الرئيسيةبحث

تدعيم المنطق

تدعيم المنطق (القسم الأول) جولة نقدية مع المعارضين لعلم المنطق من المتقدمين

تأليف الأستاذ العالم المتكلِّم النظَّار أبي الفداء سعيد فودة حفظه الله تعالى


بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الخلق أجمعين، أما بعد: لقد كثر الكلام على علم المنطق بصورته القديمة، وهي التي تسمى بالمنطق الصوري التقليدي، وتزايدت الانتقادات الموجهة عليه، سواء من القدماء أو من المعاصرين، واعتبره البعض من القدماء مقدمة للكفر وما كان كذلك فهو حرام، والبعض قالوا إنه لا فائدة في تعلمه، فهو لا يفيد الذكي ولا ينفع البليد، وبعضهم عكس الكلام وقال بل إنه يفيد الذكي وينفع البليد، والبعض اعتبره واجبا على الكفاية، بل اعتبره شرطا لمعرفة صحيح الفكر من فاسده، وكان الرأي الأخير هو التيار الذي سار عليه أكثر علمائنا السابقين. وأما في الزمان المعاصر، فقد واجه المنطق هجوما عنيفا من مختلف الفلاسفة والمفكرين سواءا في الغرب أو الشرق، وصار بعضهم يعتبر المنطق علما لا فائدة فيه، بل هو مجرد تكرار للأفكار التي يعرفها الإنسان، وصار ينظر إليه على أنه مجرد مضيعة وقت، وإجهاد ذهن من غير فائدة. وفي مقابل هذا نظر إليه آخرون على أنه مهم جدا في المعرفة وسائر العلوم، والبعض قالوا بفائدة المنطق الصوري ولكن نادوا بلزوم تكميله حيث اعتقدوا بنقصانه، والبعض من المفكرين والمناطقة، حاولوا تطوير علم المنطق سواءا من حيث الموضوع أو المسائل المطروحة، أو من حيث الأسلوب الذي يعرض به المنطق، أو من حيث الآليات المتخذة في دراسته، ولذلك فقد برزت اتجاهات منطقية معاصرة، بعضها عارض المنطق الصوري، وبعضها حاول إقامة المنطق على الرياضيات فقال برجوع المنطق إلى الرياضيات، وبعضهم عكس الأمر فقال بل الرياضيات ترجع إلى المنطق، وبنى بحوثه على ذلك، فظهر المنطق الرياضي. ومن جهة أخرى فقد حاول بعض الفلاسفة والمناطقة إقامة علم المنطق على نظرة كلية غير تلك النظرة التي أقيم عليها المنطق الصوري، معتقدا عدم شمول المنطق الصوري لجهات النظر والاستدلال. ولو ذهبنا نتتناول هذه الاتجاهات لتضاعف حجم المقدمة، والحال أننا في صدد عمل دراسة خاصة لمختلف هذه الاتجاهات المتعلقة بالمنطق، فلنرجئ ذلك إليها. وما نريد قوله هنا: هو أن ما حرصنا على إبرازه في هذا الكتاب، هو بيان بعض اتجاهات علماء المسلمين المتقدمين وخاصة المخالفين للمنطق، فحاولنا بيان أهم المفاهيم التي اعتمدوا عليها لردِّ علم المنطق، وحللنا كلماتهم، بحشب ما رأيناه لائقا بكل منهم. وكان قصدنا في ذلك بيان أن أهم النقود التي وجهت إلى علم المنطق لم تكن كافية لإثبات عدم جدواه، ولذلك فقد ظل الاتجاه الحاضر في الثقافة الإسلامية وبين العلماء المسلمين هو الاتجاه المهتم بعلم المنطق على أنه آلة للعلوم، وعلى أنه علم مهم، يترتب عليه بيان صحيح الفكر من فاسده، ويترتب عليه أيضا الكشف عن مواضع الغلط في الفكر سواء للشخص نفسه أو لغيره. ومع ذلك، فإننا لا نعتقد أن جميع ما ذكره العلماء في كتب المنطق صحيح ولا يحتاج إلى نقد، بل إننا نقول بوجوب إعادة النظر في ذلك، ولكن على أسس قوية متينة لا على مجرد نظرات متسرعة متأثرة بمذاهب شرقية أو غربية أو محكومة بمقاصد أيديولوجية عقائدية، لأن المنطق يلزم استخدامه كمعيار لكافة الآراء والمعتقدات، فلو كان محكوما ببعضها كان هذا نقضا لأصل غايته. والناس اعتمدوا في هجومهم القديم والمعاصر على أمور متعددة، بعضها عقائدي أو أيديولوجي محض، أي تابع للفكر الذي ينتمي إليه الكاتب، وبعضها اعتمد أنظاراً محرَّرة وانتقادات موجهة، وإن كانت أغلب هذه الانتقادات -في نظري- لا تؤثر على حقيقة المنطق كعلم. ولو نظرنا إلى علمائنا المتقدمين، لرأينا –كما قلنا- أنَّ معظمهم اعتمد المنطق كعلم صحيح، نعم لقد استدركوا على المتقدمين من الفلاسفة وزادوا عليهم أفكاراً حقيقية ونافعة، وانتقدوا بعض أفكارهم، ولكنهم لم يقدحوا في المنطق كعلم ومنهج، بل كانت غاية انتقاداتهم التي يوجهونها إلى ما ذكره من تقدم عليهم، بهدف تكميل هذا العلم، واستتمام بنائه، لا إزالته ونفيه. وبعض العلماء قدحوا في المنطق إما من حيث ما هو علم حقيقي، أو آلي، أو كفائدة مترتبة عليه في الواقع، وبعضهم نظر إلى المنطق نظرة عقائدية واعتبر المنطق جزءا من الكفر فحرمه ومنع التعامل به، وبعضهم قدح في علم المنطق الصوري أو في قواعده المعلومة، لأن لها مدخلية في مناقضة عقيدته التي يقول بها. ومن هنا، فقد رأيت الحاجة ماسة إلى إعادة النظر مع هؤلاء، وذلك عن طريق عرض أهم أفكارهم وانتقاداتهم الواردة على هذا العلم، وما يتصل به كعلم الكلام والفلسفة وسائر العلوم العقلية. ولكن جعلت مورد الكلام علم المنطق، وجعلت ذكري لبعض ما يتعلق بباقي العلوم العقلية تابعا لأصل الموضوع. ولما كانت اتجاهات المنتقدين لعلم المنطق متغايرة ومتعددة، وأهدافهم متنوعة، فقد ارتأيت أن أخصص لكل قسم منهم كتابا أو بحثا، وذلك على النحو التالي. المرحلة الأولى: جعلت الكلام فيها مع القدماء، أو من يمثل منهم أشهر الاتجاهات التي انتقدت علم المنطق. وذلك كبعض الفرق الإسلامية والعلماء الممثلين لها، كابن تيمية، الذي كان له باع طويل في نقد علم المنطق، وإن كانت أغلب انتقاداته كما رأيتها قاصرة، ومجرد تشكيكات غير مقعدة على أسس قوية. وجاءت معبرة عن أهدافه الأخرى التي أنفق فيها جزءا كبيرا من حياته، وهي نشر المذهب الذيي دعو إليه في علم التوحيد، وهو الذي اشتهر بالمذهب السلفي في الوقت المعاصر، والذي أحب أن أسميه بمذهب التجسيم أحيانا ومذهب الحشوية أحيانا أخرى، ولا أسلم مطلقا أنه المذهب الذي يمثل السلف ولا أهل السنة. ويندرج في هذه المرحلة أيضا مناقشة من رد علم المنطق من غير أن ينتمي إلى المدرسة السابقة، وهي التي يمثلها ابن تيمية. ولكنهم اعترضوا عليه لأفكار اعتقدوها ككون المنطق مقدمة للفلسفة أو ككونه ممثلا للغة اليونانية، أو ككونه جزءا من علم الكلام المذموم عند بعضهم ومقدمة له، وغير ذلك من مبررات. المرحلة الثانية: تشمل النظر في كلام المعاصرين من الباحثين والمفكرين، سواءا كانوا ممثلين لمذاهب فلسفية معينة كالفلسفة الوضعية أو الماركسية وغيرهما من الفلسفات، أو متبعين لنظرات ومبادئ معاصرة، أو كانوا باحثين بلا أي انتماء لفكر أو مذهب. هذا كله ألزمت نفسي بأن أعيد النظر فيه لنقده وتمحيص الصواب فيه من الباطل، ولا بد أن النظر في أفكار المخالفين يفيد الناظر والباحث، في تقويم فكره وآرائه. وهذه المرحلة هي الأهم في نظرنا لما تحتوي عليه من تنوع في وجهات النظر والمبادئ، وأفكار قد تبدو غريبة أو قريبة. وعلى كل حال فإنني أعتقد يقينا أن الباحث والمفكر لا بد له من الاطلاع على أفكار المخالفين كما يطلع على أفكار الموافقين، بل ربما يكون مسايرة المخالفين ونقد أفكارهم والاستفادة منهم أكثر نفعا للباحث الحر. وبناءاً على ذلك، فقد أكملت بحثي هذا الذي يشكل نظرات مجملة تنتمي إلى المرحلة الأولى المذكورة، لعل ما أكتبه يفيد في تقدم البحث في هذا الجانب، بما يشتمل عليه من أفكار. ولا أدَّعي أنني قد أحطت بجوانب هذا الموضوع، فهو كثير التداخل، بل غاية ما أدعيه هو إعادة النظر بمواقف لبعض العلماء السابقين، ومناقشتهم كما يليق بأفكارهم، وأرجو ممن يرى في كلامي مجالا للنقد والتصويب أن ينبهني إلى ذلك، فبهذا الأمر نستكمل نحن البشر علومنا ومعارفنا. وغاية ما يملكه المرء إنما هو عرض أفكاره إلى الآخرين بما تحتويه سواءا وافقهم ذلك أو خالفهم، بشرط الالتزام بمناهج النظر والبحث الصحيح.

والله الموفق سعيد فودة

الباب الأول علاقة المنطق بغيره من العلوم

سنبين بإجمال علاقة علم المنطق بعلوم الشريعة مثل الفقه والأصول والكلام. ونذكر بعض اختلافات العلماء في هذا المقام، أخذا وردا. وهذا الباب يمكن أن نقسمه إلى فصلين، الأول نوضح فيه علاقة المنطق مع علم أصول الفقه، وذلك لأن أصول الفقه من أهم علوم الشريعة الإسلامية، ونقتصر في ذلك على أهم الجهات إجمالا، وأما الفصل الثاني فإننا نوضح فيه علاقة المنطق بعلم شرعي آخر هو علم الكلام أو علم أصول الدين، الذي نص علماء الدين على أنه أهم العلوم الشرعية على الإطلاق، ونقتصر هنا على بيان إجمالي للعلاقة بين علم المنطق وبين علم الكلام.

الفصل الأول علم أصول الفقه

سنبين هنا إجمالا حقيقة وجود علاقة كبيرة بين علم المنطق وعلم أصول الفقه بعدة طرق.، وذلك لأن هذه العلاقة الحاصلة بين العلمين لها عدة أوجه. فإن هناك تداخلا في موضوعي هذين العلمين، والحال أن هذا الزعم يؤدي إلى كون موضوع علم الأصول هو عين علم المنطق.وهذا لا يؤدي إلى أن يكون موضوعا العلمين متماثلين من جميع الجهات، وإنما يؤدي بالفعل إلى أن موضوع كل منهما، مع تغايرهما، له عوارض مشتركة وهذه العوارض داخلة في مباحث كل من العلمين. وسنبين لك ذلك: تعريف علم المنطق هو العلم بمجموعة القوانين التي تؤدي مراعاتها إلى العصمة في الفكر. ونحن نلاحظ أن مسائل علم المنطق هي عبارة عن قوانين فكرية يؤدي الالتزام بها إلى الابتعاد عن الخطأ في التفكير، فالهدف في علم المنطق هو الوصول إلى القواعد العامة للفكر الإنساني ومراعاة هذه القواعد ينتج عنها العصمة في الفكر مطلقا. وأما علم الأصول فهو العلم بالقواعد الإجمالية التي تنبني عليها الفروع الفقهية العملية، ومعلوم لدى القارئ أن القواعد التي يُبْحث عنها في علم الأصول، هي قواعد فكرية، ولكن موضوعها خاص وهو الوصول إلى العصمة في عملية طلب الحكم الشرعي. ومعلوم أن الحكم الشرعي من جملة الأمور التي يتوصل إليها بالفكر، نعم هذا الفكر مخصوص ومقيد بكونه فكرا في مواد شرعية، وبضوابط شرعية، ولكنه في النهاية يبقى فكرا، فهو إذن فكر خاص، وقد سبق أن المنطق يبحث في الفكر العام، فيتضح الآن أن العلاقة بين المنطق وعلم الأصول هي علاقة الخصوص والعموم، فالأصول أخص مطلقا من علم المنطق، وعلم المنطق أعم مطلقا. ومعلوم أن ما ثبت من الأحكام على الأعم يجب ثبوته في حكم الأخص، وهذا من الأمور المتقررة لدى العقلاء أجمعين لا يمكن أن يخالف فيه أحد. إذن ينتج من هذا أن أحكام وقواعد علم المنطق يجب الاعتبار بها في علم الأصول، لأن علم الأصول أخص من المنطق كما تم بيانه. ومعلوم أن الأخص يحتاج في ثبوته إلى الأعم، لأن الأعم يكون في حقيقة الأمر عبارة عن أمر ذاتي من ذاتيات الأخص، ولكن التمايز حصل بعد ذلك في أمور زائدة عن هذا الأعم، ومعلوم أن الأمور الزائدة لا تنفي الأصلية وإنما تتركب فوقها وتنبني عليها. إذن فعلم الأصول في الحقيقة مبني على علم المنطق، سواء أدرك هذه الحقيقة الناس أم لم يدركوها، فإدراكهم لها أو عدم إدراكهم لها إنما هو أمر عرضي غريب منفك عن نفس الحقيقة، وكذلك نفي من ينفيها وإثبات من يثبتها ليس هو - أي هذا النفي والإثبات المفترض - ما ينفي أو يثبت هذه الحقيقة، بل هي ثابتة بنفسها، ولكن العلم بها يكشف عن وجودها لمن تعلق بها علمه، وأما من تعلق اعتقاده بها فيلزمه الإيمان والعمل بها. هذه هي الطريقة الأولى التي نبين فيها مدخلية علم المنطق في علم الأصول، وهي كافية في الحقيقة عند التأمل. ومن وجه آخر، فإن بعض الأصوليين، أدرك هذه العلاقة الوثيقة بين علم المنطق وعلم الأصول، فنصَّ على وجوب أن يعلم الأصولي قواعد المنطق، وتبعه كثير من الأصوليين في ذلك. فقد نص الإمام حجة الإسلام الغزالي بقوة على ضرورة أن يعلمَ الأصولي القواعد المنطقية، وسوف ننقل طرفا من كلامه فيما يأتي، أما الآن فسنبين مدى التقارب بين العلمين - أي علم أصول الفقه وبين علم المنطق - عن طريق النظر في المسائل والمباحث التي يبحث فيها كل من العلمين، وذلك على سبيل الاختصار لا التفصيل. وهذه الطريقة في الحقيقة تابعة لدليل الاستقراء المبحوث فيه في كل من العلمين، فهو دليل معتبر عند كل من المنطقيين والأصوليين. وطريقتنا في ذلك أن ننظر في مباحث علم الأصول ومباحث علم المنطق، ونتأمل بعد ذلك في كل منهما لنتوصل إلى نفي أو إثبات ما نريد، وهي عين طريقة السبر والتقسيم المعتبرة عند الأصوليين. ولنشرع فيها الآن: إن مباحث علم الأصول بينها الإمام المحقق العلامة في جميع العلوم الشرعية والعقلية البيضاوي صاحب المختصر المشهور في هذا العلم، في كتابه المنهاج في علم الأصول( ) فقال: "أصول الفقه: معرفة دلائل الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد". ثم قال( ):" ودليله المتفق عليه بين الأئمة:الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس". اهـ. هذه هي إذن الأدلة المتفق عليها بين الأصوليين، وأما الأدلة المختلف فيها فكثيرة مبينة في كتب الأصول. وقال العلامة المحقق الأصفهاني تعليقا على كلام الإمام البيضاوي السابق( ):" ولكل واحد منها مباحث مختصة به."اهـ. أي لكل دليل من الأدلة الأربعة السابقة مباحث،فمن مباحث الكتاب والسنة مثلا مباحث دلالات الألفاظ، بتقسيماتها من حيثيات مختلفة، والقياس له مباحث ومسائل خاصة أيضا وهكذا كل دليل من أدلة الأصول الإجمالية السابقة. ويبحثون مثلا في الاستقراء هل يفيد العلم بالعلة أو لا يفيد، ويبحثون في دلالة العادة على الحكم الشرعي، يبحثون في الأحاديث والأخبار المتواترة وأخبار الآحاد، والقياس الذي يهتمون به هو القياس التمثيلي أساسا، ويبحثون أيضا في القياس العمومي، وغير ذلك. وأما المنطق فقد بين المنطقيون أن مباحثهم تدور حول التصور والتصديق، فكل قاعدة كلية من شأنها أن توصل الإنسان إلى تصور أو تصديق، فهي داخلة بلا شك في مباحث المنطق. ومن هنا فقد لزم المنطقيين أن يبحثوا في دلالات الألفاظ وفي القياس العمومي والقياس التمثيلي وفي الاستقراء، وفي مآخذ التصورات والتصديقات، وهي الأدلة النقلية والعقلية، التي منها التواتر والمشاهدة، والعادة والعرف، والبدهيات العقلية، والأدلة الخطابية، والجدلية القائمة على المسلمات، وغير ذلك. ومن مقارنة المباحث الداخلة بين العلمين، نستطيع أن نجد أن كثيرا منها مشترك بينهما. كالقياس التمثيلي والعمومي والاستقراء، ودلالات الألفاظ، ومباحث الأخبار وهي التواتر والآحاد، ويدخل فيهما أيضا البحث عن العرف والعادة، ويشتركان في الاهتمام بالبديهيات العقلية أيضا التي لا ينفك علم عنها، إلى غير ذلك. وما سوى هذا فإن كل علم يتميز عن صاحبه، لا تميز تضاد بل تمايز تخصص، فالعلاقة بينهما تبقى على الدوام علاقة الخاص بالعام كما ذكرناه فيما سبق. وأنت تعلم أن العلاقة بين الخاص والعام لا يمكن أن تكون علاقة تضاد ومنافاة، بل إن الخاص لا يتقوم إلا بالعام، أي بدون وجود العام لا يمكن وجود الخاص، والأخص في حالتنا هذه هو علم أصول الفقه، والأعم هو علم المنطق، فلا يمكن أن يوجد علم الأصول بلا وجود علم المنطق إذن. فالحاصل إذن بعد الإشارة إلى طريقة الاستقراء، أنا نعلم أن هناك تشاركا كبيرا بين علم الأصول وبين علم المنطق في المباحث وفي الأهداف كما مضى. إذن فلا يجوز أن يقول قائل: إن الأصوليين يمكن لهم الاستغناء عن علم المنطق. فظهر من هذا مدى احتياج علم الأصول إلى علم المنطق. والآن وبعد ذكر الطرق السابقة في الاستدلال على أهمية علم المنطق بالنسبة إلى علم الأصول بل وفي كافة العلوم. سنذكر الآن الطريقة التي اتبعها الإمام الغزالي في إثبات ذلك. وهي في حاصلها تعتمد على أن العلوم تترتب ترتبا تصاعديا أو تنازليا، وأن العلم الأدنى يعتمد على العلم الأعلى، والمقصود بالعلم الأعلى هنا العلم الأكثر كلية، وبالعلم الأدنى العلم الأكثر تخصيصا وتفصيلا، فالعلوم تترتب تنازليا وتصاعديا، وكل ما هو أخص يعتمد على ما هو أعم، وقد أشرنا إلى طرف من هذا المعنى سابقا، ولكن نذكر هنا كلام الإمام حجة الإسلام الغزالي كما أورده في كتابه الكبير الأهمية في علم الأصول (المستصفى في علم الأصول)، فقد قال في مقدمته: "بيان مرتبة هذا العلم ونسبته إلى العلوم اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية كالطب والحساب والهندسة وليس ذلك من غرضنا، وإلى دينية كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن، أعني علم القلب وتطهيره من الأخلاق الذميمة. وكل واحد من العلوم العقلية والدينية ينقسم إلى كلية وجزئية، فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية، لأن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة، والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة، والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود، فيقسم الموجود أولا إلى قديم وحادث، ثم يقسم المحدث إلى جوهر وعرض، ثم يقسم العرض إلى ما تشترط فيه الحياة من العلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر وإلى ما يستغني عنها كاللون والريح والطعم. ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض. ثم ينظر في القديم فيبين أنه لا يتكثر ولا ينقسم انقسام الحوادث، بل لا بد أن يكون واحدا وأن يكون متميزا عن الحوادث بأوصاف تجب له وبأمور تستحيل عليه وأحكام تجوز في حقه ولا تجب ولا تستحيل، ويفرق بين الجائز والواجب والمحال في حقه. ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه وأن العالم فعله الجائز، وأنه لجوازه افتقر إلى محدث، وأن بعثة الرسل من أفعاله الجائزة، وأنه قادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات، أن هذا الجائز واقع. عند هذا ينقطع كلام المتكلم، وينتهي تصرف العقل، بل العقل يدل على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله في الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي باستحالته، فقد يرد الشرع بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببا للسعادة في الآخرة، وكون المعاصي سببا للشقاوة، لكنه لا يقضي باستحالته أيضا، ويقضي بوجوب صدق من دلت المعجزة على صدقه، فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق فهذا ما يحويه علم الكلام. فقد عرفت من هذا أنه يبتدئ نظره في أعم الأشياء أولا وهو الموجود، ثم ينـزل بالتدريج إلى التفصيل الذي ذكرناه فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدا خاصا وهو الكتاب، فينظر في تفسيره، ويأخذ المحدث واحدا خاصا وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها، والفقيه يأخذ واحدا خاصا وهو فعل المكلف فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة، ويأخذ الأصولي واحدا خاصا وهو قول الرسول الذي دلَّ المتكلم على صدقه، فينظر في وجه دلالته على الأحكام إما بملفوظه أو بمفهومه أو بمعقول معناه ومستنبطه، ولا يجاوز نظر الأصولي قول الرسول عليه السلام وفعله، فإن الكتاب إنما يسمعه من قوله والإجماع يثبت بقوله والأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت كونه حجة في علم الكلام. فإذن، الكلامُ هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها، فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النـزول إلى هذه الجزئيات. فإن قيل: فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصل علم الكلام لأنه قبل الفراغ من الكلي الأعلى كيف يمكنه النـزول إلى الجزئي الأسفل؟ قلنا: ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا مليئا بالعلوم الدينية، وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مبادٍ تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم، ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر. فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الأفعال الاختياريات للمكلفين، فقد أنكرت الجبرية فعل الإنسان وأنكرت طائفة وجود الأعراض والفعل عرض. ولا على الفقيه إقامة البرهان على ثبوت خطاب الشرع وأن لله تعالى كلاما قائما بنفسه هو أمر ونهي، ولكن يأخذ ثبوت الخطاب من الله تعالى وثبوت الفعل من المكلف على سبيل التقليد وينظر في نسبة الفعل إلى الخطاب، فيكون قد قام بمنتهى علمه. وكذلك الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق، ثم ينظر في وجوه دلالته وشروط صحته. فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادئ علمه إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر."اهـ إلى هنا ينتهي كلام هذا الإمام العلامة حجة الإسلام بالفعل في هذا الموضوع الخطير، وقد أحببنا أن نذكر لك هذا الكلام هنا وإن حسبه بعض القراء بعيدا عن أصل موضوعنا، لأنه قريب منه بقدر ما يتوهم أولئك بُعْدَه. فإنه يريك بالفعل كيفية ترتب العلوم بعضها على بعض، وكيفية احتياج كل علم إلى غيره. وهذا هو أساس من الأسس التي نحاول هنا بيانها، وهو كيف يكون علم المنطق لكونه آلة لبقية العلوم، لاحتوائه على وسائل المعرفة، أو قدر كبير منها، مهما في سائر العلوم؟ وقد وضح الإمام الغزالي حجة الإسلام هذه النقطة أيضا في كلام له لاحق بما مضى، وذلك عندما شرع في ذكر المقدمة المنطقية التي ابتدأ بها كتابه العظيم الذي يعد من أهم كتب علم الأصول، فقال رحمه الله تعالى: "نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب "محك النظر" وكتاب "معيار العلم". وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا."اهـ هذه هي مكانة علم المنطق في نظر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه. وهو بهذه العبارة يلخص غاية ما نريد أن نقوله في رسالتنا هذه. وقبل أن ننهي كلامنا في هذا القسم، نذكر هنا بعض التعليقات على كلمة الإمام الغزالي المذكورة سابقا: أولا: الإمام حجة الإسلام يعتبر المنطق مدخلا لكافة العلوم، لا لعلم الأصول فقط، وهذا صحيح مطلقا، أي إنه يعتبره آلة للفكر في أي علم من العلوم، ولا بد لمن يخوض في المعارف من أن يعرف جملا كافية من علم المنطق، وسبب هذا أن المنطق عبارة عن آلة تمكن من استعملها من أن يعرف الخطأ في كلامه، وتفكيره، وتمكنه كذلك من أن يميز ما بين الصحيح والغلط من كلام غيره. ومن هنا فهو مفيد لكافة العلوم. ثانيا: إن من لا يعرف هذه القواعد العامة التي يشتمل عليها علم المنطق، فإنه ربما لا يتمكن من أن يزن كلامه ولا كلام غيره بميزان صحيح مطلقا، فإن كثيرا من الناس يبنون معارفهم على مجرد أمور متوهمة ومن دون قيام البرهان الكافي عليها، ثم إن هؤلاء بعد ذلك يطلبون من غيرهم أن يتابعوهم في هذه الأمور، فكيف يمكن لهؤلاء أن يقيموا البرهان على لزوم تسليم الغير لهم بما يقولون إن لم يتمكنوا من إقامة الدليل الملزم للغير على صحة ما يدعون؟! وكيف يمكنهم ذلك من دون اتباع قواعد مشتركة يسلمها لهم غيرهم، فيتوسلون هم بهذا التسليم إلى إلزامهم بصحة مدعاهم. فأنت تعرف أيها القارئ أنه لا يمكنك أن تقيم الحجة على غيرك إلا إذا كان يوجد بينك وبينه قدر مشترك من المعارف والعلوم، فهذه المعارف والعلوم هي الجسر الذي يوصلك إليه ويوصله إليك. وهذا القدر المشترك هو الذي يبينه علم المنطق. فلذلك من لا يسلم بعلم المنطق أي بالقواعد التي يشتمل عليها علم المنطق، لا بمجرد كتب علم المنطق، فإنه لا يمكنه إقامة روابط بينه وبين غيره على أساس صحيح مطلقا. ولذلك فمهما ادعى من أمور فلا يمكنه أن يقيم الدلالة الصحيحة عليها لا لنفسه ولا لغيره، ومن هذا حاله فلا يجوز له لا عقلا ولا شرعا أن يثق بصحة علومه، ولا يجوز لغيره أيضا أن يثق بصحة علومه. بل لا بد من إعادة فحص هذه المعارف المدعاة على ميزان النظر الصحيح. فالمنظور إليه في الحقيقة إنما هي القواعد التي تذكر في علم المنطق لا مجرد الترتيبات الاصطلاحية ولا المصطلحات الفنية التي أودعها علماء هذا الفنِّ في كتبهم المنطقية. فربما يوجد كثير من الناس يعرفون هذه القواعد من دون دراسة مباشرة لكتب علم المنطق.

الفصل الثاني علم الكلام

أما ارتباط علم المنطق بعلم الكلام، فهو أبين من أن يجادَل فيه، ولكن سوف أذكر أمثلة تبين المقصود. فالمعروف أن علم الكلام هو علم الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة القطعية. وأما علم المنطق فهو العلم بمجموعة القوانين التي إذا راعاها الإنسان في فكره سلم من الغلط في الوصول إلى النتائج. وما دام الأمر كذلك، فإن العلاقة تكون وثيقة بين العلمين. لأن الكلام يبحث في العقائد الإيمانية، ويتم فيه الرد على المخالفين لعقائد أهل الحق من أهل السنة. والنـزاع فيه مع قسمين من الناس القسم الأول: هم طوائف المنتسبين إلى الإسلام، فلهم حكم الإسلام على سبيل الإجمال، كالمعتزلة والشيعة والإباضية والزيدية وغيرهم من الفرق الإسلامية. والقسم الثاني: هم الطوائف التي تخالف الدين الإسلامي وهؤلاء نوعان النوع الأول: هم أهل الأديان من النصارى واليهود وغيرهم. النوع الثاني: هم طوائف الملاحدة والمتشككين والعلمانيين وغيرهم من أصحاب الفلسفات الوضعية العديدة. وهؤلاء يجمعهم رابط مشترك أنهم لا يؤمنون بأيٍّ من الأديان المنـزلة. ففي علم الكلام يتم الإتيان بالبراهين القطعية لسائر أهل هذه الفرق والطوائف على سلامة العقائد الدينية من الغلط وسلامتها من مخالفة الواقع أو الأمر في نفسه. وإذا علمنا نحن أن علم المنطق يهتم في أصل مسائله بتحرير طرق الفكر الصحيحة وبيان غير الصحيحة منها،فإننا نعلم بسهولة أن هذا العلم له مدخلية كبيرة في علم الكلام. فالمتكلم ينبغي أن يكون له اطلاع على هذا العلم. وذلك أن كل هذه الطوائف مخالفة للحق في نفسه، ومخالفة في تقريرها ووصفها للواقع. فالنصارى مثلا يقولون: إن الله تعالى ثالث ثلاثة. واليهود يقولون إن النسخ مستحيل عقلا، وكثير منهم يقول بالتشبيه وبغير ذلك من الأمور التي لا تستند إلى دليل. وأما العلمانيون فلهم مذاهب وطرق عديدة، فمنهم من يقول إن الإله أصلا غير موجود، إلا كفكرة في أذهان الناس، وأن هذه الفكرة ليس لها أمر تصدق عليه في نفس الخارج. وأن الأديان إنما هي مجموعة من الأفكار المبنية على الخيال البشري نتيجة لقصور معارفهم ونقصان حيلتهم أمام الطبيعة وأسرار الوجود. ومنهم من يقول إن الإله يمكن أن نسلم بوجوده في الذهن ويمكن كذلك أن نسلم بفائدة لهذا الوجود، ولكن لا يجوز مطلقا أن نعتقد أن الإله له تحقق في الخارج عن الذهن، وهؤلاء هم البراغماتيون النفعيون، وفلسفتهم خادعة ويمشي عليها غالب المثقفين في هذه الأيام، بل إن كثيرا من الدول تتبنى هذه الفلسفة كنظام أساسي تسير عليه، وينخدع الكثير من المسلمين بهذه الفلسفة، بل إن منهم من لم يعرف مدى خطورتها فادعى أن الإسلام يمكن أن يتبناها ويسير عليها، غافلا عن حقيقتها التي بينتها آنِفاً. وكثير من الناس الذين يحسبون في أنفسهم بعضا من العلوم والمعارف يعتقدون بمثل هذه الأفكار، وعنها ينشأ تيار كبير سائد في هذا الزمان هو التيار العلمانيّ بشتى صُوَرِهِ وفُرُوعه التي ليس هذا المحل الملائم للتفصيل في بيانها. ومن هذه الطوائف أيضا من يقول إن العالم قديم بمادته، متغير بصورته، وأن التغيرات التي تحدث في العالم هي تغيرات ذاتية، فالمحرك والموجد لهذه الحركات إنما هي قوانين داخلية يتصف بها العالم، وهي عبارة عن تناقضاته الداخلية، فيدَّعون أن المادة فيها تناقضات داخلية هي من صُلب وجودها، وأساس ثبوتها، وأنه عن طريق هذه التناقضات، تحصل الحركة التصاعدية والتطور الدائم للصور التي يتصور بها العالم وما فيه من الموجودات الجزئية، ويتكلمون في أثناء ذلك عن أمور كثيرة يسمونها بالقوانين المادية للوجود، وأن العالم يتكامل تكاملا ذاتيا، أي إن سعيه للتكامل إنما هو أمر ذاتي له، ولا يحتاج في ذلك إلى محرك له من خارجه، فلا يحتاج العالم إلى الإله لكي يحركه، لأن حركته ذاتية، ولأن هذا الإله لا يمكن وجوده، لأنه لا وجود إلا للمادة، أي للموجودات في نطاق الزمان والمكان. إلى غير ذلك مما يتفوهون به من مفاسد، وهؤلاء هم الماديون خصوصا الجدليون، وهم الشيوعيون. ويوجد بعض الفلاسفة والمفكرين يقولون إن الإله ليس أمرا في الحقيقة إلا نفس العالم، وهم القائلون بوحدة الوجود المادية أو الروحية، فيقولون إن العالم هو الإله، أو الإله هو العالم. وأنواع هذه الفرق أكثر من أن أحصيها هنا، وإنما أردت مجرد التمثيل لها. فهؤلاء كلهم يزعمون أنهم ينظرون في العالم نظرا مجردا عن الأهواء وينسبون لأنفسهم النظر الموضوعي المجرد عن الأغراض والدوافع، ويتَحَدُّون غيرَهم أن يثبتوا غلطهم فيما يدعون. وهم لا يؤمنون إلا بالأفكار العقلية المجردة، كما يدعون.وهؤلاء لا يرون في الأديان حجة، ولا أهمية لها عندهم، إلا كأهمية غيرها من النظرات الإنسانية التي قد تؤثر في تحريك البشر والتأثير على تصرفاتهم، فهم إنما يهتمون بها من هذه الناحية العملية المطلقة، أما أن تكون الأديان مصدرا للمعرفة ولو في أي مستوى من مستويات المعرفة، فلا. ومن معرفتك لحقيقة أقوالهم، فإنك تعرف أن هؤلاء لا يمكن مخاطبتهم إلا بالأدلة العقلية المجردة، وهي عين الأدلة التي يدَّعون الانتساب إليها، ونحن نعرف أن هذا الادعاء عارٍ عن الدليل البرهاني الحقيقي، فلا نسلمه لهم على إطلاقه، وإنما هذه الأدلة المزعومة قائمة على مغالطات بعضها مقصود وبعضها تلبسوا به بالعَرَضِ. ومن كان هذا شأنه، فالطريقة الصحيحة لمناقشته وبيان غلطه فيما ادعاه إنما تكون بالأدلة وطرق النظر العامة التي يشترك فيها كافة البشر، ولا يستطيع أحد أن يغالط فيها، وهذه هي حقيقة القوانين المنطقية، أي القوانين التي يشرحها علماء المنطق في كتبهم. ولا يستطيع أحد من المغالطين أن يدعي أننا إنما يجب أن نناقشهم بالأدلة والنصوص المأخوذة من الكتاب والسنة، بقيد استنادها إلى الكتاب والسنة. فإن من يقول بهذا المذهب يكون ضحكة الأولين والمتأخرين من العقلاء، ويكون أيضا قد خالف ما قرره الدين الحق نفسه، فقد قال الله تعالى (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)النحل(125)، فالحكمة يناسب تفسيرها بالبراهين والحجج القوية، وأما الموعظة الحسنة فيناسب أن تحمل على الطرق الخطابية اللائقة بعوام الناس، وقوله تعالى (وجادلهم..) صريح في الطريقة الجدلية اللائقة لبعض الناس. وأنت ترى أن كلا من هذه الطرق الثلاثة هي إحدى الطرق التي ذكرها أهل المنطق في كتبهم، فإنهم يذكرون أن القياس المؤلف من القضايا اليقينية يسمى برهانا، وذكروا أن القياس المؤلف من القضايا المشهورة والمسلمات يسمى جدلا، وأن القياس المؤلف من المقبولات والمظنونات يسمى خطابة، وقد يدخل فيه أيضا القياس المؤلف من قضايا مخيلة والمسماة قياسا شعريا، لمخاطبته العواطف لتحصيل انفعال النفس والتأثر. فأنت ترى أن نفس المراتب الثلاثة التي نصت عليها الآية الكريمة قد ذكرها أهل المنطق، ولذلك نقل العلامة السبزواري( ) ناقلا عن العلامة الشيرازي في شرح حكمة الإشراق قوله: "ومن طلب العلوم التي لا يُؤْمَنُ فيها الغلط ولا يَعْلَم المنطق، فهو كحاطب ليل، وكرامد العين لا يقدر على النظر إلى الضوء لا لبخل من الموجد، بل لنقصان الاستعداد، والصواب الذي يصدر من غير المنطقي كرمية من غير رام، وكمداواة عجوز". ثم قال: "والمنطق يصلح لأبناء الملوك الذين يتوقع منهم أن يصيروا ملوكا، لا ليعلموا الاقترانات الشرطية ولوازم المتصلات والمنفصلات، بل ليعرفوا الصناعات الخمس، ويقدروا على مخاطبة كل صنف من الناس بما يليق بحالهم، على ما قال(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) فالحكمة لمن يطيق البرهان، والموعظة الحسنة لمن لا يطيقه، والجدل للمقاومة لمن ينتصب للمعاندة"اهـ. والحقيقة أن الأدلة على ذلك من القرآن أكثر من أن تحصى، ولا ينكر ذلك إلا معاند، أو متلبس ببدعة يخاف أن يظهر بطلانها إذا عرضت على محك النظر( ). والذي أريد أن أبينه الآن، هو بعض الأمثلة التي تبين مدى الفائدة التي يجنيها العارف بعلم المنطق في حلِّ بعض الإشكالات المتعلقة بعلم التوحيد وطرق الاستدلال في الفلسفة العامة. وسوف نناقش بعض ما قرره اثنين من المفكرين المعروفين، الأول غربي وهو الفيلسوف الفرنسي المشهور ديكارت في مقولتين من فلسفته، والثاني إسلامي وهو ابن تيمية في مقولتين من مذهبه الخاص، وهدفنا من هذه المناقشة، إيضاح مثال عملي على قوة التحليل المنطقي للآراء العقلية المتداولة في المطلب الفلسفية والعقائدية مطلقا. وسنخوض مع واحد منهما جولةً.

الجولة الأولى: مع ديكارت ونقتصر على توضيح مثالين من مقولاته الفلسفية. المثال الأول: أنا أفكر، إذن أنا موجود. هذا القول المشهور، منسوب إلى الفيلسوف الفرنسي المعروف ديكارت، وهو يشكل على ما هو متعارف عليه اللبنة الأساسية التي بنى عليها فلسفته في بناء اليقين للتمهيد في إثبات وجود الإله عنده، فهو بعد أن أجاز لنفسه الشك في كل الأمور التي تعلمها عن طريق المعلمين منذ صغره، والمعلومات التي أخذها بالتقليد عن طريق تأثره في المجتمع المحيط به، لم يجد ملجأ يلتجئ إليه لبناء اليقين العلمي عليه، إلا هذا القول، فأطلق عبارته هذه "أنا أفكر، إذن أنا موجود". والمفهوم من هذه العبارة كما هو واضح هو الاستدلال على وجود ذاته، وذلك لأن الدافع الذي دفع ديكارت إلى محاولة إعادة بناء الطرق المعرفية، هو أن كثيرا من الفلاسفة الشكاك أثاروا الشك في أكثر المعارف والعلوم التي كانت سائدة آنذاك في بلادهم، وشككوا في إمكان الحصول على المعارف الراسخة الثابتة التي لا تقبل التغير، وخاصة في المعارف الإلهية، فأراد هو ردا على هؤلاء أن يوجد طريقة يخضعون لها هم وتؤدي إلى بناء سلم العلوم والمعارف مرة أخرى، فاستند إلى هذه العبارة. وكما قلنا فقد أراد إثبات وجوده من هذه العبارة، والمقدمة التي أوردها لذلك هي قوله أنا أفكر. والنتيجة كانت قوله:"إذن أنا موجود". فجعل وجود تفكيره هو علةً لإثبات وجوده. والحقيقة أنه توجد مقدمة خفية لم تذكر في كلامه هذا، وهي "أن كل ما يفكر، لا بد أن يكون موجودا"، فإن البرهان لا يكون منتجا إلا بهذه المقدمة المخفية. ولكننا عند النظر الصحيح في هذه العبارة وفي طريقة الاستدلال التي أحبها متبعو هذا الفيلسوف، فإننا نجد أن دليله هذا عبارة عن مصادرة على المطلوب. ومعنى هذا أنه اعتمد في الوصول إلى النتيجة، على نفس النتيجة، أو على أمر لا يسلم بوجوده إلا بالتسليم بوجود النتيجة. وبيان ذلك: أنه جعل ثبوت التفكير لذاته دليلا على ثبوت ذاته، وأنت تعرف أن التفكير عارض على الذات، ونسبة عارض إلى الذات، لا يمكن أن يصح إلا بعد التسليم بأن الذات نفسها موجودة. فيصبح الحاصل في النهاية كأنه قال: التفكير ثابت لذاتي الموجودة، وثبوت التفكير لذاتي الموجودة، دليل على وجود ذاتي. ومن الواضح أن هذا عبارة عن كلام لا محصل تحته. هذا هو التحليل السريع الذي أردنا أن نبينه. وأما القواعد المنطقية التي اعتمدناها للوصول إلى هذه النتائج ونقد كلام هذا الفيلسوف المشهور، فهي ما يلي: قال الإمام السعد التفتازاني في كتابه التهذيب في علم المنطق "ولا بد في الموجبة من وجود الموضوع، إما محققا وهي الخارجية، أو مقدرا فالحقيقية، أو ذهنا فالذهني."( )اهـ وشرَحَهُ العلامة الملا عبدالله اليزدي بقوله( ): "ولا بد في الموجبة أي في صدقها، وذلك لأن الحكم في الموجبة بثبوت شيءٍ لشيءٍ، وثبوت شيء لشيء فرع لثبوت المثبَتِ له، أعني الموضوع، فإنما يصدق هذا الحكم إذا كان الموضوع محققا موجودا إما في الخارج إن كان الحكم بثبوت المحمول له هناك، أو في الذهن كذلك. ثم القضايا الحملية المعتبرة في العلوم باعتبار وجود موضوعها لها ثلاثة أقسام لأن الحكم فيها إما على الموضوع الموجود في الخارج محققا نحو كل إنسان حيوان، بمعنى أن كل إنسان موجود في الخارج حيوان في الخارج. وإما على الموضوع الموجود في الخارج مقدرا، نحو كل إنسان حيوان، بمعنى أن كل ما لو وجد في الخارج كان إنسانا فهو على تقدير وجوده في الخارج حيوان. وهذا الموجود المقدر إنما اعتبروه في الأفراد الممكنة لا الممتنعة كأفراد اللاشيء وشريك الباري. وإما على الموضوع الموجود في الذهن كقولنا: شريك الباري ممتنع، بمعنى أن كل ما يوجد في العقل ويفرضه العقل شريك الباري فهو موصوف في الذهن بالامتناع في الخارج، وهذا إنما اعتبروه في الموضوعات التي ليست لها أفراد ممكنة التحقق في الخارج."اهـ ومن هذا يفهم أن مراد ديكارت كان إثبات وجود ذاته وجودا خارجيا، فهو انتقل من إثبات التفكير لذاته، ومعلوم أن التفكير عرَضٌ، والعرض لا يثبت إلا لموجود خارجي، فإثباته التفكير إذن لذاته، في المقدمة التي اعتمد عليها، يتضمن إثبات وجود ذاته وجودا خارجيا، لما مرَّ ذكره. وهذا هو عين المصادرة على المطلوب. وقد أشار إلى هذا التناقض الذي وقع فيه ديكارت أكثر من واحد من المفكرين الإسلاميين، منهم المفكر الكبير محمد باقر الصدر، فقد أشار إلى ذلك في كتابه المفيد "فلسفتنا"، الذي يعتبر مفتاحا جيدا في هذا العصر لفهم مدى عمق الأفكار الفلسفية والكلامية التي وصل إليها المسلمون على اختلاف مذاهبهم. قال في كتابه المذكور( ) "وتكون هذه الحقيقة في فلسفة ديكارت حجر الزاوية ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي الذي حاول أن يخرج به من التصور إلى الوجود، ومن الذاتية إلى الموضوعية، بل حاول أن يثبت عن طريق تلك الحقيقة الذات والموضوع معا، فبدأ بذاته واستدل على وجودها بتلك الحقيقة قائلا:"أنا أفكر، إذن أنا موجود". وقد يلاحظ على ديكارت في هذا الاستدلال أنه يحتوي -لاشعوريا- على الإيمان بحقائق لا زالت حتى الآن في موضع الشك عنده، فإن هذا الاستدلال تعبير غير فني عن الشكل الأول من القياس في المنطق الأرسطي، ويرجع فنيا إلى الصيغة الآتية: "أنا أفكر، وكل مفكر موجود، فأنا موجود". ولأجل أن يصح هذا الاستدلال عند ديكارت يجب أن يؤمن بالمنطق، ويعتقد بأن الشكل الأول من القياس منتج وصحيح في إنتاجه، مع أنه لا يزال في بداية الشوط الأول، ولا يزال الشك مهيمنا في عقله على جميع المعارف والحقائق ومنها المنطق وقوانينه"اهـ ثم أشار الصدر إلى أنه ربما كان ديكارت يؤمن ببداهة وجوده، وعدم إمكان الشك فيه، خصوصا بملاحظة فكره، ولكن هذا الأمر إذا كان بديهيا، فلا توجد حاجة إلى وضعه بصورة الاستدلال الذي اقترحه هو. ثم قال الصدر( ) "ويجب أن نعرف قبل كل شيء أن القاعدة الأساسية التي أقام عليها مذهبه ويقينه الفلسفي وهي (أنا أفكر فأنا إذن موجود)، قد نُقِضَتْ في الفلسفة الإسلامية قبل ديكارت بعدة قرون، حين عرضها الشيخ الرئيس ابن سينا ونقدها بأنها لا يمكن أن تعتبر أسلوبا من الاستدلال العلمي على وجود الإنسان المفكر ذاته، فليس للإنسان أن يبرهن على وجوده عن طريق فكره، لأنه حين يقول (أنا أفكر فأنا إذن موجود)، إذا كان يريد أن يبرهن على وجوده بـ(فكره الخاص) فقط، فقد أثبت وجوده الخاص من أول الأمر واعترف بوجوده في نفس الجملة الأولى. وإن كان يريد أن يجعل (الفكر المطلق) دليلا على وجوده فهو خطأ، لأن الفكر المطلق يحكم بوجود مفكر مطلق لا مفكر خاص، وإذن فالوجود الخاص لكل مفكر يجب أن يكون معلوما له علما أوليا بصرف النظر عن جميع الاعتبارات بما فيها شكه وفكره".اهـ هذا هو ما أردنا نقله هنا مما قاله الإمام الصدر المفكر الشيعي المعروف، وقد أشار إلى بعض الأغلاط الأخرى التي وقع فيها ديكارت في كتابه المذكور، وذلك اعتمادا على قواعد المنطق، والتفكير الصحيح الذي كان سائر المتكلمين يتبعونها. وهذا الكلام يبين مدى فائدة علم المنطق لمن تنبه إلى قواعده المقررة( ).

المثال الثاني: الدليل الأنطولوجي سوف نكتفي بمجرد نقل كلام العلامة شيخ الإسلام في الدولة العثمانية مصطفى صبري رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ونتركه يتكلم عن نفسه، ويبين مراده في مناقشة الفيلسوف المشهور الذائع الصيت ديكارت، وإن كان هذا الفيلسوف في نظري لا يصل إلى مرتبة كثير من علماء الكلام المسلمين، في حذقه بالمعقولات وتناوله للأدلة وتحليله لها، ولكن كان الشيخ مصطفى صبري معجبا بهذا الفيلسوف لا لما له من تفوق في العلوم والمعارف العقلية، وكما يظن كثير من العامَّة، بل لما كان له من تأثير كبير على عقول الغربيين في نفي نـزعة الشك واللاأدرية التي طغت عليهم في زمانه، وذلك خلافا لما هو متعارف عليه من أنه هو مؤسس فلسفة الشك المطلق، والحقيقة أنه لم يكن كذلك مطلقا. قال الشيخ مصطفى صبري في كتابه العظيم الفائدة، والذي يغفل عنه كثير من المسلمين في هذه الأزمان( ): "ومن أساليب ديكارت في إثبات وجود الله أنه يقول:"إذا قلت [الله] فإني أفهم منه جوهرا أزليا غير متناه ولا قابلاً للتغير عليما قديرا أوجدني وسائر الأشياء على تقدير ثبوتها. فمن أين يأتيني هذا المفهوم؟ ومن حيث إنه معنى من المعاني يلزم أن يوضح منشأه. وهب أني لكوني جوهرا أتصور في نفسي جوهرا غيري، ولكني جوهر متناه، فكيف أتصور جوهرا غير متناه."اهـ وبعد كلام للشيخ مصطفى صبري قال( ): "ويجدر بي أن لا أنتهي عن الكلام في فلسفة ديكارت قبل أن أبدي رأيي في دليل هذا الفيلسوف على إثبات وجود الله المسمى بالدليل الوجودي والذي ذكره صديقي الدكتور عثمان أمين في كتابه[ديكارت] باسم الدليل الأنطولوجي وأطراه، كما أيده الأستاذ الكبير العقاد في كتابه [الله]، على الرغم من أن هذا الدليل اخترعه (سنت آنسله) من فلاسفة القرون الوسطى المسيحيين قبل ديكارت، ثم انتُقِدَ عليه في ذلك العهد، وكان لناقده الحق. ومع هذا فقد تمسك به في المرة الثانية كبير فلاسفة الغربيين وزعيم التجديد في الفلسفة أعني به ديكارت. ثم تجدد الإعجاب والافتتان بذاك الدليل في زماننا على لسان الدكتور عثمان أمين والأستاذ العقاد. وقد سبق مني أن وعدت في أوائل هذا الكتاب(ص68-69) لأقول قولي في ذلك الدليل بلسان علم المنطق القديم( ) وأبديت هناك ظني القوي بسحب الأستاذين الفاضلين اعتمادهما على متانة الدليل المذكور بعدالاطلاع على قولي، فيكون لي الشرف في تصحيح رأيهما بشأنه في حين أنه لم يؤثر نقد الناقدين من قبلي في إصرارهما على الإعجاب بذلك الدليل. وأكثر من هذا ما يعود إليّ بهذه الوسيلة من شرف الدفاع عن المنطق القديم رغم المستهينين به من الكتاب المعاصرين معبرين عنه بالمنطق الصوري أو التجريدي وهم لا يدرون أن قوة هذا العلم الأبدية تأتيه من فضل صوريته كما أن قوة علم الهندسة الأبدية في صوريته، فلو لم يكن صوريا لكان علما وقتيا كما نبه إليه الرياضي الشهير (هانري بوانكاريه) وقد سبق مني نقله( ). لا يعجبني الدليل الوجودي من أدلة ديكارت على إثبات وجود الله، فأراه مبنيا على مغالطة خفية استولت على عقول المتمسكين به مع محبذيه، وإن كان صديقنا الدكتور عثمان أمين اعتنى في كتابه ديكارت ص143 بهذا الدليل الذي سماه دليلا أنطولوجيا وعدَّه أدقَّ الأدلة على وجود الله. ولا يجديه ما نقل الدكتور في تكميله عن الفيلسوف ليبنتز ولا ما قاله الأستاذ الكبير العقاد في كتابه النفيس [الله] عن هذا الدليل الوجودي-بعد حكاية استهدافه لنقد الناقدين إلى حد أنهم سخروا منه-: "والبرهان في الواقع أقوى وأمتن من أن ينال بمثل هذا الانتقاد، لأنا نستطيع أن نتصور عشرة دنانير دون أن يستلزم وجودَه في الحقيقة، لكن لا نتصور كمالا لا مزيد عليه ثم نتصوره في الوقت نفسه نقصا لا مزيد عليه لأنه معدوم. وإذا قلنا أن الديشيليون لا يمكن أن يكون أكبر عدد، فالديشيليون موجود بغير كلام، وإن لم نستخدمه في عد شيء من الأشياء".اهـ( ) والأستاذ العقاد الذي نعترف بدقة فهمه وقوة بيانه، يخطئ في الاعتماد على هذا الدليل مع الفلاسفة المخطئين. والذي يغره وغيرَه ويفرق بين مسألة وجود الله ووجود عشرة دنانير الذي اتخذه الناقدون مثالا في نقض الدليل المذكور، أنه يكفي في إثبات وجود الله مجرد تصور مفهومه الدال على غاية الكمال ولا يكفي لإثبات وجود عشرة دنانير مجرد تصور مفهومها الخالي عن تلك الغاية. وقد غرَّهم أن تصور غاية الكمال لشيء مع الشك في وجوده، يكون تناقضا ونقصا ظاهرا في حاله. ونحن نسلم بأن غاية الكمال لا تُتَصَوَّرُ مع عدم وجود الأكمل، وإنما يتصور الأكمل في الذهن مقترنا بوجوده حتى وجوده الخارجي أي مقترنا بتصور وجوده في الخارج، لكون محل هذا الاقتران هو التصور الذي فيه متسع للموجود والمعدوم والموجودَين المتلازمين والمعدومَيْنِ المتلازِمَيْنِ، ولكن لا يلزم من حضور الأكمل ووجوده الخارجي في تصور الذهن مجتمعين غير منفكين، تحقُّقُهما في الخارج كذلك. وقد قال علماؤنا المنطقيون لا حجر في التصورات! فقد يكون الذهن بسبب تصوره الله بمعنى الأكمل، مضطرا إلى إضافة تصور إلى تصوره قائل بوجود هذا الأكمل في الخارج من غير أن يكون لهذين التصورين المتولد بعضهما من بعض تأثير في الحقيقة. وخلاصة ما أقوله: إن استخراج البرهان على وجود الله من تصور القائلين به على أنه جامع لكل كمال-ومنه الوجود طبعاً- توهم محض، من نوع المصادرة على المطلوب، لأن إثبات وجود الله يتوقف على كونه جامعَ كل كمال، في حين أن الحكم بكونه جامع كل كمال يتوقف على كونه موجوداً، بناءا على القاعدة المنطقية القائلة بأن صدق القضية الموجبة مشروط بوجود موضوعها، فيتوقف إثبات وجود الله على كونه موجودا وهو الدور والمصادرة على المطلوب. وإن أردت تحقيق هذه المسألة على وجه لا محل لها بعده أن تلتبس على الأستاذ عقاد والدكتور عثمان أمين اللذين لم يكفهما نقاش الفلاسفة قدما في تحقيقها، فأقول توضيحا لما قلته هنا: لو كان قول القائل إن الله جامع كل كمال الذي يكون مقدمة من مقدمات الدليل الأنطولوجي المُقام على إثبات وجود الله، مسلم الصدق لكان من حق الأستاذين أن يعتبراه كافيا في إثبات المطلوب ضرورة أن وجوده يدخل في الكمالات التي هو جامعها في نفسه دخولا أوليا، لكن صدق ذلك القول ليس بمسلم. ولا تقل كيف لا يسلم القول بأن الله جامع كل كمال، فأي مجنون يشك فيه؟ لأني أقول لا شك في صدقه وصحته، إلا أن كل من يعجبه هذا الدليل قبل ديكارت وبعده يغفلون عن كونهم بصدد إثبات وجود الله( )، فذلك أعني الحكم بأن الله جامع كل كمال يجب أن يكون مسلم الصدق إلا بالنسبة إلى محله في دليل إثبات وجود الله، ولهذا يصح أن نقول إن الله تعالى يلزم أن يكون جامع الكمالات عند كل من يؤمن بوجوده، ولا يلزم أن يكون الأمر كذلك عند من لا يؤمن بالله، فلا وجود له عنده ولا كونه جامع الكمالات، ومن كان في صدد إثبات وجود الله، يلزم أن يكون كذلك خالي الذهن عن وجوده واتصافه بكل كمال إلى أن يتسنى له الإثبات. ونحن الذين لا نتردد في إضافة جميع الكمالات إليه تعالى لكوننا آمنا بوجوده أولا بدليل غير دليل الكمال فصحَّتْ بالنسبة إلينا القضية الموجبة القائلة بأنه جامع كل كمال، لتحقق شرط صحتها الذي اشترطه المنطق القديم وهو وجود الموضوع. أما الذي لا يعرف وجود الله ويريد أن يعرفه من كونه جامع كل الكمالات أو الذي يعرف وجوده ويريد إثباته لمن لا يعرفه بدليل الكمال الجامع، فيقال له إن سندك هذا في إثبات وجود الله قضية موجبة تتوقف صحتها منطقيا على وجود موضوعها الذي أنت بصدد إثبات هذا المدعى فتحتاج في تصحيح دليلك إلى مراجعة دعواك، وهي المصادرة على المطلوب المعروف بطلانها عند العلماء. وما أدق نظر المنطق في اشتراط وجود الموضوع لصحة القضايا الموجبة دون اشتراطه في السالبة( )، فقولك مثلا العنقاء تطير كاذب وقولك العنقاء لا تطير صادق مع أن العنقاء اسم طائر، لكن لما كان هذا الطائر لا وجود له فأنت تكون كاذبا في إثبات أي شيء له، وصادقا في سلب كل شيء عنه. وهذا من دقائق علم المنطق أعني المنطق الصوري القديم على رغم المستخفين به من أهل الثقافة العصرية بمصر( ). نعم يصدق قول أهل المعاجم "العنقاء طائر عظيم معروف ومجهول الجسم" ولا ينافي صدقَه ما ذكرنا من القاعدة المنطقية، القائلة بأن القضية الموجبة لا تصدق بدون وجود موضوعها، لأن قول المعاجم ذاك قضية لفظية من قبيل تفسير اللفظ وشرح الأسماء التي لا مشاحة فيها، والمنطقيون لا يعدون القول الشارح من القضايا. وإن أبيت إلا أن تعده قضية تتضمن حكما إيجابيا وتحتمل الصدق والكذب كما هو شأن القضية، ثم قلت إنها صادقة رغم اشتراط المنطق في صدقها وجود الموضوع. فجوابه أن المراد من قول المعاجم العنقاء اسم طائر عظيم الخ الحكم على لفظ العنقاء بأنه اسم لطائر كذا، ولا شك في وجود لفظ العنقاء في الألسنة وإن كان اسما من غير مسمى، فالحكم صادق وشرط الصدق موجود."اهـ( ) إلى هنا ينتهي كلام هذا الإمام الهمام، والحقيقة أن حل الإشكال الذي أثاره في آخر كلامه أسهل مما حاوله، فقد أشار المنطقيون في أثناء تقريرهم لهذا القضية أعني أنه لا بد في صدق الموجبة من وجود الموضوع، أن المراد بوجوده أعم من وجوده في الخارج، فيصدق على وجوده في نفس الأمر، أي يشمل وجوده في الخارج وفي العقل وفي اللغة، وقد سبقت الإشارة منا إلى هذا القيد والتوضيح عند نقلنا لكلام الإمام العلامة السعد في كتاب التهذيب في المنطق، وتقريرات العلامة الملا عبدالله عليه. والحقيقية أن كتاب العلامة مصطفى صبري، مليء بالمواضع التي تثبت أهمية وفائدة علم المنطق في مباحث علم الكلام والتوحيد والعقائد.

