الرئيسيةبحث

الكاشف الصغير عن عقائد ابن رشد الحفيد

خرق محتمل لحقوق التأليف والنشر

الأخ العزيز/الأخت العزيزة الذي قام بكتابة هذه المقالة. هنالك احتمال أن تكون المقالة التي وضعتها مخالفة (للأسف) لحقوق التأليف والنشر لأنها تبدو مشابهة بصورة غريبة للنص في المصدر التالي:

http://www.al-razi.net/website/pages/ibnroshd.htm
نحن نقدر جهودك لتنمية مقالات الموسوعة، وهو أمر نرغب أن يستمر ولكن لا يمكننا إبقاء مثل هذه المقالة في الموسوعة إلا إذا تم إثبات أنها من كتابتك أنت، أو على الأقل تم إثبات أن كاتبها لا يمانع بوضعها ضمن الموسوعة تحت رخصة جنو للوثائق الحرة.

إذا كنت فعلا نسختها بدون أن تدرك هذه الإشكالية فلا مشكلة. يكفي أن تترك الصفحة كما هي وسيتم حذفها خلال أسبوع. إذا كنت أنت المؤلف الأصلي للمقالة، أو ترغب بكتابة مقالة بديلة فرجاء ضع ملاحظة في هذه الصفحة حتى يتم إيقاف عملية الحذف الآلي للمقالة (يرجى منك أن تكون مسجلا في الموسوعة حتى يتم التواصل معك، إذا لم تكن كذلك يرجى التسجيل قبل أن تضع ملاحظاتك في الصفحة المقررة لذلك). جملتان أو ثلاث جمل من تأليفك أنت أفضل من نسخ ألف صفحة. لا تقلق من عدم معرفتك بنظام الكتابة هنا، فقط حاول وسيقوم شخص ما بالتعديل والتدقيق خلفك.

دخل المقال إلى نظام الحذف، لإيقاف الحذف انظر الشرح في الأعلى
لماذا قمنا بوضع المقالة للحذف؟
  • تقوم الموسوعة على فلسفة المحتوى المفتوح و جزء من هذه الفلسفة هو احترام عمل و إنتاج الآخرين الفكري. الملكية الفكرية تحميها الاتفاقات الدولية و القوانين المحلية في الدول العربية، و الموسوعة مع أنها تخضع للقانون الأمريكي الذي تخضع له مؤسسة ويكيميديا منشأتها و مديرتها، إلا أن مسؤولية ما قد يفسر بأنه سرقة أدبية تقع على عاتقك أنت مرتكبها وقد يؤدي ذلك إلى ملاحقتك قانونيا. الموسوعة والإدارة لن تتحمل أية مسؤولية قانونية، لكننا نهتم بك؛ فأنت ونحن نعمل معا يدا بيد. كحماية لك من أي تبعات بسبب رغبتك التي نقدرها جدا بتطوير الموسوعة، بدون إدراكك للبعد القانوني، قام أحد إداري نظام الموسوعة بوضع المقالة ضمن نظام الحذف.
  • حماية لسمعة الموسوعة ورغبة بأن تكون محتوياتها متاحة للجميع بحرية وبدون مقابل مادي. الموسوعة تشجع استخدامها كمصدر و استعمال ما ينشر فيها من محتوى طبقا لرخصتها الحرة، إلا أنها لا نستطيع منح ما لا تملك.
هل أنت في أي مشكلة؟

أكيد لا، لا تقلق، ولا تدع اللون الأسود يرهبك (وضعناه فقط لجذب انتباهك). سواء تركت المقالة ليتم حذفها أو أخبرتنا برغبتك بكتابة مقالة بديلة، ففي الحالتين قمنا بحمايتك من أية ملاحقة. تذكر هدفنا هو خدمة الغير. من يدري قد تكون هذه الحادثة بداية صداقة طويلة بيننا وبينك، ويوما ما قد تكون أنت من بين طاقم الإداريين الذي يحمي باقي المساهمين.

نبه المستخدم الذي قام بإضافة النص المشكلة للخرق

كل ما عليك هو إضافة التالي لصفحة نقاشه:

{{نسخ:تنبيه خرق|الكاشف الصغير عن عقائد ابن رشد الحفيد}}--~~~~

حسنا القسم التالي خاص بنا، لعمل من اكتشف الخرق وقد قام به

يرجى نسخ الجزء في الأسفل كاملا ثم فتح هذه الصفحة ولصقه داخلها. جدول الخرق الذي تحتوي مداخلة هذه المقالة:

{{خرق/سجل|مصدر = http://www.al-razi.net/website/pages/ibnroshd.htm |الكاشف الصغير عن عقائد ابن رشد الحفيد|~~~|2008-6-7}}



الكاشف الصغير

عن

مواقع الغلط في كتب الفيلسوف ابن رشد



وهو ملخص في الرد على ابن رشد وفيه بيان أهدافه وغاياته من الهجوم على الأشاعرة، وطرقه في نصرة فلسفة أرسطو. ويحتوي أيضاً على لفت أنظار الناظرين إلى أساليبه الملتوية في تحقيق ما يريد



كتبه

سعيد فودة

وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب





بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين:

أما بعد ،،،


فهذه تعليقات عاجلة ومختصرة على بعض ما كتبه ابن رشد الحفيد الفيلسوف، وخاصة ما أودعه في كتبه التالية:

أولا: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والانفصال.

ثانيا: ضميمة في العلم الإلهي([1]).

ثالثا: مناهج الأدلة([2]).

وسوف نوجه جهدنا إلى إبراز بعض المواضع التي خالف فيها ما هو معلوم من المناهج الشرعية والقوانين النقلية والعقلية، ونشير إلى بعض ما وقع فيه من مغالطات في الاستدلال وخاصة في مناقشته للأشاعرة ومن يوافقهم من المتكلمين في المباحث التي تكلم فيها .

وسنقسم هذه المقالة إلى ثلاثة أقسام بحسب الكتب الثلاثة المذكورة سابقاً . وكل قسم إلى مسائل بحسب المسألة التي سنتكلم عليها، وسوف نمهد لذلك كله بتمهيد نبين فيه باختصار حقيقة ابن رشد وهدفه الذي يسعى إليه .


التمهيد

في بيان حقيقة فلسفة ابن رشد

أبو الوليد ابن رشد فيلسوف معروف ، بل هو من أشهر الفلاسفة الإسلاميين، فلا نريد التحدث هنا عن حياته، بل نريد إجمال حقيقة أهدافه من فلسفته كما نعتقده نحن .

وحقيقة الأمر فإن الهدف الأكبر الذي يسعى إليه ابن رشد هو نشر فلسفة أرسطو الفيلسوف اليوناني المعروف ونصرتها ، وإن كلفه الأمر محاولة إثبات أنها لا تعارض لا في جزئي ولا كلي الشريعة الإسلامية، والأساس عنده هو الحكمة أي الفلسفة لا الشريعة، وليس الأساس عنده هو الحكمة مطلقاً، بل حكمة أرسطو على التحديد، فإنه يوجد فلاسفة آخرون غير أرسطو سواء كانوا من اليونان أو من غيرهم، ولكن ابن رشد لا يهتم على الخصوص إلا بأرسطو، فهو مغرم به، ومحب فلسفته وناصر لها ومعتقد بما فيها. نعم له بعض الإضافات والتعديلات ولكنها لا تذكر إذا قورنت بما وافقه فيه .

ولكن نصرة فلسفة أرسطو أمر لا يخلو من يريد تحقيقه من الاحتمالات التالية:

·إما أن يتحقق عنده أن فلسفته توافق تماماً الشريعة الإسلامية وأقوال علماء الإسلام الذين هم أولى الناس بفهم الشريعة، وحينذاك فإن هذه الحالة تكون غاية المراد بلا تكلف ولا توفيق ، لأنه حاصل أصلي .

·وإما أن يلاحظ أن فلسفة أرسطو تخالف الشريعة في بعض الأمور، وحينذاك، فلا يخلو الحال: إما أن يحكم بغلط الفلسفة وصواب الشريعة، أو العكس أو يتوقف بينهما .

ويمكن أن يلجأ إلى نوع آخر من التوفيق وهو التأويل، أي محاولة تفسير أحد الأمرين على خلاف ما يظهر منه لأول نظرة، وحينذاك إما أن يقع التأويل على فلسفة أرسطو أو على الشريعة .

فهذه الاحتمالات لا غير هي الواقعة في نفس الأمر .

وأما بالفعل فإن التوافق التام بين الحكمة الأرسطية والشريعة الإسلامية غير حاصل .

والحكم بغلط الشريعة هكذا بصراحة لم يقع من ابن رشد، وكذلك الحكم بغلط أرسطو لم يقع كذلك .

فالباقي من ذلك كله هو التأويل، والتأويل إما أن يقع على الشريعة أو الحكمة أو عليهما معاً .

والحاصل بالفعل من ذلك كله، هو أن أكثر التأويلات التي فعلها ابن رشد إنما هي تأولات للشريعة، وتفسير نصوصها بطريقة تخالف ما فهمه منها علماء الشريعة أنفسهم .

وقد كانت تأولات الشريعة عند ابن رشد بطريقة حاصلها أن علماء الشريعة لم يفهموا حقيقة مراد الشريعة، وما نسبوه إليها من أفهام وأحكام في هذه المطالب إنما هي تقولات عليها، وكذب وتشويه لحقيقتها .

وأما وصف الشريعة على ما هي عليه في نفس الأمر، فإنه يدعي في هذه الكتب أنه هو من استطاع أن يقدمه، وأن سائر الناس غيره انحرفوا عنه إما بسبب أو بلا سبب .

ووقع من ابن رشد بعض تأولات لفلسفة أرسطو ولكن من حيث أن ما اشتهر من المعاني عند بعض شراح أرسطو كابن سينا وغيره من الفلاسفة إنما هو أمر غلط، لأنهم لم يفهموا حقيقة مراده في أقواله، ويشرع بعد ذلك في تقديم توضيحاته وتأويلاته هو لكلام ومعاني أرسطو، ويدعي أنها هي المحاكية المخلصة لأرسطو !!

فابن رشد في الحاصل يضع فلسفة أرسطو مقابلة للشريعة، ومن نفس جنسها، أي في نفس مرتبتها، لأن ما يوضع مقابلاً لأمر فيجب أن يكون من نفس رتبته - لا أقول من نفس المصدر - ويعتبر أن الشريعة لم يفهمها أكثر من اتبعها، ولذلك فإنه بالغ في تأويلاته لها، وردِّه على من شرحها من علماء الشريعة، وأما فلسفة أرسطو فإنه يعتبر نفسه المبلغ الأعظم لحقائقها ومعانيها، وبالتالي فإن ما يقوله عنها فإنه الحق في ذاته في شرحها، وأما ما يقوله غيره فالأصل أن لا يعبر به إلا عن صاحبه ولا ينسب إلى أرسطو .

هذا كان عرضاً مجملاً لطريقة ابن رشد في هذه الكتب، وفيه تلخيص لهدفه .

وفيما يلي سوف نحاول أن نتعقبه في بعض المسائل التي تكلم فيها في هذه الكتب، ونبين وجوه الغلط التي وقع فيها، وندعو الله تعالى أن ييسر لنا من الوقت والفراغ ما فيه نتمكن من التوسع في هذا الباب لأهميته .


القسم الأول كتاب الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل

من الشبه المزيفة والبدع المضلة


المسألة الأولى:الشريعة لها ظاهر ومؤول


قال ابن رشد في ص45 وهي أول صفحة من الكتاب:(( إن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول، وإن الظاهر منها فرض الجمهور، وأن المؤول هو فرض العلماء )) .

هذا هو الأسلوب العام والطريقة الشاملة التي بنى عليها ابن رشد نقده لمناهج الأدلة التي اتبعها المتكلمون وعلماء الشريعة في شرحها، فالشريعة عنده قسمان، الأول ظاهر وهو فرض الجمهور، والثاني مؤول وهو فرض العلماء .

ثم قال: (( وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، كما قال علي : حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله )) .

إذن فالجمهور يجب عليهم الأخذ بالظاهر ويحرم عليهم أن يعرفوا المؤول من الشريعة، ويعتمد ابن رشد في ذلك على القول الذي أورد عن الإمام علي كرم الله وجهه .

وليس لابن رشد دليل في هذه الكلمة المروية عن الإمام علي ، كما سترى، فإن لها مفهوماً آخر عبر عنه المتكلمون باختلاف الناس في فهمهم من حيث التفصيل والإجمال، لا كما قال ابن رشد .

واعلم أن هذا الذي يقوله ابن رشد في غاية الخطورة على الشريعة، وإن كان هو يقول به ويدعي أنه لنصرة الشريعة، فإنه لا يجوز أن نقول إن الشريعة تأمرنا أن نقول للعامة مثلا إن الله تعالى جسم أو إن علمه حادث، أو إن إرادته حادثة، بينما تأمرنا أن نقول للخاصة عكس ذلك بالمرة ، فإن هذا بعيد عن الحكمة .

وأما كون الناس على مراتب في الفهم، فهذا أمر لا يستنكر، ولكنهم على كل الأحوال يجب أن يلقى إليهم نفس المفهوم ولكن يختلف هذا الإلقاء بالإجمال والتفصيل، أما أن يُثْبَتَ مفهومٌ ما للبعض وينفى عند البعض، فإن هذا لعمري غريب !!

وأما المتكلمون فإنهم يقولون بالتأويل والتفويض، كمرتبتين للناس، ولكنهم لا يقولون إن الناس بناء على التفويض يجب أن يعتقدوا الجسمية، وبناءاً على التأويل يجب أن ينفوها، بل الجسمية تنفى بناءاً على الطريقتين، ولكن الاختلاف إنما يكون من حيث الإجمال والتفصيل .

ففرق كبير بين طريقة ابن رشد، وبين طريقتهم ، وطريقة ابن رشد لا يوجد له دليل عليها، أما طريقة المتكلمين فإنها الموافقة للكتاب والسنة واللغة، كما هو بيِّنٌ بنفسه .


وأما قول ابن رشد في ص45: ((ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة )) اهـ فإنه غير مسلم، وغير ظاهر، فإن مقصده – أي ابن رشد – إنما هو ما وضحناه سابقاً، وهو تحصيل التوافق بين الشريعة وفلسفة أرسطو ولو بتأويل الشريعة على النحو الباطل الذي قررناه .


المسألة الثانية: مسألة حدوث العالم


أما في مسألة حدوث العالم، فإن ابن رشد يتخبط ويغالط مغالطات عديدة، وذلك كله في سبيل الوصول إلى طريقة يخدش فيها ما قاله المتكلمون من أن العالم حادث والله تعالى قديم ، وسوف نشير نحن إلى بعض مغالطاته في ذلك .

أما ما حاوله من نقض القول بأن الفاعل قديم والمفعول حادث، وهو الأمر الذي يقول به الأشاعرة، فهو لا قيمة له .

وقوله في ص48 واصفاً ما قال الأشاعرة من حدوث العالم عن محدث قديم: ((ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري، وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم كما يقولون أن يكون له ولا بد من فاعل محدث )) اهـ ، فهذا الكلام لا يعدو أن يكون تشغيباً عليهم، فطريقتهم يقينية، وجميع الشكوك التي أوردها ابن رشد فقد ردَّ عليها المتكلمون المتقدمون والمتأخرون .

وقد تعلق ابن رشد بالشك المشهور وهو أن الحادث لا بد أن يكون قد حدث بفعل حادث، للزوم حدوثه عن إرادة حادثة !! وغاية ما يتعلق به هؤلاء أنه لا يتعقل إرادة قديمة، يترتب عليها فعل حادث !!

وهذا كله عبارة عن استبعاد قائم على نظر سطحي وظاهري، وليس مبنياً على أدلة عقلية، بل على مجرد مبالغات خطابية .

وغاية ما يريده ابن رشد من ذلك هو إثبات حدوث الحادث عن فعل حادث، وأن هذا الفعل الحادث مترتب على فعل قديم بوسائط لا متناهية، وفي نهاية الأمر فهذا الفعل القديم صادر عن الواجب الوجود أصالة .

فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يتعقل فيها ابن رشد صدور الفعل الحادث عن فاعل قديم، وأن حاصل ما يقوله هو أن الفعل الحادث لا يصدر عن الفاعل القديم إلا بالواسطة، أي بواسطة مفعولات عديدة بعضها حادث بالزمان وبعضها قديم بالزمان .


وفي أثناء تعلق ابن رشد بمثل هذه الأقاويل الضعيفة، وقع في مغالطات كما قلنا، فمنها ما قاله في ص49:(( وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعد الحادث دهرا لا نهاية له، إذا كان الحادث معدوما دهرا لا نهاية له، فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له، وما لا نهاية له لا ينقضي، فيجب أن لا يخرج هذا المراد إلى الفعل أو ينقضي دهر لا نهاية له، وذلك ممتنع )) اهـ .

أقول: هذا القول مجرد مغالطة واضحة، فإن الأشاعرة القائلين بالإرادة القديمة، لا يقولون بالدهر القديم، فضلاً عن قولهم بكون هذه الإرادة في هذا الدهر القديم، وإلزام ابن رشد لا يتم إلا بعد التسليم بهاتين المقدمتين، وهم لا يسلمون بهما، بل نصوا على انتفائهما في كتبهم كما بينتُ ذلك في تعليقاتي على رد الإخميمي على ابن تيمية في مسألة التسلسل .

فالقائل بالدهر القديم لا يريد منه إلا القديم بالفرض، أي لكي يمكن تقريب ما يقول للسامع، أما في نفس الأمر، فهو ينفيه.

وهذا الدهر الذي يفترض ابن رشد وجوده على مذهب الأشاعرة، كيف يوجد في حال عدم وجود شيء إلا الله تعالى، والدهر كما يعلم حتى الأطفال في العلوم إنما هو عبارة عن تجريد مشتق من وجود المتغيرات، وهم قد نفوا كون الله تعالى متغيراً، فكيف بالله يلزمهم ابن رشد بمثل هذا الإلزام الفاسد في نفسه !!

وابن رشد لا شك أنه يعلم أنهم ينفون هذا الدهر القديم لشهرة ذلك عنهم، وأقرب من ذكر ذلك الإمام الغزالي في كتابه التهافت، وقد نصَّب ابنُ رشد خصماً للغزالي مع أنه وقع في أثناء خصومته لتهافتات عديدة لا يقع فيها إلا مجسم أو حاقد .

ونفس هذا الإيراد الذي صاح به ابن رشد، فقد اعتمد عليه ابن تيمية المجسم الكبير ، بل شيخ المجسمة على التحقيق، وقد أخذه هذا لتعصبه وانعدام بصيرته من ابن رشد، ووجهه على الأشاعرة أيضاً .

وهذا يثبت ما ذكرناه في أكثر من محل من أن ابن تيمية إنما يعتمد على ابن رشد في رده على الأشاعرة، وكما وقع ابن رشد في مغالطات فإن ابن تيمية قد سبح في بحر منها، وزاد عليه أقوالاً كثيرة قريبة من الكذب على أئمة الدين، وكلٌّ منهما هدفه مختلف، فهدف ابن تيمية هو ترويج مذهب المجسمة، وهدف ابن رشد هو ترويج مذهب أرسطو، والحائل الوحيد الذي يقف أما هذين المذهبين هو مذهب أهل السنة الأشاعرة، فلذلك ترى كلا من ابن تيمية وابن رشد قد بذل عمره في سبيل نقض مذهبهم ، وأنى لهما ولغيرهما أن يستطيعوا ذلك .

بل كان كل ما قدموه من أقوال متهافتة دليلاً على قوة مذهب الأشاعرة، لا غير .


وأما كلامه على الجوهر الفرد، هل هو ثابت أو غير ثابت، ومدخليته في إثبات حدوث العالم، فقد قال في ذلك ص50 : (( وجود جوهر فرد غير منقسم ليس معروفاً بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند، وليس في قوة صناعة الكلام تخليص الحق منها، وإنما ذلك لصناعة البرهان )) اهـ .

فنقول: لم يدَّعِ أحد من المتكلمين أن وجود جوهر فرد معلوم بنفسه، ومعنى هذه العبارة أنه معلوم بالبديهة، بل إنهم ادعوا أنه معلوم بالبرهان ، وأقروا أن الاستدلال عليه صعب، ولا يوجد في ذلك خلاف .

وأما ادعاء ابن رشد أن إثبات الجوهر الفرد لا تطيقه صناعة الكلام، فإنما هذا من اغتراره بالفلسفة، وعدم معرفته لعلم الكلام، فعلم الكلام لم يقل أحد أنه مختص فقط بالأدلة الخطابية، أو الجدلية حتى يقال هذا الكلام، وإنما أكَّــد محققو المتكلمين أن الكلام يستعمل البراهين .

والحاصل أنه يوجد فريقان يصران على أن الكلام لا يستعمل إلا الأدلة الخطابية فما دونها في الإفادة، الأول الفلاسفة مثل ابن رشد ، والثاني المجسمة مثل ابن تيمية ، وكل منهما له هدف معلوم من ذلك .


وأما اعتراضه على المتكلمين في إثبات الجوهر الفرد ص50 بعد أن ذكر حجة الانقسام المشهورة، وإن ذكرها بأسلوب غير مشهور، ثم قال:((وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة، فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة )) اهـ .

أقول: الصحيح أنه إن أراد بكلامه السابق اللزوم بالفعل، فقد يصح، مع ما يرد عليه من اعتراضات، ولكن قد يكون له وجه يصحح النظر فيه، أما إن أراد اللزوم مطلقاً، فكلامه باطل، لأنه يكفي في برهان الجوهر الفرد اللزوم ولو بالإمكان، وهو مقطوع فيه هنا ، فكلامه مجرد اغترار وتحامل .


وأما قوله في نفس الصفحة:((وعلى هذا تكون الأشياء كلها أعداداً، ولا يكون هنالك عِظَمٌ متصل أبدا، فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها )) اهـ .

أقول: هذا كلام باطل، فلو ثبت الجوهر الفرد، فإن صناعة الهندسة لا تبطل كما يشير هنا، ولا تصبح هي بعينها صناعة العدد، وذلك لأنه على فرض ثبوت الجوهر الفرد، فإن الكمية المتصلة التي يقوم عليها الهندسة، تكون من باب الإضافيات، وهذا الكونُ كافٍ في إقامة علم الهندسة عليه، ولا يلزم أن يكون الكمّ المتصل حقيقياً ، أي له وجود في الخارج، حتى تصح الهندسة .

وكذلك يقال في عدم وجود العظم المتصل، فهذا هو غاية اللازم، أما انتفاء العظم نفسه، فكيف يلزم ؟!

وبالإضافة إلى ذلك، فإن كلامه غير دقيق من حيث التعبير، فإن الصحيح أن يقول: ( وعلى هذا تكون الأشياء كلها معدودات ) لا أعداداً ، كما قال، لما يعلمه المبتدئ في علوم العقليات أن العدد هو من المعقولات الثانية، وهذا لا يلزم المتكلمين من مجرد إثبات الجوهر الفرد، بل يلزمهم كون كل شيء معدوداً .

