راجع المقال الرئيسي قبة الصخرة
فهرس |
وقد اهتم المسلمون برعاية وعناية قبة الصخرة المشرفة، على مر الفترات الإسلامية المتعاقبة، وبخاصة بعد ما كان يحدث بها من خراب جراء التأثيرات الطبيعية مثل الهزات الأرضية، والعواصف والأمطار والحرائق. فلم يتأخر أي خليفة أو سلطان في ترميمها والحفاظ عليها .
إن ما شاع عن العباسيين أنهم لم يهتموا بالحرم الشريف وعمارته ليس صحيحاً، فقد أشرنا سابقاً إلى أنهم حافظوا قدر استطاعتهم على عمارته، ولكن على ما يبدو دون تغيير ملموس في ذلك الطابع المعماري الذي نفذه الأمويون، فقد قام الخليفتان المنصور والمهدي بترميم المسجد الأقصى المبارك بعد الخراب الذي أصابه جراء الهزات الأرضية التي حدثت في تلك الفترات والذي سنأتي على شرحه لاحقاً .
ففي سنة 216هـ/ 831م، زار الخليفة العباسي المأمون (198-218 هـ/ 813 – 833م) بيت المقدس وكان قد أصاب قبة الصخرة شيء من الخراب فأمر بترميمه وإصلاحه، والأمر تطور على ما يبدو ليصبح مشروع ترميم ضخم اشتمل على قبة الصخرة المشرفة، مما حدا بالمأمون أن يضرب فلساً يحمل اسم القدس لأول مرة في تاريخ مدينة القدس وذلك في سنة 217 هـ كذكرى لإنجاز ترميماته تلك .
وفي عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله (295 –320/ 908 – 932م)، في سنة 301 هجرية/ 913 ميلادية، تمت أعمال ترميمات خشبية في قبة الصخرة اشتملت على إصلاح قسم من السقف وكذلك عمل أربعة أبواب خشبية مذهبة بأمر من أم الخليفة المقتدر، حيث تم الكشف عن ذلك من خلال شريط كتابي مكتوب بالدهان الأسود وجد على بعض الأعمال الخشبية في القبة، حيث كتب عليها ما نصه (11) :
بسم الله الرحمن الرحيم، بركة من الله لعبد الله جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين حفظه الله لنا، مما أمرت به السيدة أم المقتدر بالله نصرها الله، وجرى ذلك على يد لبيد مولى السيدة، وذلك في سنة إحدى وثلثماية)) .
وفي الفترة الفاطمية تعرضت فلسطين لهزات أرضية عنيفة: منها التي حدثت سنة 407 هـ/ 1016 م، والتي أدت إلى إصابة قبة الصخرة وإتلاف بعض أجزاء القبة الكبيرة (12)، حيث بدئ بترميمها في عهد الخليفة الفاطمي [[الحاكم بأمر الله[[ (386 – 411هـ/ 996-1021) واستكمل في عهد ولده الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله (411-427هـ/1021-1036م). وقد اشتملت الترميمات على القبة وزخارفها وتمت على يدي علي بن أحمد في سنة 413هـ/1022 م، وذلك حسب ما ورد في الشريط الكتابي الواقع في الدهليز الموجود في رقبة القبة (13) .
لقد عانت قبة الصخرة كثيراً مثلما عانت معظم المساجد الإسلامية في فلسطين من الاحتلال الصليبي .
فعندما احتل الصليبيون بيت المقدس سنة 493هـ/ 1099م، قاموا بتحويل مسجد قبة الصخرة إلى كنيسة عرفت بذلك الوقت باسم "هيكل السيد العظيم/ Temple Domini (14)، فانتهكوا قدسيتها وبنوا فوق الصخرة مذبحاً ووضعوا فيها الصور والتماثيل. مبيحين في ذلك ما حرمه الإسلام في أماكنه المقدسة .
ومن الطريف بالأمر أن قساوسة ذلك الوقت اعتادوا على المتاجرة بأجزاء من الصخرة، كانوا يقتطعوها من الصخرة ليبيعوها للحجاج والزوار ليعودوا بهذه القطع إلى بلادهم بحجة التبرك والتيمن بها. وعلى ما يبدو أنها كانت تجارة رابحة جداً للقساوسة، حيث كانون يبيعون تلك القطع بوزنها ذهباً، الأمر الذي حدا بملوك الفرنج إلى كسوة الصخرة بالرخام وإحاطتها بحاجز حديدي مشبك لحمايتها والإبقاء عليها خوفاً من زوالها إذا استمر القساوسة بهذه التجارة (15) .
ولم يشأ الله عز وجل أن يطيل معاناة قبة الصخرة المشرفة من ذلك الاحتلال الغاشم، حتى هيأ الله القائد الجليل صلاح الدين الأيوبي (564 – 589 هجرية/ 1169-1193 ميلادية) لتحرير فلسطين واستردادها من الصليبيين سنة 583هجرية/ 1187 ميلادية (16) .