الجولة الثانية: مع ابن تيمية الحقيقة أن الأمثلة التي يمكن أن نوردها من كلام ابن تيمية على المغالطات المنطقية التي وقع فيها، كثيرة جدا، ونحن سوف نخصص كتابا مستقلا لهذا الأمر لأهميته. وأما الآن فسوف نقتصر على مثال واحد فقط، وليس قصدنا فيه هو الرد على ابن تيمية فقط، بل قصدنا أصالةً هو بيان أهمية التفكير المنطقي الصحيح، وبالعَرَضِ الردُّ على ابن تيمية في ما قاله. سنورد هنا نَصَّيْنِ لابن تيمية يوضح فيهما طريقته في الاستدلال على الأمور العقائدية، وسنعلق عليهما باستعمال قواعد علم المنطق، ولكن بشكل ميسَّر وذلك تقريبا لفهمها لدى القراء غير المتمكنين من قواعد علم المنطق. النص الأول: ألف ابن تيمية رسالة خاصة بين فيها القواعد التي يمكن استعمالها في النظر في صفات الله تعالى، أي الأدلة التي يمكن اتباعها في هذا الموضوع، وهذه الرسالة هي"تفصيل الإجمال فيما يجب من صفات الكمال، والفصل فيما اتفق عليه وما اختلف فيه أهل الملل والنحل والمذاهب منها باختلاف الدلائل العقلية والنقلية فيها"( ). وقد عرض ابن تيمية بعض طرق الاستدلال على صفات الله تعالى، التي يرتضيها هو وطائفته الذين يسميهم بأهل الإثبات، وهؤلاء المثبتة في الحقيقة هم عين المجسمة، فلا تتوهم أيها القارئ أن المراد بهم أهل السنة. قال في هذه الرسالة: "فيقول لهم أهل الإثبات: هذا باطل من وجوه أحدها: أن يقال:الموجودات نوعان، نوع يقبل الاتصاف بالكمال كالحي ونوع لا يقبله كالجماد، ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل مما لا يقبل ذلك، وحينئذ فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم انتفاء اتصافه بها."اهـ أقول: هذا الكلام إلى هذا الحد، يمكن أن يقبل، لأنه يتكلم عن مطلق الموجود، ومعلوم بالبداهة أن الموصوف بالكمال أكمل من غير الموصوف بذلك. هذا الكلام لا يمكن أن يخالفه أحد. فحاصل القضية أن تقول: الاتصاف بالكمال المحض، أكمل من عدم ذلك. يعني: "أن كل كمال محض فالموصوف به أكمل من غيره". هذا هو حاصل القضية التي لا نخالف ابنَ تيمية فيها. ولكن ينبغي أن ندقق بشكل أكبر في مفهوم الكمال المحض الذي ذكرناه، فمقصودنا بالكمال المحض أي الذي يعتبر كمالا بالنظر لأصل الوجود، لا بالنظر لأصل الموجود. فمعلومٌ أن الوجود هو عبارة عن مفهوم ذهني، وهذا المفهوم لا يساوي الموجود، إلا عند من يقول بأن الوجود هو عين الموجود، وحتى هذا، فإنه لا يمنع أن يطلق الوجود على المعنى الإضافي أو الاعتباري المقول على كثيرين بالتواطؤ. وعلى ذلك فإن كل ما حكم العقل بأنه كمال لأصل الوجود، فيلزم أن كل ما اتصف به من الموجودات أكمل مما لم يتصف به. ولكن هذا لا يلزم إذا حكم العقل أن الأمر المعين إنما هو كمال لموجود بعينه أو لجنس أو نوع من الموجودات. الزواج لجنس الإنسان أكمل من عدم الزواج. فالزواج هو كمال لا لأصل الوجود، بل هو كمال لوجود الإنسان. وحينذاك لا يجوز أن يقال، إذا كان الزواج كمالا، فكل ما ليس بمتزوج أنقص من المتزوج! لأن هذا القول هو عبارة عن مغالطة، لأنك بهذا تكون قد استندت إلى الخاص لتحكم على العام. والمقصود بالخاص هنا ما يصدق على البعض، فما يصدق على البعض ولا يصدق على كثيرين، لا يجوز الحكم به على الكثيرين. فتأمل. هذا كان مقدمة للدخول في الموضوع. وهو ما يطلق عليه في علم المنطق بالقضية الموجهة، أو المعنونة، أي القضية التي ارتبط الحكم فيها بعنوانها. وهي تقارب القضية المشروطة، فالقضية المشروطة لا يجوز تعميم حكمها إلا على ما تحقق فيه الشرط والعنوان، وأما ما لم يتحقق فيه ذلك، فلا يجوز الحكم عليه بذلك. وكثير من الناس يستعملون قضايا ويحكمون على المواضيع بدون الإشارة إلى كونها مشروطة، أي كون الموضوع مشروطا بشرط، وهذا، أي عدم ذكر الشرط يسمى في المنطق بعدم توجيه القضية، فالقضية غير الموجهة، قد يدخل فيها إشكالات عديدة، ولذلك فهي تستعمل كثيرا في المغالطات والمجادلات التي لا يكون الهدف فيها إلا إفحام الخصم لا الوصول إلى الحق. ولاحظ أن ابن تيمية في القضية المذكورة أعلاه، تكلم على الموجود، فبدأ كلامه بقوله "الموجودات نوعان" فجعل عنوان كلامه هو أصل الموجود، ومعلوم أن هذا الاسم يدخل فيه كل موجود، ولا يخرج عنه واحد، سواء كان ذلك الموجود واجب الوجود أو ممكن الوجود. ولذلك فقد قال ابن تيمية بعد ذلك:"فالرب إن لم يقبل..الخ" فهو يفهم أن كلامه عام لاستعماله كلمة الموجود، التي يدخل في مفهومها اللهُ تعالى، وهو واجب الوجود، وغيره من الموجودات الممكنة. ثم قال ابن تيمية: "الوجه الثالث: أن يقال: نفي سلب هذه الصفات نقص، وإن لم يقدر هناك ضد ثبوتي فنحن نعلم بالضرورة أن ما يكون حيا عليما قديرا متكلما سميعا بصيرا أكمل ممن لا يكون كذلك. وأن ذلك لا يقال سميع ولا أصم كالجماد، وإذا كان مجرد إثبات هذه الصفات من الكمال، ومجرد سلبها من النقص وجب ثبوتها لله تعالى لأنه كمال ممكن للوجود، ولا نقص فيه بحال، بل النقص في عدمه."اهـ هذا تطبيق من ابن تيمية للقاعدة السابقة على بعض الصفات التي يمكن أن نوافقه على مجمل ما قاله فيها، وإن كنا نخالفه في تفصيلات مراده بالسمع والبصر والعلم والكلام وغير ذلك من الصفات، فإنه يفسر هذه الأسماء بمعاني لا نوافقه على جواز نسبتها إلى الله تعالى. وليس هذا المحل ملائما للكلام على ذلك، فقد وضحناه في كتابنا "الكاشف الصغير"، والآن لنكمل كلام ابن تيمية، فقد قال: "وكذلك إذا قدرنا موصوفين بهذه الصفات أحدهما يقدر على التصرف بذاته فيأتي ويجيء وينـزل ويصعد ونحو ذلك من أنواع الأفعال القائمة به، والآخر يمتنع ذلك منه، فلا يمكن أن يصدر منه شيء من هذه الأفعال، كان هذا القادر على الأفعال التي تصدر عنه أكمل ممن يمتنع صدورها عنه."اهـ إذن فابن تيمية يُفَرِّعُ الآن وبعد تقرير القاعدة كما سبق أننا إذا قدرنا في أذهاننا موصوفين بهذه الصفات وهي العلم والقدرة…الخ، أحدهما يقدر على الصعود والنـزول وعلىالتصرف بنفسه وغير ذلك من أنواع الأفعال القائمة به، والآخر لا يقدر على ذلك. فإننا نحكم بأن القادر على ذلك أكمل من غير القادر على ذلك. يريد من ذلك أن يقول النتيجة الحتمية وهي أن الله تعالى يتصف بهذه الصفات (وهي المجيء والإتيان والصعود والنـزول ونحو ذلك) كما صرح به في مواضع أخر، وذلك لأن كون الله تعالى كاملا ليس ناقصا أمرٌ واجب، وبما أن هذه الصفات والأفعال كمال، إذن فهي واجبة لله تعالى! هذه هي طريقة ابن تيمية في الاستدلال على ما يريد. فالوصف العنواني عنده في هذه القضية هو "الموصوف" أي بما مضى من الصفات. ومعنى ذلك، أن الاتصاف بالمجيء والصعود والنـزول، لازم لكل من اتصف بالصفات المذكورة، وبما أنه كمال إذن هو واجب لله تعالى. ومعنى ذلك أن السبب في الاتصاف بالمجيء والنـزول والصعود والتصرف بالنفس وغير ذلك، على حد تعبير ابن تيمية هو كون الواحد موصوفا بالقدرة والعلم والسمع والبصر..الخ. هذا هو تحليل لعبارة ابن تيمية بناءا على القواعد المنطقية، وبعبارة غير فنية تماما ميلا إلى التسهيل( ). ولكن هل ما قاله ابن تيمية هنا صحيح، أي هل ما ادعاه من تلازم بين الاتصاف بالمجيء والصعود والنـزول وغير ذلك، وبين كون الواحد موصوفا بالعلم والقدرة والسمع …الخ، صحيح؟! لو دققنا في النظر لأدركنا أنه لا توجد علاقة مطلقا بين هذين الأمرين. فإن الصعود معناه الانتقال من محل ومكان سافل إلى محل ومكان عالٍ. والمجيء هو الانتقال من محل بعيد منك إلى محل قريب منك، والنـزول هو الانتقال من محل عالٍ إلى محل ومكان سافل، وهكذا التصرف بالنفس، فمعناه جواز حدوث أمر حادث وزائد على ما هو حاصل بالفعل في الذات. هذه هي معاني الصفات الثانية اللازمة عن الصفات الأولى( ). فالسؤال هنا بعد هذا التوضيح، هو هل الصفات الثانية مترتبة فعلا على الصفات الأولى؟ أي هل يلزم كل كامل اتصف بالصفات الأولى أن يتصف بالصفات الثانية؟ ابن تيمية يقول: نعم. ونحن نقول: لا. وإذا دقق القارئ معنا نظره، لعرف ما يلي: إن الحركة لازمة لا للمتصف بالصفات الأولى فقط. بل للمتصف بالمحدودية والمكان. أي إن الأصل أن يقال كما يلي: إن كل من اتصف بالمحدودية، أي بكونه محدودا، أي له نهايات وأطراف وحدود من جميع جوانبه وجهاته، يلزم جواز اتصافه بالصفات الثانية وهي الانتقال والمجيء والصعود والنـزول. ولا يقال إن كل من كان سميعا قديرا عليما جاز اتصافه بالانتقال والمجيء والصعود والنـزول. فالفرق كبير وواضح بين العبارتين. والعاقل المنصف يعلم أن سبب جواز الاتصاف بالصفات الثانية ليس هو الاتصاف بالصفات الأولى، بل هو الاتصاف بصفات ليست هي الثانية ولا الأولى، بل هي أمور أخرى، وهي كون الذات محدودة، فكون الذات محدودة فعلا هو السبب الحقيقي في جواز اتصاف الذات بالنـزول والانتقال والمجيء والصعود. وهذه الصفات (ولنسمها بالصفات الثالثة، أو الصفات المتوسطة) هي علة الاتصاف بالصفات الثانية بالفعل. هذا هو التحليل الصحيح لعبارة ابن تيمية، وهكذا يجب أن يكون الاستنتاج الطبيعي لا كما ذكره ابن تيمية. فالواقع أن ابن تيمية قد أسقط السبب الحقيقي في الاتصاف بالصفات الثانية، وأوهم القارئ أن السبب الكافي للاتصاف بها إنما هو الاتصاف بالصفات الأولى، وليس الأمر كذلك. كما أوضحناه لك. فلا مدخلية لكون الذات موصوفة بالقدرة في كونها موصوفة بالانتقال والصعود والنـزول. ولكن السبب الحقيقي لاتصافها بالنـزول والصعود، هو اتصافها بالقدرة أولا، واتصافها بكونها محدودة ثانيا، أما مجرد الاتصاف بالقدرة والعلم والسمع والبصر، فلا مدخلية له في ذلك. وهذه المقدمة المحذوفة من كلام ابن تيمية، هي في الحقيقة أصل النـزاع بينه وبين معارضيه، ولذلك فقد أخفاها هنا في كلامه، وأوهم القراء أن لزوم الاتصاف بالصفات الثانية يكفي فيه الاتصاف بالصفات الأولى، وذلك لأن الصفات الأولى قد يقول بها المعارض، بل إن كثيرا من معارضي ابن تيمية يقولون باتصاف الله تعالى بها، وأما الصفات الثانية، فلا يقول بها إلا المجسمة الذين يسميهم ابن تيمية بأهل الإثبات. وهذا هو السبب الحقيقي في إهمال ابن تيمية ذكر العلة الحقيقية في الاتصاف بالصفات الثانية.فتأمل، وهذا هو بعض ما يطلق عليه أهل المنطق اسم المغالطة، وكثيرا ما يستعملها ابن تيمية في مناقشاته للخصوم. وهذا الذي يفعله ابن تيمية من إهمال قيد في القضية، يعبر عنه أهل المنطق بإهمال توجيه القضية. وهو لا يجوز في البراهين.بل يستعمله الناس في السفسطة والمغالطات والجدليات، مما لا ينفع في الوصول إلى الحقيقة، وهي المقصودة أصالة في مجال البحث في العقائد. فتأمل. وأما اتصاف الذات بكونها متصرفة في نفسها، فهذا ينبني كما أشرنا لك على كون الذات ممكنة قابلة للانفعال والتأثر( )، ولا ينبني على مجرد كون الذات قادرة عالمة سميعة بصيرة الخ. وهذه مغالطة أخرى في كلام ابن تيمية السابق. وتتم محاكمتها بنفس الأسلوب السابق. فتنبه. النص الثاني: ونورد هذا النص هنا أيضا لأن له مدخلية ببيان حقيقة كلام ابن تيمية السابق، كما وضحناه أعلاه، فقد قال في الرد على أساس التقديس( )، في معرض الرد على الإمام الرازي: "ويقول له الخصم( ): هب أنك تقول لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون، فنحن نقول: إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون، فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا، فإن كان منتقلا فهو متحرك، وإلا فهو ساكن. والحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها، فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا، كانت الأولى أكمل."اهـ لاحظ أن ابن تيمية هنا قد أوضح في كلامه، بأن السبب الحقيقي لكون الذات متصفة بالتحرك والانتقال إنما هو كونها متحيزة، لا كونها قادرة عالمة الخ، كما أوهم في النص السابق. فقد قال هنا:" هب أنك تقول لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون"اهـ، فعلق الحركة على كونه متحيزا لا على كونه عالما..الخ. ثم تأمل في قوله أيضا:"فنحن نقول: إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون"اهـ، فهو علق هنا كون الشيء متحركا أو ساكنا، على كونه قائما بنفسه، ومعلوم أنه ليس كل قائم بنفسه فهو متحيز، بل هذا هو أصل النـزاع أصلا، وهو كل قائم بنفسه فهو متحيز؟ ابن تيمية يقول نعم، ونحن نقول لا. وبالتالي فابن تيمية يقول ما دام الله تعالى قائما بنفسه فهو متحيز، أي محدود، ونحن نقول الله تعالى قائم بنفسه وليس بمحدود. وعلى قول ابن تيمية فإذا كان الله تعالى قائما بنفسه، فيلزم كونه محدودا، ويلزم على كونه محدودا أن يكون قابلا للاتصاف بالحركة والسكون، وحينذاك، فإما أن يتحرك بإرادته أو يتحرك لا بإرادته، أي يكون مضطرا في حركته، ومعلوم أن المتحرك بإرادته أكمل من المتحرك باضطرار. هذا هو الأسلوب الصحيح في التعبير عن مذهب وقول ابن تيمية، لا كما صوره هو! ونحن نقول مع ابن تيمية: لو فرضنا أن الله تعالى محدود فعلا، لكان يلزم أن يكون قابلا للاتصاف بالحركة والسكون. ولكن لأن الله تعالى في الحقيقة ليس محدودا، فإنه يستحيل اتصافه لا بالحركة ولا بالسكون. وتأمل قوله بعد ذلك:" والحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها"اهـ، فإنك تراه قد علق كون الحركة الاختيارية كمالا على مجرد كون الأمر شيئا، أي موجودا، وليس الأمر كذلك، بل الحركة الاختيارية تكون كمالا، لا لذلك فقط بل لكون الأمر موجودا، وكونه جسما، أي متحيزا، وفرق كبير بين كون الشيء جسما وبين كونه موجودا. فالصحيح أن تكون عبارة ابن تيمية السابقة كما يلي: "والحركة الاختيارية للجسم كمال له كالحياة"اهـ لا كما قال. وأنت صرتَ الآن تعرف الفرق الكبير بين العبارتين. فإنك لا يمكن أن تقول بعبارة ابن تيمية إلا إذا كنت مجسما، أي إلا إذا كنت تعتقد أن كل شيء موجود فهو جسم، أي لا يمكن أن يكون الأمر موجودا وشيئا إلا إذا كان جسما، وعلى ذلك فهو يقول بأن الله تعالى جسم بالمعنى المنفي عند المتكلمين وسائر أهل السنة. فالوجود عنده مقيد بالأجسام. وأما إذا كنت تعتقد أنه يمكن أن يوجد موجود ليس بجسم، فإنك تعرف أن عبارته تلك خاطئة، وأن التعبير الصحيح عند ذاك، إنما هو ما اقترحناه عليك. ثم تأمل بهد ذلك في قوله في نهاية كلامه:" فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا، كانت الأولى أكمل"اهـ، فأنت تعرف الآن أن التعبير الذي كان يجب أن يقوله ابن تيمية هو كالتالي: "فإذا قدرنا جسمين أحدهما يتحرك باختياره، والثاني لا يتحرك أصلا، كان الأوَّلُ أكملَ."اهـ هذه العبارة صحيحة، منطقيا، وصادقة واقعيا، وعقليا، وأما عبارة ابن تيمية فهي باطلة بالوجوه الثلاثة المذكورة. وذلك لإمكان وجود موجود ليس بجسم، ولذلك لا يقبل الحركة ولكنه في غاية الكمال وهو الله تعالى واجب الوجود. هذان النصان كانا عبارة عن مجرد تمثيل لكثير من المغالطات الموجودة في كلام ابن تيمية. وسوف نخصص له كتابا نبين فيه تهافت مذهبه وطرق استدلاله.

وبهذه المناقشات السابقة، أرجو أن يكون قد اتضح مدى قوة استعمال المبادئ المنطقية في تحليل الأقوال والمذاهب في مجال الفلسفة وعلم التوحيد.

الباب الثاني مناقشة المخالفين لعلم المنطق

مما مضى نتبين مدى علاقة علم المنطق بغيره من العلوم خاصة علم الكلام وعلم الأصول، ومنه أيضا علم الفقه، وقد احتجنا إلى بيان تلك العلاقة، لأمرين الأول: إثبات ذلك المعنى في نفسه. الثاني: بيان غلط من توهم عدم وجود علاقة بين المنطق والعلوم الشرعية المذكورة، وغيرها. وكما تبنى بعض العلماء مهمة إثبات العلاقة المذكورة، فإن بعضا من العلماء كتبوا في سبيل بيان عدم الحاجة إلى علم المنطق في أي علم من العلوم الشرعية، وبرروا هدفهم ذلك، إما بالاستغناء عن المنطق بمجرد الفطرة، أو بغلط مباحث علم المنطق في نفس الأمر. ولو استعرضنا أسماء المؤيدين لعلم المنطق من حيث العدد والكيف أي درجة العلم والتمكن في سائر العلوم والمعارف، بأسماء المعارضين له بغض النظر عن أسبابهم التي دفعتهم إلى اتخاذ ذلك الموقف، لرأينا رجحان كفة المؤيدين للمنطق والقول بالحاجة إليه، وفائدته على الفريق الآخر، ولرأينا الفرق المعارض تتأرجح به العلل التي دفعت به إلى المعارضة ما بين باحث منصف له نظرات تتأمل المسألة في نفس الأمر، فإما أن يكون ما قاله مصيبا أو غلطا، وهذا لا بأس به ولا يبعثنا إلى مخالفته إلا ما يقوله مما يظهر لنا بطلانه، ومن يمثل هذا القسم قليلون. وطائفة دفعها عدم علمها بحقيقة المنطق إلى معارضته ككثير من العلماء الذين كانوا متخصصين أصلا إما في الحديث أو في اللغة، أو حتى في مجرد الفقه والإفتاء، ولا تحقيق لهم في العلوم العقلية ومنها علم المنطق، فبعض هؤلاء دفعهم عدم علمهم واختلاط عدة أمور عندهم ككون أصل المنطق مأخوذا من الفلاسفة، واختلاط كتب المنطق أو أكثرها بالأمثله المخالفة للشريعة، أو اعتمادهم على كلمات من السلف الصالح من العلماء حملها هؤلاء على مطلق علم المنطق ولم يفرقوا بين أمر وأمر، وغير ذلك من الأسباب. وطائفة ثالثة ممن خالفوا أصلا أصول الحق في علم التوحيد، كالمجسمة والتجريبيين النافين لوجود الله تعالى، وكالماديين بمختلف أصنافهم ومنهم الماديون الجدليون، هؤلاء دفعهم إلى محاولة نقض المنطق كونه بما يحتوي عليه من قواعد كلية، تقوم عليه أصول التوحيد الصحيحة التي يخالفها جميع هؤلاء، أي إن هذه الطائفة لما رأت المنطق هو السلاح الذي يعتمد عليه أهل الحق القائلون بالعقائد الصحيحة، حاولوا نفي ونقض هذه الآلة الفكرية بمختلف الأساليب والطرق، لنـزع أهم سلاح من بين أيدي القائلين بالعقائد الصحيحة. ولما كان ابن تيمية من بين أهم الأسماء اللامعة في هذا الزمان، وقد شاع فكره الخاص بين كثير من العامة والخاصة، حتى رأينا بعض العلمانيين يستندون إلى أفكاره، ورأينا كذلك بعض المخالفين لأصول الإسلام يستندون إلى ما قاله لتبرير كلامهم وتمريره بين الناس. فصار الاحتجاج بكلام ابن تيمية في هذا العصر يشابه –عندهم- الاحتجاج بالكتاب والسنة، وكلما زاد الكاتب من الاستشهاد بعبارات ابن تيمية ومقاطع من كلامه، ازداد حظه من هذه الحياة الدنيا المادية، وقرَّب بهذا الأسلوب ارتفاعَ اسمه بين أقرانه. فالعلاقة حالياً أوشكت أن تكون طردية كليا بين موافقة ابن تيمية والدعوة إلى آرائه وبين ازدياد الكسب المادي. ولكننا لا نلتفت إلى مثل هذه العوارض الزائلة، التي لا تدل على حقائق الأمور، ولا تستهوي إلا نوعا معينا من الناس، فمهما كان الاسم كبيرا وصاحبا معظما فإننا لا نرى هذا مانعا من الإشارة بوضوح إلى مخالفته للحق في نفس الأمر، بمختلف الأدلة والإشارات. ولا يثنينا عن هذا الطريق ما قد نواجهه من عَنَتٍ. ولذلك، ولكون ابن تيمية من أشهر من كتب في الرد على المنطق، فله في ذلك الكتابات المختصرة والمطولة، فإننا أحببنا أن نركز زيادة تركيز على نقض أهم الأدلة والاحتجاجات التي اعتمد عليها في الرد على المنطق. ولن نقتصر على ما قاله ابن تيمية، بل سنضيف إليه كلام بعض الآخرين الذين اشتركوا مع ابن تيمية في محاولته نقض المنطق، وإن اختلفوا معه في أهدافهم ودوافعهم إلى ذلك، بحسب ما أشرنا إليه سابقا. وسوف نخصص الكلام هنا على ذكر الجهات التي ناقض فيها ابن تيمية وغيره علمَ المنطق، ونذكر الرد عليها بشكل مجمل وذلك لأن للتفصيل محلا آخر. ونذكر أيضا الأسباب الحقيقية التي دفعت ابن تيمية إلى الرد على علم المنطق، مستأنسين في ذلك كله بأدلة كافيةٍ للمنصف. ولهذا فسوف نخصص فصلا خاصا لمناقشة ابن تيمية، ونتبعه بفصول أخرى لمناقشة بعض من تكلم في هذا الأمر من العلماء المتقدمين. وبعد أن ننتهي من معارضة ابن تيمية وبيان ضعف أدلته، وتقريراته، سوف نتوجه إلى مناقشة بعض العلماء الآخرين الذين اشتهر عنهم معارضة المنطق، ورفضه، لنتعرف إلى أدلتهم ونـزنَ أقوالهم بالموازين الصحيحة، ومنهم الإمام السيوطي، فسوف نناقشه في كتابه "صون المنطق"، ومن ثَمَّ فسوف نتناول بالنقد أهم الآراء التي نقلها عن المتقدمين من العلماء، ونبين ما فيها من وجهة نظرنا، وهذا الفصل يؤلف قسما مهما من كتابنا. وأخيرا نختم الكتاب بفصل خاص نورد فيه بعض أهم الفتاوى التي تكلم فيها العلماء المتقدمون عن علم المنطق، ونبين ما فيها من مقبول ومردود.

الفصل الأول

موقف ابن تيمية الإجمالي من علم المنطق

نستطيع أن نلخص موقف ابن تيمية من علم المنطق بإيراد النص التالي من كلامه، فقد قال( ): "أما كتب المنطق فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية، وقال بعض الناس إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد، فهذا غلط عظيم عقلا وشرعا. أما عقلا فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني، وأما شرعا فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان. وأما هو في نفسه فبعضه حق وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء وكانت سببا لنفاقهم وفساد علومهم. وقول من قال إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية وأقسام القياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بينَّاه في غير هذا الموضع. وقد بين ذلك علماء المسلمين." اهـ تحليل عبارته هذا هو موقف ابن تيمية من علم المنطق لخصه لنا بعبارته، وسوف نحلل عباراته تحليلا نقديا ليتميز مدى ما فيها من مطابقة للصواب. أولا: لا تشتمل كتب المنطق على علم يؤمر به شرعا

يدعي ابن تيمية أن كتب علم المنطق لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وسياق كلامه يدل على العموم، ونحن نعلم أن الشريعة تأمر بكل ما فيه فائدة ومصلحة للإنسان، إما في عقيدته أو في أعماله. وإذا فرضنا أن علم المنطق لا يشتمل على علم من شأنه أن يكون مأمورا به في الشريعة مطلقا، فمعنى ذلك أنه لا يوجد في علم المنطق أمر من الأمور التي يمكن أن تكون مفيدة للناس في دنياهم وآخرتهم. وهذه النتيجة هي المفهوم من عبارته، ولكنها باطلة للوجوه التالية.

وجوه بطلان قوله 1- نصه على صورة القياس: أن ابن تيمية نفسه قال( ): "أما البرهان فصورته صورة صحيحة، وإذا كانت موادُّه صحيحة، فلا ريب أنه يفيد علما"اهـ، فهو هنا ينص بصراحة على أن صورة القياس المذكورة في علم المنطق صحيحة مطلقا، وأنها إن صحت موادها فلا ريب أن القياس يفيد علما صحيحا، ومعلوم في العقل والشريعة أن ما كان طريقا إلى العلم الصحيح فهو مأمور به شرعا، أو أنه مشروع، فلا يجوز أن يقال إن بعض الطرق الصحيحة المؤدية للعلم غير مأمور بها في الشريعة أو أنها غير مشروعة. فالحاصل أن ابن تيمية تناقَضَ هنا. والحقيقة أن كون صورة القياس صحيحة مطلقا هو أمر اتفق عليه سائر العقلاء ولذلك فقد اتفقوا على القول بها والحض على تعليمها للاستفادة منها، وإنما جئنا بعبارة ابن تيمية هنا لأن غرضنا هو بيان فساد مقدماته التي جاء بها للاعتراض على علم المنطق من نفس كلامه. يبقى هنا شيء، وهو أن ابن تيمية اعترض على حصر المناطقة لمواد البرهان بالمواد التي نصوا عليها، وهذا الأمر سوف نناقشه لاحقا، ولكن من المعلوم أنه إن اعترض على جهة من جهات المنطق وأقر بصحة جهة أخرى منه، فإنه لا يجوز له القول بأن علم المنطق لا يحتوي على علم يؤمر به في الشريعة. 2- اعترافه بصحة أغلب ما أثبته المناطقة: إن ابن تيمية نفسه قد قال( ) أثناء بيانه لفساد علم المنطق وكتب المناطقة:" فهذا موضع ينبغي للمؤمن أن يتيقنه ويعلم أن هؤلاء القوم وغيرهم إنما ضلوا غالبا من جهة ما نفوه وكذبوا به، لا من جهة ما أثبتوه وعلموه."اهـ إذن فإن ابن تيمية يقرُّ بأن المذكور في كتب علم المنطق أمرانِ، الأول ما أثبته المناطقة وقرروه، والثاني ما نفوه. وهو يعترف بصحة أغلب ما أثبتوه، ولكنه يخالفهم ويدعي غلطهم في ما نفوه، إذن بعض المذكور في كتب المنطق صحيح وبعضها غلط عنده، فإذا كان الأمر كذلك فكيف تأتَّى له أن يقول: إن كتب المنطق لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، ونحن نعلم أن طرق العلم الصحيحة قد أمرنا بها شرعا؟! 3- اعترافه بأن بعضه حق: إن ابن تيمية قد عارض نفسه في نفس الفقرة المنقولة عند قوله:"وأما هو في نفسه فبعضه حق وبعضه باطل". ثانيا: اعتراضه على الإمام الغزالي بأن المنطق أساس العلوم اعترض ابن تيمية على الإمام الغزالي في قوله بأن علم المنطق هو أساس العلوم، وادعى بطلان ذلك بالعقل والشرع، ومع أننا قد تكلمنا على فائدة علم المنطق في القسم الأول من هذا الكتاب، إلا أننا سوف نبين فيما يلي كيفية استدلاله العقلي على ذلك، ونبطله، ثم نبين جهة استدلاله بالشريعة وننقض استدلاله أيضاً. أ- استدلال ابن تيمية بالعقل على بطلان كلام الغزالي: حاصل هذا الاستدلال:الادعاء بأن جميع العقلاء قد حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني، ويترتب على ذلك –إن صحَّ- عدم الحاجة بالفعل إلى المنطق. بيان بطلان ادعائه هذا الادعاء غلط، وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن أرسطو من العقلاء، وهو قد حرر علومه بناءا على المنطق الذي أسَّسه. الوجه الثاني: أن ابن تيمية قد اعترف في نفس كتبه بأن كثيرا من المتكلمين قد تأثروا بالمنطق اليوناني وحرروا كتبهم بناءا عليه، مثل الأبهري والرازي والكاتبي والآمدي وغيرهم، وإلا فلم اهتم ابن تيمية كثيرا بالرد على علم المنطق ولم اهتم أيضا ببيان الأغلاط التي قد يقع فيها من يعتمد عليه؟ فإن لم يكن ثَمَّة مَنْ حرر علومه بناءا على هذا المنطق، فما الداعي لهذا الردِّ؟! الوجه الثالث: معلوم أن كثيرا من الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن مّلْكا قد حرروا علومهم وفلسفاتهم بناءا على المنطق. الوجه الرابع: إن ابن تيمية قد ادعى أن بعض الناس قال: "إن كل المنطق حق"، فإذا صح نقله، فإنه يثبت أن هؤلاء قد اعتمدوا على المنطق في تحرير كتبهم لاستحالة العدول عن كل الحق في تأليف وتحرير العلوم عند من يعتقد بذلك عادة. وإذا قصد ابن تيمية أن العقلاء لم يدرسوا نفس كتب المنطق التي كتبها اليونان ومع ذلك فإنهم قد حرروا علومهم، فليعلم أن كلامنا ليس على نفس الكتب كما سبق الإشارة إلى ذلك، بل كلامنا إنما هو منصبٌّ على القواعد المنطقية سواء ذكرت في الكتب أم لم تذكر فيها، ومعلوم أنَّ الإسلاميين قد أكثروا من كتابة الكتب المنطقية أيضا، ومعلوم بالضرورة اعتماد كبير من الناس على هذه الكتب في تحرير العلوم، وقد لا نحتاج نحن في هذا العصر بل حتى في زمان ابن تيمية نفسه إلى قراءة نفس كتب اليونان للاطلاع على قواعد المنطق اكتفاءا منا بقراءة الكتب التي حررها علماء المسلمين في ذلك. ولذلك فإننا يمكننا تحرير ومناقشة علوم غيرنا بناءا على نفس قواعد المنطق ومن دون الحاجة إلى قراءة نفس كتب اليونان. وإذا قصد أن جميع العقلاء قد استغنوا عن جميع القواعد المنطقية التي يذكرها العلماء في كتبهم، ومع ذلك فقد حرروا علومهم، فإن كلامه باطل بالضرورة، وذلك بالالتفات إلى إقراره السابق بأن بعض المذكور في كتب المنطق هو الصحيح تماما، وللعلم بأن صورة القياس من الشكل الأول لا يستغني عنه واحد من الناس مطلقا، وكذلك مواد القضايا التي فيها الحواس والأخبار والتجربة وغير ذلك، فإن ذلك كله وسائل للعلم استخدمها العقلاء جميعا. فالحاصل من ذلك كله أن ادعاء ابن تيمية بأن جميع عقلاء بني آدم قد حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني باطل تماما. ب- استدلال ابن تيمية الشرعي على موقفه من علم المنطق بأن الله تعالى لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان. فهو عبارة عن مغالطة لم يكن ابن تيمية ليستطيع كتابتها لولا اعتماده على القوانين المغالطية التي ذكرها المناطقة وحذروا منها. وبيان ذلك من وجوه الوجه الأول: إذا قصد ابن تيمية أنَّ الله لما لم ينصَّ نصَّاً على وجوب تعلم المنطق اليوناني، فهو إذن حرام وتعلمه باطل لعدم وجود هذا النصِّ. فكلام ابن تيمية على ذلك يكون باطلا تماما، لأنه من المعلوم كما سبق بيانه أن الخلاف ليس هو على قراءة نفس كتب اليونان أو كلامهم، بل هو في إفادة القواعد المذكورة في كتب علم المنطق سواءا وجدت هذه القواعد في كلام اليونان أو في كلام غيرهم. وذلك أنه لا يجوز القول بحرمة الشيء أو بعدم شرعيته لمجرد عدم وجود نص على وجوبه باسمه وشخصه وعينه، لأن كونه مشروعا يمكن أن يؤخذ من عموم الأدلة أو من مطلقها أو بالقياس إلى مثيلها، ولا يلزم وجود النص التفصيلي لذلك. الوجه الثاني: إذا كان ابن تيمية لا يقول بوجوب أو شرعية تعلم أمر ما إلا إذا نصَّتِ الشريعة نصا على ذلك باسمه ورسمه فهو كلام باطل تماما، لأن ذلك يلزم منه تعطيل أوامر الشريعة وعموماتها وإبطال القياس. فحاصل استدلال ابن تيمية على هذا الوجه أنه يقول: لا أقول بشرعية تعلم المنطق اليوناني إلا إذا ورد نص في الشريعة الإسلامية يقول:"إن تعلم المنطق اليوناني مشروع"، ولكن ما دام لا يوجد نص كذلك في الشريعة، إذن فإن تعلم المنطق اليوناني هو أمر غير مشروع. وهذا الكلام باطل لما علم من أن الكلام دائر لا على اسم المنطق وكونه منسوبا إلى اليونان أو إلى غيرهم، بل يُنظَرُ في المسألة من حيث هل هذه القواعد المذكورة في كتب علم المنطق مفيدة أو لا؟ وسواء بعد ذلك أكان العلم مكتشفا كفنٍّ مرتب ومكتوب في الكتب المنسوبة إلى اليونان أو إلى غيرهم. الوجه الثالث: كلام ابن تيمية مغالطة لقوله: "إن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني..الخ"، فعلق كلامه على أمر مُشَخَّصٍ بقوله "هذا المنطق اليوناني" أي إنه اعتبر أن الشريعة لما لم تأمر بتعلم هذا العلم من حيث كونه يونانيا، إذن فهي لم تأمر به مطلقا، وهذه مغالطة مكشوفة. فإن أحدا من العلماء لم يدَّعِ أن المنطق قد أمرت الشريعة به لأنه منطق يوناني أي منسوب إلى اليونان، بل قائل هذا كاذب ومفترٍ على الشريعة، ولا أعلم أحدا من الناس قد ادعى ذلك. ولذلك فإن ادعاء ابن تيمية نفي ذلك يوهم بوجود من قال به، وهذا افتراء على الناس وغلط محض. بل الخلاف كما سبق ذكره هو هل تعلم هذه القواعد المنطقية مشروعٌ أو غير مشروع. وحاصل الجواب إنما يتم بالقول: إذا كانت هذه القواعد صحيحة فتعلمها مشروع، وإلا فغير مشروع. هذا هو ملخص المسألة وكيف يجب أن تبحث، أما إدخال حيثيات وجهاتٍ فيها –ككونه يونانيا- وهي غير داخلة فيها أصلا فهو سفسطة محضة ومغالطة صريحة. الوجه الرابع: إذا كان ابن تيمية يوافقنا –على الأقل- في أن بعض القواعد المذكورة في المنطق صحيحة وتؤدي إلى العلم الصحيح فلا يجوز له أن يخالفنا في أن تعلم هذه القواعد على الأقل أمر مشروع، لأن هذا يكون مخالفة لنفس الشريعة. وظاهر كلامه أنه لا يوجد شيء صحيح تأمر به الشريعة في علم المنطق. فمن ذلك يتبين أن كلام ابن تيمية غير صحيح على إطلاقه.

ثالثا- المنطق بعضه صحيح وبعضه باطل يقول ابن تيمية إن المنطق في نفسه بعضه صحيح وبعضه باطل. ومعنى الأمر في نفسه هو الماهية والحقيقة التي بها هو هو، وحقيقة المنطق هي مجموعة القواعد والقوانين التي إذا اتبعها الإنسان في تفكيره فإنه يجتنب الخطأ. هذا هو معنى المنطق في نفسه. وإذا كان هذا هو معناه في نفسه، فلا يجوز أن يقال مطلقا إن بعضه صحيح وبعضه باطل في نفسه، بل ما كان كذلك في نفسه فهو صحيح مطلقا، وهو مطابق للشريعة مطلقا، وهو مشروع مطلقا. هذا عن المنطق في نفسه، أما المنطق باعتباره مجموعة قواعد مدونة في الكتب، أو إذا كان الكلام عن كتاب معين من كتب المنطق، فلا نستطيع القول مطلقا إن كل ما فيه صحيح، بل يمكن أن يوجد فيه بعض الأغلاط. ولكن هذا المستوى من المعنى -أي كتب المنطق- لا يقال عليه "المنطق في نفسه"، كما لو قلتَ الإسلام في نفسه فهو حقٌّ مطلقا، فكلامك صحيح مطلقا، أما إذا كتب العلماء عن الإسلام كتبا فلا نستطيع الجزم بأن جميع ما يكتبونه فهو صحيح لأنه ربما لا يعبر عن الإسلام كما هو في نفس الأمر. إذن لا يجوز إطلاق القول بأن المنطق في نفسه بعضه باطل وبعضه حقٌّ. رابعا- الباطل مما في كتب المنطق لقد حدد ابن تيمية الباطل مما في كتب المنطق من قواعد بأنه يكاد ينحصر في النفي، فما أثبته المناطقة فأغلبه صحيح ثابت، ولكن بعض ما نفوه فهو باطل، هذا هو حقيقة ما يقول به ابن تيمية، كما سبق الإشارة إليه. ولكنه هنا يقول إن "أكثر أو كثير من الحق الذي في المنطق لا يُحتاج إليه"، وهذا القول غير مسلَّمٍ على إطلاقه هكذا، فإذا قصد أن أكثر الناس ومنهم العوام في العلوم لا يحتاجون إلى أغلب تفصيلات المنطق، فربما يسلم له، ولكن إذا قصد أن أكثر الناس لا يحتاجون إلى أغلب كليات المنطق فهو باطل. وإذا قصد أن أكثر الناس لا يحتاجون المنطق في أكثر الأوقات، فهذا القول يحتاج إلى تفصيل كما سبق. فالمتخصصون في العلوم العقلية يحتاجونه دائما، ويحتاجون إلى تفاصيله، وأما غيرهم من العوام فربما لا يحتاجون إلا إلى بعض كلياته، بل ربما لو تفحصنا حقيقة الواقع، فربما ينتج عندنا إن العوام أيضا يستعملون القواعد المنطقية في أغلب الأوقات، ومن دون دراستهم لها في الكتب. خامسا- البليد لا ينتفع به والذكي لا يحتاج إليه قوله "والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه" فهو كلام يحتوي على مغالطة، ثم بعد ذلك لا يسلَّمُ له. أما المغالطة فبيانها كما يلي: المقصود من المنطق في الحقيقة هو تلك القواعد التي يتبعها الإنسان العاقل السليم الخلقة والصائب في التفكير إذا فكر وأثناء تفكيره. فقد حاول العلماء أن يستقرئوا هذه القواعد ويحددوها، ويستنبطوا ما أمكن من الطرق ثم يدونوها في كتب لكي يسهل على الناس تعلمها والانتباه إليها، فإذا كان هذا هو ما يقصده ابن تيمية بقوله "فأكثر الفطر السليمة تستقل به"، فإن كان يقصد بهذه العبارة: إن هذه القواعد موجودة في الفطرة السليمة، فإن قوله مغالطة، لأن ما تستقل به هذه الفطر السليمة هو حقيقة المنطق محل الكلام، وليس أمرا آخر غير المنطق، فكيف يقول ابن تيمية بعد ذلك إن الفِطَرَ تستقل به، فهل يستقل بالشيء عن عين الشيء؟! فإذا قيل إنه يقصد إن الفطر السليمة تستقل عن تعلم المنطق من الكتب، يقال: إن القواعد المكتوبة في الكتب لا يقال إنها المنطق في نفسه كما سبق ذكره، ولكنها كتابة للمنطق وتعبير عن المنطق، بل المنطق في نفسه هو عين تلك القواعد التي يستخدمها الإنسان أثناء تفكيره لا بقيد وجودها في كتب أو في حافظة الإنسان، فكيف يجوز له أن يقول إن الفطر السليمة تستقل به؟! فهذا هو بيان المغالطة. وأما إن قصد إن الفطرة لا تعتمد في تفكيرها على أي من هذه القواعد المذكورة في كتب علم المنطق، فإن جماهير العقلاء يناقضونه في هذا القول. وأما قوله:"إن البليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه" فهو غير مسلم، فإن البليد إذا زاول الأمر وكرره على نفسه فإنه يترسخ فيه ويستحضره وينتفع به، وهذا هو المسمى بالعقل المكتسب عند العلماء أو الذكاء المكتسب، فإذا كنا نقول بحقية تلك القواعد في نفس الأمر، فلا يجوز أن يقال إن البليد لا ينتفع بها إذا تعلمها. وكذلك لا يجوز أن يقال إن الذكي يستغني عنها، فإن هذا القول يستلزم أن الذكي لا يخطئ أبداً، ولكن لا يوجد ذكي واحد لم يقع في خطأ فضلا عن أخطاء عديدة، بل لا يوجد إنسان معصوم عن الخطأ غير الأنبياء وهؤلاء إنما عصموا بعصمة الله تعالى لهم، فإذا سلمنا أنه لا ذكي إلا ويخطئ، فكيف يمكن دلالة هذا الذكيِّ على خطئه أو تعرفه إليه إلا من خلال اتباع قواعد عامة يفحص بها الذكي معاني ما يقوله ويفكر فيه ويحاكم بها تفكيره بعين القواعد المأخوذة من عقله السليم. وهذه القواعد هي بعينها المنطق. فيلزم إذن احتياج الذكي والبليد إلى علم المنطق، وبالأولى ما بينهما من طبقات من الناس. ويبطل كلام ابن تيمية. بل عدم احتياج الذكي إلى تلك القواعد يستلزم عدم احتياجه إلى لوازم فطرته على حدِّ قول ابن تيمية أو إلى ما هو جزء منها، بل القول بذلك يستلزم القول بعدم احتياج الذكي إلى قواعد مطلقا وهو غير صحيح. سادسا– المفاسد ناتجة عن المنطق أما ادعاء ابن تيمية بأن المفاسد ناتجة عن المنطق فهو غير صحيح، بل المفاسد يمكن أن يقع فيها الواحد لا لمجرد التزامه بدراسة علم المنطق بل إن كثيرا من المفاسد وقعت ممن هم أكثر الناس قربا إلى علم الحديث، فقد كثر فيهم التجسيم والعقائد الفاسدة، ولا يقال إن سبب وقوعهم في هذه المفاسد إنما هو التزامهم بالحديث، بل هو سوء تفكيرهم وسذاجة تدبرهم لمعانيه. وكذلك إذا وقعت مفسدة ممن هم متخصصون بعلم المنطق فلا يقال إن علمهم بالمنطق هو سبب هذه المفسدة، بل سببها هو سوء تدبرهم وتعقلهم أي ممارستهم لنفس هذه القواعد.

سابعا– ادعى البعض أنه كله كلام حق وأما قوله إن البعض ادعى أنه كله كلام حقٌّ، فإذا قصد هذا القائل ما قلناه عن المنطق في نفسه فهو صحيح، وحاصل قوله عندئذ: إن كل ما هو قاعدة صحيحة للتفكير فهو حق، أي إن كل ما هو قاعدة إذا التزم بها الإنسان في تفكيره تعصمه عن الخطأ فهذه القاعدة صحيحة وحقٌّ، فيكون كلامه صحيحا. أما لو قصد أن كل ما كتبه المناطقة في كتب المنطق صحيحٌ، فهذا الكلام باطل، وأنا لم أعرف حتى الآن واحدا قال بهذا المعنى. وابن تيمية في رده على من يقول بذلك يفهم من كلامه أنه يوجد من قال بذلك، وعليه أن يبين لنا هو أو أحد أتباعه من هو القائل، أو يصبح كلامه مجرد ادعاء لا دليل عليه. هذا كان تحليلا سريعا ومختصرا لكلام ابن تيمية الذي يُجْمِلُ فيه رأيَه في علم المنطق، بَـيَّـنَّـا نحن أن كلامه غير منطقي مطلقا وغير صحيح.

الفصل الثاني رد هجوم ابن تيمة على علم المنطق

بعد أن استعرضنا موقف ابن تيمية الإجمالي من علم المنطق، وبينا ضعف حجته بل بطلانها، سنورد الآن أهم الاعتراضات التفصيلية التي ذكرها ابن تيمية على علم المنطق ونناقشها أيضا، لنرى ما فيها. لقد تكلم ابن تيمية على علم المنطق في أكثر من موضع من كتبه، وكتب أكثر من كتاب في بيان اعتراضاته على علم المنطق، بعضها مطوَّل وبعضها مختصر، ولن نورد هنا تفاصيل ما اعترض به ابن تيمية على المنطق، لعدم مناسبة ذلك لهذه الرسالة( )، ولذلك فقد اخترنا أن نناقش هنا رسالة مختصرة كتبها ابن تيمية في نقض علم المنطق، وهي الموجودة في مجموع الفتاوي [9/255-264]، فهي تحتوي على خلاصة ما يقوله في هذا الباب. يذكر عادة في كتب المنطق إجمالا أنه يتألف من ركنين الأول التصورات، والثاني التصديقات، وركن التصورات يتكلم المناطقة فيه على مبادئ التصورات وهي الكليات وعلى مقاصد التصورات وهي التعريفات، وركن التصديقات يتكلم فيه المناطقة على مبادئ التصديقات وهي القضايا، وعلى مقاصد التصديقات وهي الأقيسة، مع ما يلحقونه بهذه الأبواب من مباحث ملائمة للغرض. ابن تيمية ركز في ردِّه على علم المنطق على الكلام على التصورات والتصديقات، وأورد في رده على ما ذكره المنطقيون في كل منهما إيرادات، سوف نبينها ثم ننقدها تباعا. ولكن لأن أكثر الناس على اختلاف طبقاتهم العلمية لا يعرفون الكثير من مباحث علم المنطق! فإننا سوف نمهد لبيان ردنا عليه بشرح بعض القواعد والأصول التي ذكرها المناطقة،مما يكون ملائما للموضوع الذي يتكلم عليه ابن تيمية، وفائدة ذلك هو أن يتضح عند القارئ ما قرره المناطقة أولا، لكي يتمكن بعد ذلك من متابعة ما نذكره من اعتراضات ابن تيمية ونقدنا لكلامه.