نقول: وإن لزم ذلك فأين وجه بطلانه، بل يمكن أن يقال هنا إن بطلان ذلك غير معلوم بنفسه، كما قال سابقاً، وإثباته ينبني على مقولات غير مسلمة كإثبات عدم وجود الجوهر الفرد !!

فهذا كلام في مقابل كلامه، وهو متساو معه في الدرجة ، فكيف يدعي أن ما قاله كاف لإبطال كلام المتكلمين، بل الصحيح الظاهر أن كلامه ما هو إلا مجرد اتهام لا أساس عليه، وتهويل لا يلتفت إليه .


وأيضاً فإن قوله في ص51: (( ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يُسألوا إذا حدث الجزء الذي لا يتجزأ، ما القابل لنفس الحدوث، فإن من أصولهم أن الأعراض لا تفارق الجواهر، فيضطرهم الأمر أن يضعوا الحدوث من موجود ما ولِموجود ما )) اهـ .

والحقيقة أن هذا السؤال قد يكون معتاصاً عند المغفلين، ولكنه يضحك منه من تحقق عنده أدنى علم من مبادئ علم الكلام ، فالحدوث صحيح أنه عرض، ولكنه من الأعراض الثانية، أي التي لا تحقق لها إلا بالنسبة إلى حالتين، وليس من الكبر مثلاً، أو مثل اللون، كمثال أوضح، فالحدوث هو أمر يصف به العقل الموجود الذي يحدث بعد أن لم يكن حادثا، وليس هو أمرا يقوم بأمر، حتى يسأل ما القابل له، ومن وقع فيه من المتكلمين فليس بحجة على غيرهم .

ومثل هذه الإشكالات التي يثيرها ابنُ رشد، تظهر لنا مدى جديته في معرفة الحق، فإنه لا يتجاوز التشكيك بالأمور، ولا يقوم على المعتمد عند المتكلمين من قواعد وأصول، كما ستلاحظ بوضوح أكثر، ثم إن حاصل تشكيكاته هواء .


وأما قوله في ص51 :((وأما المقدمة الثانية وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة فهي مقدمة مشكوك فيها، وخفاء هذا المعنى فيها لخفائه في الجسم )) اهـ .

يقصد من ذلك أن حدوث الجسم معرفته خفية، بمعنى أنه لكي يصدق به يجب أن يتوسل إليه بأدلة، فليس بديهياً، أو ربما يقصد أن الجسم لا يمكن أن يتوصل إلى معرفة حدوثه .

فإن قصد المعنى الأول، فنقول: ما أتى به المتكلمون من أدلة فقد بسطوها وسهلوها حتى صارت قريبة إلى العامة من الناس ، وهذه هي إحدى ميزاتهم، وربما هذا هو ما يدفع مثل ابن رشد إلى التعدي على الأشاعرة، والاستهانة بأدلتهم وربما يتصور أن الصياغة القريبة إلى العامة التي يراها في بعض كتبهم للمبتدئين هي تفصيل دليلهم على ذلك، فيتجرأ عليهم كما يحصل للكثير من المتسرعين ، ويكون الواجب على من تعرض لمثل هذا أن يتوجه مباشرة إلى الكتب المطولة في علم الكلام ليجد تحقيق المرام في مثل هذه المطالب، ومن المحال أن تكون المعلومات المذكورة للمبتدئي هي عين المعلومات المذكورة للمنتهين في التفصيل والإجمال .

وإن قصد المعنى الثاني فإنه يكون قد اعترف بقدم الأجسام، وهو عين القول بأن الله موجِبٌ لا مختار !!


ويتهافت مرة أخرى في نفس الباب فيقول في محاولته لتصوير ضعف دليل المتكلمين ص52: (( وأيضاً فإن الزمان من الأعراض، ويعسر تصور حدوثه، وذلك أن كل حادث يجب أن يتقدمه العدم بالزمان، فإن تقدم عدم الشيء على الشيء لا يتصور إلا من قبل الزمان )) اهـ .

وهذا الكلام باطل ومحاولة سخيفة منه للتشكيك في دليل الحدوث، ومن قال بأن تقدم العدم على العالم يكون بالزمان ؟!

ألا يعلم ابن رشد أن المتكلمين قالوا بأن هذا التقدم إنما يسمى تقدماً بالذات، وليس تقدماً بالزمان، لما يلزم على هذا من التسلسل في القِدَم بالنسبة إلى الزمان .

وأما كون الزمان من الأعراض، فإنه من الأعراض غير الموجودة بذاته بل من الأعراض النسبية، التي تكون من قبيل حكم العقل على الشيء بعد ملاحظة التغير فيه، وهذا النوع من الأعراض لا يشترط لكي يقال به، أن يحدث أولاً ثم يحدث الذي يقوم هو به، كما يعتقد ابن رشد أو كما يوحي به إلى القراء .

وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك، ولذلك صرح الأشاعرة بأن الزمان غير موجود بذاته، وإنما يكون نتيجة حكم عقلي للتغير الحاصل للشيء ومقارنة ذلك بغيره من التغيرات الموجودة أو الموهومة، كما بينوه في موضعه ، وقالوا بأن الزمان لازم للحوادث، وليس شرطاً لها، وفرق كبير بين العبارتين كما هو ظاهر للنبيه.


وأيضاً فقد تهافت ابن رشد مرة أخرى في كلامه عن المكان في نفس الصفحة وبناء على نفس الأساس فقال: (( وأيضاً فإن المكان الذي يكون فيه العالم إذا كان كل متكون بالمكان سابق له يعسر تصور حدوثه أيضاً )) اهـ .

أقول: ومن قال إن المكان شرط لحصول الحادث، بل التحقيق الذي صرح به أئمة الأشاعرة من المتكلمين أن المكان لازم من لوازم الحوادث المشاهدة، وليس شرطاً لوجودها كما يتوهمه ويوهمه ابن رشد. فالمكان بما أنه لازم للحادث، فهو غير مفارق له، من حيث الوجود، ويمكن مفارقته له من حيث التصور، بأن تتصور المكان بدون حادث، ولكن العكس مستحيل، فافهم .


وقد ذكر ابن رشد بعض الشكوك الأخرى، ثم قال:((وهذه كلها شكوك عويصة )) اهـ .

قلتُ: كذا يتوهم ابن رشد، وكذا يريد للقارئ أن يعتقد، ولكن مَن شذا نحواً من الكلام يعرف أن هذا الكلام ليس بكلام .

والحقيقة أن كلامه كله في هذا الكتاب عبارة عن تهويلات غير مبنية على تحقيق يليق بالسمعة التي اكتسبها ابن رشد عند أهل هذا العصر لغفلة منهم عن غيره ولجهلهم بحقيقة أقوال أهل السنة من علماء الكلام. فتأمل ولا تغتر .


وأما قوله ص53: (( وأما المقدمة الثالثة، وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهي مشتركة الاسم )) اهـ .

يريد بذلك أنها محتملة لأن يكون المراد منها ما لا يخلو عن جنس الحوادث، أو عن حادث معين، فإن كان الثاني فهو يسلم بحدوثه، وأما الأول فلا يسلم بحدوثه، بل يقول بوجوب قدمه .

ووجوب قدم هذا النوع عند ابن رشد قائم على القول بقدم العالم الذي يعترف هو به ولا ينكره، ومعنى قدم العالم وجوب وجوده، ولكنه يقول بأن العالم موجود شيئاً بعد شيء، ولم يمر زمان منذ الأزل لم يكن فيه العالم موجوداً، أو بعض مراحل تكون العالم، وهذا القول منه مبني على القول بجواز التسلسل في القِدم، بل وجوبه .

وأنت ترى أن هذا هو عين كلام ابن تيمية المجسم الحراني الذي ملأ الدنيا بصراخه القبيح بمذهبه المتهافت، وقد انقاد ابن تيمية لابن رشد انقياداً تاماً كما نرى، ولكن كل منهما يبني نفس الأساس لإقامة بناء مختلف، فهذا يبني مذهب التجسيم، وذلك يبني مذهب أرسطو !!

وقد ردَّ علماء الكلام على هذا التهافت ببيان أن التسلسل باطل جملة وتفصيلاً، وبينوا ذلك بعدة أدلة تنتج وجوب انقطاع السلسلة، وليس هذا موضع بيانها .


وفي كلام ابن رشد على هذه المقدمة وقع في مغالطات عديدة نذكر لك بعضها هنا تمثيلاً .

فتأمل مثلاً كيف وضح المثال الذي ضربه المتكلمون على انتفاء التسلسل وهو مثال الدرهم، فقد قال في ص54: (( ومثلوا ذلك برجل قال لرجل لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لا نهاية لها، فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبداً )) اهـ .

هذه هي الطريقة التي وضح بها ابن رشد مثال المتكلمين .

ثم شرع في نقده قائلاً: (( وهذا التمثيل ليس بصحيح، لأن في هذا التمثيل وضع مبدأ ونهاية ووضع ما بينهما غير متناه، لأن قوله وقع في زمان محدود، وإعطاءه الدينار يقع أيضاً في زمن محدود، فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين الزمان الذي تكلم فيه أزمنة لا نهاية لها، وهي التي يعطيه فيها دنانير لا نهاية لها، وذلك مستحيل، فهذا التمثيل بيِّنٌ من أمره أنه لا يشبه المسألة الممثل بها )) اهـ .

كذا قال ابن رشد، وفي الحقيقة فإن توضيحه للمثال ليس صحيحاً، وأيضاً فإن طريقة نقده لهذا التوضيح ليست صحيحة ، ونحن هنا لا نريد التفصيل في بيان غلطه في ذلك، فإن الظاهر من كلامه هو التكلف ، ولكن ما نريد توضيحه هنا هو المثال الذي ضربه المتكلمون حقيقة من كلامهم، ليفهم الفرق بين ما قال وبين ما ذكروه، فيكون هذا مغنياً عن بيان ناحية الغلط في كلامه .

فالإمام الجويني في كتاب الإرشاد قد ذكر هذا المثال وهانحن نورد لك نص كلامه، فقد قال رحمه الله في ص26: (( وضرب المحصلون مثالين في الوجهين، فقالوا مثال إثبات حوادث لا أول لها، قول القائل لمن يخاطبه: لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله دينارا، ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبله درهما، فلا يتصور أن يعطى على حكم شرطه لا دينارا ولا درهما…الخ )) اهـ .

فهذا التوضيح يظهر منه مخالفته للطريقة التي بينها ابن رشد كما ترى، والخلاف جوهري، لأن كلام الجويني لا يوجد فيه حصر لما لا نهاية له بين محدودين، خلافاً لكلام ابن رشد .

والمثال الذي ذكره الجويني صحيح فإن حاصله، أن يقول القائل: لا أعطيك درهماً إلا بعد أن أكون قد أعطيتك ديناراً ، ولا أعطي هذا الدينار، إلا بعد أن أكون قد أعطيتك درهما قبله، ولا أعطيك هذا الدرهم إلا بعد أن أكون قد أعطيتك ديناراً، وهكذا لا إلى بداية !!

فإن حاصل هذا الكلام أنه لا أعطيك لا درهما ولا دينارا، لأن هذه القبلية لا بداية لها، بل إنها لا تتناهى في الأزل المفروض، فيكون هذا من قبيل اشتراط وقوع شروط لا نهاية لها لحصول أمر من الأمور، ومعلوم أن انقضاء ما لا نهاية له باطل تماماً، فيكون الحاصل عدم حصول أي أمر من الأمور المشروطة بذلك .

وهذا هو ما يعبر عنه العلماء بأن التسلسل في القدم يلزم عنه فراغ العالم .

ومن هذا الكلام تعلم أن ابن رشد قد ابتعد ونأى عن طريقة المثال، واستلزم عليها ما لا يلزمهم، من التناقض، وهذا تشويه للكلام لا يجوز صدوره ممن يدعي أنه يبين حقيقة معاني الشريعة !!

وقد اعترض المجسم الغالي في التعصب ولكن بصورة الاجتهاد وعدم التقليد، وهو ابن أبي العز المنتسب إلى الأحناف خداعاً للمغفلة من الناس، اعترض على هذا المثال الذي ذكره الجويني فقال كما في شرحه على العقيدة الطحاوية ص136: (( وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار على التسلسل في الماضي، فقالوا إنك لو قلت لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده درهما، كان هذا ممكنا، ولو قلت لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما كان هذا ممتنعا. وهذا التمثيل الموازنة غير صحيحة بل الموازنة الصحيحة أن تقول ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما، فتجعل ماضيا قبل ماض، كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل، وأما قول القائل لا أعطيك حتى أعطيك قبله، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل، ويكون قبله، فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل، وهذا ممتنع، أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض، فإن هذا ممكن، والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل، والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له، فإن ما لا نهاية فيما يتناهى ممتنع )) اهـ .

هذا هو كلامه، وهو يدل على تهافت عقله، ويرد عليه أمور:

أولها: أن ما نسبه إلى الإمام الجويني ليس كما نسبه بل كما ذكرناه لك سابقاً عنه، فإن الإمام الجويني قال كما مضى: (( لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله ديناراً، ولا أعطيك ديناراً إلا وأعطيك قبله درهماً )) ، فهذا حاصله أني لا أعطيك درهما حتى أكون قد أعطيتك ديناراً، كما وضحناه، وليس كما قاله هذا الشارح. وبناءا على ما قلنا فلا يترتب على كلام الجويني ومثاله نفي المستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله كما ادعى الشارح .


ثانيها: قوله: (( أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض، فإن هذا ممكن )) اهـ .

أقول: هذا هو محل النزاع، فحكمه عليه بالإمكان مصادرة على المطلوب، فلا يجوز ادعاء الجواز فيه من غير تجريد دليل أو توضيح مثال لتقريب الجواز، ولم يفعل الشارح من ذلك شيئاً .


ثالثاً: قوله: (( أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض )) .

يريد به أما نفي الماضي بشرط أن يكون قبله ماض، قاصدا تجويز التسلسل ولكن تعبيره عن ذلك مختل، والصواب ما ذكرته .

ولكن يشكل عليه أن محل الاتفاق هو أن الله تعالى فاعل، والفعل الواحد -اتفاقاً بيننا وبين المجسمة - له ابتداء، معنى أنّ له ابتداءاً أي أن الله تعالى سابق عليه، وإنما الخلاف وقع في جنس المفعولات، ولا يتصورنَّ أحد أن الخلاف قد وقع في جنس الفعل ، بمعنى أن الفعل كان مستحيلاً ثم صار جائزاً كما يوهمه ابن تيمية في كثير من كتبه، بل الخلاف إنما هو في أن جنس المفعولات هل له ابتداء أم ليس له ابتداء ؟

فالمجسمة قالوا: لا ابتداء له، ولم تزل المفعولات توجد واحداً وقبلها واحد لا إلى بداية ولا إلى الانتهاء إلى أول للمفعولات، وهم في هذا الموضع بالتحديد قد خالفوا أهل السنة الأشاعرة والمتكلمين، وخالفوا الفلاسفة أيضاً، لأن الفلاسفة اعترفوا بأنه يوجد مخلوق أول بحيث لا يوجد قبله مخلوق، وغاية خلافنا معهم إنما هو في أن هذا الموجود هل هو قديم بالزمان أو لا ؟ وهذا مبني في التحقيق على أن الله تعالى هل هو فاعل بالإيجاب أم لا ؟ ولم يقل الفلاسفة بالتسلسل بالطريقة التي قال بها ابن تيمية، لاستحالتها عقلاً ونقلاً كما بيناه في موضعه، فيكون الحاصل أن المجسمة قد خالفوا الفريقين في هذا الموضع .

ويلزمهم بناءاً عليه ما لزم الفلاسفة من كون الله تعالى موجباً بالذات، بل يلزمهم أكثر من ذلك كما أوضحناه في التعليق على الإخميمي .


رابعاً: أما قوله: (( والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له، فإن ما لا نهاية فيما يتناهى ممتنع )) ، فهو لا يحتمل إلا أحد معنيين:

الأول: أن حصر ما لا نهاية له بين محدودين ليس جائزاً، وعند ذاك يعود إلى اعترض ابن رشد، ولكنا قد بينا أن هذا لا يفهم من كلام الجويني ولا من كلام غيره، فبطل أصل كلامه .

الثاني: أن أصل الإعطاء لا بد أن يكون له بداية، والإعطاء لا يكون إلا بمُعطَى، والمعطى لا بد أن يكون له بداية، وما كان كذلك فلا يمكن أن يكون قبله لا نهاية له، لتعارض ذلك مع أول الكلام. هذا احتمال آخر لكلامه، وهو قد يبدو أظهر من بعض الجوانب، ولكن لو كان هذا ما قصده، لعاد على أصل كلامه ومقصده بالإبطال، وهو إثبات أصل التسلسل في القِدَم .

وربما كان هذا هو الحاصل، ولا نستغرب نحن هذا التناقض لشيوع ذلك عند المجسمة خصوصاً في مباحث العقليات لعدم تمكنهم من فهمها فكيف يحققون الحق فيها .

وما كان قصدنا من إيراد كلام ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية بل جارحها، إلا الإشارة إلى أن هذا الكلام - الذي أصله من كلام ابن تيمية - اعتمد فيه على كلام ابن رشد الفيلسوف ناصر فلسفة أرسطو. فالحاصل أن هؤلاء قد اجتمعوا على محاولة هدم كلام الأشاعرة لا لبطلانه، بل لمخالفته لما يقولون، ولذلك نراهم يقعون في تهافتات وتناقضات لا يستسيغها العاقل .

ولنرجع الآن إلى كلام ابن رشد .

قال ابن رشد في ص54: (( وأما قولهم إن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده فليس صادقا في جميع الوجوه، وذلك أن الأشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين، إما على جهة الدور، وإما على جهة الاستقامة، فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية إلا أن يعرض عليها ما ينهيها… )) ثم قال: ((… وأما التي توجد على الاستقامة مثل كون الإنسان من الإنسان، وذلك الإنسان من إنسان آخر، فإن هذا إن كان بالذات، لم يصح أن يمر إلى غير نهاية، لأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الأخير، وإن كان بالعرض مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان الذي هو الأب وهو المصور له، ويكون الأب إنما منزلته منزلة الآلة من الصانع فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلا لا نهاية له أن يفعل بآلات متبدلة أشخاصا لا نهاية لهم ، وهذا كله ليس يظهر في هذا الموضع )) اهـ .

هذا الكلام منه محاولة لتبرير قول الفلاسفة بقدم العالم، فلجأوا إلى هذا التفريق، وسنبين ضعف قولهم هذا .

فانظر أولاً إلى قوله: (( فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية )) لتعرف أن مقصده هو تبرير القول بقدم العالم، ثم كيف يقول إن الواجب فيها أن تكون غير متناهية، والمفهوم من هذا القول هو القول بقدمها أولاً، ثم القول بوجوبها على الله تعالى، ومعلوم أن القول بالواجبات على الله تعالى باطل، خصوصاً إذا كان ابتداء فعل من الأفعال، فقد يتصور أن يخلق الأمر على سبيل الجواز، ثم يطرأ أمر واجب على هذا الأمر، بعد ذلك، ولكن أن يقال: إن أمراً ما يجب أن يكون غير متناه فإنه يساوي القول بوجوب أن يخلق الله تعالى هذا الفعل، وهو شنيع جداً ، ورغم شناعة هذا القول فقد قال به ابن تيمية كما بيناه في تعليقاتنا على رسالة الإخميمي، وبينا هناك بعض لوازمه الفاسدة .

وأما قول ابن رشد هنا بأن ما على سبيل الدور فيجب أن يكون غير متناه، فيفهم منه أصالة أنه يجب أن يكون قديماً، ولكن قد يعدم لطارئ يعرض عليه فيما لا يزال .

ويفهم منه أن كونه على سبيل الدور علة لوجوب عدم تناهيه، أي قدمه، وهذا باطل، فالأمر سواءا كان على سبيل الدور أو على سبيل الاستقامة فإنه يكون ممكنا، ما دام غير الله تعالى، وإذا سلم ابن رشد أنه ممكن فيستحيل أن يكون واجب الوجود ، ومن ثم فيستحيل أن يكون قديماً .

أما إذا قال ابن رشد بأن هذا الأمر واجب أصالة على الله تعالى، فهذا قول باطل بنفسه، كما أشرنا إليك وكما هو معلوم من مباحث أصول الدين .

وأما قوله بعد ذلك: ((… وأما التي توجد على الاستقامة مثل كون الإنسان )) فهو قول لا معنى له، ولا معنى للتفريق بين الأمرين، إلا أن يريد بأن الأول الدوري مادته واحدة، وصورته متغيرة، وأما الآخر فإن كانت مادته واحدة رجع إلى الدوري، وإلا فلا فرق بينه وبين الدوري إلا في حصول المادة والصورة، ولكن كل من المادة والصورة، أمر مكن، فلا يجوز أن يكون ما هو ممكن علة في أمر واجب، بل إن هذا تناقض ، ولذلك قال ابن رشد في نهاية كلامه: (( فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلا لا نهاية له أن يفعل بآلات متبدلة أشخاصاً لا نهاية لهم )) ، فإن هذا قول منه بتجويز القول بالتسلسل بالصورة، ولكن بشرط عدم التسلسل بالمادة أيضاً، أي بالقول بقدم المادة، ولكن قد أشرنا إلى أنه لا فرق بين المادة والصورة في ذلك .

وبناءاً على هذا نتبين أن ابن تيمية قد خالف في قوله بالتسلسل النوعي للحوادث بمعنى أن المادة والصورة كلا منهما حادثة، قول ابن رشد أيضاً، ولا يشابه إلا قول بعض المتقدمين من الفلاسفة اليونان .

وقد يُفهم من كلام ابن رشد أن المادة والصورة إن كانتا حادثتين كلتاهما، فيجوز التسلسل في القدم فيهما معاً، وذلك مطابق لقول ابن تيمية، وهذا هو الأظهر في تفسير كلام ابن رشد كما كنا ذكرناه في تعليقاتنا على الإخميمي أن ابن رشد يفهم من كلامه القول بذلك أيضاً في بعض المواضع .

ولكن الحق من حيث النظر العقلي أنه لا فرق بين التسلسل الدوري والتسلسل الذي على الاستقامة، فإن كان أحدهما ممتنعاً فالآخر ممتنع، ولم يبين ابن رشد علة الامتناع هنا .

فإذا قال قائل: إنه بين ذلك بأن التسلسل على الاستقامة يلزم عليه التسلسل في العلل وهو باطل .

قلنا: والتسلسل الدوري يلزم عليه التسلسل في الشروط وهو باطل، والشرط جزء من العلة كما هو معلوم .

