يصح أن يسمى عصر إسماعيل عصر التجدد الاجتماعي ، ففيه أخذت الهيئة الاجتماعية المصرية تتطور إلي حالات جديدة ، وتقتبس من أساليب المجتمع الأوروبي وعاداته ، ومال الناس إلي محاكاة الأوروبيين في المسكن والملبس والمأكل وسائر أنماط الحياة ، وكان انتشار التعليم من العوامل التي ساعدت على هذا التطور ، فإن الطبقة المتعلمة بحكم دراستها علوم أوربا ولغتها صارت طليعة الطبقات الأخرى في تقليد الأفرنج واقتباس عوائدهم وأساليبهم ، فأخذ الناس من كل ذلك مزيجاً من النافع والضار.
ففي المسكن شرعوا يبنزن البيوت على النظام الأوروبي ، ويهجرون التخطيط القديم الذي درجوا عليه في خلال العصور ، ولا شك أن التخطيط الأفرنجي أدعى إلي توفير أسباب الصحة والنظافة والراحة والنظام ، ولكن إلي جانب هذه المزايا فقد البناء ذلك الطراز العربي الجميل الذي كان يتجلى في قصور خاصة ، والذي يعد بلا مراء آية في الفن ، فهذه القصور أخذت تتلاشى مع الزمن حتى صار ما بقي منها معدوداً من الآثار القديمة ، ثم عادت الطبقة الممتازة إلي إحياء الطراز العربي وإدخاله في قصورها الحديثة.
وهجر المتعلمون ومن حاكاهم من السراة والأعيان الملابس الشرقية ، كالجبة والعباءة والعمامة ، وارتدوا الطربوش والبدلات الإفرنجية ، وتضاءلت الأزياء القديمة وحلت محلها الأزياء الأوروبية ، فيما عدا القبعة ، فقد استمسك المصريون بالإعراض عنها.
ودخلت العوائد الأوروبية في أساليب المآكل والولائم ، فأخذ الناس يمدون الموائد ويتناولون الطعام على النمط الإفرنجي ، ولا مراء في أن الأساليب الأوروبية في هذا المجال أرقى وأصح من الأساليب القديمة ، ولكنها مع الأسف قد استتبعت محاكاة الإفرنج في تعاطي المشروبات الروحية ، وهذه لآفة جاءتنا من أوروبا ، وبدأ دخولها مصر على أيدي الأغنياء والسراة والمتعلمين ، ثم سرت إلي الطبقات الجاهلة ، فعم منها الفساد ، وصارت من شر الآفات التي ابتلي بها المجتمع المصري وكان منها بريئاً.
ومن مظاهر التطور الاجتماعي إقبال الناس على الرياضة والتنزه ، فقد أخذوا يرتادون المتنزهات والضواحي ، وخاصة بعد انتشار العربات التي سهلت المواصلات بين العاصمة وضواحيها ، فأخذ سيل المركبات لا ينقطع عصر كل يوم في طريق شبرا ، ثم في طريق الجزيرة والجيزة والأهرام ، وكان لإنشاء جسر ( كوبري ) قصر النيل فضل كبير في ميل الجماهير إلي التنزه ، لاجتلاء محاسن النيل وجسره البديع والتمتع برياض الجزيرة والجيزة ، وكانت ( شبرا ) هي متنزه سكان القاهرة من قبل ، ثم أخذ الناس يتحولون إلي كوبري قصر النيل وما يليه من القصور الفخمة والحدائق الغناء والطرق المعبدة ومناظر الطبيعة الرائعة.
وبدا على المجتمع الميل إلي المرح والحبور، ويرجع هذا الميل إلي الثراء والرفاهية ، ثم إلي انتشار التعليم ، ومن هنا ظهرت النهضة الغنائية في عصر إسماعيل ، وأزداد إقبال الناس على سماع الأغاني والموسيقى ، وارتقت اساليب الغناء ، وزادت مكانة المغنين في النفوس ونالوا من محبة الناس حظاً عظيماً ، وفي مقدمتهم عبده الحمولي ، وارتقى الذوق الموسيقي في المجتمع.