تمهيدُ أصولٍ في باب التصورات

أولا: أقسام الدلالة قال الشيخ الحفني( ):"اعلم أن أقسام الدلالة ستة لأن الدال لفظ وغيره، ودلالة كل منهما وضعية وعقلية وطبيعية، فدلالة اللفظ وضعا كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق وعقلا كدلالة اللفظ على لافظه، وطبعا كدلالة أح على وجع الصدر، ودلالة غير اللفظ وضعا كدلالة الإشارة بالرأس أو العين على معنى نعم أو لا، وعقلا كدلالة الأثر على المؤثر، وطبعا كدلالة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل."اهـ فهذه الأقسام من الدلالة يمكن للإنسان أن يستخدمها ليعرف معاني معينة، فهذه الدلالات تبين للإنسان معاني معينة بحسب ما تدل عليه، ودلالة التعريف هي دلالة وضعية، والمقصود بذلك إن قولنا الإنسان يدل وضعا على الحيوان الناطق أو أن نقول إن قولنا الحيوان الناطق يدل وضعا على الإنسان، فهما متساويان، والدلالة والضعية ليست دلالة عقلية محضة، فقولنا "الحيوان الناطق" لا يدل دلالة عقلية على معنى الإنسان، معنى ذلك أن واضع اللغة كان يمكن أن يضع ألفاظا أخرى تدل على معنى الإنسان، لأن الوضع تابع للإرادة، وما يكون تابعا للإرادة، فإنه بالنظر لذاته يمكن زواله. فإذا كانت دلالة التعريف على المعرَّف وضعية، والوضعية تابعة للإرادة فكيف إذن عرفنا معنى الإنسان هل بالوضع أيضا أو بغي الوضع؟ يستحيل أن يكون معنى الإنسان معروفا بالوضع، لأنه لو كان كذلك لما كان عِلما، لأن العلم لا يتصور نقيضه وهذا يتصور، إذن فمعنى الإنسان عرفناه بالعقل لا محالة، وجعلنا اللفظ المؤلف (حيوان ناطق) دالا عليه بالوضع. إذن هناك دالٌّ ومدلول عليه ودلالة، فالدال هو لفظ الحيوان الناطق، والمدلول هو معنى الحيوان الناطق، والدلالة وضعية. فمعنى الحيوان الناطق إذن عُلِمَ بالعقل، والمعرفة العقلية لا تخلو إما أن تكون بديهية أو نظرية مكتسبة، فإن كانت بديهية فلا آلة غير العقل لازمة لإدراكها بل العقل نفسه هو الآلة الكافية لذلك، وإذا كانت مكتسبة فلا بد من آلة نظرية تساعد العقل لذلك. فإذا كان الأمر كذلك، فإننا نعلم أن الشخص الذي يتلفظ بالتعريف لا بد أن يكون قد عرف معنى التعريف بوسائط نظرية عقلية أو بديهية أو ما يشابهها، ثمَّ دلَّ غيره باللفظ على المعنى الذي تعقله. وهذا أمر واضح لا يحتاج لشرح عند العقلاء، ولكن إذا كنا نتناقش المخالفين والمعترضين الذين يسلكون أي سبيل للدفاع عن قولهم، فإننا عند ذاك نكون مضطرين إلى توضيح الأمر الواضح وشرح ما لا يحتاج إلى شرح. ثانيا: الدلالة المعتبرة في كتب المنطق هي الدلالة اللفظية الوضعية المناطقة يعرفون تماما أن دلالة اللفظ على المعنى هي دلالة وضعية، وإن توسط العقل للفهم ولكنها تنسب إلى الوضع أصالة. وهم يعرفون أن المعاني ليست متولدة عن الألفاظ ولكن الألفاظ مشيرة إلى المعاني، وأما المعاني فهي مدركة بالعقل إما بداهة وإما اكتسابا. والدلالات أقسامها متنوعة كما سبق ذكرها، وهم يعرفون أن واضع الحد وهو الحاد يجب أن يتصور المعنى قبل وضع اللفظ ليدلَّ عليه، ولذلك فهم قد أدركوا أن الحد من حيث ما هو معنى أي معنى الحد يتوصل إليه بطرق معينة كما سيأتي ذكره. ولذلك قال ابن سينا( ):"كل علم فإنه إما تصور وإما تصديق، وربما كان التصور بلا تصديق، مثل من يتصور قول القائل: إن الخلاء موجود ولا يصدق به، ومثل ما يتصور معنى الإنسان وليس له فيه ولا في أي شيء من المفردات تصديق ولا تكذيب، وكل تصديق وتصور فإما مكتسب ببحث وإما واقع ابتداء، والذي يكتسب به التصديق هو القياس وما يشبهه من الأمور التي ذكرناها، والذي يكتسب به التصور فهو الحد وما يشبهه من الأمور التي سنذكرها. وللقياس أجزاء مصدق بها ومتصورة وللحد أجزاء متصورة وليس يذهب ذلك إلى غير نهاية، حتى تكون تلك الأجزاء إنما يحصل العلم بها بالاكتساب من أجزاء أخرى وهذا شأنها إلى غير النهاية، ولكن الأمور تنتهي إلى مصدقات بها، ومتصورات بلا واسطة."اهـ فها هو ابن سينا يوضح القسمة الحقيقية للعلوم، وينص صراحة على أن التصديقات منها ما هو بديهي ومنها ما هو نظري، والنظري يكتسب بالبراهين وما يشبهه، وأن التصورات منها ما هو بديهي ومنها ما هو نظري، والنظري يكتسب بالحدود وما يشابهها، وسوف نوضح قريبا ما المقصود بالضبط بكلمة وما يشبهه، ولكن الذي نريد إثباته هنا هو أن الحدود هي طريقة من طرق معرفة التصورات النظرية وليست هي الطريقة الوحيدة، لأن هناك ما يشبه الحدود وهو طريق إلى اكتساب التصورات النظرية. ونقول هنا: إذا أريد بالحد اللفظ المعبِّرُ عن المعنى المطلوب تصوره فهو دال على المعنى المكتسب والدال على الشيء لا يسبقه، فدلالته على المعنى هي دلالة إشارة، وإذا أريد بالحد المعنى المطلوب اكتسابه وتصوره فهو حال كونه نظريا يستحيل أن يكون مكتسبا عند الحاد من نفس الحد اللفظي، بل يجب أن يكون مكتسبا من أمور أخرى تؤدي إليه، ولكن هذا المعنى المكتسب من غير طريق الحد اللفظي بالنسبة للحاد نفسه، يمكن أن يكون مكتسبا بعين الحد اللفظي بالنسبة لغير الحاد، أي إننا عندما نسمع هذا الحد اللفظي من فم الحاد الذي يكون قد توصل إليه بالنظر، فإننا نكتسب تصورا عن مفهوم المحدود ومعناه، وهذا هو الذي يقصده من قال من المناطقة بأن الطريق إلى اكتساب التصورات النظرية هو الحد. ولذلك صرح ابن سينا هنا بأن التصورات النظرية تكتسب عن طريق الحد وما يشبهه. ثالثا: الحد اللفظي طريق إلى التعريف بالماهية لما اهتم المناطقة بالدلالة اللفظية الوضعية، صبوا تركيزهم على الطريقة اللفظية الوضعية التي توضح حقيقة المحدود أو ترسمه، فعرفوها بأنها هي عين الحد والرسم، ولذلك قالوا: إن الطريق إلى اكتساب التصورات النظرية هي الحدود يقصدون بأن الحد هو الطريقة اللفظية الوضعية التي يتوصلون بها إلى تعريف الماهيات وتفهيم الناس حقائق الأشياء ورسومها أي ميزاتها وخواصها. رابعا: الحد أصالة يطلق على المعنى الحد عرفه الأبهري بقوله( ):"الحد قول دالٌّ على ماهية الشيء"اهـ، وهو المسمى بالقول الشارح، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري( ):"سمِّيَ به لشرحه الماهية، ويقال له التعريف ومُعَرِّفُ الشيء ما تستلزم معرفتُه معرفَةَ الشيء المعرَّفِ."اهـ قال الفاضل محمد الفوزي( ):"اعلم أن الحدية حال المعنى وصفته أولا وبالذات وحال اللفظ وبالعَرَضِ."اهـ وقال في شرح المراد بكلمة قول( ):"أيْ: قول معقول أو قول ملفوظ، قال السيد الشريف إن القول حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ."اهـ وقال( ): "فإن قلتَ: لمَّا عبَّر المصنِّفُ عن الحد بالقول ولم يعبر عنه بشيء أو بمؤلف خرج عن تعريف الحد بالكتابة والإشارة بأن على الكاغد: الإنسان حيوان ناطق، وبأن أشير بالإشارة المعهودة في الخارج. قلتُ: إن الحد بالكتابة والإشارة داخلان في تعريف الحد لأن الكتابة دالة على الألفاظ، والألفاظ على المعاني المعقولة، فيكون الحد بالكتابة قولا معقولا وكذا الإشارة دالة على المعاني المعقولة، فتكون قولا معقولا."اهـ إذن فالمراد من الحد أصالة عند المناطقة هو القول العقلي، وبالعرض كل ما يدل عليه من كتابة وتلفظ وإشارة( )، وهذا القول العقلي إما أن يكون بديهيا أو مكتسبا، أما البديهي فنحصل عليه إما عن طريق الحواس أو المتواترات أو ببداهة العقل، وغيرها( )، وأما القول العقلي المكتسب فسوف نفرد له محلا خاصا فيما يلي. خامسا: طريقة اكتساب الحدود الحد من حيث ما هو قول عقلي فإما أن يكون بديهيا أو نظريا (كسبيا)، فالنظري لا بدَّ أن يكون متوصَّلا إليه عن طريق معين، فالحد النظري إذن لا بد له من طريق، وفي هذا الموضع سوف نوضح بعض ما قاله المناطقة في طريقة اكتساب الحدود. قال الإمام الغزالي( ):"الفصل الخامس في أن الحد لا يقتنص بالبرهان ولا يمكن إثباته عند النـزاع، لأنه إن أثبت بالبرهان افتقرت إلى حد أوسط مثل أن يقال مثلا حد العلم المعرفة، فيقال له لِمَ؟ فنقول: لأن كل علم اعتقاد، وكل اعتقاد معرفة، والمعرفة أكبر. وينبغي أن يكون الأوسط مساويا للطرفين، إذ الحد هكذا يكون، وهذا محال لأن الوسط عند ذاك له حالتان وهما أن يكون حدا للأصغر أو رسما أو خاصة. الحالة الأولى: أن يكون حدا وهو باطل من وجهين أحدهما: أن الشيء لا يكون له حدانِ تامان، لأن الحد ما يجمع من الجنس والفصل وذلك لا يقبل التبديل. ويكون الموضوع حدا أوسط هو الأكبر بعينه لا غيره وإن غايره في اللفظ، وإن كان مغايرا له في الحقيقة لم يكن حدا للأصغر. الثاني: إن الأوسط بما عرف كونه حدا للأصغر؟ فإن عرف بحد آخر، فالسؤال قائم في ذلك الآخر، وذلك إما أن يتسلسل إلى غير نهاية وهو محال، وإما أن يعرف بلا وسط فليعرف الأول بلا وسط، إذا أمكن معرفة الحد بغير وسط. الحالة الثانية: أن لا يكون الأوسط حدا للأصغر بل كان رسما أو خاصة، وهو باطل من وجهين أحدهما: أن ما ليس بحد ولا هو ذاتي مقوم كيف صار أعرف من الذاتي المقوم وكيف يتصور أن تعرف من الإنسان أنه ضحاك أو ماشٍ ولا يعرف أنه جسم وحيوان؟ الثاني: أنه الأكبر بهذا الأوسط، إن كان محمولا مطلقا وليس بحد فليس يلزم منه إلا كونه محمولا للأصغر ولا يلزمه كونه حدا. وإن كان حدا فهو محال، إذ حد الخاصة والعرض لا يكون موضوع الخاصة والعرض، فليس حد الضاحك هو بعينه حد الإنسان. وإن قيل: إنه محمول على الأوسط، على معنى أنه حد موضوعه فهذه مصادرة على المطلوب. فقد تبين أن الحدَّ لا يكتسب بالبرهان. فإن قيل: بماذا يكتسب وما طريقه؟ قلنا: طريقه التركيب وهو أن تأخذ شخصا من أشخاص المطلوب بحيث لا ينقسم وننظر من أي جنس من جملة المقولات العشر، فنأخذ جميع المحمولات المقومة لها، التي في ذلك الجنس، أو في الشيء الذي يقوم لها كالجنس ولا يلتفت إلى العرض واللازم بل يقتصر على المقومات ثم يحذف منها ما تكرر ويقتصر من جملتها على الأخير القريب، وتضيف إليه الفصل. فإن وجدناه مساويا للمحدود من وجهين فهو الحد، ونعني بأحد الوجهين الطرد والعكس والتساوي مع الاسم في الحمل، فمهما ثبت الحد انطلق الاسم، ومهما انطلق الاسم حصل الحد. ونعني بالوجه الثاني المساواة في المعنى، وهو أن يكون دالا على كمال حقيقة الذات لا يشذ منها شيء، فكم من ذاتي متميز ترك بعض فصوله، فلا يقوم ذكره في النفس صورة معقوله للمحدود، مطابقة لكمال ذاته، وهذا مطلوب الحدود، وقد ذكرنا وجه ذلك. ومثال طلب الحد: أنا إذا سئلنا عن حد الخمر، فنشير إلى خمر معينة ونجمع صفاته المحمولة عليه، فنراه أحمر يقذف بالزبد وهذا عرضي فنطرحه. ونراه جسما أو مائعا وسيالا وشرابا مسكرا ومعتصرا من العنب، وهذه ذاتيات فلا نقول (جسم مائع سيال شراب) لأن المائع يغني عن الجسم، فإنه جسم مخصوص والمائع أخص منه. ولا نقول مائع لأن الشراب يغني عنه ويتضمنه، وهو أخص وأقرب فتأخذ الجنس الأقرب المتضمن لجميع الذاتيات وهو (شراب) فنراه مساويا لغيره من الأشربة، فنفصله عنه بفصل ذاتي لا عرضي، كقولنا (مسكر يحفظ في الدن أو مثله) فيجتمع لنا(شراب مسكر). فننظر هل يساوي الاسم في طرفي الحمل فإن ساواه فتنظر هل تركنا فصلا آخر ذاتيا لا تتم ذاته إلا به؟ فإن وجد معناه ضممناه إليه، كما إذا وجدنا في حد الحيوان أنه جسم ذو نفس حساس، وهو يساوي الاسم في الحمل، ولكن ثَمَّ فصل آخر ذاتي وهو المتحرك بالإرادة، فينبغي أن تضيفه إليه. فهذا طريق الحدود لا طريق سواه"اهـ هذا هو كلام الإمام الغزالي في شرح كيف تكتسب الحدود، وهو وإن كان طويلا إلا إنه مفيد في هذا الباب وواضح، خاصة بالنظر إلى المثال الذي ذكره. والقواعد التي ذكرها الإمام الغزالي في هذا الكتاب قد تعرض إليها المتقدمون والمتأخرون من المناطقة، وسوف ننقل فيما يلي بعض النصوص الأخرى لفحول المناطقة لنبين اشتهار هذا المعنى لديهم. قال الخواجه نصير الدين الطوسي( ):"ولا يكتسب الحد بالبرهان لأن المقومات لا يلحق بعلل غير أنفسها، ولذلك تكون واضحة بذواتها، فلا وسط أوضح منها، بل بتركب الذاتيات المقومة على ترتيبها الطبيعي وإيراد الفصول المحصلة لوجود أجناسها أجمع. وينتفع في ذلك بتحليل الشيء إلى ذاتياته حتى ينتهي إلى أعلى الأجناس وفصولها المقسمة، وبقسمته إلى جزئياته وأجزائه حتى يعرف ما من شأنه أن يلحقه."اهـ قال الحلي في شرحه( ):"لمَّا منع من اكتساب الحد بالبرهان ذكر الكاسب له، وهو تركيب الذاتيات المقوِّمة على ترتيبها الطبيعي، بأن يقدم الأعم على الأخص كما هو متقدم عليه بالطبع كما تقول الإنسان حيوان ناطق، ويكتسب الحد أيضا بإيراد الفصول المحصلة لوجود الأجناس أجمع، القريب منها والبعيد والمتوسط".اهـ وكذلك نص العلامة الساوي على ذلك فقرر أن الحد لا يكتسب بالبرهان ولا بالقسمة ولا بالاستقراء ولا من جهة حدِّ الضدِّ، ثم قال( ):"فإذا تزيفت هذه الطرق كلها فلنبين طريق اقتناص الحد وهو طريق التركيب، وذلك بأن نعمِدَ إلى الأشخاص التي لا تنقسم من جملة المحدود سواء كان المحدود جنسا أو نوعا، ونتعرف المقولة التي هي واقعة فيها من جملة المقولات العشر، ولا نكتفي بشخص واحد بل إن كان المحدود جنسا التقطنا أشخاصا مع أنواع واقعة تحته، أو كان نوعا قصدنا إلى عدة من أشخاصه ونأخذ جميع المحمولات المقومة لها التي في تلك المقولة من الأجناس وما هو كالأجناس والفصول أو فصول الأجناس، وأعني بقولي ما هو كالأجناس الموضوع المأخوذ في ماهية أعراض الذاتي الذي كالأنف للفطوسة، ثم نأخذ الأعم ونردفه بالخاص القريب مقيدا به على ما عرفت التقييد، ونجتهد في الاحتراز من التكرير مثل أن نقول جسم ذو نفس حساس حيوان، فإن الحيوان تكرر تارة مفصلا وتارة مجملا، فإذا جمعت هذه المحمولات على هذا الوجه نازلا من الأعم إلى الأخص ووجدتها مساوية للمحدود في الحمل والمعنى كان القول المؤلف منها دالا على كمال حقيقة الشيء، وهو الحد"اهـ ثم شرع في شرح مكملات وشروط التعريف وكيفية الوصول إليها في طريقة التركيب ثم قال( ):" والقسمة وإن عزلناها عن رتبة إفادة الحد فلها معونة في طريق التركيب"اهـ وشرح تفاصيل هذه المعونة مما لا حاجة لنا إليه هنا. فأنت ترى إذن أن المناطقة قد شرحوا بالضبط طريقة الوصول إلى التعريف، وهذه الطريقة هي المشهورة على ألسنتهم وإن كان للبعض تحقيقات وتدقيقات لا داعي للخوض فيها في هذا المقام، فالغاية من إيراد كلامهم إنما هي الدلالة على أنهم قد نصوا بوضوح في كتبهم على طريق الوصول إلى الحدود المكتسبة. سادسا: فائدة التعريف إما تصور الكنه أو تمييز المعرَّفِ قال العلامة التفتازاني( ):"معرِّفُ الشيء ما يقال عليه لإفادة تصوره"اهـ. قال الملا عبدالله( ): "وقد علمت أن المقصود بالذات في هذا الفن هو البحث عنه وعن الحجة، وعرفه بأنه ما يحمل على الشيء أي المعرَّف ليفيد تصور هذا الشيء إما بكنهه أو بوجه يمتاز عن ما عداه"اهـ إذن للحد فائدتان الأولى هي تصوير المعرَّف، والثانية تمييزه عما عداه. فمعرفة المعرَّف تكون بالتعريف بالحد التام، وأما تمييزه فهي تكون بالتعريف بالحد الناقص وبالرسم، كما تكون بالحد التام. وقد علَّقَ ميرزا محمد علي على عبارة الملا عبدالله في حاشيته فقال( ): "قوله أو بوجه يمتاز عن جميع ما عداه: هذا التعميم ليشتمل التعريفُ على الحدود الناقصة والرسوم فإنها لا تفيد تصور الشيء بالكنه بل امتيازه عن جميع ما عداه كما سيأتي. وفيه إشارة إلى دفع ما ربما يتوهم من أن أحد الأمرين لازم هنا، إما عدم كون هذا التعريف جامعا أو اشتمال تعريف القوم على مستدرك حيث قالوا: هو ما يستلزم تصوره تصور الشيء أو امتيازه عن كل ما عداه كما هو ظاهر. وحاصله: أن التصور هنا أعم منه في عبارة القوم، فإن مرادهم منه التصور بالكنه، فلذا احتاجوا إلى زيادة قولهم أو امتيازه عن كل ما عداه فلا يلزم محذور، هذا ولا يقال إن ما يفيد تصوره تصور الشيء بالكنه يفيد تصوره بوجه يمتاز عن جميع الأغيار أيضا فلا يصح العطف بأو المفيدة للتقابل وإلا يلزم أن يجعل الشيء قسيما له. لأنا نقول: المراد أو بوجه يمتاز عن جميع ما عداه من غير أن يفيد الاطلاع على الكنه، فصار حاصل المعنى: أن المعرف ما يفيد تصوره تصور الشيء إما بوجه يمتاز عن جميع ما عداه مع الاطلاع على الكنه أو بوجه يمتاز عن جميع ما عداه من غير أن يطلع على الكنه. أو نقول: المقصود بالذات في الشق الأول هو الاطلاع على الكنه وإن استلزم ذلك الامتياز عن جميع الأغيار، لكنه غير مراد بخلافه في الشق الثاني، فإن المقصود فيه هو نفس الامتياز فقط. فافهم."اهـ وهذا الكلام صريح في إفادة التعريف لأحد الأمرين إما تصور الحقيقة والكنه أو بتمييز المعرَّف عن غيره. وقد صرح الإمام الغزالي بذلك فقال( ): "والكلي يفهم فهما جمليا كالمفهوم من مجرد اسم الجملية وسائر الأسماء والألقاب للأنواع والأجناس. وقد يفهم منهما ملخصا مفصلا محيطا بجميع الذاتيات التي بها قوام الشيء متميزا عن غيره في الذهن تميزا تاما ينعكس على الاسم وينعكس عليه الاسم."اهـ ثم قال( ):"وما يفهِّمُ الشيءَ هذا الضربَ من الفهم يسمى حدا كما أن ما يُفَهِّمُ الضرب الأول من التفهيم يسمى اسما ولقبا. والفهم الحاصل من التحديد يسمى علما ملخصا مفصلا، والعلم الحاصل بمجرد الاسم يسمى علما جمليا. وقد يفهم الشيء مما يتميز عن غيره بحيث ينعكس على اسمه، وينعكس الاسم عليه، ويتميز بالصفات الذاتية المقومة التي هي الأجناس والأنواع والفصول بل بالعوارض والخواص، فيسمى ذلك رسما."اهـ سابعا: الصفات الذاتية والعارضة المنطقيون يقسمون اللفظ إلى كلي وجزئي، فالكلي هو الذي معناه الواحد في الذهن يصلح لاشتراك كثيرين فيه كالإنسان والحيوان، والجزئي هو الذي معناه الواحد لا يصلح لاشتراك كثيرين فيه البتة مثل زيد إذا أريد به هذا المشار إليه جملة لا صفة من صفاته.( ) ثم يقسِّمُ المناطقة الكليَّ إلى ذاتي وعرضي، وننقل إليك ما قال الساوي في هذا الموضوع( ):"إذا عرفت أن الكلي المحمول على الشيء قد يكون حقيقة الشيء وقد يكون أمرا آخر وراء حقيقته، فلنبين أقسامه على التفصيل، فنقول: اللفظ المحمول إما أن يكون دالا على حقيقة الشيء أو على صفة له، وأعني بالصفة ما هو كالجسم والأبيض بالنسبة إلى الإنسان لا كالبياض والجسمية، فإن مثل البياض لا يكون محمولا على الإنسان إلا بالاشتقاق، أي يشتق منه له اسم كالأبيض ويحمل عليه كما سنبين بعد. والصفة المحمولة إما أن تكون داخلة في ذاته يلتئم منها ومن غيرها ذات الشيء وتسمى مقومة ذاتية أو لا تكون داخلة في ذاته بل توجد بعده وتسمى عرضية، فمنها ما يلزم الذات ويخص باسم العرضي اللازم وإن كان المقوم أيضا لازما ومنها ما يفارق الذات ويسمى العرضي المفارق. فالمحمولات هي هذه الدال على الماهية، والذاتي المقَوِّم والعَرَضيّ اللازم والعرضي المفارق" ثم شرع العلامة الساوي في شرح الذاتي فقال( ): "الذاتي هو الذي يفتقر إليه الشيء في ذاته وماهيته، مثل الحيوان للإنسان، فإن الإنسان لا يتحقق في ماهيته إلا أن يكون حيوانا، وكذا البياض لا يتحقق في نفسه إلا أن يكون لونا، وأما ما يفتقر إليه الشيء في وجوده لا في ماهيته فليس بذاتي، مثل كون الجسم متناهيا وكون الإنسان مولودا، ولذلك يمكن أن يسلب التناهي والولادة عن الجسم والإنسان في التصور، فيتصور جسم غير متناه وإنسان غير مولود، ولا يمكن أن يتصور إنسان ليس بحيوان. وهذا وإن لم يكن فرقا عاما بين الذاتي وما ليس بذاتي فإن مما ليس بذاتي ما يمتنع سلبه عن الشيء، لكنه فرق بين هذه الأمثلة. وقد قنع بعضهم بهذا القدر في تعريف الذاتي فقال: الذاتي هو الذي لا يمكن رفعه عن الشيء وجودا وتوهما، وهذا غير كافٍ في تمييز الذاتي عن غيره، فإن من اللوازم ما لا واسطة بينه وبين الشيء بل يلزمه لذاته كما تعرفه، ومثل هذا يمتنع رفعه عن ملزومه مع استثبات الملزوم وجودا ووهما، فإذن الذاتي مختص بزيادة على هذا القدر وهي أنه مع كونه معقولا للشيء ممتنع الرفع عنه يسبق تصوره على تصور ما هو ذاتي له. وبيان هذا أن كل شيء له ماهية ملتئمة من أجزاء فإنما توجد في الأعيان إذا كانت أجزاؤها موجودة حاضرة معها، وحضور أجزائها هو وجودها أولا وبقاؤها ما دام الشيء باقيا، وإذا لم توجد في الأعيان إلا على هذا الوجه، وهذا هو تقدم الأجزاء عليه تقدما بالذات لا بالزمان، فكذلك لا توجد في الأذهان إلا على وفق وجودها في الأعيان، إذ العلم صورة الذهن المطابقة للأمر الموجود، فتكون الأجزاء سابقة في التصور كما هي في الوجود، فإذا أخطرت الماهية بالبال وأخطرت أجزاؤها معقولة أولا، مثل الحيوان والناطق اللذين هما داخلان في ماهية الإنسان، فلا يمكن أن يعقل الإنسان إلا وقد عقل أولا الحيوان والناطق، نعم ربما لم يكونا مفصلين في الذهن وليس كل ما لا يكون مفصلا لا يكون معلوما، فكثير من المعلومات ليس مفصلا، وأما اللوازم فلا يسبق تصورها على تصور الشيء بل إذا تم الشيء تصور لزومها تابعة إياه في الوجود أو الماهية. فللذاتي أوصاف ثلاثة يشاركه بعض اللوازم في اثنين منها الأول: أن الذاتي إذا خطر بالبال وأخطر ما الذاتي ذاتي له بالبال علم وجود الذاتي له لا محالة بحيث يمتنع سلبه عنه، وبعض اللوازم أيضا كذلك. والثاني: أن الذاتي متقدم في التصور على ما هو ذاتي له، وهذا هو الوصف الذي لا يشاركه فيه شيء من اللوازم، وهي الخاصة التي لا يشاركه فيها شيء من اللوازم. والثالث: أن لا يكون مستفادا للشيء من غيره، فليس الإنسان حيوانا لعلة جعلته حيوانا، بل لذاته هو حيوان، إذا لو كان لعلة لأمكن فرضه إنسانا غير حيوان عند فرض عدم العلة، وليس هذا مصيرا إلى أن الحيوان وجد لذاته من غير علة أوجدته، كلا بل المراد أن شيئا ما لم يجعل الإنسان حيوانا، نعم الذي جعل الإنسان فقد جعل الحيوان بجعله الإنسان، لأن الإنسان حيوان ما، فإحداثه إحداث حيوان ما. أما أن يقال جعل الإنسان ثم أفاده الحيوانية فلا، إذا تكون الإنسانية متقومة دون الحيوانية، ثم تكون الحيوانية واردة عليه من خارج وهو محال. وهذا الوصف أيضا مما تشركه فيه اللوازم التي تلزم الشيء لماهيته لا في وجوده، مثل كون الثلاثة فردا، أو المثلث مساوي الزوايا لقائمتين، فليست الفردية موجودة لعلة أفادتها، بل الثلاثة في نفسها وماهيتها لا تكون إلا فردا، فإذا أوجدت علةٌ ثلاثةً فقد أوجدت فردا لا أنها أوجدت الفردية للثلاثة، ففرق بين أن يوجد شيئا وبين أن يوجده لشيء، فإن مقتضى قولنا يوجده لشيء أن يوجد ذلك الشيء دون ذلك الأمر ثم يفيده بعد ذلك الأمر."اهـ وقال الساوي في شرح ماهية العرضي( ):" العرضي ينقسم إلى لازم ومفارق، واللازم إما أن يلزم الشيء في ماهيته أو لأمر من خارج، وما يلزمه في ماهيته قد يكون بينه وبين الشيء وسط وقد لا يكون وسط، وأعني بالوسط ما يلزمه اللازم أولا ثم بسببه يلحقه الشيء، فما لا وسط بينه وبين الشيء يكون بين اللزوم له، فيمتنع رفعه عنه في الوهم، وإن لم يكن ذاتيا فلا تغتر بقولهم إن الذاتي هو الذي يمتنع رفعه عن الشيء، وما ليس بذاتي فلا يمتنع رفعه، فإن مثل هذا اللازم ليس بذاتي مع امتناع رفعه عن الشيء وجودا ووهما، ومثاله كون الثلاثة فردا، وكون الإنسان مستعدا لقبول العلم، وما له وسط فيمتنع رفعه أيضا إذا علم وجوبه ولزومه من جهة ذلك الوسط اللهم إلا إذا لم يعلم بعد لزومه بسبب ذلك الوسط، وهذا مثل كون المثلث مساوي الزوايا بالقائمتين. وأما اللازم بسبب أمر خارجي فمثل الأسود للزنجي والذكر والأنثى للحيوان والأبيض للطائر المسمى قِفدُساً، ومثل هذا قد يفارق الشيء وهما مع بقاء الشيء بعينه في الذهن"اهـ فمن ذلك يتضح الفرق بين اللازم والعرضي وسوف يزداد هذا الأمر وضوحا بما ننقله لاحقا عن بعض المحققين.

نقض إيرادات ابن تيمية على التصورات

بعد أن بينا بعض المقدمات المهمة في المنطق، نشرع هنا في ذكر اعتراضات ابن تيمية على علم المنطق، ومناقشته فيما قال. الاعتراض الأول: المعرفة التصورية محصورة بالحد

قال ابن تيمية( ): "وأما الحد فالكلام عليه في مواضع

أحدها: دعواهم أن التصورات النظرية لا تعلم إلا بالحد الذي ذكروه، فالقول فيه كالقول في أن التصديقات النظرية لا تحصل إلا بالبرهان الذي حصروا مواده، ولا دليل على ذلك، ويدل على ضعفه أن الحادَّ إن عرف المحدود بحدٍّ غيره فقد لزم الدور أو التسلسل، وإن عرفه بغير حدٍّ بطل المدعى. فإن قيل: بل عرفه بالحد الذي انعقد في نفسه كما عرف التصديق بالبرهان الذي انعقد في نفسه قبل أن يتكلم به، قيل: البرهان مباين للنتيجة، فإن العلم بالمقدمتين ليس هو عين العلم بالنتيجة، وأما الحد المنعقد في النفس فهو نفس العلم بالمحدود، وهو المطلوب، فأين الحد المفيد للعلم بالمحدود."اهـ هذا هو ما قاله ابن تيمية في الموضع الأول من نقضه لمبحث التصورات، والحقيقة أن الذي ينظر في كلامه من غير تمعن ولا تدبر، فإنه يغتر به ويحسبه الظمآن ماءا، وقد انجر وراء هذا الإشكال بعض الباحثين في هذا العصر وحسبوا أن هذا الإيراد قوي ومبني على أسس متينة، فقلدوا ابن تيمية وأظهروا إعجابهم به، وهذا إن دلَّ فإنه يدل على أمرين الأول: انحراف نفوس هؤلاء الناس إلى الغربيين. والثاني: جهلهم بكثير من أصول علم المنطق. فالثاني واضح، وأما الأول فقد يستغربه القارئ، ولكننا توضيحا لذلك نقول: إن الموجة السائدة في الغرب في هذه العصور هي موجة نقد وإبطال كل ما يمت إلى الأصول العقلية الراسخة التي لا تنبني العقائد إلا عليها، والغرب مائل كذلك إلى القواعد العملية أكثر من ميله إلى العقليات حتى بلغ بالبعض أن يضع اللغة موضع التفكير نفسه( )، وهذا مغالاة في إنكار العقليات التي لا تحس بالحواس الخمس بل تدرك إدراكا عقليا. فلما رأى هؤلاء المقلدون التيار الغربي ووجدوه قد وجه كل همه لدحض المنطق اليوناني بحق أو بغير حق، بل ونفى كل قاعدة منطقية سواء أكانت من اليونان أم من غيرهم، بحث بين المسلمين عمن حاول نقض القواعد المنطقية فوجد ابن تيمية، فلهج لسانه بذكر عبقريته! يحاول بعضهم إثبات السبق وبعضهم إثبات موافقته لهم. ولم يدرك هؤلاء المنبهرون بالتيار الغربي أن المقاصد الحقيقية التي دفعت ابن تيمية إلى نقض علم المنطق وإيراد هذه الشبهات إنما هي إيمانه بأن الله تعالى جسم وله خصائص الأجسام، واعتقاده التام بمذهب التجسيم كما وضحناه في كتاب الكاشف الصغير. فإن القواعد المنطقية آلة قوية لدحض المقولة القائلة كل موجود فهو في جهة وغير ذلك من مبادئ مذاهب المجسمة. وعلى كل حال وبغض النظر عن المقاصد الحقيقية الكامنة وراء هجمة كل فريق من هؤلاء الثلاثة (وهم ابن تيمية ومن تبعه، والغربيون، ومقلدو الغربيين من المعاصرين على اختلاف هوياتهم الفكرية) على المنطق، فإننا سوف نناقش هذا الإشكال الذي أورده ابن تيمية ونبين بطلانه في نفسه بالأدلة الواضحة، بل نكشف كيف يبني ابن تيمية مغالطاته في كلامه كله بتوفيق الله تعالى. نقد الاعتراض الأول: يدعي ابن تيمية أن حصر المناطقة لطرق تحصيل التصورات النظرية في الحد ضعيف، وذكر دليلا على ذلك، وقبل مناقشة الدليل سوف نلخص هنا مراد المناطقة في قولهم إن الطريق إلى اكتساب التصورات النظرية هو الحد وإن كنا قد ذكرنا ذلك فيما سبق. المناطقة بعد أن قسموا الدلالة إلى الدلالة اللفظية والدلالة غير اللفظية، وقسموا اللفظية إلى العقلية والوضعية والطبيعية، نصوا على أن اهتمامهم ينصبُّ على الدلالة اللفظية الوضعية، وبالتالي عرَّفوا الدلالة فقالوا هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر( )، لزم عندهم بعد ذلك أن تكون طريق اكتساب التصورات هي الحدود وشبهها. وهذا لا يعني أن الحس والبداهة وغير ذلك ليس طريقا للمعرفة، بل هو ليس من الطرق اللفظية الوضعية. بناءا على ذلك فالتعريفات هي الطريقة بالفعل إلى إدراك التصورات النظرية، إذ لا طريق لفظيا وضعيا غيرها ينفع في ذلك. وأيضا ما يشابه التعريف فهو طريق إلى اكتساب التصورات النظرية نحو طريقة التركيب التي وضحناها سابقا. الدليل الذي يورده ابن تيمية على ضعف قول المناطقة السابق هو مجرد مغالطة، وبيان ذلك في النقاط التالية قوله( ويدل على ضعفه أن الحاد إن عرف المحدود بحد غيره فقد لزم الدور أو التسلسل) لو سلمنا أن الحد لا يعرف إلا بحدٍّ آخر غيره، فإن التسلسل لازم أو الدور، فهذا الكلام صحيح. ولكن لا أحد يقول إن الحد لا يعرف إلا بحد غيره، كما عرفنا وسنعرف. فكلام ابن تيمية هنا لا داعي له. وقوله (وإن عرفه بغير حد بطل المدعى) هذا الكلام غير مسلَّمٍ، لأن المناطقة لم يحصروا كل الأقوال العقلية وهي معنى الحد بالحد اللفظي حتى تكون هذه القسمة حاصرة، ويكون كلام ابن تيمية موجها، ولكنهم نصوا على أن التصورات تكتسب بالحد وبما يشبهه مما هو طريق إلى التصورات الكسبية وهي طريقة التركيب، فالجواب إذن على ابن تيمية أن المحدود إما أن يعرف بالحد وإما أن يعرف بطريقة التركيب، طريقة التركيب تعود إلى طرق عقلية بديهية أو تعود إلى الحواس وغيرها، فلذلك لا يلزم الدور ولا يلزم التسلسل، ولا يلزم بطلان المدعى الحقيقي أيضا. فابن تيمية إذن لم يبين قول المناطقة على حقيقته ولذلك فإن قارئ هذا الاعتراض الغافل عن معرفة المنطق يتوهم قوته، ولكن إذا التفت إلى ما قلناه تبين له تهافته. قوله(فإن قيل بل عرفه...الخ) هذا جواب فاسد يقترحه ابن تيمية للمناطقة، وهو ليس جوابا لهم. والجواب الصحيح للمناطقة هو أن معنى الحد وهو القول العقلي يعرفه المنطقي في التصورات النظرية بالتركيب على قول الجمهور من المناطقة، وبطرق أخرى على قول غيرهم، ولا يقال إن الإنسان يعرف المحدود بالحد الذي انعقد في نفسه، بل إنه عندما يلاحظ المحدود في الخارج يحلله ويطبق عليه التقسيم كما مرَّ ويسبره حتى يتوصل إلى قول عقلي يساوي المحدود. فالحادُّ هو الذي يمارس العمليات العقلية التي تفضي به إلى معرفة الصفات المعبرة عن المعّرَّف، كعملية التركيب، فإذا توصل هذا الحادُّ إلى ذلك، عبر عنه بكلمات معينة مرتبة، ليوصلها إلى غيره، وهذا الغير يسمعها منه فيستفيد معرفة حدِّ المعرَّفِ عن طريقها. قوله(قيل البرهان مباين للنتيجة..الخ) أقول: سلمنا أن العلم بالمقدمتين ليس هو عين العلم بالنتيجة، ولكن إذا قلنا إن العلم بالحد إنما يتم عن طريق التركيب فالتركيب ليس هو عين العلم بالنتيجة، فكما تعلم النتيجة في التصديقات بالبرهان، فأنت تعلم الحدَّ في التصورات بالتركيب وهو غير الحد فلا يلزم على ذلك دورٌ ولا تسلسل. فالحاصل أن كلام ابن تيمية في هذا الإيراد مغالطة مكشوفة البطلان، وهذا هو أشهر إيراداته على علم المنطق!

الاعتراض الثاني لابن تيمية: الحد لا تعرف به ماهية المحدود بحال قال ابن تيمية( ): "الموضع الثاني وهو أن يقال إن الحد لا تعرف به ماهية المحدود بحال، بخلاف البرهان فإنه دليل إلى المطلوب أما بالنسبة إلى الحادِّ فلأنه عرف الشيء قبل أن يحده، وإلا لم يحصل حده، لأن الحد يجب أن يطابقه عموما وخصوصا، ولولا معرفته به قبل أن يحده لم تصح معرفته بالمطابقة، وأما بالنسبة إلى المستمع فلأن معرفته بذلك إذا لم تكن بديهية ولم يقم الحاد عليه دليلا امتنع أن يحصل له علم بمجرد دعوى الحاد المتكلم بالحد، ولهذا تجد السامع يعارض الحد ويناقضه في طره وعكسه، ولولا تصور المحدود بدون الحد لامتنعت المعارضة والمناقضة. وإنما فائدة الحد التمييز بين المحدود وغيره لا تصويره، وهو مطابق لاسم الحد في اللغة، فإنه الفاصل بينه وبين غيره، وذلك أنه قد يتصور ماهية الشيء مطلقا. مثل من يتصور الأمر والخبر والعلم فيتصوره مطلقا لا عاما، فالحد يميز العالم الذي يدخل فيه كل خبر وعلم وأمر، ومن هنا يتبين لك أن الذي يتصور بالبديهة من مسميات هذه الأسماء وهو الحقيقة المطلقة غير المطلوب بالحد، وهو الحقيقة العامة، ثم التمييز للأسماء تارة وللصفات أخرى، فالحد إما بحسب الاسم وهو الحد اللفظي الذي يحتاج إليه في الاستدلال بالكتاب والسنة وكلام كل عالم، وإما بحسب الوصف وهو تفهيم الحقيقة التي عرفت صفتها، وهذا يحصل بالرسم والخواص وغير ذلك. "اهـ هذا هو الاعتراض الثاني الذي أورده ابن تيمية على التصورات. نقد الاعتراض الثاني: سوف نشرع في نقضه جملة جملة فيما يلي: قوله(إن الحدَّ لا تعرف به..الخ) أما بالنسبة للحاد، فإننا قد بينا أن المناطقة صرحوا أن الطريق لاكتساب الحد هو التركيب، فهم يتوصلون إلى معرفة ماهية المحدود من التركيب لا من ذات الحد، ولكنهم يجعلون الحد علامة وعبارة ملخصة مفصلة على ماهية المحدود، ليعرف من يقرأها حقيقة المحدود وماهيته. فالحد هو طريقة لتعريف القارئ والمتعلم بماهية المحدود، ولم يدَّعِ أحد منهم إن الحاد إنما يعرف حقيقة المحدود بالحدِّ نفسه، فإن الحدَّ قول مؤلَّف، فالتأليف وهو فعل إرادي لا بدَّ له من فاعل، وهذا الفاعل هو الحادُّ نفسه، وغاية الحاد في تأليف هذا القول هو بيان وتعريف المحدود لا لنفسه أصالة بل لغيره، فهو قد عرف الحدَّ أو التعريف بغير عين الحدِّ والتعريف، وما دام الأمر كذلك فاعتراض ابن تيمية هذا لا يتوجه عليهم مطلقا. وأما بالنسبة إلى السامع للحد، فقد مرَّ كلام الإمام الغزالي أن السامع يكون عنده معرفة إجمالية بالمحدود عن طريق معرفته لاسمه اللغوي ولكنه عندما يستمع إلى الحد فإنه تصبح عنده معرفة ملخصة مفصلة، وقد نص المناطقة كما ذكرنا أن الحدَّ لا يقام عليه البرهان، ولذلك فإن المستمع إذا أراد أن يعرف صحة هذا الحد الملقى إليه، فعليه أن يسير في طريقة التركيب الاستدلالية التي سار فيها الحادُّ مِن قَبْلِهِ ليتأكدَ مما يريد. ولكن إذا أراد السامع أن يعارض الحدَّ الذي يسمعه، فمعنى معارضته هذه إنما هو عدم موافقته على أن حقيقة المحدود هي كما وضحها بالحد، وهذه المعارضة لا بد أن تنبني على معرفة أخرى، ويتم بيان عدم صلاحية الحد الأول بطرق ذكرها العلماء في كتب المنطق وغيرها، فإنَّ عليه –مثلا- أن يأتي بفرد ينقض به هذا الحد إما فرد يجب أن يدخل وهو غير داخل، أو بفرد يجب أن يخرج وهو داخل. فهذا هو السبيل الذي يسلكه السامع للتأكد أو لمعارضة الحدِّ. ولا يجوز أن يقال إن السامع لا يمكن أن يستفيد شيئا من الحد الملقى إليه بحجة أنه يمكن أن يعارضه أو ينقضه، فإن نقضه إما أن يكون مبنيا على معرفة صحيحة أو لا، والمعرفة الصحيحة إذا كانت قبل الحد فنسلم عدم استفادته ذلك من الحد، ولكن لا بد أن يكون قد أجرى طريقة التركيب بنفسه لأن محل الكلام هو التصورات الكسبية النظرية، وإذا حصل له التسليم في نفسه بعد معرفته للحد فهذا يستلزم استفادته من الحد، فلا يجوز أن يعارضه عندئذ. ولا يصح أن يقال إن المستمع لا يستفيد مطلقا من الحد. وإذا كانت معرفته غير صحيحة وبناءا عليها عارض الحد الملقى إليه فإن معارضته لا يلتفت إليها حينذاك. وإلا لو قيل بأن كل من عارض حدا أُلقيَ إليه فإنه مصيب في معارضته، فإن ذلك يستلزم أن يكون للشيء الواحد حدان، وهذا باطل، خصوصا إذا كان واحدهما ينقض الآخر. وبناءا على ذلك يتبين أن المستمع يمكن أن يستفيد من الحد معرفة جديدة. وأضعف أحوال الحد حينذاك أن يكون كالتعريف اللفظي المفصل الملخص، كأن يعلم المعلم التلميذ ويقول له إن المسمى بالحيوان هو الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة. فإنه يكون قد وضع لاسم الحيوان تعريفا جامعا مانعا في ذهن الطالب، والطالب يتلقى هذا التعريف بناءا على ثقته بالمعلم، وهذا أساس من أسس التعلم والتعليم لا ينكره منكر. وهذه هي الخطوة الأولى التي يسير فيها الإنسان في تعلمه. فهذا القدر من الإفادة لا يمكن لواحد أن ينفيه عن الحد. وهذه الإفادة لا تساوي الإفادة المستمدة من إدراك المعاني للألفاظ اللغوية، لأن هذه مجملة وتلك مفصلة. وأما قوله (وإنما فائدة الحد التمييز) أقول: حصر فائدة الحد( ) في التمييز أمر باطل ومبني على تحكم محض، ولكن الحد قد يفيد تمييز المعرَّف، كما يفيد تصوُّرَ عين الماهية. وفي آخر كلامه يحصر ابن تيمية التمييز بأحد طريقين، الأولى بالأسماء اللغوية وهو الحد اللفظي، والثانية الرسم المذكور في علم المنطق، وهذا الحصر غير مسلم له خصوصا بعد معرفة ضعف الدليل الذي اعتمد عليه في بيان أن الحد لا يستفيد منه السامع شيئا مطلقا كما مرَّ. وأيضا فهو قد سلم إمكان الحصول على فائدة من الرسم، والرسم عبارة عن ألفاظ وضعية مرتبة للدلالة على معنى عقلي، وهذا هو عين طريقة إفادة الحد، ولا فرق في الثنتين في الإفادة، فَلِمَ يُسَلِّمُ بها هنا ويمنعها هناك؟! الاعتراض الثالث: لا فرق بين الذاتي والعرضي قال ابن تيمية( ): "الفرق بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية بحيث يدعى أن هذا لا تفهم الماهية بدونه بخلاف الآخر، فإن العاقل إذا رجع إلى ذهنه لم يجد أحدهما سابقا والآخر لاحقا، ثم إذا كان المرجع في معرفة الذاتي إلى تصور الذات، والمرجع في تصورهما إلى معرفة الذاتي كان دورا، لأنا لا نعرف الماهية إلا بالصفات الذاتية، ولانعرف الصفات الذاتية حتى تتصور الذات بها، فإن الصفات الذاتية ما تقف معرفة الذات عليها، فلا تعرف الذاتية إلا بأن تعرف أن فهم الذات موقوف عليها، فلا تريد أن تفهم الذات حتى تعرف الذاتية، وبسط هذا كثير. "اهـ نقد الاعتراض الثالث: يدعي ابن تيمية هنا أن تفريق المناطقة بين الذاتي وبين العارض مجرد تحكم منهم، وأنه لا يوجد في الخارج ونفس الأمر فارق بينهما. أي إن العقل إذا لاحظ الذات الخارجة فإنه لا يفرق بين صفة ويحكم عليها بأنها ذاتية وبين صفة أخرى ويحكم عليها بأنه غير ذاتية، بل هذا التفريق عبارة عن اصطلاح من المناطقة، ومعلوم أنه إذا كان الأمر مجرد اصطلاح، فإنه لا يمكن أن يكون واسطة في معرفة الخارج على ما هو عليه، هذا هو ما يدعيه ابن تيمية. ونحن سوف نبين بطلان هذا الزعم في نفسه. والمناطقة قد عرَّفوا الذاتيَّ بأنه ما يُقَوِّم ذاتَ الشيء غير خارج عنها( )، وقالوا( ) الذاتي هو الكلي الذي يكون جزءا من ماهية أفراده، ويصدق بالجنس كالحيوان للإنسان، وبالفصل كالناطق للإنسان. وأما العرضي فهو ما يلحق الماهية بعد تقومها بالذاتيات وهو قد يكون لازما للماهية إما بينا أو غير بين، وقد يكون لازما لوجود الماهية( )، والعارض قد يكون منفكا وقد يكون غير منفك. والمقصود بسبق الذاتي للعارض سبقه في التصور، أي إنك لا يمكن أن تتصور الإنسان ضاحكا إلا بعد تصورك له متعجبا ومفكرا، والسبق في التصور لا يجوز لأحد إغفاله ولا إنكاره، أي إن كون بعض المعاني شروطا لمعانٍ اُخَرَ أمرٌ بديهي، وإلا لما بقي هناك ترتب بين الأشياء مطلقا. فقول ابن تيمية (فإن العاقل..الخ) غير مسلَّمٍ،لما مضى وللتفريق الضروري بين الجزء وبين اللازم، فكل ذات فجزؤها غير لازمها، وهذا معلوم بالبداهة، فالمناطقة لما لاحظوا هذه التفرقة سموا الجزء ذاتيا واللازم عارضياً، وهي قسمة صحيحة تماما كما ترى. بل نقول إن العاقل إذا عرض مفهوم صفة ذاتية وصفة عارضة فإنه يدرك بالبداهة التفرقة الكائنة بينهما ويدرك أن الصفة الذاتية أقدم في التصور عند الذهن من العارضة، وهذا خلافا لما يدعيه تماما، فإن العقلاء يجدون الصفات الذاتية سابقة في التعقل للصفات العارضة. ونقول: إننا إذا لاحظنا إنسانا مشخصا وحللنا جميع صفاته التي يتصف بها سواءا أكانت ذاتية أم عارضة، فإننا قبل ملاحظة العلاقة الثابتة بين الذاتي منها والعارض، نضعها جميعها في رتبة واحدة، ولكن هذا النظر الذي أنتج الحكم بالتساوي في المرتبة هو نظر ساذج غير عميق، ونحن عندما نعرض الصفات ونضبطها بمقياس الذاتي والعارض، فما انطبق عليه أنه ذاتي جعلناه في مجموعة وما انطبق عليه أنه عارض وضعناه في مجموعة أخرى، فإن العقل يحكم حينذاك على سبيل القطع بأسبقية الذاتية على العارضة. وإذا قصد ابن تيمية أن المناطقة يريدون بالأسبقية الثابتة بين الذاتي والعارض أسبقية زمانية فهو مغالط، لأنهم يصرحون أن قدم الذاتي بالنسبة للعرضي هو قدم في التصور العقلي. ثم إن قول ابن تيمية (ثم إذا كان المرجع في..الخ) هذا مغالطة أخرى مكشوفة وبيانها كما يلي إن المناطقة في طريق وصولهم إلى حدٍّ للذات يسبرون الذات ويختبرونها بطريقة التركيب وبالاعتماد على التقسيم والتحليل، ويحللون الذات إلى صفات ويعدون هذه الصفات. وعند هذه المرحلة يكون ما علموه هو أن (هذه الذات تركب من هذه الصفات)، ومعلوم أن بعض هذه الصفات قد يكون ملزوما للصفات الأخرى. ثم بعد ذلك يشرعون في دراسة نفس هذه الصفات صفة صفة واستكناه علاقة كل صفة مع الصفة الأخرى ليعرفوا ما هي الصفة الأعم وما هي الصفة الأخص، فيتوصلون إلى أن بعض الصفات ربما تكون سببا للاتصاف بالصفات الأخرى، فيضعون الصفات الأولى باعتبار أنها أقدم من الثانية، ثم يحللون الصفات الأقدم، ويلاحظون النوع الذي تنتمي إليه الذات المشخصة موضوع التحليل، ويحاولون معرفة ما هي الصفات التي تكون مشتركة بين هذا النوع وغيره من الأنواع ولا تكون لازمة عن صفات أخرى، فيصنفون هذه الصفات أجناسا، ويختبرونها بعد ذلك ليجدوا الجنس الأقرب ثم يضيفون إليه بقية الصفات كفصل أو فصول. ويأخذون الصفات الأخرى اللازمة ويختبرونها على حسب تعريف العرضي العام والخاصة وبهذا فهم يتعرفون إلى الصفات الذاتية والصفات العارضة. وهذا الأسلوب من التفكير والتحليل لا ينطوي على دور كما تراه، لأن معرفتهم للذاتي من الصفات يأتي بالاعتماد على مقاييس كلية لمفهوم الذاتي وغير الذاتي، وأما معرفة كون هذه الصفة منتسبة إلى هذه الذات فإنما يكون بالحس، أو بالتجربة أو بغيرها. وقد أشار كثير من المناطقة إلى طرق التمييز بين الذاتي والعرضي كمفهوم ومصداق، ومنهم القاضي الساوي كما نقلناه عنه، وكذلك فقد بينه العلامة البنَّاني في شرح السلم فقال( ): "تنبيهان: الأول: قد علمتَ الفرق بين الذاتي والعرضي من حيث مفهومهما، وكثيرا ما يلتبسان من حيث المصداق، ومن هنا يشكل الفرق بين الفصل والخاصة حتى زعم بعضهم أن تفريقهم بين الناطق والضاحك حيث جعلوا الأول فصلا والتعريف به حدا، والثاني خاصة والتعريف به رسما إنما هو اصطلاحي فقط، وليس كما زعم، فإن كون الشيء جزءا من الحقيقة أو خارجا عنها أمر ثابت في الواقع ليس راجعا للاصطلاح، نعم التسمية بالفصل والخاصة أمر اصطلاحي ولكن ليس الكلام فيها. وقد فرق بينهما القدماء بثلاثة فروق الأول: أن الذاتي هو الذي لا يمكن فهم الذات بدونه والعرضي بخلافه. الثاني: أن الذاتي هو الذي لا يعلل والعرضي يعلل. الثالث: أن الذاتي هو الذي لا تبقى الذات مع توهم رفعه والعرضي بخلافه. مثاله الناطق فإنه لا يمكن فهم ماهية الإنسان بدونه ويمكن فهمها بدون ضاحك، كما أنه ثبت لها بلا علة والضاحك معلول بالتعجب المعلول بإدراك الغرائب المسبوق بمطلق الإدراك المسبوق بالقوة العاقلة التي هي الناطقية، وكما أنه لا يمكن توهم رفع الناطق مع بقاء حقيقة الإنسان، بخلاف الضاحك."اهـ ومما يزيد هذا وضوحا ما نقله المحقق علي قصارة في حاشيته على شرح البناني على السلم( ): "قال أبو علي بن سينا: الذاتي ما إذا فهم معناه وأخطر بالبال وفهم ما هو ذاتي له وأخطر بالبال معه لم يمكن أن تفهم ذات الموصوف إلا بعد فهم ذلك المعنى أوَّلاً، كالإنسان والحيوان، فإنك إذا فهمتَ ما الحيوان وفهمتَ ما الإنسان، فلا تفهم الإنسان إلا وقد فهمت أولا أنه حيوان، وأما ما ليس ذاتيا، فقد تفهم ذات الموصوف مجردا دونه ككونه أبيض أو موجودا مثلا."اهـ ويتبين لك من هذا الكلام كله، فساد قول ابن تيمية حيث ادعى أنه لا توجد فروق بين الذاتي والعرضي، وأن هذه التقسيمات كلها تحكمات من الناس، وأنه لا مطابقة بينها وبين الواقع الخارجي. الاعتراض الرابع: الماهيات مركبة ولا تركيب في الذهن قال ابن تيمية( ):"دعواهم أن الماهيات مركبة ولا تركيب في الذهن."اهـ هكذا أورد ابن تيمية هذا الاعتراض مختصرا من غير تفصيل، وقد فصَّل فيه في مجموعة الفتاوى في ص55-56، وسوف نورد كلامه في ذلك الموقع هنا ونردُّ عليه لكي يطمئنَّ القارئ إلى مغالطاته العديدة التي يقع فيها، ويعرف أنه ليس يستدل بمجرد كثرة الكلام على صحته، فما أكثر كلام ابن تيمية وما أكثر مغالطاته فيه. قال ابن تيمية في المحل المذكور: "قولهم الحقيقة مركبة من الجنس والفصل، والجنس هو الجزء المشترك والفصل هو الجزء المميز، يقال لهم: هذا التركيب إما أن يكون في الخارج أو في الذهن، فإن كان في الخارج فليس في الخارج نوع كلي لكي يكون محدودا بهذا الحد إلا الأعيان المحسوسة، والأعيان في كل عين صفة يكون نظيرها لسائر الحيوانات كالحس والحركة الإرادية، وصفة ليس مثلها لسائر الحيوان وهي النطق، وفي كل عين يجتمع هذان الوصفان، كما يجتمع سائر الصفات والجواهر القائمة لأمور مركبة من الصفات المجعولة فيها. وإن أردتم بالحيوانية والناطقية جوهرا فليس في الإنسان جوهران، أحدهما حي والآخر ناطق، بل هو جوهر واحد له صفتان، فإن كان الجوهر مركبا من عرضين لم يصح، وإن كان من جوهر واحد عام وخاص فليس فيه ذلك فبطل كون الحقيقة الخارجة مركبة. وإن جعلوها تارة جوهرا وتارة صفة، كان ذلك بمنـزلة قول النصارى في الأقانيم وهو من أعظم الأقوال تناقضا باتفاق العلماء. وإن قالوا: المركب الحقيقة الذهنية المعقولة. قيل أولا تلك ليست هي المقصودة بالحدود إلا أن تكون مطابقة للخارج فإن لم يكن هناك تركيب لم يصح أن يكون في هذه تركيب، وليس في الذهن إلا تصور الحي الناطق، وهو جوهر واحد له صفتان، كما قدمنا، فلا تركيب فيه بحال."اهـ هذا هو نهاية كلام ابن تيمية الذي يوضح فيه اعتراضه السابق الرابع الذي ذكرناه بلفظه من مجموعة الفتاوى، وسوف نشرع الآن في نقد هذا الإيراد وردِّه على صاحبه. نقد الاعتراض الرابع 1- لا يخفى على واحد من المطلعين على علم المنطق أنه يبحث في أحوال التصورات والتصديقات، قال الفناري( ):"المنطق علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتية للتصورات والتصديقات من حيث نفعها في الإيصال إلى المجهولات"اهـ 2- وعلق المحشي المحقق أحمد على ذلك فقال( ):"إن المنطق لا يبحث فيه عن جميع أحوال التصورات والتصديقات بل عن أحوالها اللاحقة لها باعتبار نفعها في الإيصال إلى المجهولات، وتلك الأحوال هي الإيصال كما في الحدود والرسوم والأقيسة وما يتوقف عليه الإيصال كون التصورات كلية وذاتية وعرضية وجنسا وفصلا وخاصة، فإن الموصل إلى التصورات يتوقف على هذه الأحوال بلا واسطة، وككون التصديقات قضية وعكس قضية ونقيض قضية وحملية وشرطية إلى غير ذلك، فموضوع المنطق مقيد بصحة الإيصال لا بنفس الإيصال، وما يتوقف عليه الإيصال أعراض ذاتية له فيبحث عنها في هذا العلم."اهـ 3- قال الفناري إن المنطق علم يبحث فيه( ):"عن الأعراض الذاتية للمعقولات الثانية التي لا يحاذى بها أمر في الخارج من حيث تنطبق على المعقولات الأولى التي يحاذى بها أمر في الخارج."اهـ وشرح المحشي المحقق أحمد قوله (من حيث تنطبق) فقال( ):"أي تشتمل تلك المعقولات الثانية على المعقولات الأولى اشتمال الكلي على جزئياته، أي تجري على المعقولات الثانية أحكام كلية بحيث تنتهي تلك الأحكام وتتأدى إلى المعقولات الأولى التي هي طبائع تلك المعقولات الثانية حتى إذا أريد أن يعلم حال كل من تلك الطبائع يرجع في ذلك إلى أحكام تلك المعقولات الثانية، فيعرف منها مثلا إذا أردنا أن نعلم أن الحيوان الناطق يوصل إلى الكنه، نرجع إلى أن الحد يوصل إلى الكنه، وإذا أردنا أن نعلم الحيوان يتوقف عليه الإيصال نرجع إلى أن الجنس يتوقف عليه الإيصال وعلى هذا القياس."اهـ والمقصود مما نقلناه هنا هو أن العلم بأن المنطق لا يبحث في الوجودات الخارجية بل هو يبحث في التصورات الذهنية لا من حيث أنفسها بل من حيث عوراضها الموصلة إلى المجهولات، فهو يبحث في عوارض ثانية للتصورات من هذه الجهة. وتوضيح ذلك كما يلي: الإنسان إذا نظر في الوجود الخارجي فإنه يلاحظ موجودات تسمى في المنطق بالمعقولات الأولى وهي الموجودات الخارجية المشخصة نحو زيد وعمرو وهذا الأسد وتلك الشجرة وذلك البيت والجبل والعصفور وأي أمر وجودي آخر..الخ، هذا هو ما يحس به الإنسان ويدرك وجوده الخارجي بالحس وغيره، فهو عن طريق الحواس مثلا يمتلك تصورات يحفظها في ذهنه، ثم يشرع بعد ذلك بملاحظة ما تشترك به هذه التصورات، فهو يعرف أن زيدا هو جسم متحرك بالإرادة حساس ونامٍ وناطق، ويعرف أن الأسد جسم متحرك بالإرادة حساس ونامٍ وغير ناطق، ويعرف كذلك أن العصفور جسم متحرك بالإرادة وحساس ونامٍ وغير ناطق، وكذلك الفرس مثلا، فيأخذ الصفات التي تشترك فيها هذه الموجودات في ذهنه وهي كونها جسما ناميا متحركا بالإرادة حساس، ويجمع كل هذه التصورات ويطلق عليها مصطلحا واحدا وهو [الحيوانية]. فيقول زيد حيوان ناطق، والعصفور والفرس والأسد كل منها مجرد حيوان، وكل منها يمتاز عن زيد بعدم الناطقية وكل منها يمتاز بفصل يميزه عنه. ويقول بعد ذلك إن زيدا مركب من وصفين هما الحيوانية والناطقية، وهذا التركيب يؤلف في الذهن ماهية واحدة، وهاتان الصفتان في الخارج موجودتان في شخص هو زيد، وموجودتان في شخص كل إنسان آخر، فكل إنسان فهو مركب من هاتين الصفتين، وهاتان الصفتان تسميان حال تركبهما بالماهية والنوع. الآن نقول: إن المنطق يبحث في خصائص هذه التصورات الحاصلة في العقل، أي يبحث في خصائص مفهوم الحيوانية، وخصائص مفهوم الناطقية، والمشي وغير ذلك، ويبحث في خصائص الصورة الحاصلة من ملاحظة شخص زيد الخارجي. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن العقل يدرك صفات متشابهة ثابتة بين الموجودات الخارجية، فصفة الحيوانية مثلا ثابتة وصادقة على الإنسان والأسد والأرنب والفرس وغيرها، فهو معنى كليٌّ بمعنى صدق حمله على جميع هؤلاء، فالمصاديق مختلفة في وجوداتها لكنها متساوية في مفاهيمها، هذا القدر لا يجوز لأحد إنكاره. وكذلك فالعقل يدرك أن هناك فرقا بين الإنسان والأسد مثلا، وهو كون الإنسان ناطقا والأسد ليس كذلك، فالناطقية صفة تميز الإنسان عن الأسد، ومعنى هذا أن الإنسان هو عبارة عن حيوان ناطق والأسد مجرد حيوان غير ناطق(يضاف إلى هذا فصل يليق بالأسد). هذا هو الأصل في الحدود والتعريفات، فالتركيب الواقع في الحد صادق على الخارج أيضا بمعنى أن في الخارج صفتين للإنسان الأولى الحيوانية والثانية الناطقية هاتان الصفتان يتركب منهما الإنسان. والعقل يدرك تركبه منهما على ما هو عليه. فلا يوجد كذب في التصور الاصل في العقل، بل هو مطابق للوجود الخارجي قطعا، فإذا كان الإنسان مركبا خارجا فهو مركب في عقلا. ومعنى اشتراك الحيوانية بين كثيرين في الخارج هو أن وصف الحيوان الذي أدركه العقل صادق على كثيرين في الخارج، فيوصف به الإنسان ويوصف به الأسد والأرنب والحصان، وليس معنى ذلك أن عين الصفة التي هي الحيوانية مشترك فيها في عين الخارج، بل كما قلنا الاشتراك في المفهوم وحدة، وفي المصداق مساواة حمل. قال المحقق أحمد في حاشيته على شرح الفناري( ):"اعلم أن المعقولات الأولى هي طبائع المفهومات المتصورة من حيث هي هي، وما يعرض للمعقولات الأولى في الذهن ولا يوجد في الخارج أمر يطابقه كالكلية والجزئية والذاتية والعرضية ونظائرها كمفهوم الكلي والجزئي والذاتي والعرضي وغيرها يسمى معقولات ثانية، لوقوعها في الدرجة الثانية من التعقل، إذ لا يمكن تعقل الكلية إلا بعد تعقل أمر تعرض له الكلية في الذهن وليس في الخارج أمر يطابق الكلية كما أن للسواد المعقول ما يطابقه في الخارج. وبالجملة المعتبر في المعقولات الثانية أمران: أحدهما: أن لا تكون معقولة في الدرجة الأولى، بل يجب أن تعقل عارضة لمعقول آخر في الذهن. وثانيهما: أن لا يكون في الخارج ما يطابقها، فكل ما يعقل في الدرجة الأولى فهو معقول أول موجودا كان أو معدوما مركبا أو بسيطا، وكذا ما لا يعقل إلا عارضا لغيره إذا كان في الخارج ما يطابقه كالإضافات إذا قيل بتحققها في الخارج."اهـ إذن يكون المناطقة قد نصوا على أن الذهن أثناء عملية الفكر والتفكير يستعين بأمور ومفاهيم ذهنية لا توجد في الخارج بمعنى أنه لا يوجد ما يقابلها في الخارج، ولكن يتخذ من هذه المفاهيم آلات ووسائط يتوصل بها إلى إدراك الموجودات الخارجية. ومثال قريب على ذلك العدد، فالعدد لا يوجد بذاته في الخارج بل هو مفهوم ذهني محض مجرد من ملاحظة بعض صفات الخارج، والعقل يستخدم العدد لاكتشاف القوانين الخارجية كما هو معلوم فيقال عندئذ هذا العدد صادق على ما هو في الخارج كالمرآة له، ولا يقال إن العدد موجود بذاته في الخارج. فقول ابن تيمية (هذا التركيب إما أن..الخ) كلام غير صحيح، لأن أحدا من مناطقة الإسلام لم يقل إن الكلي موجود في الخارج هكذا، بل إنهم صرحوا بأن ما في الخارج جزئيات، والكلي هو من عوارض التصورات العقلية، فافتراضه هذا مجرد مغالطة. وإن قصد أن هناك من قال بوجود الكلي في الخارج على هذا النحو الساذج فكلام هذا غير معتبر عند سائر المناطقة كما هو معلوم، ولا يجوز أن يكون غلط واحد من المناطقة أو غلط من لم يعتبروه غلطا لجميعهم، بل إنني لم أعرف أحدا معتبرا من مناطقة الإسلام قال بذلك، وربما كان هذا الرأي منسوبا إلى أفلاطون أو غيره من الفلاسفة ولكن الإسلاميين قد خالفوا أفلاطون في نظرية المُثُلِ كما هو مشهور معلوم، ومن وافقه منهم إن وُجِدَ فالجمهور لم يرتض قوله. وننقل هنا ما ذكره العلامة الأصفهاني في رد مُثُلِ أفلاطون، فقد قال في شرح الطوالع( ): "وبما ذكر من أن المجرد لا يكون في الخارج، بل إنما هو في العقل، وأنه مباين للمخلوط، ظهر ضعف ما زعم أفلاطون من أن لكل نوع شخصا مجردا خارجيا باقيا مستمرا أزلا وأبداً." اهـ وأما قوله(والأعيان في كل عين صفة..الخ) فهو اعتراف بمفهوم الكلي كما قرره المناطقة، وهو وجود مصاديق كثيرة لمفهوم واحد في الذهن. وقوله(وإن أردتم بالحيوانية والناطقية جوهرا..الخ) أقول لا أحد من المناطقة يريد بالحيوانية والناطقية معنى الجوهرية في الخارج، ولم يقل أحد منهم إن الإنسان فيه جوهران في العالم الخارجي الأول الحيوان والثاني الناطق، وما دام لم يوجد أحد ادعى هذا القول فلِمَ يضعه ابن تيمية كاحتمال لكلامهم وهو ليس محتملا مطلقا؟! إن هذا هو أسلوبه المعروف الذي وضحناه في كتاب [الكاشف الصغير] وهو إيراد الاحتمالات البعيدة وعدم ذكر المعنى المقصود وذلك لينفر القارئ من القول الذي يناقشه، وهذه طريقة غير سديدة في نقد الأقوال، فإننا إذا أردنا أن ننقد قولا، فإننا نكشف عن حقيقة معناه ونباشر بالرد عليه، ولانحتمل معاني منفية أو بعيدة مطلقا، بل إذا كان هناك معاني محتملة قريبة فإننا نوردها إذا لم يوجد في الكلام محل النقد ما ينفي إرادتها، وهذا في حالة كون المعنى المقصود غير واضح تماما. وهذه الحالة ليست هي ما نحن فيه هنا. وهذا هو منشأ استغرابنا. والمناطقة يريدون بالجنس كالحيوان وبالفصل كالناطق، أنهما مفهومان كليان متغايران في نطاق الذهن، وأما في الوجود الخارجي فلا يتركب الإنسان من جوهرين الأول الحيوان والثاني الناطق، كما يقول ابن تيمية، بل هما في الوجود الخارجي أمر واحد لا تعدد فيه، وضرب صدر الدين الشيرازي في رسالة التصور والتصديق مثال الجنس والفصل كمثال على المعية الحاصلة في الذهن، وأما في الخارج فلا اثنينية بل الموجود الخارجي واحد، فقال:" وقد يعلم تصور معه تصديق، هي المعية التي تكون بين جنس الشيء وفصله بحسب التحليل الذهني، كمعية اللون وقابضية البصر في السواد، وهما شيء واحد في الوجود، لا المعية في الوجود المقتضية للاثنينيَّة كالمعية بين الجزء والكل والشرط والمشروط"، وقال في موضع آخر من الرسالة:" كما يقال الفصل من عوارض اللجنس ويراد به عارض الماهية لا عارض الوجود، ألا ترى أن الوجود من عوارض الماهية الموجودة بذلك الوجود، وكذا الناطق عارض لماهية الحيوان لا لوجوده، وهذا النحو من العروض لا ينافي العينية في الوجود". وممن نص على ذلك أيضا العلامة الأصفهاني في شرح الطوالع فقال( ): "الفصل في الخارج بعينه الجنس". إذن فالحيوان والناطق ليسا جوهرين متغايرين في الوجود الخارجي، كما يدعي ابن تيمية. وما قلناه لا ينافي أن الحيوانية والناطقية صفات ذاتية لا أمور عارضة على الماهية، ولكن هذا لا يقتضي كما هو واضح أنهما جوهران في الخارج. والآن لنكمل نقاشنا مع ابن تيمية فقد قال (بل هو جوهر واحد له صفتان) وهو يشير بكلامه هذا إلى قول بعض الناس بأن الإنسان مؤلف من جوهرين في الخارج، الأول الحيوان والثاني الناطق، وهذا مجرد مغالطة، فلا أحد ينكر أن الحيوانية( ) صفة للإنسان وأن الناطقية( ) صفة له أيضا، ولكن لا أحد يقول إن الحيوانية جوهر والناطقية جوهر والإنسان يتركب من هذين الجوهرين، هذا لا يقول به أحد يعتد بكلامه في هذا الفن، ولكن الكلام في عين هاتين الصفتين ما هي السابقة وما هي الأقدم في التصور عند تعقل ماهية الإنسان، أي ما هي الصفة التي يشترك فيها الإنسان مع غيره، فهي تكون الأعم وتسمى الجنس، وما هي الصفة التي يمتاز بها الإنسان عن غيره ويختص بها وتميزه عن غيره وتساويه، وتسمى الفصل، هذا هو موضع الكلام. وقوله(فإن كان الجوهر مركبا من عرضين لم يصح) أقول: لقد اشتهر عند المتكلمين أن القول بتركب الجواهر من أعراض باطل، وهذا القول منسوب إلى ضرار من المعتزلة، وقد أبطله الأشاعرة وغيرهم، وليس مرادا هنا قطعا، وإيراد ابن تيمية إياه هنا مجرد مغالطة أخرى. وقوله(وإن كان من جوهر عام وخاص فليس فيه ذلك) أقول: هذا الاحتمال أيضا تهافت آخر، فهو مبني على أن الإنسان مركب من جوهرين خارجيين، وإن الجوهر الأول كلي وإن الكليات موجودة في الخارج، وليس واحد من هذه يقول بها المناطقة خاصة الإسلاميين منهم، فكيف أجاز ابن تيمية لنفسه إيراد هذا المعنى كاحتمال هنا، الحقيقة أن عجبي واستغرابي لا يزال يزداد من ابن تيمية كلما تعمقت في معرفة أقواله وأساليبه في مناقشة الخصوم، فهي تكشف لي عن مدى التناقض الكبير الذي كان كامنا فيه، والحقيقة التي ألمسها بوجداني هي أنه كان يعلم ضعف أقواله وعدم قوتها في أغلب الأحيان، ولذلك كان يلجأ إلى هذه الأساليب الغريبة في الحوار. وقوله (وإن جعلوها تارة جوهرا..الخ) هذا احتمال جديد فاسد، وقد عرفتَ المعنى الحقيقي الذي يريده المناطقة من مقولة الماهية وتركيبها ومن القول بالكليات الذهنية، فلا حاجة هنا إلى تكثير الكلام مع ابن تيمية، فهو قد تعّلَّمَ استحالة كون الشيء الواحد جوهرا وعرضا من المتكلمين فجاء يحاربهم به، ويتهمهم به مع نفيهم له لما يلزم عنه من انقلاب الماهيات. وقوله (فبطل كون الحقيقة الخارجة مركبة) أقول :لم يبطل بهذه المغالطات شيء كما ترى. والتركيب المنفي في الخارج هو التركيب من جوهرين الأول هو الحيوان والثاني هو الناطق، وأما تركب الإنسان في الذهن من الناطقية والحيوانية فلم يأت بأمر ينفيه هنا. وأما الثابت في الخارج فهو أن الإنسان مركب من الأجزاء كاليد والرجل والرأس، فالإنسان كلٌّ وهذه أجزاؤه. وقوله:(وإن قالوا المركب الحقيقة الذهنية المعقولة) أقول له: أنت تعرف أن هذا هو مرادهم، وتعرف أيضا ما الذي يقصدونه عندما يقولون إن هذا المركب (أي الماهية) صادقة على ما في الخارج، فلا يلزم على ذلك قطعا وجود الكليات في الخارج. وقوله(تلك ليست هي المقصودة بالحدود..الخ) أقول: إذا كان العلم مطابقا للمعلوم، وحددتَ العلم فأنت تحدد المعلوم، وإذا عرفتَ معنى التركب الذهني وجهة صدقه على ما في الخارج، فإن المطابقة بين ما في الذهن وما في الخارج تكون حاصلة بالشروط المذكورة وبالوجه المبين في كلام القوم. فكيف يجوز أن يقول (فإن لم يكن هناك تركيب لم يصح أن يكون في هذه تركيب)، فكلامه غير صحيح بناءا على ما سبق أيضا. والحاصل أن نقد ابن تيمية لمباحث التصورات بناءً على هذا الوجه مجرد مغالطة لا تقوم على أساس. وبهذا نكون قد انتهينا من الرد على انتقادات ابن تيمية التي وجهها على مبحث التصورات في علم المنطق، ونكون بذلك قد بيَّنَّـا ضعف حججه وتهافتها وابتناءها على المغالطات المحضة. وفيما يلي سوف نشرع في الرد على إيراداته التي وجهها على قسم التصديقات.

