في شخصية إسماعيل اجتمع الجانب الحسن إلى الجانب السيئ ، وظهرت أثار الجانبين معا في أعماله وسياسته خلال الثمانية عشر عاما التي تولى فيها حكم مصر.
إن أخلاق إسماعيل هي العامل الأول في شخصيته ، فدراسة أخلاقه تعطينا عنه صورة عامة 0 لقد كان بلا مراء آية في الذكاء والفهم وسرعة الخاطر ، وقوة الذاكرة ، ومضاء العزيمة ، وعلو الهمة ، وكان شجاعاً ، لا يعرف الجبن والإحجام ، قوي الشخصية ، عظيم المهابة.
اما ذكاؤه يشع من عينيه البراقتين ، وقد لحظ هذا الذكاء وتبينه كل من عاشروه أو حادثوه من الأصدقاء والأعداء على السواء.
كان يفهم مراد محدثه ويحيط بالأمور ويدرك الأشياء بسرعه خاطر تشبه البرق الخاطف ، وكان قوى الذاكرة يدهش محدثيه بقدرته على استيعاب التفاصيل والدقائق عن الحوادث الماضية ، كبيرها وصغيرها ، رغم مضى السنين على وقوعها.
وتبدو لك قوة إرادته ومضاء عزيمته من الهمة التي كان ينفذ بها مشاريعه فلم يكن يعرف التردد والإحجام وإذا أراد أن ينجز عملاً لا تقف في سبيله عقبة إلا ذللها ، أما شجاعته فحسبك أن تتبينها من السياسة التي رسمها لنفسه في السنوات الأخيرة من حكمه ، حين أدرك سوء نية الدول الأوروبية واعتزم مقاومتها ، فقد علمت ما كان من اصرارتلك الدول على أن يكون لها وزيران أجنبيان داخل هيئة الوزارة المصرية ، ورأيت كيف وقف إسماعيل موقف المعارضة واتبع حيالها خطة المقاومة ، وهي سياسة تقتضي حظاً كبيراً من الشجاعة والاستخفاف بالمخاطر ، وفي سبيل هذه المقاومة غامر بعرشه ، وضحى به فعلاً ، وقليل من الملوك من يضحون بعروشهم في سبيل مقاومة المطامع الإستعمارية.
وكان إسماعيل بلا نزاع محباًَ لبلاده ، وراغبا في تقدمها ،عاملا على أن يسير بها في مضمارالحضارة والعمران ، وساعياً في توسيع ملكها وإعلاء شأنها كما بينا ذلك في فصول الكتاب.
فالذكاء ، قوة الإرادة ، والشجاعة والإيقدام ، والرغبة في إعلاء شأن مصر، هذه هي الصفات التي تمتاز بها شخصية إسماعيل.
ظهرت نتائج هذه الصفات في مختلف الأعمال الي تمت على يده ، فقد سعى ووفق في الحصول من تركيا على اقصى ما يكن من الحقوق والمزايا ، كي يصل بمصر إلي الإستقلال التام ، فهذه نزعة مجيدة تدل على شدة حبه لعظمة مصر ورفعة شأنها.
واتجهت همته إلى توسيع أملاك مصر في افريقية ، فأكمل فتح السودان ووصل بحدود مصر إلى منابع النيل، وشواطى المحيط الهندي ، اي إلى حدودها الطبيعية ، وبذل في هذا السبيل اقصى ما لديه من عزيمة وقوة ، وتلك لعمري صفحة مجيدة من صحائف أسماعيل ، تزين تاريخه ، بقدر ما يزدان بها تاريخ مصر القومي.
وعنى بقوة البلاد الحربية بتنظيم الجيش وإنشاء المدارس الحربية العالية وتسليح الجند بأحدث الأسلحة ، وتزويد الحصون والقلاع بالمدافع الضخمة.
ووجه أيضاً همته إلي إنهاض البحرية المصرية حربية كانت أو تجارية ، فرفع علم مصر على مياه البحرالأبيض المتوسط والبحرالأحمر والمحيط الهندي.