وأيضاً لو نظرنا إلى هذه الحالة من جهةٍ أخرى، لتحققنا عدم ووجد فرق حقيقي يستحق أن يكون علة للفرق في الأحكام المترتبة على هاتين الحالتين، نقصد بذلك ما كان على الدور وما كان على الاستقامة .

فالمثال الذي أوضحه ابن رشد للدور، هو مثال الغيوم والمطر، وكون المياه صاعدة من الأرض، أو الحركة الدورية، وما مثل به على الاستقامة فهو تولد الابن من والده، فلو نظرنا إلى هذين الأمرين لرأينا أنه حتى تولد الولد من الوالد فإنه يماثل تولد الأمطار من الأرض، فإن مادة الولد من الوالد، ومادة الوالد من والده، ومادة الجميع من الأرض، وكذلك فإن الأمطار من الأرض، والغيوم متكونة من تجمعات لهذه التبخرات المائية الحاصلة على سطح الأرض، ثم حين تسقط من الغيوم فإنها ترجع إلى الأرض، وكذلك فإن الولد يأكل من الأرض، وعندما يموت فإن مواده تتحلل وتنتشر في سطح الأرض، ثم يعود التولد الإنساني مرة أخرى .

إذن فإن ما صوره ابن رشد على أنه يكون على الاستقامة فإنه في الحقيقة يرجع إلى نفس باب ما كان على الدور، وبالتالي فإنه لا يجوز التفريق بينهما في الحكم، بأن يقال: هذا الدوري يجوز كونه لا بداية له، وما كان على الاستقامة لا يجوز !!

ولو قلنا باستحالة ما كان على الاستقامة، وهو محال، فإن علة الاستحالة ليست هي كونه على الاستقامة، بل علتها هي لزوم انقضاء عدد لا نهاية له للوصول إلى الفرد الحاصل في هذا الآن، وهذه العلة بعينها متوفرة في ما كان على سبيل الدور، فلم الفرق بينهما ؟!

فإن قيل: إن الفرق في أن الدوري مادته واحدة، وما كان على الاستقامة، مادته مختلفة .

قلنا: قد بينا أن هذا الفرق موهوم .

ولو كان المجال يتسع لمناقشة هذه الفكرة الرشدية الأرسطية اليونانية التيمية، لأتينا فيها بما يعجب الناظر، ولكننا نقتصر على إشارات هنا ، والله الموفق .


وقد وقع ابن رشد أيضاً في تهافتات عديدة أثناء مناقشته لطريقة الإمام الجويني للاستدلال على حدوث العالم، ولا أظن المجال مناسباً لذكر ما يرد عليه هنا، ولكن ما منعه من جواز كل العالم بسائر أجزائه، هو نفسه في حيز المنع، فالجائز يبقى جائزاً حتى بعد وجوده، هذا بالنظر لذات الجائز من غير التفات إلى ما يعرض عليه من خارج، وأما مع ذلك فقد يكون لازماً، ومحل كلام الجويني هو الأول لا الثاني، أي لا يجوز أن نقول: إن مراد الله حال إرادته له جائز الوجود بل هو واجب الوجود، ولكنه بالنظر إلى ذاته وفي نفسه الأمر، فهو جائز الوجود .

وهذا هو ما بنى عليه الجويني دليله، فالذي لا يسلم له هذا الدليل قد يقع في القول بوجوب ابتداء الخلق على الله تعالى، وهذا يستلزم كون الله تعالى موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار .

وأما قوله في ص57 : (( نقول فأما القضية الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث، فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء، فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائز أزليا، ومنعه أرسطو، وهو مطلب عويص، ولن نبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان )) اهـ .

أقول: ما دام الأمر عويصاً فكيف تجيز لنفسك أن تتخذه محلاً للتشنيع على من قال بأحد طرفيه ؟!

وما دام الأمر فيه خلاف قوي كما ذكرتَ وكما هو مشهور، فكيف تجيز لنفسك أن تشنع على الأشاعرة الذين صح عندهم أحد الرأيين وأقاموا الأدلة عليه .

إنه لا يجوز التشنيع إلا بناءاً على ادعاء البداهة، ولم يدعوا فيها البداهة، أو حتى إذا ادعوها فإنهم أقاموا على ذلك الأدلة، فإن البداهة بهذا المعنى تكون عبارة عن شدة وضوح القضية، و لا شك أن الأقرب إلى العقول أن الجائز لا بد أن يكون حادثاً، والمخالف لذلك هو الذي يلزمه الإتيان بالأدلة القوية، وهو الذي يستحق التشنيع، وأما المتكلمون فإنهم قالوا بحدوث الممكن، فكيف يستحقون ذلك ؟!!

ثم إن قول أفلاطون بجواز قدم بعض الجائزات، يقصد به المُثُلَ ، وقوله مردود عليه ولا دليل قوياً أقامه على هذا المطلب ، فكيف يجوز أن يكون مجرد هذا الخلاف الذي هو في الحقيقة ضعيف وليس قوياً ، لرجحان أحد طرفيه رجحاناً بيِّناً، كيف يجوز أن يكون ذلك الحال قاعدة للتشنيع كما فعل ابن رشد؟!

وفي أثناء كلام ابن رشد على الدليل الذي انتهجه الإمام الجويني في رسالته النظامية وقع في تهافتات عديدة وفاضحة، نبينها هنا لأهميتها ، فإن أبا المعالي اعتمد على هذه المقدمة المذكورة آنفاً، نعم أقام عليها الأدلة فلم يجعلها مسلمة كما أشرنا فيما قبل، وقد سبق أن تكلمنا على ما يخص ذلك .


ثم قال ابن رشد في أثناء توضيحه لكلام الجويني ص57: (( ثم أضاف إلى هذه أن العالم مماثل، كونه في الموضع الذي خلق فيه من الجو الذي خلق فيه، يريد الخلاء، لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء، فنتج عن ذلك أن العالم خلق عن إرادة. والمقدمة القائلة إن الإرادة هي التي تخص أحد المماثلين صحيحة، والقائلة إن العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها. ويلزم عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما، لأنه إن كان محدثا احتاج إلى خلاء )) اهـ .

كذا كلامه، والحقُّ أنّ فيه خللاً عجيباً وتهافتاً مريعاً، لا يلتفت إليه إلا من دقق النظر فيه .

وقد اغتر ابن تيمية أيضاً بهذا الكلام ، وأقام عليه قوله بالجهة الحقيقية والمكان العدمي خارج العالم، وظن نفسه أنه يناقض المتكلمين .

ولا بد لنا قبل الشروع في هذه المسألة من أن نبين حقيقة كلام المتكلمين فيها، ثم نذكر كلام الجويني، ونكمل تعليقنا بعد ذلك على ما قاله هذا الفيلسوف .


قال العلامة الشريف الجرجاني في شرحه على المواقف ص227 من المطبوعة في مجلد واحد، وذلك أثناء بيانه للأقوال في معنى المكان: (( ( الاحتمال الثالث ) في المكان (أنه البعد المفروض وهو الخلاء، وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان وليس ) أيضاً ( بينهما ما يماسهما ) فيكون ما بينهما بعداً موهوماً ممتداً في الجهات، صالحاً لأن يشغله جسم ثالث لكنه الآن خال عن الشاغل ( وجوزه المتكلمون ومنعه الحكماء ) القائلون بأن المكان هو السطح، وأما القائلون بأنه البعد الموجود فهم أيضاً يمنعون الخلاء بالتفسير المذكور، أعني البعد المفروض فيما بين الأجسام، لكنهم اختلفوا: فمنهم من لم يجوز خلو البعد الموجود عن جسم شاغل له، ومنهم من جوزه، فهؤلاء المجوزون وافقوا المتكلمين في جواز المكان الخالي عن الشاغل، وخالفوهم في أن ذلك المكان بعد موهوم، فالحكماء كلهم متفقون على امتناع المكان بمعنى البعد المفروض ( لما مرَّ من التقدر ) فإن ما بين الجسمين اللذين لا يتماسان قابل للتقدر بالتنصيف وغيره، ومتصف بالتفاوت مقيسا إلى ما بين جسمين آخرين لا يتماسان كما عرفته ولا شيء من المعدوم كذلك، فما بين الجسمين المذكورين أمر موجود، إما جسم كما هو رأي القائل بالسطح، وإما بعد مجرد كما هو رأي القائل به، وهذا الخلاف إنما هو في الخلاء داخل العالم بناءاً على كونه متقدراً قطعاً وأن تقدره هل يقتضي وجوده في الخارج أو لا .

( وأما ) الخلاء ( خارج العالم فمتفق عليه ) إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر ( فالنزاع ) فيما وراء العالم إنما هو ( في التسمية بالبعد فإنه عند الحكماء عدم محض ) ونفي صرف ( يثبته الوهم ) ويقدره من عند نفسه، ولا عبرة بتقديره الذي لا يطابق نفس الأمر، فحقه أن لا يسمى بعداً ولا خلاءًا أيضاً. ( وعند المتكلمين ) هو ( بعد ) موهوم كالمرفوض فيما بين الأجسام على رأيهم )) اهـ .

وقال العلامة التهانوي في الكشاف(1/289): (( وقيل حاصله أن المكان عند المتكلمين قريب من معناه اللغوي، ومعناه ما يعتمد عليه المتمكن، فإن ضمير هو راجع إلى المفهوم اللغوي بدليل أن المكان عندهم بعد موهوم لا أمر موجود، كالأرض للسرير، وأن الحيِّز غير المكان عندهم، فالحيز هو الفراغ المتوهم مع غير اعتبار حصول الجسم فيه أو عدمه كما قال الشارح الحرزباني، والمكان هو الفراغ المتوهم مع اعتبار حصول الجسم فيه، والخلاء هو الفراغ المتوهم الذي من شأنه أن يكون مشغولاً بالمتحيز،انتهى، يعني أن الخلاء هو الفراغ المتوهم الذي من شأنه أن يكون مشغولا والآن خال عن الشاغل، على ما هو رأي المتكلمين، وإلا يصير الخلاء مرادفاً للحيز، ولذا قيل إن الخلاء عندهم أخص من الحيز، لأن الخلاء هو الفراغ الموهوم مع اعتبار أن لا يحصل فيه جسم، والحيز هو الفراغ الموهوم من غير اعتبار حصول الجسم فيه أو عدم حصوله )) اهـ .

ولو تأملنا في العبارة الأخيرة فقط لكفى بيان الفرق بين الحيز والمكان وتبين بالضبط ما الذي يريده المتكلمون بالحيز .

وقد اضطررنا للنقل وإن كان طويلاً لأن كثيراً من الناس لا يعرفون بالضبط أقوال المتكلمين، ولندلل بعد ذلك بالاعتماد على كلام منقول وليس فقط معقولاً أو مخرجاً، حقيقة مذاهبهم .


ولنرجع الآن إلى نقد كلام ابن رشد ، فأما القسم الأول من كلامه فلا شيء فيه، ولا خلاف لنا معه .

وأما قوله عن المقدمة الثانية: (( القائلة إن العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها )) اهـ فإن هذا الكلام غير صحيح بالمرة، بل إنه عرض خبيث لكلامهم، ومن الغريب إنه يعتمد على مجرد هذا العرض الساذج لما قاله الإمام الجويني، ثم يشرع بإلزامهم بمثل هذه الإلزامات العريضة الخطيرة !!

والمفروض واللائق بمثل هذه المباحث أن يستقصي المرء عن حقيقة مذاهبهم قبل أن يتعرض لهم بكلمة، ولكن هذه هي الطريقة التي اتبعها ابن رشد في كتابه كله كما رأينا حتى الآن وكما سنرى فيما يلي .

فإن قولهم بالحيز لا يريدون به الحيز الوجودي، أي الفراغ الموجود، بل الفراغ المتوهم لا مع حصول جسم فيه، فلو تأمل في هذا القيد الأخير، فإنه نص صريح في أنهم يتكلمون عن الحيز المتوهم في العقول، كما لو تكلموا عن الحركة للشمس من الغرب إلى الشرق، فإن هذه الحركة في الحقيقة غير موجودة، بل متوهمة ولكنهم يجعلونها من الجائزات .

وهكذا فإنهم عندما يتكلمون عن أن العالم يمكن أن يوجد في حيز آخر غير هذا الذي وجد فيه، فإنهم يتكلمون عن حيز مفروض متوهم لا أمر موجود في نفسه .

فمن هذه الملاحظة السريعة بعد ما نقلناه، يتبين لك مدى تهافت ابن رشد في هذا الموضع .


وأما قوله بعد ذلك: (( ويلزم عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديماً )) فهو مجرد استمرار في المغالطة السابقة، فلما عرفنا نحن أنهم لا يريدون بالخلاء الفراغ الموجود، فكيف يلزمهم هذا اللازم الشنيع ؟!

ويستمر ابنُ رشد في مثل هذا النقد! الغرائبي العجائبيّ فيقول في مقام الكلام على الإرادة في بعد أن يعترض على قولهم بأن الإرادة قديمة، ص58: (( فإذا لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة، لوجب أن يكون المراد محدثا ولا بدَّ، والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور، ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة )) اهـ .

فابن رشد ينفي إذن أن يكون ثم دليل شرعي على قدم الإرادة الإلهية، وهو يميل إلى القول بأنها حادثة فقال: (( بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة )) اهـ وكأنه كان يريد أن يقول: إن الشرع صرح بحدوث الإرادة، ولكنه غير عبارته !!

ثم قالL( بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا بقدم، لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر، وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة قيام إرادة حادثة في موجود قديم )) اهـ .

والحق أن هذا الكلام كله، ساقط لا قيمة له، فكون الشرع لم يصرح بذلك لا يعني أن هذا الذي قاله المتكلمون ليس بحق، فكثير من أصول الدين قد استنبطها المتكلمون بإشارة القرآن وليس بنصه الصريح .

وأما قوله إنه لا يوجد لديهم دليل قطعي على ذلك، فهو باطل، بل هو مجرد ادعاء، وقد مرَّ الكلام على بعض ما يتعلق بذلك عند الكلام على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وسيأتي بتوفيق الله تعالى بقيته عند الكلام تفصيلاً على صفات الله تعالى ومنها الإرادة .

وتأمل إلى ابن رشد كيف يميل إلى أن الله تعالى متصف بإرادة حادثة، أو - على الأقل- إن إرادة الله تعالى حادثة حتى من دون لفت النظر إلى كونها صفة له أو غير ذلك .

وهذا الأمر الذي يسعى إليه هذا الرجل من أصول مذهبه، لأنه إذا سلم للمتكلمين أن إرادة الله تعالى قديمة، ومع ذلك يصدر عنها أمر محدث، انهدم جميع مذهبه ومذهب أرسطو، كما أشرنا غير مرة، ولذلك تراه يصرح أن القول بالإرادة الحادثة أمر حادث .

واعلم أن ابن تيمية قد اغتر بهذا القول بل وتابعه عليه، وصرح بأن القول بالإرادة الحادثة أمر مبتدع .

والفرق بينهما أن ابن تيمية يصرح بالقول بأن إرادة الله تعالى حادثة وقائمة فيه، فهي حادثة بالشخص وقديمة بالنوع عنده بناءاً على قاعدته المشهورة، وأما ابن رشد فإنه كما رأينا يختبئ وراء الألفاظ .

وابن تيمية عندما يقول بذلك فإنه متوافق تماماً مع مذهبه في التجسيم أي مع القول بأن الله تعالى جسم مجسم، ومتصف بالصفات الحادثة الطارئة والمتجددة، وأما ابن رشد فإنه متوافق تماماً مع مذهبه بأن للشريعة ظاهراً ومؤولاً، وأن المؤول مغاير للظاهر، وأن الظاهر ملائم للعوام والمؤول ملائم للخواص !! وهذا كله محض تحكم .

وأما المتكلمون فإنهم كما وضحنا مذهبهم أولاً، يرون أن الشريعة نزلت على مراتب في التفصيل والإجمال، لا على مراتب ظاهرة وباطنة، فالمعنى بين المجمل والمبين واحد، والاختلاف عارض من حيث حذق الإنسان له لا غير. ومن هنا كان مذهب الأشاعرة أعدل المذاهب .


وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام على المسألة الأولى من المسائل التي تكلم عليها ابن رشد في هذا الكتاب، ونكون قد أوضحنا أصولاً كبيرة في طريقته، ويتضح للقارئ العادل مدى المغالطة التي تلبس بها في كلامه .

ونحن في المسائل اللاحقة سوف نزيد من بيان هذا الأصل من خلال مناقشتنا لكلامه فقرة فقرة.

وسوف لن نتكلم على أدلته التي أوردها كبديل عن أدلة المتكلمين، وذلك لأن هدفنا من هذا النقد المختصر إنما هو بيان مدى تجنيه على الأشاعرة خاصة، وأما هذا المطلب فسوف نخصص له محلاً لائقاً مع تفصيل لما هنا إن يسر الله لنا الزمان الكافي لذلك بفضله .


المسألة الثالثة:الوحدانية


وقد تكلم ابن رشد على دليل الوحدانية كما يراه، ووجهه على حسب ما يريده، ونحن هنا لا نريد توجيه همنا إلى نقد نفس أدلة ابن رشد، ولكن مرادنا بيان ما وقع فيه من مغالطات أثناء نقده لكلام الأشاعرة .

ثم شرع بعد ذلك في مقصوده من نقد دليل الممانعة المشهور الذي اعتمده الأشاعرة، يريد محاولة بيان عدم برهانيته.

فقال في ص67: (( ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا قياساً على المريدين في الشاهد، يجوز أن يتفقا، وهو أليق بالآلهة من الخلاف، وإذا اتفقا على صناعة العالم، كانا مثل صانعين اتفقا على صنع مصنوع )) اهـ .

يريد أنه كما يجوز خلافهما يجوز أيضاً وفاقهما، والوفاق يتحقق هنا في صور، وهي أن يتفقا على أن يخلق كل واحد منهما قسماً من العالم، أو أن يتفقا على أن يكون واحد منهما آمراً والآخر ناهياً مثلاً، أو غير ذلك من الصور .

وحاصلها يعود إلى أن الإله الواحد يخصص من عموم تعلقات إرادته وقدرته في بعض الموجودات دون البعض، وحاصل ذلك أن يكون الواحد منهما مطيعاً للآخر في ناحية من النواحي، هذا هو حاصل الاعتراض الذي أورده ابن رشد هنا .

وقد نسي ابنُ رشد أنه في الصفحة السابقة عندما كان يقرر دليله هو على الوحدانية، قال: (( وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان، كل واحد منهما فعله فعل صاحبه، فإنه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد فيجب ضرورة إنْ فعلا معاً فعلاً واحداً أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكون أحدهما يفعل وينهى الآخر، وذلك منتف في صفة الآلهة، فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة )) اهـ، فإن هذا الكلام يناقض ما ذكره في الاعتراض السابق، كما تراه بعينك، فإنه هناك أجاز الاتفاق، وهنا قال إن الاتفاق لا يليق بصفات الإلهية !!

ولك أن تتعجب من هذا التناقض ما شئت، ولكنه كما أراه متفق مع طريقة وأهداف ابن رشد في هذا الكتاب، كما وضحناه لك أكثر من مرة .

ثم إن ابن رشد قد نسي أن الإله لا يجوز عليه التخصيص، سواء كان هو المخصص لنفسه أو كان غيره هو المخصص له أو لصفة من صفاته، وهو في اعتراضه السابق أجاز أن يخصص الإله إرادته ليتفق مع الإله الآخر، وهذا باطل، لأن التخصيص علامة الإمكان، كما هو ظاهر، والإمكان والإلهية لا يجتمعان .

وقد أشار العديد من العلماء إلى احتمال أن يتفقا وأتوا بالأدلة على انتفاء أن يقدح ذلك الاحتمال في دليل الوحدانية وعدم تأثيره، واستحالته في نفسه، وذكروا ذلك بطرق عديدة، منها ما أورده الإمام العلامة التفتازاني في شرحه على النسفية فقال في ص86: (( ( الواحد ) يعني أن صانع العالم واحد، ولا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة، والمشهور في ذلك بين المتكلمين برهان التمانع المشار إليه بقوله تعالى: (( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا )، وتقريره أنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه، لأن كلا منهما في نفسه أمر ممكن، وكذا تعلق الإرادة بكل منهما، إذ لا تضاد بين الإرادتين بل بين المرادين، وحينئذ إما أن يحصل الأمران فيجتمع الضدان، أو لا فيلزم عجزهما، أو يحصل أحدهما فيلزم عجز أحدهما وهو أمارة الحدوث والإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج. فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون محالاً.

وهذا تفصيل ما يقال إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر، لزم عجزه وإن قدر لزم عجز الآخر. وبما ذكرنا يندفع أنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع أو أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكنة لاستلزامها المحال أو أن يمتنع اجتماع الإرادتين إرادة الواحد حركة زيد وسكونه مثلاً )) اهـ .

فهذا هو الدليل الذي وجَّه ابنُ رشد همه إلى تضعيفه وإيراد الشكوك عليه، وتأمل كيف هدم التفتازاني الشك الذي اعتمد ابن رشد عليه وبين تهافته بكل يسر وسهولة .

وقد نص على انهدام هذا الإيراد والتشكيك في نفسه الإمام العلامة الشيخ الدردير في شرحه على خريدته في علم التوحيد في ص 24: (( فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون التعدد محالا، وبما ذكر اندفع ما يقال إنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع، وحاصل الدفع أن الإمكان محال وإن لم يقع تمانع بالفعل )) اهـ .

أي إنه يكفي في قيام الدليل على الوحدانية أن يستلزم فرض إله آخر إمكان المحال وهو إمكان التمانع، ولا يجب لصحة دلالته أن يكون دالاً على وقوع التمانع بالفعل، فافهم .

وقد ذكرتُ في تهذيب شرح السنوسية خلاصة هذا الدليل على صورة حسنة واضحة وها أنا أنقلها إليك الآن:

(( لو كان معه مماثل في الألوهية للزم عجزهما سواءاً اتفقا أو اختلفا أو اقتسما، فكل من هذه الأقسام، إماأن يكون اضطرارياً أو اختيارياً، فإن كان اضطرارياً لزم قهرهما وعجزهما فينتفي العالم، ونفي العالم محال .

وإن اتفقا اختياراً فيتعرض لهما جوهر فرد فإن أوجداه معا لزم انقسام ما لا ينقسم وهو محال، لأن الجوهر الفرد لا يقبل الانقسام .

وإن أوجد أحدهما عين ما أوجده الآخر لزم تحصيل الحاصل وهو محال .

وإن أوجده أحدهما وعجز الآخر، فالآخر ليس بإله لأنه عجز والإله ليس بعاجز، والذي قدر على فعله أيضاً ليس بإله لأن الفرض أنه مثل للآخر، ومثل العاجز عاجز.