تمهيد

في قسم التصديقات

سوف نذكر فيما يلي بعض القواعد الكلية التي ذكرها المناطقة في قسم التصديقات من كتب المنطق أو ألحقوها بالقياسات، والقواعد التي نريد ذكرها هي فقط ما لها علاقة بتوضيح ردِّنا على الإيرادات التي أوردها ابن تيمية، وليس قصدنا استقصاء ذكر جميع القواعد التي نصوا عليها. أولا: مواد الأقيسة إما يقينية أو غير يقينية

اليقينيات:

قال الكاتبي( ):"مواد الأقيسة وهي يقينيات وغير يقينيات أما اليقينيات فستٌّ - أوليات وهي قضايا تصوُّر طرفيها كافٍ في الجزم بالنسبة بينهما كقولنا الكل أعظم من الجزء. - ومشاهدات وهي قضايا يحكم بها بقوى ظاهرة أو باطنة كالحكم بأن الشمس مضيئة وأن لنا خوفا وغضبا. - ومجربات وهي قضايا يحكم بها لمشاهدات متكررة مفيدة لليقين كالحكم بأن شرب السقمونيا موجب للإسهال. - وحدسيات وهي قضايا يحكم بها لحدس قوي من النفس مفيد للعلم كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس. والحدس هو سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب. - ومتواترات وهي قضايا يحكم بها لكثرة الشهادات بعد العلم بعدم امتناعها والأمن من التواطؤ عليها كالحكم بوجود مكة وبغداد، ولا ينحصر مبلغ الشهادات في عدد بل اليقين هو القاضي بكفاية العدد. - والعلم الحاصل من التجربة والحدس والتواتر ليس بحجة على الغير. - وقضايا قياساتها معها وهي التي يحكم بها بواسطة لا تغيب عن الذهن عند تصور حدودها كالحكم بأن الأربعة زوج لانقسامها بمتساويين."اهـ غير اليقينيات قال الكاتبي( ):"وأما غير اليقينيات فستٌّ - مشهورات وهي قضايا يحكم بها لاعتراف جميع الناس بها لمصلحة عامة أو رأفة وحمية أو انفعالات من عادات وشرائع وآداب، والفرق بينها وبين الأوليات أن الإنسان لو خلا ونفسه مع قطع النظر عمَّا وراء عقله، لم يحكم بها بخلاف الأوليات، كقولنا الظلم قبيح والعدل حسن، وكشف العورة مذموم، ومراعاة الضعفاء محمودة، ومن هذه ما يكون صادقا وما يكون كاذبا، ولكل قوم مشهورات، وأهل كل صناعة بحسبها. - ومسلمات وهي قضايا تسلم من الخصم فيبنى عليها الكلام لدفعه كتسليم الفقهاء مسائل أصول الفقه. - والقياس المؤلف من هذين يسمى جدلا والغرض منه إقناع القاصر عن إدراك البرهان وإلزام الخصم. - ومقبولات وهي قضايا تؤخذ ممن يعتقد فيه إما لأمر سماوي أو لمزيد عقل ودين كالمأخوذات من أهل العلم والزهد. - ومظنونات وهي قضايا يحكم بها اتباعا للظن كقولك فلان يطوف بالليل فهو سارق. - والقياس المؤلف من هذين يسمى خطابة، والغرض منه ترغيب السامع فيما ينفعه من تهذيب الأخلاق وأمر الدين. - ومخيلات وهي قضايا إذا أوردت على النفس أثرت فيها تأثيرا عجيبا من قبض وبسط كقولهم الخمر ياقوتة سيالة، والعسل مرة مهوعة. - والقياس المؤلف منها يسمى شعرا، والغرض منه انفعال النفس بالترغيب والتنفير، ويروِّجه الوزن والصوت الطيب. - ووهميات وهي قضايا كاذبة يحكم بها الوهم في أمور غير محسوسة، كقولنا كل موجود مشار إليه، ووراء العالم فضاء لا نهاية له، ولولا دفع العقل والشرائع لكانت من الأوليات، وعرف كذب الوهم لموافقته العقل في مقدمات القياس الناتج لنقيض حكمه، وإنكاره ونفيه عند الوصول إلى النتيجة. - والقياس المؤلف منها يسمى سفسطة، والغرض منه إفحام الخصم وتغليطه. "اهـ - هذه هي مواد القضايا مذكورة مبينة باختصار ووضوح. ثانيا: أنواع الحجج قال الشريف الجرجاني( ):" إن الموصل إلى التصديق ينقسم إلى قياس واستقراء وتمثيل، لكن العمدة منها والمفيد للعلم اليقيني هو القياس".اهـ وقال الإمام التفتازاني( ):"القياس قول مؤلف من قضايا يلزمه لذاته قول آخر، فإن كان مذكورا فيه بمادته وهيئته فاستثنائي وإلا فاقتراني إما حملي أو شرطي".اهـ ثم قال( ):"الاستقراء تصفح الجزئيات لإثبات حكم كلي، والتمثيل بيان مشاركة جزئي لجزئي آخر في علة الحكم ليثبت فيه، والعمدة في طريقه الدوران والترديد."اهـ وقال الملا عبدالله في حاشيته على التهذيب( ):"اعلم أن الحجة على ثلاثة أقسام، لأن الاستدلال إما من حال الكلي على حال جزئياته، وإما من حال الجزئيات على حال كليها، وإما من حال أحد الجزئيين المندرجين تحت كلي على حال الجزئي الآخر، فالأول هو القياس، وقد سبق مفصلا، والثاني هو الاستقراء والثالث هو التمثيل."اهـ إذن فالمناطقة قد فصلوا في ذكر الطرق الموصلة إلى التصديق كما ترى، ولم يحصروا الحجة في القياس الشمولي ذي الأشكال الأربعة، بل أدرجوا في طرق الوصول الاستقراء والتمثيل وغيرهما أيضا، وقسموا كلا منها إلى مراتب وأقسام كما تجده في الكتب المنطقية. وقد لخص الشيخ عبد الكريم المدرس أقسام الدليل تلخيصا جيدا نذكر لك حاصله فيما يلي( ): الدليل بحسب الصورة: قول يكتسب من التصديق به التصديق بقضية أخرى وأقسامه أربعة القسم الأول: القياس وهو قول مؤلف من قضيتين يلزم من التصديق بهما التصديق بقضية أخرى لزوما كليا بالذات، وهو على قسمين استثنائي واقتراني، فالاستثنائي ما ذكرت فيه النتيجة بمادتها وهيئتها، نحو كلما كان العالم متغيرا كان حادثا، لكنه متغير فكان حادثا، أو بهيئة نقيضها نحو كلما كان العالم قديما كان ثابتا على حال واحدة، لكنه ليس بثابت على حال واحدة، فلم يكن قديما. والقياس الاقتراني ما ذكرت فيه النتيجة بمادتها فقط كقولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة وأظهر المعجزة، وكل من ادعاها وأظهرها صادق في دعواه. القسم الثاني: دليل مستلزم للنتيجة كليا بواسطة مقدمة أجنبية عنه ويسمى قياس المساواة، وهو قول مؤلف من قضيتين متحدتين في المحمول متعلق أحد جزئي الأول جزء تام من الأخرى نحو البيت ظرف الكوز، والكوز ظرف الماء المنتج لقولنا البيت ظرف الماء بواسطة مقدمة أجنبية وهي ظرف ظرف الشيء ظرفه. القسم الثالث: دليل يستلزم النتيجة كليا بواسطة مقدمة غريبة وهو الدليل المستلزم لها بواسطة عكس نقيض إحدى مقدمتيه، كقولنا الإنسان حيوان وكل لا جسم لا حيوان، المنتج لقولنا كل إنسان جسم بواسطة عكس نقيض الكبرى وهو كل حيوان جسم. القسم الرابع: دليل يستلزم النتيجة جزئيا ومنه الاستقراء الناقص وهو قول مؤلف من قضايا يحكم فيها على كثير من جزئيات كلي ليثبت ذلك الحكم للكلي كليا، كقولنا الإنسان والفرس وغيرهما مما رأيناه من أنواع الحيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ، فكل حيوان يحرك فكه الأسفل. ومنه التمثيل وهو دليل يشبه فيه جزئي بآخر في وصف مشترك بينهما ليثبت في المشبه الحكم الثابت للمشبه به المعّلَّل بذلك الوصف، كقول الفقهاء النبيذ كالخمر في الإسكار، والخمر حرام فالنبيذ حرام".اهـ وكلام الشيخ المدرس مفيد وكافٍ هنا. ثالثا: توضيحات مختصرة في القياس وبما أن ابن تيميه يتكلم على من يحصر طريق التصديق في الأقيسة، فسوف نوضح نحن هنا تلخيصاً مذهبَهم لتعرف حقيقته كما ينطقون هم بها لا كما يعرضها ابن تيمية، وسنشرع بعد ذلك في دراسة إشكال ابن تيميه لمعرفة الحق فيه من الصواب. وسوق نعتمد في بيان هذا المذهب على قول رئيسهم الفيلسوف الفارابي كما وضحه في كتاب القياس( )

1- مأخذ القضايا: القضايا منها ما يحصل معرفتها لا عن قياس ومنها ما يحصل معرفتها بالقياس، والتي يحصل معرفتها لاعن قياس أربعة أصناف مقبولات ومشهورات ومحسوسات ومعقولات كلية أُوَل( ).

فليس كل القضايا تستفاد من القياس. ومفهوم القضية هو الجملة التي تفيد نسبة تصديقية تامة، يمكن أن يتعلق بها التصديق والتكذيب. وتلاحظ أن الأوليات جزء من القضايا المعروفة لا عن قياس، وبذلك فيمكن أن تكون باقي الأقسام تفيد قضايا تصديقية ولكنها غير أولية، أي غير بديهية، ولكنها لا تتوقف على النظر المعرَّف بالبرهان.

2- صور ضروب الأقيسة الثلاثة المشهورة

سوف نستعرض هنا صور ضروب أشكال الاقيسة الثلاثة الأولى الحملية المشهورة، لفائدتها في حَلِّ بعض جهات الإشكال. أولا: الشكل الأول وفية أربعة أضرب منتجة الضرب الأول: موجبتان كليتان ينتج موجبة كلية. الضرب الثاني: كبراه موجبة كلية وصغراه موجبة جزئية، ينتج موجبة جزئية. الضرب الثالث: كبراه سالبة كلية وصغراه موجبة كلية، ينتج سالبة كلية. الضرب الرابع: كبراه سالبة كلية وصغراه موجبة جزئية، ينتج سالبة جزئية. ثانيا: الشكل الثاني وفية أربعة أضرب منتجة الضرب الأول: كبراه سالبة كلية وصغراه موجبة كلية، ينتج سالبة كلية. الضرب الثاني: كبراه موجبة كلية وصغراه سالبة كلية، ينتج سالبة كلية. الضرب الثالث: كبراه سالبة كلية وصغراه موجبة جزئية، ينتج سالبة جزئية. الضرب الرابع: كبراه موجبة كلية وصغراه سالبة جزئية، ينتج سالبة جزئية. ثالثا: الشكل الثالث وفيه ستة أضرب منتجة. الضرب الأول: موجبتان كليتان ينتج موجبة جزئية الضرب الثاني: كبراه سالبة كلية وصغراه موجبة كلية ينتج سالبة جزئية. الضرب الثالث: كبراه موجبة كلية وصغراه موجبة جزئية ينتج موجبة جزئية. الضرب الرابع: كبراه موجبة جزئية وصغراه موجبة كلية، ينتج موجبة جزئية. الضرب الخامس: كبراه سالبة كلية وصغراه موجبة جزئية ينتج سالبة جزئية. الضرب السادس: كبراه سالبة جزئية وصغراه موجبة كلية، ينتج سالبة جزئية. 3– القضايا الشرطية: وأما المقاييس الشرطية فلا نريد ذكر ما فيها من صور لكفاية الحملي عنها في الرد على الإشكال المذكور. 4- الاستقراء: هو تصفح شيءٍ شيءٍ من الجزئيات الداخلة تحت أمر كلي لتصحيح حكم ما حكم به على ذلك الأمر بإيجاب أو سلب. فتصفحنا الجزئيات لتطلب الحكم في واحد واحد منها هو الاستقراء ونتيجة الاستقراء هي إيجاب ذلك الحكم لذلك الأمر الكلي أو سلبه عنه. والاستقراء قول قوته قياس في الشكل الأول، والحد الأوسط فيه هو الأشياء الجزئية التي تتصفح.

5- التمثيل:- إنما يكون بأن يعلم أولاً أن شيئاً موجود لأمر ما جزئي، فينتقل الإنسان من ذلك الأمر إلى أمر ما آخر جزئي شبيه بالأول فيحكم به عليه إذا كان الأمران الجزئيان يعُمُّها المعنى الكلي الذي من جهته وجد الحكم في ذلك الجزئي الأول، وكان وجود ذلك الحكم في الأول أظهر و أعرف والثاني أخص.

فتأليف القول المثالي بما هو مثالي هكذا: الحائط مُكَوَّن، والحائط جسم، والسماء جسم فإذن السماء مُكَوَّنة. وهذا القول بأسره قوته قوة قياس مركب من قياسين في الشكل الأول، أحدهما أن إدراكَنا الحائطَ مكوَّناً ومشاهدتنا له هو الذي صحح عندنا أن الجسم مكون لأن الحائط لما كان جزئياً للجسم، صار كالشيء الذي استقرئ، فوجد فيه شيء نحكم على كليته بالشيء الذي وجد فيه، فيأتلف القول هكذا: الجسم هو الحائط، أو غيره من الجزيئات المشابهة له، والحائط مكون فالجسم إذاً مكون. ثم يؤخذ نتيجة هذا القياس ويضاف إليها أن السماء جسم، فيأتلف؛ السماء جسم، والجسم مكون، فإذاً السماء مكونة. فبهذا الوجه يرجع القول المثالي إلى القياس، وبما فيه من القوة القياسية صار مقنعاً وهو قريب من القول الاستقرائي، إلا أن الاستقراء إنما يكون بأن يوجد الحكم في جميع جزئيات الكلي أو في أكثرها، والقول المثالي يكون بجزئيٍّ واحد يقوم هذا الجزئي الواحد في المثال مقام جميع الجزيئات أو أكثرها في الاستقراء( ). وبعد هذا التمهيد نشرع في مناقشة كلام ابن تيمية.

الرد على اعتراضات ابن تيمية تمهيد

بعد أن ذكرنا بعض المقدمات المهمة في علم المنطق، سوف نشرع الآن في الرد على اعتراضات ابن تيمية على علم المنطق في القسم الخاص بالتصديقات. وسوف نهتم بنقض ما ذكره في تلخيص رده على المنطق المودع في المجلد التاسع من مجموعة الفتاوي الكبرى، ونختار بعض أهم الاعتراضات التي ذكرها في مواضع أخرى من كتبه، ونبين وجه فسادها وجهة الاعتراض عليها. قال ابن تيمية( ):"الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد، أما البرهان فصورته صورة صحيحة وإن كانت مواده صحيحة فلا ريب أنه يفيد علما صحيحا، لكن الخطأ من وجهين."اهـ هكذا بدأ ابن تيمية كلامه في هذا المقام، وقد قدمنا نحن الرد على ما ذكره في باب التصورات أي الحدود، وبينا ما في كلامه من اختلال كبير، وسوف نباشر فيما يلي الرد على اعتراضاته في مقام التصديقات.

الاعتراض الأول لابن تيمية ونقده: قال ابن تيمية( ):"أحدهما: إن حصر مواده فيما ذكروه من الأجناس المذكورة لا دليل عليه البتة، فأصابوا فيما أثبتوه دون ما نفوه، فمن أين يحكم بأنه لا يقين إلا من هذه الجهات المعينة، فإن رجع فيه الإنسان إلى ما يجده من نفسه فمن أين له أن سائر النوع حتى الأنبياء والأولياء لا يحصل لهم يقين بغير ذلك. ثم الواقع خلاف ذلك."اهـ إن هذا الاعتراض مبني على عدم التسليم بمصادر المعرفة اليقينية التي ذكرها المناطقة وهي الأوليات والمشاهدات والمجربات والحدسيات والمتواترات والقضايا التي قياساتها معها، وهو يستغرب كيف حصر المناطقة مصادر اليقين في هذه المذكورات، ومع ذلك لم يأت بدليل على إمكان وجود مصدر زائد على ذلك إلا مجرد القول بأن "الواقع خلاف ذلك"، وهذا مجرد ادعاء لا قيمة له في البراهين. فإننا نقول له: ما هذا الواقع الذي تدعي أنه خلاف ذلك وما هي الجزئية المعينة بالضبط التي تدعي أنها تخرج عن نطاق هذه المبادئ الستة، فإذا قصد ابن تيمية أن الأنبياء والأولياء يخرجون عن ذلك، فإذا سلمنا نحن أن الأنبياء والأولياء يختلفون عنا في مصدر المعرفة، مع أن هذا يحتاج إلى برهان، فغاية ما يقال إن علومهم خاصة بهم لا يقاس عليها أي لا يجوز تعدية هذه المصادر إلى غيرهم من البشر، والكلام في المنطق ليس هو عن المصادر المعرفية الخاصة ببعض الناس، بل هو عن المصادر المعرفية الشائعة والتي تعم سائر الناس حتى الأنبياء والأولياء. هذا مع أن معارف الأنبياء راجعة إما إلى الحواس أو إلى الأخبار الصادقة التي يتلقونها عن الملائكة أو الوجدانيات وهي الأمور والمعارف التي يخلقها الله تعالى مباشرة في نفوسهم أو إلى غير ذلك من المصادر المذكورة. فالحاصل أن ابن تيمية في هذا الاعتراض لا يملك أيَّ دليل بل يلقي كلامه هذا كمجرد استبعاد منه ومعارضة بلا برهان، ومعلوم أن مثل هذا الكلام مردود عقلا لا يلتفت إليه. الاعتراض الثاني ونقده: القسم الأول من كلامه: قال ابن تيمية( ):"إن هذا البرهان يفيد العلم، لكن من أين علم أنه لا يحصل لقلب بشر علم إلا بهذا البرهان الموصوف، بل قد رأينا علوما كثيرة هي لقوم ضرورية أو حسية ولآخرين نظرية قياسية، فلهذا كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وهو ما حصل من العلوم بغير هذه المواد المحصورة، أو بغير قياس أصلا بل زعم أفضل المتأخرين منهم أن علوم الأنبياء والأولياء لا تحصل إلا بواسطة القياس، وكلامهم يقتضي أن علم الرب كذلك ولا دليل له على ذلك أصلا سوى محض قياس الأنبياء والأولياء على نفسه، وقياس الرب والملائكة على البشر."اهـ هذا هو القسم الأول من الوجه الثاني لاعتراض ابن تيمية على التصديقات وأحكامها، وحاصل ما يقوله هو عدم التسليم بحصر موارد العلوم بما ذكره المناطقة. قول ابن تيمية (إن هذا البرهان يفيد العلم) هو اعتراف منه بوجود فائدة لعلم المنطق وبالتالي وجود ناحية يمكن أن تكون محل طلبِ من الشارع. وهذا معارِضٌ للإطلاق الذي صدر منه بأنه لا يوجد في كتب المنطق علم يؤمر به في الشريعة. وقد سبق أن نبهنا إلى هذا. قوله(لكن من أين علم أنه...الخ) هذا الكلام عجيب، وهو مجرد معارضة من غير دليل، ووجه العجب منه هو أن ابن تيمية إذا قصد أن المناطقة حصروا أنواع المعارف قاطبة بالبرهان بمعنى القياس الذي له أربعة أشكال مشهورة، وهو القياس الشمولي، فلا أعلم أحدا ادعى أن مطلق العلم لا يستفاد إلا من هذا القياس، وابن تيمية يُصِرُّ دائما على هذه التهمة ويدعي أن المناطقة حصروا أنواع العلوم بهذا القياس، والحقيقة غير ذلك مطلقا، لما سبق وأخبرناك به أنهم قسموا المعارف والعلوم إلى قسمين الأول بدهي والثاني كسبي نظري، فالبديهيات لها وسائل ذكرها المناطقة كما شرحناه لك ومنها الحسيات والأوليات العقلية، والوجدانيات وغير ذلك، والكسبيات يتوصل إليها بالأدلة وهذه الأدلة على أنواع والقياس الشمولي نوع واحد منها ولا يشملها ولا يجوز حصرها فيه وذلك كله قد بيناه سابقا من كلام بعض المناطقة. نعم، من حاول من المناطقة إرجاع المصادر المعرفية كلها إلى القياس الشمولي، قد يرد عليه الكلام، ولكن التحقيق أنا إذا سلمنا له بإرجاع جميع المصادر إلى القياس الشمولي، فلا اعتراض عليه، وإن لم نسلم له ذلك، فغاية ما نعارضه فيه هو محاولته إرجاع المصادر إلى الشمولي، ولا يستلزم ذلك أنه ينكر إفادة المصادر الأخرى للعلم. ثم إنهم قد تكلموا أيضا على وسائل معرفة العلوم النظرية غير اليقينية من حيث الصورة ومن حيث المادة وفصلوا في ذلك أيضا كما هو معلوم، فقالوا إن القياس التمثيلي لا يفيد اليقين إلا بشروط معينة، وكذا الاستقراء الناقص فهو لايفيد اليقين إلا بمقدار ما تم استقراؤه وأما الكلية المستنبطة من استقراء ناقص فهي ظنية، وإذا أريد تعميم النتائج على غير الجزئيات المستقراة فلا بد من توفر شروط معينة. وذكروا تفاصيل أخرى مهمة في هذا الباب. ولذلك فنحن نتعجب من كلام ابن تيمية، إن كان قصده بالبرهان ما ذكرناه وأما إن كان قصده بالبرهان مطلق الدليل فيصدق على جميع صور الاستدلال التي ذكرناها ويشمل الظنّيَّ منها واليقيني فكلامه على هذا مغالطة أولا لأنه ليس كل صورة من صور هذه الأدلة يقال لها برهان، وثانيا لأنه لم يأت بطريق أخرى يمكن التوصل منها إلى العلم وهي خارجة عن الصور التي ذكروها. هذا مع أن الظاهر من كلامه هو الأول كما لا يخفى، وعليه فإن التشنيع ينصبُّ عليه لما يتضمنه كلامه من مغالطات مكشوفة. قوله(بل قد رأينا علوما...الخ) أقول: أين البعد في أن تكون علوم معينة ضرورية أو حسية عند قوم وتكون نظرية قياسية عند آخرين، وكيف يترتب على ذلك إبطال المنطق والحكم عليه بالفناء، كيف يقال ذلك ولا يوجد رابطة يتم الانتقال بها من هذه المقدمة إلى القول ببطلان المنطق وفساد العلوم المنطقية؟ وهل هذا إلا ادعاء مكشوف البطلان؟! فنحن نعلم مثلا أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الملائكة وعلم بالحس محدوديتهم، فعلمه صلى الله عليه وسلم بمحدوديتهم حسي وضروري، وأما نحن وإن لم نرهم محدودين بواسطة الحس إلا أننا يمكننا العلم بذلك بوسائل، كالخبر الصادر الصدار من حضرة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وكالقياس العقلي بالحكم على كل موجود حادث بضرورة المحدودية إما بالصفة أو بالذات إذا كان جسما لاستحالة وجود ما لا نهاية له في الحيز والأبعاد، كما يُسْتَدَلُّ عليه بالبراهين المقررة في علم الكلام. والمناطقة لا يحيلون وقوع ذلك، أي لا يقولون بامتناع علم البعض بواسطة الحس بشيء ما، وعلم الآخرين بنفس الشيء بواسطة النظر والقياس مثلا". وأين يلزم من ذلك فساد المنطق وتهافت أركانه؟! قوله(فلهذا كذبوا بما لم يحيطوا...الخ) أقول: قد تبين أنهم لم يكذبوا في ذلك، وأن ابن تيمية يعارضهم بمجرد ادعاءٍ عارٍ عن برهان، وما كان كذلك فهو مردود. بل ابن تيمية هو الذي غالط عليهم عندما يتهمهم بالقول بأنه لا يمكن الحصول على علم إلا بالقياس، وهذا لا يقولونه، بل يصرحون بخلافه. وأما قوله(بل زعم أفضل المتأخرين...الخ) أنا لم أعرف أحداًََ قال بذلك مطلقاً، لا سيما وأن علوم الأنبياء تكون غالباً عن إلهام وهذا يكون بأن يخلق الله فيهم علماً ضرورياً مباشرة في نفوسهم، أو بالإحساس بأمرٍ خارجي لم يحس به غيرهم كما عندما يرون ملائكة وغيرهم لا يرونها. فكيف يتصور القول بأنه لايوجد علم لهم إلا بقياس الشمول. أما قوله ( وكلامهم يقتضي أن علم الربَ كذلك ). أي لا يكون إلا بمقياس الشمول، وهذا القول غريب من ابن تيمية، فنحن نعرف أن بعض الفلاسفة يقولون بأن علم الله تعالى إنما يتعلق بالكليات، ويتعلق بالجزئيات من خلال تعلقه بالكليات، ومن قال بذلك هم بعض الفلاسفة وقد ردَ عليهم المتكلمون من المسلمين قولهم ذلك، وبينوا بطلانه بالحجج المذكورة في كتب علم الكلام. وابن تيمية عندما ينقض المنطق إنما يناقش المناطقة ونحن نعلم أن المنطق هو آلة العلوم فقد يكون المنطقي فيلسوفاً وقد يكون متكلماً وقد يكون فقيهاً وقد يكون طبيباً أو فلكياً أو رياضياً. ومن قال بعلم الله الكلي فلم يقل به لأنه منطقي بل لاعتقاد أدَّاه إليه نظره الفاسد كما حصل مع بعض الفلاسفة. وإذا حصل ذلك فلا يجوز ردَ المنطق لمجرد أن بعض من هو عالم به تلبس برأي فاسد، لأن هذا الفيلسوف مع علمه بالمنطق ربما غفل عن بعض شروطه أو انجرف مع آرائه الفاسدة، فقوله بهذا الرأي الفاسد ليس لازماً لعلمه بالمنطق، بل هو عارض عليه ليس من جنسه. فكيف يعزى القول بهذا الفساد إلى المنطق وهو غريب عنه ؟؟ أليس ذلك خلاف المنطق والعقل الصريح ؟ وإذا كان ابن تيمية ينسب هذا القول: أي "علم الله تعالى عن طريق القياس" إلى مناطقة المسلمين، فهو غلط محض عليهم للعلم بأنَّ الذي يعلم بالجزئيات عن طريق القياس، فإنه قبل إجراء القياس غير عالم بالفعل بالجزئيات، بل هو عالم بها بالقوة هذا إذا افترضنا حصول مقدمات القياس الكلية له بالفعل وعلمه بالجزئيات متوقف على الانتباه إلى جهة القياس، ولا أحد من المسلمين يقول أن علم الله بالجزيئات إنما هو بالقوة لا بالفعل، ومن قال بذلك فهو خارج عن عقيدة المسلمين، ويجب الرد عليه، ولا أعلم أنا أحداً من علماء الإسلام من قال بذلك. خاصة أن العلم المكتسب بالقياس يسبقه الجهل بالتفاصيل، ويكون القياس آلة للعلم، والمسلمون ينـزهون الله تعالى عن أن يكون علمه بآلات. القسم الثاني من كلامه ولنكمل الآن قراءة القسم الثاني من كلام ابن تيميه فقد قال( ): "فهذا موضع ينبغي للمؤمن أن يتيقنه، ويعلم أن هؤلاء القوم وغيرهم إنما ضلوا غالباً من جهة ما نفوه وكذبوا به لا من جهة ما أثبتوه وعلموه، ولهذا كان المنطق مظنة الزندقة لمن لم يقو الإيمان في قلبه حيث اعتقد أنه لاعلم إلا بهذه المواد المعينة وهذه الصورة، وذلك مفقود عنده في غالب ما أخبرت به الأنبياء، فيشك في ذلك أو يكذب به أو يعرض عن اعتقاده والتصديق به، فيكون عدم إيمانه وعلمه من اعتقاده الفاسد أنه لا علم إلا من هذه المواد المعينة ولا دليل عليه البتة، وإن كانت مفيدة للعلم، فالفرق ظاهر بين كونها تفيده وبين كونها تفيده ولا يحصل بغيرها."اهـ تلخيص كلام ابن تيمية هذا الكلام وإن مضى الرد على معظم ما فيه إلا أننا نعيده هنا ملخصاً في نقاط: - أولاً: إن ابن تيمية يعترف بأن ما أثبته المناطقة صحيح لا شك فيه، ولكنه إنما يعترض على حصرهم للطرق المعرفية بما فصَّلوه. وهنا مناقضة صريحة للقول بأن المنطق لا يوجد فيه علم صحيح يأمر الشرع باكتسابه كما زعمه ابن تيمية. ثانياً: إن المناطقة عندما عددوا مبادئ المعرفة بالطرق التي ذكرناها سابقاً، إنما فعلوا ذلك على حسب الطاقة البشرية، وليس في كلامهم مطلقاً أنه إن استطاع واحد أن يأتي بدليل على أنه توجد طريقة أخرى للمعرفة فكلامه مردود بالمرة، بل إن المتأخرين من المناطقة صاروا يصرحون بأن المتوترات من وسائل المعرفة وإن لم ينتشر ذلك عند من سبقهم. ولذلك فإن على من اكتشف طريقة معرفية تفيد البشر أن يضيفها إلى ما ذكره المناطقة لتكتمل دائرة معرفة الناس، ولا يجوز له مطلقاً القدح في علم المنطق جميعه بسبب ذلك الاستدراك. ثالثاً: الادعاء بأن المنطق هو مظنة الزندقة، بناء على رأى ابن تيمية، لا يتم إلا إذا أتى بدليل يثبت لنا أن وسائل معرفة الأنبياء والرسل لا تندرج مطلقا في ما ذكره المناطقة. وهذا غير صحيح كما بيناه سابقا. رابعا: غالب ما أخبرت به الأنبياء طريق معرفتنا به هو خبر الصادق المؤيد بالمعجزة وهو يفيد العلم كما هو منصوص عليه،واما بالنسبة للأنبياء فهو إما علموه بالحواس الظاهرة أو الباطنة أو بخلق علم ضروري في بواطنهم أو بالخبر الصادق بواسطة الملائكة وغير ذلك. وكل ذلك وسائل معرفية يقبلها علم المنطق ويقِرُّ بها. إذن يتحصل لنا أن كلام ابن تيمية في هذه الفقرة مجرد ادعاءات لا دليل عليها، ومغالطات خالصة، وما كان كذلك فلا يلتفت إليه. القسم الثالث من كلامه قال ابن تيميه في القسم الثالث من هذا الوجه( ): "ومما يبين ذلك أن القياس لا يدل إلا على علم كلي، وهم معترفون بذلك، لأنه لابد فيه من مقدمة كلية إيجابية، والكليُّ لا يدل إلا على القدر المشترك وهو الكلي، فجميع الحقائق المعنية لا يدل عليها القياس بأعيانها، وإنما يعلم به – إن علم- صفة مشتركة بينها وبين غيرها، فلا يعلم به شيء من خواص الربوبية البتة، ولاشيء من خواص ملك من الملائكة ولا نبي من الأنبياء ولا ولي من الأولياء، بل ولا ملك من الملوك، ولا أحد من الموجودات العلوية والسفلية، فإذن العلم بهذه الأشياء إما أن يكون منتفيا أو حاصلا بغير القياس، وكلا القسمين واقع فانه منتف عندهم، إذ لا طريق لهم غير القياس، وحاصل ذلك الأنبياء وأتباعهم بل حاصل ذلك في الجملة عند جميع أولي العلم من الملائكة والنبيِّين وسائر الآدميين. وأيضا فإذا كان لابد فيه من مقدمة كلية فان كانت نظرية افتقرت إلى أخرى وإن كانت بديهية، فإذا أجاز أن يحصل العلم بجميع أفرادها بديهة فما المانع أن يحصل ببعض الأفراد وهو أسهل."اهـ

حاصل هذا الإشكال كما يلي القياس لا يدل إلا على علم كلي، ولكن توجد علوم غير كلية بل جزئية شريفة عديدة ومهمة، إذن القياس لا يوصل إلى هذه العلوم الجزئية الشريفة. الجواب على الإشكال وبادئ ذي بدء نقول: إما أن نسلم عدم إيصال القياس إلى علوم جزئية، أو نمنع ذلك، فإن سلمنا بعدم إيصاله، وحصرنا العلوم كلها به، يلزمنا التسليم بامتناع الحصول على أيّ علوم جزئية، ولكن نفي العلوم الجزئية سفسطة ظاهرة: إذن لا يجوز التسليم بعدم إيصاله إلى ذلك مع الحصر المذكور. وان لم نسلم بعدم إيصاله وحصرنا العلوم به، لا يلزمنا شيء مما يدعيه ابن تيمية، ولكن يلزمنا فقط بيان كيفية رجوع سائر وسائل العلوم الجزئية والكلية إليه. وإن لم نحصر العلوم به فيجب الاعتراف بوجود وسائل للعلوم الجزئية، فتكون هذه الوسائل إما بالقياس، ويتم ذلك بإرجاع أشكال الاستدلال على الجزيئات إليه، وإمَّا بغير القياس وتكون هذه هي وسائل التوصل إلى الجزيئات ولاترجع إلى القياس. وابن تيمية يخاطب في هذا الإشكال من يقول: لا يُتوصل إلى التصديقات إلا بالقياس. والذين يقولون بذلك يرجعون سائر الاستدلالات الصحيحة إليه وعلى ذلك لا يلزمهم شيء مما يقوله ابن تيمية، ولكن إذا وجد من يحصر الوصول إلى التصديقات بالقياس ولايرجع سائر الاستدلالات على الجزيئات إليه فيلزمه ما يقول به ابن تيميه، ولا اعلم أحدا يقول بذلك. فالحاصل أنَّ الإشكال الذي يورده هذا الرجل واردٌ على لا أحد. قوله ( القياس لا يدل إلا على علم كلي ) باطل، لما مرَّ في صور القياس وأشكاله، فالشكل الأول ينتج الضرب الثاني منه موجبة جزئية، والشكل الثاني ينتج الضرب الثالث والرابع منه سالبة جزئية، والشكل الثالث كل ضروبه تنتج جزئية إما سالبة أو موجبة، كما مرَ بيانه. فكيف يقول ابن تيمية أن القياس لا يدل إلا على علم ٍ كلي؟ وهل هذا إلا تهافت؟ وكذلك نقول: قياس التمثيل الذي صححه المناطقة، والخلاف بينهم حاصل فيه من جهة أنه متى ينتج نتيجة قطعية ومتى لا يكون كذلك، وليس الخلاف في أصل كونه منتجا، فهم متفقون على هذا القدر. هذا القياس أيضاً ينتج جزئية. فكلام ابن تيمية إذن هنا غير صحيح. وأما قوله ( وهم معترفون بذلك ) فلا يُلْتَفَتُ إليه بعدما مرَ. وقوله تعليلاً لحكمه السابق ( لأنه لا بدَ فيه من مقدمة كلية إيجابية) غير صحيح فالضرب الرابع من الشكل الأول ليس فيه كلية إيجابية، وكذلك الضرب الثالث من الشكل الثاني، والضرب الخامس من الشكل الثالث، كل هذه الأضرب ليس فيها كلية إيجابية ومع ذلك فهي منتجة. وكذلك قياس التمثيل لا يشترط فيه ذلك على القول به.

وأما قوله ( فجميع الحقائق المعينة لا يدل … )

فظاهرُ كلامه أنه يطلب من القياس أن يدل على المعين من جهة تعينه أي تشخصه وتميزه عن غيره وهذا إبطال للقياس من أصله، فالقياس أصلاً إنما يدل من جهة الاشتراك إما في السلب أو في الإيجاب، والتعيين قسيم الاشتراك في الجهتين، فكيف يطلب بالقياس ما لم يوضع هو له ؟ ولكن نقول: يمكن أن يكون القياس مقدمة في ذلك، كما في نظرنا في الوجود، فنقسمه بالبداهة إلى واجب أو ممكن، ثم نحكم على الممكن بالقياس والاستقراء والتمثيل بالحدوث، فيلزم بالضرورة احتياجه إلى الواجب غير الحادث، ونحكم على الممكن بالافتقار فيلزم الحكم على الواجب بالاقتدار وهكذا. وهذا حكم على الواجب من حيث حقيقته بالقدرة والغنى، وليس حكما عليه من حيث تعينه، ولكن لما كان الواجب واحداً فإن الحكم على ماهيته يكون حكماً عليه من حيث هو هو. وبهذا يثبت خطأ كلام ابن تيمية مطلقاً. ويقال أيضاً:- لو سلمنا أن القياس لا يفيد العلم بالأعيان مطلقاً فكيف تثبت بذلك يا ابن تيمية بطلان المنطق كاملاً وقد ذكر العلماء في المنطق طرقاً أخرى تدل الإنسان على الأعيان من حيث هي كذلك كالحواس والأخبار والمشاهدات. بل كيف جاز لك أن تبطل القياس وإن سلم بذلك وهو لم يوضع لما تريده أن يدلك عليه؟ أليس هذا محض تخابط في النظر الفكري؟ ولا دليل على حصر ما يمكن أن يعلم بما هو عين من حيث هو كذلك. وبذلك تبين بطلان قوله ( فلا يعلم به شيء من خواص الربوبية البتة)، لأننا بينا أن القياس يمكن الوصول به إلى أحكام الربوبية كوصف الله تعالى بالقدرة والعلم والقدم والبقاء وغير ذلك ولكن هذه التي تثبت لله تعالى عن طريق القياس مجرد أحكام لا نعلم حقائقها، وهذا هو غاية ما يمكن إدراكه في جانب الربوبية، أما أن يدعي الإنسان أنه يعلم حقائق هذه الصفات والذات فهو كذب منه. فإن حقائق الموجودات الممكنة راجعة استقراءً إلى المقولات العشر، والله تعالى لا يوصف بواحدة من هذه المقولات، وما سوى هذه المقولات فلا يمكن للإنسان أن يدرك حقيقته إن سلم انحصار المقولات في العشر، وإن لم يُسَلَم فما يمكن إثباته بعد ذلك يجري عليه ما يجري على العشر الأول، من أنه لا يجوز أن يوصف الله بشيء منها لأنه مقول على ىالحوادث التي يخالفها الله سبحانه من كل وجه. ولكن ابن تيمية يريد بهذه العبارة أن يقول إن الله يمكن للإنسان الوصول إلى حقيقته المتعينة وهذا بناءً منه على مذهبه التجسيمي، فهو يقول بقياس الغائب على الشاهد، وهذا القياس يستعمله ابن تيمية ويعتمد عليه لإنشاء مذهبه كاملاً على التشبيه، ولهذا فهو يقول إن الله جسم ومتحيز وله مكان وحدود ويتحرك وغير ذلك من الأحكام التي توصل إليها عن طريق هذا القياس. ولكن جماهير العلماء، يبطلون تشابه الله مع المخلوقات، ولذلك يمنعون استعمال هذا القياس في حق الذات المقدس إلا على سبيل الشرط والعلة، بخلاف ابن تيمية فهو يقيس من حيث الوجود والذاتيات، وفَرْقٌ بين الأمرين. فالعلماء المحققون يقولون مثلاً: ثبت بالحق الشاهد أن الحياة هي شرط العلم عقلاً فيثبت في الغائب كذلك أنه إذا كان عالماً فيجب كونه حياً، فهذا قياس للغائب على الشاهد من حيث الشرط وكذلك يقولون: إذا كان كلُّ معلول محتاجاً، والله ليس محتاجاً، فهو غير معلول. وإذا كان كل علة لشيء فهو غير مريد له، والله مريد، فهو ليس بعلة، بل فاعل مختار. ومعلوم أن هذه الأقيسة لا تؤدي إلى التشبيه وتفيد في إدراك الأمر على ما هو عليه. ولكن ابن تيمية يقول: إذا ثبت أن كل موجود مشاهد فهو في جهة، فيجب أن يكون الله في جهة. وإذا ثبت أن كل موجود محسوس فهو متحيز ( محدود ) فيجب أن يكون الله متحيزاً (محدوداً) ومعلوم أن هذا القياس للغائب على الشاهد من حيث الذات وهو يستلزم التشبيه بخلاف استعمال أهل الحق له. (( إذن فالحاصل من هذا أن القياس يمكن الوصول به إلى بعض أحكام الربوبية، ولا يمكن الوصول به إلى إدراك عين حقيقة الربَ جَل شأنه.)) وأما ما ذكره به ابن تيمية بعد ذلك من كلام من أن القياس لا يعلم به (شيء من خواص ملك من الملائكة ولا نبي من الأنبياء …الخ ) فهو من جنس ما مضى، كلام ساقط عن مرتبة الاعتبار لا قيمة له في هذا المحل، والرد الإجمالي عليه بالإضافة إلى ما مرَ أن يقال لقد نص العلماء أن الحواس والأخبار من طرق العلم، فهذه التعيينات التي تسميها تدرك عن طريق ذلك. فضلاً عن أن القياس يدَل على وجوب صدق الأنبياء عن طريق المعجزة كما هو معلوم في علم التوحيد والصدق يثبت لكل نبي من حيث هو نبي، لا من حيث هو متعين، فتعينه يكون دليلاً عليه مركباً من الحس والعقل كما هو مذكور في علم الكلام وكذلك سائر ما يجب ويجوز ويستحيل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وبهذا يتبين ضعف كلام ابن تيمية في هذا الموضع أيضاً. وأما قوله: ( وأيضاً فإذا كان لا بدَ منه من مقدمة كلية … الخ ). فهو كلام لا قيمة له، فأي قياس يتألف على الأقل من مقدمتين، وهو على قوله لا بدَ من القياس من مقدمة كلية، وهذا صحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أي محظور يفترضه ابن تيمية فالمقدمة الكلية إما أن تكون بديهية أو نظرية، والمقدمة الأخرى إما كلية وإما جزئية، وكلُّ منهما إما بديهية وإما نظرية، فالحاصل أن القياس يمكن أن يتألف من مقدمتين كلتيهما بديهية، أو إحداهما بديهية والأخرى نظرية، أو كلتيهما نظرية، فما الإشكال في ذلك؟ لا ينتُجُ أيُّ إشكال مطلقاً كما رأيناه في أضرب القياس. ولكن هذه المقدمة الكلية إذا كانت نظرية، فإنه لا بد أن يقام عليها برهان آخر متألف من قضيتين أخريين وهكذا، وينتهي القياس إلى البداهة، وما يتركب منها وما هو لازم عنها. فأين الضرر في ذلك، وأين يقع الإشكال، لا أثر لأي إشكال حقيقي كما يعرف المنصف الفاهم لما يقال هنا. ولكن إذا كانت المقدمة كلية أيضاً بديهية، فهل ينتج إشكال بالقطع لا ينتج أي إشكال بل الأولى أن لا يلزمَ أي إشكال مطلقاً. ولكن ابن تيمية يقصد من كلامه، أن موضع الإشكال أنه إذا كانت المقدمة نظرية فلا بد أن تكون لازمة عن مقدمة، وهذه المقدمة إن كانت نظرية أيضاً، يلزم التسلسل، ولكن نحن قد وضحنا لك أنه لا يلزم التسلسل مطلقا، لأن أساس القياس يعتمد على مقدمات بديهية فينقطع التسلسل. وأيضاً فابن تيمية يدعي وقوع الإشكال في موضع آخر، وهو قوله (وإن كانت بديهية … الخ). يعني أن القضية البديهية الكلية إذا كانت صادقة على جميع أفرادها بالبداهة، ونتيجة القياس هي قطعاً لنسبة هذه الكلية إلى بعض موضوعات الجزئية، ولكن إذا كانت هذه النسبة المعلومة بالقياس معلومة بنفس القضية الكلية فما فائدة القياس هذا هو ما يريده ابن تيمية. ومعلوم أنه لا يوجد هذا الإشكال إلا من لم تتضح في نفسه فائدة القياس أو أنها كانت واضحة معلومة ولكنه يتجاهلها … وعلى كل الاحتمالات فإننا هنا سنوضح ما هي فائدة القياس لينحل أصل هذا الإشكال.

فالقياس عبارة عن ترتيب للأقوال العقلية على صورة معينة، بحيث إذا التفت الذهن إلى هذه الصورة يلزم علمه بقضية أخرى غير مذكورة في أيٍّ من القضيتين المذكورتين صراحة، فهو يخرج ما في القوة إلى الفعل، ويخرج الشيء من الإجمال إلى التفصيل كما ذكره الشيخ عبد الله الجيلاني فقال( ):

" تشكيك، قالوا: إن الشكل الأول إنتاجه بديهي، بخلاف باقي الأشكال فإنها ردَت إليه لسن إنتاج. اعترض عليهم إن التصديق في الكبرى في هذا الشكل بثبوت الأكبر لكل أفراد الأوسط موقوف على التصديق بثبوت بعض أفراده الذي هو الأصغر، وليس هذا إلا النتيجة، فالعلم بالكبرى موقوف على العلم بالنتيجة، فلو كان العلم بالنتيجة موقوفاً على العلم بالكبرى كما قالوا، لزم الدور فالشكل الأول مشتمل على الدور، فهو باطل والباطل كيف يكون بديهي الإنتاج. الجواب: إن التصديق في الكبرى ثبوت الأكبر لكل أفراد الأوسط يتوقف على التصديق به لبعض أفراده مجملاً، وبدون ملاحظة كون البعض أصغر أو غيره، كما يجده من له الوجدان، والعلم المطلوب الموقوف على الكبرى هو التصديق بثبوت الأكبر للأصغر بخصوصه فلا دور. والمشهور أن الشيخ أبا سعيد كتب إلى الشيخ الرئيس ابن سينا هذا السؤال بقوله ؟ إياك أن تعتمد على المباحث المعقولة، فإن أوَّل البديهيات الشكل الأول، والحال أنه دور، إذ ثبوت الأكبر للأصغر يتوقف على كلية الكبرى، كما قالوا، ولا يصير كبراه كليه حتى يكون الأكبر صادقاً على الأصغر،لأن الأصغر من أفراد الأوسط. فأجاب الشيخ الرئيس بأن كلية الكبرى موقوفة على اندماج الأصغر إجمالاً، والمقصود من النتيجة بثبوته تفصيلياً، فلا دور، وليت شعري إن هذا الكامل كيف تفطن بهذه الشبهة، ولم يتفطن بجوابها، مع كونه ظاهرا، والحمل على الامتحان على الشيخ الرئيس بأمثال هذه البديهيات، يفيد خصوصا، مع تحقق الكمال. اللهم إلا أن يقال إنه من الأغلاط المشهورة."اهـ

وهذا كلام كافٍ في توضيح الجواب على جهة الإشكال الذي ذكره ابن تيمية.

وبهذا نكون قد انتهينا من نقد تشكيكات ابن تيمية التي أوردها على المنطق في هذه الرسالة الصغيرة. وأما الرد التفصيلي على جميع إشكالاتة التي أودعها في كتابة الرد على المنطقيين فلعل الوقت يتاح لنا للرد عليه تفصيلا وبيان ما فيه من غث وسمين.

