الفنادق والخانات في الشرق الإسلامى في العصور الوسطى :-
هناك دوافع عديدة ومتنوعة جذبت الأجانب للقدوم إلى مصر والشام والتواجد بالدولة المملوكية ، ولذلك زاد عدد الرحالة والوافدين إلى البلاد المصرية والشامية ، فأصبح بها جاليات أجنبية كبيرة العدد ومتعددة الجنسيات ، حيث أوردت كتب الرحالة الأجانب معلومات تفيد بوجود عدد كبير من الأجانب في المدن الرئيسية في مصر والشام مثل الإسكندرية ، دمياط ، القاهرة ، دمشق ، بيروت ، بيت المقدس من الأرمن والأحباش واللاتينيين واليونانيين مسيحيين ويهود .
وقد اهتمت السلطات المملوكية بإقامة هؤلاء الأجانب ، وذلك ببناء الفنادق والخانات ليقيموا فيها فترة تواجدهم في الديار المملوكية ، لكن لم تسمح لهم السلطات أبدا بالتواجد الدائم في القاهرة العاصمة ، ولم يكن لهم فندق أو كنيسة لاتينية حتى أن البيازنة حينما حاولوا الحصول على تصريح من السلطان الأيوبي صلاح الدين الأيوبي ببناء فندق لهم في القاهرة لم يجب عليهم بالقبول أو بالرفض . ، وذلك الوضع استمر في العصر المملوكي ، حيث كان السلاطين المماليك يحرمون على الأجانب شراء السلع الشرقية القادمة من الهند من أسواق القاهرة ولذلك لم يكن هناك سبباً لتواجدهم في القاهرة لفترة طويلة تستدعي بناء فندق يقيمون فيه ، وبالتالي لم تكن القاهرة مدينة جذب بالنسبة للأوربيين بالإضافة إلى التعليمات التي فرضها السلطات المملوكية عليهم ومنعتهم من التجول داخل البلاد والمدن بحرية فاقتصرت إقامتهم في الثغور والموانئ ، وإذا انتقلوا إلى القاهرة فلم يكن ذلك إلا للضرورة القصوى ، كعرض شكوى أمام السلطان أو تقديم التماس لطلب العدالة وحل بعض المشكلات القائمة بين الأجانب والمصريين ، لذا لم يوجد في القاهرة سوى عدد محدود من الأوربيين ، ولم يكن هناك داعياً لبناء فندق لهم ولكنهم أقاموا في أماكن للضيافة ، سواء كانوا تجاراً أو حجاج أو قناصل لان إقامتهم كانت مؤقتة .
ودليلنا على ذلك أنه في عام 747 هـ/ 1346 م زار الراهب نيكولو بيجيبونسي القاهرة ، ولم يجد مكاناً يقيم فيه أثناء زيارته للكنائس والأماكن المقدسة في مصر سوى منزل أحد المسيحيين اليونانيين قرب حي النصارى . وعندما قدم الرحالة فريسكو بالدي وأصدقائه سيجولي وجيوشي عام 785 هـ/ 1384 م أقام الجميع في منزل معد للحجاج مقابل أجر معين ولكنه ليس فندقاً للأجانب . وكذلك السفير الفلورنسي فيلبيس برانكاشي الذي زار مصر عام 826 هـ /1422 م أقام في منزل أحد الأقباط من جزيرة كريت وكان يدعى غزالة مقابل مبلغ من المال . ، أما الرحالة بيرو طافور الذي كان سفيراً لملك قبرص إلى السلطان المملوكي عام 839 هـ/ 1435 م قابل كبير مترجمي السلطان في القاهرة وسمح له بالإقامة في منزله لمدة يومين لحين مقابلة السلطان ، وبعد ذلك أمر السلطان المترجم أن يوفر للضيف مسكن مريح له ويقدم له ما يحتاجه . أما الرحالة اليهودي ميشولم بن مناحم فأقام عند الناجيد ( رئيس اليهود) في القاهرة في منزله عدة أيام ، ثم جهز له وكيل الناجيد منزل مجهز