الرئيسيةبحث

العقوبات في القانون الدولي

الصراعات والحروب التي نشبت بين دول العالم المختلفة منذ القديم، لم تقتصر مسبباتها على الأسباب السياسية فحسب وإنما كانت الخلفية الاقتصادية من الأسباب الرئيسة سواء كانت ظاهرة أو مستترة، ومن نتائج هذه الحروب توسعت مناطق نفوذ لدول معينة امتلكت القوة الاقتصادية والعسكرية، وتحولت دول أخرى من إمبراطوريات كبيرة إلى اقطاعات أو مستعمرات تابعة لإمبراطوريات كبرى.. ولم يكن تحقيق الانتصار أو الغلبة خلال تلك الحروب رهناً بالقوة العسكرية بل ترافق استخدام السلاح العسكري باستخدام السلاح الاقتصادي تحت مسميات عديدة مثل (حظر، حصار، عقوبات اقتصادية) الذي يعود استخدامه إلى ما قبل الميلاد، وتطور أسلوب الحرب الاقتصادية في العصر الحديث حيث استخدم أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بينهما.. أما بعد الحرب العالمية الثانية فأصبح فرض العقوبات الاقتصادية يحتاج إلى موافقة جماعية دولية.. إذ إن المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بالعقوبات تضمنت: "لمجلس الأمن أن يقرر أي الاجراءات التي لا تنطوي على استعمال القوة ينبغي استعمالها من أجل تنفيذ قرارته" وعرفت المواد اللاحقة الأحكام المتعلقة باستعمال القوة.. مما يعني إرساء لنمط الغموض في آلية استخدام الأمم الممتدة لنظام العقوبات، مما جعل دولاً معينة تنفرد بفرض عقوبات على دول أخرى بهدف إخضاعها لهيمنتها كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم . وتعددت أشكال العقوبات الاقتصادية على بعض الدول العربية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها دون قرار من مجلس الأمن ووفقاً لمشيئتها واتهاماتها المزعومة أو بمشاركة الأمم المتحدة.. وولدت هذه العقوبات آثاراً ضارة ووخيمة على الدول التي كانت هدفاً لها ففي السودان مثلاً شملت هذه العقوبات حظر الصادرات والواردات من السودان وإليها وتجميد الأرصدة والقروض وحظر أي انتقال للأشخاص والبضائع والناقلات من السودان وإليها ومن قبل أي شخص سوداني وظهرت في السودان آثار إنسانية سلبية نتيجة حظر نشاط الخطوط الجوية السودانية وتحديداً في مجال الصحة. كما انعكس حظر الطيران في مجالات التعليم والثقافة والرياضة والاقتصاد. أما ليبيا التي فرضت عليها العقوبات الأمريكية فعلياً في أوائل عام 1981.. وأقرت في عام 1986.. وتعززت بعد حادثة تفجير طائرة بأن أمريكان فوق لوكربي عام 1988.. فترتب على ذلك خسائر اقتصادية فادحة بلغت أكثر من 26.5 مليار دولار تحملتها قطاعات النقل الجوي والصادرات الزراعية والإنتاج الحيواني وتقلص الصادرات غير النفطية وارتفاع تكاليف النقل. وحالت العقوبات دون إيفاد حوالي /17/ ألف حالة مرضية مستعصية يتعذر علاجها في المشافي والمراكز الصحية الوطنية ولكن بعد اذعان ليبيا و رضوخها للمطالب الاميريكية توقفت هذه العقوبات تدريجيا . وللولايات المتحدة الأمريكية أسلوبها الخاص في التعامل مع الدول فتضع دولاً على قائمة الإرهاب أو دعم الإرهاب فتحظر بموجب ذلك بعض أشكال التبادل الاقتصادي وتحظر الاستيراد أو التصدير لبلدان أخرى. وهناك مثال صارخ لعقوباتها فرض العقوبات على كوبا منذ قيام ثورتها عام 1959. أما العراق الذي خضع لعقوبات مفروضة من مجلس الأمن فحدّث ولا حرج، قد كانت نتائج فرض نظام العقوبات عملية مأساوية وأشبه بحرب إبادة جماعية استهدفت البيئة والأطفال والنساء والغذاء والصحة إضافة إلى دمار المنشآت وخراب الاقتصاد العراقي بفروعه المختلفة. إن التدمير الحربي للعراق الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا منتهكين ميثاق جنيف والأعراف الدولية أدى بصورة مباشرة إلى زيادات في معدلات السرطان والولادات المشوهة وانتشار مرض غير معروف ونفوق الماشية وتعريض معظمها للخطر وهذا ما أدى إلى مزيد من التدمير لزراعة العراق ووسائط توفير أسباب العيش الذاتية كما ترفض الولايات المتحدة السماح للعراق باستيراد مواد ضرورية لترميم بنيته التحتية مما يواصل إيذاء البيئة وإلحاق الضرر بها.. إن نظام العقوبات الاقتصادية للأمم المتحدة الراهن غير مقبول من الملايين في مختلف أرجاء العالم ، ومن غالبية الدول الاعضاء في الجمعية العامة، إنه غير مقبول من ملايين الأمريكيين والبريطانيين والأوروبيين والأهم كثيراً من الشعوب العربية والإسلامية ومن مختلف شعوب العالم. إن حالة العراق هي أهم إخفاق واضح لهذه الأداة المشروعة أحياناً والمنصوص عنها في ميثاق الأمم المتحدة المادة (41) من الفصل السابع لفرض معايير في السلوك تتماشى مع متطلبات الميثاق نفسه. وإضافة إلى الدول العربية التي استهدفتها العقوبات الأمريكية والدولية هناك دول ما زالت تخضع لعقوبات دولية وأمريكية خصوصاً، وذلك على خلفية تصفية حسابات بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة أو على خلفيات أخرى. ومن تلك الدول: إيران وكوريا الشمالية وكوبا ما زالت موضوعة على قائمة الدول التي تدعم الإرهاب.كما نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة في العالم الأكثر استخداماً لسلاح العقوبات الاقتصادية ضد خصومها . لقد أصبح سلاح العقوبات اليوم يستخدم لتحقيق مصالح الدولة التي تستخدمه في المقام الأول لإجبار الدول على الالتزام بنمط سلوكي معين يستجيب لمطالب تلك الدولة وتبرز في هذا السياق الولايات المتحدة الأمريكية التي يأتي إصراها في فرض الحصارات تجسيداً لسياساتها في فرض الهيمنة على الدول والشعوب التي لا توافق على التبعية لها وتستعمل عقوبات الأمم المتحدة التي تتحول في بعض الأحيان إلى أداة للسياسة الخارجية الأمريكية. على الجانب الآخر نجد أن الكيان الصهيوني الذي يمارس العدوان والاحتلال، ويخرق المواثيق والأعراف الدولية بصورة دائمة، ويضرب عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومعاهدة جنيف لعام 1949 في التعامل مع السكان في الأراضي المحتلة، لم يتعرض قط لمثل هذه العقوبات الدولية، وكان طوال كل تلك السنوات التي مرت منذ قيامه على حساب الأراضي العربية الفلسطينية، وتشريد الشعب الفلسطيني خارج نطاق العقوبات، ولم يفرض عليه أي حصار أو مقاطعة دولية والسبب واضح وهو وقوف الولايات المتحدة الأمريكية في وجه أية محاولة لمعاقبته من قبل المؤسسات الدولية على ما يرتكبه من إرهاب ومس بحقوق الإنسان منذ قيام هذا الكيان. والأشد مضاضة ومرارة في هذا الوضع أن العقوبات الدولية من حصار أو مقاطعة اقتصادية أو سياسية لم تطبق بحق إسرائيل ليس نتيجة هذه الحماية التي تسبغها عليها الدول الاستعمارية الغربية المهيمنة في العالم والخلل في موازين القوى الاقليمية والدولية والكيل بمكيالين في المعايير الدولية الحالية فقط، بل إن إسرائيل نفسها التي تقترف الجرائم بحق الإنسانية وتدوس على الاعراف والمواثيق الدولية تمارس الحصار الإجرامي والعقوبات الجماعية و بناء الجدار. والخنق الاقتصادي ضد العرب في الأرض الفلسطينية المحتلة وقد تجلى ذلك بشكل صارخ في الفترة الأخيرة مع تفجر انتفاضة الأقصى الشريف و ازدادت مع فوز حماس في المجلس التشريعي و تسلمها السلطة في فلسطين . و بالتالي يكون هذا البحث ذو اهمية فلا شك ان فرض العقوبات على اي دولة من خلال الامم المتحدة و خاصة مجلس الامن بين الحين و الآخر ، دفعنا للقيام لهذه الدراسة المتواضعة لهذه القضية الحساسة . و اذا كنا قد اخترنا هذا الوقت ايار مايو 2006 فذلك بسبب : 1. تلويح العقوبات على الجمهورية الاسلامية الايرانية بسبب الملف النووي . 2. تلويح العقوبات على الجمهورية العربية السورية . 3. الظلم الذي يظلل العالم من خلال الولايات المتحدة تحت الشرعية الدولية . 4. ان هذا الموضوع لم يعد بالامكان حصر تبعاته و نتائجه في حال التمادي بتنفيذه . كما نسعى من خلال هذا البحث إلى الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالموضوع وهي: 1. ما هي الجزاءات في القانون الدولي و القانون الانساني يقدم الفصل الاول شرحا لهذه الجزاءات 2. ما هي العقوبات التي تفرضها الامم المتحدة ضد الاعضاء المخالفين ؟ ويقدم المبحث الاول من الفصل الثاني الإجابة على هذا السؤال المبدئي . 3. هل اصبحت الامم المتحدة اداة للنظام العالمي الجديد ؟ و تجيب المبحث الثاني من الفصل الثاني على هذا السؤال . أما الفصل الثالث فيتوجه ليكون دراسة تحليلية عن كيفية تتابع القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الامن من بعد احتلال العراق للكويت و كيفية تضعيف العراق لاحتلاله من قبل الولايات المتحدة و حلفائها. إن هدف أي دراسة هي الكشف عن الحقيقة ، و بما ان مسألة الشرعية الدولية و القرارات الصادرة عنها هي الشغل الشاغل في العالم ، و اصبح هناك التباس في قيام اي بلد بتطبيق هذه القرارات ، إذا كانت الامم المتحدة قد اصبحت طرفا او اداة بيد خصم ما . لذا فقد هدفت الدراسة إلى تحقيق ما يلي : 1. إظهار حدود العقوبات في الامم المتحدة . 2. إظهار مدى تطابق هذه العقوبات مع مصالح النظام العالمي الجديد . كما تفرض طبيعة الموضوع القانونية و السياسية حول العقوبات في القانون الدولي والقرارات الدولية على العراق منهجاً محايداً للدراسة نستعين فيه بالوثائق والقرارات التي نشرت في مجلس الامن ، ومن ناحية أخرى كان للتاريخ دوره في إضفاء طابع الدارسة المبني على عرض متسلسل للأحداث التي أدت الاحتلال وكان الاستقراء يتم في هذه الدارسة. أما الاستنباط فهو الركيزة الثانية للمنهج العلمي والذي استخدمته للوصول إلى النتائج المنطقية دون تحيز أو إنحياز و بواقعية ايضا . الفصل الاول : الجزاءات في القانون الدولي و القانون الدولي الإنساني والحصار قبل حوالي خمسة قرون من الزمن قال الفقيه الإسباني "ده فيتوريا" في واحد من كتبه "في القضايا الهامة لا يسمح لمملكة – أي لدولة أن ترفض الانصياع لأحكام القانون الدولي، وإذا فعلت ذلك يجب أن تصطدم بسلطة العالم أجمع"! إن ما شكا منه "ده فيتوريا" قبل خمسة قرون لا يزال قائماً حتى اليوم، إذ طرح في مقولته هذه مشكلة "الجزاء" في القانون الدولي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن كلمة "جزاء Sanction " أوسع من كلمة "عقوبات" وأعم منها، إذ إن الجزاء يشمل "كل إجراء تكون غايته الحض على تطبيق قاعدة قانونية معينة، أو قمع عدم تطبيقها"، ويتساوى في ذلك الإجراءات الزجرية وغير الزجرية من سياسية واقتصادية ودبلوماسية... - والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: أليس هناك من جزاءات يمكن إيقاعها بحق من ينتهك قواعد القانون الدولي،سواء أكانت هذه الجزاءات من قبيل العقوبات "الجزاءات الزجرية"،أم من قبيل الإجراءات الأخرى، مثل الإجراءات الانضباطية والدبلوماسيةوالاقتصادية..؟ للإجابة عن هذا السؤال يمكننا القول، وبشكل مبدئي، إن هناك عدة أنواع من التدابير والجزاءات الرادعة يمكن اتخاذها بحق الدولة أو الدول التي تخالف قواعد القانون الدولي وهذه الجزاءات يمكن اتخاذها من قبل الدول المتضررة، أو من قبل عدة دول معاً، أو من قبل المحاكم ومجالس التحكيم الدولية، ووكالاتها المتخصصة.