وأقبلت الطبقات الممتازة على حضور المسارح ومشاهدة الروايات التمثيلية ، ثم قلدتها الطبقات الأخرى ، وابتدع الخديوي إسماعيل سنة الرقص الأفرنجي ، فكان يقيم في سراي عابدين والجزيرة حفلات راقصة ( باللو ) بالغة منتهى الفخامة ، وكان يدعو إليها الكبراء وذوي المراكز الاجتماعية ، ورجال السلك السياسي وعقيلاتهم ، وكانت " الوقائع المصرية " تعنى باخبار هذه الحفلات وتصفها في مكان بارز من صحائفها.
وكان لحفلات الأفراح في ذلك العصر يهجة بالغة ، فقد كان السراة والأعيان يفتنون في تفخيمها وتعظيمها ، ويتنافسون في مظاهر البذخ والإسراف فيها ، وبلغت بعض هذه الأفراح من البهاء والروعة ما جعلها أحاديث الناس ، يتناقلونها جيلاً بعد جيل ، أما أفراح الخديوي إسماعيل ، فحدث عنها ولا حرج ، وخاصة الأفراح التي أقامها احتفالاً بزواج أنجاله الأمراء ، إذ عقد لولي عهده محمد توفيق باشا ( الخديوي ) على الأميرة أمينة هانم ( أم المحسنين ) كريمة إلهامي باشا ابن عباس الأول ، وللأمير حسين ( السلطان حسين ) على الأميرة عين الحياة بنت الأمير أحمد رفعت بن إبراهيم باشا ، والأمير حسن باشا على الأميرة خديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير بن محمد على باشا ، وكان الأحتفال بزواجهم أعظم أفراح هذا العصر ، ولا يزال الناس يذكرون فخامة هذه الأفراح ويسمونها ( أفراح الأنجال ).
وامتاز هذا العصر ببهجة الحفلات العلمية والمدرسية التي كانت تقام لمناسبة انتهاء الدراسة في المعاهد العالية ، الحربية والملكية ، والمدارس الثانوية والابتدائية ، فقد كان يحضرها الخديوي أحياناً ، ويشهدها كبار رجال الدولة ، وتوزع فيها الجوائز والمكافآت على أوائل الناجحين.
ولحفلات سباق الخيل في ذلك العصر مظاهر رائعة ، إذ كان يتسابق الجمهور إلي مشاهدتها في القاهرة ( بالعباسية ) أو في الإسكندرية وتعطى فيها الجوائز للخيول الفائزة ، فكان هواة الخيل يتنافسون في اقتناء الجياد الكريمة ، ويحضر الخديوي إسماعيل ، وكبار رجال الدولة هذه الحفلات ، وتنشر أنباؤها بعناية كبيرة في " الوقائع المصرية " ، واشتهر على باشا شريف بتنظيم هذه الحفلات والعناية بها وأحراز قصب السبق في اقتناء خيرالجياد.
واستمرت حفلات المولد والأعياد موضع إقبال الناس ورعاية الحكام ، وبقيت للموالد في القاهرة والأقاليم مكانتها التقليدية في النفوس.
فهرس |
واستتبع انتشار التعليم ارتقاء الحياة العائلية ، وأخذ الناس يفهمون الروابط الزوجية على نحو أرقى من الفهم القديم ، وينظرون إلي الزوجة كشريكة المراء في حياته ، وقسيمته في سرائه وضرائه " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " ، وقل تعدد الزوجات في الأوساط المثقفة ، كما قل الطلاق والتسري ، وبدأت العائلات تعني بتعليم البنين والبنات.