بكل شئ ليقيم فيه وكان ذلك عام 1481 م . ، كما أقام الرحالة الألماني فون هارف والذي زار القاهرة عام 902 هـ/ 1496 م أقام في منزل كبير التراجمة في ذلك الوقت نظراً لعدم وجود فندق للأجانب بها وأقام رفاقه معه كل أثنين في غرفة ، ووصف تلك الغرف في المسكن بأنها حجرات ضيقة وليس بها شئ سوى أرض عادية فأضطر للنوم على الأرض . ، أما الرحالة جان تينو والذي وفد إلى مصر عام 918 هـ / 1512 م أقام في مبنى أو خان قرب أحد المساجد ، حيث لم يجد مكان للضيافة في القاهرة سوى ذلك الخان الذي استخدم لأي غريب عن البلاد ، وذلك الخان مكان مرتب ومنظم وفيه ينزل الغرباء إلى داخل المدينة لشراء لوازمهم واحتياجاتهم ، وكان الأقباط اللاتين يقيمون عند الترجمان ويدفعون له أربعة دوكات في الشهر مقابل الإقامة . ، في حين يذكر الرحالة فون برندباخ أنه عندما كان في القاهرة عام 888 هـ / 1483 م قابل قنصل البنادقة في المدينة ويبدوا أنه اعتقد أن القنصل يقيم فيها بصفة دائمة وأن التجار يقيمون معه . ولكن ذلك الرأي غير صحيح فقد جاء ذلك القنصل والتجار إلى القاهرة ليقدموا شكواهم إلى السلطان فقط وليس لديهم مكان ثابت يقيمون فيه ، وذلك مؤكد لدى الرحالة فيلكس فابري حيث وضح أنه لم يكن الفضول هو السبب الوحيد للسفر إلى القاهرة ، فقد كانوا يذهبون إليها التماسا للعدالة إذا كلفت المعاهدات الدولة الأجنبية الحق للجوء إلى السلطان مباشرة للتظلم ودفع الشكاوى من الموظفين ، أو من حكم أصدرته السلطات المحلية في قضية ما ، وكان قنصل الإسكندرية في القاهرة يعرض شكاوى مواطنيه على السلطان لحلها أو يقدم مطالب حكومته وفي ذلك الوقت كان القنصل بالقاهرة ليشتكي للسلطان سوء معاملة التجار في الإسكندرية وإجبارهم على شراء التوابل وما فيها من شوائب دون غربلة كما هو متفق عليه في المعاهدات التجارية .
على أية حال فقد أقام الأوربيون في مباني خاصة حتى يتسنى لهم إتمام أعمالهم على أكمل وجه في الثغور والموانئ وقد سمي ذلك المبني باسم الفندق ويرجع ذلك النوع من المباني إلى بداية العصور الوسطى ، حيث انتشرت في منطقة البحر المتوسط ، وذلك تسهيلا للتجار الوافدين والعمل على راحتهم أثناء تواجدهم في الدولة وذلك يعني أن الفندق في بدايته كان مخصصا للتجار فقط ، ثم أقام فيه جميع المسافرين فيما بعد فكان مقراً لإقامة الأجانب الغرباء عن الدولة من جميع الجنسيات والطوائف المختلفة ومسكناً مريحا لهم تتوفر فيه الخدمات اللازمة للمسافرين .، وكان أول فندق أنشئ في الإمبراطورية البيزنطية وأطلق عليه Byzantime mita ولم يكن مسموحاً للتجار الأجانب أن يقضوا فيه أكثر من ثلاثة شهور وهي المدة التي حددتها الإمبراطورية البيزنطية لإنهاء الأعمال التجارية . ويجدر بنا الإشارة إلى أن مصطلح الفندق أو Fundaco قد شاع استخدامه في القرن الرابع عشر الميلادي وهو لفظ مشتق من الكلمة اليونانية Pandokeion أو اللاتينية Xenodochim ومعناها المسكن أو المأوى الذي يقيم فيه الغرباء ويقابلها في الإيطالية Fondaco .
