الرئيسيةبحث

الاستعمار الفرنسي للجزائر

الاستعمار الفرنسي للجزائر(5 يوليو 1830م-5 يوليو 1926) الموافق لـ (14 محرم 1246-7 ذي القعدة 1380)

فهرس

الجزائر قبيل الاستعمار

راجع المقال الرئيسي:الجزائر قبيل الاستعمار

كانت الجزائر قبل الاستعمار سيدة البحر الابيض المتوسط فقد كان لها أسطول ضخم يخاف منه كل أعدائها، وقد تحطم هذا الاسطول في معركة نافرين قرب اليونان عام 1827. ومن ثم اص

الإحتلال الفرنسي للجزائر

استعملت فرنسا ذريعة المروحية لكي تكون سببا لاحتلالها للجزائر الا أن فرنسا كانت تنوي احتلال الجزائر منذ عهد نابليون بونابرت ،اتت فرسا للجزائر مطلقة من ميناء طولون وبلغ عدد الجنود اللذين ضمتهم الحملة (37600 جندي). وصلت هذه الحملة إلى سيدي فرج في (14 يونيو 1830م الموافق لـ 23 ذي الحجة 1245 هـ). بعد الإحتلال فرضت فرنسا على الجزائريين قانون الأهالي.

فرنساوالثورات الشعبية

راجع المقال الرئيسي:الثورات الشعبية

لم تدخل فرنسا الجزائر بسهولة بل كانت هناك ثورات شعبية عديدة في كل اقليم وقفت في وجهها وقد عرقلت تقدم الاحتلال منذ دخوله.

موقف الشعب الجزائري

لم يتجاوب الشعب الجزائري مع السياسة الفرنسية في جميع الجهات بدون استثناء، لا سيما في المناطق التي عرفت ضغطا فرنسيا مكثفًا لتحويل اتجاهها الوطني، فلم يكن للإعانات ولا المساعدات التي تقدمها الإرساليات التبشيرية ولا للتعليم الذي وفرته المدرسة الفرنسية، ولا للمستوطنين الفرنسيين، ولا للمهاجرين الجزائريين الذين تنقلهم السلطات للعمل في فرنسا ـ أثر في فرنسة الشعب الجزائري المسلم، وهو ما دفع مخططي السياسة الفرنسية إلى اتهام الجزائريين بأنهم شعب يعيش على هامش التاريخ.

وحارب الشعب سياسة التفرقة الطائفية برفع شعار "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا والجزائر وطننا" الذي أعلنه العالِم والمجاهد الجليل عبد الحميد بن باديس، ورأى المصلحون من أبناء الجزائر في ظل فشل حركات المقاومة، أن العمل يجب أن يقوم –في البداية- على التربية الإسلامية لتكوين قاعدة صلبة يمكن أن يقوم عليها الجهاد في المستقبل، مع عدم إهمال الصراع السياسي فتم تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام [1350هـ=1931م] بزعامة ابن باديس، التي افتتحت مدارس لتعليم ناشئة المسلمين، وهاجم ابن باديس الفرنسيين وظلمهم، وشنع على عملية التجنس بالفرنسية وعدها ذوبانا للشخصية الجزائرية المسلمة، وطالب بتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، وأثمرت هذه الجهود عن تكوين نواة قوية من الشباب المسلم يمكن الاعتماد عليها في تربية جيل قادم.

وعلى الصعيد السياسي بدأ الجزائريون المقاومة من خلال التنظيم السياسي الذي خاض هذا الميدان بأفكار متعددة، فمنهم من يرى أن الغاية هي المساواة بالفرنسيين، ومنهم الشيوعيون، والوطنيون المتعصبون، وظهرت عدة تنظيمات سياسية منها: حزب الجزائر الفتاة، وجمعية نجم شمال إفريقيا بزعامة مصالي الحاج الذي عرف بعد ذلك بحزب الشعب الجزائري، وتعرض زعيمه إلى الاعتقال والنفي مرات كثيرة.

فرنسا والثورة التحريرية الكبرى

تاريـخ الجزائـر المعاصـر

مقدمة

يسعدني أن أضع بين أيدي الاساتذة عامة والطلبة خاصة هذه الدراسة من تاريخ الجزائر المعاصر وهو يغطي الفترة الممتدة من سنة 1954 إلى غاية 1962. لقد حاولتا بقدر الإمكان أن تكون الدراسة موجزة وقريبة من الموضوعية التي هي صفة أساسية من صفات البحث وسعينا مجتهدين وصادقينا، أن نقدم من خلال هذا العمل المتواضع أقصى مايمكن من المعطيات الضرورية لتتبع أهم أحداث ثورة نوفمبر ولفهم كثير من محطاتها الرئيسية. كما أننا توقفنا ملياً عند بعض المصطلحات والمفاهيم والتي اعتبرتها مفاتيح الكتابة التاريخية والتي بدون التمكن منها يستحيل الوصول إلى حقيقة اندلاع الثورة وتقفي سائر مراحلها. كما أننا تعمدنا عدم التوقف طويلاً عند القضايا الشائكة التي عرفتها جبهة التحرير الوطني طيلة سنوات الكفاح المسلح، وذلك لإيماننا بأنها انجزت عملا كبيرا وجبارا تعجز سائر الامم ان تنجب مثل أبناء هذا الشعب.


الباب الاول


بناء المجتمع الجزائري الجديد الفصل الأول الخطوات الأولى في التطبيق الميداني لأهداف الثورة


التوجهات الأساسية: عندما أشعلت جبهة التحرير الوطني فتيل الثورة، ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، فإنها إنما فعلت ذلك لتجسيد إيديولوجية حزب الشعب الجزائري، لأجل ذلك حددت تحركاتها الأولى في إطار توجهات ثلاث. 1 - التوجه السياسي: ويهدف إلى استرجاع السيادة المغتصبة عن طريق الكفاح المسلح الذي يجب أن يتحول إلى انتفاضة عامة تضعف الجيوش المعتدية، وتخرب الاقتصاد الاستعماري وتفرض جو الحرب الساخنة على فرنسا فتنقاد إلى تفاوض كما حدده نداء الفاتح من نوفمبر سنة 1954. وفي إطار هذا التوجه السياسي، دعت جبهة التحرير الوطني كافة التشكيلات السياسية إلى الإعلان عن حل نفسها رسمياً( )، ودفع مناضليها ومريديها إلى الالتحاق، فرادى، بالصفوف، وأكدت من خلال النداء الأول وفي مناسبات عديدة، أن التفاوض لا يكون إلا معها بصفتها قائداً للكفاح المسلح وممثلاً وحيداً للشعب الجزائري. وكان قادة جبهة التحرير الوطني يطمحون، بصدق وإخلاص، إلى استرجاع استقلال الجزائر ضمن الوحدة الشاملة للمغرب العربي الكبير، وذلك تماشياً مع إيديولوجية نجم شمال إفريقيا، وإيماناً منها بأن تلك هي الطريقة الوحيدة لقطع خط الرجعة على الاستعمار بجميع أشكاله وألوانه.

2 - التوجه الاقتصادي والاجتماعي: ويرمي إلى استرجاع الأراضي المغتصبة وإخضاع مجالات الإنتاج والتسويق والاستثمار إلى التخطيط الذي يأخذ بعين الاعتبار واقع البلاد وإمكانياتها واحتياجات الجماهير الشعبية الواسعة. وبواسطة هذا التوجه كانت جبهة التحرير الوطني تسعى إلى تغيير هيكلة اقتصادية واجتماعية وضعها الاستعمار الاستيطاني طيلة الفترة التي بقيها في ديارنا لتكون دعامة للاقتصاد في (الوطن الأم) ولتبقي الإنسان الجزائري في حالة تبعية دائمة تمنعه من الشعور بذاته وتحول بينه وبين مسؤولياته ككائن له حق التصرف في شؤونه. صحيح أن جبهة التحرير الوطني لم تبدأ، في عامها الأول، ببرنامج اقتصادي، واضح لكنها كانت واعية بأن السلطات الاستعمارية قد اغتصبت ملكيات الجزائريين الزراعية والصناعية خاصة إلى الكولون يستغلونها ويوظفون ثرواتها لتحقيق الثراء الفاحش وللتمكن من ممارسة الاستبداد والاضطهاد على السكان الأهالي، ومن شراء الذمم والأحلاف سواء في أوساط الحكام الفرنسيين بمختلف أنحاء الجزائر أو في فرنسا ذاتها. ولقد تحول ذلك الوعي، في خضم المعركة، إلى رغبة ملحة في استرجاع كل ما أخذ بالقوة. وفي نهاية مرحلة الكفاح المسلح، ظهر التفكير جدياً في إرساء قواعد التسيير الذاتي الذي يعد، بحق، واحدة من الطرق المؤدية إلى انتصار الاشتراكية، والذي هو، في خطوطه العريضة، مأخوذ من تقاليدنا في الإنتاج والتسيير الاقتصادي قبل الاحتلال الفرنسي. 3 - التوجه الحضاري: ويشمل مجالي الدين والثقافة انطلاقاً من مجموعة من الحقائق أهمها: أ - إن الاستعمار لاقى مقاومة بطولية دعامتها المسجد ومصدرها في غالب الأحيان إحدى الزوايا التي كانت منتشرة عبر مختلف أنحاء البلاد لأجل ذلك وجه ضربات قاسية إلى الدين ساعدت على تشويهه وتزييف تعاليمه وإغراقه في متاهات الشعوذة والدروشة. نقول ساعد لأن الأرضية اللازمة للقيام بذلك العمل إنما كانت متوفرة، شأن الجزائر في ذلك هو شأن باقي البلاد الإسلامية التي كانت تعيش جواً يسوده الظلم والاستبداد اللذين لا علاقة لهما بالإسلام، ويخضع للخرافات التي أبعدت الناس عن الدين الصحيح. أما المساجد فإنه أفرغها من محتواها الثوري الذي وجدت من أجله، وحولها إلى شبه كنائس، وذلك إذا سلمت من الهدم ولم تحول مادياً إلى مقرات لمؤسسات أخرى دينية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية. إن هذه الحقيقة التاريخية هي التي جعلت الجزائر تلجأ إلى الدين: تخلصه من بعض ماعلق به من شوائب، وفي ذات الحين ترتكز عليه لتزويد المجاهدين بالطاقة الضرورية لهم في مواجهتهم لأعتى قوة استعمارية تفوقهم عدة وعتادا، ولتعبئة الجماهير الشعبية الواسعة وتوعيتها بالوضع الجديد الذي يجب أن تتكيف معه حتى تتمكن من المشاركة الفعلية في معركة التحرير.

وبالفعل، فإن الذي يرجع، بتأمل، إلى تاريخ ثورة نوفمبر يرى أن التكبير والترغيب في الشهادة قد أديا دوراً أساسياً في تثبيت العزائم وتقوية النفوس وتجنيد أغلبية المواطنين حول جبهة التحرير الوطني.