وبدأت النهضة النسائية في عصر إسماعيل ، إذ أنشئت المدارس لتعليم البنات وبدأت المرأة تشترك بنصيبها في النهضة الاجتماعية والأدبية ، فكانت " عائشة عصمت تيمور " طليعة هذه النهضة ، وكان لرفاعة بك رافع الطهطاوي فضل كبير في ترقية المرأة المصرية ، فهو أول من دعا إلي نهضتها وإلي تعليم البنات وتثقيفهن أسوة بالبنين ، وتتجلى فكرته من كونه وضع كتاباً مشتركاً لتثقيف البنات والبنين على السواء سماه ( المرشد الأمين للبنات والبنين ) طبع سنة 1872 ، وهو كتاب قيم في الأخلاق والتربية والآداب ، ووضعه كما يقول في مقدمته بحيث " يصلح لتعليم البنين والبنات على السوية " ، ودعا فيه إلي وجوب تعليم البنات وإعدادهن من طريق التربية والتعليم للعمل والقيام بواجبهن في المجتمع ، وقال في هذا الصدد : " ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معاً لحسن معاشرة الأزواج ، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك ، فإن هذا مما يزيدهن أدباً وعقلاً ، ويجعلهن بالمعارف أهلاً ، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي ، فيعظمن في قلوبهم ، ويعظم مقامهن لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش ، مما ينتج من معاشرة المرأة الجاهلة لمرأة مثلها وليمكن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال ، على قدر قوتها وطاقتها ، كل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن ، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة ، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل ، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل ، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق ، ويقربها من الفضيلة ، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء".
فالدعوة إلي نهضة المرأة في مصر ترجع كما ترى إلي رفاعة بك ، ثم جاء من بعده قاسم أمين ، فجددها ووسع نطاقها.
تلك نظرة إجمالية في التطور الاجتماعي على عهد إسماعيل ، والآن ننتقل من الإجمال إلي التفصيل فنتابع الكلام عن الطبقات التي يتألف منها المجتمع على النحو الذي اتبعناه في دراسة هذه الطبقات على عهد الحملة الفرنسية وفي عصر محمد علي.
بلغ عدد سكان مصر في أواخر القرن الثامن عشر ثلاثة ملايين نسمة ، وزاد عددهم فبلغوا سنة 1845 أي في أواخر عهد محمد علي 4.476.440 نفس وبلغوا سنة 1859 في أواخر حكم سعيد باشا خمسة ملايين ، ثم بلغ عددهم في أواخر حكم إسماعيل نحو ستة ملايين نسمة وهذا مستفاد من أن الإحصاء الرسمي الذي حدث يوم 3 مايو سنة 1882 دل على أن عدد السكان بلغ 6.806.381 نسمة في ذلك اليوم ، أي بعد انتهاء حكم إسماعيل بثلاث سنوات ، فلا يمكن أن تصل الزيادة في تلك السنوات إلي أكثر من ثمانمائة ألف نفس.
تفرعت الأسرة الحاكمة وكثر عدد أفرادها في عهد خلفاء محمد علي ، بما أنجبه هو وأبناؤه من الأمراء والأميرات ، وصاروا ممثلون طبقة ممتازة في المجتمع ، واقتنوا القصور الفخمة واقتنوا الأملاك الواسعة والثروات الضخمة.
وقد عنى محمد على بتنشئة أنجاله تنشئة صالحة ، فعلمهم في المدارس وأرسل بعضهم إلي أوروبا لإتمام علومهم ، وعنى على الأخص بأن ينالوا حظاً وفيراً من المنشأة الحربية ، ففي الحق أنه لم يقصر في تثقيفهم وإعدادهم للقيام بالمهمات الكبيرة.
ولكن خلفاءه قصروا في الاندماج في الشعب والاعتزاز بالانتساب إليه ، فمع أن محمد علي هو باعث نهضة اللغة والآداب العربية ، فإن الأمراء والأميرات من آل بيته قلما كانو ا يتعلمون اللغة العربية ويدرسونها ، بل قليل ما كانوا يتخاطبون بها وكانت التركية هي لغة التخاطب والتفاهم في بيوتهم وقد عنوا بدراسة اللغات الأجنبية وخاصة الفرنسية أكثر من عنايتهم بتعلم العربية وهذا نقص كبير أدى إلي تراخي علاقة الكثيرين منهم بالشعب ، ثم إلي قلة أعمالهم القومية والخيرية ، بل أفضى ببعضهم إلي إيثار المعيشة خارج القطر المصري سواء في الاستانة أو في أوروبا ، واعتبارهم غرباء عن الشعب.