وقد كثر عدد الفنادق في الدولة المملوكية وخاصة في المدن الساحلية ، وحمل كل فندق اسم الجالية التي تقيم فيه ولا تزاحمها جالية أخرى فقد وجد في الإسكندرية فندقان للبنادقة . ، كما خصص فندق للجنوية وفندقاً لأهالي نابولي وفندقاً لأهالي كريت وفندقاً لأهالي برشلونة وآخر لأراجون وقطالونيا وفندق آخر للبيازنة وغيرهم من الجنسيات الأخرى .، وهناك فندقا آخر لأهالي مارسليا والذي أقام فيه الرحالة فريسكو بالدي وزملاءه ،حيث استأجروا أربعة غرف فوق الساحة . ، وفي دمشق كان يوجد خان للمسافرين الوافدين ينعمون فيه بالراحة والآمان ولهم الحق في حفظ وتخزين البضائع والسلع وكان يسمى خان Berkot خان بركوت ( خان برقوق ) ، وذكر لابروكيير أن الفندق قد بناه شخصاً فرنسيا وذلك بسبب وجود شعار ( رنك) زهرة الزنبق منقوشاً على أحد جدران الخان ، ويبدو أنه كان رجلا شهماً وشجاعاً وذو سمعة طيبة بين سكان الشام ويتميز بالقوة العسكرية والحربية ، ولذلك لم تستطيع جيوش تيمورلنك أن تدخل دمشق في عهده ويقرر أهل الشام أنه لو مد في عمره لما تمكن تيمورلنك من دخول بلادهم . وذلك الكلام يوضح لنا أن الخان كان يسمى خان برقوق نسبة إلى الظاهر برقوق ، وما ذكره عن قوته وشجاعته وتصديه لتيمورلنك ينطبق تماما على السلطان المملوكي الظاهر برقوق أما شعار الزهرة فرغم أنه استعمل في الملكية الفرنسية فهو قبل كل شيء كان أحد رنوك أمراء المسلمين في العصور الوسطى . لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل حرصت السلطات المملوكية على توفير عنصر الأمان والراحة للمسافرين والتجار والرحالة ، فأنشئت الخانات المتعددة بطول البلاد وعرضها ، وكانت مجهزة بالمؤن والشراب وغرف النوم للراحة وتلك الخانات تشبه محطات الترانزيت لراحة المسافرين والحصول على الأمان والتموين لاستكمال الرحلة ، ففي مدينة بلبيس استطاع الرحالة ميشولم أن يقيم في خان به غرفة مجهزة وبها منضدة وكرسي وشموع بالقرب من المعبد وكان يملكه أحد اليهود الأغنياء الشرفاء . ( ) ، وفي أريحا وجد خان لسكن الأجانب فيه حدائق البلح والتفاح ويستطيع المسافر هناك شراء ما يلزمه من الطعام . ( ) ، وفي الأردن كانت توجد دار للضيافة أعدها السلطان خصيصاً للرحالة قرب الجبل الذي كان يطلق عليه البرج الأحمر وكان بداخل الخان كنيسة صغيرة جميلة يقيم فيها قساوسة يونانيون وعلى بعد ميلين آخرين توجد دار ضيافة أخرى ينزل فيها الرحالة والمارة حيث يضعون أمتعتهم ودوابهم . ، وفي يافا أيضا وجد خان للحجاج قد أقامه الدوق جود فري دي بلدوين عندما استولي على القبر المقدس وهو مجهز أحسن تجهيز وبه عدد كبير من الغرف بعضها مخصص للرجال والبعض الآخر مخصص للنساء .
كان يوجد في مدينة الخليل خان متسع وبه حظيرة واسعة للحيوانات وغرف للنوم والراحة في الأعلى و في الأسفل ساحة واسعة مغلقة ببوابة عظيمة ، وتلك البناية كانت تشبه الدير الحصين ولا يعيش فيها إلا الغرباء فقط . وفي مدينة بيت المقدس قد أنشأ الظاهر بيبرس عام 661 هـ / 1263 م خان خارج بوابة المدينة سمي باسمه وفوض أمر بناءه للأمير جمال الدين محمد بن بهادر ولما أتم الخان أوقف عليه خراج أرض مجاورة له وبنى له طاحوناً وفرناً وجعله لخدمة المسافرين والمشاة . ، وكان هناك أيضا مستشفى فرسان القديس يوحنا بجوار كنيسة الضريح المقدس، والذي كان مستشفى لعلاج المرضى وبعد أن تركه الفرسان وطردوا من بلاد الشام ، أصبح مأوى للحجاج والمسافرين الأجانب والفقراء أيضا وذلك المستشفى كان يعيش فيه أكثر من ألف شخص ويحصل على مبلغ صغير من المال يدفعه المسافرون للقيم على جبل صهيون . ، وذلك المستشفى كان لسكنى الحجاج والمسافرين الرجال ، أما النساء فكن يقمن في منزل صغير قرب دير جبل صهيون . ، ويبدو أن رجال الدين الإيطاليين كانوا أكثر حرية في الإقامة في بيت المقدس حيث سمح لرجال الدين بالإقامة في مستشفى القديس يوحنا ، أما العلمانيين كانوا يقيمون في منزل في منتصف الطريق بين الضريح المقدس وجبل صهيون ، أما قبطان السفينة كان يقيم في دير جبل صهيون ومعه أثنان من الحجاج ويتمتع فيه بالراحة والخدمة الجيدة من قبل الأخوة الرهبان ، وكان المكان قديما يسع ألف حاج ، لكن جزء كبير منه محطم والجزء الباقي يسع فقط لأربعمائة حاج فقط . وفي بيت المقدس أيضا يوجد خان آخر بجوار القبر المقدس يديره الرهبان اليونانيون ويقيمون فيه بطهي شتى أنواع الطعام بطرق عديدة ويبيعونه للنصارى .