ب - إن الاستعمار كان وما زال يدرك أن شعباً بلا ثقافة شعب ميت، وأن الاحتلال الحقيقي لا يتم إلا عندما يقضي على ثقافة الشعب المعتدى عليه. فانطلاقاً من هذه القناعة عمدت السلطات الاستعمارية، في بلادنا، إلى تجهيل الجماهير، وتزييف التراث الوطني وطمس معالم الثقافة ومصادرها. بادرت إلى صنع ثقافة جديدة لا علاقة لها بواقعنا، ومثقفين، من نوع جديد، زودتهم بالقيم والأخلاق الاستعمارية. وهنا، أنبه إلى أن التعليم ليس هو الثقافة، وأن هناك من الحصول على الثقافة، وأن هناك من المتعلمين باللغة الفرنسية من تمكنوا من الحصول على ثقافة وطنية واسعة. إن جبهة التحرير الوطني لم تكن تجهل هذا المسعى الاستعماري، ومن ثمة، فإنها إلى جانب الكفاح المسلح، كانت تنظم، في الأرياف خاصة وفي أوساط المجاهدين بصفة عامة، حملات متواصلة لمحو الأمية، وتغيير الذهنيات الجامدة ولرفع مستوى الوعي لدى الفلاحين والعمال، كما أنها كانت تعمل، جاهدة على دعم الأخلاق الثورية المرتكزة على قيمنا العربية الإسلامية، تلكم القيم التي سيكون منها المنطلق لبلورة عناصر الشخصية الوطنية، ولتكوين الإنسان الجزائري الجديد القادر على الإسهام بفعالية في معركة البناء والتشييد من أجل استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الدولة القوية المستقلة. وحينما اتخذت القيادة العليا لجبهة التحرير الوطني قرارها التاريخي الخاص بتفجير الثورة ليلة الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، قسمت البلاد إلى ست مناطق عينت على رأس كل واحدة منها مسؤولاً، ماعدا منطقة الجنوب. وتم الاتفاق في نفس الوقت، على ضرورة عقد ندوة وطنية في منتصف شهر جانفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف تتولى تقييم المرحلة المقطوعة وإعداد برنامج العمل المستقبلي على ضوء التجربة المعيشة وما يكون قد تخللها من مستجدات. إن الندوة المذكورة لم تعقد ولم يتمكن القادة التاريخيون من التلاقي لأسباب كلها موضوعية يأتي في مقدمتها استشهاد مراد ديدوش قائد المنطقة الثانية( ) واعتقاد رابح بيطاط قائد المنطقة الرابعة ( ) ومصطافه بن بولعيد قائد المنطقة الأولى( ) وعدم تمكن محمد بوضياف( ) من إحكام عملية التنسيق بين الداخل والخارج وهو ما أدى إلى عدم تمكين مختلف المناطق بالأسلحة والذخائر اللازمة لاستمرار المعركة وتطورها. وبالإضافة إلى ذلك هناك حالة الطوارئ( ) وميلاد الحركة الوطنية الجزائرية( ) التي أرادها السيد مصالي الحاج تنظيماً منافساً لجبهة التحرير الوطني. ولم يبق في الميدان من القيادة السداسية سوى كريم بلقاسم قائد المنطقة الثالثة الذي ظل يبذل أقصى مافي وسعه للتصدي إلى هجمات القوات الاستعمارية، والعربي بن المهيدي الذي صار يسعى للتوفيق بين مهامه كقائد للمنطقة الخامسة وواجبات جديدة فرضت عليه نتيجة اعتقال قائد المنطقة الرابعة. إن هذا التعثر، على الرغم مما كان يمثله من خطر ماحق على مصير الثورة، لم يمنع جبهة وجيش التحرير الوطني من الانتشار بسرعة فائقة خاصة في أوساط مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذين كانوا ينتظرون هذه الظروف الجديدة بفارغ الصبر. ومن الغريب أن المناطق التي أصابتها أعنف الهزات هي التي طورت أكثر من غيرها. ونحن نعرف، اليوم، أن عدد المجاهدين الذين لم يكن يتجاوز الأربعمائة ليلة أول نوفمبر قد ارتفع عشية انتفاضة العشرين أوت سنة 1955 إلى حوالي أربعة آلاف، بالإضافة إلى التنظيم المدني السري الذي عم أغلبية أنحاء المناطق الأولى والثانية والثالثة. ولم يكن تزايد عدد المقاتلين، رغم أهميته كافياً، لأن الأسلحة لم تكن متوفرة لا نوعاً ولا كماً، ناهيك عن الذخيرة وسائر معدات الحرب. فرجال جيش التحرير الوطني، استطاعوا، في هذه الأشهر الأولى، أن يجمعوا حوالي ألف قطعة سلاح( ) مابين بنادق الصيد والمسدسات العادية والبنادق الحربية الموروثة عن الحرب الامبريالية الثانية ولم يكن هذا هو المتوقع عندما تفرقت القيادة العليا عشية أول نوفمبر، بل أن آمالاً كبيرة كانت معلقة على نشاطات المندوبية في الخارج( ) ومجهودات السيد محمد بوضياف الذي كلف بتعبئة الجزائريين في فرنسا حيث سهولة الاتصال بباعة الأسلحة ومهربيها. غير أن مندوبية الخارج لم تحصل، رغم الجهود المبذولة والوعود المحصل عليها، على مايمكنها من شراء الأسلحة وإدخالها إلى المناطق. ذلك( ) أن الدول العربية الشقيقة لم تكن تصدق أن يكون للشعب الجزائري،في يوم من الأيام، طليعة تستطيع تفجير الثورة على واحدة من أعظم القوات الاستعمارية في العالم، خاصة وأن الجزائر كانت ملحقة، قانونياً، بفرنسا( ). أما السيد بوضياف، فإن مهمته في فرنسا قدتعقدت بسبب سيطرة مصالي شبه الكلية على هياكل حرّكة الانتصار للحريات الديمقراطية( ) لأجل ذلك، فإنه ترك فكرة التسليح مؤقتاً، وراح يقوم بحملة توعية واسعة النطاق في أوساط مناضلي الحركة المذكورة إلى أن تمكن من استمالة عدد كبير منهم سمح له بإنشاء هياكل جبهة التحرير الوطني وإرساء قواعدها الثابتة التي ستبرهن على نجاعتها فيما بعد. وأمام هذه الظروف الطارئة، فإن قيادات المناطق، حيث تأجج لهيب الثورة قد لجأت إلى الاعتماد على النفس وراحت تأمر بمضاعفة الجهود في مجال صنع المتفجرات التقليدية وجمع ما أمكن من الذخيرة والأسلحة التي كانت بين أيدي المواطنين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى رفعت شعار: "سلاحنا نفتكه من عدونا"، وهو شعار أتى بنتائج إيجابية معتبرة."( ) وإلى جانب هذين الإجرائين الحكيمين قام كل من الشهيدين العربي بن المهيدي ومصطفى بن بولعيد، الأول في اتجاه المغرب الأقصى والثاني في اتجاه ليبيا عن طريق تونس، بمحاولة لربط الاتصال بمندوبية الخارج. لكن المحاولتين لم تأتيا بثمار يذكر إذ عاد ابن بولعيد إلى سجن الكدية كما هو معروف. كل هذه الصعوبات والمشاكل غير المتوقعة لم تمنع المجاهدين من خوض كثير من المعارك الناجحة ضد القوات الاستعمارية المسلحة، كماتم تمنع أعداداً كبيراً من الخونة والعملاء من نيل الجزاء الذي يستحقونه. إن الدارس لا يستطيع في صفحات قليلة أو حتى في مجلد، أن يتعرض بجد لكل العمليات العسكرية والحملات التأديبية والكمائن القاتلة التي قام بها أو أقامها جيش التحرير الوطني خلال تلك الأشهر الأولى من الثورة. ولكن كانت الثورة قد حققت كثيراً من التقدم، وأحرزت على العديد من الانتصارات في المجالين السياسي والعسكري، فإن مشاكل التسليح ستظل مطروحة بحدة إلى نهاية عام 1955. وإن هذا النقص في التسليح هو الذي سيسمح للسلطات الاستعمارية بأن تجمع قواها وتوظف إمكانات حربية هائلة لقمع المناطق الثائرة.

وفي صباح اليوم الثاني من شهر نوفمبر، ظهرت الصحافة الاستعمارية بعناوين ترمي إلى هدفين مختلفين: فهي تدعو، من جهة، إلى التزام الهدوء، ومنح الثقة للسلطات المختصة التي تملك من الوسائل ماسيمكنها، في ظرف قصير جداً، من القضاء على الأعمال الإجرامية( ) والدعوة إلى الهدوء والثقة معناها منع الفوضى والاضطراب اللذين من شأنهما أن يخلقا مايحتاجه الثوار من ظروف ملائمة، فتضطرب نيران الحرب، وتعم الثورة التي تحقق المسؤولون من وقوعها رغم تنكرهم لها في الظاهر، وعدم اعترافها بشرعيتها. ومن جهةأخرى. فإن تلك العناوين جاءت عبارة عن ترهيب ووعيد موجهين لقادة وأعضاء الحركة الجديدة، مذكرة بقوة فرنسا وعظمتها وقدرتها على رد الفعل، وعلى استعمال العنف والقمع من أجل التوصل إلى استتباب الأمن وإرجاع المياه إلى مجاريها.. وبهذا الصدد، صرح الوالي العام بأنه يملك وسائل إضافية سوف لن يدخر استعمالها، وأنه سيتخذ كل مايجب اتخاذه من إجراءات لحماية مصالح فرنسا والفرنسيين وللدفاع عنها( ) وفي اليوم الثالث من الشهر، تعددت التعاليق وتكاثرت الآراء التي أجمعت، رغم اختلاف الاتجاهات السياسية لأصحابها، بأن جذور ماوقع في الجزائر، يجب البحث عنها في الخارج، لأن الدقة التي ميزت الأحداث"أكبر من عقول الأهالي"( ) وبالطبع، فإن أول من وجهت إليه التهم الثقيلة هي الجامعة العربية التي لم تكن،آنذاك تخفي دفاعها عن حقوق أبناء المغرب العربي إلى درجة أنها أنشأت، في القاهرة، مباشرة بعد تأسيسها، مكتباً يمثل الحركات الوطنية العاملة في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى( )، وبالإضافة إلى ذلك فإن إذاعة صوت العرب هي أول محطة أعلنت عن ميلاد جبهة التحرير الوطني، وبشرت بالنصر المبين، ودعت إلى اللحاق بركب المقاتلين، منددة بالقاعدين والمترددين، ثم أن مصر كانت، سنة 1954، ما زالت تعيش في هيجان الثورة وحماسها، تلك الثورة التي رفعت كشعار لها، منذ البداية، خدمة القومية العربية والدفاع عنها أينما وجد أبناؤها. ومن جهته، فإن السيد ميسكاتلي، ممثل ولاية الجزائر العاصمة في مجلس الشيوخ الفرنسي، قد صرح بأن الأحداث التي تهز المستعمرة منذ ثلاثة أيام ماهي إلا دلالة واضحة على التضامن الوطيد بين مختلف الحركات الوطنية التي تشوش شمال إفريقيا بأسره، بل أن مايتم في واحد من أقطار المغرب، إنما هو باتفاق الجميع ومن تخطيط كل القيادات المتمردة على السيادة الفرنسية( ). أما الوالي العام، السيد روجي ليونار، فإنه أبدى اندهاشه أمام التناسق الذي تمت به العمليات عبر مختلف أنحاء البلاد، وراح يؤكد أن كل القرائن تثبت بأن عناصر أجنبية هي التي خططت وهي تقود التمرد قصد تجنيد الرأي العام بمناسبة انعقاد الدورة العادية للأمم المتحدة، والتمكن من فتح ملف المغرب العربي أمام تلك الهيئات الدولية. وعلى العكس من الوالي العام، فإن السيد مارسيل أدموند نايجلن السابق الذكر، لم يندهش لما وقع، بل ذكر أنه كان دائماً يقول: "إن الجزائر لا يمكن أن تبقى غريبة عما يجري في المغرب الأقصى وتونس"( )، ثم حدد خطة للعمل تهدف إلى خنق الثورة في مهدها، وحصرها في نقطتين: تتمثل الأولى في الشروع في تطبيق قانون الجزائر الذي سبقت الإشارة إليه، وتتعلق الثانية بتنمية الخدمات الاجتماعية، وخاصة محاربة البطالة في أوساط الأهالي لصدهم عن الانضمام إلى صفوف جبهة التحرير الوطني. وخارج الجزائر، فإن "بريد المغرب" قد علق على أحداث الفاتح من نوفمبر بمايلي: إن الوطنيين يعتقدون أنهم سيسيطرون على عمليات الإرهاب، ولكنهم غالطون، لأن ذلك سوف يتعداهم لفائدة الشيوعيين.( ) وكانت الجملة الأخيرة بمثابة الإيحاء، لأن الشيوعية سوف تصبح من خلال وسائل الإعلام، هي المتهم الثاني الذي ستركز سلطات الاستعمار مجهوداتها لتلقي عليه مسؤولية اندلاع الثورة. وليس معنى الاتهام أن المخابرات الفرنسية لم تكن تعرف الحقيقة، ولكن كان لابد من إيجاد العوامل التي تنفر الجماهير من الحركة الجديدة، وتمنعها من الالتحاق بصفوف المكافحين. ذلك أن الشعب الجزائري مسلم، وإذا كانت الثورة مدعمة، حقاً، من قبل الشيوعية، فإنها تكون، بلا شك، مناهضة للإسلام خاصة وأن هناك سوابق في التاريخ المعاصر:شعوب إسلامية سيطرت عليها الشيوعية، فأخرجتها من الإيمان ورمت بها في أحضان الكفر والإلحاد بحجة مسايرة العلم والتقدم. ولئن كانت المسؤولية قد ألقيت هكذا جزافاً على كل من الجامعة العربية والشيوعية، هروباً من الواقع المر الذي لم يكن يخفي على الولاية العامة، فإن حركة الانتصار للحريات الديمقراطية هي الأخرى قد تعرضت لقمع أعمى باعتبارها المسوؤل الرئيسي عما وقع( ).. وهكذا صدر مرسوم بتاريخ الخامس من شهر نوفمبر، ونشر على أعمدة الجريدة الرسمية التي تحمل تاريخ السابع من نفس الشهر، يقضي بحل حركة الانتصار للحريات الديمقراطية وكل المنظمات والهيئات التابعة لها وتحريم نشاطها في كافة أنحاء تراب الجمهورية الفرنسية بما في ذلك مايسمى بعمالات الجزائر. وأعطيت الأوامر لمصالح الأمن في مختلف أنحاء البلاد، فألقت القبض، خلال الأسبوع الأول من نوفمبر وحده، على أكثر من ألفي رجل من مناضلي ومسؤولي الحركة المصالية وزجت بهم في السجون تستنطقهم، بحثاً عن الحقيقة ومن أجل التوصل إلى القيادة العاملة في كل منطقة. وأمام تلك الأعداد الضخمة من الإيقافات وبعد قنبلة جبال الأوراس بالنابالم الذي أتلف الأخضر واليابس في جزء كبير منها، عنونت الجرائد الاستعمارية في صحافتها الأولى: "بأن المنظمة الإرهابية قد قضي عليها نهائياً في الشرق الجزائري".( ). ومما لاشك فيه أن تصرفات السلطات الاستعمارية، أثناء هذا الأسبوع الأول من الثورة قد ساهمت مساهمة فعالة،وبطريقة عفوية، في تزويد جبهة التحرير الوطني بالكثير من المنخرطين الجدد، كما أنها ساعدت على نشر الرعب في نفوس الأوربيين والتشكيك في كل مايمكن أن يصدر عن الهيئات الرسمية. وبالفعل، فإن حملة الإيقافات العشوائية قد دفعت الكثير من المترددين إلى تغيير مواقفهم والالتحاق بالجبال، هروباً من السجون ومراكز الاستنطاق( ). ومن الجانب الآخر، فإن المعمرين لم تعد لهم أدنى ثقة فيما تصدره صحافتهم من بيانات رسمية، خاصة، وأن تلك البيانات كانت قد ذكرت، في البداية بأن عدد المتمردين لا يتجاوز ثلاثمائة أو أربعمائة شخص، يوجد جلهم في منطقة الأوراس. وبعد نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر أفادت بأنه ألقي القبض على حوالي ألف من "الإرهابيين"( ) وبأن العمليات العسكرية الحقيقية سوف تدخل مرحلتها الحاسمة في الأيام المقبلة.

