وإيوائهم في مكانين، وبناء مسجدين لهم، يكون أحدها في شارع سانشان بمدينة نانجينغ، والآخر في زقاق تسيوو بمحافظة تشانغآن، ويجوز لهم إعادة بنائهما إذا تهدما. ولا يسمح لأحد بالوقوف في وجه هذا الأمر." وقد قيل أن المسجد في زقاق تسيوو الوارد في هذا الأمر الإمبراطوري هو سلف جامع هواجيويه اليوم. ولكن فريقا من المؤرخين رأوا أن الاستنتاج على هذا النحو غير سليم، بحجة أن زقاق تسيوو المذكور في الأمر الإمبراطوري غير معروف موقعه حتى الآن، فلا يمكن اعتباره زقاق هواجيويه اعتباطا في أي حال من الأحوال. زِد على ذلك أن مساحة مسجد تسيوو الملاحظة على قفا النصب الحجري لا تمثل إلا ثلث مساحة جامع هواجيويه اليوم. ومع ذلك فان أصحاب المقولة الأولى لم يقتنعوا بهاتين الحجتين، إذ رأوا من جهة أن تغيير أسماء الشوارع والمدن ليس شاذا في التاريخ، واعتقدوا من جهة أخرى بأن إمكانية ازدياد مساحة أي مسجد في مجرى توسيع بنائه لا يمكن إبعادها. وعلى الرغم من أن المسألة المتعلقة بتاريخ بناء جامع هواجيويه ما زالت موضع جدل، إلا أن أغلبية المؤرخين يقولون أن تاريخه يرجع إلى أوائل عهد أسرة مينغ (1368-1644م).

يبدو جامع هواجيويه على شكل مستطيل. وتبلغ مساحته ثلاثة عشر ألف متر مربع. وهو يشبه القصر الإمبراطوري الصيني بضخامة بنائه وروعة هندسته. فلا يعتبر من أكبر الجوامع في الصين فحسب، بل يعد من كنوز الفن المعماري الصيني. ويتكون هذا الجامع من أربع دور متراصة، تتوزع فيها أربع وثمانون غرفة من المباني الرئيسية والإضافية توزعا متناسقا، مما يشكل مجموعة كاملة من البنايات. وللدار الأولى بوابتان جانبيتان، تواجه إحداهما الجنوب، بينما تواجه الأخرى الشمال. وتجد في موقع بوابة الجامع حاجزا زخرفيا من الطوب، ارتفاعه أكثر من عشرة أمتار، وعرضه عشرون مترا. وإلى الداخل من الحاجز الزخرفي يقوم قوس خشبي منقوش جيدا. وهو يواجه قاعة مرور مؤدية إلى الدار الثانية التي ينتصب فيها قوس ومقصورتان لاستيعاب الأنصاب الحجرية، تقع إحداهما يمينا، وتقع الأخرى شمالا. وللدار الثانية بوابتان أيضا، شأنها شأن الدار الأولى. وهناك قاعة مرور مؤدية إلى الدار الثالثة التي ينتصب في صدارتها برج شاهق معروف باسم "شينغشين" الذي يعني (تهذيب النفس)، وعلى جانبيها جناحان جنوبي وشمالي. ولو دخلت في الدار الرابع، للفت نظرك "جوسق العنقاء" الخماسي الأقسام الرائع الهندسة. وهو يواجه قاعة الصلاة الضخمة والبعيدة عنه، مما يرمز إلى "مواجهة العنقاوات الخمس للشمس". أما قاعة الصلاة فتستوعب ألف مصل في آن واحد. وهي صفوة مباني الجامع برمتها. كما هي مرآة الفن الزخرفي المسجدي في المناطق الداخلية من الصين. وعلى جدرانها نقوش خشبية من الكتابات العربية والأزهار الجميلة، تعطي مع أبوابها وشبابيكها الدقيقة النقش منظرا خلابا. ويتكون سقف القاعة مما يزيد عن ستمائة قطعة من المربعات الملونة، وفي صدارة كل منها كتابات عربية تحيط بها الرسوم الصينية التقليدية من كل الجهات. وأشد ما يلفت النظر هناك مقصورة المحراب وراء عمودين بلون قرمزي، نقشا بكتابات عربية مموهة بالذهب، إضافة إلى أن المربعات الخشبية في أعلى العمودين المذكورين آنفا وعتبة المقصورة العليا ومتدلياتها الخشبية مطعّمة بزخارف من كافة الألوان. والمحراب البادي على شكل عقد مخمس ليس مزخرفا بالكتابات العربية فحسب، بل يزدان بالرسوم الصينية الطراز. ويعتبر ذلك خير خليط بين الفن الزخرفي الإسلامي ونظيره التقليدي الصيني. وأمام قاعة الصلاة رصيف فسيح محاط بالدرابزونات الصخرية المخرمة الشهيرة بدقة نقوشها. وتجد في الركن الجنوبي الشرقي من الرصيف صخرة غريبة مثلثة الشكل على نحو غير منتظم، قيل إنها محك لنزاهة الموظفين والمسؤولين. فإذا دق أي موظف نزيه المسمار عليها تسمر فورا. والطريف أن على سطحها أكثر من مائة مسمار، تنتصب تمام الانتصاب. وفي الركن الشمالي من الرصيف صخرة سميت "الفأرة البيضاء" لأنها تبدو كفأرة بيضاء حية عند النظر إليها عن بعد. كما أن في ركن الرصيف الشمالي الشرقي ساعة شمسية مصنوعة من لوح حجري مستطيل، وفي وسط سطحه حفرة مستطيلة لإثبات المزولة. وبالإضافة إلى ذلك ترى على سطح اللوح الحجري ثلاثة صفوف من الثقوب المستطيلة، تستعمل في معرفة الوقت حسب الظلال التي ترميها المزولة عليها. وجدير بالذكر إن اللوح الحجري مثبت على قاعة صخرية مرتفعة أكثر من متر تحته، فهو قابل للتكييف حسب الحاجة. وتفيدنا مدونات الفلكي الصيني الكبير مي دينغ جيو (1638-1721م) بأن المساجد الصينية جميعها آنذاك كانت تزهو بالساعات الشمسية المماثلة لها. ولكن ما بقي منها حتى الآن نادر جدا.

وبفضل ضخامة مباني جامع هواجيويه وكثرة آثاره التاريخية فقد أدرج في قائمة أهم الآثار المحمية في البلاد، كما اصبح مزارا هاما يرتاده السائحون الذين يقصدون شيآن للمرة الأولى. وبعد أن قامت الصين بتطبيق سياسة الإنفتاح على الخارج، توارد إلى جامع هواجيويه جماعات وجماعات من الأجانب مظهرين إعجابهم الشديد به. كان من بينهم رؤساء دول وحكومات وموظفون كبار كثيرون. ولما قام السيد فهمي هويدي، أحد العرب المرموقين، بزيارة جامع هواجيويه عام 1980 قال متعجبا: "إنها لمفاجأة حقا أن يكون هذا الجامع الصيني بهذه الفخامة، وأن يكون المصلون فيه بهذا العدد الكبير. والأهم من ذلك أن أكثر المصلين من الشباب، وهذه هي المفاجأة الكبيرة."