وجد في رامه خان لإقامة المسافرين، حيث دخل الحجاج الأوربيون منزل له باب قصير وضيق وقام الموظفون على الباب بإحصاء الداخل والخارج ، وفيه وجد فناء واسع جميل به غرف متسعة ونبع ماء نقي ، وذلك النزل قد اشتراه الدوق فيليب دق برجنديا لسكني الحجاج وجعل الأخوة الرهبان في دير جبل صهيون مسئولون عنه لذلك فهو يسمى نزل الحجاج ، ويحصل المنزل على أموال من خلال ما يدفعه الحجاج مقابل الإقامة به رغم عدم وجود فراش ولا كراسي في الغرف فيضطر المسافر إلى شراء فراش للنوم عليه . ، ولكن كان هناك بعض الخانات الأكثر سوء وقذارة وتشبه الكهوف في الجبال كما وجدت في يافا ونابلس حيث يذكر الرحالة الراهب فيلكس فابري وغيره أنه عندما نزل الحجاج ميناء يافا أقاموا في خانات تشبه الكهوف أو القبر وكانت مليئة بالقاذورات والأوساخ ولم يكن هناك مكان آخر يقضون فيه الليل ولذلك أضطر هو وزملاءه إلى تنظيف المكان ليناموا فيه فهو خان صغير وحقير وقذر ولا يصلح للضيافة والسكن مما جعل الحجاج يشعرون بالضيق والاشمئزاز .
وصف معمارى للفندق :-
لقد ترك لنا زوار مدينة الإسكندرية وصفا عاما للفنادق ، حيث كانت ذات تصميم معماري واحد تقريبا على مر العصور وكان الفندق مبنى مملوكي خالص ويخضع للسلطات المحلية وليس ملكا للجالية المقيمة فيه بل هو هبه من الدولة للأجانب، والفندق عبارة عن مبنى مربع الشكل ، كبير الحجم يشبه الحصن أو الصرح ويتكون من عدة طوابق فالطابق الأول الأرضي به حوانيت ومخازن لحفظ البضائع والسلع وتتم فيه عملية البيع والشراء ، و خصص لكل تاجر مخزن يضع فيه بضاعته ويغلق عليها وفيه أيضا تعقد الصفقات التجارية ، أما الطوابق العلوية فهي مخصصة لمبيت الأجانب وبها غرف للنوم معدة لراحة النزلاء . وتطل الغرف على فناء داخلي واسع قد خصص لتفريخ البضائع والسلع وتصنيفها والاستعداد لعملية في المخازن . ، وفي الجزء الآخر من الفناء توجد حديقة زرعت بها أشجار غريبة مجلوبة من جهات عديدة وبها أنواع متنوعة من النباتات والزهور التي توجد في أوطان هؤلاء الأجانب لتذكرهم ببلادهم وتعطي الإحساس بالراحة كما تربى فيه بعض الحيوانات المستأنسة . ، ولما كانت تلك الفنادق قد أقيمت خصيصا لراحة النزلاء والغرباء الأجانب فلا يشعرون بالضيق أو الغربة حين الإقامة بها ، لذا أقيمت في كل فندق حمام وفرن لصنع الخبز وبها كنيسة صغيرة لأداء الطقوس الدينية فضلا عن السماح لهم بوجود النبيذ مما يسمح لهم العيش بحرية تامة داخل الفندق .
أتبعت السلطات المملوكية نظاما خاصا بإدارة تلك الفنادق عامة ، فهي التي تملكها وحدها ولا سلطان لأي جالية عليها وتلك الأنظمة التي وضعتها السلطات المحلية كانت إجراءات أمنية لحماية الأجانب والحفاظ على أرواحهم وأموالهم ، حيث تحكمت السلطات المحلية في إغلاق الفندق ليلا من الخارج من غروب الشمس حتى صباح اليوم الثاني ، ويقوم بذلك العمل حارس مملوكي تعينه السلطات المحلية ، وذلك خوفاً من عمليات السطو على الفندق وحماية النزلاء ليلا . ، كما كانت تغلق أبواب الفنادق وقت صلاة الجمعة ولمدة ساعتين أو أكثر إلى حين الانتهاء من الصلاة ، كما منعت النزلاء من شرب الخمر خارج الفندق منعاً للتصادم مع المسلمين وعدم إيذاء مشاعرهم الدينية . وقد شهد كل من رأى تلك الفنادق بالروعة والجمال ، وأنها أجمل مبان شيدت في ذلك العصر . ، ونتيجة لعناية الدولة بإنشاء تلك الفنادق أن تمتعت بعضها بشهرة فائقة ومكانة مرموقة لدرجة أن بعض الجمهوريات الإيطالية أنشئت فنادق في بلادها على غرار الطراز المعماري المصري للتجار الألمان في أواخر العصور الوسطى .