ولاسترجاع تلك الثقة المفقودة والضرورية لخوض المعركة، ركزت السلطات الفرنسية على جانبين رئيسيين من جوانب الإعلام والتوجيه: فمن ناحية سلطت الأضواء على حياة بعض الثوار ممن لهم "ماض إجرامي أو علاقات مشبوهة مع القضاء" وذلك للتقليل من قيمة جبهة التحرير الوطني، وحتى يتخلف أبناء العائلات الكريمة عن الالتحاق بصفوف المجاهدين، ومن جملة ما نشرته جريدة "صدى الجزائر": أن جيش التحرير المزعوم يضم من بين قيادات أركانه شخصيات بارزة يمكن أن نذكر من جملتها: الشهير قرين بلقاسم بن بشير الذي يبلغ من العمر سبعاً وعشرين سنة ويجر وراءه سوابق عدلية لا تقوى الجبال على حملها. لأجل ذلك، فإنه لا مجال للدهشة عندما نعلم أنه فضل الالتحاق بأصدقائه المحكوم عليهم. ترأس عصابة من الإرهابيين بدلاً من أن يستسلم للعدالة ويقضي في السجن سنوات الأشغال الشاقة التي حكم بها عليه سنة 1950".( ) ومن ناحية ثانية، ركزت وسائل الإعلام، بأمر من المسؤولين طبعاً، على التدخل الأجنبي والإمدادات الخارجية"، التي بدونها لا يمكن للجزائريين أن يقفوا في وجه قوات الأمن الفرنسية( ) وبهذا الصدد، ذكر أن خمس مائة "إرهابي" تونسي التحقوا بجبال الأوراس في الأيام الأولى من شهر نوفمبر لتنظيم وحدات القتال، وتدريب الأهالي على استعمال الأسلحة وعلى خوض حرب العصابات. كما ذكر أن السلطات العسكرية قد لاحظت بأن بعض الطائرات تأتي، ليلاً، بدون أدنى ضوء فتفرغ حمولاتها بمنطقة الأوراس، وتضيف نفس المصادر أن تلك الطائرات قد يكون منطلقها من المملكة الليبية( ) وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الصحافة الفرنسية راحت تعمل على تعميم الفكرة القائلة بأن الثوار إنما هم جماعات معزولة ومنبوذة من الجماهير التي لا ترغب سوى في أن تبقى فرنسية كاملة الحقوق والواجبات. وبهذا الصدد نشرت "صدى الجزائر" خبراً مفاده أن سكان تيزي غنيف قد حاولوا الاعتداء على اثنين وثلاثين إرهابياً وقعوا أسرى أثناء عملية قامت بها "قوات الأمن"( ). وقد أدت هذه الأوضاع، متظافرة، إلى تذبذب السلطات الاستعمارية التي لم تعد تعني مايصدر عنها من أقوال وتصرفات وصارت تتخبط في عدد لا حصر له من التناقضات. ففي ظرف يومي، الثامن والتاسع من شهر ديسمبر، أعلن السيد ميتران وزير الداخلية آنذاك، "أن سبعين ألف جندي يعملون في المناطق المشوشة للتدليل على أن فرنسا محمية في الجزائر"( )، وصرح السيد ليونار الوالي العام، في حفل رسمي "أن المتمردين لا يزيد عددهم عن أربعمائة شخص"، وعنونت "صدى الجزائر: إن قوات الأمن ألقت القبض على سبعمائة وخمسين وقتلت وجرحت سبعين من "الإرهابيين"( ) . ومع حلول السنة الجديدة، تغيرت الأوضاع كلية، حيث أدركت السلطات الاستعمارية أن لافائدة في مواصلة الكذب والمخادعة العاريين، فراحت قرار بتصعيد العمليات العسكرية للقضاء على مايسمى في تطبيق برنامج إصلاحي في الجزائر وعن اتخاذ قرار بتصعيد العمليات العسكرية للقضاء على مايسمى في ذلك الحين بجيوب التمرد( ). فبالنسبة للنقطة الأولى. فإن السلطات الاستعمارية لم تجهد نفسها كثيراً. وإنما اكتفت بنفض الغبار عن قانون الجزائر الذي أودع رفوف المحفوظات منذ تاريخ صدوره سنة 1947. وأضيف إلى مواد ذلك القانون، لكي يبدو أن هناك تجديداً، إجراء خاص بإعطاء المرأة الجزائرية حق الانتخاب. ولقد رأى المعمرون خطراً ماحقاً في تمكين المرأة العربية المسلمة من سلاح يخشى أن يستعمله المناضلون للاستحواذ على كافة المؤسسات السياسية المسيرة للبلاد. كما أنهم اعتبروا تفكير حكومتهم في تطبيق قانون الجزائر، والمعارك قائمة، تعتبر تنازلاً للذين حملوا البنادق، وخطوة عملاقة في طريق التخلي عن العمالات الثلاث المكونة للجزائر الفرنسية. لأجل ذلك، فإنهم رفعوا شعاراتهم المعادية لسياسة الحكومة المركزية، وجندوا كل طاقاتهم للإطاحة بها، خاصة وأن السيد مانداس فرانس، يعد في نظرهم، واهب الاستقلالات ومخرباً للامبراطورية الاستعمارية( ). وكان المعمرون أقوياء فعلاً، بالإضافة إلى أن تحركاتهم وقعت في ظرف كانت الحكومة فيه معرضة للهجومات مع جميع الجهات. وتزعم حركة المعمرين، تلك، رؤساء بلدياتهم الذين أوفدوا جماعة منهم إلى فرنسا، تشرح وجهة نظرهم، وتشتري الأنصار من بين كبار الشخصيات الفرنسية المسيطرة على المسرح الفرنسي. ويتضمن مخطط كفاح رؤساء البلديات ثلاثة مطالب مركزية، نستخرجها من الندوة الصحفية التي عقدها الناطق الرسمي بأسمائهم: السيد إيزلا، بتاريخ الخامس والعشرين من شهر جانفي سنة 1955.

ويأتي على رأس تلك المطالب: المعارضة الشديدة لكل الإصلاحات المقترحة والتي ستجعل من الجزائر، حسب رأيهم، تونس ثانية، ولكي لا يظهر رؤساء البلديات في زي الطغاة المستبدين، صرح إيزلا "أن تطبيق الإصلاحات سينظر فيه بعدعودة السلام، واستتباب الأمن في البلاد"( ).

أما المطلب الثاني، فيدعو إلى التعجيل بإرسال الجيوش المدربة القادرة على خوض المعارك، لأن الأجناد المتواجدين في الميدان غير مهيئين لحرب العصابات. ولذلك، فإن اللفيفا الأجنبي( )والطوابير المغربية( ) هي التي يجب أن تخصص لقتال الجزائريين. ولقد طرحت هذه الفكرة لأنها تمنع أبناء فرنسا من الموت المحقق، خاصة وأن أبناء المعمرين يؤدون الخدمة العسكرية كغيرهم، كما أنها تجعل الحرب تدور بين الأجانب فقط. وأما المطلب الثالث، فهو اقتصادي محض يدعو إلى تزويد الجزائر بقروض من ميزانية "الوطن الأم". ومن الجدير بالذكر أن الحكومة الفرنسية لم تبق مكتوفة الأيدي أمام كل تلك التحركات، فأصدر مجلس الوزراء بتاريخ الخامس والعشرين من شهر جانفي، هو نفس اليوم الذي عقد فيه السيد إيزلا ندوته الصحفية، بياناً يتضمن تعيين السيد جاك سوستال والياً عاماً للجزائر، والإعلان عن دمج شرطة الجزائر في شرطة فرنسا( ). وإذا كان الإجراء الأول يهدف إلى التخلص من السيد ليونار الذي أصبح أسير كمشة من المعمرين المتطرفين، فإن دمج الشرطة يخرج قوات الأمن الأساسية من قبضة الشرذمة، ويسمح للسلطة المركزية بتعيين ضباط تستطيع الاعتماد عليهم، لأن ضباط ذلك الحين كانوا يأتمرون بأوامر الكولون. إن مبادرات الحكومة سليمة، في حد ذاتها، وكان من الممكن أن تكون لها نتائج إيجابية، ولكنها جاءت مختلفة، ولذلك، فإنها أدت إلى عكس ماكان ينتظر، فسقطت حكومة مانديس في اليوم الخامس من شهر فيفري سنة 1955، أي بعد عشرة أيام فقط من صدور البيان المذكور. أما بالنسبة للنقطة الثانية، فإن القيادة العسكرية، في الجزائر، قد شرعت منذ اليوم التاسع عشر من شهر جانفي، في تنظيم عمليات واسعة النطاق استهلتها بقنابل مكثفة لجبال الأوراس، ثم أَلقت بآلاف الجنود المزودين بجميع أنواع الأسلحة لتمشيط المنطقة، وسمي ذلك بعملية "فيرونيك" تشبيهاً بحركة القديسة التي تحمل نفس الاسم عندما مسحت وجه المسيح. والمقصود من ذلك التشبيه أن الجيوش الفرنسية تلقت الأمر "بتفتيش المنطقة شبراً شبراً حتى لا يبقى فيها متمرد واحد"( ). لقد نسي الاستعمار مقولة ماوتسي تونغ الشهيرة: "أن الثورة أسماك مياهها الجماهير الشعبية"( ). ومما تجدر الإشارة إليه أن السيد ليونار هو الذي أشرف على انطلاق عملية فيرونيك التي ستتبعها في اليوم الثالث والعشرين من نفس الشهر عملية "فيوليت" الموجهة لتطهير الجبال المحيطة بمدينة بسكرة والممتدة على حوالي مائتين وخمسين كيلو متراً مربعاً". ( ) إن هزيمة مانديس فرانس، التي كانت أكبر دليل على قدرة الكولون وسعة سلطانهم، قد أغرقت فرنسا في أزمة سياسية تركتها بدون حكومة مدة تسعة عشر يوماً، ظهرت خلالها عدة محاولات فاشلة قامت بها شخصيات ذات انتماءات سياسية وعقائدية مختلفة. ويبدو أن الملل، من جهة، واطمئنان المعمرين على مصالحهم الخاصة، من جهة ثانية، هما اللذان سمحا للسيد ادقار فور أن يفوز بالثقة التي مكنته من تشكيل حكومته يوم 24 فيفري 1955م. ولا يمكن أن تكون مجرد صدفة تلك التي جعلت سوستيل الوالي العام الجديد، يعلن، بنفس التاريخ، إن فرنسا لن تتخلى عن الجزائر، إلا كما تتخلى عن مقاطعة بريتاني( ). وليس ذلك فقط هو الدليل الوحيد على انتصار الطغمة الاستعمارية، بل إن هناك تصريحات أخرى، سيدلي بها سوستيل في مختلف أنحاء البلاد، يؤكد فيها بقوة أن فرنسا قد أدركت أهمية الجزائر، لذلك فهي مستعدة للذهاب إلى أبعد الحدود قصد الحفاظ عليها، وبعد الإعلانات ومختلف التصريحات جاءت الإجراءات( ) التي قيل، في ذلك الحين، إنها تشكل مرحلة أولى تتجاوب مع ثلاثة اهتمامات هي: 1 - ضرورة توفير الأمن للسكان، بواسطة استعمال الوسائل العسكرية المكثفة. 2 - الشروع في سياسة اقتصادية جديدة تأخذ بعين الاعتبار ثروات الصحراء التي من شأنها أن تغير مصير فرنسا. 3 - تبني فكرة "الجيوش الإفريقية" التي كان بيجو قد استعملها في بداية الاحتلال والتي هي عبارة عن استعمال نفس الأسلحة التي يقاتل بها رجال المقاومة. لكن أخطر إجراء هو ذلك الذي نشرته الصحافة الصادرة بتاريخ التاسع عشر مارس في شكل بيان من وزارة الداخلية يحمل اسم: حالة الطوارئ. وحالة الطوارئ إجراء قانوني جديد، اتخذته السلطات الفرنسية تجنباً للجوء إلى حالة الحصار التي تدعو إليها أحكام الدستور أثناء الدخول في حرب أو عندما يتمرد الجيش. وقد جاء في بيان وزارة الداخلية أن حالة الطوارئ تشكل حلاً وسطاً بين الحالة العادية حيث الاحترام لجميع الحريات، وحالة الحصار التي تؤدي حتماً إلى تفكيك الهياكل التقليدية الإدارية، لأنها تنقل الحكم إلى السلطات العسكرية. ذلك أن حالة الطوارئ تبقي للسلطات المدنية حق ممارسة الحكم، ولكنها تعمل على تركيزه وتدعيمه. ليصبح أكثر ملاءمة مع أحداث تعد كارثة عمومية، من شأنها أن تعرض الأمن للخطر وأن تمس بالسيادة الوطنية( ). وتنص المادة الأولى من وثيقة حالة الطوارئ على أن الإجراء الجديد "يمكن تطبيقه على كل أو على جزء من تراب "الوطن الأم" والجزائر أو عمالات ماوراء البحار، ويكون ذلك سواء في حالة وقوع خطر داهم نتيجة اضطراب الأمن العام، أو في حالة وقوع حوادث تتسم بطابع الكارثة العمومية نظراً لنوعها وخطورتها"( ). ومامن شك أن الغموض والتقييم في هذه المادة مقصودان لتتمكن الحكومة من ممارسة الظلم والاضطهاد في كل مكان يمكن أن ترتفع فيه أصوات الدفاع عن الديمقراطية والحرية. وبمجرد ما وضعت حالة الطوارئ حيز التنفيذ، دخلت الجزائر مرحلة جديدة من حياتها وأهم ماطبعت به تلك المرحلة: ظهور المحتشدات التي توخي في إنشائها اختيار المناطق النائية ليصعب الاتصال بالمجبرين على الإقامة فيها. وكان اللجوء إلى إنشاء المحتشدات أمراً منطقياً يندرج في إطار المادة السابعة من وثيقة حالة الطوارئ، والتي تشير إلى أنّه في استطاعة وزير الداخلية في جميع الحالات والوالي العام في الجزائر. أن ينفيا إلى أية دائرة ترابية، أو إلى أي مكان محدد كل شخص يبدو نشاطه خطيراً على الأمن والنظام العام. وعلى الرغم من أن الوثيقة تنص في مكان آخر على أن النفي لا يؤدي إلى إنشاء المحتشدات، إلا أن ذلك لم يحترم ولم يكن بالإمكان احترامه لأن نفي مئات الأشخاص إلى مكان واحد يتطلب إمكانيات جبارة للقيام بالرقابة اليومية ولتوفير الأكل والسكن. لأجل ذلك كانت السلطات الاستعمارية مضطرة لإقامة المعسكرات، متبعة في ذلك أساليب النازيين أثناء الحرب الامبريالية الثانية. ولئن كانت المحتشدات في ظاهرها نقمة على الجزائريين فإنها في الحقيقة قد ساعدت، كثيراً، على نشر مبادئ وأهداف جبهة التحرير الوطني. إذ سرعان ما تحولت إلى منابع لاتنضب تزود روافد الكفاح المسلح سواء في الريف أو في المدينة.