وإن عجز الاثنان فهما ليسا بإلهين، وإذا لزم عجزهما عن إيجاد هذا الجوهر لزم عجزهما عن سائر الممكنات لأنه لا فرق بين ممكن وممكن .

وإن اختلفا بأن يريد أحدهما حركة جسم في زمان واحد ويريد الآخر سكونه في ذلك الزمان بعينه، فلا يصح أن يحصل مرادهما لما فيه من الجمع بين الضدين ولا يصح عدم مرادهما لما فيه من ارتفاع الضدين مع قبول الجسم لهما، ولا يصح أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر لأن عجز أحدهما دليل على عجز الآخر لأنه مثله .

وإن اقتسما اختياراً لزم عجز كل واحد منهما مما عند صاحبه لأن شرط الإله يجب أن تكون قدرته عامة التعلق بجميع الممكنات .

ومن هذا البرهان تعلم أن الإله واحد )) اهـ .

ومن هنا تعلم أن المبالغة التي قام بها ابن رشد في سبيل التشكيك في هذا الدليل، لم تكن مبنية على أسس عقلية حسنة، بل على دوافع أخرى سبق أن أشرنا إليها، فتأمل !!


ثم قال ابن رشد في ص68: (( فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله تعالى: (( ولعلا بعضهم على بعض )) من جهة اختلاف الأفعال فقط، بل ومن جهة اتفاقهما، فإن الأفعال المتفقة تتعاون في ورودها على المحل الواحد )) اهـ .

أقول: إن المتكلمين وضحوا كما ذكرنا أن دليل التمانع يجري في حال التوافق وفي حال التمانع، وكلام ابن رشد هذا إنما خرج منه عندما جهل ما الذي قرره المتكلمون، وقد أوضحناه نحن لك سابقاً، فيبين لك تهافته هنا .


فائدة: ولئلا يعتقد أحد مغتراً بكلام ابن رشد أن الأشاعرة الذين عرفوا وجه الرد على حالة الاتفاق المفترضة هم المتأخرون فقط، فإننا نورد لك الآن بعض ما قاله المتقدمون في إبطال حالة التوافق المفترضة هذه .

قال الإمام الباقلاني في كتاب الإنصاف ص50 بعد أن أورد دليل التمانع: (( فإن قيل: فيجوز أن لا يختلفا في الإرادة .

قلنا: هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك لقول أحدهما لآخر لا تُرِدْ إلا ما أريد، فيصير أحدهما آمراً والآخر مأموراً، والمأمور لا يكون إلهاً، والآمر على الحقيقة هو الإله .

أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ولو كان كذلك دل على عجزهما، إذ لم يتم مراد واحد منهما إلا بإرادة الآخر معه .

وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله إلا واحداً على ما قررناه )) اهـ .


وكذلك فقد قرر امتناع التعدد بناءاً على تجويز التوافق في الإرادة الإمام الجويني أيضاً في كتاب الإرشاد، فقال في ص53: (( فإن قيل: رتبتم هذه الدلالة على اختلاف إرادتي القديمين، فبم تنكرون على من يعتقد قديمين يريد كل واحد منهما ما يريده الآخر؟

قلنا: هذه الدلالة مطردة على تقدير الاختلاف كما قررناه، وهي مطردة أيضاً على تقدير الاتفاق، فإن إرادة تحريك الجسم من أحدهما مع إرادة الثاني تسكينه ممكنة غير مستحيلة، وكل ما دل وقوعه على العجز والاتصاف ببعض القصور دل جوازه على مثله، والدليل عليه أن من اعتقد جواز قيام الحوادث بالقديم، ملتزماً ما يفضي إلى الحكم بحدثه، نازل منزلة من يعتقد قيام الحوادث به وقوعا وتحققاً، والجاري من أحد المحدثين في تنفيذ إرادته المتصدي لأن يمنع عرضة للنقص، كالمصدود عما يريده حقا بتسوية بين من يجوز ضده وبين من اتفق رده )) اهـ .


وأيضاً فقد رد ذلك الاحتمال الإمام الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد، فقال في ص 107وذلك بعد أن أبطل احتمال أن يقتسم الإلهان الكون فيوجد واحد منهما قسماً ويوجد الثاني القسم الآخر: (( فإن قيل: مهما أراد واحد منهما خلق جوهر ساعده الآخر على العرض، وكذا بالعكس .

قلنا: هذه المساعدة هل هي واجبة لا يتصور في العقل خلافها فإن أوجبتموها فهو تحكم بل هو أيضاً مبطل للقدرة، فإن خلق الجوهر واحد كأنه يضطر الآخر إلى خلق العرض، وكذا بالعكس فلا تكون له قدرة على الترك ولا تتحقق القدرة مع هذا .

وعلى الجملة فترك المساعدة إن كان ممكناً فقد تعذر العقل وبطل معنى القدرة، والمساعدة إن كانت واجبة صار الذي لا بد له من مساعدة مضطراً لا قدرة له )) اهـ .

وكذلك فقد رد على ذلك الإمام الشهرستاني في كتابه نهاية الإقدام .

فهذه نصوص صريحة تدل على أن الأئمة المتقدمين كالمتأخرين تنبهوا إلى هذا الاحتمال وردوه، كل واحد منهم رده بأسلوبه الخاص، وأدلتهم على ذلك قطعية للمتأمل، وللقارئ بعد ذلك أن يتعجب من ابن رشد كيف يدعي أن الأشاعرة لم ينتبهوا إلى ذلك الاحتمال، أو إنهم لم يستطيعوا الردَّ عليه، فهل هذا إلا مقارب للكذب والتدليس عليهم ؟!

واعلم أن المتكلمين قد فهموا من الآية ( لو كان فيهما آلهة ..) دليلين وليس دليلاً واحداً على التوحيد، الأول من الإشارة، والثاني من العبارة .

فالذي من الإشارة هو دليل التمانع، وهو الذي سبق أن وضحناه لك، وأما الذي من الإشارة، فهو يعتمد على أن الآلهة المتعددة يجب عادة أن تختلف، واختلافها يجب أن ينتج عنه فساد العالم ولو بعد وجوده .

وقد أشار العلامة الدسوقي في حاشيته على شرح أم البراهين إلى هذين الدليلين، فوضح أن الدليل لو أقيم على أساس انتفاء العالم وفساده ولو بعد وجوده، كان دليلاً إقناعياً، أما لو أقيم بناءاً على أن التعدد ينتج عنه عدم وجود العالم أصلاً فإنه يكون قطعياً لا خطابياً، فقال في ص163: (( وهذا البرهان هو المشار إليه بقوله تعالى: (( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا )) وهو دليل قطعي لا إقناعي خلافا للسعد، حيث قال: إنه إقناعي، وهو مبني على أن المراد بالفساد اختلال نظامهما، وأما لو قلنا إن المراد بالفساد عدم الوجود أصلا كان الدليل إقناعيا )) اهـ .


وأما قول ابن رشد في ص68: (( وقد يدل على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية ليس هو الدليل الذي تضمنت الآية، أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه الدليل المذكور في الآية )) اهـ .

كذا قال، والحقيقة الواضحة أن المتكلمين قد فهموا دليلين كما وضحناه له سابقاً، والمحال اللازم من الدليل المذكور من الآية هو فساد العالم، وفساد العالم يصدق بعدم وجوده أصلاً، أو بفساده واختلال أركانه ولو بعد وجوده، وهذان اللازمان يلمان عن دليلي المتكلمين .

والحقيقة البينة بعد النظر في الآية أن الآية ناظرة إلى العالم في هذا الآن، وملاحظة وجوده، وانتظامه، ثم وبعد استحضار هذه الحالة، تفرض أنه يوجد إلهان، فالحاصل بعد هذا الفرض في تلك الحالة، هو فساد العالم، وفساد العالم في تلك الظروف والأحوال، يحتمل كلا من اللازمين المحالين، وهما اختلال أركان النظام في العالم، والثاني انعدامه أصلا. وأنت تعلم الآن أن اللازم الثاني هو المحال اللازم من دليل التمانع المأخوذ بالإشارة، واللازم الأول هو المحال اللازم من الدليل المأخوذ من العبارة، وكل هذا قد وضحه المتكلمون ولم يحم حوله ابن رشد ولا غيره .

وقد أودع ابن رشد في هذه المسألة كثيراً من مغالطاته التي قد تخفى على كثير من الناظرين في كتابه هذا، ولكننا اكتفينا بإبراز هذه الأمور السابقة، لتكون تنبيهاً للنبيه، وكاشفة لغيرها من المفاسد المودعة فيه .

المسألة الرابعة:في الصفات

أولا :العلم


أنت تعلم أن المتكلمين من الأشاعرة قد قالوا بأن الله تعالى يعلم الأمور كلها بعلم واحد، فالعلم من حيث هو صفة قائمة بالله تعالى واحد، ولكن تعلقاته لا نهاية لها، فعلمه تعالى قديم مطلقاً .

وابن رشد له كلام غريب في ذلك، فإنه يقر بأن العلم قديم ولكنه يقول في ص70: (( لكن ليس ينبغي أن يتعمق في هذا فيقال ما يعول عليه المتكلمون أنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم، فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت عدمه، وفي وقت وجوده واحداً وهذا أمر غير معقول )) اهـ .

وادعاؤه بأن ذلك غير معقول ادعاء باطل، فإن العلم من حيث هو صفة أمر واحد لا تعدد فيه، ولكن تعلقات العلم متعددة، فالعلم يتعلق بالأمر قبل وجوده تعلقاً معيناً، ويتعلق بالأمر بعد وجوده تعلقاً ثانياً، فالعلم واحد والتعلقات متعددة .

فالقول بأن كون العلم واحداً قبل وبعد المحدث غير معقول هو عينه غير معقول .


ولنتأمل الآن في السبب الذي من أجله قال ابن رشد بأن ذلك غير معقول، فقد قال كما في ص71 مباشرة بعد كلامه السابق: (( إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعاً للموجود، ولما كان الموجود تارةً يوجد فعلاً وتارة يوجد قوةً، وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفاً إذا كان وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل )) اهـ .

فإنْ قصَدَ ابنُ رشد أن العلم نفسه يجب أن يتغير بعد وجود المحدث المعلوم وقبل وجوده، فهو أمر باطل وقد بينا أنه لا يجب أن يتغير كما مر لأن التعلقات هي التي تتعدد وليس العلم .

وإنْ قصَدَ إن العلم بالمحدث قبل وجوده لا يمكن أن يكون عين العلم به بعد وجوده، فمسلم، ولكن من قال إنهما أمر واحد ؟!

ونقصد بعدم الوحدة هنا عدم وحدة التعلقات بعد وجود المحدث وقبل وجوده، أما العلم الذي هو صفة فواحدة لا تتعدد ولا تتغير .


وتأمل كيف يبالغ ابن رشد في الغلط في قوله بعد ذلك: (( وهذا شيء لم يصرح به الشرع، بل الذي صرح به خلافه، وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها كما قال تعالى: (( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا يابس إلا في كتاب مبين )) اهـ .

كذا ادعى ابن رشد، ولكن المتأمل في الآية الكريمة يعرف تماماً أنها لا تدل على أن علم الله تعالى يكون حين سقوط الورقة، أي إنها لا تدل على أنه تعالى لا يعلم السقوط لورقة قبل سقوطها، فالله تعالى يعلم متى تسقط كل ورقة فيما لا يزال منذ الأزل، وحاصل ما في الآية أنها تقول إن الله تعالى يعلمها، والفعل المضارع ليس نصاً في المستقبل ولا في الحاضر، بل هو يدل على مطلق ثبوت الفعل، خاصة في هذه الآية، أي إن المعنى يكون: إن الله تعالى يعلم ذلك، وعلمه تعالى بذلك ليس مقيداً بكونه عالماً بذلك الآن فقط أو إنه كان منذ الأزل عالماً بذلك ولا يزال، والأكمل أن يحمل الفعل المضارع على الاستمرار والدوام، كما هو ظاهر .

وما دام الأمر كذلك فكيف يجرؤ ابن رشد على القول بأن الله تعالى يعلم الشيء لا منذ الأزل بل حين حدوثه ؟!

أليس هذا مجرد تعنت للوصول إلى مخالفة الأشاعرة ؟

ثم تأمل في قوله تعالى: (( إلا في كتاب مبين )) لتعلم أنه أراد جل شأنه أن يبين أن ذلك كله كان الله تعالى عالماً، وعبر عن ذلك بقوله: (( في كتاب مبين ))، وهو اللوح المحفوظ، أو علمه الأزلي .

والكتاب في أصل اللغة المجموع، فدل ذلك على أن علمه تعالى بذلك مجموع منذ الأزل وليس متفرقاً يأتي شيئاً بعد شيء .


وأما ادعاؤه بعد ذلك أن المتكلمين ما قالوا بذلك إلا لأنهم يعتقدون بامتناع حلول الحوادث في الله تعالى، لأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث، قال: (( وقد بينا نحن كذب هذه المقدمة )) اهـ .

أقول: إنه في الحقيقة لم يبين إلا بعض التشكيكات السخيفة التي لا يهتم بها إلا المبتدئون في هذا العلم، ونحن قد تكلمنا على هذه المسألة أثناء مناقشته في حدوث العالم .


ثم بالغ في هذا الكلام وقال: (( ولا يقال إنه يعلم حدوث المحدثات وفساد الفاسدات لا بعلم محدث ولا بعلم قديم، فإن هذه بدعة في الإسلام )) اهـ .

أقول: هذا مجرد تهافت من ابن رشد، فإنه إذا أثبت أن لله تعالى علماً، فإنه يجب عليه أن يبين فيما إذا كان يعتقد قدمه أو حدوثه، فإن الأمر لا ينفك عن أن يكون إما حادثاً أو قديماً، أما أن يقال لا يجوز التصريح بأي منهما، فذلك الكلام باطل لا أساس له .

فلنفرض أحد المتشككين سأل عن علم الله تعالى هل هو قديم أو حادث ؟ هل ترى أن من الحكمة أن نقول له: لا قديم ولا حادث، أو إن نسكت ولا نجيبه بأي من هذين الاحتمالين ؟

إن هذا التصرف في مثل هذه الحال لا يكون إلا دليلاً على الضعف والجهل .

ولا يجوز لابن رشد أن يدعي إن السكوت هنا إنما هو مجرد موقف يقفه العلماء إذا سألهم العامة عن ذلك، لأن الكلام إنما هو عن الأمر في نفسه، فلا بد أن يكون إما قديماً أو حادثاً، ومسألة الظاهر والباطن للشريعة أو الظاهر والمؤول فإنما هي كلام فارغ لا قيمة له في نفس الأمر، كما بينا في المسألة الأولى .

وأما قوله إن الجواب بأحد الأمرين بدعة، فهو كلام مردود، فالبدعة إنما هي الأمر الذي يخالف قواعد الإسلام، ومعانيه التي بينها، وأما القول بأن علم الله تعال قديم وليس بحادث، فكيف يخالف ذلك، بل هو مبين لحقيقة معاني الدين، فقوله: إنه بدعة هو البدعة .


ثانياً: الحياة


لم يخالف ابن رشد المتكلمين في إثبات صفة الحياة وفي كونها شرطاً لصحة الاتصاف بالعلم، ووافقهم في القاعدة التي قرروها وهي أن الشرط يجب أن ينتقل فيه الحكم من الشاهد إلى الغائب .


ثالثاً: الإرادة


يسلم ابن رشد بأصل الإرادة، أما أن تكون الإرادة قديمة، فإنه يقول: إن هذا القول بدعة، ومقصوده بالبدعة هو الأمر الذي يخالف الدين، وليس الأمر الذي لم ينطق به السلف، وشتان بين المفهومين .

ويدعي أن كون الإرادة قديمة ((شيء لا يعقله العلماء ولا يقنع الجمهور )) كما في ص72 !!

واقترح البديل بأنه ((ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه )) اهـ .

وكلامه يعني أن إرادة الله تعالى حادثة في وقت حدوث المحدَثِ، لا قبل ذلك .

ويجب على القارئ أن يتنبه أن ابن رشد لا يقول هو بحلول الحوادث من مثل الإرادة والعلم وغير ذلك في الذات الإلهية، وغاية ما يقول به أن المتكلمين لا يملكون دليلاً على نفي ذلك، بل إنه يقول: إن هذا المعنى يجب أن يلقى على العوام، لأنهم لا يقدرون على خلافه، وأما العلم القديم والإرادة القديمة، فإنه يكتفي بمجرد الاعتراض عليهما، ويدعي أن الشريعة جاءت على خلاف ذلك، وأن الجمهور لا يفهم ذلك .


رابعاً: الكلام


وأما رأي ابن رشد في الكلام، فقد أكثر فيه من الغرابة، فإن أصل الكلام عنده كما قال: (( فإن قيل: فصفة الكلام له من أين تثبت له ؟ قلنا: ثبتت له من قيام صفة العلم به وصفة القدرة على الاختراع، فإن الكلام ليس شيئاً أكثر من أن يفعل المتكلم فعلاً يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه، أو يصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه، وذلك من جملة أفعال الفاعل )) اهـ .

هكذا يوضح ابن رشد هذه المسألة الخطيرة، فإنه يبدأ بالكلام على أمر سماه صفة، ثم يجيب السائل بجواب فيه كلام على أمر هو في الحقيقة وصف وليس صفة، فالفعل ليس عبارة عن معنى قائم في الفاعل، بل هو عبارة عن محدَثٍ قائم في نفسه أو في غيره من المفعولِينَ، ولا يقال على الفعل إنه صفة، بل يقال على المعنى القائم في الذات إنه صفة، وأما الفعل، فإن العقل الإنساني إذا لاحظ صدوره عن الفاعل، فإنه يشتق للفاعل وصفاً اعتبارياً يسميه فعلاً، وهذا الفعل في الحقيقة ليس قائماً في الفاعل، بل هو عبارة عن إضافة بين الفاعل والمفعول، أي ليس أمراً موجوداً بنفسه .

وهكذا فابن رشد عندما قال إن الكلام عبارة عن فعل، وأجاب بذلك عن سؤال السائل عن صفة الكلام، فإنه يكون قد وقع في مغالطة صريحة، أساسها الذي بينَّاه سابقاً .

ثم إن قوله: إن الكلام ثبت لله تعالى من قيام صفة العلم به والقدرة، معناه أن الكلام إنما ينسب إلى الله تعالى عندما يفعل بقدرته فعلاً دالاً على علمه القائم بنفسه، فالكلام من حيث وجوده صادر أصالة عن القدرة، لا عن العلم، وهو من حيث النظر إلى دلالته معبر عن العلم لا عن القدرة، فافهم ذلك ولا تغتر بكلامه هنا فإنه متهافت .


ثم قوله بعد ذلك في ص73: (( والأشاعرة قد نفوا أن يكون المتكلم فاعلاً للكلام )) اهـ .

أقول: هذا الكلام خطأ هكذا، بل إن الأشاعرة بعد أن نظروا نظراً عقلياً، عرفوا نوعين من أنواع الكلام: الأول كلام قائم في النفس، وهذا لازم للنفس بمجرد كونها عالمة حية، وهذا الكلام هو الصفة القائمة في الذات، والثاني كلام هو في الحقيقة فعل للذات، تدل به الذات غيرها على الكلام القائم فيها، وهذا الكلام ليس صفة بل هو فعل للذات.

ثم قالوا: الكلام النفسي الذي هو صفة لله تعالى لا يكون حادثاً، والكلام الذي هو فعل لله تعالى دالٌّ على كلامه النفسي، لا يكون إلا حادثاً .

فالحاصل أن الأشاعرة قد قالوا بأن الله تعالى فاعل للكلام الذي هو فعل دال على كلامه النفسي، وليس فاعلاً للكلام النفسي القائم بذاته، لأن صفاته لا تكون مفعولة، وبذلك يتبين لك أن ما صرح به ابن رشد غلط محض .

وقد قال ابن رشد عن كلام النفس الذي قالت به الأشاعرة في ص74: (( والأشعرية تتمسك بأن من شرطه –أي الكلام([3])- أن يقوم بالمتكلم )) اهـ .

أي إن من شرط الكلام مطلقاً أن يقوم بالمتكلم، ويدخل في ضمن توضيح ابن رشد – على زعمه – لمذهب الأشاعرة كلٌّ من نوعي الكلام، أعني النفسي واللفظي، ولذلك أكمل ابن رشد قائلاً: (( وهذا صحيح في الشاهد في الكلامين معاً، أعني كلام النفس واللفظ الدال عليه. وأما في الخالق، فكلام النفس هو الذي قام به، فأما الدال عليه فلم يقم به سبحانه )) اهـ .

فإن كان هذا الكلام تكملة لتوضيح كلام الأشاعرة من ابن رشد، فهو صحيح مطلقاً، وإن كان هذا الكلام تعليقاً من ابن رشد على كلام الأشاعرة، فهو اعتراض عليهم، ومعنى ذلك أنه يخالفهم فيه، أي إنه لا يقول به، أو ببعضه .

ولنعرف جهة مخالفته لهم، نكمل لك كلامه، فقد قال: (( فالأشعرية لما شرطت أن يكون الكلام بإطلاق قائماً بالمتكلم، أنكرت أن يكون المتكلم فاعلاً للكلام بإطلاق، والمعتزلة لما شرطت أن يكون فاعلا للكلام بإطلاق، أنكرت كلام النفس، وفي قول كل واحدة من الطائفتين جزء من الحق وجزء من الباطل على ما لاح لك من قولنا )) اهـ .

يعني من هذا الكلام كله، أن الأشاعرة أخطأت عندما نفت كون المتكلم فاعلاً للكلام بإطلاق، فالحق إذن عند ابن رشد أن المتكلم فاعل للكلام بإطلاق، ومعنى بإطلاق أن كل ما هو كلام فالمتكلم يفعله، أي إنه فعل للمتكلم .

هذا هو حاصل قول ابن رشد، ولكننا نعلم أن هذا الكلام باطل، وذلك للفرق بين الكلام النفسي وبين الكلام اللفظي الفعلي .

وأما المعتزلة عند ابن رشد فإنهم قد أخطأوا أيضاً عندما أنكروا الكلام النفسي، على الإطلاق، ومعنى ذلك عند ابن رشد أنه لا يجوز إنكار الكلام النفسي على الإطلاق، ولكننا نعلم أن الحقيقة أن كلام ابن رشد هو نسخة تامة من كلام المعتزلة، لا يفترق عنهم بشيء، فاعتراضه عليهم إنما هو اعتراض بارد، لا قيمة له .

وابن رشد يريد أن يقول من هذه العبارة الأخيرة أنه لا ينفي الكلام النفسي، ولكن الصحيح أنه ينفيه بإطلاق، وذلك لأنه قد عرف الكلام كما سبق بأنه فعل الفاعل، والكلام النفسي ليس فعلاً أصلاً، فكيف يكون قائلاً به .