الفصل الثالث

نظرات نقدية في كتاب صون المنطق والكلام عن فنِّ المنطق والكلام للإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى

الإمام جلال الدين السيوطي علم كبير من أعلام العلوم النقلية، فقد كتب كتباً مشهورة في علم التفسير والحديث والفقه وجميع فنون اللغة العربية والسيرة وأصول الفقه وغير ذلك من العلوم والفنون، ومعرفته وعلومه قائمة على الجمع الموسوعي في العلوم جميعها، ولم يتميز بالتحقيق والتدليل كما اشتهر به بعض العلماء كابن دقيق العيد والعز بن عبد السلام والإمام النووي، بل ولا كابن حجر العسقلاني ولم يكن في النحو كابن عقيل وكابن الحاجب ولا كابن مالك، ولم يكن في التفسير كالإمام الرازي ولا كابن عطية ولا كالزمخشري، ولم يكن في الأصول كالمحلي أو الشيخ زكريا الأنصاري ولا كالبناني فضلاً عن أن يكون كابن الحاجب والبيضاوي أو الإمام والآمدي ولا كغيرهم من الفحول. هكذا كان الإمام السيوطي حافظاً كبيراً وجَمَّاعة عظيماً في سائر العلوم والفنون لا ينكر فضله فيما أدَّاه ولا علمه في ما علمه. وقد كتب رحمه الله في بداية حياته( ) كتاباً في تحريم الاشتغال بفنِّ المنطق سماه "القول المشرق" وضمَّنه نُقُولَ أئمة الإسلام في ذمه وتحريمه، ثم شرع في سنة ثمانمائة وثمانية وثمانين للهجرة أي بعد تأليفه للكتاب الأول بعشرين سنة في تأليف كتاب آخر في هذا المعنى هو "صون المنطق والكلام" محل كلامنا ومدار بحثنا. وكان موقفه في هذا الكتاب من علم المنطق الذم والتشنيع والرد، ولم يترك من جهده جهداً في إبلاغ هذا المطلب إلى القارئ. وقد لخص أيضاً كتاب ابن تيمية في نقض المنطق، وهذا الكتاب الذي سوف نفرد له كتاباً خاصاً في نقده وردِّ ما فيه من أغلاط، وقد نبه بعض العلماء إلى ما وقع فيه السيوطي من غلط في هذا الكتاب ومن ذلك ما قاله حاجي خليفة أثناء كلامه على شرح العقائد النسفية( ):"وفي برهان التمانع رسالة لبعض الخراسانيين وهو عبداللطيف بن محمد بن أبي الفتح الكرماني ثم الخراساني، لم يفرق فيها بين الملازمة العادية وبين الملازمة العقلية، فبنى جميع كلامه على عدم هذا الفرق، فضلَّ وأضلَّ، ولعل هذا الرجل ممن أنكر المنطق ونادى بجهله كالسيوطي وهو يزعم أنه مصيب في تخطئة مثل سعد الدين، هيهات هيهات شتان بين النيل والفرات." وسوف نتعقب الإمام السيوطي فيما كتبه في هذا الكتاب، أعني "صون المنطق والكلام" ونحاكم كلامه بناء على الأصول والأدلة المقررة عند العلماء. ونكشف ما في هذا الكتاب من انحراف عن جادة الصواب واختلال في النقد. ولا يستلزم فعلنا هذا تشويه منـزلة السيوطي بل مكانته محفوظة وإقرارنا بفضله ثابت في العلوم التي نبغ فيها، لا سيما أنه أقرَّ بعد تمكنه من علم المنطق، وكتبه شاهدة على ذلك. ولكن النظر النقدي في كلام الغير واجبٌ، خصوصاً عندما يُتَّخَذُ مثل هذا الكتاب وسيلة إلى القدح في علم من أهمِّ علوم الإسلام وهو علم الكلام. ولن نتتبع الإمام السيوطي في كل ما قاله في كل هذا الكتاب بل سوف نركز نقدنا التفصيلي على أهم المواضع فيه، مع عدم إغفال النقد الإجمالي المتوجه على باقي أجزائه.

تمهيد عام

قال السيوطي( ): "ذِكْرُ من صرح بذم المنطق أو تحريمه من أئمة الإسلام. لا شك أن المجتهد يحرم عليه إحداث قول لم يقل به أحد، واختراع رأي لم يسبق إليه ولهذا كان من شروط الاجتهاد معرفة أقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعاً واختلافاً لئلا يخرق الإجماع فيما يختاره"اهـ. المجتهد إنما يحرم عليه مخالفة الإجماع، لا مجرد اختراع قولٍ لم يُسْبَقْ إليه، فربما يحتاج المجتهد إلى النظر في وضع من الأوضاع أو حالٍ من الأحوال لم تمرَ على الذين من قبله ولم يعاصروها، فينشأ عنده رأي لم يسبقه إليه أحد، ولكن هذا الوضع شرط أساسي للاجتهاد، بل هو أهم ما في مفهوم الاجتهاد، وإلا فإن منعنا ذلك، فإنَّ الاجتهاد يكون باطلاً من أصله لعدم كبير فائدته. ومن هذا ترى أن تعليل السيوطي هنا غير صحيح على إطلاقه، بل يجب أن يقول: إن المجتهد لا يجوز له أن يخالف ما أجمع عليه العلماء، أما مخالفة واحد منهم أو مجموعة منهم دون الآخرين فلا يترتب عليه أي حرج على المجتهد مطلقاً، إلا إذا خالفهم تعنتا منه وبلا دليل. بل يمكن أن يقول إن الحرج يمكن أن يتوجه على المجتهد أيضاً إذا نظر في مسألة سبقت زمانه وللعلماء فيها أقوال وتوصل هو إلى قول يخالفهم جميعاً فيه، لا مجرد قولٍ هو غير قولهم، وهذا معلوم في مباحث الأصول. وهكذا هي الحال في علم المنطق، فالمنطق إذا تكلمنا عليه كعلم مُقَنَّنٍ يتألف من مسائل ومباحث، فلا شك أنه طارئ بهذا الشكل، ليس على الأمة الإسلامية، بل على الجنس البشري أيضاً، ولكن هذا الطروء والحدث الموسوم به بصورته هذه يتشارك فيه مع سائر العلوم والفنون الأخرى، فكل العلوم إذا تكلمنا عليها من هذه الجهة طارئة. فلا يترتب على حدوث علم المنطق بهذا الشكل ولمجرد الحدوث ذمٌّ، كما لا يترتب عليه لمجرد ذلك مدح. وأما إذا تكلمنا عليه باعتبار مفاهيمه المعقولة كمفهوم الاستقراء والقياس اللتين هما آلتان أساسيتان للفهم البشري، وهما من مسائل علم المنطق، فهو قديم قدم الجنس البشري. وإنما يجب أن يحمل اختلاف الأنظار فيه على هذه الجهة، فيقال إن القياس مثلاً غير مفيد للعلم خلافاً لما يدعيه المنطقي، وكذلك الاستقراء، أو يقال أنهما مفيدان للعلم وفاقاً له، وعليه يكون المنطق حسناً أو قبيحاً. وعلى ذلك فالمسألة تحتاج إلى مثل هذا التفصيل، وهذا المعنى أشرنا إليه في ما سبق في عدة مواضع وسوف نـزيده وضوحاً هنا. مناقشة العلة الأولى التي اعتمد عليها السيوطي في تحريم المنطق. قال السيوطي( ): "أما الصحابة والتابعون وأتباعهم فلم يَرِدْ عنهم فيه التصريح بشيء لكونه لم يكن موجوداً في زمنهم، وإنما حدث في أواخر القرن الثاني كما تقدم وكان الإمام الشافعي حياً آنذاك فتكلم فيه، وهو أقدم من رأيته حطَ عليه."اهـ. وبالإشارة إلى ما مضى، فإننا نعلم أن كلام السيوطي إذا كان صحيحاً فيجب أن يكون متوجهاً على شكل علم المنطق كما ظهر في الكتب والتآليف وكما رتبه عليه المؤلفون فيه، ولا يجوز أن يكون متوجهاً على حقيقة علم المنطق، ولأن هذه الحقيقة موجودة في زمان الصحابة وقبلهم ولا تزال موجودة بعدهم حتى الآن، ولن تزال. فأما الكتب التي احتوت علم المنطق فلم تكن موجودة في زمانهم ، بل وجدت بعد ذلك وكانت مخلوطة بمسائل من الفلسفة اليونانية كما هو معلوم، وكان المسلمون حديثي عهد بالترجمات، بل كان المترجمون حديثي عهد بذلك، فكانت تراجمهم لكتب الأمم السابقة غالباً مخلوطة بأسلوب الكتاب الأصليين من يونان وهنود وغيرهم، فكانت الكتب المترجمة لا تظهر فيها الفصاحة كما تظهر في الكتب العربية الأصيلة. وسوف نورد فيما يلي نص الإمام الشافعي كما أورده السيوطي قال رحمه الله تعالى( ): "ذكر النص الذي ورد عن الإمام الشافعي في ذلك، قال أبو الحسن بن مهدي حدثنا محمد بن هارون ثنا هميم ابن همام ثنا حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لِتَرْكِهم لسانَ العرب وميلهم إلى لسان أرسطاليس ثم قال السيوطي( ): "وأشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع."اهـ وسوف نناقش هنا كلمة الإمام الشافعي على فرض صحة السند إليه، ، نناقشها من ناحية معناها، لنرى هل هي صحيحة أوْ لا، وإن كانت صحيحة فما مدى دائرة صحتها؟ أولاً نقول: إن الإمام الشافعي كغيره من الناس من حيث الأصل في جواز إصابته في كلامه، والانتقاد عليه، حيث لم تثبت العصمة إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، نعم الإمام الشافعي مشهود له في علم الفقه والأصول وغير ذلك من العلوم على أنه إمام متبع، ونحن نتبعه أصلاً في ذلك كله، ولكن اتباعنا له لا يستلزم التسليم له بكل ما يقوله. وهذه بديهية من بديهيات الإسلام. وأيضا فإنَّ الأصل المُسَلَّم عند أهل العلم أنه إذا بَلَغَنا قولٌ عن إمام مشهود له، وظاهر هذا القول فيه فساد بيِّن، فعلينا أن نحمل هذا القول على معنى لائق، بأن نبحث عن القرائن الأخرى التي تصحح ذلك، وإلا فان لم نجد، حَكَمْنَا عليه بما هو ظاهر فيه. قال الإمام العلامة السعد التفتازاني( ):" لكنه ينبغي للعاقل أن يتأمل في أمثال هذه المباحث ولا ينسب إلى الراسخين من علماء الأصول ما يكون استحالته بديهية ظاهرة على من له أدنى تمييز، بل يطلب لكلامهم محملاً صحيحاً يصلح محلاً لنـزاع العلماء واختلاف العقلاء" وبناء على ذلك نبدأ نقدنا لهذه الكلمة، فقوله (الناس) عامٌّ، وقد يقال إنه ظاهر في العموم، فهو على ذلك شامل للناس الذين كانوا قبله والمعاصرين له وإذا احتج به على ما بعده، فإن هذا الاحتجاج لا يتم إلا إذا ادعي عمومه لما بعده، فهو يحكم على مَنْ جَهِلَ مِنْ هؤلاء الناس بأنَّ سبب جهلهم هو تركهم للسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس. والجهل هو عدم إدراك الحق مطلقا، سواء لم يعرفه أصلاً أو اعتقد غيره. وعندما ننظر في هذه العبارة بعد ما قلناه، ونحاكمها إلى الواقع الموجود نرى مايلي. إن الجهل واقع في بعض الناس قبل الشافعي وفي عصره وبعد عصره. وأيضا فهو واقع قبل معرفة المسلمين للسان أرسطو وبعده، وهو واقع أيضا فيمن يتبعون هذا اللسان وممن لا يتبعونه، ويستحيل أن يكون الجهل الواقع قبل معرفتهم للسان أرسطو نتيجة للسان أرسطو والإ لزم أن تكون النتيجة سابقة للسبب والعلة وهذا ممنوع. ويستحيل أن يكون سبب جهل الناس الذين ينكرون لسان أرسطو هو عين لسان أرسطو لعدم وجود العلة في حقهم، والعدم لا يؤثر هنا. وهكذا فالحاصل أن الناس الذين جهلوا، بعضهم يستحيل أن يكون سبب جهله لسان أرسطو، ولذلك فيستحيل أن يكون مراد الإمام الشافعي تعميم قوله بتعليل جهل عموم الناس بميلهم إلى لسان ارسطو. إذن يجب أن يحمل كلامه على بعض الناس ومادام الكلام في البعض، ولا يجوز تعميم كلامه. فنحن نقول أيضا إذا كان قصده أن كل من مال إلى لسان أرسطو وقع في الغلط فهذا أيضا غير مسلم لمخالفته الواقع. لأن كثيرا من العلماء عرفوا المنطق، ولم يقعوا في الأغلاط التي تستنكر. فيجب إذن حمل كلام الشافعي على المعنى التالي وهو: أن بعض من مال إلى لسان أرسطو وقع في الجهل، وهذه قضية مُسَلَّمَةٌ، ولكن إذا تحصَّل لدينا أن كلام الإمام الشافعي لا يصح إلا بعد حمله على هذا المعنى، فالحاصل هو القول بأن الميل إلى لسان أرسطو ليس هو نفس علة الوقوع في الغلط، وذلك لأنه ليس كل من مال إليه وقع في الغلط، فيلزم أن من وقع في الجهل والغلط ممن مال إلى لسان ارسطو قد تلبس أيضا بصفات أخرى غريبة عن هذا اللسان الأرسطى، فلزم وقوعُه في الجهل. وإذا كان الأمر كذلك فيستحيل تعليل الجهل والغلط بعين الميل واتباع لسان أرسطو. هكذا يجب أن نفهم عبارة الإمام الشافعي. وعليه فهناك علائق أخرى تلبس بها هؤلاء الجهلة تسببت في جهلهم. وإذا عرفنا أن المنطق حتى زمان الإمام الشافعي كان مخلوطا بالمقولات الفلسفية على سبيل التمثيل على الصور الفكرية المنطقية، فيمكن أن يكون الغلط ناتجا من تأثر الناس بهذه المواد التمثيلية المختلطة بالصور الفكرية المنطقية. وكذلك ربما يكون مثال من الأمثلة لم تتم سياقته سياقة منطقية وهذا مُحْتَمَلٌ جدا فتأثَّرَ الناس به فجهلوا. وكذلك فيمكن أن يكون جهل هؤلاء من تسليطهم الصورة الفكرية المنطقية على مادة فاسدة، مما أنتج عندهم جهلا وغلطا. كما يمكن لمن عرف المنطق أن يطبقه تطبيقا خاطئا فيحصل الجهل. وكل هذه الاحتمالات وغيرها احتمالات واقعة وليس مجرد فرضيات عقلية لا وقوع لها. ويلزم على ذلك تخصيص لفظ الناس الوارد في عبارة الشافعي ببعض من جهلوا، واخراج نفس الميل عن كونه علة للجهل. وربما لذلك قال السيوطي إن الإمام الشافعي أشار بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من البدع. وهذا محاولة من السيوطي لتخصيص عموم كلام الإمام الشافعي، وإن كنا لا نوافقه في التخصيص بما ذكر، بل التخصيص حاصل بالالتفات إلى ما أوردناه من الاحتمالات المذكورة سابقا. فإنَّ المشاكل التي أوردها كأمثلة نتيجة لميل الناس إلى لسان أرسطو كنفي الرؤية حصل فيها خلاف في زمن الصحابة الأوائل كما هو معلوم، وقبل معرفة لسان أرسطو ولذلك فهي لا تصلح كمثال على ما يقول، وأيضا فمشكلة خلق القرآن كانت أقدم من زمان معرفتهم للسان أرسطو كما ذكره السيوطي نفسه في نص هذا الكتاب فقال( ): "وأخرج نصر أيضا عن أبي هريرة قال كنا عند عمر بن خطاب إذ جاءه رجل يسأله عن القرآن، أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ فقال علي: هذه كلمة وسيكون لها ثمرة ولو وُلِّيْتُ من الأمر ما وليت ضربت عنقه" وكذلك ما أورده السيوطي من قصة صبيع فقال ( ): " وأخرج الدرامي في سنده عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدَّ له عراجين النخل، فقال: من أنت. قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه"اهـ. فالكلام في متشابه القرآن وفي الرؤية وكذلك في القدر وفي غير ذلك من مسائل الاعتقاد والخلاف فيه كان في الزمان المتقدم، وإن لم ينتشر كما في الأزمنة المتأخرة. فإن قال قائل: ربما أراد الشافعي بما قاله أن معرفتهم للسان أرسطو قد شجع في زيادة الخلاف، فيقال له هذا ممكن ولكن لا يُنسَبُ إلى المنطق مفسدة خالصة، فإن بعض من لم يكونوا يعرفون من لسان أرسطو شيئا كالكرامية ومجسمة الحنابلة قد اشتدوا في الغلط والإفساد في علم التوحيد. فلا يجوز نسبة مطلق الجهل ولا زيادته وانتشاره مطلقا إلى ميل الناس إلى لسان أرسطو. وغاية ما يكون منه، هو تأثيره في البعض. وبناءا على ما مضى، يلزم تخصيص كلام الإمام الشافعي ومن ثم الاستدلال به على هؤلاء البعض فقط. ثم يشرع بعد ذلك في تحليل سبب نـزولهم في هذه الجهالات هل هو عين المنطق أم ما خالطه؟ هذه هي الطريقة الصحيحة لفهم مثل هذه النصوص لمن أراد تحقيق الحق فيها وحملها على معناها الصحيح والملائم لمكانة قائلها في العلوم. ثم قال السيوطي( ): "أخرج الهروي في كتاب ذم الكلام بسنده عن الشافعي قال: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ. دلَّ ذلك منه على أن العلة في تحريم النظر في علم الكلام ما يخشى منه من إثارة الفتنة والانجرار في البدع، فحرمه قياساً على تحريم النظر في المتشابه، وهذا قياس صحيح، وهذه العلة بعينها موجودة في المنطق كما ذكره الشافعي، فيكون الدليل على تحريم النظر فيه على القياس على الأصل المقيس عليه علم الكلام، وهو المتشابه المنصوص على تحريم النظر فيه، وهذا قياس صحيح لا يتطرق إليه قدح بنقض ولا معارضة.اهـ".

هذا الهرويُّ الذي ينقل عنه السيوطي من متعصبي المجسمية، وكتابه هذا يتخلله مغالطات عديدة، في هذا المجال لانبنائة على روايات تالفة أو عن رجال لا قيمة لآرائهم، وأما ما نقله عن المشهورين بالعلم منهم فلا تدل على مراده. ولسنا بصدد التأكد من نسبة هذا النص، للإمام الشافعي، ولكننا نتوجه بالنظر في نفس المتن وننقده بالأدلة والقواعد العامة، ولا يهمنا بعد ذلك صحَّ السند إليه أو لم يصحَّ.

المُدَّعى هنا أن المنطق يتوصل إلى النهي عنه والحكم بتحريمه قياساً على علم الكلام. وهذا الاستدلال بالقياس لا يتم إلا بما يلي 1- التأكد من أن علم الكلام مذموم مطلقاً. 2- تحقيق علة النهي التي من أجلها نهي عن علم الكلام. 3- إثبات أن علة تحريم علم الكلام موجودة في علم المنطق. 4- إذا ثبت ذلك ثبت أن المنطق علم مذموم. وكما هو معلوم في علم الأصول فإن العلة يجب أن تكون مناسبة للحكم، ويجب اطرادها، وإن وجدت في جزئية أخرى ولم يوجد حكمها انقدح كونها علة لهذا الحكم. ويجب التحقق من كون الحكم متعلقا بالعلة المدعاة نفسها لا بغيرها. وبناءً على هذه المقدمة نقول: إن الإمام السيوطي قال أولاً أن علم الكلام مذموم ومنهي عنه قياساً له على المتشابهات، فهو إذن يعتبر علم الكلام من المتشابهات أو يشاركها في علة النهي. فإذا سلمنا له أن الوصف بالتشابه الموجود في المتشابهات هو بعينه موجود في علم الكلام سلمنا له النهي عنه بعد التسليم بالنهي عن المتشابهات. فيجب أولاً تحقيق معنى المتشابهات لنعرف حقيقة هذه العلة التي أنيط بها الحكم المذكور. النصوص التي وردت عن الشارع إما أن تحتمل معنى واحداً لا غير، أو تحتمل أكثر من معنى لأول النظر، القسم الأول هو المحكم، وأما الثاني فهو التعريف الأعم للمتشابه، وهذا القسم إما أن يكون جارياً على الأوضاع العربية في السياق كقوله تعالى (يد الله فوق أيديهم)، أو لا يكون كقوله تعالى (ألم)، والقسم الثاني لا كلام لنا فيه، وأما القسم الأول، فلا يخلو إما أن يكون موجهاً إلينا للإفهام والإفادة أو لا يكون، الاحتمال الثاني باطل لأن ما في القرآن يجب كونه للإفهام والتعليم، وعلى الأول فإما أن يكون بقدرة أيِّ واحد فهمه أو لا، الأول باطل وإلا لكان محكماً أو ارتفع الخلاف فيه، إذن كلامنا في القسم الثاني، فالذين يفهمون مثل هذه النصوص هم الخواص أي العلماء. وعلى هذا فإما أن يكونوا مكلفين بالفهم أو لا يكونوا، والفرض أن كل القرآن إنما أنـزل للإفادة والتعليم، إذن فهم مكلفون بالفهم. وعليه، فإما أن يتفقوا على فهم واحد للآيات، أو لا، فإن اتفقوا لزم اتباعهم عليه، وإلا فيرجع الأمر إلى الأدلة والبراهين للزوم وجود مصيب واحد، في مثل هذه المسائل الإعتقادية وإن فرض محل الكلام نصاً فقهياً، فكذلك عند غير المصوبة أو يقال بتصويب الجميع على رأيهم، وعلى كلٍّ فالخلاف في الفقهيات يسير والأمر فيه سهل. والحاصل من هذه المقدمة أن المتشابهات هي نصوص شرعية أمر العلماء بالتدبر فيها ومحاولة اكتشاف معانيها وعلى العوام اتباع أهل الحق والبرهان. هذا هو الحكم الشرعي الصحيح في المتشابهات. وهذه النصوص إما أن يتوصل المجتهد فيها إلى درك الحق تفصيلاً أو إجمالاً، فهما مرتبتان من العلم لا تعارض الواحدة الأخرى، ولا إشكال في اتباع أي منهما، بل ربما يقال أن الواحد قد يكون مكلفاً بالإجمال أحياناً وبالتفصيل أحيانا أخرى على حسب الأحوال. وإذا كان الأمر كذلك في المتشابهات. فما هو علم الكلام، هل علم الكلام يبحث فقط في النصوص المتشابهة؟ أم يبحث فيها وفي غيرها؟ وهل هذه النصوص المتشابهة فقط هي أساس هذا العلم أم لا؟ الصحيح أنَّ علم الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن أدلتها اليقينية، والعقائد الدينية أعم من أن تكون مبنية على النصوص المتشابهة، بل ربما تكون هذه خارجة من العقائد لكونها متشابهة والعقيدة لا تكون مبنية على نص متشابه. نعم الصحيح أن المتشابهات مبحث من مباحث علم الكلام، ولكن لا على سبيل أنها متشابهة، بل لتبيين المعنى الصحيح أو الأصح فيها قطعاً لخلافات الناس، ونفياً لتحريفات المنحرفين في الاعتقادات. أما أن يقال إن علم الكلام يتألف من البحث فيها فهذا كلام غير صحيح مطلقاً. نعم إذا أقام الواحد عقيدته على مثل هذه النصوص فربما يوصله ذلك إلى الانحراف والغلط في أصول الدين. ولكن مَنْ تمسَّك بالأصول المحكمة وعالج هذه المتشابهات بناء على ضوء المحكمات، فكيف يكون من الزائغين؟ اللهم إلا إن كانت كيفية محاكمته غير صحيحة أما أصل الطريقة فصحيح بلا ريب. علم الكلام إذا كانت أصول مباحثه هي الأدلة اليقينية القائمة على العقائد الدينية فهل يمكن أن يكون مذموماً مطلقاً؟! الصحيح أن القول بذلك بَيِّنُ البطلان والقائل به مغالط صريح.

نخلص مما مضى إلى أن المشاركة بين علم الكلام وبين المتشابهات هي في جزء لا في الكل، وأيضاً فلا يجوز أن يقال بناءا على ما به الاشتراك أنه يحرم الخوض في علم الكلام مطلقاً، بل الصحيح أنه يمنع للبعض ويجوز أو يجب للعلماء.

والنتيجة من ذلك أن علة النهي عن المتشابهات هي التشابه، وهي غير موجودة في جميع مباحث علم الكلام. فلا يجوز إذن تعميم النهي على كل مباحثه. هذا إذا سلمنا حرمة الخوض في المتشابهات على الإطلاق، وهو غير مسلم إذ يجوز النظر فيها لأهل العلم لأن نظر أهل العلم يزيل التشابه المُسَبِّب للضلال عند العامَّة والمنحرفين. ولو نظرنا في هذا التحليل للنص المذكور، لرأينا أنه يتوافق مع ما قلناه من استحالة التعميم للعبارة المرويَّة عن الإمام الشافعي، فكل من الموضعين ينتهي إلى تركيز النهي عن البعض وللبعض لا على الجميع. وعلى هذا يجب أن تحمل عبارته، وإلا وجب علينا ردَها لمخالفتها ما انتهى إليه النظر الصحيح. فالقياس الأول الذي أجراه السيوطي بين النظر في المتشابه والنظر في علم الكلام غير تام العلة وغير مسلم. وأما القياس بين علم الكلام وبين علم المنطق الذي اعتمد عليه الإمام السيوطي ثانياً، فهو أبعد من القياس الأول المشار إليه، وذلك أن علم المنطق يبحث في آلات التفكير، وهذه الآلات يستحيل أن تكون لذاتها مؤدية إلى الغلط وإلا بطل كونها آلات للتفكير. والمنطق يحتوي على أمور سلَّم جميع الناس بصحتها مثل القياس من الشكل الأول والاستقراء والتمثيل وقياس الخلف والكلام في مواد القضايا وغير ذلك، وهذه المباحث يستحيل أن تكون علة للغلط، لأنها لو كانت كذلك لحكم الناس ببطلانها بداهة، وهو غير الواقع الحاصل بالفعل. فإذا كان علم الكلام يبحث في مادة الأدلة على العقائد الدينية، وتنقيح العقائد مما ينسب إليها مما هو ليس منها، فالمتشابهات كذلك هي مواد قضايا عقائدية أو يدعى كونها كذلك، فمن هذا الوجه يوجد تشارك بينهما. وأما علم المنطق فلا يلتفت أصلاً إلى مواد قضايا معينة بل في أصول ذلك. وهذا لا اشتراك بينه وبين مباحثهما. ولو سلم الاشتراك بين علم الكلام وبين علم المنطق، فما وقع فيه الاشتراك بينهما ليس هو عين ما وقع عليه النهي في المتشابهات. ومع ذلك فلا يجوز سحب الحكم الذي استنبطه السيوطي من القياس الأول الذي أجراه بين النظر في علم الكلام والنظر في المتشابهات، وهو حرمة الاثنين. هذا الحكم لا يجوز تعديته إلى علم المنطق لعدم وجود رابطة بين الطرفين، أي إن العلة التي من أجلها عدَّى الإمام السيوطي الحكم من القياس الأول إليه غير موجودة فيه. وبناءً على ذلك فلا نسلم للإمام السيوطي - تعميمَه للفهم الذي استنبطه من كلام الشافعي، وهو ذمُّ علم الكلام مطلقاً، لأنه قد تبين لنا أن ذمَّه إنما يجب كونه متعلقاً بلون معين منه، أو بأناس معينين ممن ينتسبون إلى علماء الكلام. - إدعاءه أن العلة التي من أجلها نهي عن علم الكلام والنظر في المتشابهات موجودة في علم المنطق. وهاتان هما المقدمتان اللتان اعتمد عليها في تحريم المنطق، وقد تبين لنا أنهما غير صحيحتين ولا تُسَلَّمانِ له رحمه الله تعالى. والنتيجة من هذا كله أنه لا يوجد دليل قاطع ولا مُغَلِّبٌ للظنِّ على أن علم الكلام حرام مطلقاً. بل غاية ما يسلم أنه يحرم في حق بعض الناس بسب علل عارضة عليهم، أما أن تكون العلة المرجحة للتحريم فيه فهذا الكلام باطل مطلقاً. وبناءً على ذلك فإن القول بحرمة المنطق قياساً على حرمة علم الكلام باطل؛ لعدم اتصاف علم الكلام أصلاً بالحرمة من جميع الوجوه، ولعدم وجود وجه الشبه التام بين علم المنطق وعلم الكلام ثانياً.

مناقشة العلة الثانية التي اعتمد عليها السيوطي في تحريم المنطق قال السيوطي أيضاً مستدلاً على تحريم علم المنطق( ): "وقد يُدَّعى دخول هذه الصورة بخصوصها، أعني تحريم النظر في علم المنطق تحت عموم النصوص الدالة على تحريم كل ما جرَّ إلى فساد، أو خشي منه فتنة، فيكون التحريم مستفاداً من عموم النصوص لا من خصوص القياس"اهـ. وحاصل استدلال الإمام السيوطي نوضحه كما يلي:-

كل ما يؤدي إلى الفتنة فهو حرام، ودليل هذا النص.

المنطق يؤدي إلى الفتنة. إذن، المنطق حرام. فإذا سلمنا المقدمتين نسلم النتيجة بلا شك، ولكن المقدمة الثانية محل نظر لما مرَّ في البحث سابقا، وحاصله أننا لا نسلم أن المنطق يؤدي إلى الفتنة بذاته ولذاته، بمعنى أن كل من درس واتبع قواعد المنطق أداه ذلك إلى الفتنة، بل هذا القول باطل، والصحيح أن تقول أن بعض من يدرسون المنطق يغلطون فيفتنون، والبعض لا. إذنْ، التأدي إلى الغلط والضلال ليس معلولاً للمنطق ولا المنطق علة فيه، فيجب أن يكون هناك سبب آخر رجح وقوع بعض من درس المنطق في الغلط والفتنة. وهذا الأمر ليس ذاتياً من ذاتيات المنطق، وعلى كل الأحوال فهذا الأمر الثالث الغريب عن علم المنطق والخارج عنه -وعن ماهية علم الكلام- هو العلة في الوقوع في الضلال والغلط لا المنطق. ولا يجوز الاستدلال على كون المنطق علة للفتنة بوقوع بعض المناطقة في الغلط والانحراف، وذلك لأن البعض الآخر لم يقعوا في ذلك قطعاً، وهذا معلوم بالمشاهدة. إذن من وقع في ذلك إنما وقع لأسباب أخرى غير المنطق. وكذلك نقول بعض المحدِّثين قائلون بالتجسيم، والمجسمة مبتدعة، ولكن علم الحديث ليس علة للوقوع في التجسيم بدليل وجود محدِّثين آخرين كثيرين ليسوا بمُجَسِّمةٍ ولا مبتدعة. إذن علة التجسيم ليس هو كون الواحد محدَّثا. ولو ثبت عندنا أن المنطق يؤدي إلى الضلال لذاته، لحرمناه، ولكن هذا لا يثبت إلا ببيان أن نفس القواعد الموضوعة فيه والتي تشكل مسائل منه هي عينها غلط وضلال، وهذا لم يثبت. ولو ثبت أن بعض هذه المسائل غلط فالجائز أن يقال عندئذ هو أن هذه المسائل المشار إليها تؤدي إلى الغلط والفتنة، ولا يجوز مطلقاً تعميم التحريم أو تعميم الحكم بالغلط والتأدي إلى الفتنة إلى غيرها من المسائل. وإذا فرضنا ذلك، فالواجب عندئذ أن يقال إن بعض مسائل المنطق تؤدي إلى الفتنة وما يؤدي إلى الفتنة حرام، إذن هذه المسائل المؤدية إلى الغلط والفتنة هي الحرام فقط. مناقشة العلة الثالثة التي اعتمد عليها السيوطي في تحريم المنطق قال الإمام السيوطي( ):"وقد أشار الشافعي إلى علة أخرى في علم الكلام، تأتي في المنطق، فأخرج الهروي في ذم الكلام عن طريق الكرابيسي، قال: شهدت الشافعي ودخل عليه بشر المريسيّ، فقال لبشر أخبرني عما تدعو إليه، أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال. فقال بشر: لا، إلا أنه لا يسعنا خلافه. فقال الشافعي أقررت بنفسك على الخطأ، فأين أنت من الكلام في الفقه والأخبار. فلما أخرج( ) قال الشافعي: لا يفلح. دلَّ هذا النص على أن من العلة في تحريم النظر في علم الكلام كونه لم يرد الأمر به في كتاب ولا سنة، ولا وجد عن السلف البحث فيه، وهذا بعينه موجود في المنطق، فإنه لم يرد الأمر به في كتاب ولا سنة، ولا يوجد عن السلف البحث فيه، بخلاف العربية فإنه ورد الأمر بها في الحديث ووجد عن السلف البحث فيها". كمال عبارة الشافعي رحمه الله كما في كتاب ذم الكلام أنه قال البشر( ):"أقررت بنفسك على الخطأ، فأين أنت من الكلام في الفقه والأخبار، يواليك الناس عليه وتترك هذا"اهـ. استنبط الإمام السيوطي من كلام الإمام الشافعي أن من أسباب تحريم النظر في علم الكلام كونه لم يرد الأمر به ولا وجد عن السلف البحث فيه. وهذان معنيان اثنان، فالأول عدم ورود الأمر به والثاني عدم بحث السلف فيه. والاحتمالات هنا كما يلي: إما أن تكون العلة هي مجموع هذين المعنيين فتكون العلة مركبة، أو كل واحد منهما على حدة علة فتكون العلة بسيطة. وعلى القول بأنها بسيطة فيكفي تحقق واحد من المعنيين لتحريم الشيء، وعلى القول بأنها مركبة فلا بد من تحقق اجتماع المعنيين في الشيء لكي يقال بتحريمه. وكذلك فنحن نحلل المقام من جهة أخرى وهي ما تعلق به النهي والتحريم، هل هو كل مسألة من مسائل الكلام أم إنه بعض المسائل منه.

والذي يريد الإمام السيوطي الاستدلال عليه هو تحريم النظر في علم الكلام من حيث هو علم لا بالنظر إلى بعض المسائل، وتحريمه كعلم يعود بالتحريم على جميع المسائل، ولكن تحريم النظر في بعض المسائل لا يستلزم تحريمه كعلم. ولا يتم مطلوبه -رحمه الله- إلا إذا أثبت أن جميع مسائل علم الكلام محرمة، وسبب تحريمها هو عدم الأمر بها وعدم خوض السلف فيها. ولكن إذا ثبت أن السلف خاضوا ولو في بعض المسائل منه، فيمتنع القول بأن علم الكلام محرم كله. وكذلك إذا ثبت أنه قد ورد النص ولو في بعض مسائل علم الكلام (علم التوحيد، علم العقائد) فيمتنع أيضاً القول بأنه محرَّم كله، هذا كله إذا سلمنا أن مجرد عدم ورود الأمر وعدم بحث السلف فيه يستلزم التحريم ولكن إذا لم يسلم ذلك على إطلاقه، بل قلنا يلزم لتحريم الشيء ورود النص بتحريمه، أو قيام الدليل استنباطا على تحريمه لا مجرد عدم حصوله في زمان ما، إذا قلنا بذلك؛ فإن القول بالتحريم مطلقاً ينهدم بلا ريب.

وبناءً على هذا فالحَكَمُ في هذا الباب هو معرفة مسائل علم الكلام، فإذا كانت كل مسألة منه محرمة فهو محرم وإلا فلا. فمن مسائله معرفة أن الله موجود والأدلة عليها، وهذه غير محرمة بل واجبة، ومعرفة اتصافه بالقدرة والعلم والحياة وغيرها من الصفات المحكمة، وهذا واجب معرفته وكذلك معرفة أنه جل شأنه خالق كل ما في العالم من جواهر وأعراض، وهذا واجب معرفته، وكذلك أنه لا يظلم أحداً وتحقيق ذلك والعلم بالأدلة على نبوة الأنبياء والعلم بصفات الأنبياء وغير ذلك من مسائل علم التوحيد، وكل هذه المسائل واجبة ولا يجوز تحريم العلم بها. وهذه تشكل غالب مجموع مسائل علم التوحيد، وعلم الكلام. وأما بقية المسائل فمنها مسألة النصوص المتشابهة، وهذه يجب الكلام فيها لدفع الناس عن جهة التشابه منها، وحثهم على لزوم تمسكهم بجهة الإحكام فيها، وهذا القدر هو الذي يتكلم فيه المتكلمون من أهل السنة، وهو واجب لا ريب فيه ولا شك. وأما الكلام في نفس جهة التشابه فيها على سبيل الاعتقاد، فهو الباطل الذي لا دليل عليه. وكذلك الكلام في حقيقة ذات الله فهو ممتنع لعدم إمكان العلم بها وبصفاته جلّ شأنه، وغاية ما يتعلق به علم النَّاس هو إثبات الصفة أما حقيقتها فلا مجال لهم فيه. هذا هو إجمال مسائل علم الكلام، ونحن نرى أن الكلام فيها واجب لأن الكلام فيها هو الكلام في أصول التوحيد والدين وهذا واجب لا شك فيه. فالحاصل من ذلك كلِّه أن علم التوحيد والكلام إذا كانت هذه مسائلة فيستحيل أن يكون حراماً. إذن فما يحرم منه هو الكلام في بعض المسائل على جهة الغلط، كالكلام في المتشابهات على جهة تشبيه الله تعالى بخلقه، فهذا كلام باطل، وأما الكلام عليها لتقييد المحكم منها وعزل الناس عن جهة التشابه فهو واجب لا ريب. وبناءً على ذلك نقول: إنَّ القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطَّهرة قد وردا بأغلب مسائل الكلام نصاً وبكثير من الباقي إشارة، واستدل العلماء بالأدلة العقلية القوية على كثير من مطالبه، مدعمين للقرآن والسنة غير معارضين لهما. وهذا معناه أن النظر في علم الكلام واجب على حسب التفصيل الذي ذكره العلماء عيناً أو كفايةً. وأما الصحابة ومن تبعهم فإنه وردت عنهم كلمات في أغلب مسائل التوحيد كوجود الله واتصافه بالقدرة والعلم والحياة والحكمة، وكونه خالقاً لكل ما في الوجود، وغير ذلك من مطالب علم الكلام. وأما العلماء ممَّن بعدهم، فقد أكثروا من التفصيل في علم التوحيد والصفات لازدياد الحاجة إليه ولم يزل العلماء المقتدى بهم في الأمة الإسلامية يعتبرون هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق حتى أيامنا هذه، ومن أطلق منهم ذمَّه فيجب صرف كلامه إلى بعض المتكلمين أو بعض المسائل التي يمتنع الكلام فيها لاستحالة دركها أو لمجانبة كلامهم الحق فيها. إن عدم إيجاب الشريعة لتعلم علم الكلام، مجرد ادعاء، فإنه إذا كان علم الكلام ما هو إلا مجموعة مسائل التوحيد والاستدلال عليها، فإن ثلث القرآن على الأقل كلام، وكثير من السنة كلام. ولا يكمل إسلام المرء إلا بالكلام. وكذلك فقد أمرنا الله تعالى بالنظر في أنفسنا وفي الآفاق للاستدلال وعلى ذاته وعلى صفاته، وضرب الأمثلة للاستدلال على نبوة الأنبياء والبعث وإمكان العذاب والخلق والإفناء والإعدام والثواب والعقاب، وهذه هي أصول مسائل علم الكلام، فالحاصل أن القرآن والسنة فيهما أمرٌ بعلم الكلام، فالأحكام معلقة بالمعاني لا بالألفاظ. ولو تأملنا في بقية كلام الشّافعي الذي وجهه إلى بشر المريسي: "فأين أنت من الكلام في الفقه والأخبار يواليك الناس عليه وتترك هذا" اهـ، لأدركنا أن السبب في حطِّ الشّافعي بشر المريسي إنما هو تأدية علمه إلى عدم موالاة الناس له أي مقاتلتهم ومعاداتهم له ومعاداة الناس لا تأتي إلا إذا خالفهم الواحد في أمر أصلي عظيم، وأعظم الأمور هي أصول علم التوحيد. ولكن عين معاداتهم لا تجوز أن تكون هي العلة للتحريم، لأن النبي عليه السَّلام عاداه قومه لمخالفته إياهم في أصول الدين والتوحيد، ولكن معاداتهم له لم تثنه عن الاستمرار في الدعوة لهذا الدين. إذن لا يجوز أن تكون معاداة الناس علَّه للتحريم إلا إذا كان الناس على حق وعادوا من خالفهم فهذا دليل على التحريم لا بمجرد المعاداة بل لكونها من غير وجه حق. ولذلك فإننا يجب علينا أن ننكر على ابن تيمية ما يقول به من عقائد المجسِّمة هو وأتباعه في هذا الزَّمان وإن أدى ذلك إلى معاداة الناس لنا، فمعاداتهم لنا إن حصلت فما هي إلا لانخداعهم بالبريق الإعلامي الذي ألبسه كثير من النَّاس لابن تيمية ولِما أسبغوا به عليه من صفات التقديس والتبجيل حتى أضحت مجرد مخالفته دليلاً عند غالبهم على الغلط والضَّلال، بينما الحقيقة هي أنَّه هو الغارق في الخطأ وأن أكثر أتباعه يتلبَّسون بالجهل العظيم والتعصب المقيت. والله المستعان. فاشتغالنا بالمسائل التي تستلزم معاداة مثل هؤلاء النَّاس لنا لا يجوز أن تكون باطلاً ولا حراماً، بل خوفنا من معاداة الناس لنا وتركنا للدَّعوة إلى الصحيح من العقائد والرد على المغرقين في الغلط هو الحرام والباطل. مناقشة العلة الأخيرة التي اعتمد عليها السيوطي في تحريم المنطق قال الإمام السَّيوطي رحمه الله تعالى( ): "وقد أشار الشَّافعي إلى علَّة ثالثة( ) في علم الكلام تأتي في المنطق، فأخرج الهروي أيضاً من طريق أبي ثور قال سمعت الشَّافعي يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا إلى الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويُنادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنة وأقبل على الكلام. وأخرج من طريق آخر عن الشَّافعي قال: مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسِّياط وتشريدهم من البلاد. دلَّ نصُّه على أنَّ مما يُعلل به تحريم النَّظر في علم الكلام كونه مخالفاً لأسلوب الكتاب والسُّنة، أو كونه سبباً لترك الكتاب والسُّنة ونسيانهما. وذلك جارٍ في المنطق أيضاً"اهـ. إذا كان الأسلوب الذي يتبعه المتكلمون مغايراً للأسلوب القرآني فهل مجرد هذا يكفي للحكم على الكلام بالحرمة. إنَّنا نعرف أنَّ القرآن معجز، وأنَّ محور إعجازه هو البلاغة، والبلاغة في النَّهاية تتركز في الأسلوب القرآني في سرد الوقائع والأحكام. فالأسلوب القرآني هو سبب الإعجاز وهو بعينه دليل على صدق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام. إذا قلنا إنه يجب على جميع من يخوض في العلوم أن يتبع الأسلوب القرآني في البيان، فيلزم إيجاب أن يكون كلام كل من يخوض في العلوم معجِزاً. وهذا مستحيل، لأن إلزامه بالإتيان بأسلوب القرآن هو إلزام له بجعل كلامه معجزاً، وهذا غير متيسر لبني البشر، وإلا لزم كون القرآن غير معجز، أو تحريم الخوض في العلوم مطلقاً والاكتفاء بتكرار الألفاظ القرآنية، وهذا لا قائل به على الإطلاق. إذن لا يجوز مجرد كون المتكلمين اتبعوا أسلوباً غير أسلوب القرآن البلاغي سبباً في تحريم علم الكلام، فالحرمة في هذا الباب دائرة على الأحكام وطرق الاستدلال ومعلوم أنَّ الحكم وطريقة الاستدلال يمكن التعبير عنها بعدة أشكال، ولكن لا يمكن أن يكون شكلٌ منها معجزاً كإعجاز القرآن، نعم الأساليب تتفاوت بحسب تفاوت مراتب النَّاس في نظم الألفاظ، ولكن مستوى الإعجاز خاصٌ بالقرآن وحده، ولا دليل مطلقاً على إيجاب اتباع أسلوب معين دون غيره. بل الدليل قائم على لزوم اتباع الأدلة الصحيحة واجتناب الباطل منها، والدليل قائم على لزوم اتباع الأحكام الصَّحيحة واجتناب الباطل منها، أما الأسلوب فلا. إذن الأسلوب من حيث هو أسلوب لا إيجاب متعلقا به ولا حرمة، ما دام يعطي النَّتيجة الصَّحيحة، ويوصل المطلوب إلى الغير، وحصر الكلام في أسلوب دون آخر أمرٌ لا دليل عليه مطلقاً. إنَّ الإسلام قد خاطب العرب وغير العرب، وطلب من العرب وغير العرب أن يتعلموا الإسلام، فلو أوجبنا على الجميع من عرب وغير عرب أن لا يتعلموا العلوم ولا يعلِّموها ولا يفكروا فيها ولا يؤلِّفوا فيها إلا بأسلوب القرآن لكان في ذلك عنت كبير، إنَّ العرب أنفسهم لا يستطيع أحد منهم إلا التأثر بأسلوب القرآن لا الاقتراب منه، فكيف بغيرهم، كيف نوجب عليهم تعلُّم لغة أجنبية عليهم أوَّلاً ثم البلوغ في هذه اللُّغة أقصى مراتب الإعجاز أو ما يداينها. إن العقل السَّليم لا يوجب شيئاً من ذلك، وإنَّ الشَّريعة ليس فيها إيجاب ذلك مطلقاً، ولم ينص على ذلك واحدٌ من الأئمة. غاية ما نصوا عليه هو نوع الأدلة التي ينبغي استعمالها لا الأسلوب الذي تصاغ فيه. فإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن لإمام كبير مثل الشَّافعي أن ينصَّ على شيء يخالفه؟ أقول: إنَّ كلمة الإمام الشَّافعي رحمه الله ليس فيها شيء يشير إلى لزوم اتباع الأسلوب الخاص بالكتاب والسُّنة، بل فيها النَّهي عن ترك الكتاب والسُّنة أنفسهما، وتركهما يكون بعدم الالتفات إليهما وعدم الاعتماد على ما جاء فيهما من أحكام وإرشاد، ولا يكون بعدم الاقتداء بهما في الأسلوب. فالشَّافعي علَّق الذم على ترك المتكلمين للكتاب والسنة لا على مخالفتهم لأسلوب الكتاب والسنة وفرق عظيم بين المعنيين. ونحن نجزم بأن من ترك الكتاب والسنة بأن أتى بأمور تخالف أحكامهما وتعارض إرشادهما فإن هذا متعرض للوعيد بلا ريب ونسلِّم بذلك. ولكن يبقى الكلام في أن علم الكلام نفسه هل يترتب عليه مثل هذه الحال، فإذا لزم لمجرد علم الكلام ذلك لزمت حرمته، وإلا فلا. ولكننا نعلم علم اليقين أن المتكلم لا يشترط فيه لكي يصير متكلما أن يهجر الكتاب والسنة، بل إنَّ المتكلم الحقيقي الراسخ في العلم هو من ازداد رسوخه في الكتاب والسُّنة واستقى أدلَّته على العقائد منهما، ولهذا فكم نرى من متكلمين مفسرين للقرآن وشارحين للسُّنة ومحقِّقين في أحاديث التوحيد منها بل إن بعض أعظم المفسرين كانوا من المتكلمين في علم الكلام، وربما يكونون أغلبهم. إنه لا يوجد مطلقاً تلازم بين علم الكلام وبين ترك القرآن والسُّنة، بل إنَّنا نرى العكس هو الصَّحيح، إنَّ المتكلم يصبح نظره أقوى وفهمه أدق للكتاب والسُّنة بلا ريب، وذلك لما يستفيده من تحقيق قواعد كلية عقلية ونقلية في علم الكلام ومقدماته وما يستلزمه الاطلاع عليه من علوم أخرى كالأصول والعربية والمنطق والإطلاع العميق في أصول الشريعة وغير ذلك من الطبيعيات والأديان والمذاهب والنِّحل والملل الأخرى. إذن فإن ما استنبطه الإمام السَّيوطي من كلمة الشافعي غير صحيح ولا يسلم له، ولهذا لا يجوز أن تُعتبر كلمة الشَّافعي هذه عامة، بل تخصص بمتكلمين معيَّنين هم الذين ضلوا وأخطؤوا، وهم الذين كان الإمام الشَّافعي يناقشهم وناظرهم كحفص الفرد، وبشر المريسي وغيرهما، وأما تعميم كلامه على كل من تكلم في التوحيد فلا يجوز على الإطلاق ومادام هذا غلطاً في علم الكلام فلا يجوز الاعتماد عليه في تحريم علم المنطق. وسيأتي زيادة تفصيل لذلك عند مناقشتنا لمناظرة السِّيرافي مع المنطقي. وبهذا نكون قد انتهينا من مناقشة العلل الأربعة التي اعتمد عليها الإمام السَّيوطي في تحريم المنطق والكلام. وسوف نعلق الآن على كتابه بإجمال ونحلِّل طريقته في الوصول إلى تحريم المنطق والكلام هل هي صحيحة أو غير صحيحة. وقد لخص الإمام السيوطي في أثناء كتابه هذا مطالب من عدة كتب اختارها، وسوف ننظر في النصوص التي أوردها للاستدلال على مراده، وننظر كما نظر لنعلم هل يؤدي بنا النظر إلى تحريم علم المنطق كما حرمه الإمام السيوطي أم لا.

أمور أخرى اعتمد السيوطي عليها وفيما يلي سوف نتناول بعض أهم الكتب التي اعتمد عليها السيوطي ونحللها.