وقد استغلت الإطارات السياسية تلك التجمعات الهائلة لتنظيم الدروس الاستعجالية في كافة الميادين، ولتعد الذهنية الجزائرية للتكيف مع الأوضاع الجديدة المفروضة على البلاد.

ومن الأكيد أن مستوى الوعي والإدراك لدى الجماهير الجزائرية قد ارتفع بنسبة عالية، جداً بفضل ماقدمته المحتشدات من معرفة، ماكان بالإمكان نقلها بمثل تلك السرعة، إلى مثل تلك الجموعات الهائلة.( ). ذلك أن كل من يخلى سبيله، ويرجع إلى ذويه، يتحول، تلقائياً، إلى داعية متشبع بالعقيدة، قادر على الإقناع. وهكذا، نستطيع القول إن حالة الطوارئ التي كان المقصود منها شل الحركة النضالية وإخماد النشاط الثوري، قبل استفحاله، قد أتت بنتائج عكسية سيكون لها مفعول كبير في صقل روح المقاومة، خاصة عند النخبة من أبناء الشعب الجزائري. أما السلطات الاستعمارية، فإنها لم تكتفِ بسن حالة الطوارئ، ولكنها راحت تبذل كل مافي وسعها لخلق الظروف الملائمة لتطبيقها على أكبر عدد ممكن من دوائر وبلديات الوطن الجزائري. ففي هذا النطاق، افتعلت الأخبار والإشاعات التي مفادها "أن المتمردين، في جبال أوراس، قد تلقوا، عن طريق الجو، الأسلحة التي أرسلتها دول أجنبية قصد إغراق البلاد في بحر من الفوضى والاضطراب وانعدام الأمن، ومن أجل زرع الشقاق بين الأشقاء وتوسيع هوة الخلاف بينهم"( ). ومثل هذا الوضع يشكل، بالطبع، سبباً متيناً لتطبيع حالة الطوارئ. ونشرت الصحافة أن المملكة الليبية ومصر هما اللتان تحركان التشويش وتدعمان التمرد من أجل الانفصال عن "الوطن الأم"، لأنهما غير راضيتين عما حققته الجزائر الفرنسية من تقدم وازدهار. ونقلت الصحافة، كذلك، نبأ إلقاء القبض على الملازم العراقي: محمد حمادي عبد العزيز، وهو يحارب إلى جانب الثوار بالقرب من بوغني. ثم خصصت أهم الأعمدة لنشر تصريحاته التي تحذر الجزائريين مما تبثه إذاعة "صوت العرب" من أكاذيب حول الوجود الفرنسي في الجزائر، مؤكداً أن حالة سكان منطقة القبائل التي يعرفها أفضل بكثير من حالة أحسن المصريين( ). وكانت هذه الأخبار المكذوبة كافية لفرض تطبيق حالة الطوارئ على نواحي الشرق الجزائري في بادئ الأمر، ثم تعميم ذلك، بالتدريج، على سائر المناطق التي بدا فيها تمركز الثوار بكيفية مقلقة. ولكي يكون للإجراء الجديد فعالية أكبر، قررت السلطات الاستعمارية تعيين الجنرال غاستون بارلنج( ) على رأس القيادة الموحدة للعمليات العسكرية والمدنية في الأوراس، ولقد تم التعيين بسبب ما حاز عليه ذلك الضابط السامي من شهرة في المغرب الأقصى حيث كان يشرف على منطقة أغادير ذات المراس الصعب، ونشرت الصحافة آنذاك، أنه وضع تحت تصرفه الفيلق الأكثر أوسمة من فيالق الجيش الفرنسي"( ). وبالإضافة إلى بارلنج، تم تعيين العقيد ديكورنو قائداً لناحية السمندو( )، المحاذية لمنطقة الأوراسي، وأوردت الأنباء، في ذلك الحين، بأن ديكورنو هو بطل الهند الصينية، دون أن تبين في أي مجال: أي في الهجوم أو في الانسحاب، لأن نتائج تلك الحرب غير القتلى والأسرى والمعطوبين. وكانت هذه التحركات مدعمة بتصريحات سياسية ومبادرات ميدانية، ففي المجال السياسي التأكيد على أنها ستبقى كذلك رغم تدخلات الأجانب( ) أما المبادرات الميدانية، فتتمثل في إقدام بعض المسؤولين أمثال المتصرف هرتز ( ) على تكوين فرق الحركة، وفي أوامر الجنرال بارلنج المتعلقة بجعل المسؤولية جماعية على سكان المناطق الريفية التي تكون مسرحاً للمعارك مع الثوار، أو تتهم بالتعاون معهم. إن كل هذه المجهودات الحربية قد ترجمت، في النهاية، برفع عدد أفراد الجيش النظامي العامل بالجزائر إلى مائة ألف عسكري، بالإضافة إلى تعزيز مايسمى بقوات الأمن والمتمثلة في رجال الشرطة والدرك الوطني الذين كانوا، في تلك الأشهر الأولى من الثورة في المناطق، يقومون مقام الأجانب. غير أن تلك الإعدادات والمساعي لم تحقق لسلطات الاستعمار ماكانت تصبو إليه، ولم تخمد نار الثورة الملتهبة خاصة في المناطق الأولى والثانية والثالثة من أرض الوطن( ). ولقد نشرت يوم 27 يونيو سنة 1955، على أعمدة الصحافة، نتائج المعارك التي دارت رحاها في تلك الأشهر الأولى،ولم تكن مشجعة بالمقارنة مع ما بذل من جهد، خاصة في الميدان العسكري.

لقد ورد في الإحصاءات المنشورة: أن القوات الفرنسية في الشمال القسنطيني قد قتلت ثلاثمائة متمرد، وأسرت ثلاثمائة وسبعة وأربعين، في حين قتل من أفرادها تسعة وسبعون وجرح تسعة وأربعون، وقتل من المدنيين الفرنسيين مائة وتسعة وعشرون وجرح مائة وتسعة وأربعون( ).

وبتعبير أسهل، فإن الخسائر الفرنسية قد بلغت، إلى غاية التاريخ المذكور أعلاه، ثلثي الخسائر الجزائرية، وأنها لنتيجة جد مشجعة بالنسبة للثورة الفتيية التي لم تكن تطمح إلى مثل ما توصلت إليه. ومن الممكن أن السيد سوستال قد انتبه إلى هذه الحقيقة، واعترف في قرارة نفسه بأن القتال لن يؤدي إلى النصر المنتظر، لأن الجماهير الجزائرية قد بدأت تتبنى الثورة. لأجل ذلك، فإنه رمى في الميدان بمحاولة خاصة أطلق عليها اسمه، وهي عبارة عن برنامج إصلاحي موجه إلى كافة ميادين الحياة، ويشتمل على عشر نقاط..( ) إن هذه التحركات المخططة والمدعومة بنشاط سياسي مكثف قد جاءت بالنتائج المرتقبة، ففي خلال السداسي الأول من سنة 1955، ارتفع عدد الأجناد الفرنسيين من حوالي أربعين ألفاً، قبل فاتح نوفمبر، إلى مايزيد عن مائة ألف، تدرب جزء كبير منهم في مدن وأرياف الهند الصينية، وزود السلاح الجوي بمجموعة من الطائرات المطاردة والطائرات العمودية والطائرات المقنبلة، كما أن سلاح المدفعية قد تلقى عدداً من المدرعات والمدافع الثقيلة والمصفحات المختلفة الأنواع، في حين تم تعزيز القوات البحرية العامة في الجزائر بوحدة من البوارج الحربية( ). وإلى جانب الجهد العسكري الكبير نظمت السلطات الاستعمارية حملة دعائية واسعة لتمجيد المظليين وإرهاب الأهالي( ).

ومن جهة أخرى، صدرت تعليمات برفع عدد المحتشدات والتجمعات، ونشطت الرقابة السياسية في ميداني الثقافة والإعلام، حيث صودرت مجموعة من الكتب لأنها تتعرض لحرب العصابات وحروب التحرير بصفة عامة، ومنعت من العرض بعض الأفلام الأمريكية مثل "قنطرة وادي كواى" و"الجنرال" وغيرهما مما له صلة بالمقاومة والكفاح المسلح.

رغم كل هذه الاحتياطات ومضاعفة الإمكانيات الحربية، ورغم مشاكل التسليح التي لاقتها جبهة التحرير الوطني في السنة الأولى، فإن الجنرال شاريار لم يتردد، فإن أحد تقاريره، عن القول إن (مايجري في الجزائر، حالياً، يمكن أن تكون له عواقب وخيمة، وعليه ينبغي، في نظره، ألا تنسى بأن التأني والضعف لا ينفعان في البلاد الإسلامية( ).

وعندما قطعت الثورة نصف عام من حياتها، كتب المارشال جوان ( ) إلى رئيس الحكومة الفرنسية السيد ايدكارفونر ( ) يحرضه على اتخاذ الإجراءات الصارمة. ومن جملة ماجاء في كتابه: إن الوضع في الجزائر خطير جداً، والمعلومات الأخيرة التي وصلتنا تنبئ بأننا نسير نحو انتفاضة معممة تحت لواء الجهاد، وذلك في سائر عمالة قسنطينة( ).

إن هذا التشكي الصادر عن القادة الفرنسيين، العسكريين منهم والسياسيين، إنما يهدف إلى حمل الحكومة الفرنسية على الاستجابة، بدون مناقشة، لكل الطلبات المتعلقة برفع ميزانية الحرب وعدد المقاتلين، وبسن القوانين الجديدة التي من شأنها أن تساعد على خنق الثورة في مهدها. ومع مرور الزمن، واتساع النشاط الثوري وافقت الحكومة الفرنسية على تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية وإعطاء التعويض المطلق للقادة العسكريين يفسرون ذلك المبدأ كيفما شاؤوا. كل هذه التدابير التعسفية كان الهدف من اتخاذها الحد من روح المقاومة لدى الجماهير الشعبية وكذلك تسليط أنواع القمع على المناضلين الوطنيين قصد إبعادهم عن جبهة التحرير الوطني، ولكن النهاية كانت عكسية، اعترف بذلك، بعد استرجاع الاستقلال، كل الذين عالجوا تاريخ ثورة نوفمبر العظيمة.