وثمة ظاهرة أخرى بدت على الأمراء والأميرات من البيت العلوي وهي التنا فس والتحاسد بينهم ، مما أدى في بعض المواطن إلي بغض متبادل وعداء شديد ، ولو ساد الوفاق والصفاء بين أفراد البيت المالك وصرفو ا جهودهم إلي ما فيه خير البلاد وسعادة أهلها لنالت على أيديهم أعظم الثمرات.
ويرجع هذا العداء إلي أن من يتولى الحكم كان ينظر بعين البغض وسوء الظن إلي باقي الأمراء ، ويخشى منهم على مركزه ، فيهيئ له الخوف أن يتقي شرهم بوسائل الأيذاء والعدوان فعباس الأول كان معروفاً عنه كرهه لأفراد أسرته من أعمامه وعماته وأبناء عمامته ، وكان يمقت سعيد باشا وارث الملك من بعده ، حتى اضطره إلى العزلة بالأسكندرية ، وحنق على عمته الأميرة نازلي هانم حتى قيل أنه شرع في قتلها ، لولا أن رحلت عن البلاد ، وسكنت الاستانة ، وقيل أنها هي التي حرضت المملوكين الذين قتلاه في قصره ببنها كما تقدم بيانه ، أما سعيد باشا فقد كانت طيبته تحول دون تفكيره في إيذاء الأمراء من آل بيته ، فلم ينل أحداً منه سوء أو أذى على يده، ولكن إسماعيل كان على العكس سيء الظن بهم ، وقد بدى عليه حين وافاه سعيد عدم رعاية واجب الاحترام نحو عمه ، إذ كانت وفاته بالإسكندرية ، فلم يحتفل بتشييع جنازته ، ولا عنى بأن يؤدي له في موته ما يليق بمقامه ، بل أمر بأن يدفن باسرع ما يمكن بالإسكندرية ، دون أي مظهر من مظاهر الحفاوة والرعاية ، وفي الوقت الذي سير به إلي جدثه كان هو يقيم الأفراح في القاهرة إذاناً باعتلائه عرش مصر.
وعداء إسماعيل لأخيه مصطفى فاضل ولعمه عبد الحليم أمر مستفيض ، وله حوادث يتناقلها الناس ، فإسماعيل ومصطفى فاضل على أنهما أخوان وأبوهما البطل إبراهيم باشا ولكنهما من والدتين مختلفتين ، وقد ولدا في يومين متقاربين ، وكان لهما أخ ثالث أكبر منهما سناً وهو أحمد رفعت الذي ألت إليه ولاية العرش في عهد سعيد باشا ، لكنه غرق في حادثة كفر الزيات الشهيرة فصار إسماعيل ولياً للعهد ، ولما أرتقى العرش لم يحسن معاملة أخيه مصطفى فاضل بل أخذ يكيد له ويعمل على أقصائه من البلاد ، وبذل ما في وسعه لشراء أملاكه في مصر واضطراره إلي الهجرة منها ، وسعى جهده أيضاً في حرمانه ولاية العهد التي كانت له بحكم نظام الثورات القديم ونجح في مسعاه ، فشتراى أملاكه وغير نظام الوراثة وجعلها في نسله ، وكذلك أشترى أملاك الأمير عبد الحليم ومن ثم غادر كلاهما مصر وسكنا وعائلاتهما الأستانة وأوربا وأشتدت العداوة بينهما في عهد إسماعيل.