وله على العلم والأداب أياد بيضاء بما أنشأه من المدارس العالية والمعاهد العلمية ، وتجديده عهد البعثات ، فمدرسة الحقوق ، ومدرسة المهندسخانة ، ودار العلوم ، ومدارس البنات ، والمدارس الصناعية ، والمدارس الثانوية والإبتدائية ، ودار الكتب ، والمتحف المصري ، ودار الآثار العربية ، والجمعية الجغرافية ، والنهضة العلمية والأدبية ، والحركة الفكرية التي ظهرت في عهده ، ونهضة الصحافة ، والتأليف ، والطباعة والنشر ، هي من آثاره الخالدة.
وأعمال العمران التي تمت على يده ، كفتح الترع ، وإيقامة الجسور ، والعناية بزراعة القطن واستحداث مصانع السكر ، وإصلاح القناطر الخيرية ، وزيادة مساحة الأطيان الزراعية ، وإنشاء السكك الحديدية والكباري ، والأسلاك البرقية ومصلحة البريد ، وتعمير المدن وتخطيطها ، وتنظيمها ، كل هذه الأعمال قد نهضت بعمران مصر وتقدمها.
كل هذه مآثر عادت على البلاد بالخير العميم ، وإن ننس لا ننسى آخر صفحة ختم بها حياته السياسية ، إذ قاوم المطامع الاستعمارية التي بدت من الدولتين الإنجليزية والفرنسية ، ولو أنه آثر الإذعان والاستسلام لبقي على عرشه يتمتع بهذا الملك العريض ، ولكنه إبي على الدول طلباتها ، وأصر على أن تكون الوزارة خالصة للمصريين ، واستجاب إلي مطالب الأحرار ، وعهد إلي شريف باشا تأليف وزارة وطنية خالية من العنصر الأوروبي ، وأقر مبدأ مسئولية الوزارة أمام مجلس شورى النواب.
ولا شك أن موقفه في هذا الصدد هو دفاع عن استقلال البلاد ، ومناصرة للحركة القومية ، وفي هذا السبيل استهدف لغضب الدول الأجنبية حتى فقد العرش والتاج ، فهو من هذه الناحية ضحية كبرى في سبيل الاستقلال والدستور.
والإقدام على هذه التضحية الغالية ، وما أعقبها من النفي والتشريد والحرمان ، عمل جليل يزين تاريخ إسماعيل.
فالصفحة التي ختم بها إسماعيل حياته السياسية جديرة بأن تسجل في صحائف الحركة القومية بالفخار والإعجاب.
وإذ ذكرنا الحسنات ، فمن الواجب علينا أن ننتقل إلي الأخطاء والسيئات لنؤدي واجبنا نحو الحقيقة كاملة ، فنقول إنه بجانب الحسنات التي ذكرناها ، يوجد الجانب السيئ من شخصية إسماعيل ، وهو بذخه ، وإسرافه ، وعدم تقديره للعواقب ، وضعفه أمام الملذات والشهوات ، وقد أدت به هذه العوامل مجتمعة إلي التبذير في أموال الخزانة العامة ، فلم تكفه الملايين التي كان يجبيها من الضرائب ، بل عمدت إلي البيوت المالية والمرابين الأجانب يستدين منهم القروض الجسيمة ، ولا يخفى أن هذه القروض هي الوسيلة التي تذرعت بها الدول للتدخل في شؤون مصر ووضع الرقابة المالية عليها.
صحيح أن هذه القروض لو استدانتها دولة أوروبية لما كانت في نظر الدول مسوغاً للتدخل في شؤونها ، والعبث باستقلالها ، وإنما كان تدخل الدول في شؤون مصر اضطهاداً مقصوداً منه تحقيق أطماع استعمارية قديمة ، ولكن مما لا نزاع فيه أن الحكمة كانت تقتضي إدراك هذه المقاصد ، وتعرف هاتيك المطامع ، والابتعاد عن شرها ، بدلاً من الوقوع في حبائلها ، وليس من شك في أن الديون هي من الوسائل الفاعلة لتدخل الدول الأوروبية في شؤون الأمم الشرقية ، ولم يكن إسماعيل في حاجة إلي من يبصره بمطامع إنجلترا والدول الأوروبية في مصر ،فإن تاريخ محمد على وإبراهيم صفحة ناطقة بتطلع إنجلترا إلي وضع يدها على البلاد وما وقوفها في وجه فتوحات إبراهيم وائتمارها بمصر في مؤتمر لندن سنة 1840 ببعيد عن ذاكرة إسماعيل ، فلم يكن ينقصه الاعتبار بالحوادث السياسية ، لأن ما لقيته مصر في عهد أبيه وجده كان جديراً بأن يفتح عينيه ، ويبصره بالخطر الذي يتهدد مصر من ناحية التدخل الأوروبي.