ولئن كانت جبهة التحرير الوطني قد استفادت في مجال العدد من كل هذه التصرفات الاستعمارية، فإن جيش التحرير الوطني، في الواقع، لم يستفد كثيراً بسبب نقص الأسلحة والذخيرة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، لأجل ذلك، فإن العمليات العسكرية وعمليات التمشيط المكثفة واستعمال العتاد الحربي وآلاف الأجناد المجلوبة من فرنسا، كلها، قد شكلت مضايقة رهيبة، وخناقاً على الوحدات الأولى المكونة لجيش التحرير الوطني في الشرق الجزائري، وعلى وجه الخصوص في المنطقة الأولى( ) وجنوب المنطقة الثانية( ). وكان المسؤولون، في المنطقتين، يدركون جيداً ذلك الوضع القاسي، ويقدرون كل الصعوبات المتمثلة في تفوق العدو، عدداً وعدة، وفي عدم توفر الأسلحة والذخيرة لدى جيش التحرير الوطني، كما أنهم كانوا يعرفون أن الاستمرار على تلك الحالة يسيء إلى الثورة. وعليه صار لابد من إيجاد طريقة تمكن من فك الحصار المضروب على قمم الجبال والأرياف، ومن جعل القرى والمدن تشعر بأنها طرف أساسي في المعركة التي ينبغي أن تنتشر بسرعة وتتسع ليضطرب العدو، فتتمزق وحدته وتتشتت قوته الضاربة، وفكر الشهيد يوسف زيغود( ) ومساعدوه المقربون طويلاً للوصول إلى حل ناجح، صار يسمى منذ ذلك التاريخ "انتفاضة العشرين يوليو سنة 1955. وقبل أن نسترسل في الحديث عن العشرين من يوليو، ينبغي أن نقول إن تركيز فرنسا على المنطقتين الأولى والثانية لم يكن يعني أن الثورة قد خبت نيرانها في المناطق الأخرى من البلاد. لكن المنطقة الأولى كان لها وضع خاص يتمثل فيما يلي: 1 - لقد كانت، قبل نوفمبر سنة 1954، مأوى لمناضلي ومسؤولي المنظمة الخاصة الملاحقين من طرف السلطات الاستعمارية وبالتالي ميداناً للتدريبات العسكرية ومخزناً للأسلحة والذخائر التي تحصلت عليها مختلف أجهزة حركة الانتصار للحريات الديمقراطية من جميع الجهات وبجميع الوسائل. 2 - إن مسؤولها الأول، الشهيد مصطفى بن بولعيد. كان معروفاً كمسؤول في الأوساط السياسية، إذ كان، عشية الثورة، عضواً في اللجنة المركزية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية، ومن ثم، فإنه كان يحظى بثقة معظم المناضلين بما في ذلك أعضاء المنظمة الخاصة للمتواجدين هناك. وبالإضافة إلى شهرته السياسية، فإن مصطفى كان ثرياً ومن رجال الأعمال الناجحين، استطاع أن يوظف رؤوس أمواله في خدمة الجماهير الشعبية التي منحته، بالمقابل، حبها وثقتها. هذان السببان، خاصة، قد ساعدا على انطلاق الأعمال الثورية بسرعة فائقة، ومكنا المسؤولين عن جبهة وجيش التحرير الوطني من العمل بحرية في أوساط الأهالي من سكان المدن والأرياف. وإذا كانت المنطقة الثانية لم تعطِ قائداً له نفس وضع إمكانيات الشهيد ابن بولعيد، فإنها كانت تشتمل على عدد كبير من أعضاء المنظمة الخاصة ( ) ومن مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية المحنكين والمؤيدين للإسراع بالدخول في مرحلة الكفاح المسلح، لأجل ذلك فإن عملية الهيكلية وتنصيب الخلايا وتجنيد المجاهدين الأوائل لم تعترضها صعوبات كثيرة، الأمر الذي ساعد على إنجاز نسبة كبيرة من البرنامج الذي وضعته القيادة العليا بالنسبة للأشهر الأولى من الثورة. فهذه الأوضاع الخاصة التي كانت للمنطقتين هي التي جعلت الثورة تكون فيهما قوية ومنتشرة، وفي نفس الوقت جعلت السلطات الاستعمارية تخصص معظم إمكانياتها المادية والعسكرية والسياسية لمحاربة جبهة التحرير الوطني هناك. أما في المناطق الأخرى، فقد اهتمت القيادة، في الأشهر الأولى بتنظيم حملة شرح واسعة في أوساط مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية الذين كانوا، في معظمهم، موالين للسيد مصالي في خلافه مع اللجنة المركزية؛ وفي نفس الأثناء كانت هيكلة جبهة التحرير الوطني تجري على جميع المستويات في حين كان التجنيد يتم ببطء نتيجة عدم وجود الأسلحة الكافية. ولم تبدأ العمليات العسكرية في تلك المنطقة إلا في ربيع عام 1955. وكانت في شكل كمائن تنصب أساساً للحصول على الأسلحة، وبالإضافة إلى ذلك كانت نشاطات جيش التحرير الوطني توجه لإعدام أعوان الشرطة وحراس الغابات، و"القياد" وغيرهم من دعائم السلطات الاستعمارية، وكلما أعدم خائن استفاد مجاهد من سلاحه. وإلى جانب هذه العمليات العسكرية البسيطة، كان على جيش التحرير الوطني في المنطقة الثالثة، أن يجابه المجموعات المسلحة التابعة للحركة الوطنية الجزائرية. أما المنطقة الرابعة، فإنها كانت أسوأ حظاً، لأن السلطات الاستعمارية التي كانت تتابع تحركات مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية قد تمكنت، في خلال الشهر الأول، من إلقاء القبض على أغلبية العناصر الذين بدأوا مع السيد بيطاط بما في ذلك نوابه في العاصمة. وبيطاط نفسه سيقع أسيراً في منتصف شهر فبراير 1955. ونتيجة لذلك النجاح الذي حققته مصالح الأمن الفرنسية، فإن المنطقة الرابعة كادت تختنق بعد حوالي سبعين يوماً فقط من اندلاع الثورة ويعود الفضل في بقائها وانتعاشها إلى ابن المهيدي والعقيد واعمران( )، الذي تمكن، رغم كل العراقيل، من إعادة تنظيم الهياكل ثم ساعدته الظروف على اختيار الرجال الأكفاء الذين عرفوا كيف يندمجون بسرعة وكيف يسيطرون على الأوضاع بعد أن كادت تفلت من جبهة التحرير الوطني لفائدة العدو. ومن جملة الإطارات البارزة تجدر الإشارة إلى عبان رمضان ( ) الذي خرج من السجن في النصف من شهر فبراير، ووضع نفسه تحت تصرف جبهة التحرير الوطني. مع العلم أنه من مسؤولي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية: قاد ولاية بجاية ثم ولاية عنابة إلى غاية سنة 1950 عندما ألقي عليه القبض وحكم عليه بالحبس لمدة خمس سنوات. وبسرعة كبيرة، وبفضل تكوينه السياسي والإيديولوجي ومستواه الثقافي، استطاع أن يحتل الصدارة أمام مسؤول العقيد واعمران، وحتى أمام قائد المنطقة الثالثة كريم بلقاسم الذي كان يأتي إلى العاصمة يأخذ رأيه حول القضايا السياسية. وأول عمل قام به السيد عبان رمضان هو صياغة بيان مطول يحمل تاريخ فاتح من ابريل سنة 1955 وموجه إلى الشعب الجزائري، جاء فيه على الخصوص: "إن السلطات العسكرية الفرنسية تبذل كل مافي وسعها لإخفاء الحقيقة، فمثلاً، عندما تنصب قواتنا كميناً لسيارة مصفحة، ويصيب سائقها الهلع فيلقي بمركوبه إلى حيث لا رجعة، فإن الصحافة الاستعمارية تكتب عن حادث تنسب سببه إلى الجليد". "أيها الشعب الجزائري، بعدأن حققت نجاحات كثيرة، لا ينبغي أن يخفى عليك بأن المهمة الباقية مهمة جبارة. لأجل ذلك، فإن جيش التحرير الوطني يدعوك لتساعده وتمد له يد المعونة في جميع الميادين... إن النصر مرهون بما يقدمه كل الجزائريين من مساهمة إلى جانب قواتنا المحاربة والعازمة على مواصلة المعركة إلى أن تنتصر القضية الجزائرية". "أيها الجزائريون، تعالوا جميعاً لتعزيز صفوف جبهة التحرير الوطني. وتخلصوا من التردد، واتركوا الصمت.. وسعوا دائرة نشاطكم كل يوم أكثر حتى تتمكنوا من إرضاء ضمائركم ومن تسديد الدين الذي عليكم لبلدكم( )". وقد استعمل عبان رمضان كل الإمكانيات المتوفرة لديه لسحب المنشور وتوزيعه على أكبر عدد ممكن من المواطنين. وفي نفس الوقت ضاعف اتصالاته بالشخصيات الجزائرية مركزاً على قادة التشكيلات السياسية. وإذا كانت مجهودات المستشار السياسي للمنطقة الرابعة لم تسفر عن نتيجة تذكر في مجال التفاوض مع ممثلي الحزب الشيوعي والاتحاد الديمقراطي وجمعية العلماء، فإن عملية التعبئة والتنظيم في أوساط مناضلي حركة الانتصار المحلولة قد قطعت خطوة عملاقة بعد يوم 13 مايو سنة 1955 الذي أطلق فيه سراح أعضاء اللجنة المركزية الذين التحق معظمهم بجبهة التحرير الوطني في داخل البلاد وفي خارجها على حد سواء، ومن أبرز أولئك الأعضاء السيد ابن يوسف بن خدة( ) الذي سيلعب دوراً حاسماً في معركة الجزائر وعلى رأس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فيما بعد.

وبالفعل، لقد شرع في تكوين فرقتين مسلحتين، تتحرك إحداهما داخل حي بلكور وتكون تحت إشراف الشهيد ذبيح الشريف، وتتحرك الثانية في حي القصبة فتكون تحت إشراف السيد ياسف سعدي. ويتولى التوجيه السياسي مسؤول جهوي يأخذ تعليماته مباشرة من الشهيد عبان الذي يعمل بتنسيق مع العقيد واعمران، السيد بلقاسم كريم. غير أن التنظيم العسكري، في العاصمة، لم يعرف أي نجاح يذكر في هذه السنة الأولى من الثورة، وذلك بسبب سيطرة المخابرات الاستعمارية وعدم وجود الإمكانيات المادية التي تسمح بالعمل الفوري. وعلى العكس من ذلك، فإن التنظيم السياسي قد عرف تطوراً ملموساً:فأنشئ العديد من الخلايا، وتكاثرت المنشورات الداعية إلى عدم التعامل مع الإدارة الاستعمارية: "لأن غضب الثورة سينصب بلا شفقة ولا رحمة على كل مخالف للتعليمات" وتضاعفت الاتصالات مع قادة التشكيلات السياسية المقيمين بالعاصمة ومع معظم الجزائريين المنتخبين الذين قدم عدد كبير منهم استقالته. وبالنسبة للمنطقة الخامسة، فإن الأمر كان مغايراً تماماً، ذلك أن عمليات ليلة الفاتح من نوفمبر لم تكن ناجحة في معظمها، وتمكنت القوات الاستعمارية من إلحاق خسائر فادحة بتلك المجموعات الأولى من المجاهدين الذين كان يقودهم الشهيد العربي بن المهيدي. ومن جملة القتلى الأول من الثورة: الشهيد ابن عبد المالك رمضان النائب الأول لقائد المنطقة. ولقد تأثر الشهيد ابن المهيدي بتلك النتائج السلبية التي عرفتها منطقته فحاول الاتصال بالعاصمة، تارة وبالمغرب الأقصى تارةأخرى، يبحث عن الأسلحة وعن أحسن الوسائل التي تمكنه من تجاوز المحنة. وإذا كان مشكل الأسلحة سيظل قائماً طوال تلك السنة الأولى من الثورة تقريباً، فإن ابن المهيدي قد وجد في السيد عبد الحفيظ بو الصوف( ) نائباً توفرت فيه كل الشروط المطلوبة في القائد الناجح، لقد كان ذكياً متعلماً ومثقفاً، كما أنه كان رهيف الحس يتمتع بمقدرة كبيرة على فهم الآخرين وعلى ربط العلاقات الإنسانية اللازمة خاصة في مثل تلك الظروف.

ومن الجدير بالذكر، أن بوصوف استطاع، بفضل حركته وبفضل المجهودات الجبارة التي كان يبذلها في جميع الأوقات وبكل المناسبات، أن يعيد تنظيم المنطقة، ويوفر لها الوسائل والإمكانيات المادية والبشرية التي ستسمح لها بالانطلاقة من جديد بمناسبة العيد الأول لميلاد الثورة.