وبذلك تطهرت قبة الصخرة المشرفة من النجس الذي كان عالقاً بها، حيث قام صلاح الدين بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الصليبيين وإزالة جميع بصماتهم التي وضعوها عليها، فقد قام بإزالة المذبح الذي أضافوه فوق الصخرة والبلاط الرخامي الذي كسوا به الصخرة والصور والتماثيل، وكذلك أمر بعمل صيانة وترميم لما يحتاجه المبنى، حيث تم تجديد تذهيب القبة من الداخل وذلك حسب ما نجده اليوم مكتوباً من خلال الشريط الكتابي الواقع بداخل القبة والذي جاء فيه ما نصه (17) : ((بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد تذهيب هذه القبة الشريفة مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل العامل صلاح الدين يوسف بن أيوب تغمده الله برحمته. وذلك في شهور سنة ست وثمانين وخمسمائة)) .
هذا ولم يغفل المجاهد صلاح الدين عن متابعة مبنى قبة الصخرة والحفاظ عليها، فنراه قد رتب للمسجد إماماً وعين لخدمته سدنة ووقف عليه الوقوفات لكي ينفق ريعها لصالح قبة الصخرة المشرفة (18) .
وقد استمر الأيوبيون بعد صلاح الدين بالاهتمام بقبة الصخرة والحفاظ عليها، حيث تشير المصادر التاريخية (19) إلى أن معظمهم كانوا يكنسون الصخرة بأيديهم ثم يغسلونها بماء الورد باستمرار لتظل نظيفة معطرة، كما أن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين (589-595 هجرية/ 1193-1198ميلادية)، قام بوضع الحاجز الخشبي الذي يحيط الصخرة (20) لحمايتها بدلاً من الحاجز الحديدي الذي وضعه الصليبيون .
وفي الفترة المملوكية لم ينس سلاطين المماليك متابعة الاهتمام بقبة الصخرة والحفاظ عليها. فقد قام السلطان الملك الظاهر بيبرس (658 – 676هجرية/ 1260 – 1277ميلادية) بتجديد الزخارف الفسيفسائية التي تكسو الأقسام العلوية الواقعة في واجهات التثمينة الخارجية وذلك سنة 699 هجرية/ 1270 ميلادية (21) .
أما السلطان الناصر محمد بن قلاوون وفي فترة سلطنته الثالثة (709 –741هجرية/ 1309-1340 ميلادية) والذي اعتبر من مشاهير سلاطين المماليك الذين اهتموا بالإنجازات المعمارية بصورة عامة، مثله مثل الوليد بن عبد الملك في الفترة الأموية، فقد قام السلطان ابن قلاوون بأعمال صيانة وترميم عديدة في قبة الصخرة نذكر منها: تجديد وتذهيب القبة من الداخل والخارج في سنة 718 هجرية/ 1318 ميلادية) وذلك حسب ما ورد بالشريط الكتابي الموجود في أعلى رقبة الداخلية حيث جاء ما نصه (22) ((بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد وتذهيب هذه القبة مع القبة الفوقانية برصاصها مولانا ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه السلطان محمد بن الملك المنصور الشهيد قلاوون تغمده الله برحمته. وذلك في سنة ثمان عشرة وسبع مائة)). وكما أنه قام بتبليط فناء (صحن) قبة الصخرة المشرفة الذي يحيط بها .
وفي عهد السلطان الملك الظاهر برقوق وفي فترة سلطنته الأولى (784-791هجرية/ 1382 –1389ميلادية)، تم تجديد دكة المؤذنين الواقعة إلى الغرب من باب المغارة مقابل الباب الجنوبي (القبلي) لقبة الصخرة، وذلك في سنة 789هجرية/ 1387ميلادية) على يدي نائبه بالقدس محمد بن السيفي بهادر الظاهري نائب السلطنة الشريفة بالقدس وناظر الحرمين الشريفين، حسب ما ورد في النص التذكاري الموجود عليها (23) .
وفي عهد السلطان الملك الظاهر جقمق (842 – 857هجرية/ 1438 – 1453ميلادية)، تم ترميم قسم من سقف قبة الصخرة الذي تعرض للحريق إثر صاعقة عنيفة (24) .