لكن إسماعيل لم يفطن لعواقب التدخل ، لأن ثمة عيباً كبيراً في سياسته عامة ، وهو ركونه الشديد إلي الأوروبيين والدول الأجنبية ، واعتماده عليهم ، وثقته بهم لاحد لها ، وهذه الثقة كانت من عوامل تورطه في القروض الخارجية فقد كان لحسن ظنه بلأجانب لا يحسب حساباً لليوم الذي ينقلبون عليه ، وتتحول تلك القروض أداة للتدخل الأجنبي ، ومن مظاهر هذه الثقة أنه عهد إلي الأجانب من رعايا الدول الاستعمارية بمهمات خطيرة من شؤون الدولة ، وأطلعهم على أسرارها ، ومكن لهم من مرافقها ، ففي عهده تعددت البيوت المالية والشركات الأجنبية التي تغلغلت في البلاد ، وعهد إلي الأجانب بمناصب كبرى من التي كانت الحكمة تقتضي إبعادهم عنها، كتعيين السير صمويل بيكر الرحالة الإنجليزي حاكماً لمديرية خط الاستواء ، والكولونل غردون باشا حاكماً لها من بعده ، ثم حاكماً عاماً للسودان ، والمسيو منزنجر محافظاً لسواحل البحر الأحمر ومديراً لشرقي السودان ، والجنرال استون باشا رئيساً لأركان حرب الجيش المصري ، والأميرال ماكيلوب مديراً للموانئ والفنارات ، والمستر موريس وكيلاً لها ، والمسيو فردريكو مديراً لوابورات البوستة الخديوية ، والمستر كليار مديراً للبريد ثم للجمارك ، وهلم جراً ، كما أنه أسند الكثير من المناصب العالية في دوائره وأملاكه وبطانته إلي موظفين من الإفرنج.
كل هذه التعيينات ترجع إلي إسراف إسماعيل في ثقته بالأجانب والاعتماد عليهم ، وتلك نقطة ضعف كبير في سياسته تبين لنا الفرق بينه وبين محمد علي.
لقد تولى إسماعيل الحكم والطريق أمامه معبد بما قام به محمد على وإبراهيم من جلائل الأعمال فكان مطلوباً منه أن يكمل البناء الذي شاده جده وأبوه ، ويحتفظ باستقلال الدولة التي ألقت المقادير زمامها إليه ، ولم يكن يغيب عن ذهنه أن محمد علي كان يخشى على مصر من التدخل الأجنبي ، فلم يمد يده إلي الاستدانه من الخارج ، ولا رضي أن يعهد إلي الأجانب بالمناصب الخطيرة أو يمكن لهم في البلاد ، وبلغ به بعد نظره أن رفض تخويل شركة انجليزية امتياز مد السكة الحديدية بين القاهرة والسويس ، كما رفض شق قناة السويس ، لكيلا تكون ذريعة للتدخل الأوروبي في شؤون مصر.
فالطريق إذاً كانت مرسومة أمام الخديوي إسماعيل ، ولم يكن مطلوباً منه إلا أن ينهض بأعمال التقدم والعمران معتمداً على مزارد الخزانة العامة ، وهي موارد تكفي للقيام بتلك الأعمال لمن يحسن تدبير شؤونها ، ولكنه تنكب سبيل أبيه وجده ، وتورط في القروض تلو القروض دون حاجة إليها ، ومن غير أن يفكر في طريقة إيفائها أو إيفاء فوائدها حتى ابتلعت هذه الفوائد معظم موارد الميزانية ، ثم عجز عن الوفاء ووقعت الحكومة في الإعسار، وكانت النتيجة أن نالت الدول الأجنبية حقوقاً ومزايا تشل سلطان الحكومة ، وهذه المزايا أشبه ما تكون بالوصاية على مصر.