وعلى الرغم من أن المنطقة الخامسة قد قضت كل تلك السنة الأولى في التأهب والاستعداد، فإن السلطات الاستعمارية لم تسرح، وظلت تتابع، عن كثب تحركات المناضلين لعلها تتمكن من القضاء على الحركة قبل ميلادها. وفي هذا الإطار، أراد الوالي العام: السيد جاك سوستيل أن يفرض على مدينتي مغنية وسبدو نفس حالة الطوارئ التي كانت مفروضة على الشرق الجزائري( ). ولتنظيم العمال الجزائريين في فرنسا، وإشراكهم في الكفاح المسلح، اتجه السيد محمد بوضياف إلى زوريخ حيث استدعى السيد مراد تربوش( ) وزوده بالتعليمات اللازمة لبعث جبهة التحرير الوطني بفرنسا في مرحلة أولى وبأوربا في مرحلة ثانية. ولقد كانت المهمة صعبة ومعقدة، خاصة وأن مصالي الحاج كان يسيطر، كلية، على كافة المناطق هناك، وأن مناضلي، حركة الانتصار للحريات الديمقراطية في فرنسا كانوا يقدسون الزعيم ولا يرضون بغيره بديلاً، كما أنهم أخبروا في تلك الأيام الأولى من نوفمبر بأن القيادة العليا للحزب هي التي أشعلت فتيل الثورة، ومن ثم لا يمكن أن يصدقوا ماقد يأتي به تربوش حتى لو كان من المسؤولين الموثوق بهم. وعلى الرغم من كل الصعوبات، استطاع القائد الأول لفدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا أن يجند مجموعة أولى من خمسة أشخاص، كان كل منهم مسؤولاً عن واحدة من قسمات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وأمرهم بالبدء، في تكوين الخلايا التي ينبغي أن يزيد عدد أعضائها عن الخمسة مناضلين، كما أمرهم بنسخ نداء الفاتح من نوفمبر وتعميمه وماكاد يحل شهر مايو سنة 1955 حتى صارت جبهة التحرير الوطني تضم في صفوفها حوالي مائتي مناضل كلهم مستعدون للشروع في العمل الفدائي، لكن الحركة الوطنية الجزائرية كانت وماتزال متواجدة في معظم النواحي، لذلك قرر السيد محمد بوضياف الاستمرار في عملية الهيكلة. وحتى هذه الأخيرة، فإنها سوف تتعثر لأن مصالح الأمن الفرنسية ستلقي القبض على تربوش وبعض أعضاء اللجنة العاملين معه. تم ذلك يوم 26 ماي من نفس السنة.

وفي القاهرة، فإن المندوبية، المكونة في بداية الأمر، من ثلاثة أشخاص( ) قد تدعمت بالتحاق السيد محمد يزيد ( ) عضو اللجنة المركزية لحركة الانتصار ومسؤول فدرالية فرنسا لنفس الحركة قبل اندلاع الثورة، ونظراً لثقافته الواسعة، وتكوينه السياسي وخبرته النضالية فإنه سيصبح واحداً من أعلام السياسة الخارجية لجبهة التحرير الوطني، ولا أظن أن رجال الإعلام الذين كانوا يمارسون المهنة في مستويات عالية، آنذاك مستعدون اليوم، لنسيان ماكان يمتاز به الرجل من ديناميكية وذكاء على استغلال الأحداث والظروف.

وكان حضور مؤتمر باندونغ أول انتصار دولي تحرزت عليه جبهة التحرير الوطني التي استطاع ممثلوها أن يتحركوا بحرية مطلقة ضمن وفد المغرب العربي الكبير، وأن يتمكنوا من إقناع أغلبية الوفود المشاركة بعدالة القضية الجزائرية. وقد تجسدت المجهودات المبذولة من طرف السيدين آيت أحمد ومحمد يزيد في تأكيد المؤتمر الأفرو آسيوي على تأييده لشعوب الجزائر والمغرب الأقصى وتونس في تقرير مصيرها وفي عملها من أجل حصولها على الاستقلال( ). إن موقف مؤتمر باندونغ( ) هذا قد فتح أبواب المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة أمام جبهة التحرير الوطني. لأجل ذلك صار على هذه الأخيرة أن تثبت وجود الثورة الشاملة، ولم يكن ثمة للقيام بذلك أفضل من انتفاضة العشرين أوت سنة 1955.

أهدافها ونتائجها: والحديث عن انتفاضة العشرين أغسطس، بعد حوالي ثلاثين سنة، ليس بالموضوع السهل، خاصة وأن الذين هيأوا لها ونفذوها لم يتركوا لنا مذكراتهم، ولم يكتب الأحياء منهم، حتى الآن، مايسمح بالحكم على صحة أو عدم صحة ماورد حول هذه المسألة في عشرات المؤلفات. وعلى سبيل المثال، فإن السيد الستار هورن، في كتابه "تاريخ حرب الجزائر" يذكر بأن "أحداث عشرين أوت" كانت نتيجة اليأس القاتل الذي يسيطر على كل من زيغود ومساعده الأول السيد لخضر بن طوبال( )وكما سنرى فإن هذا الرأي لا يختلف كثيراً عن الذي جاء به السيد فرحات عباس الذي يضيف إلى اليأس، شعور الشهيد زيغود بالذنب والتقصير تجاه قائد المنطقة: الشهيد ديدوش مراد. أما الملازم أيف كوريار، فإنه، على غرار جرجي زيدان، يطلق العنان لخياله، فيسمع زيغود وهو يحدث أحد أعوانه "إن الخسارة ستكون مرتفعة، ولكن حتى إذا قضي على نصف السكان، فإن الثورة ستربح لأن الجزائر ستتحرك... وعلى أية حال، فإن حال الثورة لن يكون (بعد الأحداث) أسوأ مما هو عليه الآن( ). في استطاعة أي قارئ أن يواصل تعداد الأمثلة وهي معظمها متقاربة. لكننا نتوقف عند رأي السيد إيدوارد باهر الذي يقول: (لقد كانت أحداث العشرين من آب تعبيراً عن الاحتفال بالذكرى الثانية لإلقاء القبض على سلطان المغرب الأقصى. وبينما شاهدت مدينة وادي زم، في البلد الأخير، تقتيل حوالي تسعين، أوربياً، فإن العملية قد أخذت نفس الحجم، تقريباً، في ناحية سكيكدة والعالية....). غير أن هناك شيئاً لابد من الإشارة إليه، وهو أن الصحافيين والدارسين والباحثين والهواة الذين تعرضوا في كتاباتهم إلى الانتفاضة قد اعتمدوا على ما سمعوه من أخبار ثم تولى كل واحد توجيهها كيفما شاء، وحسب الأغراض التي حددها لنفسه. ومعظم تلك الأخبار، حتى يومنا هذا متأتية عن مصادر استعمارية من جرائد ونشريات وتقارير أمن ودراسات ميدانية إلى غير ذلك من الوثائق التي أعدتها، في ذلك الحين، مختلف السلطات الفرنسية، أما محفوظات جبهة وجيش التحرير الوطني، فإنها قد ضاعت، ولم يبق منها الشهادات الحية وهي لم تستنطق بعد بطريقة علمية وجدية. كثير من الكتاب يذكرون أن السيد لخضر بن طوبال وهو أساسي في هذا الموضوع، قد قال لهم كذا وكذا، أو أكد لهم هذه الحقيقة أو تلك، أو زودهم بوثائق شخصية لم تنشر، في حين أن المعني بالأمر لم يقدم سوى شهادة واحدة( )، ولم ينشر أي شيء في الموضوع.

إن المسؤولين الذين عاشوا تلك الفترة يجمعون على أن زيغود يوسف هو صاحب فكرة الانتفاضة، وعندما اختمرت في ذهنه نقلها إلى مساعديه الأقربين وفي مقدمتهم لخضر بن طوبال. ولقد كان زيغود من قدماء المنظمة الخاصة، ومن المناضلين البارزين في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، لأجل ذلك، وعلى عكس من يزعم بأنه لم يكن يعرف مايمكن أن تنتهي إليه الانتفاضة من عواقب وخيمة، فإننا نستطيع التأكيد بأنه كان مقداراً لكل الاحتمالات.

فالمشرفون على المنظمة الخاصة كانوا يركزون على نظرية حرب العصابات، وعلى كل المناهج التي من شأنها تعبئة الجماهير وجعلها تتحمل مسؤولياتها كاملة. وفي هذا الإطار، كان يوسف زيغود يقول دائماً أن القمع الأعمى يولد القمع الأعمى، والعنف يدعو إلى العنف، وعلى هذا الأساس، فإذا تمكنت جبهة التحرير الوطني من إقناع السكان العزل بضرورة الانضمام إلى أفراد جيش التحرير الوطني في عملية هجومية ضد الاستعمار وقواته بجميع أنواعها، فإنها ستتسبب في رد فعل عنيف يقطع خط الرجعة على المترددين، ويوقظ الحس الوطني لدى عامة المواطنين. ومهما يكن من أمر، فإن جميع المعلومات المختلفة من مصادرها المتعددة وإخضاعها للنقد والتحليل، يسمحان لنا بحصر أهداف انتفاضة العشرين آب فيمايلي: 1 - مضاعفة عدد مراكز التوتر في أماكن كثيرة من المنطقة الثانية ليرفع الحصار المضروب على منطقة الأوراس التي كانت تعاني من عمليات التمشيط المبكرة آنذاك. 2 - نقل الحرب الساخنة من الجبال والأرياف إلى المدن والقرى، وبذلك يتم ضرب عصفورين بحجر واحد. فمن جهة يخفف الضغط المفروض على الريف من أجل محاولة خنق التنظيم الثوري في مهده، ومن جهة أخرى ليتأكد الاستعمار من أن الثورة في كل مكان ولكي تتسع الهوة بين السلطات الاستعمارية والجزائريين الذين كانوا مايزالون مترددين. 3 - إقناع الرأي العام الفرنسي والرأي العام العالمي بأن الشعب الجزائري قد تبنى جبهة التحرير الوطني، وهو مستعد لمجابهة الرشاشات والدبابات حتى بالحجارة والفؤوس والعصي من أجل تحرير البلاد.

4 - تدويل القضية الجزائرية، وذلك بحمل الجمعية العامة للأمم المتحدة على تسجيلها في جدول أعمال دورة 55.