وأما الذي قال به ابن رشد فهو العلم القائم بذات الله تعالى، والعلم ليس هو الكلام كما تعلم للفرق الواضح بعد قليل من النظر بين العلم والكلام، وإذا أوهم ابن رشد بأن العلم القائم بالذات هو عين الكلام النفسي فإن هذا يكون تهافتاً وتدليساً منه على الجمهور، وهذا كله واضح .

وبعد ذلك كله يتبين لك مدى المغالطات التي وقع فيها ابن رشد، ولعله لما رأى قوة كلام الأشاعرة في إثبات الكلام النفسي، لم يستطع أن يخالفه تماماً، ولما رأى قوة كلام المعتزلة في الكلام اللفظي، لم يستطع أن يخالفهم، ولم يحقق الحق في هذه المسألة، فدار حول الرأيين، ولم يجزم بأحدهما فوقع في هذه المغالطات والسقطات الشنيعة .

والحق الذي أوضحه العلماء في علم الكلام، أن الكلام النفسي ثابت، وأن الذي قال به المعتزلة من حدوث الكلام اللفظي حق، لا يجوز أن يخالفه أحد، وقد قال به الأشاعرة .

ولكن الكلام النفسي الذي نفته المعتزلة لا يجوز أن يُتابَعوا عليه، بل إنهم – أي الأشاعرة - قد خالفوا المعتزلة في النفي وزادوا عليهم في الإثبات، فاعلم ذلك ولا تشرد بخيالك .


خامساً: السمع والبصر


وفي كلام ابن رشد على السمع والبصر أرجع هاتين الصفتين إلى صفة العلم، ومع أن هذا مخالف لظاهر الشريعة إلا إنه قال به، وجحد الظاهر، وادعى أن الأمر على الصورة التي ادعاها هي التي يجب إلقاؤها إلى الجمهور، فقال لما تكلم على السمع والبصر في ص74: (( وجب أن يكون له هذان الإدراكان، فواجب أن يكون مدركاً لكل ما في المصنوع، وجب أن يكون له هذان الإدراكان، فواجب أن يكون عالماً بمدركات البصر، وعالماً بمدركات السمع، إذ هي مصنوعات له )) اهـ .

فأرجع السمع والبصر كما ترى إلى العلم، وهذا مع أنه مخالف لظاهر الشريعة إلا أنه قال به ثم قال في نهاية كلامه على هذه المسألة: (( فهذا القدر مما يوصف به الله سبحانه ويسمى به هو القدر الذي نص الشرع أن يعلمه الجمهور لا غير ذلك )) اهـ .

وهذه مغالطة خطيرة وتحكم محض من ابن رشد، لا يجوز أن يقع فيها من هو دونه في المنزلة، ولا يلائم هذا خطورة المهمة التي نصب نفسه لها .


وقد يقول قائل: ما وجه الاعتراض على ابن رشد عندما أرجع السمع والبصر إلى العلم، وقد نقل هذا القول عن الأشعري، وعن غيره من العلماء ؟

فالجواب: إن الأشعري أرجع هاتين إلى العلم تحقيقاً بعد البحث عن حقيقة كل منهما في الشاهد، ولما وجد أنهما في الشاهد لا تغايران العلم، قال بذلك، ولكن ابن رشد لما بنى كلامه في هذا الكتاب وفي غيره، على أن الأصل الاقتصار على الظاهر من الشريعة، وعدم التعمق فيها، وأصر على منع إلقاء ما يخالف الظاهر إلى الجمهور، حتى وإن كان هو الحق، ولكنه هنا خالف الظاهر، فإنه يكون قد خالف القاعدة التي ألزم نفسه بها، ولم يلتزم بها، وهذا غاية السفسطة .

ومن هذا فقد بان الفرق الكبير بين الكلام الذي نقل عن الأشعري، وبين الكلام الذي تفوه به ابن رشد .

ثم إن الأشعري لم يقل إن كل ما يظهر للعامة فإنه يجب القول به، بل صرح بأن بعض ما يظهر للعامة، لا يجوز القول به، بل ويجب نهر العامة عن الاعتقاد به، كما يتوهم العامة الجهة من بعض النصوص، فهل يقول الأشعري إنهم يجب أن يؤمنوا بالجهة لله تعالى ؟! بل إنه صرح بامتناع ذلك، في حقهم كما في حق الخاصة من العلماء .

وأما ابن رشد، فقد غالط نفسه وغالط الشريعة كما سترى لاحقاً وكما رأيتَ حتى الآن، فادعى أن الظاهر للجمهور يجب الامتناع عن إلقاء ما يخالفه لهم !!!

وهذا كلام باطل، وعكس للموازين، فإن العامة يجب أن يتبعوا العلماء لا العكس .


سادساً: الصفات هل هي زائدة عن الذات ؟


انتقد ابن رشد مذهب الأشاعرة في الصفات المعنوية بأنه يؤدي إلى القول بأن الله تعالى جسم، وعلل ذلك بقوله في ص75: (( ويلزمهم على هذا أن يكون الخالق جسماً، لأنه يكون هنالك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم )) اهـ .

والحقيقة أن الجسم ليس كذلك، فالجسم هو ما جاز فيه ثلاثة أبعاد عندهم، والجسم عند الأشاعرة هو الممتد ولو في بعد واحد، والجسم عند الفلاسفة هو المركب من الهيولى والصورة، وليست حال الصفات مع الذات مثل هذه الاحتمالات، كما هو ظاهر للمتأمل .

فالصفات لا يقال عنها غير الذات، حتى يكون قيامها بالذات مثل قيام الصورة بالهيولى، وليست هي جوهراً قائماً بذاته أيضاً، وليست الذات جنساً للصفات ولا العكس، حتى يلزم التركيب المستلزم للجسمية، ولو من جهة العقل .

فالحاصل أن كلام ابن رشد هنا لا قيمة له، ومجرد تهافت .


وأما مقارنته بين قول الأشاعرة والنصارى في هذا القول فهو اشتداد في التشنيع عليهم بما لا وجه حق فيه، كما ترى، وذلك لأن النصارى وإن قالوا بالصفات الثلاثة فإنهم قالوا بانفكاكها عن الذات، ولم يقل الأشاعرة بذلك، وقال النصارى بما يلزم عنه كون الصفات جواهر قائمة بذاتها، ولم يقل بذلك الأشاعرة .

ومذهب النصارى هذا قد نقله ابن رشد عنهم في نفس هذا الموضع، ومع ذلك فقد ادعى أن الأشاعرة يقولون به، وهذا كذب محض عليهم .


وبعد أن يصرح ابن رشد أنه لا يجوز أن يلقى مثل هذا الكلام على الجمهور، لبعدهم عن الأدلة التحقيقية والبرهانية، فإنه لم يقل ما هو الرأي الصحيح من هذه الآراء، وذلك أنه انتقد الأشاعرة والمعتزلة، ولم يبين رأيه !!

والحق أن مجرد أن هذا الكلام – أي كلام الأشاعرة - وإن سلمنا أنه لا يناسب الجمهور، ولكننا لا نسلم أنه ليس بحق في ذاته .

ومع أن ابن رشد يكثر من الاهتمام بالنقد من جهة أن هذا الرأي يناسب الجمهور أو لا يناسبهم، إلا أن هذا الأسلوب أسلوب سفسطي محض، وذلك لأن كلام المتكلمين ليس على ما يناسب أو لا يناسب، بل على ما هو الحق في نفسه، ثم إن ناسب مع كونه حقاً، أن يلقى إلى الجمهور ألقَوه، وإلا منعوه عنهم ومنعوهم عنه، واكتفوا بتعليمه للخاصة، وأجملوه إجمالاً للجمهور !!

ولا يجوز عند العقلاء أن يكون الأمر حقاً في نفسه ثم إذا أردت أن تتكلم مع الجمهور وتعلمه لهم أوحيت إليهم بما يخالف هذا الأمر، بل بما يناقضه، فأين الحكمة في ذلك ؟! أين الحكمة في الكذب حينما لا تلجئ الضرورة إليه ؟!


المسألة الخامسة:في معرفة التنـزيه


وفي هذا الفصل أغرب ابن رشد غاية الإغراب، وخالف حتى نفسه في سبيل الرد على الأشاعرة، وخالف البديهي في العقول حتى يصل إلى تلك الغاية .

وأنى لواحد يتبع تلك السبل أن يصل إلى بيان الحق من الباطل كما يزعم .

وما أشبه طريقة ومنهاج ابن رشد بطريقة ومنهاج ابن تيمية، وكيف لا يتبعان نفس السبيل وهدفهما واحد، وهو هدم مذهب الأشاعرة، ولا يتوصل إليه إلا بهدم البديهيات والمغالطات المكشوفة ؟!

وفي هذا الفصل سيتكلم ابن رشد على مسألة تنزيه الله تعالى، ما هي الطرق التي اتبعها المتكلمون وما هي الطرق التي أجازها الشرع للوصول إلى هذا الهدف .


قال ابن رشد في ص77: (( من المغروز في فطر الجميع أن الخالق يجب أن يكون إما على غير صفة الذي لا يخلق شيئا، وإلا كان من يخلق ليس بخالق )) اهـ .

يشترك المجسمة وابن رشد في الاستدلال بشيء يسمونه بالفطرة، وهذه الفطرة إما أن يريدوا بها معلومات موجودة في النفس الإنسانية، منذ ولادتها، وإما المعلومات البديهية:

·فإن قصد الأمر الأول، فهو ليس بشيء في الحقيقة لأن النفس عند ولادتها لا يكون فيها أي شيء من المعلومات التي يتكلم عنها هؤلاء .

·وإن قصد الثاني فالخلاف بين المشبهة وغيرهم ليس في الأمور التي يعرف جميع الناس أنها بديهيات، كما سنوضحه لك فيما يلي .

وابن رشد وابن تيمية يكثرون من الاستشهاد بالفطرة على ما يريدون إثباته من التجسيم، ولكن ابن تيمية، يثبت التجسيم باطناً وظاهراً، وابن رشد يثبت التجسيم لله تعالى ظاهراً فقط، وينفيه باطناً .

وكثير من الناس يلجؤون إلى الفطرة للوصول إلى أهدافهم، والتحقيق أنه لا توجد معلومات مخلوقة مع الإنسان كتلك التي يسميها هؤلاء بالفطرة .

وأما إن قصدوا بالفطرة مجموعة الغرائز والميولات النفسية والأهواء التي يتصف بها الإنسان، فإننا نعلم أن هذه لا يقال عنها لذاتها إنها حق أو باطل، لأنها يمكن عبارة عن أدوات، ويمكن أن يستعملها الإنسان في الحق، ويمكن أن يستعملها في الباطل .

وكائنا ما أراد هؤلاء بالفطرة فلا يجوز أن يحتجوا بها على أمر دقيق كهذا الأمر الذي نتكلم نحن عليه .

أما من حيث الإجمال فإن الخالق غير المخلوق، ولكن الغيرية التي نتكلم عنها في هذا المحل، ما حقيقتها ؟ وما معناها بالتفصيل ؟

هل إذا أثبتنا إلهاً جسماً ولكن من طبيعة أخرى من الأجسام وذا صورة أخرى مخالفة لجميع الصور التي للمخلوقات، هل نكون بهذا قد حققنا أمر التغاير الذي نقول إنه فطري أو بديهي ؟!

إن العاقل يعلم على سبيل القطع، أن هذا الكلام باطل، لا ريب في بطلانه.

وماذا نقول إذا واجَهَنا المجسم بقوله: إن في فطرتي أن الله تعالى إذا لم يكن جسماً مجسماً ومحدوداً وفي جهة ويتحرك ويقوم ويقعد …الخ، فإنه لا يمكن أن يكون إلهاً، ولا يمكن أن يكون موجوداً !!

ترى، هل يسلم ابن رشد لهذا القائل بأن فطرته توحي له بهذه الأفكار الخطيرة ؟ ولو سلمنا أن فطرته تقول له ذلك، فهل ننزل تحت حكم فطرته، ونسلم له أن الله تعالى هكذا ؟!

ما هو المعيار الدقيق لما يسمونه بالفطرة ؟ هل هو عبارة عن أدلة عقلية يمكن إقامة الحجة بها على الغير، أم هي عبارة عن مجموعة أحاسيس نفسية، يمكن الجزم أن الآخرين يحسون بها ؟

إن الفطرة إذا كانت مقاييس عقلية، فإنها لا تخرج عن العقل إذن، ولكن الواضح أنهم لا يريدون بها هذا المعنى .

فهل هي عندهم مجموعة أحاسيس ومشاعر تدلهم على عقائدهم ؟! أنهم إذا كانوا يسلمون أنفسهم في الدنيا والآخرة لمثل تلك الأحاسيس والمشاعر، فلا ريب أنهم يتبعون غيَّا، ولا ريب أنهم مغرقون في الضلالة والانحراف عن سبيل الهدى والجادة الصحيحة .

فإن هذه الأحاسيس والمشاعر لا نملك نحن ولا يملك صاحبها أن يجعلها دليلاً إلا على من يحس بها، ويعترف أنه يحس بها، ثم قبل ذلك يجب أن نتأكد أن ما يعبر لنا عنه من مشاعر فإنها مطابقة لما نحس به نحن ونعبر عنه بنفس الألفاظ !!

الحاصل من هذا الكلام السريع كله أن الاعتماد على أمر يسمى بالفطرة يشابه ترك الدليل الجلي والاعتماد على الدليل الخفي، والاعتماد على الدليل الذي لا يسلم الخصم دلالته أصلاً، والدليل الذي لا يمكن ضبطه أصلا ضبطا دقيقا ليكون ميزانا توزن به الأمور .

ومعلوم أن من يفعل ذلك فإنه يستحق عن جدارة أن يكون ضحكة الأولين والآخرين .

ومن المعلوم أن بعض الصفات التي تعرض للمخلوقين لا يمكن نسبتها لله تعالى، وهذه الصفات هي الصفات التي لا يشك واحد فيها بأنها صفة نقص، وذلك كالجهل والنوم والغفلة وغيرها، فهذه معلوم نفيها ببداهة العقول، وبالأدلة التي تثبت لله تعالى ما ينافي هذه الصفات، وهي الأدلة النظرية التي تثبت أن الله تعالى عالم حي قيوم، فما كان كذلك لا يكون متصفاً بصفات النقص تلك .

وقد تكلم ابن رشد عن هذه الصفات، ولم يخالف في بطلان نسبتها إلى الله تعالى، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا خلاف في هذه الصفات إلا من قِبَلِ المجسمة الذين اتخذوا إلههم هواهم، وهواهم إلههم، فاعتقدوا أنه يثبت لله تعالى نسيان يليق بذاته، ونوم يليق بذاته، وقد تكلمت مع بعضهم في هذا الزمان، وهم بعض الناس الذين يتبعون المجسم الكبير ابن تيمية، وهؤلاء عبارة عن مجموعة من الحمقى لا يلتفت إليهم إلا على سبيل التنبيه إلى خطرهم وسوء معتقدهم .


أولاً: الكلام على الجسمية


ثم بعد ذلك شرع ابن رشد في الكلام على صفة الجسمية، وهي من الأوصاف التي أثبتها البعض من المنتسبين إلى الدين الإسلامي لله تعالى، ونفاها الأكثرون من الطوائف الإسلامية .

ومعلوم أن الأشاعرة من أكثر الناس الذي بذلوا جهوداً في نفي تلك الصفة عن الله تعالى، فَلْنَرَ الآنَ موقفَ ابن رشد من هذه المسألة .

فقال في ص 79: (( فإن قيل: فما تقول في صفة الجسمية هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق أو هي من الصفات المسكوت عنها ؟

فنقول: إنه من البين من أمر الشرع أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع قد صرح بالوجه واليدين )) اهـ .

والحقيقة أن هذا القول خطير جداً، وفيه افتراءات على الشريعة وعلى علماء الشريعة الإسلامية، وعلى مثل هذه النصوص الشاذة اعتمد ابن تيمية في بناء مذهبه في التجسيم كما وضحته في كتاب (( الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية )) .

وبعض الجهلة في هذا الزمان يعتبرون نصوص ابن رشد كأنها نصوص لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا منهم دليل على ضعف عقولهم وقلة معارفهم الدينية والعقلية .

فأول ما ادعاه ابن رشد في هذا النص أن صفة الجسمية من الصفات التي سكت عنها الشرع، وهذا في حد ذاته، قريب من الكذب، لأن الله تعالى يقول: (( ولم يكن له كفواً أحد)) ، ويقول: (( ليس كمثله شيء ))، أليست هذه النصوص صريحة في نفي المماثلة في الذات بين الله تعالى وخلقه، وألا ينفي هذا أن يكون الله تعالى جسماً .

إن ابن رشد يعرف هذا تماماً، ولكنه يغالط في هذه الحقيقة ليتقرب إلى الوصول إلى مقصوده الأساسي وهو هدم مذهب وطريقة الأشاعرة، لما أنهم هم الواقفون سداً منيعاً أمام سيل فلسفة أرسطو وغيره .

وتأمل كيف جعل ابن رشد سكوت الشريعة عن نفي الجسمية أمراً بيناً بنفسه، ثم قال: إن الشريعة أقرب إلى الإثبات منها إلى النفي، فكيف يكون السكوت بيناً، في حال كون الإثبات أقرب في منظار الشريعة ؟!!! ألا يدل ذلك على أن ابن رشد يلقي كلامه إلقاءاً .

ثم ما حجة ابن رشد في أن الشريعة أقرب إلى الإثبات منها إلى النفي للجسمية ؟ إنه يقول إن الدليل على ذلك هو أن الشريعة صرحت بالوجه واليدين .

وتوجد هنا أيضاً مغالطات، فإن الشريعة لم تصرح بالوجه ولم تصرح باليدين ولو صرحت بهما لكفر من نفاهما، وكفر من أولهما عن حقيقتهما التي يريدها ابن رشد، وهي الجوارح والأركان المعروفة للإنسان وغيره .

ولكن الشريعة ساقت لفظ الوجه واليدين سياق المجاز في اللغة العربية، ولهذا فإن دلالة الشريعة على إثبات الوجه على الحقيقة اللغوية المتعارفة ليست دلالة أكيدة، ولا يجوز أن يقال عنها إنها نص في ذلك .

وقد يقول قائل: كيف عرفتَ أن ابن رشد أراد اليد والوجه اللذين هما جوارح .

قلنا: لأنه اعتبر مجرد إيراد الشريعة للوجه واليد دليلاً على الجسمية، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان الوجه واليد جارحتين وعضوين .

وهنا فإننا نسأل: هل صحيح أن الشريعة قد أثبتت الوجه واليد الجارحتين على سبيل النص والتأكيد كما يوحي ابن رشد إلى قرائه ؟!

أقول: لا أحد من العقلاء يستطيع أن يدعي مثل هذا الادعاء ويقوى على الإتيان بأدلة عليه .

وأما ابن رشد فإنما يدفعه إلى مثل هذا السقوط مجرد هدفه الذي نصبه لنفسه، وقد ذكرناه لك مراراً .

إن كثيراً من علماء الإسلام قالوا: إن الوجه واليدين صفتان لله تعالى ليستا بجارحتين، فهل هؤلاء العلماء يصنفون عند ابن رشد من ضمن المجسمة ؟


قد يقول قائل: إن ابن رشد قد سبق له أن اعتبر أن التجسيم يكفي فيه مجرد إثبات صفة زائدة على الذات، سواءا كانت عضواً أو صفة معنى، فلم لم تعتبر أنه أراد هنا الوجه واليد اللذين هما صفتان معنويتان قائمتان بالذات كقيام العلم والقدرة، وعند ذاك يرجع كلامه إلى كلام كثير من العلماء على ما قلتَ ؟

نقول: إن هذا الفهم غير موافق للمعاني التي ينطق بها ابن رشد، فإنه لما تكلم سابقاً على كون الصفات زائدة على الذات، وألزم المتكلمين القائلين بذلك بالجسمية بناءاً على المعنى المشار إليه، ونحن قد بينا أن إلزامه لا يلزمهم في موضعه، وتكلم هنا على صفة الجسمية بالتحديد، فإننا عرفنا أن مراده هناك بالجسمية مجرد قيام صفة زائدة في الذات، وعرفنا هنا أن مراده بالجسمية هو الجسمية بالمعنى المعهود عند سائر العلماء، وهو وجود أبعاد ثلاثة للذات، ولهذا أطلق الجسمية هنا، وقيدها بقيام صفة في الذات ووجود حامل ومحمول هناك، وهذا يبين للذكي صحة ما قلناه .

وحينئذ فإن التعجب يزداد منه كيف ينص على أن الشرع صرح على إثبات هذه الصفة .

وما هو أشنع من ذلك في كلامه هو أنه يقول: إن كثيراً من علماء الشريعة قد نصوا على القول بالجسمية !!!

فكيف يقول ذلك ونحن نعلم أن القائل بذلك إنما هم فرقة الكرامية والمجسمة من الحنابلة، وأما سائر العلماء من الفرق الإسلامية كافة فإنهم شنعوا على هؤلاء لتعديهم على الذات الإلهية ونسبة هذا العيب لها .

فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يتجرأ ابن رشد عل القول في نفس الصفحة: ((ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن اتبعهم )) اهـ .

فإن هذا الكلام فيه مغالطات عديدة، منها أنه يعتبر كافة الحنابلة قائلين بالجسمية، ونحن نعلم يقيناً أن الفضلاء وأئمة الحنابلة المقتدى بهم في المذهب لا يثبتون ذلك، بل يصرحون أن هذا الإثبات من الشنائع التي يجب الفرار منها، وهذا كله مبين في محله، وأما من صرح منهم بذلك فإنه قليل جداً، وأما من قال منهم بما يلزم منه قوله بالجسمية فهم أكثر من المصرحين، ولكن على كل الأحوال، فلا يجوز لابن رشد أن يدعي أن الحنابلة قائلين بذلك، لأنك إذا واجهتهم بصفة الجسمية فروا منها، ونفوها عن أنفسهم، صحيح أن هذا يلزمهم ولكن يوجد فرق بين التصريح وبين اللزوم، والمصرحين بذلك منهم معدودون لا يقال عنهم أنهم كثير .

فقد تبين لك أن حاصل هذه العبارة مجرد تهويل لا قيمة له، وما أقربَ أسلوب ابن رشد إلى أسلوب ابن تيمية، بل ما أقرب أسلوب ابن تيمية إلى أسلوب ابن رشد؟! فتأمل .


وقال ابن رشد بعد ذلك في ص79: (( والواجب عندي في هذه الصفة أن يجري فيها على منهاج الشرع، فلا يصرح فيها بنفي ولا إثبات )) اهـ .

كذا قال، والحقيقة أن منهاج الشرع كما ادعاه هو القرب من إثباتها، لا مجرد عدم النفي والإثبات، فهل يقول ابن رشد بذلك ؟!

ولكن المتأمل بعد كل ذلك بما ذكرناه قبل، يجد أن كلامه مجرد مغالطة لا دليل عليها، فكيف يتصور أن الشريعة تساوي بين الإثبات والنفي أو أنها ترجح جانب إثبات الجسمية على نفيها عن الله تعالى !!