1- كتاب ذم الكلام وأهله هذا الكتاب للشيخ عبد الله الأنصاري الهروي(396-481هـ)، وهذا الشيخ هو صاحب كتاب منازل السَّائرين( )، وقد ذكر الشيخ الإمام تاج الدين السُّبكي إنَّ هذا الرجل مجسِّم، ويظهر هذا الأمر من خلال كتابه ذم الكلام وأهله، ومن كتاب الأربعين( ). وهو مشهور بذلك، واتهمه البعض بالقول بالاتحاد، وهذه التُّهمة لم أتحقق منها، ولكن الرجل على كل حال يكفيه تهمة التشبيه الثابتة عليه، وعدم معرفته لحقيقة علم الكلام ليخرج بذلك عن دائرة الاعتدال في أحكامه الصَّادرة عنه. قال الإمام العلامة تاج الدين السبكي( ) في ترجمة شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني:"إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عامر بن عائذ، شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني، الفقيه المحدِّث المفسر الخطيب الواعظ المشهور الاسم الملقب بشيخ الإسلام، لقَّبه أهل السنَّة في بلاد خراسان، فلا يعنون عند إطلاقهم هذه اللفظة غيره، وأما المجسمة بمدينة هراة، فلما ثارت نفوسهم من هذا اللقب، عمدوا إلى أبي إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري صاحب كتاب (ذم الكلام) فلقَّبوه بشيخ الإسلام، وكان الأنصاري المشار إليه رجلا كثير العبادة، محدثا، إلا أنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه، وينال من أهل السنة، وقد بالغ في كتابه ذم الكلام حتى ذكر أن ذبائح الأشعرية لا تحِلُّ، وكنت أرى الشيخَ الإمام( ) يضرب على مواضع من كتاب ذم الكلام، وينهى عن النظر فيه. وللأنصاري أيضا كتاب الأربعين سمتها أهل البدعة الأربعون في السنة، يقول فيها: باب إثبات القدم لله، باب إثبات كذا وكذا( ). وبالجملة كان لا يستحق هذا اللقب، وإنما لُقِّبَ به تعصبا، وتشبيها له بأبي عثمان، وليس هو هناك. وكان أهل هراة في عصره فئتين، فئة تعتقده وتبالغ فيه لما عنده من التقشف والتعبد، وفئة تكفِّره لما يظهره من التشبيه. ومن مصنفاته التي فوَّقت نحوه سهام أهل الإسلام، كتاب ذم الكلام وكتاب الفاروق في الصفات، وكتاب الأربعين، وهذه الكتب الثلاثة أبان فيها عن اعتقاد التشبيه، وأفصح. وله قصيدة في الاعتقاد تنبئ عن العظائم في هذا المعنى، وله أيضا كتاب منازل السائرين في التصوف. كان الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية مع ميله إليه يضع من هذا الكتاب، أعني منازل السائرين. قال شيخنا الذهبي: وكان –أي ابن تيمية- يَرْمِي أبا إسماعيل بالعظائم، بسبب هذا الكتاب، ويقول إنه مشتمل على الاتحاد. قلت: والأشاعرة يرمونه بالتشبيه، ويقولون إنه كان يلعن شيخ السنة أبا الحسن الأشعري، وأنا لا أعتقد فيه أنه يعتقد الاتحاد، وإنما أعتقد أنه يعتقد التشبيه( )، وأنه ينال من الأشاعرة، وأن ذلك بجهله بعلم الكلام، وبعقيدة الأشعرية، فقد رأيت أقواما أُتوا من ذلك. وكان شديد التعصب للفرق الحنبلية، بحيث كان ينشد على المنبر على ما حكى عنه تلميذه محمد بن طاهر: أنا حنبلي ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا وترك الرواية عن شيخه القاضي أبي بكر الحِيريِّ، لكونه أشعريا، وكل هذا تعصب زائد، بَرَّأنا الله من الأهواء." وعلى كل الأحوال ومهما كانت حقيقة هذا الرجل فسوف نذكر هنا بعض الملاحظات على ما لخَّصه السَّيوطي من كتابه المذكور. والعجب إنما هو في المرتبة الأولى من مثل الإمام السَّيوطي كيف يتخذ مثل الهروي سنداً له في موقفه من علم المنطق والكلام، والعجب منه أشد عند استناده إلى ابن تيمية وغيره ولكن هذا هو ما يؤول إليه حال من يخوض فيما لا يعلم، ولو بقي رحمه الله في مدار العلوم النقلية والعربية لما وقع في مثل هذه الأغلاط. 2- من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ نقلَ الهروي عن سُنن أبي داود حديثاً عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة."ونقل عن عبد الله بن عروة"الفريضة القائمة ما اتفق عليه المسلمون". وذكر حديث عائشة ا قالت: قال رسول الله عليه وسلم "مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ". أقول: نصُّ الحديث الأول يستفاد منه أنَّ الذي يجب على النَّاس العمل به فقط هو ما كان آية محكمة أو سنَّة قائمة أو فريضة عادلة، بمعنى أن من أخذ بذلك فقط فقد اهتدى وأسقط الواجب المعلَّق في رقبته، وهذا المعنى صحيح تماما بل تدل عليه أحاديث وآيات أخرى، وهو قريب من معنى مصطلح العلم الضَّروري من الدين، بل هذا هو الذي مشى عليه سائر العلماء من أهل الحقِّ في جميع العلوم، فلم يوجبوا على النَّاس إلا ما كان من هذا القبيل. أما ما سواه بأن كان من الأمور المحتمل فيها الخلاف فلم يوجبوا على أحد اتباع أحد إلا على سبيل الاتباع والتقليد، وهذه مرتبة أخرى غير ما نحن فيه. ولكن القول بلزوم تعلم ومعرفة والعمل بالقدر الضَّروري المتفق عليه، لا يستلزم بوجه من الوجوه تحريم العلم بما زاد على ذلك. فالفقه مثلاً لا يمكن أنَّ يقول قائل إن المسائل المولَّدة فيه يحرم القول بها، وكذلك علم أصول الفقه، فمعظم مسائلة لم تكن مطروقة على الوجه الذي قررها فيه العلماء، ولا يجوز القول بحرمة علم الأصول كذلك، وأيضاً على نفس القياس يقال في علم التوحيد، فمسائله من حيث الأصل مذكورة في الكتاب والسُّنة كما وضحناه سابقاً، ولكن التفاصيل والطريقة ربما تكون غير مطروقة هناك، وهذا لا يستلزم القول بحرمتها أو بطلانها، لأن الأصل أنَّ الكتاب والسُّنة إنما جاءا ليخرجا النَّاس من الظُّلمات إلى النُّور، وتمَّ الاقتصار فيهما على القدر الكافي للهداية على العموم، ولكن لم يتم الالتزام بذكر التفاصيل لجميع المسائل العلمية فيهما، بل اكتفي في كثير من الأحوال بالإرشادات والعلوم الكلية والقواعد العامة، لكي يتمكن النَّاس بعد ذلك من تخريج الفروع على الأصول في أنواع العلوم. ونضرب مثالاً هنا على مسألة عقائدية، وهي وجوب الصَّلاح على الله تعالى، ونعني بالصَّلاح ما فيه خير النَّاس من ناحية الدين، هل يجب على الله تعالى فعل ما يقربهم إلى ذلك أم لا يجب ذلك، والمراد بالوجوب هنا هو عدم جواز التَّرك وتخلف الفعل. فهذه المسألة مثلاً طرقها المسلمون وتنازعوا فيها، فالبعض قال الصلاح واجب على الله، والبعض قال لا بل كل ما فعله الله ويفعله فإنما هو بمحض فضله لا بوجوب عليه، بل بإرادته الحرة عن كل إيجاب ووجوب، بمعنى يمكن إذا شاء أن لا يفعل الصَّلاح ويمكن أن يفعله من حيث الأصل. فهذه المسألة مهما كان الصواب فيها، فلابُدَّ أن يكون واحد من الطَّرفين هو الصَّواب والآخر هو الباطل في نفس الأمر، وهي على هذه الصورة غير مطروحة ولا مبحوثة عند السَّلف الأوائل، ولكنَّ عدم بحثها بهذا الوضوح لا يستلزم عدم علمهم الإجمالي بها بل والتفصيلي أيضا، ولكن لا يلزم المتقدمين أن يبحثوها بنفس الأسلوب الذي اتبعه المتأخرون، ولا حتى أن يكون تعبيرهم عن معناها مطابقا لتعبيرات المتأخرين، لأنَّها من أصول التوحيد، أي إنَّ عقيدة المرء لا تتم إلا بها مهما كان جانب الصَّواب فيها، فلابُدَّ إذن من وجود موقف لهم حيالها. ولكن المتأخرين من المسلمين لما اضطروا للبحث فيها على سبيل التفصيل خيِّل للبعض أنها مسألة باطلة من الأصل ومبتدعة ويحرم الكلام فيها لبطلانها في نفسها، والأمر ليس كذلك، فهي في نفسها مسألة تحتمل الصِّحة والخطأ، ويصح السؤال عنها، ويجب الجواب عليها بالنفي أو الإثبات. وأحد الوجهين صحيح والآخر باطل، فالجواب الغلط هو الجواب بالوجه الباطل، أي إذا افترضنا أنَّ الله لا يجب عليه شيء جواب صحيح، فإذا قلنا عنه يجب عليه الصَّلاح فهذا الجواب هو الباطل ويحرم الاعتماد عليه والاعتقاد به. ولا يجوز في هذه الحالة القول إنَّ البحث في أصل هذه المسألة حرام، لا يقال ذلك لأنَّه توجد إشارات ودلائل في القرآن والسُّنة ترجح أحد طرفي هذه المسألة، أي إنَّ الظواهر الشرعية تدل على حسب نظر أهل السُّنة على أنُّه تعالى لا يجب عليه شيء، فالبحث في هذه المسألة والجواب عليها بهذا الجواب صحيح وشرعي وواجب عند الاحتياج. هذا هو النَّظر الصحيح في هذه المسألة، ولولا أنَّ الله تعالى فصَّل في بعض الأمور وأجمل في بعضها وأشار إشارات إلى بعضها، لاشترك الجميع في العلم بجميع المسائل، ولمَّا صار هناك حاجة إلى سؤال الناس لأهل العلم، لأنهم جميعاً يصبحون أهل علم عند ذاك. ولكن لمَّا كان الحال على غير ذلك أوجب الله تعالى على عامَّة النَّاس أن يسألوا أهل العلم الذين يتدبرون القرآن فيفهمون إشاراته وألفاظه وترتيباته، ويعبِّرون عنها بيسر للنَّاس فيتم البلاغ والهداية للجميع. وأما تفسير الفريضة العادلة بما اتفق عليه المسلمون، فهو على التَّسليم به إشارة إلى الإجماع، وحينذاك فينظر فيه، هل المقصود من الإجماع إجماع جميع أهل العلم حتى إذا شذَّ عنهم واحد انقطع الإجماع، وهل يشترط فيه جميع العصور أم يكفي إجماع أهل عصر معين على مسألة فيصبح إجماعهم حجة فيها، وحينذاك فإن كانت المسألة تتغير أحوالها بتغير أحوال النَّاس والزمان، فهل يجوز أن يجمع أهل العصر الثاني أو الثالث على خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الأول مثلاً. هذه مسائل وأحوال لمبحث الإجماع معلومة في علم أصول الفقه. ونحن هاهنا نتساءل، هل وقع إجماع جميع العلماء على تحريم علم الكلام مطلقاً في الزمن الأول أو الثاني أو الثالث، إنَّ الصحيح أنَّ هذا الإجماع إذا ادعاه البعض غير واقع، فإنَّنا يمكن أن نأتي بأمثلة على كلام علماء من مختلف العصور الأولى في مسائل عقائدية واختلافهم مع غيرهم، ومجرد وجود خوض بعضهم في ذلك وحتى لو لم يختلف مع غيره فهو دليل على عدم حرمة البحث في علم الكلام كما هو واضح.. وأيضاً لو سلمنا أن معظم العلماء. في العصور الأولى نهوا عن الخوض في علم الكلام، وهذا غير صحيح كما بيناه في ما مضى، لو سلمنا ذلك، فإنَّنا نقول: إنَّ معظم العلماء في العصور من الرَّابع إلى هذا العصر الذي نحن فيه استحسنوا البحث في علم الكلام، وحينذاك إمَّا أن تكون هذه المسألة متغيرة بتغير الأحوال أو لا تكون كذلك، فإن لم تكن فإنَّه يلزمنا وقوع جماهير العلماء المشهود لهم بمخالفة قطعي معلوم من الدين بالضَّرورة، وهذا باطل لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم شدَّد على البقاء مع الجماعة، وهو مفهوم الأغلبية فيستحيل أن تكون الجماعة واقعة في الغلط وهذا أصل مفهوم وحجية الإجماع. إذن هذا الفَرَض المذكور مع الواقع المشاهد يستلزم نقض كلام المعصوم، فيجب الحكم ببطلانه. إذن يجب القول بأنَّ حكم البحث في علم الكلام من الأمور التي تتغير بتغير الأحوال والأزمان، وهذا هو الحقُّ بل وبتغير الأشخاص أيضاً، وحينذاك فلا يبعد أن يكون البحث في هذا العلم مذموماً على العموم لا للخصوص في العصور الأولى ثم صار محموداً بعد ذلك لشيوع الفتنة والغلط بين الناس. ونحن مع ذلك كلِّه لا نسلم أنَّ علم الكلام أصلاً يتلبس بحكم الحرمة مطلقاً في أي زمان من الأزمنة، بل هذا باطل مطلقاً وبلا قيد، ولكنَّ غاية ما نسلمه ونعتقد به أنَّه الحق والصَّواب أنَّ البحث في علم الكلام قد لا يلائم أشخاصاً معينين لأحوال عارضة عليهم أو ملابسة لهم، ولكن يجب القول بوجوبه على الكفاية بمعنى حرمة خلو العصر من قائم بالحجَّة في علم الكلام. والله الموفق. وأما قول الرَّسول صلى الله عليه سلم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، فقد تكلم عليه كبار علماء أهل السُّنة، وبيَّنوا أنَّه بذاته دليل على جواز استحداث ما لم يكن حادثاً في الدين بشرط أن لا يكون مخالفاً لقواعد الدين، وأخذوا ذلك من مفهوم المخالفة وحاصله أن الأمر المستحدث إذا كان لا يخالف القواعد الإسلامية المقررة والنُّصوص الشَّرعية، فلا مانع منه. وبنفس الحديث يمكن أن يستدل على جواز البحث في علم الكلام والأصول وغيرها من العلوم والمعارف الدينية. 3- لما تكلفوا وخاصموا اختلفوا وهلكوا ونقل الهروي عن أبي عبيد( ) : "جمع النَّبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد، وجميع أمر الدنيا في كلمة إنَّما الأعمال بالنِّيات يدخلان في كل باب. ثم قال باب البيان: إنَّ الأمم السَّابقة إنَّما استقاموا على الطَّريقة ما اعتصموا بالتَّسليم والاتباع، وإنهم لما تكلَّفوا وخاصموا اختلفوا وهلكوا"اهـ. أقول: أمَّا الحديث فقد سبق الكلام عليه، وأمَّا كلام أبي عبيد فإن التَّسليم والاتباع لا يعارضان ولا ينافيان البحث والنَّظر، بل بالبحث والنَّظر يتم نفس التَّسليم والاتباع، لأنَّ الشَّريعة أمرت بالبحث والنظر، وتكون مسلَّماً لها ومتَّبعةً به. نعم قد يتم التسليم للشريعة بمجرد الإرادة الحرة، ولكن ليس هذا هو معيار كثير من الناس، والإرادة لا تتحفز في الإنسان إلا بأسباب، ومن أسباب إثارة الإرادة النظر، كما أن منها التقليد التابع لمحبة المقلِّد للمُقَلَّد، أو اشتهار صيته بين الناس، أو غير ذلك من الأسباب. فالنظر سبب للاتباع كما أن غيره سبب كذلك. نعم نحن نقول: إنَّ من يتكلف ما لا يحسنه فسوف يتوصل إلى غلط وخبط، ولذلك فلا بُدَّ أن يحصل الخلاف والاختلاف، ولكن الحرمة تتسلط على الخوض فيما لا يحسنه المرء، وعليه فلا يصح منع الجميع من البحث والنَّظر بحجَّة خوض بعض من لا يحسنه فيه. بل الحل يكون بمنع هؤلاء الذين لا يحسنونه من الخوض فيه ونهيهم عنه. ولذلك فقد قلنا إن علم الكلام قد يخص البحث فيه بأحوال وأزمان وأشخاص. 4- لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة

قال الأمام السَّيوطي( ): "وأخرج عن مالك قال إيَّاكم والبدع، قيل يا أبا عبد الله وما البدع. قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، لا يسكتون عمَّا سكت عنه الصَّحابة والتابعون لهم بإحسان"

في هذه الرِّواية يحدِّث الإمام مالك رحمه الله النَّاس عن أهل البدع، ويعرِّف أهل البدع لأصحابه بأنهم الذين يتكلمون في أسماء الله… الخ، ولا يسكتون عما سكت عنه الصَّحابة والتابعون. فهاتان علتان أو وصفان لأهل البدع، عند الإمام مالك، ونحن عندما ننظر في أيِّ نصًّ أو رواية فإنِّنا أوّلاً ننظر هل الذي قالها معصوم أم لا، فإن كان معصوماً فهي صحيحة المعنى وعلينا تحقيقه، فإن لم يكن معصوماً، فإننا ننظر في المعنى المراد، فإذا كان الظاهر منه غير صحيح، فيجب علينا أن نجد لها وجهاً مناسباً خاصة إذا كان قائلها إماماً كبيراً، لأن هؤلاء يبعد منهم أن ينطقوا بما يظهر بطلانه، فإن لم يمكننا إيجاد معنى صحيح لها حَكَمنا ببطلانها. وهكذا فإن الظَّاهر من هذه العبارة المروية عن الإمام مالك، هو ذمُّ من يتكلم في صفات الله تعالى وأسمائه، واعتبار من يتكلم فيها مبتدعاً. والتعبير بمطلق الكلام وترتيب البدعة على مطلق الكلام في الصفات والأسماء، أمرٌ لا يمكننا قبوله، لاستلزامه العموم، فإنَّ الواحد قد يتكلم بكلام حسن وصحيح في أسماء الله تعالى وصفاته، وقد يكون كلامه باطلاً، ويستحيل أن نقول ببدعية من تكلم بكلام حقٍّ وصحيح. وهكذا، فالعبارة مطلقة وصادقة على كلتا الحالتين، ولا يمكننا إبقاءها على إطلاقها لبطلان ذم من كان كلامه صحيحاً. إذن يجب الجزم بتقييدها فيمن تكلم في ذلك بكلام باطل، وإلا فإن لم نجوِّز تقييدها بذلك، وجب علينا الحكم ببطلانها. فمن تكلم في علم الله وقال إنَّ الله عالم بالكليات والجزئيات وعالم بما كان وبما سيكون، فكلامه صحيح، ومعناه حق، ولا يجوز تسمية من يتكلم بذلك مبتدعاً. وأما من تكلم في علم الله مثلاً وقال بأنَّ الله لا يعلم الأمر إلا بعد حدوثه أو إنَّه جلَّ شأنه لا يعلم إلا الكليات دون الجزئيات، فكلامه باطل غير صحيح، ويصدق عليه اسم المبتدع وهكذا فإن تحليل معنى عبارة الإمام مالك يجعلنا نوجب تقييدها بما ذكرناه وإلا اضطررنا لردها جملة، ومعلوم أنَّ حمل العبارة على معنى صحيح أولى من إبطالها بالجملة لعلو مقام قائلها. وأمَّا العلة الأخرى والوصف الثاني الذي نسبه الإمام مالك إلى أهل البدعة، فهو أنَّهم لا يسكتون عما سكت عنه الصَّحابة والتابعون، وحاصل هذه العبارة أنَّ الصَّحابة تكلموا في أمور وسكتوا عن أمور، ومحلُّ وكلامنا في الأمور التي سكتوا عنها، الإمام مالك يقول –بحسب العبارة المذكورة- إنَّ ما سكت عنه الصَّحابة يجب علينا السكوت عنه، وكذلك فإن الذي لا يسكت عما سكتوا عنه فإنه يكون مبتدعا. ولكنَّ هذا المعنى قد لا يسلم على إطلاقه هكذا، لانه يقال على الصحابة أنهم سكتوا في حالتين الأولى: إذا عرض للصحابة أمر وألح عليهم وكان يلزم الكلام فيه فلم يتكلموا فيه، نعلم منه لوجود الدَّواعي إلى الكلام فيه وعدم كلامهم أن هناك علَّة في نفس ومجرد الكلام، فهذا لا نتكلم نحن فيه أيضاً. الثانية: أمر لم تطرأ الحاجة في زمان الصَّحابة للتكلم فيه، ولم توجد الدَّواعي لذلك، فسكتوا عنه فهذا المعنى لا نسلِّم لزوم سكوتنا فيه كما سكتوا، لأنَّ الدواعي للكلام فيه قد تكون موجودة في زماننا فعلم الأصول لم يتكلم فيه الصَّحابة، وكذلك علم الفقه على طريقة الفقهاء المتأخرين، وكذلك علم النَّحو والعروض والآداب الأخرى، وهذا لا يستلزم بطلان هذه العلوم ولا بدعية المتكلم فيها. وهذا التخريج لهذه العبارة مبني على معنى الإجماع السُّكوتي، الذي لا يكون حجة إلا عند وجود دواعي الكلام مع ترك الكلام، هذا عند من قال بحجيَّته، وأما عند من نفي حجيَّته فلا اعتبار لهذه العلَّة عنده أصلاً. من هذا التحليل ندرك أنَّ عبارة الإمام مالك لا تؤخذ على إطلاقها في شقَّيها فلا يجوز الاحتجاج بها على نفي وذم علم الكلام مطلقاً. 5-إن قوما تكلموا في ذات الله فتاهوا قال السَّيوطي( ): "وأخرج عن جعفر بن محمد قال: إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا، وأخرج عنه قال تكلموا فيما دون العرش ولا تكلموا فيما فوق العرش، فإن قوماً تكلموا في الله فتاهوا" اهـ. إنَّ الكلام في الله نوعان، كلام في الصِّفات والأسماء الواجبة له جلَّ شأنه من حيث ما هي ثابتة له عز وجل، فنقول هذه الصفة واجبة وهذه منفية عنه، وليس المقصود الكلام في حقيقة الصفة، والثاني كلام في حقيقة الله تعالى، فأمَّا الكلام الذي من النَّوع الأول فهو ممدوح بل وواجب في الشَّريعة والعقول، فيجب على الواحد معرفة الله تعالى، ومعرفة أنَّه تعالى عالم وقادر وأنَّ علمه واجب له وأنَّ قدرته عامَّة التَّعلق، ويجب معرفة أنَّه منـزه عن مشابهة الحوادث والمخلوقات وأنَّه قديم وأنَّه واحد الخ، فهذا النَّوع هو أساس التوحيد وصلب الإيمان. أمَّا الكلام في ذات الله تعالى من حيث حقيقته فقد اتفق المحققون من المتكلمين من أهل السُّنة على استحالة إدراك ذلك، ولذلك فهم قالوا إنَّ ذلك من مواقف العقول، أي إنَّه من المواضيع التي تقف العقول دونها ولا يمكنها أن تكشف عنها، ولذلك فإنَّنا لا نجد في علم الكلام على طريقة أهل السُّنة خوضاً في حقيقة ذات الله، بل هم يبحثون في صفاته جلَّ شانه من حيث ثبوتها له وعدم ثبوتها، ويبحثون في الأحكام الواجبة للذات، أمَّا حقيقتها فلا يخوضون فيها لامتناع ذلك في حقهم. بل نجد في كلام أهل السنة أدلة على استحالة التفكير في معرفة حقيقة الله تعالى، وهذا النوع أيضا لا يمكن أن يكون مذموما. ولذلك فإن المتقدمين والمتأخرين من أهل الإسلام اتفقوا على الكلام في الله تعالى وإن كان منهم من خاض فيها وأخطأ، ولكنَّ الجميع ألزموا أنفسهم بذلك، فنرى أهل السُّنة قد نظروا في صفات الله ونـزهوا لله عن مشابهة خلقه، وتوقفوا عند ذلك، ونرى المشبهة والمجسمة قد خاضوا في ذات الله فشبَّهوها وحاولوا أن يتصوَّروها ويتخيَّلوها بل قاسوا ذات الله تعالى على ذواتهم، فقالوا هو جسم، ومحدود إمَّا من سائر الجهات أو من جهة واحدة على اختلافهم في ذلك، وقالوا إنَّه يتحرك وتحل فيه الحوادث وغير ذلك من الأمور التي بنوها على الوهم والخيال لا على العقل والشَّريعة. فكلا الفريقين وما بينهما وما سواهما بحثوا في الله، ولكن منهم من أصاب ومنهم من ضلَّ وغلط. فالاتفاق قد حصل منهم على صحَّة البحث في ذلك، ولكن ما تميز به كل واحد عن الآخر هو طريقته التي مشى عليها في ذلك والقواعد التي قال بها والتي نفاها، وبناءً على ذلك اختلفت المذاهب والفرق، أمَّا أصل البحث والكلام فهو محل اتفاق مطلقاً بين المتقدِّمين والمتأخرين. ولذلك ترى الإمام مالكاً قد علل نهيه في النَّص الثاني عن الكلام في الله: بأنَّ قوماً تكلموا في الله فتاهوا، فالخوف من الضَّلال والغلط هو سبب المنع من الكلام، وليس أصل الموضوع –أعني الكلام في ذات الله- هو علة النَّهي، بل الموضوع في ذاته يجب البحث فيه ولكن لمن هو متأهل لذلك، ولولا ذلك لما صحَّ تعليله للمنع بضلال البعض، وعلى هذا مشى متكلموا أهل السُّنة، فإنَّهم منعوا العامَّة من الخوض في الله وصفاته إلا على هدي العلماء منهم وإلا اتباعاً لما قاله المحققون من أهل العلم. ومعنى هذا التعليل المذكور أنَّه لو أُمن على الناس من الغلط لما منعهم الإمام مالك من الكلام في ذات الله تعالى، وهذا هو الصحيح. ملاحظة:

قول الإمام مالك: "ولا تكلموا فيما فوق العرش"، لا يستلزم أنَّ الله جالس على العرش كما يتخيله المجسِّمة والمشبِّهة بل هو كلام من باب المشاكلة، فالعرش أعلى المخلوقات وهو محيط بالعالم، فما تحته مخلوق وما سواه خالق، وذِكرُ الفوق هنا من باب المشاكلة لكلمة التَّحت الصادقة في حق المخلوقين.