5 - لتكون تلك الأحداث الدامية تعبيراً صادقاً عن تضامن الجماهير الجزائرية مع الشعب المغربي الشقيق. وبالفعل، فإن معظم هذه الأهداف قد تحقق، وعلى سبيل المثال، نذكر يقظة الحس الوطني لدى منتخبي الدرجة الثانية من الجزائريين الذين سيصدرون اللائحة المشهورة بعد حوالي شهر من وقوع الانتفاضة( )، كما تشير إلى أن المجلس الوطني الفرنسي قد خصص، نتيجة لذلك، ثلاثة أيام في منتصف شهر أكتوبر للتداول حول القضية الجزائرية( ). أما الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنها بفضل موقف بلدان العالم الثالث، قد سجلت المسألة الجزائرية في جدول أعمال دورة سنة 1955. وكان ذلك بأغلبية صوت واحد. واكتفى الوفد الفرنسي لدى الأمم المتحدة بالانسحاب( ) بينما في الجزائر، صرح سوستيل: إن ماوقع في نيويورك أثمن من قافلة أسلحة توجه إلى جبهة التحرير الوطني( ). أما السيد فرحات عباس، فيرى أن ما أسماه بفظائع أوت هي نتيجة أزمة الضمير التي كان زيغود يجتازها في ذلك الوقت. وتتمثل الأزمة، حسب رأيه، في شعور قائد المنطقة الثانية بأن السبب في استشهاد ديدوش مراد إنما يرجع إلى الأخطاء التي ارتكبها هو، كدليل يعرف المنطقة وسمح للفرقة بأن تجتاز أرضاً مكشوفة( ). وبالإضافة إلى أزمة الضمير، يزعم عباس بأن أحداث العشرين من أغسطس سنة 1955، كانت تقية اتخذها زيغود ليصفي حسابات قديمة مثل انتقامه من علاوة عباس الذي كان قبل الثورة قد انتصر في الانتخابات على مرشح حركة الانتصار للحريات الديمقراطية( ). وإذا استثنينا غلاة الاستعماريين الذين كتبوا عن انتفاضة العشرين أوت لتشويهها، وهم معذورون لأنهم في حالة الدفاع عن أنفسهم وتبرير جرائمهم، فإن عباس هو الوحيد الذي قلل من قيمتها مؤكداً بأن قيادة المنطقة الثانية كانت قصيرة النظر، ومشيراً إلى أن مؤتمر الصومام نفسه قد أدان الأحداث ولو كانت فيها فائدة لما فعل ذلك. نحن نعتقد أن عباس عندما أصدر هذا الحكم، لم يكن قد أطلع على رأي السيد جاك سوستيل الذي قال بعد الأحداث بأسابيع: هناك تاريخان يفرضان نفسيهما على الذهن وهما: فاتح نوفمبر و20 أغسطس وهذا الأخير أكثر لأن سلسلة الحوادث بعده قد تكاثرت وأخذت بعداً آخر( ). ويذكر المؤرخون جميعهم أن انتفاضة العشرين أغسطس وقعت عند منتصف النهار لكن واحداً منهم لم يحاول أن يصل إلى الدافع الذي جعل زيغود يختار تلك الساعة من النهار. والحقيقة أنها كانت، يومها، هي وقت آذان صلاة الظهر، وأراد أن تمتزج الدعوة للصلاة بالدعوة إلى الجهاد، وهو ماحدث في أغلبية القرى والمدن. وهناك أسباب أخرى من جملتها، مثلاً، كون منتصف النهار هو موعد وجبة الغذاء عند الأوروبيين المدنيين، لأن العسكريين يتغذون قبل ذلك بساعة كاملة أو نصف ساعة، ثم أن الوقت صيف، وبعد الظهر تشتد الحرارة، ومعظم أفراد الجيش الفرنسي غير معتادين على ذلك. المهم أن الهجوم قد بدأ في الوقت المضبوط ولكن ليس في كل الجهات المحددة، بل يمكن الجزم أن الجهة التي كان يشرف عليها الشهيد زيغود مباشرة هي التي نفذت الخطة بكل دقة، لأجل ذلك وقع كل الثقل تقريباً على الشريط الممتد بين سكيكدة، القل وقسنطينة، شاملاً على الخصوص: مدينة سكيكدة وضواحيها، مدينة رمضان جمال حالياً مدينة صالح بوشعور، مدينة الحروش، مدينة مزاج الدشيش، مدينة سيدي مزغيش، مدينة ريغود يوسف حالياً، مدينة وادي زناتي، ثم مدن القل والميلية وقسنطينة والخروب. ولقد كانت عمليات القمع وحشية، استهدفت كل المواطنين بدون تمييز وإن كان الاختيار يذهب، غالباً إلى الرجال والشباب، واختلفت الجهات في تقدير عدد القتلى، فالمصادر الفرنسية تحدثت عن حوالي ألف وخمسمائة شخص من بينهم حوالي مائة وعشرين أوربياً. أما جبهة التحرير الوطني فنشرت، يومها، أسماء وعناوين اثني عشر ألف قتيل وقتيلة. ونحن نعتقد أن شهداء الانتفاضة كانوا أكثر بكثير، نستدل على ذلك بشهادة جندي فرنسي ذكره السيد هورن في كتابه( ) يقول ذلك الجندي الذي يتحدث عن مدينة سكيكدة. "إننا شرعنا نطلق الرصاص على الجميع بدون تفريق... وكان قادتنا يحددون الأوامر باستهداف كل العرب الذين نلقاهم... وظللنا مدة ساعتين لا نسمع غير صوت الأسلحة الأوتوماتيكية تقذف النار على الجمهور... بعد ذلك جاءت أوامر جديدة تقضي بجمع الأسرى، وفي الغد، على الساعة السادسة صباحاً، سطرت المدافع الرشاشة أمامهم ثم أطلق الرصاص. وبعد عشر دقائق انتهى كل شيء وكانت أعدادهم هائلة إلى درجة أن دفنهم استوجب استعمال الجرافة. ومهما كان عدد الضحايا، فإنه يبقى قليلاً إذا قارناه بالنتيجة الإيجابية التي تم التوصل إليها. ولئن كان بعض الكتاب والمؤرخين يزعمون بأن عدداً من المسؤولين في المنطقة الرابعة، أمثال عبان ولبجاوي، قد استنكروا أحداث العشرين من أغسطس لأنها تسببت في مقتل أو عطب كثير من المدنيين، وإذا كان هناك من يذهب بالقول إلى أن مؤتمر وادي الصومام قد أدان العملية ووجه، بشأنها، توبيخاً إلى الشهيد زيغود يوسف، فإن الواقع لا يصدق كل هذه الادعاءات لسبب بسيط وهو أن محفوظات الثورة لا تذكر ذلك، بل أن جميع الوثائق المتوفرة لدينا، حتى الآن تمجد الانتفاضة وتعتبرها بعثاً جديداً ومنعرجاً تاريخياً حاسماً في حياة الثورة( ). وليس ما أوردته مجرد ادعاء، كما أنه لا تأثير فيه، لا للعاطفة ولا للمغالاة، لأن أحداث العشرين من أغسطس هي التي فرضت على صحافة العالم كله أن تخصص أعمدة كاملة تحت عناوين كبيرة للقضية الجزائرية بمفهوم جديد غير الذي يجعل من الجزائر جزءاً لا يتجزأ من فرنسا. وانتفاضة العشرين أغسطس أيضاً، هي التي كسرت جناحي السيد سوستيل الذي كان قد جمع كل قواه، وجند سائر إمكانياته في جميع الميادين ليطبق قانون سنة 1947 الذي أسلفنا ذكره، لقد كان سوستيل يؤمن بأن الإصلاحات الاجتماعية وبعض الحقوق للجزائريين تكفي لعزل جبهة التحرير الوطني والقضاء عليها، وكان يعتمد، في حساباته، على مجموعة من المعتدلين وبالضبط على السيد فرحات عباس وأتباعه. لكن زيغود، الذي لم يكن في الحسبان، تدخل بعنف فزاد الهوة اتساعاً ووجه إنذاراً شديد اللهجة للإطارات الجزائرية التي كان سوستيل يركز عليها آماله.











الفصل الثاني

المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه


أ - في مجال السياسة الداخلية. ب - في المجال العسكري. ج - في مجالي الثقافة والاقتصاد. د - خلاصة الفصل.




لقد اغتنمت جبهة التحرير الوطني أول فرصة أتيحت لها، في اليوم العشرين من شهر أوت ست وخمسين وتسعمائة وألف، لعقد المؤتمر الذي كان منتظراً جمعه في بداية عام خمسة وخمسين وتسعمائة وألف( ) وضبطت جدول أعماله في نقطتين اثنتين هما: 1 - إثراء بيان الفاتح من نوفمبرعام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف. 2 - تعيين القيادة العليا التي تناط بها مسؤولية مواصلة الكفاح من أجل استرجاع السيادة الوطنية. فبيان الفاتح من نوفمبر كان إعلاناً عن ميلاد جبهة التحرير الوطني، وتحديداً للخطوط العريضة التي يشتمل عليها برنامجها السياسي والعسكري. أما التسمية فيعود سببها إلى رغبة المجموعة التي أشعلت فتيل الثورة في التدليل على أنها لا تنتمي إلى أي من الجناحين المتصارعين داخل حزب الشعب الجزائري وأنها تتجاوز كل الصراعات الشكلية التي لا تفيد سوى الاستعمار، لترجع النضال إلى الطريق السوي المتمثل في الكفاح المسلح. فالكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة التي ظل حزب الشعب الجزائري يستعد للوصول إليها، إيماناً منه بأنها اللغة التي يفهمها غلاة الاستعمار الفرنسي.( )

لأجل ذلك فإن القيادة العليا مطالبة، بالإضافة إلى سهرها على توفير الشروط اللازمة لإنجاح المعركة المسلحة، بوضع تصور إجمالي للمجتمع الذي ينتظر بناؤه بعد القضاء على السيطرة الأجنبية. من هنا جاء اهتمام مؤتمر وادي الصومام بالنقطتين المشار إليهما أعلاه، ولقد ناقش المؤتمرون مشروع وثيقة شاملة( ) نجد اليوم مقتطفات منها، ونعرف من الذين شاركوا في وضعها أن بعض أجزائها ظلت بعيدة عن متناول القارئ ويتحمل في نهاية الأمر، أنها ضاعّت رغم الإيماءات والإشاعات( ). ومن وجهة النظر الإيديولوجية، فإن وثيقة وادي الصومام تعتبر ميثاقاً تضمن، بكثير من الدقة والتفاصيل، تقييم المرحلة المقطوعة من حياة الثورة وآفاق المجتمع الجزائري بعد استرجاع السيادة الوطنية، بالإضافة إلى تنظيم مختلف جوانب الكفاح المسلح وتصور المشروع السلمي لتسوية القضية الجزائرية. وإذا كنا قد أعطينا للنقطة الأولى حقها في الفصل الأول فإننا نخصص هذا الفصل الثاني لدراسة المجتمع الجزائري الجديد وكيفية تنظيمه: أ - في مجال السياسة الداخلية: لقد كان حزب الشعب الجزائري يسعى، بالدرجة الأولى، إلى تنظيم الطليعة المتشبعة بإيديولوجيته قصد تكليفها بالنفاذ إلى أوساط الجماهير حيثما وجدت توعيها بالواقع الذي تعيشه وتجندها لخوض المعركة عندما يحين الأوان، لأجل ذلك كان المناضلون يستعملون جميع الوسائل لإقناع أكبر عدد ممكن من المواطنين بضرورة الخلاص من كل أنواع السيطرة الأجنبية. كان الهدف الأول، إذن، يرمي إلى جعل الإنسان الجزائري يدرك أنه يعيش وضعاً مختلفاً كلياً عن وضع الأوربي، وأن من الواجب عليه العمل على إحداث التغيير. فالمستعمر الدخيل استطاع، بوسائل متعددة، أن يستولي على الأراضي الخصبة والمناجم الغنية بالثروات المعدنية وأن يسخر، لاستغلالها، كل السواعد القادرة على العمل كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الباب الأول من هذه الدراسة. ولكي تتمكن السلطات الاستعمارية من تأييد حالة التبعية في أوساط الجماهير الجزائرية ومن إبقائها في دائرة التخلف، فإنها كانت تطبق بكل دقة مبدأ "فرق تسد". "فالجزائر لم تعرف الاستقلال في تاريخها، ولم يكن فيها شعب واحد، ولا هي قادرة على العيش بدون وصاية أجنبية. أما سكانها فأجناس مختلفة وقبائل متنافرة متناحرة"( ) لقد استطاع المؤرخون أن يعرفوا المكتبات بما مفاده أن العناية الاستعمارية قد جعلت من الجزائريين أمة في طور التكوين أهم عناصرها هم العرب واليهود والأوروبيين، ولأنها لم تكن موجودة من قبل، فإنه لا يحق لأبنائها أن يموتوا لكي تبعث من جديد كما أكد ذلك السيد فرحات عباس عندما قال: لو اكتشفت الأمة الجزائرية لكنت وطنياً دون أن أخجل من ذلك خجلي من ارتكاب الجريمة، لكنني لن أموت من أجل الوطن الجزائري لأنه غير موجود. إنني لم أعثر عليه. لقد سألت التاريخ واستنطقتُ الأحياء والأموات وزرت المقابر ولم أجد من يعرف ذلك. إن البناء لا يكون على رأس من الريح( ). وفي نفس هذا المعنى كتب السيد بيار مونتانيون "أن فحص ألفي سنة من تاريخ المغرب الأوسط يجعلنا نؤكد عجز الشعب الجزائري عن بناء أمة وإنشاء حضارة. لقد تساءل المؤرخون حول ذلك فلم يجدوا أثراً للدولة الجزائرية ولا لثقافة خاصة تتميز بمؤلفاتها الأدبية وآثارها الفنية. إن تاريخ الجزائر فارغ مثل أرضها التي ليس فيها سوى آثار الآخرين"( ) ولم يقف السيد مونتانيون عند مجرد الادعاء، بل إنه حاول إيجاد أسباب للفراغ وللموت المذكورين: وفي نظره، فإن ذلك يرجع إلى كون الجزائر لم تنجب أبطالاً يوحدون شعبها ولا بين شخصيات علمية وثقافية وسياسية قادرة على إحداث التغيير والتطور التارخيين. يقول في هذا الصد" إن هذا البلد الذي أنجب أمثال القديسين أوغستين( ) وتارتليان( ) والقدس سيبريان( ) قد أصبح بعد الفتح العربي مفترقون إلى عظماء باستثناء الأمير عبد القادر. ومن الواضح أن في ذلك تكمن أسباب التبعية التي عاش فيها الجزائريون والتي دامت مدة ألفي سنة( ). لأنه كان يعتبر الأمة الجزائرية غير موجودة ولا مجال لبعثها، فإن الاستعمار لم يجعل لنفسه حدوداً في تعامله مع الجزائر. فقد أعلن مبكراً عن ضمها إدارياً إلى التراب الفرنسي( ) ولجأ إلى كثير من المحاولات لتحقيق فرنسة الجماهير وتنصيرها قصد دمجها نهائياً في الشعب الفرنسي، ومن خلال كل تلك المحاولات كان يتفنن في سن القوانين المساعدة على إنجاح عملية السلخ و التشويه، نذكر على سبيل المثال: قانون الأهالي الذي لم يبلغ إلا سنة 1944( ) والقانون البلدي الصادر يوم الخامس من شهر أفريل سنة أربع وثمانين وثمانمائة وألف والقاضي بإعطاء حق التصويت للمالكين والمزارعين والموظفين والمتقاعدين والحاصلين على الأوسمة بهدف فصلهم عن جماهيرهم الشعبية. وهناك، أيضاً، القانون الخاص بإنشاء الفوضويات المادية( ) الذي وقع إصلاحه يوم 04/02/1919 بواسطة القانون الذي يحمل اسم صاحبه الوالي العام جونار إلى غير ذلك من الأمريات والقرارات والمراسيم.

إن كل هذه الأوضاع اللاطبيعية هي التي استهدفت سياسة جبهة التحرير الوطني تغييرها جذرياً واستبدالها لما يمكن شعب الجزائر ليس من استرجاع الاستقلال الوطني فحسب ولكن، وفي المقام الأول، من استعادة مقومات الشخصية الوطنية التي لابد منها لبناء صرح الدولة الجزائرية التي قوضت أركانها جيوش الاحتلال عام ثلاثين وثمانمائة وألف.