أي إننا نقول بوضوح أكثر، إذا كان الاتفاق حاصلاً بين ابن رشد وبين المتكلمين عامة على أن الله تعالى ليس بجسم، فلماذا يصر هو على أن ظاهر الشريعة يرجح أن الله تعالى جسم، ألا يترتب على ذلك أن الشريعة وما تريد أن تقوله للناس في الظاهر باطل، وليس مطابقاً للأمر في نفسه ؟! وهل يريد العقلاء أُسلوبا في الاستخفاف بالشريعة أكبر من هذا، وأصرح !!!


لا يجوز أن يقول قائل: إن المتكلمين أيضاً يقعون في تأويل ظاهر الشريعة، فلم الاعتراض على ابن رشد فقط ؟

والجواب: إن المتكلمين لا يقولون إن الشريعة أرادت أن تفهم الناس أمراً في الظاهر هو مخالف للحقيقة، بل إنهم يقولون إن الناس فهموا بظاهر فهمهم معاني لا تريد الشريعة إثباتها، وكان الأصل أن يرجع العامة في ذلك إلى العلماء لينحل الإشكال .

وأما ابن رشد فيخالفهم في ذلك كله، ويصرح بأن الشريعة أفْهَمَتِ الناسَ أمراً هو على خلاف الواقع، وأرادت منهم أن يعتقدوا به. وهذا لا يمت إلى رأي المتكلمين بصلة أصلاً، فتأمل في ذلك لتعرف البعد الكبير بين القولين والمذهبين .


واحتج ابن رشد على قوله هذا بثلاثة أمور:

الأول: أن الجمهور من الناس لا يمكنهم أن يعرفوا هذه البراهين التي أقامها المتكلمون على نفي الجسمية .

والثاني: أن الجمهور من الناي يرون أن الموجود هو المتخيل والمحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا بمحسوس فهو عدم .

والثالث: الشكوك التي تعرض على الشريعة عند نفي الجسمية .

فهذه الأمور الثلاثة خلاص ما احتج به ابن رشد لقوله، وأنت ترى أن الأول لا قيمة له، لأنه لا يطالب الجمهور من الناس بالمعرفة التفصيلية للأدلة، ولم يطلب منهم ذلك أحد من أهل السنة، بل غاية ما يطلب منهم هو الأدلة الإجمالية، والأدلة الإجمالية على هذه المطالب مقدور عليها عند بذل أقل جهد، وقد بين العلماء ذلك كله في كتب التوحيد .

وأما الأمر الثاني: فلا نسلم أن الجمهور على هذا الرأي، بل منهم من يقول بذلك ومنهم من لا يقول به، بل يجوز أن يوجد موجود لا يحس به ولا يتخيله الوهم، وحتى من صدق عليه حكم ابن رشد، فلا ينبغي أن تنزل الشريعة على رأيه، بل هو المطلوب منه أن ينزل على حكم الشريعة، فإذا كانت الشريعة تقول: إن الله تعالى ليس بجسم، وفرضنا واحداً من الناس يقول بأنه لا يوجد إلا ما هو جسم، فإن هذا ينبغي أن يفهم أن كلامه غلط، وأنه إن لم يقدر على تصور ما تقوله الشريعة، فإنه يجب أن يفوض ذلك وينزل على حكمها، ولا يحكم هو عليها بمجرد رأيه العاطل وقوله الباطل، بل عليه أن يقيس قياساً بديهياً، وهو أن يقول: إن العلماء المشهود لهم بحسن العقل وجودة الفكر، قد علموا أن الله تعالى ليس بجسم، ونفوا الجسمية عنه جل شأنه، ولا يجوز أن يكون هؤلاء قد ضلوا الطريق وأصابها هو، لا سيما إذا اعترف أنه لا يحسن ما يعلمونه من علوم كثيرة نافعة، ويعترف بجودة ذهنهم، وصدقهم وإخلاصهم في خدمة الدين .

وبعد ذلك كله، فأن يقول الإنسان رأياً ولا يملك عليه دليلاً، فإن هذا بمجرده كاف عند العقلاء ببداهة العقول لردِّ رأيه، وهذا القياس يعرفة العامة كما يعرفه الخاصة، فافهم ذلك، يتبين لك ضعف قول ابن رشد .

وأما الأمر الثالث الذي اعتمد عليه ابن رشد، فهو باطل ولا حجة به، وذلك يتبين إذا عرفنا أن الشكوك التي أثارها ابن رشد واعتبرها كافية لرد القول بنفي الجسمية ليست هي في نفسها صحيحة، ولا تقوى على الوقوف أمام الأدلة التي أحضرها النفاة للجسمية عن الله تعالى، وهم جمهور العقلاء .

وسوف يزداد لك بيان بطلان ذلك من خلال الأبحاث التالية .

وذكر ابن رشد بعد ذلك أن نفي الجسمية يؤدي إلى إشكالات في مبحث الرؤية، وهو قد عقد مبحثاً خاصاً لتلك المسألة، وسوف نرى هند مناقشتنا له فيه ما هي هذه الإشكالات، لتعرف أنها عبارة عن تمحلات .

وذكر أن نفي الجسمية يستلزم نفي الجهة والحركة وأن ذلك يؤدي إلى إشكالات في الشريعة، والحق أن ذلك لا يؤدي إلى إشكالات، بل إن الشريعة تظل مفهومة حتى مع نفي كل ذلك، لأن باب التأويل القريب المطرد مع قواعد اللغة مفتوح، ولأن كثيراً من النصوص التي يتوهمها مشكلة كإتيان الرب يوم القيامة قد بينت في أحاديث ونصوص أخرى بأن ذلك كناية عن إتيان الملائكة أو إتيان موعد الحساب، وكذلك نزول الرب في الثلث الأخير من الليل، معناه أن الله تعالى يأمر ملكاً في ذلك الوقت فينزل، والملك هو الذي ينادي في الناس ألا من داع فيستجاب له، ألا من مستغفر فيُغْفَرُ له .


فالحقيقة أنني كلما تمعنت في قراءة كتاب ابن رشد هذا ازددت استصغاراً له لما يتبعه من أساليب وطرق نازلة للوصول إلى أهدافه المعلومة، هذا مع ما يظهر في هذه الأساليب من مغالطات وسفسطة بينة، ومع أنه يقول فيها ما لا يعتقده، ويوهم الناس أن للشريعة ظاهراً يخالف ياطنها وذلك من دون أدلة كافية ولا مقنعة .

وسوف يزداد تفهم القارئ لكلامنا هذا كلما قرأ أكثر من هذه التعليقات .


قال ابن رشد في ص81: (( ولو كان انتفاء هذه الصفة مما يقف عليه الجمهور لاكتفى بذلك الخليل صلى الله عليه وسلم في محاجة الكافر حين قال له: ( ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) الآية، لأنه كان يكتفي بأن يقول له أنت جسم والله ليس بجسم، ولأن كل جسم محدث كما تقول الأشعرية )) اهـ .

فتأمل رحمك الله تعالى في هذا الكلام لتعرف مدى وعظم المغالطات التي يعتمد عليها ابن رشد في كلامه .

فإن سيدنا إبراهيم عليه السلام، لم يكن ليقول لواحد يدعي عن نفسه أنه الرب مناقشا إياه الرب ليس بجسم، لأن هذا لا يفيد في تلك الحال، وبيان ذلك كما يلي:

إن الكافر لما ادعى الربوبية لنفسه، علم سيدنا إبراهيم أنه لا يعتقد بأن الرب يجب أن يكون غير مشابه للناس، وعلم أنه لا يعتقد أن الرب يجب أن لا يكون مولوداً، وعلم منه أنه لا يعتقد أن الرب يجب أن لا يكون محتاجاً إلى غيره من الجنود والسحرة والمعاونين، وغير ذلك، فلما كانت هذه هي حال ذلك الكافر لم يكن من المناسب لإبراهيم أن ينكر عليه باستعمال ما لا يسلم هو به، مع أن ذلك كله منفي عن الإله باتفاق الجميع، ومن ضمن ما هو منفي عن الإله كونه جسماً، ولكن الموضع موضع مناظرة، والمناظرة يستعمل فيها لإفحام الخصم المقدمات التي يسلم بها، لا المقدمات التي ينكرها، ولذلك فقد استعمل إبراهيم المقدمة التي يسلم بها هذا الكافر، وهذه المقدمة هي القدرة على الخلق كالإحياء والإماتة، فلذلك قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، فقال له ذلك الكافر: أنا أحيي وأميت، وهذا الادعاء من الكافر لا يتم له إلا إذا كان يدعي القدرة على مطلق الخلق، لأن القادر على الإحياء والإماتة، قادر على جميع الأفعال الأخرى، لأنها من جنس واحد، فلما عرف منه إبراهيم ذلك الادعاء، استعمله ضده فقال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك لأن الأفعال واحدة والقادر على فعل يجب أن يقدر على ما هو من جنسه، فلذلك بهت الذي كفر، والبهت هو أشد أنواع الإفحام في المناظرات، وذلك لأن إبراهيم استعمل مقدمة اعتمد عليها الخصم في معارضته في مذهبه الذي يذهب إليه.

هذا هو أصل مناظرة إبراهيم عليه السلام للكافر، وهكذا يجب أن تفهم، لا كما ادعى ابن رشد وتابعه فيه ابن تيمية .

ولو كان المجال مناسباً لطولنا لك في شرح أصول مناظرة إبراهيم معليه السلام واستخرجنا لك منها قواعد التوحيد .

ومن ذلك تعرف الأسلوب الماكر الغريب الذي يعتمد عليه ابن رشد في بناء أقواله، وهذا الأسلوب لا يخلو صاحبه من أحد أمرين:

الأول: أن يكون جاهلاً بالحقيقة .

والثاني: أن يكون عارفاً بها ولكن يستخدم هذه المغالطات عن قصد وتدبير .

وكل من الحالين أسوأ من صاحبتها وتؤدي بصاحبها إلى السقوط الشديد من مراتب النظر والفكر .

وكذلك وبناءاً على نفس الأصول، ينهدم قول ابن رشد في توجيه إرشاد النبي عليه الصلاة والسلام لأمته في أمر الدجال، ونحن قد بَيَّـنَّا شيئا من ذلك في حاشيتنا على تهذيب شرح السنوسية .

وهكذا فأنت ترى أن طريقة ابن رشد في تفسير الشريعة موغلة في التأويل مع أنه يوهم القارئ أنه يجري فيها على ظاهرها، ولكن أين هذا الادعاء من القول بأن ظاهر الشريعة دال على معاني ليس صحيحة في نفس الأمر، بل هي غلط محض، وأن الشريعة أرادت من العلماء أن يعتقدوا ما بطن منها، وأرادت من الجمهور أن يعتقدوا ما ظهر منها !!

وهكذا يصبح الناس إذا التزموا مذهب ابن رشد فريقين كل منهما يعارض الآخر في معتقده، وكل منهما يقطع أن ما يعتقد به هو الحق في نفسه .

فأين هذا الحال من الطريقة التي بينها المتكلمون والتي ينتهي الأمر بها إلى أن يكون العامة والخاصة يتمسكون بنفس الأمر والأحكام، ولا تفاضل بينهما إلا من جهة العلم التفصيلي والعلم الإجمالي، وبالتالي يكون التوافق التام حاصلاً بين جميع الناس، وبذلك لا يستطيع فريق منهما أن يبدع ولا أن يفسق فضلاً عن أن يحكم بتكفير الفريق الثاني .

إن العاقل بمجرد علمه بهذه النتيجة يقطع جزما أن طريقة ابن رشد طريقة متهاوية فاسدة لا قيمة تحتها إلا كثرة التشغيب والسفسطة المغالية .

وابنُ رشد لما اختار أن لا ينفي الجسمية عن الله تعالى ولا يثبتها، لزمه أن يتعرض للإشكال اللازم على طريقته، وهو إذا كان الله لا يقال فيه: إنه جسم، ولا يقال فيه: إنه ليس بجسم، فما الجواب على من سأل ما هو ؟

وسنبين فيما يلي كيف يتصدى ابن رشد للجواب بناءا على طريقته وكيف يقع في مغالطات وتهافتات عديدة، وهذا كله لازم لمقدماته .

إن ابن رشد قال في الجواب على القول ما هو الله : (( فيقال لهم:إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف الله به نفسه في كتابه العزيز على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته فقال تعالى: (الله نور السموات والأرض) )) اهـ الخ كلامه .

إن هذا الجواب قد اختاره ابن رشد ليتخلص من الإشكال الذي أشرنا إليه سابقاً، ولكن هل فعلاً ينجو بهذا الأمر؟!

إنه يدعي أن وصف الله تعالى بالنور في الآية إنما جاء على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، وهذا باطل قطعاً، فإن الآية لم تصف الله تعالى بالنور، بل أخبرت عنه بأنه نور السموات، ولم تقل الآية إنه نور مطلقاً، وفرق بين أن تقول: إن الله نور، وبين أن تقول: الله نور السموات والأرض، فمعنى الآية يكون أننا إذا اعتبرنا السموات والأرض أي نظرنا إليهما نظراً عقلياً، ولاحظنا نسبتهما إلى الله تعالى، لوجدنا أن الله تعالى بالنسبة لهما كالنور، وهما كالمتنور بالله تعالى، والنور معناه الإضاءة والوضوح في الوجود والتجلي، والله تعالى هو الذي يوجد السموات والأرض ويخرجهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود. فالله تعالى كالنور بالنسبة إلى السموات والأرض، وليس هو ذاته نوراً، فإطلاق النور عليه تعالى في الآية إطلاق مجازي وكنائي، لا يخالف في هذا إلا مغالط كابن رشد .

ومما يشير إلى ذلك أنه أخبر عن كونه نوراً بقيد الإضافة إلى السموات والأرض، وهذا معناه أنه لا يطلق عليه أنه نور إلا بمعنى إضافي، وما هو معنى إضافي لا يقال عنه إنه أطلق على الله تعالى على جهة ما يوصف الشيء بالصفة التي هي ذاته، فإن هذا ادعاء بعيد عن الحقيقة، فإن الذات ليست أمراً إضافياً، وإطلاق النور على الذات إنما جاء لمعنى إضافي، فكيف يقال: إن النور أطلق على الذات لبيان حقيقتها .

ولهذا فقد قال العلماء في هذه الآية إن معناها إن الله مُنَوِّرُ السموات والأرض بخلقه لهما وإيجاده، ولم يقولوا بناءاً عليها إنه نور بالفعل .

إذن فإن ما فعله ابن رشد هنا هو أمر شنيع جداً، وهو مغالطة محضة انبنت على معارضته للأشاعرة، وهو قريب جداً من أن يكون تحريفاً للقرآن للوصول إلى أهدافه ؟!

ونفس ما قلناه على النور في هذه الآية يقال أيضاً على قول النبي عليه السلام لما سألوه في الإسراء هل رأيت ربك: (( نور أنَّى أراه ))، أي هو كالنور الشديد الإضاءة ولا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية مثل هذا النور، فكذلك لا أستطيع أن أرى ذات الله تعالى، ولم يقصد النبي عليه السلام إنه نور على الحقيقة .

وكذلك الحديث القائل بأن لله تعالى حجاباً من نور، فإنه يحمل على نفس المعنى .

وكما ترى فإن هذه المعاني جميعها بعيدة عما اقترحه ابن رشد، بل ومعارضة له في النهاية .

ثانياً: الكلام على الجهة


وبعد ذلك شرع ابن رشد في الكلام على الجهة، فقال في ص83: (( وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة )) اهـ .

بهذه العبارة الخطيرة استهل ابن رشد كلامه في الجهة، وبكل جرأة أطلق هذا الادعاء العجيب، وهذا تسرع كبير من واحد مثل ابن رشد، وسوف يؤدي به إلى الوقوع في مغالطات وسفسطات كثيرة نبينها هنا إن شاء الله تعالى .

ومعنى كلامه هذا أن جميع الأشاعرة والمعتزلة والشيعة والإباضية والزيدية وغيرهم من الفرق الذين نفوا الجهة، هؤلاء كلهم مخالفون لأصول الشريعة، ومخالفون للسلف الصالح، الذين يزعم ابن رشد أنهم كانوا يثبتون الجهة لله تعالى .

والثابت في كتب الفرق الإسلامية أن الذين كانوا يثبتون الجهة لله تعالى هم فقط المجسمة والحنابلة الذين تبعوهم، فالمجسمة والحنابلة عند ابن رشد وهم القائلون بالجهة لله تعالى يدعي أنهم هم الممثلون والعارفون بمعاني الشريعة .

مع أن المطلعين على علم التوحيد يعلمون جيداً أن القائلين بالجهة لله تعالى هم أبعد الناس عن معاني الشريعة، ولو كان هذا الأمر من الأسس والأصول الكبيرة التي كما يدعي ابن رشد والتي صرح بها الشرع بهذا الوضوح لما جاز عقلاً أن يحصل فيها مثل هذه المخالفة من أكثر الفرق الإسلامية .

وهذا الأسلوب من الاستدلال على الأصول الدينية التي يدعي فيها صاحبها أنه مصرح بها في الشريعة، أسلوب صحيح، وهو أيضاً يمكن أن يستعمل في مناقشة الشيعة في قولهم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوصى لعلي بن أبي طالب بالإمامة الكبرى، وأن هذا النص كان معروفاً ثم أعدمه الصحابة ولم ينشروه ولم يعملوا بمقتضاه، بل خالفوه، ولم ينكر عليهم أحد هذا الفعل، فلو نظرنا في هذا الأمر لرأيناه مجرد ادعاء من الشيعة في أن هذا النص كان موجوداً، والحقيقة أن هذا النص موجود فقط في أذهانهم .

وكذلك يقال في مسألة ابن رشد، فإنه يدعي أن الجهة كانت مصرحاً بها في نصوص الشريعة، وأن سائر السلف كانوا يعتقدون بها، حتى جاء المعتزلة والأشاعرة فأنكروها، ولو انتبهنا إلى أن المعتزلة والأشاعرة إنما ظهروا بعد زمان ليس أقل من مائة عام، لكان مفهوم كلام ابن رشد أنه خلال هذه المائة عام كان أهل الشريعة ينصون على إثبات الجهة لله تعالى، ويحتجون على ذلك بالنصوص الصريحة الدالة على ذلك، ولا أحد منهم يعارض ذلك الإثبات، حتى جاء هؤلاء فأنكروا إثبات الجهة .

ولو علمنا أن سائر المسلمين بعد ذلك سلموا للأشاعرة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الإسلامية في هذا النفي، وأن الأقل فقط بقوا على إثباتهم للجهة في حقه تعالى، لكانت هذه الحال توافق كما لو أن الشريعة قد حرفت عن قصد على أيدي هذا الجم الغفير من الناس .

فيصبح الناتج أن جميع هؤلاء الناس قد قصدوا تحريف الشريعة، ووافقهم على ذلك الجمهور ومشوا معهم !!

وهذا الفرض الذي يطلب منا ابن رشد متابعته فيه صعب القبول، ويناقض المعقول والمعلوم من التاريخ الإسلامي .


وسوف نشرع الآن في نقد كلام ابن رشد بالترتيب الذي سار هو عليه في مناقشته لهذه المسألة، ولن نهتم بمناقشة النصوص الشرعية التي استدل بها على ما يريد، فإن هذا إنما يكون أليق عند مناقشة المجسمة، وذلك لعلمنا أن ابن رشد وأمثاله لا يستدلون أساسا بالنصوص لما أنهم يؤمنون بما جاء بها، ولا لأنهم يعتقدون أنها تدل دلالة أكيدة ظاهراً وباطنا على ما يدعون، وذلك خلافا للمجسمة .

ولهذا فقد رأينا أن لا نتكلم مع ابن رشد إلا على ما يورده من وجوه يعتقد أنها عقلية، فإننا نبين عند ذلك عدم عقليتها .

وسوف نورد أولا أهم ما قاله ابن رشد في هذه المسألة، ثم نشرع في مناقشته .


قال ابن رشد في ص84: (( وجميع الحكماء اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك )) اهـ .

وقد علل ابن رشد نفي المتكلمين للجهة فقال في ص84: (( والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة، وبهذا نقول للحيوان فوق وأسفل ويمينا وشمالا وأما وخلف، وإما سطوح جسم آخر، محيط بالجسم ذي الجهات الست .

فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلاً، وأما سطوح الأجسام المحيطة به فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضاً مكان للهواء وهكذا الأفلاك بعضها محيطة ببعض، ومكان له .

وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، لأنه لو كان ذلك كذلك، لوجب أن يكون خارجه جسم آخر، ويمر إلى غير نهاية، فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكاناً أصلا، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، لأن كل ما هو مكان يمكن أن يقوم فيه جسم، فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه وهو موجود هو جسم لا موجود ليس بجسم )) اهـ .

ثم قال بعد كلام له في ص85: (( فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل )) اهـ .

هذا هو حاصل ما اعتمد عليه ابن رشد في مسألة الجهة، ونحن هنا سوف نوضح حقيقة هذه المسألة، ونتبع في ذلك الخطوات التالية:

أولا:بيان معنى الجهة والحيز عند المتكلمين .

ثانياً:معنى الحيز والجهة عند الفلاسفة .

ثالثاً: بيان معنى كون الله تعالى ليس في جهة كما هو مذهب المتكلمين .

رابعاً: الشروع في نقد كلام ابن رشد وبيان مدى التهافت الذي وقع فيه .


أولاً في بيان معنى الحيز والجهة عند المتكلمين على وجه مختصر


الحيز عند المتكلمين: هو البعد الموهوم الذي يشغلُه الجسم وتنفذ فيه أبعاده .

وسموه موهوماً لأنه لا يوجد وحده إلا في الذهن، وحقيقته أن الذهن عندما يلاحظ الجسم، فإنه يعلم فيه صفة الامتداد في الأبعاد، ولو في بعد واحد على الأقل، والعقل عنده القدرة على التفريق بين ما يلاحظه غير مفترق في الخارج، وهذا يسمى عند البعض بالتجريد العقلي، أي إن العقل يجرد بعض المعاني عن البعض، وذلك لملاحظته أمراً خاصاً في هذه دون تلك، ولما يترتب عليها من أحكام، لا تكون الأخرى شروطاً فيها .

فالجسم مثلا لكونه متحيزاً فيجب أن يكون محدوداً، وذلك بغض النظر عن كون الجسم متألفاً من جواهر فردة أو متألفاً من هيولى وصورة، أو من غيرهما مما قد يقول به البعض كالطاقة والأمواج مثلاً، فالحكم على الجسم بأنه محدود تابع لكونه متحيزاً، وغير تابع لكونه من أحد الأمور السابقة .

ولهذا فإن العقل يجرد هذا المعنى الذي هو التحيز والتابع للجسم، أو الذي هو جزء من حقيقته، أو هو تمام حقيقته في الواقع، ويرتب عليه الأحكام المترتبة ومن دون ملاحظة حقيقة الجسم في نفسه .