لم يكن لعلماء الأزهر شأن كبير في تطور الأحوال العامة سياسية كانت أو اجتماعية ، ولقد بينا فيما سبق من الكلام كيف ضعفت مكانتهم عما كانةا عليه في عهد الحملة الفرنسية وأوائل عصر محمد علي، ويلوح لنا أن الأزهر ومن يتصل به من العلماء والطلبة قد استردوا في عصر إسماعيل شيئاً من المكانه التي كانت لأسلافهم من قبل ، فقد نال بعضهم مكانة عالية ومنزلة سامية في الهيئة الاجتماعية ، نخص بالذكر منهم الشيخ محمد العباس المهدي الذي كان من افذاذ العلماء في ذلك العصر ، فقد تولى مشيخة الجامع الأزهر وإفتاء الديار المصرية في سنة 1287 هـ ( 1871 م ) ، وعلى يده بدأ إصلاح الأزهر ، وفي عهده إنشأ نظام الامتحان لتخريج العلماء، وكان إليه المرجع في تعيين القضاة الشرعيين وفي كل ما تقره الحكومة مما له مساس بالمسائل الشرعية ، ونال عند الخديوي إسماعيل احتراماً كبيراً ومنزلة عظمة ، وقلده سنة 1872 علاوة على مشيخة الأزهر والإفتاء عضوية المجلس الخصوصي العالي ( مجلس الوزراء في ذلك الحين ) للنظر فيما له مساس بالأحكام الشرعية من الشؤون ، أي أنه صار من وزراء الدولة ، وهي ميزة لم ينلها العلماء من بعد.
وظل الأزهر كما كان المعين الذي استمدت منه النهضة العلمية والأدبية عناصر الحياة ، فكثير من العلماء والأدباء والشعراء في ذلك العصر نشئوا وتخرجو فيه ، ومعظم أساتذة دار العلوم والآداب واللغة هم في علمائه أو طلابه ، واستمر هذا المعهد العظيم يمد المدارس والوظائف والقضاء والمحاماة والحياة العامة بنخبة من رجاله وهذا يدلك على حيويته ومبلغ القوة الكامنة فيه.
ولما جاء السيد جمال الدين الأفغاني مصر سنة 1871 وجد في تلاميذ الأزهر وطائفة من المنتسبين إليه البيئة الصالحة التي بث فيها تعاليمه وأفكاره ، فنفخ في الأزهر روح النهضة وغرس فيه مبادئ التقدم الفكري والعلمي ، وقد بدت ثمارها بظهور المدرسة العلمية الحديثة التي حمل لواءها فيما بعد الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبده ، فاتجه السيد جمال الدين إلي الأزهر في بث تعاليمة الحرة دليل على ما فيه من الاستعداد للنهضة العلمية والاجتماعية ، وحسبك أن الشيخ محمد عبده إمام هذه النهضة في ختام القرن التاسع عشر هو من علماء الأزهر الأعلام ، فالشخصيات الكبيرة التي نشئت في الأزهر قد أسبغت على هذا المعهد مكانة سامية وساعد على ظهور هذه المكانة في ذلك العصر إحتفاظ علمائه بكرامتهم حيال ولاة الأمور ، وإستمساكهم بالتقوى والتعفف والنزاهة ، وإبتعادهم عن الزلفى للحكام ، مما رفع من منزلتهم وجعل لهم في نفوس الخاصة والعامة مكانة عالية.
أرتقى مستوى الموظفين عما كانوا علية من قبل لأن كثيراً من الوظائف قد شغلها خريجوا المدارس في عهد محمد على وخلفاءه.
ولكن من الواجب أن نقر حقيقة مؤلمة وهي أن معظم الموظفين ( وحكمنا لا يشمل الجميع ) لم يضعوا نصب اعينهم الأخلاص في أداء الواجب نحو البلاد وتوفير مصالح الاهليين ، ورعاية الحق والعدل ، ولو جعلوا هذا القاعدة أساس لأعمالهم لسعد الشعب في عهدهم وشعر بالعدل والكرامة ، ولتحرر من الأرزاء التي كان ينوء بها ، ولكن الموظفين كانوا في الغلب يتخذون الوظائف وسيلة للأستغلال والاسراء ، ومن هنا جاء سوء الإدارة وانتشار الرشوة ومظالم الحكام ، وقلما كان الرؤساء من الموظفين والحكام ينظرون إلي مصالح البلاد والأهليين ، بل اهملت هذه الناحية إهمالاً جسيماً ، حتى لم يكن للأهليين حقوق محترمة ولا كرامة مصونة أمام الموظفين.
أما الفلاحون فقد ساءت حالتهم بما زاد عليهم من أعباء الضرائب وما اقترن بها من القسوة في تحصيلها ، ولم يشعر الفلاح في عهد إسماعيل بالراحة والرخاء الذين كان يشعر بهما في عهد سعيد ، وظلت السخرة سائدة في ذلك العهد ، ولم تكن قاصرة على المنافع والأعمال العامة بل كانت تستخدم لإستصلاح أطيان الخديوي وأطيان الحكام ، وبقيت المظالم يرزح الناس تحت نيرها ، وقاعدة الحكام في معاملة الفلاحين هي القهر والإرهاق ، وكان الضرب بالكرباج عادة مألوفة في جباية الضرائب أو الأقتصاص ممن يخالفون الأوامر أو يستهدفون لغضب الحكام لأي سبب ، ولم يكن ثمة قانون ولا قضاء عادل يحميان الضعيف وينصفان المظلوم ، ولا رقابة على الحكام من حكومة عادلة أو مجالس نيابية أو صحافة أو رأي عام ، ووقع على الأهليين إرهاق آخر من ناحية الأجانب من المرابين وغيرهم ، إذ وجد هؤلاء من حسن رعاية الحكومة ومن حماية الامتيازات الأجنبية ما جعلهم يستغلون الفلاحين والأهليين عامة إلي أقصى درجات الاستغلال ، حتى انتزعوا منهم الأملاك والأموال وكبلوهم بالديون الباهظة ولم يجد الفلاح من الحكومة حماية لحقوقه ومرافقه ، بل كانت تقاسم الأجانب إرهاقة واستغلالة ، ولم يتحرر الفلاح في هذا العصر من الفقر والفاقة ، وظل يعيش عيشة الكد والكدح ويقنع بأقل الحاجات والنفقات.
كان الأعيان أحسن حالاً من الفلاحين وسائر الأهليين ، فقد اقتنوا الأطيان والضياع واستصلحوا أطيانهم القديمة ، وزادت ثرواتهم بما أنشأته الحكومة من أعمال العمران كشق الترع وإقامة القناطر وتسهيل وسائل الري ، وإنشاء السكك الحديدية ، وتعبيد طرق المواصلات ، فزاد دخلهم من أطيانهم وأملاكهم ، واتسعت عليهم الدنيا ، وراعت الحكومة جانبهم ، وكانوا هم من ناحيتهم يخضعون لأوامر الحكومة وينزلقون إلي الحكام لينالوا رضاهم ويأمنوا على مصالحهم ، وفي كثير من المواطن كانوا يكسبون رعايتهم إذ يصلونهم بالهدايا والرشا وما إلي ذلك ، وكان الأعيان من الأسر الكبيرة يحتفظون بعصبيتهم العائلية ومراكزهم الأجتماعية ، فازدادت منزلتهم وعظم جاههم ، ورعي الخديوي جانبهم ، وأنعم على كثير منهم بالألقاب والرتب ، وكانت نادرة في ذلك العصر ، وأسند المناصب الإدارية والقضائية إلي فئة منهم ، فكان منهم المديرون والمأمورين ورؤساء المجالس ( المحاكم ) الإبتدائية والاستئنافية ، ومجلس شورى النواب كاد يكون مقصوراً على طبقتهم ، وكان لبعضهم فيه مناقشات تدل على حظ من العلم والذكاء الفطري وسلامة المنطق.
وكان الأعيان على وجه عام كرام النفوس ، قويمي الأخلاق ، فيهم مروءة ووفاء ، وشهامة وسماح ، وفضيلة ودين ، ويلوح لنا من هذه الناحية أنهم كانوا خيراً ممن خلفوهم في العصر الحديث.