6- لو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة قال السَّيوطي نقلاً عن الإمام مالك( ) : "ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصَّحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشَّرائع، ولكنه باطل يدل على باطل" اهـ. الصَّحابة والتَّابعون وردت عنهم كلمات عديدة في التوحيد والفقه، صحيح أن ما ورد عنهم في الفقه أكثر، ولكن هذا ليس لأنَّ التوحيد لا يجوز الكلام فيه، ولا لأنَّ الفقه أهم، بل لأنَّ المشكلات العملية التي كانت تحدث في زمانهم أكثر فذلك استدعى كثرة كلامهم في الفقه وزيادته على كلامهم في التَّوحيد والعقائد، وهذا لأنَّهم كانوا لا يزالون متثبِّتين على أصول العقائد فلم يكن الزَّمان الذي يفصلهم عن النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام كبيراً. فإن كان المقصود من العبارة أنَّهم لم يتكلموا في العقيدة مطلقاً فهي عبارة باطلة، وإن كان المقصود أنَّهم لم يصنِّفوا في التَّوحيد كتباً ولم يضعوا له أبواباً فكذلك الفقه، وإن كان المقصود زيادة كلامهم في الفقه على كلامهم في التوحيد فهو مسلَّم ولا يعارِض المقصود، فلا يستلزم كون الكلام في التوحيد باطلاً ولا منهياً عنه، بل الكلام فيه إنَّما يكون بحسب الحاجة، وهذا الذي نقول به نحن أيضاً. ويمكن أن تحمل هذه العبارة على محمل قريب، وهو أنَّ المقصود من الكلام هو الكلام الفاسد الذي يقوم على أصول باطلة، لأنَّ الإمام مالكاً أوردها في حال ذم أصحاب عمرو بن عبيد المعتزلي وإن كان لفظها عامّاً، وعلى كل الأحوال لو تعذَّرت جميع هذه الوجوه لحكمنا ببطلانها قطعاً. 7- النبي عليه السلام لم يجادل الناس إلا بالتنـزيل لا بالمقاييس وقد نقل الإمام السَّيوطي كلاماً للحارث المحاسبي من كتابه الرعاية( ) يقول فيه: "ثم هو في نفسه صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى جميع أهل الأديان، فما جاد لهم إلا بما تلى عليهم من التَّنـزيل، ولو شاء كلَّمهم بالمقاييس ودقيق الكلام، ولو كان ذلك هدى كان أولى به وعليه أقوى، فلم تقم عليهم الحجة إلا بالتنـزيل وضرب عن جدلهم بالدقائق" اهـ. هذا الكلام في الحقيقة من جنس ما سبق بيانه وتفصيله، ولكنَّنا نتكلم عليه هنا مرة أخرى زيادة في البيان. إنَّ من القواعد المقرَّرة في علم الأصول أنَّ البيان يجب عند الحاجة لا مطلقاً، وهذا يعني أنَّ الشَّارع يقتصر على قدر كاف من البيان للإصلاح وصلاح النَّاس، وما زاد على ذلك من البيان والتَّفصيل وإن كان حقاً إلا إنَّه لا يجب في حق الشَّارع مطلقاً إلا عن الحاجة لذلك. فإذا كنَّا نقول إنَّ النَّبي لم يستخدم المقاييس الكلامية بالشَّكل المعهود عند المتأخرين من العلماء فإنَّ ذلك لا يستلزم مطلقاً حرمة التفصيل والاقتصار على ما اقتصر عليه النَّبي عليه السلام لأنَّه إنَّما اقتصر عليه لمَّا لم تَدْعُ الحاجة إلى الزِّيادة، ولمَّا فوّض إصلاح حال النَّاس وبيان الدين إلى العلماء، فيكون التَّفصيل الزائد بالأسلوب والمعنى راجعاً لحكم العالم المتخصص في هذا العلم، فهو الذي يعلم هل يحتاج النَّاس التفصيل أم لا، ويكون حكمه في ذلك هو ما فوَّضه فيه النَّبي عليه السَّلام. فالقرآن وأساليب البرهان العامَّة كانت كافية في الزَّمان الأول، وذلك لأنَّ النَّاس لم يكونوا يدققون ويفصِّلون في أساليب مخالفة الدين، بل كانت أدلتهم إجمالية وشبهاتهم ساذجة، فكانت الأدلة الإجمالية غالباً كافية في ردِّ مزاعمهم وإبطال أهوائهم، وإن كان أحياناً يلجأ القرآن إلى التفصيل في بعض الاستدلالات عند الحاجة إلى ذلك. ولكن المتأخرين من الناس صاروا يتفنَّنون في الإتيان بالشُّبه القائمة على إبطال الأديان وعقائد الدين، فلزم علماء الدين الغوص في تفاصيل الردود عليهم لأنَّ إفحام هؤلاء لا يتم إلا بذلك. فالحاصل أنَّه لمَّا كان يكفي في الردِّ على الخصوم في العصور الأولى الأدلةُ الإجمالية وبعض التفصيل، اكتفي بذلك، ولكن هذا عينه يستلزم وجوب اللجوء إلى التفاصيل من الاستدلالات عند الاحتياج إلى ذلك. وبذلك يتبين لنا وجه الصَّواب والخطأ في كلام المحاسبي المذكور. 8- أبو سليمان الخطابي وموقفه من علم الكلام نقل الإمام السَّيوطي كلاماً للإمام الخطَّابي، والإمام أبو سليمان الخطَّابي من الأئمة الكبار ومن العلماء المتَّبعين وقد مدحه كبار علماء أهل السُّنة، وهو كعالم متَّبع لا يقدح فيه أن ندقق في كلامه أو في بعض جهاته فإن أحداً لا يقول بعصمة نفسه ولا بخلوِّ كلامه عن الغلط. وسوف ننقل بعض ما ذكره السَّيوطي من كلام هذا الإمام الكبير ونعلق عليه بما يوضحه ويبين مرادنا وجهة قولنا. إن الإمام الخطَّابي من متكلمي أهل السُّنة الذين يتمسكون بطريقة معينة من النَّظر العقلي في سبيل إثبات النُّبوات والتَّوحيد وأصول الدين، ولا شك أنَّه توجد طرق عديدة لذلك، وإن اختار بعض النَّاس بعضها فلا عليه من ذلك، ولكن ليس له أن يمنع غيره من اختيار غيرها. أمَّا أن يجزم بصحَّة طريقته ويرجِّحها على غيرها فلا ريب في جواز ذلك وصحته، وإلا لما لزمه اختيارها وهذا هو حال الإمام الخطَّابي رحمه الله. والخطَّابي يعترض في أول رسالته المسمَّاة "بالغُنية على بعض أهل الكلام المخالفين للسُّنة"، ولا أعتقده ينتقد متكلمي أهل السُّنة، بل لا ريب في توجه انتقاده على متكلمي المعتزلة وغيرهم الذين اشتطوا في تحكماتهم وتصرفاتهم في معاني الكتاب والسُّنة وكان أكثر الذين يواجهونهم في عصر الخطَّابي من أهل السُّنة غير متمكنين بعد من أصول الجدل والبرهان، ولذلك كان أولئك يستعلون عليهم، وكان هؤلاء لا يجدون أمامهم إلا التَّمسك بظواهر العقل والشَّريعة، وما ينقدح في نفوسهم ممَّا كان تواتر إليهم عمَّن سلفهم، ولكنَّ هذه الطريق إن نفعت وصلحت للعامَّة، فإنَّها بمجردها لا تصلح للخاصة، فإن هؤلاء لا تنحني رؤوسهم إلا للبحث المدقق والكلام المرتب المبني على أصول العقل المقعَّد والمنطق السليم، لا مجرد الخطابيات والشعريات. وهذا ما أدركه متكلموا أهل السُّنة على اختلاف طبقاتهم، أدركوا أنَّ النَّاس لا يليق بهم جميعاً مستوى واحد من مستويات الخطاب، بل لابُدَّ من اختلاف المستويات باختلاف مراتبهم العلمية، فالخطاب الموجَّه إلى الخاصَّة لا يجوز أن يكون نفس الخطاب الموجَّه إلى العوام وهكذا. وربما يكون أكبر أغلاط المعتزلة الأوائل أنهم أرادوا إلزام العامَّة من المحدِّثين بل وعوام النَّاس أجمعين، بما استنبطوه من قواعد وعقليات وكليات، ولم يفرقوا في إلقائهم للأحكام العقائدية بين مستويات الناس واختلاف مداركهم العقلية وهذا ما لاحظه الإمام أبو الحسن الأشعري وتبعه عليه أصحابه وأتباعه بعد ذلك، ولذلك فقد قَبِل مذهبهم – أي مذهب الأشاعرة – الخاصة والعامَّة. وهكذا فإن الإمام الخطَّابي يعترض على أولئك المتكلمين الذين يجبرون العامَّة والخاصَّة على لزوم اتباع دليل معين من دلائل التوحيد وأصول الدين، ويدَّعون حصر طريق الوصول إلى ذلك بدليلهم الذي استنبطوه وطرقهم التي رتَّبوها. وهذه طريقة باطلة كما أشرنا سابقاً، وهذه هي الفكرة الأساسية التي ردَّ عليها الإمام الخطَّابي في هذه الرِّسالة. إذن رسالة الغنية ليست موضوعة لإبطال أصل علم الكلام من جذوره والحكم عليه بالبطلان، بل المقصود منها إنَّما هو الرَّد على طرق بعض المتكلمين، وهؤلاء المتكلمون أرادوا حصر طرق النَّظر للعامَّة والخاصَّة بطريقتهم التي ابتكروها، والخطابي يرد عليهم في ذلك ويذكر طرقاً أخرى يمكن للعامَّة أن يسيروا عليها تغنيهم عن اتباع طرق هؤلاء، ومن هنا جاء اسم الرِّسالة "الغنية عن الكلام وأهله" وقد ظنَّ كثير من النَّاس أنَّ الإمام الخطَّابي يريد من هذه الرسالة إبطال أصل البحث في علم الكلام، وهذا الظنُّ باطل كما قلنا، وسوف ترى تفصيل ذلك بعد قليل من كلام الخطَّابي، وهذا مازعمه ابن تيمية في أكثر من موضع في كتبه، زعم أنَّ الخطَّابي يردُّ على أصل طريقة المتكلمين في هذه الرِّسالة، والحقيقة أنَّ الخطَّابي يردُّ على من حصر دلائل التَّوحيد من المتكلِّمين في دليل واحد، وفرق عظيم بين ما ادعاه ابن تيمية وبين ما أراده الخطَّابي كما ترى. وممَّن ظنَّ هذا الأمر أيضاً الإمام السَّيوطي، فلذلك أورد رسالة الخطَّابي كشاهد نفي لصحَّة علم الكلام مطلقاً وهو مخطئ في ذلك أيضاً، وأغلب الظنِّ أنَّ هذا الفهم قد تسرَّب إليه من قراءته لكتب أبن تيمية وتأثُّره به في موقفه من المنطق والكلام، ولو عرف السَّيوطي حقيقة ما يدعو إليه ابن تيمية لتوقف كثيراً قبل أن يندفع في هذا الاتجاه. والشاهد على ما فهمناه من كلام الخطَّابي ما قاله( ): "قلنا إنَّنا لا ننكر أدلَّة العقول والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطَّريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر، وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصَّانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بياناً وأصح برهانا"اهـ. إذن المسألة عند الخطَّابي تتركز في الطريق الذي يختاره للاستدلال على مطلوبه، هو لا يقول ببطلان هذه الطريقة وهي طريقة الاستدلال على حدوث العالم بمشاهدة الأعراض القائمة في الجواهر، نعم هو لا يقول ببطلانها كما سنلاحظ، ولكن يرغب عنها إلى ما هو أوضح منها عنده، وفي حكم العامَّة، وهذا المسلك لا غبار عليه ولا يترتب عليه شيء مطلقاً بل ربما نقول به نحن أيضاً في حق العوام. ولكنَّ المسألة عنده هي في إيجاب معرفة هذا الدليل على التَّعيين على جميع النَّاس، وادعاء أنَّ صحة الإيمان لا يُتوصل إليها إلا به، هذا هو الباطل عنده ولا ريب في عدم صحته عندنا أيضاً. والطريق التي يختارها الخطَّابي للوصول إلى أصول التوحيد أشار إليها في قوله( ) : "فأمَّا مثبتو النُّبوات، فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم المؤونة في ركوب هذه الطَّريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والانقطاع على سالكها"اهـ. فهذه الطريقة صعبة بالمقارنة مع ما يختاره من اتباع طريقة النَّقل والنَّظر في النُّبوات، وهذا صحيح بلا ريب، فإن من ثبت عنده نبوة النبي بالمعجرة، سهل عليه بعد ذلك أخذ سائر قواعد التَّنـزيه وأحكام التَّوحيد من الأنبياء مباشرة، ولم يضطر إلى النَّظر العقلي في الأدلة والبراهين. وسائر كلام الخطَّابي بعد ذلك متوجه على من اشترط في التَّوحيد سلوك طريقة الجواهر والأعراض فجعلها شرطاً هو الباطل، بل يمكن الوصول من غير طريقها ولذلك قال: "إذ لا خلاف بين فرق الأمَّة أنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال، ومعلوم أنَّ أمر التَّوحيد وإثبات الصَّانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبداً في كل وقت وزمان، ولو أخَّر عنه البيان لكان التكليف واقعاً بما لا سبيل للنَّاس إليه، وذلك فاسد غير جائز، وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علمنا يقيناً أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لايمكن أحد من الناس أن يروى عنه ولا عن أحد أصحابه من هذا النَّمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد، عُلم أنَّهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم."اهـ. وهذا الكلام صحيح لا ريب فيه، وأما الطريقة التي يختارها الخطَّابي في السلوك إلى هذا المقصد فهي "ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به، وبسورة من مثله وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء، فكل عجزَ عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه، إما بأن لا يكون من قواهم ولا من طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه، وإمَّا أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرتهم طبعاً وتركيباً ولكن مُنعوه وصُرفوا عنه ليكون آية لنبوَّته، وحجَّة عليهم في وجوب تصديقه، وإمَّا أن يكون إنَّما عجزوا عن علم ما جُمع في القرآن من أنباء ما كان والأخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون، وعلى الوجوه فالعجز موجود، والانقطاع حاصل " وأشار بعدد ذلك إلى سائر المعجزات التي ظهرت على يد النَّبي عليه السَّلام. وأمَّا التوحيد فيتوصلون إليه عن طريق النَّظر في الأنفس وفي الآفاق "وما أشبه ذلك من جلال الأدلة، وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامَّة من يلزمه حكم الخطاب ممَّا يطول تتبُّعه واستقراؤه، فعند هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصَّانع وكونه، ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطَّرادها في سبلها وجريها على إدلالها، ثم علموا سائر صفاته توقيفاً عن الكتاب المنـزل الذي بان حقه، وعن قول النَّبي صلى الله عليه وسلَّم المرسل الذي قد ظهر صدقه"( ) اهـ. هذه هي الطُّرق التي يقترحها الخطَّابي،وهي كما ترى طرق صحيحة تتميز بسهولتها ومباشرتها وإمكانية إدراكها من قبل جميع مستويات النَّاس. ولا ريب أنَّ من كفت عنده هذه الطرق فلا يلزمه غيرها، ولكن نقول نحن إنَّ حصر الطرق في هذه التي ذكرها الخطَّابي لا يجوز أصلاً إذ لا دليل على الحصر، بل على الكفاية، وكما منعنا أن تنحصر الطرق بطريقة الجواهر والأعراض فكذلك نمنع حصرها بما ذكره الخطَّابي. ونقول كلا الطريقتين صواب واتباعهما صحيح. وقد ذكر الخطَّابي وجوه اعتراضه على طريقة الجواهر والأعراض بأنَّ التعلق بها "إمَّا أن يكون عسراً، وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسراً متعذِّراً"( ) وعلل ذلك بكثرة اختلاف الناس في الأعراض ثم قال "والطريقة التي سلكناها سليمة من هذه الآفات بريئة من هذه العيوب"( ) إذن فالامام الخطَّابي يريد طريقة سهلة بسيطة موصلة إلى المطلوب، ويمنع حصر الطُّرق إلى معرفة الله تعالى بطريقة الجواهر والأعراض، وهذا كله حسن لا اعتراض عليه. ونحن نعلم أن علماء السُّنة لم يوجبوا على عامَّة النَّاس أكثر من مثل الطريقة التي اقترحها الخطَّابي رحمه الله، وقالوا بكفايتها في الإيصال، وهو ماعبروا عنه بالدَّليل الإجمالي وقالوا بكفايته في الدِّلالة إلى المطلوب في حق العامِّي. وقالوا أيضاً أنَّ طريقة الأعراض ليست سهلة، وذكروا الاعتراضات التي وجهها المخالفون لها وردوا على هذه الإيرادات وصحَّحوا طريقة الجواهر والأعراض معترفين بالصُّعوبات التي تعترضها، وصرحوا بأن هذه الطريقة صحيحة ولكنَّها غير واجبة الاتباع، بل أي طريق آخر موصل إلى حدوث العالم فهو كافٍ شافٍ. ولكنَّهم اهتموا بهذه الطَّريقة لعموم اللَّوازم التي تلزم عنها، فإنَّه يلزم عنها إثبات جميع الصِّفات السَّلبية والقدرة والعلم والإرادة والحياة، فمعظم مطالب التَّوحيد لازمة عنها، ولهذا فقد حاولوا جهدهم الاهتمام بها وتصحيحها ونقد ما يعترضها من شكوك. والحاصل أنَّه لا يوجد خلاف مطلقاً بين ما يقول به الخطَّابي وما التزم به أهل السُّنة من المتكلمين بل طريقتهما واحدة، والخلل إنَّما هو في اعتقاد أنَّ ما قاله الخطَّابي يلزم عنه نفي علم الكلام مطلقاً، والحقيقة أنَّ ما يلزم عنه إنَّما هو نفي طريقة فاسدة من طرق بعض المتكلمين، وهذا يوافقه عليه علماء السنة. وباقي كلام الخطَّابي رحمه الله لا نخالف فيه ولا نعقب عليه هنا. 9- دع المراء والجدل ونقل( ) الإمام السَّيوطي عن الآجري في كتاب الشَّريعة عن وهب بن منبِّه قال: دع المِراء والجِدال فإنَّك بين رجلين، رجل هو أعلم منك فيكف تماري وتجادل من هو أعلم منك، ورجل أنت أعلم منه فيكف تماري وتجادل من أنت أعلم منه ولا يطيعك. ثم قال الآجري: فإن قال قائل: فإن جاء رجل قد علَّمه الله علماً، فجاءه رجل يسأله مسألة في الدِّين ينازعه فيها ويخاصمه، ترى له أن يناظره حتى يُثبت عليه الحجَّة ويردَّ عليه قوله، قيل له: هذا الذي نهينا عنه وهذا الذي حَذَّرَنَاه مَنْ تقدم من أئمة المسلمين، فإن قال فماذا يصنع؟ قيل له: إن كان الذي يسألك مسألة مسترشداً إلى طريق الحقِّ لا مناظراً فأرشده بألطف ما يكون من البيان بالعلم من الكتاب والسُّنة وقول الصَّحابة وقول أئمَّة المسلمين، وإن كان يريد مناظرتك ومجادلتك فهذا الذي كره لك العلماء فلا تناظره واحذره على دينك كما قال من تقدم من أئمة المسلمين إن كنت لهم متبعاً، فإن قال: فندعهم يتكلمون بالباطل ونسكت عنهم، قيل له: سكوتك عنهم وهجرتك لما تكلموا به أشدُّ عليهم من مناظرتك لهم. كذا قال من تقدَّم من السَّلف الصَّالح من علماء المسلمين"اهـ. وهذا الكلام في الجملة لا تعليق عليه ولا زيادة إلا في نقطتين الأولى: منعه المناظرة مطلقاً وهذا مخالف لأمر الله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) وما كانت عليه سيرة الأنبياء والرسل من محاججة أقوامهم ومن يخالفهم، فمن الذي يستطيع بعد ذلك أن يحرِّم المناقشة والمناظرة مطلقاً. وأما النقطة الثانية: فإن هجرة الواحد للمبتدع ربما تكون مؤثرة فيه تأثيراً حسناً وربما لا تكون كذلك، فإن كان أهل السنة أكثر عدداً والحق منتشر فربما تكون الهجرة والسكوت عن المناظرة أولى، وهذا ليس على الإطلاق، بل إننا نحتمله مجرد احتمال، وربما تكون هجرته والسكوت عن مناظرته سبباً في تقويته ونشر بدعته بين العامة الذين ربما يغترون بثرثرته ومباهاته، وهذا ما حصل عندنا في هذا الزمان عندما نرفِّع كثير من مشايخ أهل السنة عن مناقشة الخصوم ظانين أن تسليم عامة الناس لهم كاف في ردِّ بدعة المبتدع، ولم يعرفوا أن العوام إنما هم تَبع لمن يؤثر فيهم، وربما غفلوا عن أن تسليم العامة لأهل السنة لم يكن إلا عن جهود عظيمة قام بها علماء السنة المحققين، وما كان مجرد السكوت يوماً مؤثراً في الناس كالكلام إلا إذا كان دالا ومؤثرا كالكلام، وغالباً ما يتوهم الناس في المتكلم الذي يتحدى غيره أنه على الحق يملك الدليل الأقوى، وربما يؤدي اغترارهم به بعد زمان إلى انجرافهم معه وتركهم لأهل الحق الساكتين، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وما كان السكوت يوماً والصمت مقصوداً لذاته وإلا انهدمت أساس دعوة الأنبياء من التبليغ للخلق ودعوة الخلق إلى الحق. ولما سكت كثير من مشايخ السنة في هذا الزمان عن مناقشة المبتدعة من المجسمة المتستِّرين بالسلف والكتاب والسنة، انتشر هؤلاء بين العوام والخواص مستغلين سكوت أولئك وترفعهم عن النـزول إلى مخاطبتهم. وما كان أحكم الإمام أبا الحسن الأشعري عندما سأله بعض الناس عن سبب ذهابه إلى مواضع المعتزلة لمناقشتهم فقال: "إن هؤلاء هم أهل السلطان، فلا ينـزلون إلينا لمناقشتنا فإن لم نذهب إليهم لنبطل كلامهم في حصونهم، فكيف يعرف الناس الحق؟ وهاك ما ذكره القاضي عياض في ترجمته للأشعري قال ( ) :"وصنّف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته وقِدَمِ كلامه وقدرته وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة، وكان يقصدهم بنفسه للمناظرة، وكلم في ذلك، فقيل له: كيف تخالط أهل البدع وقد أُمرتَ بهجرهم -وكان أمرهم في ذلك الوقت شائعا وكلمتهم غالبة- فقال: هُمْ أهل الرياسة، وفيهم الوالي والقاضي، فهم لرياستهم لا ينـزلون إليّ، فإن لم نَسِرْ إليهم فكيف يظهر الحقُّ ويعلم أن لأهله ناصرا بالحجة( )؟ بمثل هذا المنهج انتشر مذهب أهل السنة، لا بالسكوت عن مناقشتهم، ولا ريب أن هذا المسلك أقرب إلى هدى القرآن وأحكامه. وقد علل الآجري موقف السكوت بما نقله عن ابن عباس قال: لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب( ). ثم قال بعد ذلك: فإن قال قائل فلم لا أناظره وأجادله وأرد عليه قوله، قيل له: لا يؤمن عليك أن تناظره وتسمع منه كلاماً يفسد عليك قلبك ويخدعك بباطله الذي زين له الشيطان فتهلك أنت( ) اهـ. فالخوف من المناظرة وترجح موقف السكوت هو تأثر المناظر بكلام من يناظره، ولكن واضح عند من يعقل أن المناظر إذا كان أهلاً لذلك متمكناً من أصول النظر ذكي الفؤاد فإنه لا ينـزلق إلى هذه المزالق، وإلا فإن أدَّاهُ نظره وعقله وإدارته للأدلة إلى ترجيح قول خصمه فعليه الأخذ به مطلقاً، لأنَّ هذا هو الواجب الذي أوجبه عليه الله تعالى. ثمَّ نقول بعد ذلك كله: إن الخوف من تأثر المناظر بخصمه لا يجوز أن يكون علة وسبباً لمنع أصل المناظرة وترجيح موقف الهجر والسكوت، بل الواجب حينئذ أن توضع قيود للنظر والمناظر، للحد من ذلك وهذا هو بالضبط ما فعله علماؤنا المتقدمون من متكلمي أهل السنة، إذ لم يسمحوا لأحد ممن لم يتمكن من العلوم ومن آلات النظر والاجتهاد والاستدلال النظر والمناظرة فلا يجوز للعامي أن يناظر، بل العامي هو الذي يُخافُ عليه الوقوع في التأثر برأي خصمه أما المجتهد المتمكن فإنما يصدع للدليل الاقوى سواءُ أكان قوله ودليله أم دليل خصمه، وهذا هو الصواب. وهذا المعنى المحذور من موقف السكوت والهجر قد تمت الإشارة إليه في خبر آخر ذكره السيوطي أيضاً عن مالك بن أنس نقلاً عن الإمام ابن عبد البر وهانحن نوردها هنا ونعلق على بعض مواضع منها. "قال مصعب بن عبد الله الزبيري: كان مالك بن أنس يقول الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إليَّ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل( )."اهـ. أقول: إن قصد الإمام مالك أن الكلام في الدين مطلقاً مذموم فهو كلام غير صحيح ولا يسلم له، لأن ثلث القرآن في الكلام في الله تعالى وفي توحيده وفي نفي ما نسبه اليهود والنصارى والمشركون إليه عز شأنه، وفي بيان العقائد الصحيحة المتعلِّقة به. فلا يمكن حمل كلام مالك على هذا المعنى وإلا لزم مخالفته لصريح القرآن، فيلزم أن يحمل على التدقيقات والغوص فيما لا أمل ببلوغه من حقيقة الذات ونحو ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فهو صحيح مطلقاً، وهذا يوضح تعليله لموقف السكوت بأنه لا يحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فعلل ذلك بترتب العمل وعدم ترتبه عليه، ومعلوم أن مجرد الكلام في إثبات أصول الدين والتوحيد يترتب عليه أعظم العمل كالكلام في إثبات وجوده تعالى خلافاً لمن ينكره، والكلام في إثبات صفاته العلية لمن يلحد في أسمائه وصفاته، والكلام في القضاء والقدر وعدم وجوب شيء عليه جلَّ شأنه، والكلام في جواز النُّبوات من حيث ذاتها وعدم وجوب إرسال الرسل على الله تعالى والكلام في الثواب والعقاب واليوم الآخر، فهذا كله كلام في أصول الدين، ولا يجوز أن يقال إنه لا يترتب عليه العمل، بل إن العمل لا يترتب إلا عليه، ولذلك وجب أن نحمل كلام مالك وغيره على ما مضى. وعلق ابن عبد البر على كلام الإمام مالك فقال( ): قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده، يعني العلماء منهم ، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلاً فقال: نحو رأي جهم والقدر والذي قاله مالك رحمه الله وعليه جماعة الفقهاء والعلماء قديماً وحديثاً من أهل الحديث والفتوى وإنما خالف ذلك أهل البدع المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله: إلا إن اضطر أحد إلى الكلام، فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشي ضلال عامةٍ أو نحو هذا."اهـ. ولنا تعليقتان على كلام ابن عبد البر الأولى: أن الكلام في التوحيد غير ممنوع مطلقاً، بل إن كبار أهل السنة تكلموا في ذلك بل الكلام فيه واجب شرعي لأنه أصل الدين، وتكلُّمُ الفرق المبتدعة فيه لا يستلزم سكوت أهل الحقِّ بل تعليل وجوب وأولوية سكوت أهل الحق عن الكلام فيه بكلام أهل البدعة تعليل غالط وباطل. الثانية: تأمل في القيد الأخير الذي ذكره ابن عبد البر، فإنه علل السكوت بعدم الاضطرار إلى الكلام، ووضح كيف يكون الاضطرار، أي إنه قال إن السكوت هو الأولى إلا إذا اضطر الواحد إلى الكلام، ويضطر الواحد إلى ذلك لأسباب منها: إذا ترجح عنده أنه يستطيع الرد على الباطل وصرف صاحبه عنه، فإذا كان الواحد عالماً قادراً على رد البدعة والانحراف فعليه أن يتكلم وهو بالضبط ما عليه أهل السنة من علمائنا وهو موقف حكيم ومعقول. ومعنى ذلك أن الممنوع من الكلام في التوحيد والجدال فيه إنما هم العوام والجهلة لا العلماء المتمكنون. والسبب الثاني الخشية على العامة من الضلال وهذا لا يكون إلا إذا سادت البدعة أو انتشرت انتشاراً يخشى معه من انحراف الناس عن الحق إذا استمر العلماء على موقف الصمت والسكوت فعند ذلك لابُدَّ من الكلام، وهو ما قام به أهل الحق. والخلاصة من ذلك إن موقف الصمت والسكوت ليس مقصوداً لذاته، ولا يحلُّ البقاء عليه عند شيوع البدعة. وأن الكلام في التوحيد إذا كان على أصل صحيح فهو محمود لذاته لا مذموم، وأن الذمَّ إنما يتوجه على المتكلم لا على نفس الكلام كما إذا تكلم من ليس بأهل أو لغير أهله أو فيما لا قدرة على بلوغه. 10- تحليل كلام أبي المظفر ابن السمعاني وقد لخص( ) الإمام السيوطي أهم مقاصد كتاب "الانتصار لأهل الحديث" للإمام أبي المظفر ابن السمعاني، وقد ذكر فيه أهم معانيه، وسوف نعلق نحن هنا على أهم المعاني التي ذكرها الإمام أبو المظفر مما لم نتكلم عليه سابقاً أو يناسب الكلام عليه مرة أخرى. - نقل ابن السمعاني عن الإمام الشافعي( ) عن طريق حرملة قال سمعت الشافعي يقول: "إياكم والنظر في الكلام فإن رجلاً لو سئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها أو سئل عن رجل قتل رجلاً فقال ديَّتهُ بيضه كان أكثر شيء أن يضحك منه ولو سئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيها نسب إلى البدعة".اهـ. ثم علق عليه قائلاً: "فلا ينبغي لأحد أن ينصر مذهبه في الفروع ثم يرغب عن طريقته في الأصول". إن الإمام الشافعي يحذر من النظر في علم الكلام لعلة ذكرها، وهي أن المخطئ في هذا العلم يسمى مبتدعاً وهو في ذلك يقارن بين الخطأ في الفقه والخطأ في علم الكلام فيقول إن الخطأ في الفقه أسهل بكثير من الخطأ في الكلام، ولذلك يترتب عنده أن التكلم في الفقه أولى من التكلم في الكلام، فيحذر من الكلام لذلك. ولكن نحن نعلم أن التحذير هو عبارة عن كلام موجه إلى المخاطبين، لا إلى غيرهم، والمخاطبون إما أن يكونوا مؤهلين للخوض في العلم المعين أو غير مؤهلين، فإن كانوا مؤهلين فإن التحذير من الخوض في العلم لا يكون في محله، ولكن إذا وجه إليهم تحذير فيجب أن يحمل على حَضِّهم على الانتباه والاهتمام والإخلاص في النظر والبحث، وأما غير المؤهلين فإن التحذير محمول على ظاهره وهو النهي عن الخوض في هذا العلم وسبب النهي هو عين المخاطب أي لأنه غير مؤهل. إننا إذا عرفنا أن علم الكلام عبارة عن العلم الذي يُبحثُ فيه عن أصول الدين والتوحيد، فإن هذا العلم يستحيل أن يكون مذموماً لذاته، فإذا توجه تحذير من الشافعي، فلا يجوز أن يحمل هذا التحذير على النهي عن نفس العلم لجميع الناس لأن هذا الحمل نفسه يبطل عبارة الشافعي للعلم أن النظر في الكلام بهذا المعنى واجب وغير محرم. إذن يجب حمل هذا التحذير على معنى آخر وهو التنبيه إلى خطورة العلم وحض الباحث فيه على الاحتياط والإخلاص، وهذا مُسَلَّم. الآن لنفرض هذه العبارة التالية: "إياك والنظر في أصول الدين" هذه العبارة هي نفس عبارة الشافعي ولكن نحن أبدلنا "أصول الدين" محل "الكلام" ، فلو أخذنا هذه العبارة ووجهناها إلى إنسان عامي ليس مؤهلاً للخوض في هذا العلم الجليل ولا يملك أدوات النظر وقلنا له: "أيها العامي إياك والنظر في أصول الدين" فإن هذه الجملة تكون صحيحة، لأنَّ النظر غير مقدور لهذا الرجل، فلو أجزنا له الخوض فيه لعرَّضناه لا محالة إلى الزلل، ولذلك حذرناه فكان تحذيرنا له صحيحاً. والآن لو وجهنا نفس العبارة إلى عالم متمكن كالإمام علي بن أبي طالب أو الإمام أبي حنيفة أو الإمام الرازي أو غيرهم ممن شهد لهم بالعلم في هذا المجال وقلنا لهؤلاء: "إياكم والنظر في أصول الدين" فلا شك أن المستمعين لهذه العبارة سوف يستغربون من هذا التحذير، ويقولون بل هؤلاء المذكورون يجب عليهم النظر في أصول الدين ولا يجوز منعهم منه لأنهم متمكنون من ذلك ومؤهلون له وإذا لم ينظروا هم فمن يقوم بهذا الواجب غيرهم. اتضح بهذا التقريب أن تحذير الإمام الشافعي موجَّهٌ إلى غير المؤهلين ولا يجوز حمله على إطلاقه لما يلزم عنه من بطلان. وما دام الأمر كذلك، فلا يجوز القول بأن مذهب الشافعي هو ذم علم الكلام وأهله على الإطلاق، بل مذهبه هو ذم المتكلم فيما لا حاجة به، أو الذي يتكلم وهو غير مؤهل للخوض في هذا العلم، أو الذي يريد بالكلام إضلال الخلق. وهذا هو مذهب أهل السنة. وجميع النصوص التي وردت عن الإمام الشافعي في ذم الكلام والمتكلمين تحمل كما أشرنا من قبل على أناس مخصوصين أو حالات مخصوصة. وقد فهم ابن السمعاني أن مذهب الشافعي هو المنع مطلقاً من علم الكلام وذم من يبحث فيه وهذا الفهم غير صحيح، فطريقة الشافعي في الأصول هي ما ذكرناه، ولذلك فإن أكثر علماء الشافعية ساروا على هذا النهج، ولم يفهموا من الشافعي أنه حرم عِلْمَ الكلام فلذلك كان أكثر الشافعية متكلمين وعلماء في الأصول الدينية كما هم علماء في الفروع الفقهية وقد أورد ابن السمعاني سؤالاً على لسان المؤيدين لعلم الكلام وأجاب عليه، وسوف نسوق إليك كلامه في هذا كله ونعلق عليه بما تيسَّر. قال رحمه الله( ): "سؤال من أهل الكلام: قالوا: إن قولكم إن السلف من الصحابة والتابعين لم يشتغلوا بإيراد دلائل العقل والرجوع إليه في علم الدين، وعدوا هذا النمط من الكلام بدعة فكما أنهم لم يشتغلوا بهذا، كذلك لم يشتغلوا بالاجتهاد في الفروع، وطلب أحكام الحوادث، ولم يروَ عنهم شيء من هذه المُقايسات والآراء والعلل التي وضعها الفقهاء فيما بينهم، وإنما ظهر هذا بعد زمان أتباع التابعين، وقد استحسنه جميع الأمة، ودونوه في كتبهم فلا ينكر أن يكون علم الكلام على هذا الوجه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح. وهذا مما رآه المسلمون حسناً فهو مستحسن عند الله. والبدعة على وجهين بدعة قبيحة وبدعة حسنة، قال الحسن البصري: القصص بدعة، ونعمت البدعة. كم من أخ يستفاد ودعوة مجابة وسؤال معطى. وعن بعضهم أنه سئل عن الدعاء عند ختم القرآن كما يفعله الناس اليوم. قال: بدعة حسنة. وكيف لا يكون هذا النوع من العلم حسناً وهو يتضمن الرد على الملحدين والزنادقة القائلين بقدم العالم، وكذلك أهل سائر الأهواء من هذه الأمة، ولولا النظر والاعتبار ما عرف الحق من الباطل والحسن من القبيح. وبهذا العلم انـزاحت الشبهة عن قلوب أهل الزيغ وثبت قَدَمُ اليقين للموحدين. وإذا منعتم أدلة العقول فما الذي تعتقدون في صحَّة أصول دينكم. ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علم الكل أن الكتاب لم يُعلم حقه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وقد نفيتم ذلك، وإذا ذهب الدليل لم يبق المدلول أيضاً، وفي هذا الكلام هدم الدين ورفعه ونقضه، فلا يجوز الاشتغال بمسائله."اهـ. هذا هو السؤال الذي أورده ابن السمعاني على لسان المؤيدين لعلم الكلام، وهو كلام قوي حَسَنٌ كما ترى، وسوف نورد الآن جواب ابن السمعاني على هذا الكلام ونعلق عليه. قال رحمه الله( ): "الجواب والله الموفق، أنا قد دللنا فيما سبق بالكتاب الناطق من الله عز وجل ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصحابة أنا أُمرنا بالاتباع ونُدبنا إليه ونُهينا عن الابتداع وزُجرنا عنه، وشعار أهل السنة اتباعهم للسلف الصالح وتركهم كل ما هو مبتدع محدث"اهـ. أقول:- الاتباع الذي أُمِرْنا به هو الاتباع الحق، والحق الحجاج عن الحق بالحق، فعلم الكلام إذا كان كذلك أو أمكن أن يكون كذلك فهو اتباع، وكيف لا يكون ذلك اتباعاً والرسول عليه السلام كان يحاجج المشركين والنصارى اليهود وغيرهم في الله تعالى وفي أصول الدين، وكان يرد عليهم، بل القرآن نفسه مملوء بمناقشة المخالفين من سائر الملل والنحل، وكبار الصحابة كانوا لا يتركون المخالفين لأصول الدين وشأنهم بل كانوا يناقشونهم ويجابهونهم بالحجة والبرهان إن أمكن كما روي في الأخبار عن الإمام علي وابن عباس وغيرهم. وأما الابتداع الذي نهينا عنه فهو اختراع شيء يناقض الدين ويبطله أو يعارض حكما من أحكامه، أما ابتداع الطرق السديدة التي تؤيد الدين وتقويه في نفوس الناس فهو ليس ابتداعاً منهياً عنه بل نحن مأمورون به، وإن لم يكن الأمر بالنظر والتفكر في السموات والأرض وفي الآفاق وفي الأنفس كذلك فما له من معنى إذن. فالحاصل من هذا الكلام، إننا بعلم الكلام لا نكون مخالفين للكتاب ولا للرسول عليه السلام ولا لسيرة السلف، ولا نكون مبتدعين أمراً جديداً يعارض الدين ويناقضه، بل أصول علم الكلام مستقاة ومستنبطة من الكتاب وأقوال السلف، والأنظار العقلية السديدة وما كان كذلك فلا يكون بدعة سيئة. ثم قال ابن السمعاني: "وقد روينا عن سلفهم أنهم نهوا عن هذا النوع من العلم، وهو علم الكلام وزجروا عنه وعدوا ذلك ذريعة للبدع والأهواء، وحمل بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع على هذا وقوله صلى الله عليه وسلم إن من العلم لجهلاً."اهـ أقول: لقد نقلنا من قبل كلمات بعض السلف في هذا الموضوع، ولا تخلو هذه الروايات عنهم من أحد الاحتمالات التالية بعد التسليم بصحة سندها: 1. إما أن يكون معناها ذم الكلام في أصول الدين مطلقاً لجميع الناس، وهذا المعنى باطل لا يجوز الالتفات لقائله كائنا من كان لمناقضته المقطوعات العقلية والنقلية. 2. أو أن يكون معناها ذم بعض المتكلمين بسبب ابتداعهم معنى باطلاً، أو إرادتهم تحريف الدين ولو عن غير قصد منهم، أو لعدم استحقاقهم الخوض في هذا العلم، وغير ذلك من الاحتمالات، وهذا مسلم، ولكنه لا يستلزم ذم علم الكلام بعينه بل الذم متوجه على بعض ما يعرض عليه من خارج لا للوازمه الذاتية. 3. أو أن يكون النهي الوارد متوجها على المتكلم بسبب إشاعته الكلام بين العوام الذين قد يكون هذا سبباً في ضلالهم، وهذا السبب صحيح، والنهي حقٌّ. 4. أو أن يكون الذم والنهي متوجهاً على الاشتغال بعلم الكلام في زمن من الأزمان دون غيره لخصوصيَّة في ذلك الزمان، كأن لا يكون الناس بحاجة إليه لعدم شيوع الفتنة وسلامة العقائد، أو أن يكون النهي متوجهاً لمن خاض في علم الكلام في بقعة من البقاع لنفس السبب الماضي، وهذا النهي والذم صحح، ولكن لا يستلزم تحريم عين علم الكلام مطلقاً، بل غاية ما يلزمه هو المنع منه في زمان معين ومكان معين في حالة معينة، وأما في ما عدا ذلك، فلا ضير منه، ومع ذلك فلا يجوز أن يعمم المنع من علم الكلام على جميع الناس، لأن وجود العلماء به ضروري لقيامهم بواجب نصرة الدين والذب عنه في وجوه المنكرين والمخالفين، ولا يكفي وجود عالم أو عالمين، بل لا بد من وجود من تحصل بهم الكفاية من تحصيل غاية علم الكلام. والتحقيق أن الكلمات الواردة عن السلف في الذم لعلم الكلام تتنوع أسبابها بحسب ما مضى وعلى الناظر المحقق حمل كل رواية على معناها، واتخاذ الموقف المناسب منها. وبعد ذلك لا نسلم أن المقصود من قول الرسول عليه السلام اللهم أني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقوله إن من العلم لجهلاً، هو علم الكلام، للقطع بفائدة هذا العلم. ثم نقول: إن معنى الحديثين هو إن العلم إذا لم يعمل به صاحبه فكأنه لم ينتفع به، وليس المقصود إن هناك علماً حقيقياً غير نافع بالمرة، فلا يوجد علم غير نافع بالمرة، بل يوجد عالم لا يعمل بعلمه وهذا هو الذي يستعاذ به. ثم قال ابن السمعاني: "فأما قولهم إن السلف من الصحابة والتابعين لم ينقل عنهم أنهم اشتغلوا بالاجتهاد في الفروع، فالجواب من وجهين أحدهما أنه لم ينقل عنهم النهي عن ذلك والزجر عنه، بل من تدبر اختلاف الصحابة في المسائل واحتجاجهم في ذلك، عرف أنهم كانوا يرون القياس والاجتهاد في الفروع، وقد روى أهل الحديث والنقل عنهم ذلك، واحتجاج بعضهم على بعض وطلبت الأشباه، ورد الفروع إلى الأصول، وأما من كره ذلك فيحتمل أنه إنما كره ذلك إذا كان مع وجود النص من الكتاب والسنة على ما سبق بيانه. وأما الكلام في أمور الدين وما يرجع إلى الاعتقاد من طريق المعقول، فلم ينقل عن أحد منهم، بل عدوه من البدع والمحدثات، وزجروا عنه غاية الزجر ونهوا عنه" اهـ. أقول هاهنا أمور: أولاً: قد ورد عن بعض السلف ذم علم الكلام، وهذا مسلم. ثانياً: وقد ورد عن بعض السلف الخوض في مسائل من علم الكلام وهذا مسلم أيضاً. ثالثاً: إن السلف خاضوا في علم الفقه أكثر مما خاضوا في علم الكلام. رابعاً: إن ما ورد عن السلف من ذم القياس الفقهي والخوض في الفقه أقل بكثير مما ورد عنهم من ذم للكلام في أصول التوحيد والدين. هذه الأمور الأربعة كلها مسلمة لا نجادل في ذلك، ولكن لكل شيء علة وسبب، وهذا موضع كلامنا. فأما ذم بعض السلف لعلم الكلام ولبعض المتكلمين، فقد أكثرنا البحث فيه في ماسبق وتبين أنه ليس بحجة على إطلاق تحريم هذا العلم. خاصة أنه قد ورد عن بعضهم أيضاً الخوض في هذا العلم والكلام في مسائلة. فنعارض الأولى بالثانية لنخلص إلى أن الذم ليس وارداً على ذات علم الكلام ونفسه، بل على ما يعرض له وهو خارج عن ماهيته مما ذكرناه فيما مضى. وأما كون السلف خاضوا في الفقه أكثر من خوضهم في علم الكلام فهذا لا يضر في المقصود، بل نقول إن الخلف قد خاضوا أيضاً في علم الفقه أكثر من خوضهم في علم الكلام وهذا لا يلزم عنه القول بأن الخلف قد حرّموا علم الكلام. بل السبب في تفاوت بحثهم في هذين العلمين إنما هو تفاوت حاجة عامّة الناس إليهما، فالناس أحوج إلى الفقه منهم إلى علم الكلام، وذلك أن الفقه يعالج المسائل الحسية والعملية وهذه أقرب إلى الفهم والاحتياج والمداولة من مسائل الاعتقاد التي تكون غالباً غير حسية ولا يترتب عليها عمل لذاتها بل يكون المقصود منها مجرد الاعتقاد، ومعلوم أن أكثر الناس يميلون إلى ما يترتب عليه عمل مباشرة أكثر من ميلهم إلى غيره. ومعلوم أيضاً أن العلماء وظيفتهم هي حلُّ الإشكالات التي ترد على حياة الناس، وأكثر الإشكالات عملية فقهية لا عقلية عقائدية. فلهذا أكثر بحثهم في الفقه وزاد عن بحثهم في الاعتقادات وهذا كله لا يستلزم عند العقلاء كون علم الكلام محرماً ولا مذموماً، بل إن حاجة عامة الناس إليه أقل، أقصد إن عامة الناس أبعد عن الخوض في مسائلة من الخوض في مسائل علم الفقه، بينما لو دققنا النظر لربما يظهر لنا أن أثر علم الكلام على عامة الناس أكبر بكثير من آثار الفقه عليهم، وإن كان خوضهم في الأخير ألزم وأكثر. وهذا المعنى قد حققناه في موضع آخر. وأخيراً، فإن بعض قد السلف نهوا عن الأقيسة الفقهية بل بعضهم قد رفض البحث في الفقه على طريقة الفقهاء واكتفى بمجرد النقل عمَّن سبقه، ونجد بعض السلف أيضاً قد عمل بالقياس وبحث في العلل الفقهية ولم يعتبر هذا كله خروجاً عن روح الدين ولا ابتداعاً. ومادام ذلك كله واقعاً فالصحيح أن يقال إن هذه المواقف كلها تعبر عن اتجاهات فكرية موجودة عند الناس في كل زمان وفي كل عصر من العصور، ولا أعرف أنا عصراً أو جيلاً من الناس خلا مطلقاً عن بعض هذه الاتجاهات الفكرية والطرق النظرية، فإننا لا نجد مطلقاً زماناً كان الناس كلهم فيه منحرفين عن طريقة النظر العقلي ومتمسكين بمجرد النقل، ولا نجد كذلك عصرا واحداً كانوا فيه منحرفين عن النقل والتمسك بآراء من سبقهم إلى التمسك بمجرد النظر العقلي. بل إننا لا نـزال نجد في كل زمان جميع هذه الطوائف موجودة فيه، من أول العصور إلى هذا الزمان الذي نعيش فيه. وغاية ما يمكن ملاحظته هو تميز بعض العصور بغلبة أحد الاتجاهين على الآخر، وقد تكون هذه الغلبة في مكانٍ دون مكان، لا يشترط أن تكون في جميع بقاع المسلمين. والناظر بعقله يعرف أن هذه الأحوال طبيعية في الناس، وهذا راجع إلى تفاوت انفعالاتهم واحساساتهم وتأثراتهم بما في الخارج ولذلك تختلف المناهج التي يميل إليها كل طائفة منهم. ولذلك لا يجوز أن نتخذ ميل طائفة دليلاً على الطائفة الأخرى، ولا يجوز أن نعتبر ترجيح بعض الناس لرأي من الآراء دليلاً على رجحانه في نفسه. وهذا هو مقصود كلامنا في أكثر مواضع هذا البحث. إن الدليل الفعلي لا يكون منبعه كونه مأخوذاً من موقف طائفة من الطوائف أو رجلٍ من الرجال أو عالمٍ من العلماء، بل حقيَّة الدليل وصدق المنهج إنما يبرهن عليه بما هو الأمر في نفسه وبالنظر العقلي الخالص وبالبرهان القطعي، لا بمجرد اختيار الناس. ولكن إذا تعاضد البرهان مع الاختيار والميل تكون طمأنينة النفس أكثر وأقوى من الالتزام بالرأي، ولو نظرنا في تاريخ المسلمين الفكري لوجدنا أنَّ العصور التي مرّت عليهم وكانوا يرجحون النظر العقلي ويحسنون البحث في علم الكلام، أطول بكثير من الأزمنة والأحوال التي كانوا فيها يحاربون ذلك. ولكنا لا نتخذ من مجرد ذلك دليلاً على حقيَّه الشيء في نفس الأمر، بل ننطر فيه في نفسه ثم إذا وجدنا الراجح في الأمر قد تم العمل به زماناً أطول وارتاحت إليه النفوس عصوراً أكثر حمدنا الله على التوفيق والاهتداء.. وأيضاً هاهنا معنى آخر، إن كل علم فهو آلة من الآلات، فالعلوم كلها آلات ولها أغراض وأهداف، وهذا من مقاصد الفنون، ولذلك حرص العلماء على ذكر غايات العلوم والفنون في مقدمة كتبهم التي يدونونها فيها ترغيباً لنفس الناظر فيها. ولهذا، فإن التجاء الناس إلى الفنون والعلوم إنما يكون بحسب شدة الشعور بالحاجة إليها. وعلم الكلام لا يفترق عن غيره في هذا الحكم العام، والغرض من علم الكلام إنَّما هو تثبيت العقائد والرَّد على المخالفين والفصل بين المتخاصمين. إذا حفظنا ذلك، وذهبنا ننظر في زمان السلف، هل كانت الحالة الغالبة عليهم هي الجدل في الدين والاختلاف في العقائد أم كان الأغلب استقرار الحال وسيرها على الطريق القويم، لوجدنا أن الثانية هي الحاصلة، فلم يكونوا يختلفون كثيراً في مسائل التوحيد، وذلك بسبب كونهم أقرب زماناً إلى عصر الرسول الكريم، وعصر من أخذ عنه وفهم ما بلَّغه، فالعلم كان منتشراً والجهل كان محصوراً فالخلافات في هذا الباب كانت ضئيلة نسبياً، لذلك كانت حاجتهم إلى التداول في هذا العلم وهمتهم في البحث فيه قليلة. ولذلك لم يرد عنهم روايات في ذلك كما ورد في موضوع الفقه. فواقعهم الاجتماعي هو الذي نتج عنه قلة الحاجة التباحث في هذا العلم. ولكن لو نظرنا في العصور التي تلت عصورهم لرأينا أن الاختلافات في أصول الدين ازدادت وكثرت، ولذلك رأينا الناس يخوضون في علم الكلام أكثر من خوض من سبقهم. ولو دققنا النظر لوجدنا أن أغلب الروايات التي وردت في ذم علم الكلام كانت من أناس عاشوا في المرحلة الانتقالية بين الزمانين، أقصد زمان الاستقرار العقائدي، وزمان كثرة الانحرافات. فهؤلاء كانوا ينظرون إلى من سبقهم فلا يجدون عندهم خوضاً في هذا العلم، وينظرون في عصرهم فيرون الناس مختلفين فينهونهم عن الاختلاف والبحث ويعللون ذلك بعدم خوض السلف في ذلك العلم. هذا هو موقف من ذم علم الكلام، ولو أنهم نظروا في العلل وتوقفوا عندها، لتبين لهم أن عدم كثرة بحث السابقين إنما كان لعدم حاجتهم لقلة الوقائع والاختلافات، فكان الأليق في زمانهم عدم الخوض لئلا تثار الأفهام المنحرفة. وأمَّا في زمان من تلاهم، فلما كثرت الاختلافات وحصلت بالفعل بين الناس مناوشات فقد كان الموقف الأليق هو حسم هذا النـزاع، وحسمه لا يكون بموقف الصمت والسكوت عنه، بل بالبحث فيه وإحقاق الحق وإبطال الباطل. ولذلك فإننا نرى غالب العلماء الذين تواجدوا بعد تلك المرحلة الانتقالية التي أشرنا إليهما قد رجحوا وجوب النظر في هذا العلم وجعلوه أوجب الواجبات. وسبب ذلك أن هؤلاء المتأخرين من العلماء استطاعوا الانفكاك عن التأثر النفسي بمجرد تقليد واتباع ظاهر حال من سبقهم من أهل العصور الأولى، لأنهم كانوا قد خرجوا منها، والناظر في الشيء بعد تعقله يدرك علله، وينفك عن مجرد الانفعال النفسي، ويبني على العلل الحقيقية. وإذا مشينا في هذا التعليل فإننا نجد نتائجه مستقيمة في العصور المتأخرة أيضاً، فإن المرحلة التي مرت فيها الأمة الإسلامية والتي كثرت فيها الخلافات العقائدية، قد اضمحلت وانتهت أو فلنقل انحصرت تيارات الخلافات الفكرية مباشرة بعد توجه علماء الأمة إلى موقف النظر الفكري، أي بعد خروجهم عن موقف الصمت والسكوت إلى موقف البحث والنظر. فأول زمان النظر لابُدَّ أن تخلَّله اضطرابات، ولكن بعد تبين المواقف وانتهاء فترة المناظرات تستقر نفوس الناس ويسود الهدوء، بسبب الوصول إلى الترجيح الفكري. وهذا هو بالضبط ما حصل عند المتأخرين فإن زمانهم كان زمان استقرار عقائدي أكثر بكثير من زمان اختلافات السلف، ولم يكن هذا ناشئاً إلا عن ترجيحهم لوجوب النظر في علم الكلام. أنا أعرف أن تحليل هذه الأمور يحتاج إلى تفصيل أكثر من ذلك، ولكني أقتصر على هذا الإجمال الذي أرجو أن يكون كافياً هنا، وأرجو أن أتمكن أو غيري في لاحق الأيام من التفصيل في ذلك. وحسبي الآن هذه الإشارة إلى المفاتيح الكلية التي ينبغي أن يبني عليها الناظر في هذه الأحوال. هذا هو تعليقنا على الجواب الأول لابن السمعاني، وتحليلنا لكلامه ومعانيه، أوردناه على قدر ما استطعنا من الوضوح والاختصار. وسوف نشرعُ الآن في الكلام على جوابه الثاني. قال ابن السمعاني( ): "جواب آخر: إن الحوادث للناس والفتاوى في المعلومات ليست لها حصر ولا نهاية، وبالناس إليها حاجة عامة، فلو لم يجز الاجتهاد في الفروع، وطلب الأشبه بالنظر والاعتبار ورد المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة، لتعطلت الأحكام وفسدت على الناس أمورهم والتبس أمر المعاملات على الناس، ولابد للعامي من مُفْتٍ، فإذا لم نجد حكم الحادث في الكتاب والسنة فلابد من الرجوع إلى المستنبطات منها، فوسع الله هذا الأمر على هذه الأمة وجوز الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة" اهـ. أقول: كلام ابن السمعاني هنا في حق تصحيح النظر والاجتهاد في الفقه لطيف ودقيق ولا يرد عليه شيء، فهو ينظر في ظاهر الأمور بل في عللها ويعلق الأحكام على العلل وإجراء النظر هكذا سداد في الرأي. وظاهرٌ للقارئ أن ابن السمعاني يريد الإجابة عن الإلزام الذي ألزمه به السائل، وهو أن النظر في الفقهيات بهذا الشكل لم يرد عن السلف ولم يجروا فيه هكذا، ومع ذلك فقد صححتموه ومشيتم عليه، فلم تمنعون من النظر في التوحيد. وحاصل جوابه أن علة تصحيح النظر والاجتهاد في الفقه ليست موجودة في العقائد والتوحيد، ولهذا قال مباشرة بعد كلامه الماضي: "ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات لأنها محصورة محدودة قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة، فإن الله تعالى أمر في كتابه وعلى لسان رسوله باعتقاد أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نقصان عنها. وقد أكملها بقوله (اليوم أكملت لكم دينكم)، فإذا كان قد أكمله وأتمه وهذا المسلم قد اعتقده وسكن إليه ووجد قرار القلب عليه، فبماذا يحتاج إلى الرجوع إلى دلائل العقل وقضاياها والله أغناه عنه بفضله وجعل له المندوحة عنه، ولم يدخل في أمر يدخل عليه منه الشبه الإشكالات ويوقعه في المهالك والورطات وهل زاغ من زاغ وهلك من هلك وألحد مَنْ ألحد إلا بالرجوع إلى الخواطر والمعقولات واتباع الآراء في قديم الدهر وحديثه، وهل نجا مَنْ نجا إلا باتباع سنن المرسلين والأئمة الهادية من الأسلاف المتقدمين، وإذا كان هذا النوع من العلم لطلب زيادة في الدين فهل تكون الزيادة بعد الكمال إلا نقصانا عائداً على الكمال مثل زيادة الأعضاء والأصابع في اليدين والرجلين، فليتق امرؤ ربه عز وجلَّ ولا يدخلن في دينه ما ليس منه وليتمسك بآثار السلف والأئمة المرضية وليكونن على هديهم وطريقهم وليحضَّ عليها بنواجذه ولا يوقعن نفسه في مهلكة يضل فيها الدين ويشتبه عليه الحق والله حسيب أئمة الضلال الداعين إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون."اهـ. أقول: هذا الجواب مبنيّ على المعاني التالية: - الحوادث العملية لا حصر لها، وأما المعتقدات فهي محصورة فمن هنا جاز الاجتهاد بل وجب في العمليات، وامتنع في المعتقدات. - في حالة استقرار القلب على الاعتقاد لا مبرر للخوض في علم الكلام. - مطلق الزيادة على الوارد في المنقولات بدعة سيئة. هذه هي المعاني التي يعتمد عليها ليتوصل بعد ذلك إلى القول بامتناع الخوض في علم الكلام وحرمته، وسوف نحلل وننقد في ما يلي ما اعتمد عليه. فأما كون الحوادث لا نهاية لها وكون المعتقدات محصورة، فهو صحيح إلى حد كبير، ولكن لا ينتج عنه حرمة النظر في علم الكلام على تسليمنا باستلزامه وجوب الاجتهاد في الفقه والعمليات. وذلك لأنَّه مع التسليم بمحصورية الاعتقادات إلا أنَّ وجوه الدلالة عليها غير محصورة في أشياء معدودات ومن هنا جاء في الكتاب العزيز الأمر بالنظر والتفكر والتدبر، فالفكر والنظر في الاعتقادات لا يشترط أن يكون من أجل استنباط عقائد جديدة أو اكتشاف أمور غير معلومة بالنص، ولكن المقصد الأساس من علم الكلام هو البحث في الأدلة التي تدل على العقائد التي نص عليها الكتاب وأشارت إليها آياته ومعلوم أن الكلام بناءً على هذا الوجه تختلف نتيجته مطلقاً فلا ينتج عند ذاك حرمة النظر بحجة محصورية الاعتقادات بل ينتج وجوب النظر والبحث عن الأدلة الجديدة وتثبيت الأدلة المعلومة ونقدها لترسيخ العقائد المعلومة. وهذا هو بالضبط ما نص عليه علماؤنا المتكلمون. نعم لا يبعد أن يبحثوا في أشياء لا من قبيل الدلالات ولكن بحثهم فيها إنما يكون من أجل كونها مقدمات للأدلة على العقائد لا من أجل ذاتها. إن علم الكلام علم يبحث في المنهج كما يبحث في المعتقد. ومن هنا ظهر لزوم الاعتماد عليه. ومن جهة أخرى فإن المتكلم له وظيفة أخرى، وهي أنه عندما ينظر في واقع الناس أي في أحوالهم الحاصلة بالفعل، فإنه يرى الاختلاف بينهم حاصلاً ومنتشراً، ولا سبيل إلى السكوت عن الاختلافات للزوم كون واحد من الجهات هو الصواب خاصة في المعتقدات، ولهذا فإن المتكلم كما يبحث في الأدلة الصحيحة ويحاول إظهارها، فإن من وظيفته أيضاً البحث ودراسة استدلالات الخصوم والمخالفين بل والمختلفين لينقدها ويكشف عن الصحيح منها ويبطل الباطل. ولذلك ظهر الجانب الجدلي عند المتكلمين، بل هذا الجانب كان أبرز الجوانب ظهوراً في العصور المتقدمة، لأنه هو الذي يترتب عليه بيان رجحان الراجح وكسر المبطلين. ولكن بعد ذلك، وفي العصور المتأخرة لما استقرت العقائد عند الناس وترجح للعلماء كثير من الآراء بالاستدلالات القوية، اتجهوا إلى جانب البحث الحقيقي أو البحث في الحقائق في نفسها، فهذا أيضا من وظائفهم لكونه مقدمات لتثبيت الاعتقادات، فالعقائد هي أحكام كلية يجب علينا الإيمان بها، ونحن ندعي أنها مطابقة للأمر في نفسه، فعندما نقول الله موجود، فيجب علينا الإيمان بها، والاعتقاد بأنها مطابقة للخارج أي يجب علينا الاعتقاد بوجود الله تعالى في نفسه أيضاً، وعندما نقول العالم بما فيه مخلوق حادث، فإننا نعتقد بها ونعتقد بمطابقتها للأمر في نفسه أي بكون العالم في نفس الأمر حادثاً. وهكذا عندما نقول إن الشريعة تخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلابد من وجود ظلمات ووجود نور، ويستحيل كون ذلك كله افتراضياً محضاً. إذن إذا توجه المتكلم في بحوثه إلى الكشف عن حقيقة الوجود وطبائع الناس الثابتة في نفس الأمر وغير ذلك، وكشف عنها كما هي، فإنه يجب أن يجدها مطابقة لما جاءت به الشرائع، ومجرد إثبات هذه المطابقة هو دليل على صحة وحقية هذه العقائد وسلامة الدين. فهذا النوع من البحث هو من صلب وظيفة المتكلم أيضاً ومعلوم أن هذا كله لا يوجد فيه نصوص شرعية يكفي قراءتها لمعرفة المراد والوصول إلى هذه التفاصيل ولهذا فانحصار العقائد من حيث العدد، لا يستلزم إبطال البحث فيها من هذه الجهات والبحث في العقائد من هذه الجهات هو موضوع علم الكلام. فيظهر من ذلك كله بطلان المعنى الأول الذي اعتمد عليه ابن السمعاني في تحريم علم الكلام والمنع من النظر فيه. وأما المعنى الثاني وهو أننا إذا فرضنا استقرار القلب على الاعتقاد يبطل المُصَحِّحُ للنظر في علم الكلام، فهو باطل أيضاً، وذلك إذا فهمنا وتذكرنا ما أوردناه في الوجه السابق من معاني، ندرك على سبيل القطع أن النظر في علم الكلام ليس مشروطاً بوجود الشك في الاعتقادات، بل هو صحيح في كلتا الحالتين ففي حالة الشك يجب النظر للوصول إلى اليقين، وفي حال عدم وجوده، لابُدَّ من النظر أيضاً للارتقاء باليقين إلى أعلى مراتبه وهذا المطلوب وهو الصعود والرقي في مراتب اليقينيات أمر صحيح لا يجوز إبطاله وإدعاء عدم جوازه وهو من باب (بلى ولكن ليطمئن قلبي) فسيدنا إبراهيم عليه السلام لا يستطيع واحد أن يدعي وقوع الشك في قلبه من كون الله خالقاً، ولكن مع ثبات اليقين عنده إلا إنه طلب من ربه أن يظهر له مزيداً من الدلائل على هذا المطلوب لتزيده يقيناً وثباتاً، فاليقين كيفية نفسانية تقبل الشدة والضعف، فتزاد بتزايد الأدلة وتضعف بتوارد الشكوك والاحتمالات، وهذا مقصد من مقاصد المتكلمين، أي زيادة الأدلة القائمة على عقائد الدين لزيادة اليقين وتثبيته في قلوب الناس والمؤمنين. وأيضاً فإننا إذا اعتبرنا مجموع الناس، من حيث كونهم مطمئنين أوْ لا، هل كل واحد منهم يكون دائماً مطمئنا إلى العقائد دائماً ومتمسكاً بها دائماً، وهل يمكن أن يتأثر بعضهم بالشكوك التي ترده من طريق نفسه أو من غيره ممن يخالطهم، إذا فكرنا في الناس من هذه الجهة فإننا نجزم بأن الواقع أنهم يستحيل أن يكونوا عادة على قلب رجل واحد في الإيمان أو الكفر، فإن هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه، وهذا هو الحاصل بالفعل، فإن منهم دائماً من هو مطمئن بالإيمان ومنهم مَنْ هو كافرٌ ومنهم من هو بين هذا وهذا على درجات مختلفة في البعد والقرب من الإيمان والكفر، ومادام هذا هو الواقع في الناس كلهم، وهذا هو الحاصل حتى بين المسلمين أنفسهم، فإن درجات تمسكهم واطمئنانهم إلى هذا الدين تختلف فمنهم مَنْ إذا أوردت عليه الشبه الهائلة في عينه من لا يتزحزح عن عقيدته، ومنهم من تكفيه هزة من عقلٍ تافه حتى يبادر بالابتعاد عن هذا الدين وتركه، ومنهم ومن هو مضطرب تائه هائمٌ. هذا هو حال الناس الواقع بالفعل لا المفروض فرضاً ولا المتوهم بالوهم. ومادام الأمر كذلك، يستحيل إذن أن نجعل من كون سكون الناس إلى العقيدة وتمسكهم بها قاعدة عامة نحكم على أساسها على علم فكري نظري هو علم أصول الدين، بل هذا الموقف يكون قلباً للموازين والقواعد الفكرية، فإن حقيقته هو الحكم بما هو واقع الآن أو في زمان ما على ما يجب أن يكون بالمنع والتحريم. وهذا الطريق في التفكير والحكم والتأجيل باطلٌ بالمرة كما لا يخفى على عاقل. فلا بُدَّ أنْ يظلَّ بين الناس من يلقي شبهه إلى غيره ولابُدَّ أن يظل فيهم من إذا أعمل فكره في النصوص والمعاني العقائدية أخطأ وغلط وأبدل الباطل بالحق والحق بالباطل، ولابٌدَّ من أن يبقى فيهم من هو ضعيف الفكرة خائر القوى الذي لا يليق به النظر في هذه المضايق والمباحث. فالحاصل أننا إذا التفتنا إلى هذه الظروف والأحوال، فإننا نجزم بوجوب دوام وجود طائفة من الناس ومجموعة من الخلق قائمين على هذا العلم يرشدون الناس عند الضلال و الإشكال ويعلمونهم فما وراء ذلك، ويقومون على ترقيتهم في درجات التوحيد والعلم. إن من يحكم بحرمة النظر في هذا العلم، ويحكم بمنع الناس من تعلمه هو قطعاً غير مدرك لهذه الظروف والعوامل. ومَنْ أدركها فلا يليق به الاختلاف في مثل هذا الأمر الجلي عند العقلاء، بل إذا أراد النظر فإن جهة النظر الممكنة هي، إلى مَنْ يُلْقَى هذا العلم ومتى، وبأي صورة من الصور وهل يجب على الجميع من البشر تعلم هذا العلم على نفس الدرجة من التفصيل أم يكفي بعضهم الإجمال ويلزم الباقي التفصيل، وهل هذا يكون دائماً أم بحسب الظروف والأحوال وما هي هذه الأحوال المؤثرة. هذه هي الجهات التي نصحح لمن ينظر في علم الكلام أن ينكر فيها على سبيل المعارضة، فيقول مثلاً لا يجوز أن نترك الناس العوام ومن هو غير متأهل أن يطالع في دقائق هذا العلم، بل يكفيه الإجمال دون التفصيل، وأما التفصيل في مسائله فهو إنما يجب في حق العلماء وطلبة العلم بحسب مستوياتهم وقدراتهم. وأنه إذا انتشرت البدع أو كادت أن تنتشر أفكار مخالفة لحقيقة الأديان فعلى العلماء العاملين أن يزيدوا من نشاطهم في توجيه الناس وتعليمهم صيانة لعقائدهم وإرشاداً لهم. وهكذا. وأنت ترى أن هذه الناحية من التفكير لا تقوم على إنكار صحة تعلم هذا العلم والنظر فيه لكافة الناس ولا تنكر فائدته، بل هي تبحث بعد التسليم بصحته وفائدته في النظر في الطريقة التي يتم بها الانتفاع من هذا العلم الدقيق. هذا هو تحليل المعنى الثاني من المعاني التي أوردها ابن السمعاني. وأما ما قاله أخيراً من أن مطلق الزيادة على المنقولات بدعة سيئة وهو يؤدي إلى الحكم بنقصها فهو كلام باطل وغير صحيح، لأن الشريعة لم تدَّعِ مطلقاً أنها استوفيت ذكر جميع الاستدلالات الممكنة على العقائد الدينية، بل إنها ذكرت بعض الدلائل، ثم حضت الناس على البحث للوصول إلى غيرها ووجهتهم من حيث طريقة النظر، وهذا الموقف للشريعة بذاته دليل على تصحيح علم الكلام ووجوب البحث فيه لا دليل على فساده وإبطاله. إن الزيادة تكون إنقاصاً وحكماً بالنقصان وعدم التمام إذا كانت قائمة على إفساد بعض ما نصت عليه الشريعة كما لو حصرت الشريعة شيئاً في أمور فجاء واحد وأنقص من هذه الأمور شيئاً، أو زاد عليها. هذا التصرف حكم منه على الشريعة بالنقص. ولكن إذا قررت الشريعة بعض الأمور ولم تنص ولم تدلَّ على تحريم ما سواه فضلاً عن ما هو على منواله فكيف يقال عند ذلك بحرمة الزيادة وبدعيتها، إن الزيادة المبتدعة هي التي تكون من قبيل إدخال كيفية جديدة وماهية حقيقية على الدين أما ما يكون في الحقيقة من نفس حقيقة ما قرره الدين ولكن يختلف معه في الشدة والنقصان أو في الصورة لا في الحقيقة فهذا لا يسوغ لأحد تسميته بدعة أو زيادة ممنوعة أو نقضاً لما قرره الدين أو مخالفة للحق والصواب. ويزداد هذا المعنى وضوحاً إذا تذكرت أيها القارئ الذكيُّ ما أوردناه سابقاً من معانٍ ومفاهيم وأحكام. وبهذا نكون قد ناقشنا - بصورة نرجو أن تكون كافية – ما أورده الإمام أبو المظفر بن السمعاني لبيان موقفه من علم الكلام، وأظهرنا ما فيه من خلل وتجاوزات فكرية. - قال الإمام ابن السمعاني( ) بعد أن ذكر اختلاف الناس في العقائد وتعصب كل فرقة لما هم عليه: "إن الله تعالى أبي أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف وقرنا عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من الدين المستقيم والصراط القويم الإ هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث"اهـ. ثم قال( ): "ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى أخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها.. الخ"اهـ. ثم قال( ): "وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والايتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقين قلما يختلف وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما دلائل العقل فقلما يتفق بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير ما يرى الآخر، وهذا بَيِّنٌ والحمد لله." اهـ. أقول: يبين ابن السمعاني هنا عدة معانٍ نلخصها فيما يلي: 1. إن أهل الحديث هي الفرقة ذات العقيدة الصحيحة لأنهم أخذوا العقائد عن طريق النقل ولم يعملوا عقولهم في معرفتها بل سلموا بها، ومن الأدلة على ذلك وحدة منهاجهم في مختلف الأزمان ووحدة قولهم في أمور التوحيد. 2. السبب في اتفاق أهل الحديث على عقيدة واحدة هو أخذهم الدين عن طريق النقل، وإنهم لو أخذوه عن طريق العقل لاختلفوا لاختلاف دلائل العقول. هذا هو خلاصة ما يدعيه الإمام ابن السمعاني. وسوف نناقش هذه المعاني فيما يلي لنرى مدى قربها من الحق والصواب كما اعتدنا في مباحثنا السابقة. إن "أهل الحديث" كمصطلح لا يطلق في الأصل على مجموعة اتحدت أراؤهم الفقهية والعقائدية ولا ينظر في تسميتهم بهذا الاسم وحدتهم في أصول الدين مطلقاً. بل إن أهل الحديث هم أولئك الناس الذين فرغوا حياتهم للنظر في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وحفظها وبيان الصحيح من الباطل منها من حيث السند، فهم عبارة عن نَقَلَةٍ لحديث النبي عليه السلام لم يشرطوا على أنفسهم التزام عقيدة معينة أو مذهب فقهي معين. ولذلك نرى أهل الحديث من حيث الفقه ينتسب بعضهم إلى المذهب الشافعي وبعضهم إلى الحنبلي وبعضهم إلى المالكي وبعضهم إلى الحنفي، وبعضهم إلى غير هذه المذاهب، وكذلك في الاعتقاد وأصول الدين فبعضهم أشاعرة وبعضهم أحناف (ماتريدية) وبعضهم حنابلة (بغض النظر عن حقيقة اعتقاد الحنابلة، سواء كان التجسيم أو التنـزيه أو غير ذلك) وبعضهم لا ينتسبون إلى أيٍّ من هذه المذاهب. ولو أردنا التفصيل أكثر في الكلام من جهة العقيدة، فإننا نعرف أن بعض المحدثين كانوا مجسمة وبعضهم منـزهة، وبعضهم من الشيعة وبعضهم من المعتزلة وبعضهم لم ينتسب إلى أي طائفة من هذه الطوائف بل وافق بعضها وخالف بعضها، وهذا الأمر معروف من الواقع بالفعل عن طريق الاستقراء، ولا أظن أحداً يخالف فيه. إن الواقع تاريخياً يدلل على أن بعض أهل الحديث كانوا من المجسمة أو من المتأثرين بمنهجهم بشكل عام. بل يمكننا الادعاء بسهولة أن كثيراً من الذين تمسكوا بهذا المصطلح كانوا من المنتمين إلى عقائد المجسمة أو من المتأثرين بهم خاصة في القرن الثالث الهجري والرابع. وخاصة من الذين انتسبوا إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل . وهذه مشكلة تاريخية تكلم عنها كثير من العلماء حتى إن بعض كبار علماء الحنابلة انتبه إلى هذا مبكراً وهو الإمام ابن الجوزي وقال إن مذهب أحمد بن حنبل قد وسخه بعض من انتسب إليه بأوساخ التجسيم والتشبيه ولهذا أفرد كتاباً خاصاً هو (دفع شبه التشبيه) في الرد على هؤلاء الذين تغلغلوا في مذهب أحمد وهم مجسمة صرحاء. وهؤلاء غالباً كانوا يتمسكون بعبارات فضفاضة مثل أنهم يقولون بقول السلف ويتمسكون بما ورد في الكتاب والسنة من نصوص وغير ذلك، والحقيقة أنه لم يرد في الكتاب والسنة أن الله محدود لا من جهة التحت ولا من غيرها من الجهات ولم يرد أن الله يتحرك، ولم يرد أن الله تحلُّ فيه الحوادث ولم يرد أن الله في جهة ولم يرد أن الله متحيز ولم يرد أن يد الله عضو منه وجزء ولم يرد شيء مما جعله هؤلاء المجسمة أصولاً للعقيدة الإسلامية ونسبوها إلى الكتاب والسنة. إن طائفة المجسمة كانوا على مر العصور من أقل الطوائف الإسلامية، ولم يزالوا منبوذين حتى هذا الزمان الذي نحن فيه، حين انتشرت بدعتهم وعمت فكرتهم، بعد أن ألبسوها عباراتهم الخادعة وأوهموا العامة والخاصة بأنهم هو القائلون بحقيقة معاني الكتاب والسنة وعقائد السلف، وحرسوا ذلك كله بتعصبهم الممقوت لهذه الأفكار الباطلة. ولم يزل هؤلاء منذ أقدم العصور يتسترون ببعض الأحاديث ويبنون مذهبهم عليها مع ضعفها من حيث السند، وعدم إفادتها لما يقولون به من حيث المتن، ولكنهم يحيطون ذلك كله بأساليب هائلة من الإشاعات والأوهام الكاذبة. إنَّ تسلل بعض المجسمة إلى صفوف أهل الحديث( ) لا يعني بالمرَّة أن كل المحدثين كانوا مجسمة أو أنهم كانوا على طريقة المجسمة. بل الحقيقة أن أغلب المحدثين وشراح الحديث كانوا على طريقة أهل السنة، وكانوا ينفون التشبيه والتجسيم وينصرون التنـزيه، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. بل إن العصر الذي ظهر فيه المجسمة وهو أواخر القرن الثالث والرابع لم يظهروا بعد ذلك في المجتمعات الإسلامية إلا كطائفة منبوذة ذات أفكار باطلة، وساد مذهب التنـزيه أطراف العالم الإسلامي مطلقاً طوال هذه الفترة كما كان في أيام السلف الأوائل حتى ظهور الدعوة إلى مذهب ابن تيمية في هذا العصر الذي نعيش فيه، حين وجدت لها أنصاراً أقوياء ماديّاً دعموا الفكرة بالمادة فانتشرت وعمت، مع بقائها ضعيفة فكرياً ومن حيث الحجة والدليل. إن الأصول الكبرى من الاعتقاد قد يدعي بعض الناس أن المسلمين جميعاً قد اتفقوا عليها ولم يخالف فيها أحد. وهذه العبارة صحيحة من جهة وتحتاج إلى قراءة أخرى من جهة ثانية. وبيان ذلك أن الشيعة مثلاً قد اعتبروا الإيمان بكون الإمام منصوصاً عليه أصلاً كبيراً من أصول الدين وذلك بعد اتفاقهم مع الفرق الإسلامية الكبرى على أصل التوحيد والتنـزيه والنبوة واليوم الآخر، فاشتراكهم مع غيرهم في هذه الأصول لا يعني مطلقاً اعتقادهم بعدم تقصير الفرق الأخرى في بعض أصول الدين، فالشيعة يعتقدون أن الأمامة التي هي أصل من أصول الدين عندهم، قد نفاها أو لم يؤمن بها سائر الفرق الأخرى، ولذلك فإن موقفهم من سائر الفرق الأخرى هو موقف يترتب عندهم على خلاف أصلي. وكذلك المعتزلة مثلاً، فمسألة خلق الأفعال أصل أصيل عندهم يتم بناءً عليها اتخاذ موقف أصلي وخلاف كبير مع سائر الفرق الأخرى. وهكذا بقية الفرق الإسلامية خلا الأشاعرة مع قولهم بأصول الدين المشتركة التي ذكرناها سابقاً، إلا مسألة الكسب التي قالوا بها ولم يلزموا بها سائر الفرق الإسلامية، فلم يوالوا غيرهم ويتبرؤوا منهم بناءً على هذا المعنى، بل المعنى الذي اعتقدوه أصلاً إنما هو كون فعل المخلوق ليس مثل فعل الله تعالى، وكون الإنسان فاعلاً، فهذا القدر عندهم ضروري أما تحديد حقيقة وماهية فعل الإنسان المعبر عنه بالكسب، فلم يدع واحدٌ منهم أنه أصل ديني، فالأصل عندهم هو عدم كون الإنسان خالقا. من ذلك نرى أن معظم الفرق الإسلامية اتفقت على أصول معينة ومعلومة، ثم تميزت بعض الفرق عن بعض بالقول ببعض المفاهيم العقائدية واعتبرت القول بها أصلاً أصيلاً، واعتبرت المخالف لها مخالفا لأصول الدين، فكل فرقة إذن تعتبر نفسها فقط هي المحققة لجميع أصول الدين، وبناءا على ذلك فقد عدوا الأصول التي يؤمنون بها عدَّاً، ونستثني من ذلك الأشاعرة، وبناءً على ذلك فإن كل فرقة قد تقف موقفاً صلباً وقوياً وربما يصل في أكثر الحالات إلى التكفير للفرق الأخرى – إلا الأشاعرة أو جمهورهم فإنهم لا يكفرون سائر الفرق-. وعند ذلك نقول: إن كانت الأصول التي اتفقوا عليها هي فقط أصول الدين وقواعده الكلية، فكل الفرق الإسلامية قد حققت ذلك مطلقاً ويترتب على ذلك أنه لا توجد فرقة واحدة نقضت القواعد المقررة في الإسلام، وإن كان الخلاف بعد ذلك ينحصر في الزيادة على هذه القواعد الأصلية، حيث إن كل فرقة تميزت عن غيرها بما أثبتته زيادة على تلك الأصول، ومن هنا حصل التميز لكل فرقة عن غيرها، فالتميز حاصل بالزيادة في الأصول لا في الإنقاص منها. إذا كان ذلك، فهل يجوز القول إن الفرق الناجية هي فقط الفرقة التي اقتصرت على الأصول الكلية ولم تزد شيئاً عليها، وأن كل فرقة زادت على ذلك فهي مبتدعة في اعتبارها ما ليس أصلاً. إذا كان هذا الكلام صحيحاً فإننا نعتقد أن الأشاعرة هم الأقرب مطلقاً إلى الفرق الناجية المذكورة، لأن خلافاتهم مع غيرهم معظمها في النفي دون الإثبات، فقد خالفوا المعتزلة ونفوا الخلق للإفعال، وخالفوا الجبرية ونفوا الجبر، وخالفوا المجسمة ونفوا الجسمية ولوازمها عن الله تعالى، وخالفوا الشيعة ونفوا عصمة الإمام والنص عليه بالصورة التي يقولها هؤلاء. ثم لم يكفروا فرقة من هذه الفرق لمجرد ما خالفوهم به. ولم يكفِّروا من واحد لمجرد أنه خالفهم في بعض ما أثبتوه. والبحث في هذا المفهوم كما ترى صعب ودقيق ويحتاج إلى دراسة خاصة، ولكن لنرجع إلى مناقشة ما ادعه ابن السمعاني من كون الفرقة الناجية هم أصحاب الحديث، فنحن قد قلنا إن أصحاب الحديث ليسوا أصحاب منهج عقائدي واحد بل هم متنوعو الانتساب، كما يعلمه كل مطلع ولذلك فإن ادعاء أن أصحاب الحديث هم الفرقة الناجية غير مسلم بالمرة. وإذا فكرنا بعد ذلك في قول ابن السمعاني الثاني وهو أن السبب في وحدة أهل الحديث هو أخذهم الدين عند طريق النقل، فإننا نراه غير صحيح أيضاً، لأننا لا نسلم أن أهل الحديث متحدون في الاعتقاد لأننا بيننا أنهم قد اختلفوا فيه. وأما ادعاؤه أن اختلاف الفرق الأخرى إنما حصل لاعتمادهم على أدلة العقول، وأدلة العقول تختلف، فهو قول غير صحيح أيضاً، فإن أدلة العقل لا يمكن أن تختلف ما دامت متوافقة مع القواعد العقلية المقررة، وأما الاختلاف الواقع بالفعل، فسببه هو عدم الالتزام بشروط العقل في التفكير، والتجاوزات التي تحصل من الناظر في نظره، فإن النظر هو فعل إنساني تابع للإرادة، والإرادة تابعة للعلم، وتتأثر بالميولات النفسانية والشهوات العاجلة والباقية. فإذا كان النظر فعلاً يعتمد على ذلك، فإننا لا نستبعد مطلقاً أن يختلف نظر الناظرين لا لاختلاف أدلة العقول في نفسها، بل لاختلاف ميولات هؤلاء واتجاهاتهم وعلمهم الذي هو شرط لتعقلهم، بل نحن نقول إنه لا يوجد واحد يلتزم بطرق النظر الصحيحة ويمكن أن يتوصل في النهاية إلى نتيجة باطلة للتلازم القطعي يبين النظر الصحيح والنتيجة المطابقة للحق بل التلازم بين النظر الصحيح والنتيجة الصحيحة حاصل وثابت لا ريب في ذلك. وعليه فإن القول باختلاف أدلة العقول في نفسها هي مقولة فاسدة باطلة، بل الصحيح أن يقال إن الفعل الذي يفعله الناظر ونسميه تعقلاً، هذا الفعل هو الذي يختلف من واحد إلى آخر، ولايشترط في كل فعل تعقلي صدر من شخص أن يكون عقلاً بالفعل، بل العقل بالفعل هو المطابق للعقل في نفسه المعلوم بالعلم اليقيني أنه كذلك. فصورة التفكير الصحيحة بما تشتمل عليه من أسباب وشروط وصُوَرٍ ترتيبية هي العقل المطلق، فإذا تطابق الفعل التعقلي الجزئي مع هذا العقل الصوري، فإن هذا الفعل يكون عندها عقلاً بالفعل. فليس كل فعل تعقلي عقلاً بالفعل. والقول بأن أدلة العقول تتفاوت في نفسها، ثم القول بعد ذلك بأنه لا يجوز الاعتماد عليها، هي مقولة غريبة على الفكر الإسلامي، وربما لهذا اعتمد عليها أكثر المجسمة، لأنهم لم يجدوا دعماً قوياً لمذهبهم الفاسد في نفسه أكثر من نقض أدلة العقول في نفسها والتشكيك في موصلية النظر العقلي الصحيح إلى الحق، فمذهبهم بالفعل لا يقوم على العقل، بل على رحابة الخيال، فأول ما يفعله المجسم هو التشكيك في أدلة العقول، ولا يكون بإمكانه حينذاك إلا الاعتماد على الحسيات لإقامة عقائده عليها وهذا هو الحاصل بالفعل فيهم. وأما النقل فإن هؤلاء إذا اقتصروا على المحسوسات كمنهاج للفكر والمعرفة سهل عليهم بعد ذلك جداً أن يحرفوا نصوص الكتاب والسنة بحملها على الحسيات المحضة لينتج عندهم عقائد التجسيم. ولهذا فهم لا يترددون مطلقاً بالانتساب إلى الكتاب والسنة، لأنهم يدركون أنهم بعد التشكيك في صلاحية العقل وأدلة العقول في الوصول إلى الحق، وبعد اقتصارهم على الحسيات، فإنه مهما واجهتهم نصوص شرعية تنافي التجسيم فإنهم يمكنهم حملها مطلقاً على مذهبهم أو الادعاء أن هذه النصوص التنـزيهية إذا أبقيناها على ظاهرها فإننا لا يمكن أن نفهمها، لأنَّ الفهم عندهم محدود بالحسّ، وهذه النصوص التنـزيهية هي فوق الحس، فيقولون عندئذ يستحيل أن يرد في الكتاب والسنة نص غير مفهوم، وكونه غير مفهوم عندهم مبررٌ بأنهم لا يفهمون إلا الحسيات ويكملون تفكيرهم بعد ذلك بناءٌ على نفس المبني ويحملون النص على الحسيات أو يجعلونه متشابها كما ادعوا في قوله تعالى (ليس كمثله شيء). وأما أهل السنة فطريق المعرفة عندهم غير محصور بالحواس ولا بالوهم ولا بالتجربة، ولا بمجرد النقل، فطريق المعرفة عندهم تشمل ذلك كله وتزيد عليه بالعقل الذي هو في الحقيقية الشرط والأداة في نفس الوقت للتجربة والنقل، فدائرة المعرفة عندهم أوسع من أن تكون محصورة بالحواس كأهل التجسيم، بل هم يعتبرون العقل طوراً آخر ومنـزلة ثانية بعد الحواس، خلافاً للمجسمة الذي يعتبرونه جزءاً من الحواس بل لا يعترفون به منفصلاً عن الحس بمعنى أنه طور آخر بل هو عندهم في نفس مرتبة الحس، ولذلك يكتفون عن الانتساب إليه والالتجاء إليه بالاعتماد على الحواس والمحسوسات وطور الوهم الذي يتألف فقط من الصور المحسوسة التي انتقلت إلى ذهن الإنسان عن طريق الحواس، بل المجسمة يعتبرون الالتجاء إلى العقل فساداً وضلالاً، لأنهم لا يعترفون أصلاً بوجوده حقيقة كآلة للمعرفة، بل يعتبرونه طريقاً من طرق الشهوات والرغبات. ولذلك فإن النتيجة الطبيعية عندهم أن تكون العقول متعارضة لا متوافقة، ولذلك فهم ينفون كونها مفيدة في طريق المعارف والعلوم. هذه هي حقيقة نظرة المجسمة نحو العقل وحقيقة نظرة أهل السنة إليه. وبهذا الكلام المختصر الذي نرجو أن يكون كافياً لبيان النقد والاعتراض المتوجه على كلام ابن السمعاني نكتفي، لعلنا ننتهز فرصة أخرى للتفصيل في هذا الموضوع المهم بحسب ما يليق به. وبذلك نكون قد انتهينا من التعليق على بعض ما ورد في كتاب السيوطي رحمه الله تعالى، تعليقاً نقديّاً معتمداً على التحليل الموضوعي المنصف وعدم المبالغة التي لا تليق في بحث مثل هذه المواضيع. وسوف نتابع في القسم اللاحق نقد بعض المقالات التي اشتهرت في نفس الباب.

الفصل الرابع تعليقات على مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس هذه المناظرة جرت بين الاثنين في مجلس الوزير ابن الفرات في سنة ست وعشرين وثلاثمائة كما ذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة( )، وتدور هذه المناظرة حول المنطق وفائدته كما سنرى خلال تعليقنا عليها. وقد اهتم كثير من الباحثين بهذه المناظرة المتقدمين منهم والمتأخرين، فبعضهم اعتبرها جواباً قاصماً على الإشكالية المتعلقة بفائدة المنطق، وقد أوردها الإمام السيوطي في أواخر كتابه صون المنطق والكلام الذي علقنا على بعض ما فيه سابقاً، وأشار إليها كثير من الباحثين المعاصرين بل كتبوا عنها وحللوها، فمنهم من أعجب بها جداً واعتبرها فتحاً مبيناً ومنهم من ناقش فقبل بعض ما فيها وردَّ البعض الآخر. وأما نحن فكما جرينا في هذا الكتاب، فسوف نورد منها مقاطع مهمة مناسبة لموضوعنا على حسب سَيْرِها وترتيبها ونُعَلِّقُ على ذلك بحسب ما نراه سديداً. بدأت المناظرة بدعوة الوزير ابن الفرات للحضور وفيهم السيرافي قائلاً( ): "لا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، فاطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه" اهـ. بهذه العبارات لخص الوزير ابن الفرات الدعوة التي يدعيها متى بن يونس، ونلاحظ نحن أن هذا التلخيص لم يصدر على لسان متى، بل على لسان الوزير، لكن لما لم يستدرك عليه متى شيئاً أمكننا أن نعتبره صحيحاً من حيث الصورة، أي إن ما تجده في المنطق هو ضوابط وقواعد كلية تدلك على الصورة الصحيحة للفكر لكي تنتج نتيجة صحيحة، وتدلك على الضوابط الكلية للمواد الفكرية أي من أين تأخذ المقدمات وكيف تأخذها لكي ترتب منها بعد ذلك القياس والاستدلال المنطقي الصحيح. وأما قوله: (واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده)، إن قصد به أننا يجب علينا الالتزام فقط بما صدر على لسان أرسطو، فهذا لا يقول به منطقي قط ولم يقل به أرسطو، وينقضه العقل السليم، وإن قصد أننا إنما نلتزم بضوابط المنطق في نفس الأمر سواءً دلنا عليها أرسطو أو غيره من العلماء والمناطقة فهذا هو الحق لا ينقضه ناقض. وهذا صحيح مطلقاً في الصورة الفكرية والمادة الفكرية. إذن هذه كانت الدعوى التي تقوم عليها المناظرة، وقد تقدم السيرافي إلى متى بالسؤال التالي بعد موافقته على التصدي له( ): "حدِّثني عن المنطق ما تعني به فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سنن مَرْضيٍّ وطريقة معروفة" اهـ. وهذه بداية حسنة من السيرافي فإن أساس المناظرة هو بيان الدعوى. وأجابه متى قائلاً( ): "أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه وفاسد المعنى من صالحه كالميزان" اهـ. هذا هو جواب متى، والعارف بالمنطق يدرك أن هذا الجواب غير معبر عن حقيقة المنطق، فإن المنطق لا علاقة له بالكلام لأن الكلام المقصود هنا هو الكلام اللفظي فإنه المتبادر عند الإطلاق، والمنطق ليس من وظيفته بيان صحيح الكلام من سقيمه، لأن هذه هي وظيفة علوم أخرى كما سيشير السيرافي، وأما قوله (وفاسد المعنى من صالحه) فهو صحيح ولكن العبارة قاصرة وغير واضحة كما ينبغي أن تصدر من منطقي. والوصف الوحيد الجيد الذي ذكره متى هنا هو قوله إن المنطق آلة، فكون المنطق آلة صحيح مطلقاً لا استدراك عليه، ولكن هل هو آلة للكلام أو آلة للفكر، إنه آلة للفكر قطعاً، ولهذا قال ابن سينا في منطق المشرقين( ): "وتنقسم العلوم الأصلية إلى قسمين أيضاً فإن العلم لا يخلو إما أن ينتفع به في أمور العالم الموجودة ما هو قبل العالم، ولا يكون قصارى طالبه أن يتعلمه حتى يصير آلة لعقله يتوصل بها إلى علوم هي علوم أمور العالم وما قبله، وإما أن ينتفع به من حيث يصير آلة لطالبه فيما يروم تحصيله من العلم بالأمور الموجودة في العالم وقبله. والعلم الذي يطلب ليكون آلة قد جرت العادة في هذا الزمان وفي هذه البلدان أن يسمى علم المنطق ولعل له عند قوم آخرين اسماً آخر، لكننا نؤثر أن نسميه الآن بهذا الاسم المشهور. وإنما يكون هذا العلم آلة في سائر العلوم لأنه يكون علماً منبهاً على الأصول التي يحتاج إليها كل من يقتنص المجهول من المعلوم باستعمال للمعلوم على نحو وجهة يكون ذلك النحو وتلك الجهة مؤدياً بالباحث إلى الإحاطة بالمجهول، فيكون هذا العلم مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تنقل الذهن من المعلوم إلى المجهول، وكذلك يكون مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تضل الذهن وتوهمه استقامة مأخذ نحو المطلوب من المجهول ولا يكون كذلك". اهـ. هذا هو معنى كون المنطق آلة علمية، وقد نص سائر المناطقة على ذلك المتقدمون منهم والمتأخرون، ومن ذلك ما قاله العلامة البناني( ) في شرح السلم المنورق عند قول الناظم: نسبته كالنحو للسان وعن دقيق الفهم يكشف الغِطا