فالمتكلمون يلاحظون في الأمر مجرد كونه متحيزاً، ثم يحكمون عليه بالمحدودية، بغض النظر عن الأصل الذي يتألف منه، ويحكمون عليه بالافتقار، لأن أصل التحيز يلزم عنه الافتقار مطلقاً كما بينوه في كتب علم الكلام .

ولذلك يقول البعض منهم: إن الحيز هو من المعقولات الثانية أي التي لا يلاحظها العقل وحدها في الخارج مباشرة، بل إنه يجردها مما هو ملاحظ لذاته وهو الجسم .

فالحيز بناءاً على هذا التفسير وهو التفسير المعتمد عند الأشاعرة، هو من الأعراض الذاتية، وهو غير موجود في نفسه .

وأما الجهة فإنها من الأعراض النسبية الإضافية، أي التي لا يمكن للعقل أن يفهمها إلا بملاحظة أمرين لا أمر واحد كما في الحيز .

وبيان ذلك أن الجهة هي في التعريف مقصد المتحرك من حركته، فالمتحرك إذا تحرك فإنه يقصد حيزاً معيناً أو حداً معيناً لحيز، لا فرق في الحقيقة، فإن المتحرك نفسه له حيز، وينتقل من حيز إلى حيز، ولا يوجد متحرك غير متحيز .

ولهذا فإن الجهة لا توجد في الخارج وحدها لما أنها إضافية بالمعنى السابق .

فالمتحيز ( =الجسم ) المتحرك يقصد الانتهاء في حركته إلى حد لجسم آخر، فالبعد الذي يقطعه ينتهي منه إلى حد آخر هو الجهة المقصودة، فالحد المنتهَى إليه هو الجهة في حق هذا المتحيز .

واعلم أنه يكفي لإطلاق الجهة على المحدود إمكان الحركة إليه وليس حصولها بالفعل، وقد يكفي في ذلك إمكان تصورها ولو بالوهم، وهذا قوي .

وهكذا فإننا نعلم أن الجهة والحيز والحد والحركة أمور متلازمة لا ينفك واحد منها عن الآخر، إذا توفرت شروطها .

ومن هاهنا فإن الحيوان لما أمكنه أن يتحرك إلى ستة جهات، وهي الأسفل والأعلى واليمين والشمال والأمام والخلف، صارت له هذه الأمور جهات، فصار يقال له ست جهات، وصار البعض يطلق على هذه الجهات الجهات الحيوانية .

وأما الأجسام الطبيعية فإنها إذا تركت وحدها فإنها إما أن تتحرك إلى أسفل وإما أن تتحرك إلى الأعلى، وهذه الحركة مشروطة في الحقيقة بما يسمى بالجاذبية أو بالتركيب الكوني الزمكاني، أو بحسب اختلاف المادة الكونية شدة وضعفاً، واختلاف تركيزها، على أي حال .

وبناء على أي من هذه الأقوال فإن الجسم الطبيعي أقصد غير المتحرك بإرادته كالحجر، لا يتحرك إذا ترك وحده إلا إلى أسفل أو إلى أعلى، هذا إن لم يمانعه مانع، فلما كان للحجر والنار مثلاً والهواء والتراب والمعادن وغير ذلك من الأجسام الطبيعية هذان الاحتمالان، صار يقال إن الجهات الطبيعية هي فقط العلو والسفل، ويقصد من ذلك أن هذه الجهات لازمة للموجودات الطبيعية غير المتحركة بالإرادة .

وعند التحقيق يتبين لك أن جميع الجهات إضافية وليست لازمة للموجودات .

وابن تيمية توهم أن هاتين الجهتين وهما العلو والسفل لازمتان لأصل الوجود، وأن الوجود في نفسه لا ينفك عنهما، فسماهما جهتين لازمتين، ولذلك قال: إن الله تعالى لما كان موجوداً، فإنه يلزم أن يوجد في جهة، فهذه الجهة إما أن تكون العلو وإما أن تكون التحت، فاختار لربه جهة العلو !!

وهذا الكلام مبني من ابن تيمية على قياس الغائب على الشاهد، كما ترى، ومن أخبره حتى على التسليم بأن كل ما شاهدنا وجوده فإنه لا ينفك عن الجهتين، أن الله تعالى بما أنه موجود فهو كذلك لا ينفك عن واحدة منهما؟! لا مصدر لديه في ذلك إلا قياس الغائب على الشاهد .

ونحن قد فصلنا في قول ابن تيمية هذا وبينا أصوله التي يبني مذهبه عليها في كتابنا الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية .

واعلم أن الحيز أعم من المكان عند المتكلمين وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وذلك لأنهم قالوا: إن الجوهر الفرد في حيز وليس في مكان، ولكن في هذا المحل لن نحتاج إلى مثل هذا التفريق، وسوف نفرض التساوي في المفهومين، مع ملاحظة أن المعتزلة قالوا: إن الجسم لا يكون إلا من ثلاثة أبعاد، وأما الأشاعرة فإنهم قالوا إن الممتد ولو في بعد واحد يسمى جسماً .

وهذا البيان لحقيقة الجهة والحيز عند المتكلمين كاف لمقصدنا هنا .


ثانياً: بيان معنى الجهة والحيز عند الفلاسفة


فاعلم أن المعنى السابق للجهة كما أوضحناه عند المتكلمين لا يخالفه الفلاسفة إلا من نواحي معينة، وأما في المعنى العام فإنهما متساوقان .

وسوف نورد إليك فيما يلي بعض الأقوال الشارحة لحقيقة مذهب الفلاسفة في الجهة .

قال الإمام الرازي في شرحه على عيون الحكمة (2/65): (( الجهة شيء موجود، بدليل أنه مقصد للمتحرك أو متعلق الإشارة الحسية، وكل ما كان كذلك فهو موجود، ثم نقول: وهي من الموجودات المحسوسة بدليل أنها متعلق الإشارة الحسية، ثم نقول أيضاً: وهي حد غير منقسم، إذ لو انقسم لكان المتحرك إذا وصل إلى نصف ذلك المنقسم ثم بقي متحركا فإن قلنا إنه متحرك بعد إلى الجهة، فالجهة وراء المنقسم، وإن قلنا إنه يتحرك عن الجهة فالجهة هي ذلك المنقسم، وما وراءه خارج عن الجهة )) اهـ .

وقال ابن سينا في عيون الحكمة: (( كل جهة فهي نهاية وغاية ويستحيل أن تذهب الجهة في غير النهاية، إذ لا بعد غير متناه، وإذ لو لم يكن إليها إشارة لما كان لها وجود، وإذا كان لها إشارة فهي حد، ليست وراء ذلك، ولو كان حد ما أمعنت إليه الجهة، لم يحصل، لم تكن الجهة موجودة لشيء )) اهـ .

وفسر الإمام الرازي هذه العبارة بقوله في (266): (( إن الجهة تكون مقصد المتحرك، بمعنى أن المتحرك يطلب الوصول إليه والحصول فيه، ولو كانت الجهة غير متناهية، لامتنع كونها كذلك، لأن الوصول إلى غير المتناهي والانتهاء إليه محال، وهذا هو المراد من قوله لو كان حد ما أمعنت إليه الجهة لو لم يحصل له حد ونهاية لم يكن الوصول إليه مطلوباً بالحركة، فلم يكن مقصداً للمتحرك، فلم يكن الوصول إليه مطلوباً للحركة، فلم يكن مقصدا للمتحرك، فلم تكن الجهة موجودة لشيء. وهذا هو تفسير هذه الألفاظ بقدر الإمكان )) اهـ .

وقال بهمنيار في التحصيل ص606: (( إنه قد سلف حيث تكلمنا في التناهي وغير التناهي أن الجهة متحددة، وأنه إذا تحدد السفل تحدد العلو، فكلما وجدت حركة مستقيمة تعيَّنَ تركٌ وقصدٌ، وحيث تعين ترك وقصد يتعين مبدء ومنتهى، فكلما وجدت الحركة المستقيمة وجب أن يكون مبدء ومنتهى، ونحن نسمي ذلك جهة .

ولا يصح أن يتحرك شيء من جهة إلى جهات كثيرة وإلا لم يكن الحركة طبيعية، فيجب أن تكون الجهة اثنين، فإحداهما يسمى فوقا والأخرى يسمى أسفل .

ثم لا يصح أن يكون المبدأ والمنتهى أمرين معقولين لما ستعرفه من بعد، فبقي أن يكونا أمرين مشارا إليهما، ذوَيْ وضع. وحيث تعين أحدهما تعين الآخر، فلهذا يجب أن يكون البعد من شرط تحدد الجهة، ويجب أن يكون كل واحد منهما من الآخر في نهاية البعد. فيجب أن تكون الجهة ذات وضع غير منقسمة )) اهـ .

ثم قال: (( ولا يخلو إما أن يكون تحدد الجهة بجسم واحد أو أكثر من جسم واحد، فإن كان أكثر من جسم واحد فإما أن يكون بجسمين أو بأكثر منهما، فإن كان بجسم واحد فإما أن يكون مستديرا أو غير مستدير، فإن كان مستديرا فإما أن يكون على سبيل الإحاطة أو على سبيل المركز، فإن كان على سبيل المركز تحدد إحدى الجهتين ولم يتحدد الأخرى، فبقي أن يكون على سبيل الإحاطة .

وذلك إما أن يكون بافتراض حدين في سطحه الخارج أو في سطحه الداخل، ولو كان يتحدد الجهتان بافتراض حدين في سطح واحد لكان اختلاف الجهتين لاختلاف أمرين متفقين في النوع مختلفين في العدد، والتالي محال، فإذن إنما يصح أن يحدد الجسم المستدير الموجود على سبيل الإحاطة الجهتين بأن يتحدد إحدى الجهتين به والأخرى بمحويِّهِ، وهذا هو المركز أو ما هو في حكم المركز )) اهـ .

ثم قال في ص610: (( فإذن المحدِّدُ هو جسم واحد يحدد الجهتين على سبيل الإحاطة والمركز لا غير، فقد بانَ أن الجهات يتحدد على سبيل الإحاطة فقد تعينت الإحاطة، وإذا تعينت الإحاطة تعين لأجلها المركز، ولا جهة إلا فوق وأسفل .

ولنجمل هذا الكلام فنقول: إن التحديد إما أن يكون بجسم مستدير أو أجسام مستديرة، لأن المحدد يجب أن يكون جسما طبيعيا، ولو كان المحدد جسمين أو أكثر لزم أن يكون قد تحددت الجهة من قبل الجسمين أو الأجسام، وأن يكون تلك الأجسام يصح عليها مفارقة أمكنتها، ومحدد الجهات لا يصح عليه مفارقة مكانه. ولو كان المحدد جسما واحدا مستديرا وتحدد منه سطح القرب وسطح البعد، لزم أن يكون الشيء الواحد مطلوباً ومهروباً عنه، فيجب أن يكون المستدير المحدد يحدد على سبيل الإحاطة والمركز، فيجب أن يكون هذا الجسم متقدما على سائر الأجسام التي يتحرك على سبيل الاستقامة حتى يصح وجود الحركة المستقيمة .

وأما سائر الجهات أعني قدام وخلف ويمين ويسار فللأجسام بما هي حيوانات .

وهذا الجسم لا يصح عليه الانتقال بالحركة المستقيمة، لأنه لا يخلو إما أن يقتضي طباعه الكون في تلك الجهة أو لا يقتضي، فإن لم يقتض فكيف يتحدد به الجهة ، وجائز أن لا يكون هناك، وإن اقتضى طبعه الكون في تلك الجهة وكان مع ذلك جائزاً أن يعرض له أن لا يكون في تلك الجهة، وهو بالطبع يطلبها، وجب أن يكون تلك الجهة حاصلة حتى يطلبها هذا الجسم بكليته وأجزائه، فلا يكون الجهة متحددة الذات بهذا الجسم بل بشيء آخر، وقد فرضت متحددة بهذا الجسم، وهذا الجسم يجب أن يكون مُبْدَعَاً )) اهـ .

فهذا بعض ما قاله بهمنيار تلميذ ابن سينا في معنى الجهة، وأما المكان فقد قال في ص378 من نفس الكتاب: (( والمكان قد يُعنَى به ما يكون محيطا بالجسم، وقد يعنى به ما يستقر عليه الجسم، والمطلوب في هذا المكان هو الأول، وهو حال للمتمكن، مفارق له عند الحركة مساوٍ له، لأن الشرط أن لا يوجد جسمان في مكان واحد، والمكان يفارق المتمكن عند الحركة، والهيولى والصورة لا يفارقان المتمكن عند الحركة، فالمكان ليس بهيولى ولا صورة، وأيضاً فإن المكان يكون الحركة فيه، والصورة والهيولى تكون الحركة معهما، فبين أن المكان ليس بهيولى ولا صورة .

والمعتقد في المكان مذاهب:

فمنها أن يقال إنها أبعاد مفطورة بين الأجسام من الأجسام، والقائلون بهذا على قولين، فمنهم من قال إن هذا البعد لا يوجد خالياً عن متمكن، ومنهم من قال إنه قد يوجد خالياً، وهؤلاء هم القائلون بالخلاء، ومنهم من قال إنه الهيولى والصورة، ومنهم من قال إنه السطح من الجسم الحاوي المماس للمحوي، وقد أبطلنا مذهب من قال إن المكان هيولى أو صورة، وحجة القائلين بالأبعاد تقرأ من كتاب الشفاء، وسنورد في خلال ما نتكلم فيه جملا منها )) اهـ .

ثم قال في ص391 وذلك بعد أن ناقش الأقوال الأخرى: (( فإذن قد اتضح لك أن المكان ليس هو هيولى الشيء ولا صورته ولا خلاءا ولا بعدا، فلا بد من أن يكون شيئا من الجسم، فإما أن يكون على سبيل التداخل وإما أن يكون على سبيل الإحاطة، وقد بان لك امتناع التداخل فإذن يكون على سبيل الإحاطة .

وإذا قيل: إن المكان مساوٍ للمتمكن، فليس يُعنَى به جسم المتمكن، بل يعنى به سطح المتمكن، ومساوي السطح سطح، فالمكان هو السطح المساوي لسطح المتمكن، وهو نهاية الحاوي المماسة لنهاية المحوي، وقد عرفت من هذا أن المكان سطح لا مقدار آخر، والخط والسطح والنقطة لما كان انتقالها بالعرض مع الجسم، لم يكن في مكان بالذات، وإنما المكان لما يتحرك بالذات .

والمكان وإن كان لا غنى عنه في الحركة، فليست علة فاعلية للحركة، لأن العلة الفاعلية للحركة القسرية معلومة، وكذلك علة الحركة الإرادية، وهما غير المكان، وليس كل ما لا يستغنى عنه علة فاعلية. فإن العلة أيضاً لا بد لها من المعلول، وليس المعلول بعلة للعلة، بل العلة هي التي لا بد منها، وهي لذاتها لا لغيرها أقدم من المعلول في الوجود، وسبب لوجود المعلول على ما نبنيه )) اهـ .

ثم قال: (( فالمكان أمر لازم لموضوع الحركة، فإن موضوع الحركة من حيث هو جائز عليه التحرك وهو في مكان لا محالة )) اهـ .


ثالثاً في بيان معنى كون الله تعالى ليس في جهة عند المتكلمين


الجهة عند المتكلمين كما بيناه هي عبارة عن نسبة بين جسمين، والأجسام هي المتحيزة بذاتها وكل جسم محدود، فكأن المتكلمين أرجعوا الجهة إلى نسب بين أي جسمين، ولم يرجعوا الجهات كلها إلى جسم واحد فقط، ولهذا فإن الجهات عندهم إضافية ليست ثابتة، خلافا للفلاسفة .

ولو تأملنا في نفس الأمر، لوجدنا قولهم أصح مما قاله الفلاسفة، فلا معنى لوجود جهة عامة أو كلية، تتحدد بجسم يحوي جميع الأجسام .

وأما كون الله تعالى ليس في جهة فمعناه عند المتكلمين أن الله تعالى لا يوجد بينه وبين أي جسم مناسبة ولا بعد، وهذا راجع إلى كون الله تعالى ليس محدوداً، لما رأينا .

ثم إن أصل القول بالجهة هو القول بوجود محدود ومحدِّد، وبالنسبة لله تعالى لما لم يكن متحيزاً فإنه استحال عليه أن يكون في جهة وأن يكون في مكان، ولا معنى للقول بأنه في جهة وأنه ليس في مكان، وهذا بناءاً على قول المتكلمين .

وأما الفلاسفة، فإن المكان عندهم هو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي، فلو فرضنا الله تعالى في جهة عندهم، كما يدعي ابن رشد، باعتبار أنه في السماء أي فوق الفلك الأعلى، لكان لا محالة محدوداً، كما سنوضحه في مناقشتنا له، وأما أن يكون في مكان، فهذا ليس بلازم على رأيهم، وأما لو اعتبرنا تعريف المكان عند المتكلمين الذي ينفيه أيضاً عن الله تعالى الفلاسفةُ، فإن الله تعالى ليس في مكان أيضاً .

أي إن الحاصل أن الله ليس في مكان ولا في حيز بناءاً على معنى المكان والحيز عند المتكلمين، وأما بناءا على رأي الفلاسفة فهو ليس أيضاً في مكان، وكذلك بناءاً على رأي ابن رشد، وأما الجهة فإن الله تعالى ليس في جهة بناءا على رأي المتكلمين، وأما على رأي الفلاسفة فهو ليس في جهة أيضاً لتلازمها مع المحدودية، وهم قد نفوا كون الله تعالى محدوداً، وأما على رأي ابن رشد فهو في جهة؟! وهذا هو محل الاستغراب .

وسوف نبين كيفية غرابته وسبب قوله به فيما يلي .

هذا هو حاصل هذه المسألة العويصة، قد بيناها لك بصورة لم يوضحها أحد من السابقين، أقصد بيان تهافت رأي ابن رشد، وسوف يزداد ذلك لك وضوحاً فيما يلي .


رابعاً الشروع في نقد كلام ابن رشد


أما قول ابن رشد: (( والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها، هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، ونحن نقول أن هذا كله غير لازم ))، فهو ضعيف جداً، فإنه يدعي هنا أن إثبات الجهة لا يستلزم إثبات المكان، وإثبات المكان لا يستلزم إثبات الجسمية، وهذا باطل .

أما بيان التلازم بين الجهة والمكان، فهذا يتضح على رأي المتكلمين، فإنه يقولون إن الحيز هو المكان، والمكان هو الفراغ الموهوم الذي يشغله الجسم وتنفذ فيه أبعاده، وأما الجهة فهي نسبة في الأين بين جسمين أو محدودين، ولذلك فهي إضافية، فبناءاً على ذلك فإنه لا يمكن أن يتعقل الواحد جهة إلا لمحدود، وهذا الكلام صحيح حتى على رأي الفلاسفة، كما سبق بيانه .

فلو قلنا: إن الله تعالى في جهة، فإنه يلزم منه مباشرة إنه محدود، على الأقل من جانب، وهذا التلازم بين الجهة والمحدودية أهمل ابن رشد ذكره هنا لأنه لو صرح به فإنه يعود على رأيه بالبطلان، ويهدم كلامه هدماً، مع وضوحه، فكل من قال بأن الله تعالى في جهة فإنه يلمه القول بأنه محدود .

وابن رشد لا يجرؤ على القول بأن الله تعالى محدود .

وقد أدرك ابن تيمية هذا التلازم بين الجهة والحد، فاعترف أنه يلزمه بناءاً على مذهبه في إثبات الجهة أن يثبت الحد أيضاً، فأثبت الحد والجهة .

ولما كان إثبات الحد ولو من جانب يلزم عنه إثبات الحد من جميع الجوانب، لما ذكرناه من انتفاء الأبعاد اللانهائية، فإنه يلزم من قال بإثبات الحد لله تعالى أن يقول بأنه محدود من جميع الجوانب، أما أن يقول إنه محدود من جانب دون جانب، فهو قول متهافت، كما ترى .

ولهذا أيضاً فإن ابن تيمية قد قال بإثبات كون الله تعالى محدوداً من جميع الجهات الست، وقد بينا ذلك في موضعه .

وأما ابن رشد فلما رأيناه كيف يفر من ذكر الحد لله تعالى، مقتصراً على إثبات الجهة فقط، وهذه مغالطة محضة، وهدفه من إثبات الجهة لله تعالى هو مجرد مخالفته للأشاعرة ومناقضتهم لكي يتيح الفرصة أمام فلسفة أرسطو للدخول في الفكر الإسلامي .

على كل حال فإنه لما اعترف بلزوم القول بالجهة، فإنه يلزمه على جميع الأقوال حتى على قول الفلاسفة أن يثبت الحدَّ لله تعالى من جميع الجهات، وإثبات الجهة لله تعالى مع إثبات الحد له من جميع الجهات، يلزم عنه إثبات الوضع، أي كونه في وضع بالنسبة إلى غيره من المتحيزات، وهذا اللازم بين لا يستطيع أن ينفك عنه ابن رشد ولا غير ابن رشد .

فهل بعد ذلك كله، يستطيع أن يقول: إن إثبات الجهة لله تعالى لا يلزم عنه إثبات الجسمية له تعالى ؟!!

إن مجرد إثبات الجهة والفرار من إثبات الجسمية والحد، مغالطة سخيفة؟ لا تصدر إلا من فكر بارد .

فظهر بذلك أنه لا وجه لصحة استعاده للتلازم الذي قال به المتكلمون بين الجهة والجسمية .

وقد حاول هو الفرار من هذا التلازم بأن قال: إن الجسم هو المتمكن، أي الحال في مكان. وعرف المكان بناءاً على رأي الفلاسفة من أنه السطح الباطن المماس للظاهر من المحوي، وبناءاً على ذلك فقط، أمكنه ادعاء أن الله تعالى في جهة وليس في مكان، لاستحالة القول بأنه محوي في غيره .

ولكن هذا التبرير والتخريج ليس بصحيح لما قلناه من التلازم بين الجهة والحد والمكان، بالمعنى الذي قاله المتكلمون .

وأما المكان بالمعنى الذي قاله الفلاسفة، فإنه لازم للقول بالحركة، والحركة إما وضعية، وإما أينية، فالوضعية عند الفلاسفة ممكنة لما كان في مكان، وأما ما لا يكون في مكان، فإن الحركة الوضعية وهي دوران الشيء على مركزه جائزة في حقه .

فابن رشد في إثباته للجهة في حق الله تعالى يكون قد أثبت الوضع له، فوجب عليه أن يجيز عليه الحركة الوضعية، وهذا في غاية الشناعة .

ثم لو أكملنا تعقل التلازم بين الجهة والحد وبين الحد والوضع، ثم انتبهنا إلى أن المحدود من جهة يجب أن يكون محدودا من سائر الجهات، فإن التلازم يصير واضحاً بين الجهة والجسمية كما ترى .


تنبيه: لاحظ أن الفلاسفة قالوا، إن محدد الجهات يجب أن يكون جسماً، فلو قال ابن رشد: إن الله تعالى فوق الفلك الأعلى، وأن الله تعالى في جهة من هذا الفلك، لصار الفلك في جهة من الله تعالى، وأصبح الله تعالى هو المحدد للجهات كلها وليس الفلك الأول، ويلزم على هذا حتى على رأي الفلاسفة أن يكون الله تعالى جسماً .

واعلم كما سبق أن نقلناه لك أن المحدد للجهات لا يكون إلا جسما، أو حداً لجسم، وما كان في جهة فقد وجب أن يكون جسما أو حداً لجسم .

وعلى أقل تقدير، فإن المحدود عند الفلاسفة يجب أن يكون ممكناً في ذاته، وكل ما هو في جهة فإنه يجب أن يكون محدودا، فيلزم ابن رشد أن يكون الله تعالى ممكناً في ذاته، لأنه في جهة عنده .

ولما قال الفلاسفة: إن محدد الجهات كلها هو سطح الفلك الأعلى، وجب أن لا يكون ثم جهة فوق هذا المحدد، وإلا بطل أن يكون محدِّداً للجهات، وكلام ابن رشد يناقض هذا الكلام، فإنه يقول بما قاله الفلاسفة من المحدد، ومع ذلك يقول بأن الله تعالى في جهة، فيلزمه إما أن يكون الله تعالى داخل الفلك الأعلى، أو أن الفلك الأعلى ليس هو المحدد للجهات، وحينذاك فقد أثبت الفلاسفة على رأيهم أن المحدد يجب أن يكون سطحاً واحداً، ويجب أن يكون كروياً، فيلزمه عند ذاك أن يكون الله تعالى كروياً وأن يكون هو محدد الجهات، وهذا كله شنيع لا يقول به عاقل، وأنا أقول إنه الأقرب إلى مذهب ابن رشد .

ويلزم ابن رشد كثير من اللوازم الباطلة، ولكننا لا يمكن أن نذكرها هنا لما أن المحل لا يليق به التفصيل .

ونأمل في قوله: (( لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسم ))اهـ .

يريد أن يقول وبما أن ما فوق الفلك ليس بمكان، فالموجود الذي هناك ليس بجسم، كذا قال، وهو قد نسي أن الجسم إذا كان محيطاً هو الذي يلزم عنه وجود المكان على قول الفلاسفة، ولا يجوز أن يقال ما دام هناك ليس مكاناً، إذن فالموجود فيه ليس جسما، لأن هذا كلام لا معنى له، فهناك ليس بمكان ولا بجهة أصلاً، فلا يقال: إن الموجود هناك في جهة ولا يقال إنه في مكان، بل ليس هناك شيء يشار إليه إشارة حسية أصلاً .

فكلمة هناك تستعمل عادة في الإشارة الحسية، ونحن استعملناها هنا في الإشارة الذهنية، وهو استعمال جائز ولكن يختلط الأمر على من لم يمعن النظر .

وتأمل في المغالطة الكبيرة التي وقع فيها ابن رشد، فهو قد نفى أن يكون المحيط بالجميع جسماً، بحجة إنه ليس في مكان، أي ليس يوجد شيء يحيط به، بل هو يثبت له أنه في جهة فقط، وهذا سقوط منه، لأن الجسمية أمر لازم للشيء وذاتي له، وأما المكان فهو إضافي، ويمكن أن يكون الشيء جسماً وليس في مكان أصلاً، كما في هذه الحال .

فالفلاسفة قالوا إن المحدد جسم بسيط كروي الشكل، وأما ابن رشد، فيدعي أن ما فوق العالم أو الفلك المحيط بالأشياء ليس بجسم أصلاً، وحجته في ذلك أنه لا يحيط به غيره، وهذا تهافت شنيع منه، بينَّا لك سببها .

فاللازم الذي يلزمه أن يقوله إذن بناءاً على نفس قياسه، هو بما أنه ثبت وجود موجود هناك، وأنه في جهة وثبت أنه لا يحيط به غيره، فقد ثبت أنه جسم ليس في مكان، ولا يجوز أن يقول إن الثابت أنه موجود ليس بجسم، فتأمل في هذه فإنها نفيسة، وتكشف لك عن مغالطاته الفاسدة .

وهو يصر بعد ذلك كله في ص85 على أن ما وراء الفلك الأعلى ليس بمكان وليس له زمان فقال: (( وذلك أن ذلك الموضع ليس هو بمكان، ولا يحويه زمان، وذلك أن كل ما يحويه الزمان والمكان فاسد )) اهـ .

فانظر رحمك الله تعالى كيف يشير إلى ما فوق الفلك الأعلى بأنه موضع، وهذا يثبت لك أنه يقول بأن الله تعالى ذو وضع كما أفهمناك سابقاً، ثم يقول إن ذلك الموضع ليس بمكان،ولا في زمان، ومجرد هذا عنده أجاز وصحح أن يكون الله تعالى فيه؟! تعالى وتقدس عن هذا المذهب الفاسد .

والحاصل أن في كلام ابن رشد تهافتات كثيرة ومتتالية، ولا نستطيع أن نعددها لك كلها هنا، ولكننا اقتصرنا على لفت نظرك إلى بعضها، والله الموفق .


وتأمل هنا زيادة على ما ذكرناه لك قوله في ص84: (( وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، لأنه لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية )) اهـ .

فإن هذا الكلام ليس بلازم ولا حتى على مذهب الفلاسفة، لأنه لا يشترط في الشيء لكي يكون جسماً أن يكون محاطاً بجسم آخر، أو بسطح يحدده، وبالتالي فما ادعاه ابن رشد من استحالة كون الخارج عن العالم الذي في جهة جسماً، مجرد ادعاء ساذج، فلو كان هناك شيء موجوداً ومحدداً ومتموضعاً، وفي جهة لكان جسماً قطعاً وإن لم ثمة جسم آخر يحيط به .

وتأمل في كلامه التالي الذي استشهد به على أن الله تعالى في السماء ص85: (( ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين يريدون الله والملائكة )) اهـ .

فتأمل رحمك الله كيف يستشهد ابن رشد بهذه العبارة وبهذه المعتقدات الفاسدة الوثنية، وذلك كله لمجرد معارضة الأشاعرة وتحريك الاعتقاد بهم من نفوس الناس، فهو يقول: إن ما وراء الفلك الخارج هو موضع، وذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، والروحانيون هم الله والملائكة، فجعل الله ساكناً في مسكن هو ما وراء الفلك الخارج من العالم، وهذه هي نفس عقائد الوثنيين كما هو معلوم .

والموضع لا يمكن أن يكون إلا مكاناً، ومع ذلك تراه بكل جرأة ينفي أن يكون مذهبه مؤدياً إلى إثبات المكان لله تعالى، وهذه هي العقيدة التي يريد ابن رشد من العامة أن يؤمنوا بها .

وأما الخاصة فإنه يدعي بكل وقاحة أن عليهم أن ينفوا كون الله تعالى محدوداً وفي مكان، فمذهبه يؤدي إلى أن يصبح العامة معتقدين بعقيدة تخالف عقيدة الخاصة، وهذا مذهب مرذول!!

وبعد ذلك كله كيف يتجرأ ابن رشد على القول في ص85 (( فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل )) اهـ ، وكأن ابن رشد لشدة كرهه في مذهب الأشاعرة والمتكلمين فَقَدَ رُشْدَهُ، فكيف يقول فيلسوف بإثبات الجهة لله تعالى ؟! وكيف يدعي أن ذلك موافق للعقل ؟!

وبعدُ، فقد تبين لك أن الجهة التي ينفيها المتكلمون هي الجهة اللازمة للحيز والمكان، وأن هذين لازمان للأجسام، لا يعارض في ذلك إلا مغالط، وأما ابن رشد فإنه يأتي بمعنى جديد يسميه جهة، ويدعي أنه لا يلزم على إثباته إثبات المكان، ولا يشير إلى الحد، ولكنه يعترف بأنه موضع، وهذا لعمري تعارض في كلامه لأن المكان والموضع واحد، إلا إذا كان يقول بأن الموضع ليس بمكان ؟! وهو تهافت .

وأما ابن تيمية فإنه اعتمد على مجرد قول ابن رشد بأن الفلاسفة يثبتون الجهة، واعتبر ذلك كافياً للإخبار الصحيح عن عقائد هؤلاء، ولم يهمه على أي معنى يثبت ابن رشد الجهة، وهل ما نسبه ابن رشد إليهم صحيح أو باطل؟!

ومع ذلك فقد خالف ابنُ تيمية ابنَ رشد في مذهبه وأثبت المكان لله تعالى صراحة وأثبت الحيزَ لله تعالى صراحة وأثبت الحدود لله تعالى صراحة، ولم يغالط نفسه مع أنه وقع في مغالطات كبيرة للشريعة والمعقولات .

ولكن العاقل يعرف مع ذلك كله أن احتجاج ابن تيمية في إثبات الجهة على رأيه بقول ابن رشد، هو احتجاج فاسد، وذلك لأن الجهة على رأي ابن رشد يخالف مفهومها معنى الجهة على رأي ابن تيمية كما رأينا، فالاشتراك فقط في الأسماء، وابن تيمية يعرف ذلك ولم يشر إلى ذلك قطُّ .

وكثير من الناس الغافلين يظنون أن ابن رشد موافق لابن تيمية في ذلك، وأن ذلك بالفعل عقيدة الفلاسفة، وهذا إنما يدل على جهلهم وسذاجتهم الفكرية. فالأمر كما ترى أعقد من أن يكفي لنشره وبيانه مجرد كلمات جوفاء تخرج من فم إنسان يشهد على نفسه بالجهل المطبق لكلام هؤلاء .

وأما كلام ابن رشد بعد ذلك في أصل الخلاف في أمة الإسلام فمعظمه تهافت ولا نريد هنا أن نتعقبه لئلا تطول هذه المقالة .

ولكن من يقرأ كلامه ويفهم معانيه، يعلم قطعاً أن مراده إنما هو الرد على المتكلمين أصالة ورد مقالاتهم، وذلك بغض النظر عن صحتها في نفس الأمر أو لا، وذلك كله متوافق مع مذهبه وطريقته كما وضحناها لك في أول هذه المقالة .


فائدة وسوف نورد لك هنا بعض ما ذكرناه في معنى الحيز والمكان في كتابنا شرح مقولات السجاعي الذي جمعنا فيه حواشي العطار وزدنا فيه فوائد عديدة . قلت في ص60 من الكتاب المشار إليه:

(( فصل: ويكون الجسم حاصلاً في المكان أي في الحيز الذي يخصه ويكون مملوءاً به، ويسمى هذا أيناً حقيقياً .

والحيز والمكان مترادفان عند الحكماء على ما صرح به منلا زادة في شرح الهداية، ونقله القاضي مير عن الطوسي في شرح الإشارات، لكنه تعقبه بأن المفهوم من كلام الشيخ في الشفاء أن الحيز أعم من المكان .

وأما عند المتكلمين فعن الطوسي في شرح الإشارات كما نقله عنه القاضي مير أيضاً أن المكان غير الحيز، لأن المكان عندهم قريب من مفهومه اللغوي، وهو ما يعتمد عليه المتمكن كالأرض للسرير، وأما الحيز فهو عندهم الفراغ المتوهم المشغول بالمتحيز الذي لو لم يشغله لكان خلاءًا، كداخل الكوز للماء .

وعرفوا الأين أيضاً بأنه هيئة تحصل للجسم بالنسبة إلى المكان، وليس هو نفس النسبة إلى المكان، بل النسبة إليه من لوازمه، إذ كون الشيء في مكان أي حصوله فيه يلزمه النسبة إلى المكان، كما ذكره في شرح التجريد .

قال في شرح الطوالع: الأين هو حصول الجسم في المكان، ومفهومه إنما يتم بنسبة الجسم إلى المكان الذي هو فيه، فإن نسبته إلى المكان من لوازمه لا أنه نفس النسبة إلى المكان اهـ هذه العبارة أوضح من عبارة شرح التجريد )) اهـ .


وفي ص 77 من نفس كتاب شرح مقولات السجاعي قلتُ:

(( فصل: اعلم أن المكان لغة موضع كون الشيء، وهو حصوله. واختلفوا في حقيقته على ثلاثة أقوال:

فقيل هو السطح الباطن للحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي، وهو قول أرسططاليس، وتبعه المتأخرون من الحكماء، وجرى عليه الفارابي وابن سينا، وضُعِّفَ بلزوم التسلسل لأن كل جسم له حيز، وحيزه هو السطح الباطن لحاويه المماس للسطح الظاهر له، وهلم جرا. وحاصل الجواب منع لزوم التسلسل لأنه مبني على أن كل جسم له مكان، والقائل بأن المكان هو السطح يقول بأن الأجسام تنتهي إلى جسم ليس له حيز، وله وضع، فما تنتهي إليه كرة العالم وهو الفلك الأطلس المسمى بالمحدد، ليس وراءه جسم يحويه، وله وضع بالقياس إلى ما يحويه مما دخل فيه من الأجسام .

والسطح عندهم عرض حال في الجسم متعلق بأطرافه ونهاياته دون أعماقه، فليس حالاً فيها .

وقيل: هو بعد أي امتداد موجود ينفذ فيه الجسم بنفوذ بعده القائم به في ذلك البعد بحيث ينطبق عليه . وقائل هذا القول أفلاطون، ويسمى بعداً مفطوراً، بمعنى أنه مقهور مفطور عليه بالبديهة، وهو ضعيف أيضاً لأنه لو حصل جسم في بعد مجرد موجود لزم تداخل البعدين واتحادهما لأن الإشارة إلى أحدهما حينئذ عين الإشارة إلى الآخر، وتداخل الأبعاد باطل، لأنه يفضي إلى جواز تداخل العالم في حيز خردلة، وهو محال بضرورة العقل .

وقيل: هو بعد مفروض موهوم، وهذا القول للمتكلمين أي إن المكان على هذا عدم محض ونفي صرف يمكن أن لا يشغله شاغل، وهو المراد بالفراغ الموهوم )) اهـ .


وفي ص79 قلت ((قال العلامة العطار: المكان إما بُعدٌ موجودٌ، أو موهومٌ، أو السطح، وهذا هو حاصل المذاهب كما تقدم )) اهـ .


ثالثاً: الكلام على الرؤية


هذه المسألة من أشهر المسائل الكلامية بين الفرق الإسلامية، وقد كثر فيها النقاش وتفننوا في إيراد الأدلة على ما يقولون .

وقد اشتهر الأشاعرة بقولهم في إثبات الرؤية مع نفيهم للجسمية والجهة، واختلاف المسلمين إنما هو منصب على أن من أثبت الجهة فقد سهل عليه أن يثبت الرؤية، لقوله بالجسمية ولو بالمعنى، وأما من نفى الجهة فقد نفى الرؤية لادعائه للتلازم الحاصل بين الجهة والجسمية والرؤية .

وأما الأشاعرة فقد خرجوا من هذا المضيق وقالوا بنفي الجهة وإثبات الرؤية، موافقين في ذلك للشريعة ومطردين مع الأصول العقلية .

وقد احتار ابن رشد كيف يغالط الأشاعرة في هذه المسألة، وما هي الأساليب التي يتبعها في ذلك، والحقيقة كما ستعرفها أيها القارئ أنه وبعد الجهة الكبير لم يستطع أن يستند إلى أمر يكون صحيحاً في نفسه وثابتا بحيث يستطيع الاعتماد عليه في معارضة الأشاعرة .

وسوف نبين لك بعض ما وقع فيه هذا الرجل باختصار هنا، فقد قال في ص91 وذلك بعدما أورد رأي المعتزلة في نفيهم للرؤية: (( وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس، فعسر ذلك عليهم ولجأوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية متوهمة، أعني الحجج التي توهم أنها صحيحة وهي كاذبة )) اهـ .

بهذا الكلام استهل ابن رشد نقده للأشاعرة، ومع أن هذا أول كلامه، إلا إنه وقع فيه في مغالطات وأكذوبات عليهم .

فهو يتهمهم هنا بالقول بحجج سوفسطائية متوهمة، والمفروض عند العاقل أن لا يلجأ إلى مثل هذه الاتهامات خصوصاً مع العقلاء إلا إذا كان إثباته لما يقول يعتمد على أدلة واضحة جلية لا يستطيع أحد أن يعارضها، وسوف نرى فيما يلي الطريقة التي يتبعها ابن رشد في ذلك، ويتبين للقارئ الكريم هل الأدلة التي يعتمد عليها قوية إلى تلك الدرجة التي تؤهله للتصريح بمثل هذا الاتهام ؟!

وأول المغالطات التي وقع فيها ابن رشد هي ادعاؤه أن الأشاعرة (( فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس )) .

فهل فعل الأشاعرة ذلك، وهل هذا الذي ذكره ابن رشد كان يريده الأشاعرة بالفعل، وعلى أي صورة أراده الأشاعرة وما هي الصورة التي يفهم ابن رشد فيها قولهم؟! هذه أسئلة يجب على الباحث المنصف أن يجيب عليها قبل الشرع في بحثه .

إن قول ابن رشد بأنهم راموا الجمع بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس، هذا القول فيه مغالطة واضحة لمن يتأمل، ونحن سنبين قول الأشاعرة من كلامهم وذلك قبل الشروع في نقد عبارة ابن رشد .

قال الإمام الغزالي في كتاب الاقتصاد ص95: (( المسلك الثاني وهو الوصف البالغ أن تقول إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرائي عند النظر إلى الأجسام والألوان، وهيهات فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه )) اهـ .

إذن فإن الغزالي وهو من هو عند الأشاعرة، يصرح بواضح العبارة بأن المراد من رؤية الله ليس هو نفس المعنى المراد من رؤية الأجسام، والحالة التي تحدث عند إدراك الأول ورؤيته، ليست هي نفس الحالة التي تحصل عند رؤية الله تعالى .

وقد رأيت أن ابن رشد يدعي أن الأشاعرة راموا إثبات رؤية الله تعالى بالحواس، وهذا يظهر منه أنه ينسب إليهم القول بتساوي هاتين الحالتين، وهذا باطل كما تبينته من كلام الغزالي .

ثم قال الإمام الغزالي: (( ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق ونسكبه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقية أثبتناه في حق الله تسبحانه، وقضينا بأنه مرئي حقيقة وإن لم يكن إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع، واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل .

وتحصيله أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات، فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو .

فنقول أما المحل، فليس بركن في صحة هذه التسمية فإن الحالة التي تدركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو الجبهة مثلا لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم .

ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا أن أدركنا الشيء بالقلب أو بالدماغ أنا أدركنا الشيء بالدماغ وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين .

وأما المتعلَّق بعينه فليس ركنا في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، ولو كان لتعليقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية. فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركنا لوجود هذه الحقيقة وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث إنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود، أي موجود كان وأي ذات كان .

فإذا الركن الذي الاسم طلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه، فلنبحث عن الحقيقة ما هي؟

ولا حقيقة لها إلا إنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالإضافة إلى التخيل، فإننا نرى الصديق مثلا ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل والتصور، ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته، ولا ترجع تلك التفرقة إلى إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق، وليس بينهما افتراق إلا أن هذه الحالة الثانية كالاستكمال لحالة التخيل وكالكشف لها، فتحدث فيها صورة الصديق عند فتح البصر حدوثا أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال والحادثة في البصر بعينيها تطابق بيان الصورة في الخيال.

فإذا التخيل نوع إدراك أعلى رتبة، ووراءه رتبة أخرى هي أتم في الوضوح والكشف بل هي كالتكميل له فتسمى هذا الاستكمال بالإضافة إلى الخيال رؤية وإبصارا، وكذا من الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله، وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته وكل ما لا صورة له أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال. فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك .

فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الإرداك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل، فإن كان ذلك ممكنا سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالإضافة إلى العلم رؤية كما سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالنسبة إلى التخيل رؤية. ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما. وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته، بل تكاد تدرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومات كلها .

فنحن نقول: إن ذلك غير محال، فإنه لا مُحيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له. إلا أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا العالم، والنفس في شغل البدن وكدورة صفاته، فهو محجوب عنه. وكما لا يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما في العين سببا بحكم اطراد العادة لامتناع الإبصار للمتخيلات، فلا يبعد أن تكون كدورة النفس وتراكم حجب الأشغال بحكم اطراد العادة مانعا من إبصار المعلومات، فإذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وزكيت القلوب بالشراب الطهور، وصفيت بأنواع التصفية والتنقية، لم يمتنع أن تشتغل بسببها لمزيد استكمال واستيضاح في ذات الله سبحانه، أو في سائر المعلومات يكون ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة الإبصار عن التخيل، فيعبر عن هذا بلقاء الله تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من العبارات، فلا مشاحة فيها بعد إيضاح المعاني .

وإذا كان ذلك ممكناً بأن خلقت هذه الحالة في العين كان اسم الرؤية بحكم وضع اللغة عليه أصدق وخلقه في العين غير مستحيل، فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية، علم أن العقل لا يحيله بل يوجبه، وأن الشرع قد شهد له، فلا يبقى للمنازعة وجه إلا على سبيل العناد أو المشاحة في إطلاق عبارة الرؤية أو القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها، ولنقتصر في هذا الموجز على هذا القدر )) اهـ .

هذا هو كلام الإمام الغزالي بكماله، من قرأه عرف بالضبط ما الذي يريده الأشاعرة من معنى الرؤية .

والمفروض في واحد مثل ابن رشد أن يكون قد قرأ ما كتبه الإمام الغزالي خصوصاً أنه قد نصب نفسه للرد على كثير مما كتبه .

وقد أحببنا أن نورد هذا النص على طوله، لكبير فائدته، وتعمَّدنا أن يكون النقل من كلام الإمام الغزالي لأن ابن رشد يجب أن يكون من أعرف الناس به، فما بالك بعد ذلك إذا رأيت ابن رشد ينفي هذه المعاني التي قررها الغزالي أن تكون مرادة للأشاعرة، بل لا يقتصر على ذلك فإنه ينسب تحقيق المعنى في الرؤية وحقيقتها كما ذكره الإمام الغزالي إلى نفسه !؟ وسوف ندلل نحن على جميع ذلك خلال مناقشتنا لكلامه .



([1]) هذا الكتاب والكتاب الذي قبله، سوف نعتمد فيهما على الطبعة التي أصدرها الأستاذ محمد عمارة، تحت سلسلة ذخائر العرب رقم 47، دار المعارف، 1969م .

([2]) سوف نعتمد في هذا الكتاب على طبعة دار الآفاق الجديدة، الطبعة الأولى 1402هـ-1982م.

([3]) هذه زيادة مني لتوضيح كلام ابن رشد.