ولقد ظهرت هذه الوصاية بمظاهر مختلفة ، من إنشاء صندوق الدين ، إلي فرض الرقابة الثنائية على مالية مصر ، إلي تعيين لجنة تحقيق أوروبية تفحص شؤون الحكومة المالية والإدارية ، إلي تعيين وزيرين أجنبيين في الوزارة المصرية لهما حق الفيتو ، أ ي وقف كل عمل تشريعي أو تنفيذي للحكومة ، ولا شك أن هذه الأحداث كما قلنا في مقدمة الكتاب قد تصدع لها صرح الاستقلال الذي نالته مصر بجهودها وتضحياتها العظيمة من عهد محمد على ، فهذه الحالة المحزنة التي وصلت إليها البلاد كانت نتيجة سياسية إسماعيل المالية.
ولا نكران أنه سعى في السنوات الأخيرة من حكمه في أن يتخلص من هذه الوصاية التي اتخذت شكلاً مهينا من التدخل الفعلي في شؤون مصر ، ووقف تجاه الدول الأوروبية موقف المقاومة العنيفة ، ولكن كان ذلك بعد أن تغلغل النفوذ الأجنبي السياسي والمالي في مصر ، فلم يستطيع له دفعا ، وغلبته الدول على أمره.
فإذا نظرنا إلى الأمور في جوهرها وحقائقها ، نجد أن المسألة المصرية قد تراجعت في عهد إسماعيل ، إذا قورنت بما كانت عليه في عهد محمد علي ، ولئن كان إسماعيل قد نال من تركيا مزايا وحقوقاً زادت نظرياً من حدود الاستقلال ، فإن مصر من الواجهة العملية كانت في عصر محمد علي أكثر استقلالاً مما صارت إليه في عهد إسماعيل ، وحسبك دليلاً على ذلك أن إسماعيل باشا هو العاهل الوحيد من ولاة الأسرة المحمدية العلوية الذي خلع بفرمان من السلطان بناء على طلب الدول ، وليس يخفى أن خلع الخديوي بأمر من السلطان هو من أشد المظاهر الهادمة لاستقلال مصر ، لأنة تدخل مهين في سيادتها الداخلية ، ومن تصاريف القدر أن يقع هذا التدخل ضد الخديوي الذى نال من تركيا أقصى ما يمكن من مزايا الاستقلال ، ويرجع ذلك إلي الضعف الذي أصاب البلاد من ارتباك أحوالها المالية وتضعضع قوتها الحربية والمعنوية ، فسهل على الدول أن تتدخل في شؤونها وتعبث باستقلالها ، ولا شك في أن الفرق كبير من هذه الناحية بين حالة مصر في عهد محمد علي وحالتها في عهد إسماعيل.
ففي عهد محمد علي لم يكن ثمة صندوق دين ، ولا نفوذ للأجانب ، ولا رقابة منهم على مالية الحكومة ، ولا وزراء أوروبيون داخل الحكومة ، ولا محاكم مختلطة غالبية القضاة فيها من الأجانب ، فهذه النظم والأوضاع قد تقررت في عهد إسماعيل ، وهى قيود شلت سيادة الحكومة الأهلية ونقصت مزايا الاستقلال الفعلي ، وظلت تنمو وتشتد حتى أواخر عهد إسماعيل ، واستمرت البلاد من بعده تتعثر في أذيال الارتباك المالي والرقابة الأوروبية إلي أن انقلبت الرقابة احتلالا انجليزياً عسكرياً.
والخلاصة أن عصر إسماعيل كان عهد تقدم وعمران ، اختلطت به اخطاء وأغلاط أفضت إلى تصدع بناء الاستقلال المالي والسياسي.
ولو خلت شخصية إسماعيل من عيوبها لجعل من مصر يابانا أخرى ، ولصارت على يده دولة من اقوى الدول المستقلة وأعظمها شأنا.
ولكن هكذا شاء حظ مصرالعاثر أن تتلاحق الأخطاء وتختلط السيئات بالحسنات في تاريخ إسماعيل ، فاغتنمت الدول الاستعمارية الفرصة في أغلاطه ، والضعف الذي انتاب البلاد على عهده ، ووجدت من ذلك سبيلا إلي تحقيق أطماعها في أرض الكنانة ، والضعف في كل عصر آفه الأمم ، ومضيعة لحقوقها ، والقوة هي سياج حريتها واستقلاها ، وقديماً طمع الأقوياء في الضعفاء ، سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا