الرئيسيةبحث

الرصافة (مدينة)

الرصافة - مدينة اثرية في سورية

الرصافة

الرصافة لؤلؤة بادية الشام في سوريا، في هذا الزمن الذي تضيع فيه الكلمات والمعاني, تذكّرنا الكاتبة بأسماء عزيزة راسخة في قلوبنا منتزعة من صميم تراثنا . تقع الرصافة على بعد ثلاثين كيلومترًا من مدينة الرقة في شمال سورية على نهر الفرات, وقد كان لها تاريخ وحضارة عريقة عبر العصور . وقد ذكرت هذه المدينة في المدونات القديمة ومنها الآشورية,وتسمى باليونانية سرجيو بوليس وتنازع عليها اليونان والرومان والفرس وذكرت في سفر ( اشعيا 37.12 ) وسنحاريب وفي الكتابات اليونانية ، وأضحت لها قلاع منيعة تحميها من غزوات الساسانيين قبل أن تصبح من المدن التابعة لمملكة (تدمر) وسط سوريا, التي امتدّت من شمال افريقيا غربا إلى الخليج شرقًا.

إن الفضل في تعريفنا بتأريخ (الرصافة) يعود إلى كتاب قيّم نشرته المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق عام 1984م ، أعدّه مديرها الأستاذ: بشير زهدي, عنوانه: (الرصافة لؤلؤة بادية الشام), وبما أنها تبعد فقط خمسة وسبعين كيلومترًا عن (قصر الحير) الشرقي احتلها العرب الغساسنة لأهمية موقعها ، ثم تحالفوا مع البيزنطيين لحمايتها من غزوات الساسانيين. وقد جاء في كتاب الأستاذ بشير زهدي ما يلي: (...وإذا كان يُنسب إلى (الحارث الثاني) الفضل بترميم الأسوار, وتشييد كاتدرائية كبيرة في الرصافة في العصر البيزنطي, فإنه يُنسب إلى ابنه (المنذر بن الحارث الثاني) الفضل بتشييد خزانات المياه فيها, وببناء قصر كبير له, ودار للضيافة خارج سورها الشمالي .

تثير ضخامتها شعور الاحترام والهيبه لدى كل من شاهدها وكانت قديما محط تقدير واحترام رجال القبائل ، وتحتوى الرصافة على الكثير من المنشات والابنية الهامة اضافة لسورها الضخم وكنائسها والبازيليك والكتدرائية والقصور وخزانات المياه الشهيرة الضخمة تحت الارض وقناطر بمحاذاة سور المدينة ، ومن مكتشفات وسير المدينة انه كان يوجد بها قديسان شهيران وهما القديس سرجيوس والقديس باخوس وهما جنديين سوريين من الرصافة دافعو عن المدينة واستشهدو في سبيل ايمانهم ودفاعم عن المسيحية ، ومن كنائس الرصافة كنيسة القديس سرجيوس وكنيسة الشهاده ، والجدير بالذكر بالنسبة للقصر خارج السور أن جهودًا مخلصة تُبذل حاليًا في سبيل ترميم هذا القصر الغساني ، ليكون مبناه متحفًا إقليميًا جديدًا في الرصافة يسهم في حفظ هذه المنطقة المهمة, والتعريف بفنونها وتاريخها وآثارها المختلفة .

رصافة هشام

في عهد الأمويين, أضحت الرصافة منتجعًا صيفيًا انتقل إليه الأمير (هشام بن عبدالملك من قصر الحير), وأسهم في عمرانها وازدهارها بتشييد قصرين اكتُشف أحدهما في إثر التنقيب عن آثارها, فعُرفت آنذاك باسم: (رصافة هشام), وعلى حدود الرصافة نجا الأمير عبدالرحمن بن معاوية من الموت, لأنه اختبأ عند جماعة من الأعراب على ضفة نهر الفرات بشمال سورية, ثم انتقل إلى دمشق قبل ان يتوجه للأندلس وهو في التاسعة عشرة من العمر, حيث أسس دولة جديدة للأمويين فيهاالدولة الاموية في الاندلس. بعد نهاية حكم الأمويين في سورية, تابعت (الرصافة) ازدهارها حتى بداية القرن العاشر الميلادي.واشتُهرت بتعايش المسيحيين والمسلمين بدليل اكتشاف وجود عدة كنائس فيها, ومسجد له محرابان باتجاه الجنوب وشارع مستطيل محاط بأعمدة رائعة ، وقد هُدمت إبان غزوات التتار كليًا. ولكي نعلم كيف تمّ هذا الاكتشاف, نعود إلى كتاب الأستاذ (بشير زهدي), ونطّلع منه على اهتمام فريق من علماء الآثار الألمان أمثال: (شنايدر), و(سبانير) و(موسيل), الذين شرعوا عام 1952م, بتنقيب عن تلك الآثار, استمر سبع سنوات, فعثروا على جزء من القصرين الأمويين ، وبرج قائم على قاعدة مربعة الشكل بزاوية مبنى مصنوع من الآجر تحت الارض ، ثم اكتشفوا برجين آخرين مستديرين أصغر حجمًا واكتشافات هامة جدا مما دفع بفريق آخر من علماء الآثار للعودة إلى الرصافة عام 1968, ومتابعة أعمال التنقيب بمساعدة المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية, فتمّ اكتشاف أجمل أبواب المدينة تحت الركام ، حيث ظهرت في جهتها الشمالية رسوم ونقوش وزخارف ملوّنة. كان الباب يؤدّي إلى شارع مستقيم يؤدي إلى وسط المدينة. لقد جرت تلك الحفريات تحت الرمال على عمق خمسة أمتار, وتم العثور على اثريات ومكتشفات هامة مثل مباخر وأكواب فضية ومذهّبة منقوشة باللغة السريانية (السورية القديمة) ولوحات رخامية وقطع نقود محفور عليها اسم الرصافة يوجد بعضها اليوم في متحف دمشق ، ونُقل بعضها الآخر إلى متاحف الغرب .

رصافة الاندلس

لقد ذكّرني الحديث عن رصافة بادية الشام برصافة الأندلس التي بناها بضاحية قرطبة الأمير هشام بن عبدالرحمن الداخل ايام الدولة الاموية وجعلها مقرًا صيفيًا له لارتفاعها عن قرطبة, وإطلالتها على نهر الوادي الكبير, الذي يجتازها في القرن الثامن الميلادي, تخليدًا لذكرى جده (هشام بن عبدالملك) باني (رصافة) سورية, ولم يبق لها أثر في القرن العشرين, فبنت الحكومة الإسبانية في موضعها فندقًا سياحيًا كبيرًا, أطلقت عليه اسم: (الرصافة). والرصافتان إذن, السورية والأندلسية الاموية لعبتا دورًا مهمًا في التاريخ, علمًا بأن رصافة الشام انبعثت أنقاضها من جديد, وأضحت تحدّثنا عن ماضيها المجيد بلغة آثارها المكتشفة, كما أن العمل على تحقيق متحفٍ إقليمي ضمن مبنى (المنذر الغساني) الذي تمّ اكتشافه فيها سوف يُسهم في تعريف المواطنين, والسياح الراغبين في الاستماع إلى أطلالها تروي لهم قصة مجدها.