وقد حافظ سلاطين المماليك على استمرارية صيانة وترميم قبة الصخرة والحفاظ عليها إما عن طريق الترميمات الفعلية أو عن طريق الوقوفات التي كانت بمثابة الرصيد المالي الدائم لكي يضمن النفقات والمصاريف على مصلحة مسجد قبة الصخرة المشرفة. فعلى ما يبدو أنه في حال لم يكن هناك ترميمات، اهتم السلاطين برصد الأموال اللازمة لها في حين الحاجة، فنجد السلطان الملك الأشرف برسباي (825-841هجرية/ 1422-1437ميلادية)، قد أمر بشراء الضياع والقرى ووقفها لرصد ريعها للنفقة على قبة الصخرة المشرفة، حيث جاء في النص الوقفي ما نصه (25) : ((جدده وأنشأه ناظر الحرمين الشريفين أثابه الله الجنة وهو مشتراه مما ثمره من مال الوقف من أجور المسقفات في كل شهر ألفا درهم خارجاً عن تكملة جوامك المستحقين وما جدده وأنشأه من الحمام الخراب بحارة حواصل قرية العوجاء والنويعمة بالغور ومرتب الجرجان الواردين تمامه وأن يصرف جميع متحصل ذلك برسم عمارة المسجد الأقصى الشريف والصخرة الشريفة مهما حصل من ذلك يرصد حاصلاً لصندوق الصخرة المشرفة أرصد ذلك جميعه برسم العمارة خاصة إرصاداً صحيحاً شرعياً بمقتضى المرسوم الشريف المعين تاريخه أعلاه ورسم أن ينقش ذلك في هذه الرخامة حسنة جارية في صحائف مولانا السلطان الملك الأشرف برسباي خلد الله ملكه على مستمرة الدوام الشهور والأعوام فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ومضاف إلى ذلك فائض الزيت والجوالي اللهم من فضل هذا الخير وكان سبب فيه جازه الجنة والنعيم ومن غيره أو نقصه جازه العذاب الأليم في الدنيا والآخرة)) .
نستطيع القول أن تاريخ بناء قبة الصخرة المشرفة قد دخل مرحلة جديدة وطويلة في الفترة العثمانية التي استمرت أربعة قرون، حيث لم تنقص أهمية المحافظة والصيانة لقبة الصخرة، بل قل إنها زادت وتضاعفت (26) .
فكان أول سلاطين العثمانيين الذين اهتموا بقبة الصخرة ورعايتها، هو السلطان سليمان القانوني (926-974هجرية/ 1520-1566ميلادية)، الذي استطاع أن يصبغ قبة الصخرة بالفن العثماني من خلال مشروعه الكبير المشار إليه في نقشه التذكاري (27) الموجود فوق الباب الشمالي لقبة الصخرة والذي اشتمل على استبدال الزخارف الفسيفسائية التي كانت تغطي واجهات التثمينة الخارجية والتي ظلت قائمة منذ الفترة الأموية، فترة تأسيس وبناء قبة الصخرة وحتى الفترة العثمانية، وقد استبدلت بالبلاط القاشاني المزجج والملون في سنة 959هجرية/ 1552ميلادية، مما أكسب قبة الصخرة روعة وجمالاً فائقين من الخارج كما هي من الداخل .
كما قام بتجديد النوافذ الجصية الواقعة في رقبة القبة وذلك في سنة 945هجرية/ 1538ميلادية .
ولقد حرص سلاطين العثمانيين بشدة خلال فترات توليهم الطويلة على استمرارية الحفاظ على مسجد قبة الصخرة، حتى أنهم قاموا بتشكيل لجنة لتختص بشؤون إعمار قبة الصخرة والمسجد الأقصى، تألفت من شيخ الحرم وأمين البناء وأمين الدفتر (28) .
ومن مشاريع الترميمات العثمانية المهمة تلك التي أنجزت في عهدي السلطانين عبد المجيد الأول (1255-1277 هجرية/ 1839-1861ميلادية)، والسلطان عبدالعزيز (1277-1293هجرية/ 1861-1876ميلادية)، حيث تم إنجاز أعمال ترميمات ضخمة استمرت مدة من الزمن، كلفت خزينة الدولة أموالاً طائلة، حيث استدعي خبراء ومهندسون من خارج البلاد لتقوية وصيانة المبنى الأساسي للقبة وزخارفها من الداخل والخارج (29) .
وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1293-1327 هجرية/ 1876-1909ميلادية)، تم كتابة سورة (يس) الموجودة حالياً في أعلى واجهات التثمينة الخارجية، وقد كتبت بالخط الثلث على القاشاني، كما أمر السلطان عبد الحميد بفرش مسجد قبة الصخرة المشرفة بالسجاد الثمين (30) .
ومن الجدير بالإشارة إلى القبة الصغيرة التي تقوم إلى الغرب من مدخل المغارة والتي على ما يظهر أنها أضيفت في الفترة العثمانية والتي عرفت بحجرة شعرات النبي ، وقد قال المؤرخ المقدسي الجليل عارف العارف بخصوصها ما نصه (31) (.. وقد عهد إلى آل الشهابي من الأسر القديمة في بيت المقدس بمهمة الاحتفاظ بهاتين الشعرتين من شعر النبي ويحتفل القوم بها مرة في كل سنة، .. في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان..)) .
هذا وقد أخذ المجلس الإسلامي الأعلى على عاتقه مسؤولية الحفاظ على قبة الصخرة المشرفة، حيث قام في الفترة ما بين 1936-1948م، بأعمال الترميم اللازمة والضرورية فيها مستعيناً بالخبراء والمختصين في هذا المجال(32).
وقد استمرت الترميمات في العهد الأردني، حيث سنت الحكومة الأردنية في سنة 1954م، قانون أسمته (قانون إعمار المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة لسنة 1954م)، خولت فيه مجلس الوزراء تعيين لجنة لإعمار المسجدين. ومنذ ذلك الحين وحتى هذا اليوم واللجنة تقوم بمسؤولياتها تجاه إعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة (33) .