وبعد فالمنطق للجنان

فيعصم الأفكار عن غَيِّ الخَطا

"أما حدّه فهو العلم الباحث عن أحوال المعلومات التصويرية والتصديقية من حيث التأدي بها إلى مجهول تصوري أو تصديقي، ورسمه باعتبار غايته هو أن تقول: علمٌ يعرف به كيفية التوصل بالمعلوم إلى المجهول" اهـ. وقال العلامة سعيد قدّورة في شرحه( ): "أما حدّه، فقد عرّفوا المنطق بأنه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، وهذا التعريف رسم لأن الحدّ يكون بالذاتيات، وكون المنطق آلة لغيره من العلوم ليس من ذاتياته بل هو عرض ومن العرضيات يكون الرسم، فالآلة هي الواسطة بين الفاعل ومنفعله في حصوله كالمنشار للنجار، فإنه واسطة بينه وبين الخشب في وصول أثره إليها". اهـ. فَوَصْفُ المنطق بهذا الأمر مشهور معروف بين العلماء. فهو ليس ميزاناً للكلام كما قال متى بل هو ميزان للفكر فقط ولا علاقة له بالكلام فإن ميزانه هو النحو وعلوم اللغة. ولذلك فقد انتهز السيرافي هذا الجواب وشنع على متى قائلاً( ): "أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه، يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية". وبناءً على هذا أيضاً قال في جوابه: "إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها فمن أين يلام الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكر رفضوه". فهذا الكلام كله بناه السيرافي على طرفٍ من جواب متى، وهو غالط في هذا الجواب، ولهذا فلا يلزمنا أن نسلم بأيِّ شيء مما قاله السيرافي هنا لعدم تسليمنا أصلا أن المنطق هو آلة للكلام في نفس الأمر. ولو كان المنطق كذلك لصح جواب السيرافي قطعاً. وأجاب متى على ذلك: "إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية سواء عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه". اهـ. هذا جواب متى على الإلزام الذي وجهه إليه السيرافي بناءً على ظاهر كلامه السابق الذي ذكرنا جهة ضعفه، ومتى في هذا الجواب يحاول التركيز على الجانب الصحيح من هدف وموضوع علم المنطق، فعلم المنطق يركز على البحث عن المعاني، والمعاني مشتركة بين بني البشر، لا يختص طائفة منهم بمعرفة ما لا يعرفه الآخرون، وهذا تراجع من متى عن القسم الأول من كلامه السابق الذي ادعى فيه أن المنطق يبحث في الكلام. وقد نقض السيرافي هذا الجانب بكلام قوي، وها هو الآن متى يصحح جوابه وينص على الموضوع الصحيح لعلم المنطق، فلنر الآن بماذا يجيبه السيرافي. فقد قال( ) : "لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة وأنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق ولكن الأمر ليس هكذا ولقد موَّهت بهذا المثال" اهـ. الآن نقول: كلام السيرافي هنا منحرف عن الصواب، وهو إلزام لمتى بما لا يلزمه، لأن متى إنما ضرب المثال تقريباً للاشتراك في جنس المعاني، ولم يضربه للقول بأن المعاني المعقولة واضحة عند جميع البشر كوضوح قولنا أربعة زائد أربعة يساوي ثمانية، لا هو لم يرد ذلك. بل إن أصل ضرورة الاحتياج لعلم المنطق مبني على نفي ذلك المعنى الذي يريد السيرافي إلزام متى به، لأن علم المنطق إنما صح النظر فيه ووجب لأن بعض المعلومات بديهية وبعضها نظرية، والنظرية تحتاج إلى طريق صحيح للنظر، والناس في الأنظار ليسوا معصومين فاحتاجوا إلى قانون يميزون به مسلكهم في النظر ويسيرون عليه. وهذا قد نص عليه سائر المناطقة. قال الملا عبد الله اليزدي( ): "ثبت احتياج الناس إلى المنطق في العصمة عن الخطأ في الفكر بثلاث مقدمات: المقدمة الأولى: أن العلم إما تصور أو تصديق. المقدمة الثانية: أن كلاً منهما إما أن يحصل بلا نظر أو يحصل بالنظر. المقدمة الثالثة: أن النظر قد يقع فيه الخطأ. فهذه المقدمات الثلاث تفيد احتياج الناس في التحرز عن الخطأ في الفكر إلى قانون وذلك هو المنطق" اهـ. وقال العلامة الكاتبي( ): "العلم إما تصور تصور فقط وهو حصول صورة الشيء في العقل وإما تصور معه حكم وهو إسناد أمر إلى آخر إيجاباً أو سلباً، ويقال للمجموع تصديق، وليس الكل من كل منهما بديهياً وإلا لما جهلنا شيئاً ولا نظرياً وإلا لدار أو تسلسل، بل البعض من كل منهما بديهي، والبعض الآخر نظري يحصل بالفكر، وهو ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، وذلك الترتيب ليس بصواب دائماً لمناقضة بعض العقلاء بعضاً في مقتضى أفكارهم، بل الإنسان الواحد يناقض نفسه في وقتين، فمست الحاجة إلى قانون يفيد معرفة طرق اكتساب النظريات من الضروريات والإحاطة بالصحيح والفاسد من الفكر الواقع فيها وهو المنطق، ورسموه بأنه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر" اهـ. وكلام المناطقة في هذا المعنى طويل وكثير. فإلزام السيرافي لمتى بما ألزمه به غلط كما ترى. ثم قال السيرافي( ): "ولكن مع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة" ووافقه متى على هذا، فقال السيرافي: "أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان" اهـ. الكلام هنا يدور عن علاقة المنطق باللغة، وهل المنطق من جنس اللغة، وهل المنطق عبارة عن قواعد اللغة اليونانية كما يفهم من إلزامات السيرافي لمتى. أيُّ علمٍ من العلوم يتوقف على اللغة، لا في وجوده في ذاته، بل في إيصاله وتوصيله إلى الآخرين، فأنت لا يمكنك أن تستفيد علم الرياضيات من غيرك إلا عن طريق اللغة، فاللغة تتوقف عليها العلوم في النقل والتواصل، وهكذا هو علم المنطق فهو علم كسائر العلوم، هذه هي الجهة الوحيدة لعلاقة المنطق باللغة. قال العلامة القطب الشيرازي( ): "لا شغل للمنطقي من حيث هو منطقي بالألفاظ، فإنه يبحث عن القول الشارح والحجة وكيفية ترتيبها، وهو لا يتوقف على الألفاظ، فإن ما يوصل إلى التصور ليس لفظ الجنس والفصل، بل معناهما وكذلك ما يوصل إلى التصديق مفهومات القضايا لا ألفاظها، ولكن لما توقف إفادة المعاني واستفادتها على الألفاظ صار النظر فيها مقصوداً بالعرض وبالقصد الثاني". اهـ. وقال الشريف الجرجاني في حاشيته: "فالمنطقي إذا أراد أن يعلم غيره مجهولاً تصورياً أو تصديقاً بالقول الشارح أو الحجة فلا بد له هناك من الألفاظ ليمكنه ذلك، وأما إذا أراد أن يحصل هو لنفسه أحد المجهولين بأحد الطريقين فليس الألفاظ هناك أمراً ضرورياً إذ يمكنه تعقل المعاني مجردة عن الألفاظ لكنه عسير جداً وذلك لأن النفس قد تعودت ملاحظة المعاني من الألفاظ بحيث إذا أرادت أن تتعقل المعاني وتلاحظها تتخيل الألفاظ وتنتقل منها إلى المعاني، ولو أرادت تعقل المعاني حزمة صعب عليها ذلك صعوبة تامة كما يشهد به الرجوع إلى الوجدان. بل نقول من أراد استفادة المنطق من غيره أو إفادته إياه احتاج إلى الألفاظ، وكذا الحال في سائر العلوم فلذلك عدت مباحث الألفاظ مقدمة للشروع في العلم كما أشرنا إليه. ثم إن المنطقي يبحث عن الألفاظ على الوجه الكلي المتناول لجميع اللغات لتكون هذه المباحث مناسبة للمباحث المنطقية، فإنها أمور قانونية متناولة لجميع المفهومات، وربما يورد على الندرة أحوال مخصوصة باللغة التي دون بها هذا الفن لزيادة الاعتناء بها" اهـ. إذن هذا هو القدر الذي يحتاج فيه المنطق إلى اللغة، ولكن من الذي يقول إن المنطق فقط هو المحتاج إلى اللغة هذا النوع من الاحتياج، إن العلوم كلها تحتاج إلى اللغة كما ذكرناه في الكلام السابق. فالسيرافي عندما قال إن متى يدعو إلى تعلم اللغة اليونانية مخطئ قطعاً ولا يلزمه مطلقاً هذا الإلزام. المنطق عبارة عن القواعد للفكر العقلي، وليس هذا هو عين اللغة، بل اللغة مهمتها التعبير عن هذا الفكر العقلي للغير، فهي واسطة في النقل، لا واسطة في الوجود. وقد أشار السيرافي إلى مشكلة الترجمة في علم المنطق، وحاصلها أنه إذا كان المنطق مدوناً باليونانية وأراد متى أن ينقله إلى العربية، فإن كان لا يعرف اليونانية فكيف ينقله، وإذا نقله عن لغة أخرى كالسريانية مثلاً فما الذي يضمن أنه لم تحصل تشويهات لهذا الفن عن طريق الترجمة، هذا هو حاصل السؤال. والجواب: أنه يمكن الابتعاد عن هذا التحريف بأن تتم عدة ترجمات لكتب المنطق فلا نعتمد فقط على ترجمة متى، وأيضاً فإن علم المنطق هو علم عقلي أساساً وليس أدبياً محضاً لكي يقال إننا نعتمد اعتماداً مطلقاً في العلم به على مجرد نقله من اللغة اليونانية إلى العربية، بل الذي يحصل حقيقة هو أن العلماء ينقدون ما يترجم من هذا العلم ويحاكمونه بعقولهم فإن وجدوا ما يخالف المعقول فإنهم ينقدونه ويعترضون عليه. فكيف نقول لو تم نقل قسم من علم الرياضيات مثلاً، ألا نستدرك ما تراه مخالفاً للقواعد الصحيحة، أم إن كل ما ينقل فإننا نلتزم به حتى لو كان غلطاً، إن الحاصل بالفعل هو أن العلماء لم يعتمدوا على مجرد النقل بل حاكموا ما وصلهم عن طريق الترجمة، ولم يقتصروا على ترجمة واحدة بل تعرفوا على عدة ترجمات، وهذا يكفي جداً للاحتراز عن المحظور الذي أشار إليه السيرافي. وقد أشار السيرافي بذكاء بالغ إلى أن متى إنما ينقل عن السريانية لا عن اليونانية مباشرة( ) وهذا يستدعي تراكب الأغلاط في الترجمة، ونحن نقول إنه كلما كثرت الوسائط تزداد احتمالية الوقوع في الغلط، نعم هذا صحيح، ولكن علم المنطق ليس علماً يعتمد على نقل الأحاسيس والمشاعر حتى يصدق عليه هذا، بل هو علم صناعي آلي، فلا يؤثر هذا العامل فيه كثيراً، كما لو نقلنا قوانين الفيزياء عن اللغة الفرنسية، والفرنسيون نقلوها عن الإنجليز، وهكذا، ثم مع تعدد الترجمات تقل نسبة الوقوع في الغلط، وأيضاً إذا كان علم المنطق عقلياً، فإن الترجمات نفسها تسلط عليها العقول الناقدة آليات النقد والتحرير، فإذا كان يوجد بعض الأغلاط أمكن تدراكها مع كثرة العقول الناظرة، وهذه وسيلة أخرى لتحرير المنطق من الغلط الواقع فيه من جهة الترجمة، مع أنني استبعد أن يقع غلط عظيم في المنطق من جهة الترجمة، نعم يمكن أن يقع في الفلسفة أو في الأدب أما في المنطق فالترجمة يبعد أن تكون مصدراً لأغلاط عظيمة فيه تعز على العقول الناظرة فيه بعد ذلك إدراكها وكشفها وذلك لما ذكرناه آنفاً من أن المنطق علم آلي مجرد، أي يتم بيان صورة الفكر فيه، لا مجرد مشاعر عاطفية ووجدانية أو انفعالات نفسانية كالأدب وغيرها من الفنون. فالمبالغة إذن في نقد المنطق بالاعتماد على هذا الوجه غير سائغة ولا دقيقة. وبعد ذلك سلم السيرافي تنـزلاً بخلو الترجمة عن مثل هذه الأغلاط والتحريفات ثم ألزم متى قائلاً( ): "فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان ولا برهان إلا ما وضعوه ولا حقيقة إلا ما أبرزوه" اهـ. فأجابه متى قائلاً: "لا ، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه.. الخ". ورد عليه السيرافي: "أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم.. الخ." هذا المقطع من المناظرة لا يهمنا كثيراً في موضوعنا وهو علم المنطق، فلا أحد من مناطقة الإسلام ادعى أن اليونان تفردوا في سائر العلوم وأن لا علم إلا من اليونان ولكن في نفس الوقت، لا يمكن إهمال دور اليونان في العلوم العقلية والطبيعية في مختلف أنواعها وبالنسبة إلى كثير من الأمم، نعم نحن لا نقول بتفرد اليونان في العلوم والمعارف، وهذا أمر معلوم ضرورة، فكل أمة من الأمم في العالم لها مجهوداتها في العلوم والفنون، خاصة شعوب منطقة الشرق الأوسط في العراق والحضارات القديمة لبلاد الرافدين، والحضارات التي قامت في سوريا ولبنان، ومصر وهي مهد الحضارات والعلوم، وكذلك في غيرها من البلاد كالصين والهند وكثير من بلاد العالم. نحن لا نقول بانحصار المعارف والعلوم في اليونان، ولا بشر بن متى يقول بذلك، ولا متكلموا الإسلام يقولون بذلك، بل إن الهجوم الكبير الذي حصل خاصة من طرف علماء الكلام على المعارف والفلسفات اليونانية، ربما لم يحصل مثله في أمة من الأمم الأخرى التي وقعت أسيرة بين أسنان المعارف اليونانية. ثم قال السيرافي( ): "وها هنا مسألة، تقول: إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة. قال: نعم. قال: وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي. قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً" اهـ. التفاوت بين البشر حاصل وواقع، كما أن الاتفاق بينهم حاصل وواقع، وفي كل جهة من الجهات نجد قدراً من الاتفاق الحاصل بين البشر كما نجد قدراً من الاختلاف أيضاً. وفي مجال النظر والعلم وطرق الفكر، يوجد قدر من الاتفاق وقدر من الاختلاف، فالبشر يستعينون في حوارهم ومناقشاتهم وتواصلهم بما اتفقوا عليه على ما اختلفوا فيه، ويتخذون محل الوفاق جسراً للوصول إلى اتفاق آخر في محل الاختلاف. هذا من جهة عامة. وأما في مجال الفكر والنظر، وخاصة في مجال القواعد الكبرى، فلا يمكن أن نعزو الخلاف الحاصل إلى مجرد الطبيعة، لأن ذلك لو كان صحيحاً لانعدمت الحاجة إلى النظر والحوار، لأن ما بالطبيعة لا يتغير إلا إذا انقلبت الماهيات والحقائق، وهذه لا تتغير بالنظر والجدل والمناقشات. ولكن الحاصل بالفعل أن البشر حتى في حال ملاحظتهم لمواضع الاختلاف، فإنهم يسعون إلى الحوار والنقاش ومحاولة كل واحد من الأطراف إقناع الآخرين برأيه، وهذا دليل كافٍ على وجود قناعة داخلية واعتقاد راسخ في نفوس الجميع بأن الاختلاف الحاصل ليس راجعاً إلى مجرد الطبيعة، وإلا لما حاولوا إزالته بالنظر والفكر والحوار. إذن لا بد من التسليم بوجود قدر مشترك بين سائر البشر في آلية النظر والفكر، وهذا القدر المشترك هو الوسيلة والآلة التي بواسطتها يتوصل الناس إلى تحصيل التواصل والتفاهم مع بعضهم البعض. نعم الاختلاف حاصل وهذا لا ينكر أيضاً، ولكن الاختلاف له أسباب أيضاً، وقد يقال: لا بد من وجود سبب طبيعي للاختلاف، أي لا بد من وجود سبب غير تابع للإرادة ينتج عنه الاختلاف بين البشر، بل هو راجع إلى نفس الطبائع التي خلق عليها الناس. ونقول: نعم هذا صحيح، وأياً كان هذا الجانب من الخلاف الذي نتج من طبيعة البشر، فلا يجوز أن يتم السعي إلى إزالته ومدافعته إلا بقدر ما يكون مؤشراً إلى الخروج عن المنطق العام والقواعد الكلية التي تم الاتفاق عليها. فلا يمكن أن يقع التكليف من الشارع بإزالة الخلافات الطبيعية بين الناس، لأن هذا ليس مما يقع تحت قدرة البشر، فلا يتم التكليف به. ولكن غاية ما يقال هنا، هو أن بعض الناس إذا ركزوا أبصارهم وانجرفوا في تصرفاتهم مع ما يختصون هم به طبيعة ويتميزون به عن غيرهم، ربما يدفعهم هذا إلى التجاوز على حقوق الآخرين وأخذ ما لديهم والتسلط عليهم. وهذا غالباً يحصل إذا كان ما يتميزون به من جنس الشهوات والغرائز كحب التملك وحب السلطة والجاه والثروة. فمثل هذه الصفات قد تكون ظاهرة بالطبيعة عند بعض الناس، وتكون خفية عن الآخرين، ولكن لا يجوز لمن ظهر بها أن ينجرف وراءها لاستعباد الآخرين واستملاكهم، لأن هذا يلزم عنه إفناء وجوداتهم وهذا لا يحق لواحد من البشر مطلقاً. إذن لا بد أن يكون هناك ضابط موجود في طبائع البشر ويشتركون فيه جميعهم، يكون المرجع إليه عند الاختلاف. نعم حتى في هذا الضابط قد يتفاوت حصوله بالفعل بينهم، فيكون ظاهراً في البعض بالطبيعة حصولاً عند البعض وقابلية عند الآخرين ولكن هذا القدر من التفاوت لا يكون مطلقاً سبباً في نفي الاحتكام إليه؛ لأن من لم يظهر فيه هذا الضابط منذ نشأته، فهو متمكن وقادر على اكتساب، ولا نقصد باكتسابه أي اكتسابه أصله، فهذا لا بد أن يكون حاصلاً بالفعل عند الجميع، ولكن نقصد اكتساب بعض لوازمه أو استحصال دوام الشعور به أو التمكن من استعماله استعمالاً طيِّعاً كآلة ميزانية، وهذا يتم بالكسب والاجتهاد. ولهذا قال العلماء أن العقل منه ما هو فطري ومنه ما هو كسبي، ولكن لا قيام للمكتسب إلا بناءً على الفطري. إذن لا يصح ما قاله السيرافي بخصوص وقوع التفاوت الطبيعي بين العقول البشرية وما استلزمه بعد ذلك، ولا يسلم جواب متى له فهو غير دقيق، فكل منهما قد تجاوز الحد، وتهاون في كلامه، والتحقيق عندنا هو ما ذكرناه سابقاً. ثم بعد ذلك دار الكلام بينهما على العلاقة بين النحو والمنطق، وقد أشرنا في ما سبق إلى هذا الموضوع ووضحنا أن المنطق يحتاج إلى اللغة ومن ضمنها النحو من باب الإيصال والتوصيل، لأن المنطق هو قواعد العقل البشري في استنباط المعاني واستخراج الأفكار، وأما النحو فهو آلة لغوية تُضبط بها الألفاظ بصورة معنية لكي يستطيع قارئ الكلام معرفة المعاني التي يريدها المتكلم بشكل صحيح. فالمنطق هو مجموعة القواعد الضابطة للإنسان أثناء النظر والفكر، والنحو هو مجموعة القواعد الضابطة للإنسان أيضاً أثناء توصيله المعاني والأفكار إلى غيره. فلا يستطيع النحو أن يحل محل المنطق وليس هو بديلاً عنه، وكذلك لا يمكن للمنطق أن يحل محل النحو ولا هو بديل عن النحو. وبناء على ذلك، فلكل لغة نحوها الخاص، ولكن البشر عموماً يجب أن يكون لهم منطق واحد، وأما اختلافهم بعد ذلك فهو لأسباب عارضة راجعة إلى ظروفهم العقائدية أو السياسية أو الفكرية أو النفسية وغير ذلك. وهذا يحتاج إلى بحث خاص. وأما قول السيرافي( ): "والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي". فإذا قصد السيرافي أن النحو بديل المنطق، فلا شك في وجود المبالغة في كلامه ويدل على بطلانه ما سبق لنا بيانه، ولكنه يمكن أن يقول: "والنحو منطق اللغة، والمنطق نحو العقول" فتكون عبارته صحيحة ومفيدة ومطردة مع جميع الكلام السابق، وأما اللفظ والمعنى فما ذكره صحيح. ثم جعل السيرافي بعد ذلك يسأل متى مسائل متعلقة بعلم النحو، فلما لم يعرف هذا الجواب عليها، شنع عليه وقلل من فائدة علم المنطق، وهذا التصرف ليس بصحيح من السيرافي، فلا يشترط في المنطقي أن يكون عالماً بالنحو، وعدم معرفة المنطقي لمسائل النحو لا تستلزم التقليل من أهمية المنطق مطلقاً، فماهية المنطق تتحقق من دون انضمام النحو إليها. والإنسان يكون منطقياً إذا تحصلت عنده المعرفة بالقواعد الكلية التي تكون آلة لإدراك المعارف ووسيلة للنظر، وسواء أعرف بعد ذلك علم النحو أو جهله فلا يؤثر ذلك على كونه منطقياً. وليس كل إنسان منطقياً، لأنه ليس كل إنسان يعرف معرفة تفصيلية القواعد الفكرية الكلية، ومجرد تأهل الواحد للعلم بها لا يستلزم أنه عالم بها. ولما عرّض السيرافي متى لهذا الموقف أراد متى أن يعكسه عليه فقال له( ): "لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي"، قال أبو سعيد: "أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء انظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك … الخ". هذا المقطع الذي يحاول فيه متى أن يعكس السؤال على السيرافي، بأن يسأله سؤالات في علم المنطق. وحاصل جواب السيرافي نوضحه فيما يلي: أولاً: لا شك أن علم المنطق له مصطلحات خاصة، والسيرافي قد لا يعرف جميع هذه المصطلحات، وعدم معرفته بمجرد المصطلح لا يعتبر معيباً عنده، وهو كذلك. ثانياً: قرر السيرافي أن السؤال الذي سيورده عليه متى إن كان متعلقاً بمجرد اللفظ والمصطلح فلا يضره عدم معرفته له. وإن كان متعلقاً بالمعنى، فإنه ينظر في نفس المعنى فإن كان صحيحاً قبله وإن كان غير صحيح رده عليه ولم يلتفت إليه. ثالثاً: هذه الطريقة التي اتبعها السيرافي تدل على مدى ذكائه وحدة عقله، ولكن موضع الخلاف بالضبط هو في الاحتمال الثاني، أعني أن السؤال إن كان متعلقاً بالمعنى فإن كان صحيحاً قبله وإلا رده. هذا المنهج صحيح، ولكن لا يمكن تحقيقه من السيرافي إلا بعد علمه بجميع قوانين المنطق الكلية والتفصيلية، مع طريقة الاستدلال الواردة فيه على كلياته وجزئياته. ولكن إذا كان يعرف ذلك كله، فمعنى ذلك أنه يعرف المنطق ومعنى هذا أنه يفكر في مسائل المنطق سواء كان حاصل تفكيره الرفض أو القبول، وعلى كل من هذين الاحتمالين، فإن ذلك يعني وجود علم قائم بذاته اسمه المنطق. ولا يضر بعد ذلك إن كان السيرافي يعلم جميع مسائل وقواعده أو يعلم بعضها ويجهل البعض. وأيضاً حتى لو خالف في بعض المسائل المنطقية، فإن كلامه يرد عليه مهما كان. وهذا هو عين المطلوب في المنطق كما هو في سائر العلوم. رابعاً: موقف كل من متى والسيرافي مختلف بالنسبة إلى علم النحو والمنطق فمتى يتكلم كمنطقي لا كنحوي، وليس من أجزائه كمنطقي أن يعلم النحو ولا أن يستطيع الجواب على مسائله. وإن غلط أو جهل بعضها، لم يستلزم ذلك انتفاء كونه منطقياً أو انتفاء فائدة علم المنطق، بل غاية ذلك أن متى لكي يفكر تفكيراً صحيحاً مستعملاً قواعد علم المنطق، يجب أن يحصل على مواد ينظر فيها، وهذه المواد بالنسبة للنحو إما أن تتلقى من أفواه العرب أو من استقراء وتحليل كلامهم، فإذا لم يعرف ذلك لا يستلزم ذلك عدم فائدة المنطق مطلقاً. وأما السيرافي، فإنه كنحوي يلزمه أن يكون عارفاً ولو ضمنا بالقواعد الكلية لعلم المنطق، لأن المنطق أعم العلوم وهو آلة لجميعها، وعدم علم السيرافي بها يقدح في علمه كنحوي أيضاً، فالأصل أن يكون عالماً بقواعد المنطق، ولهذا فإنه إدراكاً منه لذلك، ربما ركز على المعنى، فقال في جوابه لمتى: وإنَّ معنى السؤال إن كان مقبولاً أجبتك عليه وإلا رددته، ولكن هذا الجواب يمكن تحصيله من السيرافي بالفعل إن كان قادراً على الاجتهاد المباشر في أي مسألة منطقية تطرح عليه، وهذا أمر أستبعده أنا لدقة بعض المسائل، التي أنفق العلماء بعده زماناً طويلاً ليحققوها. نعم لا يضره إن كان واثقاً بعقله وعلمه، ولكن الثقة شيء والمعرفة بالفعل شيء آخر. والحاصل أن جواب السيرافي يمكن إعادة النظر فيه مرة أخرى، وكان الأصل في متى الإصرار على سؤال السيرافي بالفعل عدة أسئلة في علم المنطق، وأخذ جوابه فإن كان مخالفاً عارضه بالدليل فإما أن يرضخ للدليل أو يسلم به ولا يضر ذلك متى مطلقاً. ولو كانت النتيجة أنه وافق على جميع مسائل المنطق فهذا إقرار منه بصحة المنطق، ولا يمكن أن يثبت السيرافي خطأ المنطق في جميع المسائل التي بحثها. خاتمة لتحليل مناظرة السيرافي وابن يونس المنطق علم نظري وليس ضرورياً كله، والتعبير الأدق إن بعضه نظري وبعضه ضروري، ولا يشترط في علم كهذا أن يكون جميع الناس عالمين به بالفطرة أو بالضرورة، ولا يشترط فيه أن يخلو من الخلاف، لا بل قد يوجد فيه خلاف، ومع ذلك يبقى هو كعلم باحثاً في القواعد الكلية للنظر والتفكير. وأيضاً لا يشترط في كل من برع في علم المنطق أن لا يغلط بالفعل في أنظاره في باقي العلوم، لأن عدم الوقوع في الخطأ ليس ناتجاً من مجرد العلم بالقواعد المنطقية، بل من مراعاتها أثناء النظر كما نص عليه العلماء، وهكذا فلا يجوز أن يوجه إلى المناطقة –إذا غلطوا في تفكيرهم- اعتراض يعود إلى علم المنطق ذاته بالنفي والإبطال. وهذا الأسلوب كثيراً ما يستخدمه بعض الناس أثناء ردهم على المنطق فيقولون إن كثيراً من المناطقة يغلطون في أنظارهم في الإلهيات، ومع أن هذا قد يكون صحيحاً، إلا إنه لا يستلزم الحكم بالنقض على علم المنطق لعدم وجود التلازم بين القضيتين.

الباب الثالث فتاوى وأقوال تتعلق بعلم المنطق لقد اهتممنا في هذا الباب أن نذكر بعض الفتاوى الصادرة في حق علم المنطق من بعض كبار العلماء، وذلك لما للفتوى من أهمية كبيرة في حياة المسلمين، وذلك باعتبار أنها صادرة عن عالمٍ في الدين شَهِدَ له الآخرون باستحقاقية الإفتاء، مع العلم أنه لا يوجد عالم واحد من العلماء وصل إلى درجة العصمة، لأنه لا عصمة إلا للأنبياء، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ونقصد بالعصمة الدرجة التي لا يجوز فيها لواحد أن يعترض أو يعقب على ما يقوله من فتاوى وآراء. ولهذا سوف نتناول بالبحث هنا بعضاً من الفتاوى الصادرة في علم المنطق. أولا: فتوى ابن الصلاح (577 هـ- 643 هـ) لقد كان لهذه الفتوى صدى كبير جداً بين العلماء والعامة، واستمر الجدل حولها منذ زمان صدورها حتى هذا الزمان، وكان الناس حولها ما بين مؤيد ومعارض. سوف نورد الآن صيغة السؤال والجواب كاملة كما وردت في فتاوى ابن الصلاح ثم نشرع بتحليل بعض المواضع فيها. وردت الفتوى مع السؤال في فتاوى ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه( ) "مسألة: فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليماً وتعلماً وهل المنطق جملة وتفصيلاً مما أباح الشارع تعليمه وتعلمه؟ وهل الصحابة والتابعون والأئمة والمجتهدون والسلف الصالحون ذكروا ذلك، أو أباحوا الاشتغال به، أو سوغوا الاشتغال به أم لا ؟ وهل يجوز أن يستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات المنطقية أم لا؟ وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا؟ وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهراً به وما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره؟ وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروفاً بتعليمها وإقرائها والتصنيف فيها وهو مدرس في مدرسة من مدارس العلم. فهل يجب على سلطان تلك البلاد عزله وكفاية الناس شره؟ أجاب – –: الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة، والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليماً وتعلماً قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فنٍّ أخزى من فنٍّ يعمي صاحبه أظلم قلبه عن نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم مع انتشار آياته المستبينة، ومعجزاته المستنيرة، حتى لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها، فجمع منها ألف معجزة وعددناه مقصِّراً، إذ فوق ذلك بأضعاف لا تحصى، فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره صلى الله عليه وسلم، بل لم تزل تتجدد بعده صلى الله عليه وسلم على تعاقب العصور، وذلك أن كرامات الأولياء من أمته وإجابات المتوسلين به في حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم به في شدائدهم براهين له قواطع، ومعجزات له سواطع، ولا يعدها عد، ولا يحصرها حد، أعاذنا الله من الزيغ عن ملته، وجعلنا من المهتدين الهادين بهديه وسنته. وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر من يقتدي به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برَّأ الله الجميع من معرَّة ذلك وأدناسه، وطهرهم من أوضاره. وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية والحمد لله افتقار إلى المنطق أصلاً، وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقاقيع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها، حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان ومكر به، فالواجب على السلطان أعزه الله وأعز به الإسلام وأهله، أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف والإسلام لتخمد نارهم، وتنمحي آثارها وآثارهم يسر الله ذلك وعجله، وقد أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء فإن حاله يكذبه والطريق في قلع الشر قلع أصوله وانتصاب مثله مدرساً من العظائم جملة والله تبارك وتعالى ولي التوفيق، والعصمة وهو أعلم." التعليق على فتوى ابن الصلاح أولاً: لا كلام لنا على الفلسفة هنا، وإن كنا نقول بعدم ذمَّ الفلسفة على سبيل التعميم، فإنَّ الفلسفة في حاصلها فعل نظري يقوم به الفيلسوف، فإمَّا أن يغلطَ فيه أو يصيبَ، نعم كثير من الفلاسفة غلطوا وانحرفوا عن الحق في نفس الأمر، ولكن بعضهم أيضا وافق الحق. فموقفنا من الفلسفة يقوم على التفصيل. ثانياً: لا استلزام بين المنطق وبين الفلسفة، فالمنطق آلة ذهنية مجردَّة يستخدمها الفيلسوف وكل ناظر غيره كالمتكلم والنحوي والفقيه والأصولي وغيرهم من أصحاب العلوم الطبيعية. فإذا كانت الفلسفة باطلاً، كما قال ابن الصلاح فلا يستلزم ذلك بطلان المنطق. ولا يصح ربط المنطق بالفلسفة فقط، بل هو آلة للعلوم جميعها الشرعية والنظرية والطبيعية التجريبية وغيرها. ثالثاً: إن المنطق كغيره من العلوم لم يبرز إلى الوجود دفعة واحدة، فالفقه لم تظهر معالمه دفعة واحدة، ولا الحديث ولا الأصول ولا النحو كعلم موضوع في كتب أو محفوظ في الصدور. والصحابة وجميع البشر لا بد أنهم كانوا يصدرون عن منطق، وإن لم يعدوا قواعده عدَّا، نعم لم يكن علم المنطق في ذلك العهد مدوناً، ولكن هو كغيره من العلوم، ولا يكون ذلك سبباً للحكم على المنطق بالحرمة. وإلا استلزم ذلك تحريم سائر العلوم الأخرى. رابعاً: المنطق آلة ذهنية محضة فهو نحو العقول كما النحو للغة. والعارف بالمنطق قد يستعمله للخير وقد يستعمله للشر فهو كالسكين وكغيره من سائر العلوم. فلا يوجد علم شر بذاته كما هو معلوم، حتى الفلسفة كفعل صادر من الفيلسوف فهو كذلك، وأما نتائج التفلسف وهي حاصل الفلسفات المختلفة كمذاهب فمنها الحسن ومنها القبيح. خامساً: إذا كان استخدام المصطلحات المنطقية معيناً للفقيه، فلا مانع من استخدامها قطعاً، ولكن التكلف بذلك قد يضيع الفائدة لمن لم يضطلع بقواعد المناطقة ولا تملك لوم فقيه اتخذ هذه الطريقة منهجاً، فلكل أسلوب يرتاح إليه ما دام لا يحرفه عن الحق. وتنوع الأساليب مطلوب في النهاية لاختلاف طبائع الناس وأساليبهم. سادساً: أعتقد أنه لا داعي لتدخل السلطان في ما يتعلق بعلم المنطق، وأما الفلسفات الباطلة فتعامل معاملة المذاهب الباطلة، يجب على أهل العلم إقامة البرهان على غلطها ومخالفتها للحق ثم إقامة الحجة على أصحابها، وإلزامهم بالأحكام الشرعية. ولئلا يطول الكلام والمناقشة لهذه الفتوى، فأنا أفضل هنا أن أنقل ما ذكره العلامة الإمام تاج الدين السبكي في شرح ابن الحاجب حول المنطق. ثانياً: تعليق ابن السبكي على فتوى ابن الصلاح ويتضمن فتوى والده الإمام تقي الدين السبكي أيضاً وغيره: قال تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى وأعلى درجاته( ) : "واعلم أن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي سقى الله عهده افتتح كتاب المستصفى بقواعد منطقية، وقال: "هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها، فلا ثقة له بمعلومه أصلاً". واختلف أهل العلم والدين بعهدهم، فذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح أنه سمع الشيخ العماد بن يونس يحكي عن الإمام يوسف الدمشقي، أنه كان ينكر هذا القول ويقول: فأبو بكر وعمر وفلان وفلان، يعني: أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من العلم واليقين، ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأشباهها، ثم أفتى ابن الصلاح بتحريم الاشتغال بالمنطق، وقال: هو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى بهم من أعلام الأمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها قد برّأ الله الجميع من معرفة ذلك وأدناسه، وطهرهم من أوضاره. وأما استعمالات الاصطلاحات المشنعة المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات، وليس بالأحكام الشرعية والحمد لله افتقار إلى المنطق أصلاً، وما يزعمه المنطقي للمنطق في أمر الحد والبرهان، فقاقيع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها، حيث لا منطق. انتهى وتابعه غير واحد ممن بعده. ورأيت في المسائل التي سألها يوسف بن محمد بن مقلد الدمشقي، الشيخ الإمام أبا منصور العطاردي المعروف بـ "حضرة": هل يجوز الاشتغال بالمنطق، أم هو دهليز الكفر؟ أجاب: المنطق لا يتعلق به كفر ولا إيمان، ثم قال: إن الأولى ألا يشتغل به، لأنه لا يأمن الخائض فيه، أن يجرَّه إلى ما لا ينبغي. انتهى. ونحن نقول: قول يوسف الدمشقي: ":أبو بكر وعمر وفلان وفلان"، المتقدم كلام لا حاصل له، فإن أبا بكر وعمر أحاطا بهذه المقدمة إحاطة لم يصل الغزالي وأمثاله إلى عشر معشارها، ومن زعم أنهما لم يحيطا بها، فهو المسيء عليهما، والذي نقطع به أنها كانت ساكنة في طباع أولئك السادات، وسجيَّة لهم، كما كان النحو الذي ندْأَبُ نحن اليوم في تحصيله. وما ذكره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ليس بالخالي عن الإفراط والمبالغة، فإن أحداً لم يدع افتقار الشريعة إلى المنطق، بل قصارى المنطق عصمة الأذهان التي لا يوثق بها عند الغلط، وهو حاصل عند كل ذي ذهن لمقدار ما أوتي من الفهم، وأما ترتيبه على الوجه الذي يذكره المنطقي، فهو أمرٌ استحدث، ليرجع إليه ذو الذهن إذا اشتبهت الأمور، وهل المنطق للأذهان إلا كالنحو للسان، وإنما احتيج للنحو وصار عِلْماً برأسه عند اختلاط الألسنة، وكذلك المنطق، يدعي الغزالي أن الحاجة اشتدت إليه عند كلال الأذهان واعتوار الشبهات. وقوله: "لقد تمت الشريعة حيث لا منطق"، إن أراد حيث لا منطق مودعٌ في الكتب على هذه الأساليب فصحيح، ولا يوجب تحريم هذا، ولا الغض منه، وإن أراد حيث لا منطق حاصلٌ لهم، وإن لم يعبَّر عنه بهذا الوجه فممنوعٌ كما ذكرناه. فإن قيل: ماذا تفتون به في المنطق؟ قلت: نحن نذهب إلى ما أفتى به شيخ المسلمين وإمام الأئمة( )، الذي خضعت له الرِّقاب، وهو أبي – تغمده الله برحمته – حيث قال، وقد سئل عن ذلك: ينبغي أن يقدم على الاشتغال به الاشتغال بالقرآن والسنة والفقه حتى يرسخ في الذهن تعظيم الشريعة وعلمائها، فإذا تمَّ ذلك، وعلم المرء من نفسه صحة الذهن، حتى لا تروج عليها الشبهة، ولقي شيخاً ناصحاً حسن العقيدة جاز له والحالة هذه الاشتغال بالمنطق، وانتفع به وأعانه على العلوم الإسلامية. قال: وهو من أحسن العلوم وأنفعها في كل بحث، قال: وفصل القول فيه إنه كالسيف يجاهد به شخص في سبيل الله، ويقطع به آخر الطريق" اهـ. وكلام الإمام تاج الدين السبكي هنا ليس بحاجة إلى تعليق بل هو يحتوي خلاصة المعاني. ثالثاً: فتوى الإمام تقي الدين السبكي: وردت هذه الفتوى في فتاوى السبكي( ) ، ونحن وإن كنا أوردنا خلاصة ما في هذه الفتوى سابقا، إلا إننا أحببنا ذكرها هنا كاملة لزيادة البيان، ونصها كما يلي: "مسألة في رجل أراد الاشتغال بالعلوم الإسلامية فهل يكون اشتغاله بالمنطق نافعاً له ويثاب على تعلمه وهل يكون المنكر عليه جاهلاً. (أجاب) الشيخ الإمام رحمه الله: الحمد لله. ينبغي أن يُقدِّم على ذلك الاشتغال بالقرآن والسنة والفقه حتى يتروى منها ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة وتعظيم الشريعة وعلمائها وتنقيص الفلسفة وعلمائها بالنسبة إلى الاعتقادات الإسلامية. فإذا رسخ قدمه في ذلك وعلم من نفسه صحة الذهن بحيث لا تتروّج عليه الشبهة على الدليل، ووجد شيخاً ديناً ناصحاً حسن العقيدة، أو من ليس كذلك لكنه لا يَرْكَنُ إلى قوله في العقائد، فحينئذٍ يجوز له الاشتغال بالمنطق، وينتفع به ويعينه على العلوم الإسلامية وغيرها، وهو من أحسن العلوم وأنفعها في كل بحث، وليس في المنطق بمجرده أصلاً. ومن قال إنه كفرٌ أو حرام فهو حاله لا يعرف الكفر ولا التحريم ولا التحليل فإنه علمٌ عقليٌ محض كالحساب غير أن الحساب لا يجر إلى فساد لأنه إنما يستعمل في فريضة شرعية أو مساحة أو مالٍ لا يزدري صاحبه غيره وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة والمنطق وإن كان سالماً في نفسه يتعاظم صاحبه ويزدري غيره في عينه، ويبقى يعتقد في نفسه سقاطة نظر مَنْ لا يحسنه، وينفتح له به النظر في بقية علوم الحكمة من الطبيعي الذي ليس فيه (….)( ) الخطأ، والإلهي الذي أكثر كلام الفلاسفة فيه خطأ منابذٌ للإسلام والشريعة. فمن اقتصر عليه ولم تَصُنْهُ سابقة صحيحةٌ خشيَ عليه التزندق أو التغلغل باعتقادٍ فلسفي من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. هذا فصل القول فيه، وهو كالسيف يأخذه شخص يجاهد به في سبيل الله وآخر يقطع به الطريق انتهى". هذا هو نص فتوى شيخ المسلمين على الحقيقة الإمام الكبير تقي الدين السبكي، ولو اقتصر الواحد عليها لكانت كافية في هذا الباب، وتحتوي من النفائس على اختصار لفظها ما يقل في مقابلة كل هذا الكتاب. رابعاً: فتوى الإمام ابن حجر الهيتمي هذه الفتوى للإمام العلامة الكبير ابن حجر الهيتمي لا تختص بعلم المنطق فقط، ولكن فيها قسم جيد يدور حول عين موضوعنا ولذلك فسوف نوردها هنا كلها، لأن هذا أتم للمعنى وأكثر فائدة( ) "وسئل : هل يجوز الاستنجاء بكتب المنطق والفلسفة والتوراة والإنجيل، وهل يحرم مطالعة هذين والاشتغال بالأوَّلين، أو لا، القصد بسط ذلك وتحريره فأجاب بقوله: مِمَّنْ صَرَّح بجواز الاستنجاء بالأوَّلَيْن الإسنوي وغيره، وهو في كتب الفلسفة واضح، وأما في كتب المنطق مبنيٌّ على ما يأتي عن ابن الصلاح وعلى القول به فشرطه كالأول أن يخلو ذلك الطِّرْسُ( ) المستنجي به عَنْ أن يكون فيه اسم معَظَّمٌ كما شمله قول الكفاية وغيرها: يَحْرُمُ الاستنجاء بما عليه اسم معظَّمٌ كاسم الله أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء أو الملائكة. وقول بعض المتأخرين: التقييد بذلك بعيد لأنه لم يقع في كلام متقدم ولا متأخر بل كلهم أطلقوا القول بجواز الاستنجاء بذلك"، وَهْمٌ، فإنهم ذكروا ما قيدنا به قبل ذلك بسطرٍ ونحوه، فأيُّ حاجة إلى التقييد حينئذ. وممن صرح بجواز الاستنجاء بالتوراة القاضي حسين، وقيده مَنْ بَعْدَه بما عُلِمَ تبديله منها، وإلا فهو كلام الله يجب تعظيمه. وواضحٌ مما مرَّ أنّه مقيَّدٌ أيضاً بما إذا خلا عن اسم معظَّم، وأدلته كثيرة، والأول قيل: مكابرةٌ، إذ الأخبار والآيات كثيرة في أنه بقي شيء منها لم يُبَدَّل، ثالثها: بُدِّل أقلُّها، وقصرَه ابن تيمية .. رابعها: بُدِّل معناها فقط دون لفظها واختاره البخاري في آخر صحيحه. قال الزركشي: واغتر بهذا بعض المتأخرين (في حجة)( ) وجَوَّز مطالعتها، وهو قولٌ باطلٌ. ولا خلاف أنهم حرَّفوا وبدَّلوا. والاشتغال بالنظر فيها وبكتابتها لا يجوز بالإجماع، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء منها، وقال: "لو كان موسى حيّاً ما وسعهُ إلا اتباعي". ولولا أنه معصية ما غضب منه. اهـ. لكن تعقبه شيخ الإسلام ابن حجر فقال: إن ثبت الإجماع فلا كلام، وقد قيّده بالاشتغال بكتابتها ونظرها، فإن أراد من يتشاغل بذلك فقط فلا يحصل المطلوب لأنه يفهم الجواز إذا تشاغل بغيره معه، وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر، وفي وصفه القول المذكور بالبطلان نظرة أيضاً، فإنه نسب لوهب بن منبه وهو أعلم الناس بالتوراة، ولابن عباس ، وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر. ولا دلالة في قضية عمر إذ قد يغضب من فعل المكروه وخلاف الأولى ممن لا يليق كتطويل معاذ الصبح بالقراءة. والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنـزيه والأولى التفرقة بين الراسخ في الإيمان فله النظر بخلاف غيره، لا سيما عند الردِّ على المخالفين، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه اهـ. وما ذكره واضح، فلا محيد عنه، وإن اعتمد السبكي ما ذكره الزركشي وأطال في الانتصار له، ونقله عن الأستاذ أبي اسحق الاسفراييني، ثم قال: وهذا هو الذي اتفق عليه من يُعتمد عليه من أئمة الإسلام، والشافعي وأصحابه كلهم متفقون على ذلك. ثم قال بعد كلام طويل: وبعض الناس يعتقد أن نظره في ذلك فضيلة وهو عين النقصان، وقال قبل ذلك احتجاجاً على وجوب إعدامها إذا دخلت تحت أيدينا: إنها جمعت شيئين، كلام باطل قطعاً وقد اختلط بما لم يبدل من غير تمييز، فوجب إعدام الجميع، ولا يتوقف في هذا إلا جاهلٌ. اهـ. فليحمل ما ذكره هو والزركشي وغيرهما على غير مُتَمَكِّنٍ أو مُتَمَكِّنٍ لم يقصد بالنظر فيها مصلحة دينية، أمَّا مُتمكِّن قصد ذلك فلا وجه لمنعه، ويأتي ما ذكر فيها في الإنجيل. وأما الاشتغال بالفلسفة والمنطق: فقد أفتى بتحريمه ابن الصلاح وشنع على المشتغل بهما وأطال في ذلك وفي أنه يجب على الإمام إخراج أهلهما من مدارس الإسلام وسجنهم وكفاية شرهم. قال: وإن زعم أحدهم أنه غير معتقد لعقائدهم فإن حاله يكذبه. وأما استعمالات الاصطلاحات المنطقية في الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستشنعة وليس بها افتقار إلى المنطق أصلاً. وما يزعمه المنطقي للمنطق من الحد والبرهان فقاقيع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية. هذا حاصل شيء من كلامه،

وما ذكره في الفلسفة صحيح( )

ومِنْ ثم قال الأذرعي: وما ذكرته من تحريمها هو الصحيح أو الصواب، وقد بين ذلك الشيخ ابن الصلاح في فتاويه ونصوص الشافعي ناصَّةٌ على تقبيح تعاطيه، ونقل عنه التعزيز على ذلك. اهـ. وأما ما ذكره في المنطق فمعارض بقول الغزالي في مقدمة المنطق في أول المستصفى: هذه مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بمعلومة أصلاً. وقوله في المنفذ من الضلال: وأما المنطقيات فلا يتعلق شيء منها في الدين نفياً ولا إثباتاً بل هو نظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمة البرهان وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبها، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإمَّا تصديق وسبيل معرفته البرهان، وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر، فإنه من قبيل ما يتمسك به المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم في العبارات والاصطلاحات، وبزيادة الاستقصاء في التفريعات والتشعيبات، ومثال كلامهم فيه: إذا ثبت أن كل إنسان حيوان، لزم منه أن بعض الحيوان إنسان، وأن كل من ثبت له أنه إنسان ثبت أنه حيوان. ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تستلزم موجبة جزئية، وهذا حق لا شك فيه، فكيف ينبغي أن يجحد وينكر، على أنه لا تعلق له بمهمات الدين ثم متى أنكر مثل هذا، لزم منه عند أهل المنطق سوء الاعتقاد في عقل المنكر، بل في دينه الذي يزعم أن فيه إبطال مثل هذا. اهـ. فتأمله تأملاً خالياً عن التعصب تجده رحمه الله قد أوضح المحجة، وأقام الحجة على أنه ليس فيه شيء مما ينكر، ولا مما يجر إلى ما ينكر، وعلى أنه ينفع في العلوم الشرعية كأصول الدين والفقه، وقد أطلق الفقهاء أن ما ينفع في العلوم الشرعية محترمٌ، يحرم الاستنجاء به، ويجب تعلمه وتعليمه على الكفاية، كالطب والنحو والحساب والعروض. ثم قال بعضهم كالإسنوي بعد ذلك بسطرين: إن المنطق غير محترم، فعلمنا أن مراده المنطق الذي لا ينفع في العلوم الشرعية أو الذي يعود منه ضرر على الدين، وهذا نوع من منطق الفلاسفة الأول، يبحثون فيه عن نحو ما ذكره الغزالي ثم يدرجون فيه البحث عن حال الموجودات وكيفية تراكيبها ومفاهيمها وأعراضها وغير ذلك مما يخالفون فيه علماء الإسلام، حتى انتصبوا لهم وردوا جميع مقالاتهم الفظيعة الشنيعة. فمثل هذا الفن من المنطق هو الذي يحرم الاشتغال به، وعليه يحمل كلام ابن الصلاح، ويدل لذلك قوله فيما مر عنه "كفاية شرهم"، وقوله "وإن زعم أحدهم أنه غير معتقد لعقائدهم فإن حاله يكذبه"، فعلمنا أن كلامه في منطق له شرٌّ وله أهل يعتقدون خلاف عقائد المسلمين، وهو النوع الذي ذكرته لا غير. وأما المنطق المتعارف الآن بين أيدي أكابر علماء أهل السنة، فليس فيه شيء مما ينكر ولا شيء من عقائد المتفلسفين، بل هو علمٌ نظري يحتاج لمزيد رياضة وتأمل، يستعان به على التحرر عن الخطأ في الفكر ما أمكن. فمعاذ الله أن ينكر ذلك ابن الصلاح ولا أدون منه. وإنما وقع التشنيع عليه من جماعة من المتأخرين لأنهم جهلوه فعادوه، كما قيل: "من جهل شيئاً عاداه"، وكفى به نافعاً في الدين أنه لا يمكن أن ترد شبهة من شبه الفلاسفة وغيرهم من الفرق إلا بمراعاته ومراعاة قواعده. وكفى الجاهل به أنه لا يقدر على التفوّه مع الفلسفي وغيره العارف ببنت شفة، بل يصير نحو الفلسفي يلحن بحجته، وذلك الجاهل به وإن كان من العلماء الأكابر ساكناً لا يحير جواباً. ولقد أحسن القرافي من أئمة المالكية وأجاد حيث جعله شرطاً من شرائط الاجتهاد، وأن المجتهد متى جهله سلب عنه اسم الاجتهاد، فقال في بحث شروط الاجتهاد: يشترط معرفة شرائط الحد والبرهان على الإطلاق، فمن عرفهما استضاء بهما لأن الحدود هي التي تضبط الحقائق التصورية، فمن علم ضابط شيء استضاء به، فأي محلٍّ وجده ينطبق عليه علم أنه تلك الحقيقة، ومالا فلا، وهو معنى قول بعض الفضلاء "إذا اختلفتم في الحقائق، فحكّموا الحدود"، والمجتهد يحتاج في كل حكم لذلك، لأن الذي يجتهد فيه إن كان حقيقة بسيطة، فلا يضبطها إلا الحد، وإن كان تصديقاً ببعض الأمور الشرعية فكل تصديق مفتقر لتصورين، فيحتاج في معرفتهما لضابطهما، فهو محتاج للحد كيف اتجه في اجتهاده. وشرائطه معلومة في علم المنطق، وهو وجوب الاطراد والانعكاس، وأن لا يحد بالأخفى ولا بالمساوي في الخفاء، ولا بما لا يعرف المحدود إلا بعد معرفته، وأن لا يأتي باللفظ المجمل، ولا بالمجاز البعيد، وأن يقدم الأعمَّ على الأخص. وأما شرائط البرهان فيحتاج إليها لأن المجتهد لا بُدَّ له من دليل يدله على الحكم قطعي أو ظني، وكل دليل فله شروط محررة في علم المنطق، من أخطأ شرطاً منها فسد عليه الدليل، وهو يعتقده صحيحاً، وتلك الشروط تختلف بحسب موارد الأدلة وضروب الأشكال القياسية، وبسط ذلك علم المنطق. فيكون المنطق شرطاً في منصب الاجتهاد، فلا يمكن حينئذ أن يقال الاشتغال به منهي عنه، أو أن العلماء المتقدمين كالشافعي ومالك لم يكونوا عالمين به، فإن ذلك يقدح في حصول منصب الاجتهاد لهم، نعم هذه العبارات الخاصة والاصطلاحات المعينة في زماننا لا يشترط معرفتها بل معرفة معانيها. اهـ. فتأمل هذا الكلام الجليل من هذا الإمام الجليل، تجده قد أشفى العيَّ وأزال الغيَّ. وناهيك بالسبكي جلالة حيث قال: ينبغي أن يقدم على الاشتغال به الاشتغال بالكتاب والسنة والفقه حتى يتروى منهما ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة ويعلم من نفسه صحة الذهن بحيث لا تروج عنده الشبهة على الدليل، فإذا وجد شيخاً ناصحاً ديناً حسن العقيدة جاز له الاشتغال بالمنطق، وينتفع به ويعينه على العلوم الإسلامية، وهو من أحسن العلوم، وأنفعها في كل بحث، ومن قال إنه كفر أو حرام فهو جاهل، فإنه علم عقلي محض كالحساب، غير أن الحساب لا يجر إلى فساد وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة. والمنطق من اقتصر عليه ولم تصبه سابقة صحيحة خشي عليه التزندق أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث يشعر أو لا يشعر. قال: وفصل القول فيه أنه كالسيف يجاهد به شخص في سبيل الله، ويقطع به آخر الطريق اهـ. بتأمله تجده نصّاً فيما قدمته من أن المنطق قسمان: قسم منه لا يُخشى على المشتغل به شيء مما ذكره، والقسم الآخر وهو المدرج به فيه كثير من العقائد الفلسفية لا يجوز الخوض فيها إلا لمن أتقن ما ذكره، ووجد شيخاً بالصفة التي ذكرها فهذا يجوز له الاشتغال حتى بهذا القسم لأنه يؤمن عليه إذا وجدت فيه هذه الشروط الميل إلى ما فيه من الشبه الفاسدة. ولقد اشتغل بهذا القسم كثير من فحول الإسلام، حتى أحكموه وتمكنوا به من تمام الرد على الفلاسفة وتزييف مقالاتهم الباطلة. وتأمَّل تجهيله لمن قال: "إنه حرام"، يُعرِّضُ بذلك لابن الصلاح. لكن إذا حُمل كلام ابن الصلاح على ما قدمته، اتجه، على أنه بان لك من كلام السبكي أنه يجوز الاشتغال بهذا النوع أيضاً بشرطه السابق. اهـ. انتهت فتوى الهيتمي. وهذه الفتوى على طولها إلا إنها احتوت على خلاصة الكلام مع شيء من التفصيل في هذه القضية. والملاحظ أن غالب المتأخرين مشوا على التفصيل الذي ذكره العلامة ابن حجر الهيتمي من التفريق بين كتب المنطق الخالية من الأمثلة الفلسفية والمواد الفاسدة، وكتب المنطق المملوءة بها، إلا أن ما ذكره آخر كلامه أيضاً صحيح، في جواز الاشتغال بالقسمين لمن تأهل. خامساً: ابن خلدون سنختم هذا الباب بكلام للعلامة ابن خلدون، وإن لم يكتبه في صورة فتوى، ولكن لما كان اسم ابن خلدون له موقع عظيم في هذا الزمان، أحببنا أن نورد رأيه، ليكون تأثيره على النفوس كتأثير الفتوى في القوة. قال العلامة ابن خلدون( ) : "وأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان، من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها، وهي موجودة في النوع الإنساني، منذ كان عُمران الخليقة، وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم الأول: علم المنطق، وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة، وفائدته تمييز الخطأ من الصواب، فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها، ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفياً وثبوتاً بمنتهى فكره. " اهـ. ثم أكمل الكلام على بقية العلوم الفلسفية، وما يهمنا هنا هو فائدة علم المنطق كما ذكرها ابن خلدون، وأيضاً أن المنطق من العلوم العقلية وفسَّر ذلك بقوله: "التي هي طبيعية للإنسان"، وأن المنطق مشترك فيه بين أفراد النوع الإنساني غير مختص بملة ولا أمة. وتكلم ابن خلدون أيضاً على علم المنطق في الفصل الثالث والعشرون فقال( ): "وهو قوانين يُعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعروفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات". ووضح العلامة ابن خلدون في أتم كلام فائدة المنطق ووجه الحاجة إليه ثم قال( ) : "اعلم أن هذا قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف والمتكلمين وبالغوا في الطعن عليه والتحذير منه وحظروا تعلمه وتعليمه. وجاء المتأخرون من بعدهم من لَدُنْ الغزالي والإمام ابن الخطيب، فسامحوا في ذلك بعض الشيء، وأكبَّ الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلاً يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين، فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره". ونختم بهذا الكلام هذا الفصل عن إجمال موقف بعض العلماء من علم المنطق.

خاتمة من جولتنا في المواضيع السابقة، ومن خلال معالجتنا لأطرافها على النحو السابق نصل إلى ما يلي: أولاً: علم المنطق علم آلي لا علاقة له بكفر أو إيمان. ولو أدخل البعض فيه بعض المباحث الباطلة إما عقيدة أو نظراً، فلا يستلزم ذلك الحكم عليه بالتحريم، بل اللازم على أهل الشريعة إخراج هذه المباحث منه وتمييزه عنها. ثانياً: علم المنطق علم لا ندَّعي أنه وصل إلى نهايته وأنه لا يحتوي على أي شيء يمكن انتقاده، بل ما هو موجود في كتب المنطق التي ألفها علماؤنا المسلمون الأكابر تحتوي على المباحث التي غلب على رأيهم صوابها. وبالتالي فلا إشكال إذا قيل باحتياج تلك المباحث إلى ضم مباحث أخرى، ولا إشكال إذا تم نقدها على أسس سليمة، شريطة أن لا يكون هذا النقد مبنياً على غايات باطلة وتلبيسات وتهويلات كثيراً ما نجدها في كلام الكتاَّب. ثالثاً: كتب المنطق جهد بشري موجَّه لمحاولة ضبط الصور والطرق التي يتبعها العقل البشري أثناء فكره ونظره. ويهتم المنطق بعد ذلك ببيان ما كان من هذه الطرق صحيحاً وما كان منها باطلاً. وبالنظر إليه كذلك، فهو قابل لإعادة النظر على أسس قوية لا مجرد نظرات مقتطعة من هنا وهناك. رابعاً: علم المنطق علم مهم جداً كما قرر ذلك كبار العلماء، واحتياجنا إليه لن يتوقف كسائر العلوم الآلية نحو أصول الفقه والنحو والبيان وغيرها وكلما تعمق فهم المفكرين للمنطق ولسائر العلوم الآلية تزداد إمكاناتهم لإنتاج نظرات جدِّية ونافعة. ونحن نرى الآن خلو الساحة الفكرية من الاهتمام بهذا العلم إلا من مجرد رسوم وإشارات، كما انتفى الاهتمام بعلم الأصول وهذا سبب أكيد لخلو كتابات كثير من كتابنا من الاتساق والنظر الجاد، والقيمة العلمية الجادة. خامساً: أعتقد أن ضعف المعرفة المنطقية لدى كتابنا في هذا الزمان هو سبب مباشر لانحرافهم عن طريق البراهين والترتيب العقلي الملتزم وميلهم إلى مجرد التهويلات العاطفية المبنية على مجرد وصف لما يشعرون به في مخيلاتهم، فيشرعون في إفراغ ما في خيالهم على صفحات الكتب ويزداد الغلو عند أكثرهم في جانب الإثبات والنفي، ولذلك تقل الفائدة الإيجابية بما يكتبون، ويبقى مستوى الانتفاع محصوراً غالباً في درجات التهيج النفسي الحاصل عند القارئ والمستمع وهو ما يستلزم التشنج الفكري، وميل النظرات المطروحة إلى مجرد مواقف وجدانية خيالية، لا أفكار عقلية موضوعية ولهذا فإن من يتأثر بالكاتب هو من يشاركه في العواطف الوجدانية مسبقاً، ويندر أن يجتذب كاتب غيره كان يخالفه في أصل الأفكار لخلو كتاباتهم من العلل الكافية لمثل هذا الأثر، أقصد البناء المنطقي المعتمد على مقدمات مقبولة أو مسلمة عند من يخاطبونهم. سادساً: من يمتلك الثقافة المنطقية، لا شك أنه يصبح أقوى لأننا لا نشك لحظة أن القواعد المنطقية تمد صاحبها بذخيرة علمية آلية تمكنه من نقد الأفكار واقتناص الصحيح منها على حسب وسعه. ولذلك فإننا نرى ضرورة أخذ المتدين وطالب العلم الشرعي بعلم المنطق، واعتباره كأساس إلى جانب غيره من العلوم الآلية كأصول الفقه والنحو، لإقامة الفكر الديني في صدور الناس على قواعد حقيقية وقوية. انتهى في يوم الاثنين 12/3/2000