لأجل ذلك أكدت وثيقة وادي الصومام( ) على أن الكفاح المسلح يبقى مستمراً، وأن كل الطاقات الوطنية يجب أن تعبأ لتدعيمه وتطويره بجميع الوسائل إلى أن تتحقق الأهداف التالية: 1 - الاعتراف بالشعب الجزائري شعباً واحداً لا يتجزأ، معنى ذلك أن خرافة "الجزائر فرنسية" و"الشعب الفرنسي المسلم" و"الأمة التي في طور التكون" كل ذلك يجب أن يزول من القاموس الاستعماري.

2 - الاعتراف بالسيادة الوطنية على كافة الميادين بما في ذلك الدفاع الوطني والسياسة الخارجية. وهذا يعني أن الحلم الذي بدأ يراود فئة من المستعمرين وعدداً ممن يسمون بالمعتدلين الجزائريين يجب أن يتبخر، لأن أي نوع من الاستقلال الذاتي لا يمكن إلا أن يكرس الهيمنة الأجنبية وتثبيت الاستعمار الجديد.

3 - الاعتراف بجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد للشعب الجزائري، لها وحدها حق التفاوض وحق الأمر بوقف إطلاق النار وينجر عن هذا الاعتراف إجبار السلطات الاستعمارية على إطلاق سراح جميع الجزائريين والجزائريات الأسرى المعتقلين والمنفيين بسبب نشاطهم الوطني قبل وبعد اندلاع الثورة. إن استرجاع السيادة الوطنية على هذا الأساس من إلغاء الواقع الاستعماري الذي من المفروض أن تزول بزوال كل علاقات العسف والتبعية، وتبني من جديد على قواعد ثابتة ومتينة، أركان الدولة الجزائرية المتخلصة نهائياً من الرواسب التي من شأنها تسهيل عودة الاستعمار الجديد. فالسيادة الوطنية التي ترمي جبهة التحرير الوطني إلى استرجاعها لا تخص ميداناً دون آخر، بل إنها تشمل جميع مجالات الحياة وتمتد على كافة التراب الوطني حسب الحدود المرسومة من قبل السلطات الاستعمارية نفسها. لأجل ذلك. فإن ميثاق وادي الصومام قد عالج مسألة التفاوض مع العدو بكيفية دقيقة ومفصلة لا تترك أي منفذة للتحاليل وللمناورات. وعندما ينظر الدارس بتمعن إلى الأهداف المذكورة أعلاه يجد أنها مترابطة فيما بينها ومتكاملة، ذلك أن السيادة الوطنية تفقد كل معناها إذا كان الشعب مطعوناً في وحدته مصاباً بداء التقسيم والفرقة اللذين يكونان نتيجة لو فتح المجال لأطراف أخرى تتحدث باسم الشعب الجزائري. مع العلم أن التمثيل مطلقاً في مثل هذه الحالة لا يكون مجدياً. إلا إذا كان الممثل قوياً ويملك بين يديه وسائل حقيقية ولتوجيه الأحداث في الاتجاه الذي يقطع على العدو خطوط الرجعة، ويفرض عليه الالتزام بالإطار المرسوم للتفاوض. على هذا الأساس، أكدت وثيقة وادي الصومام ضرورة مضاعفة الجهد من أجل إعادة تنظيم الجماهير الشعبية في الأرياف وفي المدن وإعدادها عن طريق التوعية والترشيد لتجاوز دائرة التخلف التي وضعها فيها الاستعمار وللتخلص من الذهنيات المتحجرة التي ألصقها بها وأنماط الحياة التي فرضت عليها والتي تهدف فقط إلى إبقائها في حالة الغيبوبة والتبعية الدائمتين.

فالمجالس الشعبية التي شرع في إنشائها منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة( ) يجب أن يتم تدعيمها وتوسيع شبكتها بحيث تشمل كافة أنحاء الوطن وأن تسند إليها مسؤوليات تجعلها أكثر فعالية وأكثر اتصالاً بالجماهير الشعبية. فالمجلس الشعبي الواحد أصبح يتكون قانونياً من خمسة أعضاء بما في ذلك الرئيس، ويشرف على تسيير الحالة المدنية والمالية والاقتصادية والشرطة. وبعابرة أدق، فإن المجلس الشعبي حيث ما وجد يحل محل الإدارة الاستعمارية التي يجب أن تزول نهائياً وتزول اتصالاتها بالأوساط الشعبية( ).

لقد نجحت المجالس فعلاً في أداء مهمتها إذ استطاعت خاصة أن تقضي قضاءً مبرماً على النزاعات التي كانت قائمة بين الأعراش والأفراد والتي كانت السلطات الاستعمارية تحبذها كي تبقى دائماً مصدر ضعف بالنسبة للمتنازعين ومنفذاً يسمح للمحتل وأعوانه بالتمركز أكثر لمواصلة العبث بمصير المواطنين. ولم يكن ذلك النجاح ليخفى على الإدارة الاستعمارية التي كانت تقابله بمحاولات يائسة تتمثل في الترهيب والترغيب وفي الإعلان عن عدم اعترافها بالصلح الذي يحدث والتآخي الذي يتم( ). ويندرج الإشراف على المجالس الشعبية ضمن اختصاصات المحافظين السياسيين الذين يتولون كذلك، مهام تربية الجماهير وتنظم التعليم والإعلام والدعايةإلى جانب القيام بتوجيه الحرب النفسية على مختلف الجبهات( ).

فالاستعمار الذي لم يفته التطور السريع الذي تعيشه الثورة في كافة المجالات لم يعد مكتفياً بالعمليات العسكرية التي ينظمها في سائر أرياف الوطن ويوفر لها ماتحتاج إليه من عدة وعتاد وحينما رأى تلك العمليات تعداها إلى التركيز على تسخير الإمكانيات المادية والبشرية لمحاولة تحييد الجماهير في مرحلة أولى قبل الدفع بها في معسكره تساعده على إخماد أنفاس الثورة. وقد كان المحافظون السياسيون يتصدون إلى هذه المساعي قصد إحباطها بجميع الوسائل. فقد كانوا يعتمدون على وسائل الإقناع، وعندما يشعرون أنها لم تعد تجدي نفعاً، فإنهم يلجأون إلى الترهيب الذي كثيراً مايكون مصحوباً بالتنفيذ الفعلي. وفي بعض الأحيان توظف الخرافة واللامعقول إذا كان ذاك ضرورياً لرفع معنويات الجماهير الشعبية أو لتنشيط عزائم العدو أو لتحقيقهما معاً( ).

وهكذا فإن مؤتمر الصومام لم يكتف بترسيم وظيفة المحافظ السياسي، ولكنه جعلها أساسية بالنسبة لمسار الثورة. فالمحافظ مسؤول متجول، يقضي كل أوقاته في التنقل بين المداشر والمشاتي يراقب المجالس الشعبية ويجمع ما أمكن من المواطنين يكونهم سياسياً وينشر بينهم إيديولوجية جبهة التحرير الوطني.وفي ذات الوقت، كان يزور وحدات جيش التحرير الوطني يزودها بالأخبار ويحلل أمامها المعطيات السياسية في داخل البلاد وفي خارجها، ويسجل الاحتياجات والمطالب التي يناقشها مع المسؤولين الأعلى ويعمل على الاستجابة لها بقدر الإمكان وفي حدود المستطاع. ويعتبر هذا الاهتمام البالغ الذي أولاه المؤتمر للجماهير الشعبية دليلاً على التحول الجذري الذي حدث في إيديولوجية الثورة التي كانت تعتمد على الطليعة لتحقيق الأهداف المرسومة فصارت تركز على الشعب وتثق على إحداث المعجزة التي لم تكن في الحسبان. ويبدو أن هذا التحول قد بدأ يفرض نفسه مع انتفاضة العشرين من شهر أغسطس سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف. ففي ذلك التاريخ حدث انقلاب لا مثيل له في موازين القوى إذ تخلص جيش التحرير الوطني الفتي من عقد الخوف التي كانت تفرض عليه التحرك ليلاً والنشاط خفية فصار أفراده ينتقلون في وضح النهار بينما انتقل الرعب إلى نفوس الأجناد الفرنسيين الذين أصبحوا، بفعل دعاية الكولون، يرون في كل واحد من الجزائريين مجاهداً أو مناضلاً مستعداً للانقضاض عليهم. ولم يكن ذلك هو التحول الوحيد الذي عرفته إيديولوجية الثورة الجزائرية، بل هناك نقاط أخرى اختلفت حولها الآراء كثيراً واشتد فيها إلا عن طريق التصويت بأغلبية الثلثين. ومن بين تلك النقاط الحساسة التي سيكون لها أثر بالغ على سير أحداث الثورة مايلي: 1 - هيئات قيادة الثورة: لقد كانت الحاجة الماسة إلى قيادة واحدة وموحدة للثورة الجزائرية هي الدافع الأول الذي جعل المنطقة الثانية تسعى، منذ شهر مارس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف( )، إلى جمع مؤتمر وطني يضم الإطارات القيادية في داخل البلاد وخارجها( ). لكن ذلك لم يمنع المؤتمرين من التوقف طويلاً عند مناقشة هذه النقطة. وعلى الرغم من أن محضر الجلسات لم ينشر كاملاً إلى يومنا هذا حتى يطلع الباحث على حقيقة مادار من حوار يقال أنه كان صريحاً إلى أبعد الحدود وعنيفاً إلى درجة التهديد بتفجير المؤتمر، إلا أن الشهادات التي أدليت خاصة بمناسبة انعقاد ندوة التاريخ الخاصة بالولاية الثانية في اليومين الأخيرين من شهر جانفي سنة خمس وثمانين وتسعمائة وألف كافية لأخذ صورة مجملة عن المداولات التي جرت يومها فتصريحات السيد لخضر بن طوبال( ) الذي كان من المشاركين الأساسيين تدل على أن ممثلي المنطقة الثانية وعدداً من ممثلي المنطقتين الثالثة والرابعة كانوا كلهم يطالبون بأن تكون القيادة التي تنبثق عن المؤتمر مكونة فقط من الإطارات الأساسية التي ساهمت في تفجير الثورة والتي هي متشعبة بإيديولوجية واحدة، وذلك حفاظاً على التوجهات الثورية وتجنباً للانزلاق في شتى أنواع الانحراف، لكن الأغلبية من المؤتمرين وفي مقدمتهم السيدان العربي بن مهيدي وعبان رمضان كانوا يرون أن الثورة قد توسعت وصارت تضم في صفوفها فئات اجتماعية مختلفة وتيارات إيديولوجية متعددة، وهي مدعوة لأن تتطور أكثر مضطر لأن يأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات الجديدة ويخرج بقيادة تكون ممثلة لكافة الاتجاهات الوطنية. لقد انتصرت الأغلبية في ذلك الوقت وتدخل مبدأ المركزية الديمقراطية ليمنع الانقسام الفعلي ويضمن للقيادة الجديدة استمرارية وحدتها ويوفر لها شروط النجاح( ). ولكن، اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على تلك العملية فإن الآراء ماتزال مختلفة حول جدواها.

أ - إن قادة جبهة التحرير الوطني الذين كانوا يدافعون عن فكرة منح المناصب القيادية للإطارات السامية الآتية من التشكيلات السياسية الأخرى دون احترام التدرج النظامي الذي تخضع له إطارات الثورة منذ ليلة الفاتح من نوفمبر، إنما كانوا يرمون، من خلال ذلك إلى ترغيب الإطارات السامية المذكورة وجعلها تسارع إلى الالتحاق بالصف، معتقدين أن بقاءهم خارج إطار جبهة التحرير الوطني قد يشجع الاستعمار على استعمالهم لخلق قوة ثالثة للضغط بها عند الحاجة( ) لقد كان هذا الإجراء ممكناً لكنه لم يكن أكيداً. لكن الذي لاشك فيه هو أن المشكل الإيديولوجي لم يطرح على المسؤولين الجدد الذين سيظلون محتفظين بقناعاتهم الفكرية والثقافية إلى غاية وقف إطلاق النار. ب- إن الإطارات القيادية التي جاءت من التشكيلات السياسية الأخرى لم تكن قادرة، في ذلك الوقت، على المبادرة لطرح المشكل الإيديولوجي لأنها، في معظمها، إنما التحقت حتى لا يفوتها الركب من جهة، ولأنها أصبحت خائفة من الموت الذي بدأ يطرق باب الشخصيات المترددة( ) من جهة ثانية. هكذا، إذن، فإن خوف البعض من الموت ومن فوات الأوان، وخوف البعض الآخر من ظهور القوة الثالثة خاصة بعد المحاولات التي قام بها سوستيل على أصعدة مختلفة هو الذي لم يسمح بتسوية المشكل الإيديولوجي من البداية. وبقاؤه معلقاً على النحو الذي كان عليه هو الذي سيسهل تفجير الوضع السياسي في الجزائر مباشرة بعد استرجاع السيادة الوطنية. قد يقال: لكن الأزمة السياسية التي أخرجت قطار الثورة من سكتة كانت كل أطرافها متشبعة بإيديولوجية واحدة، لأن رئيس الحكومة المؤقتة، يومها، أغلبية وزرائه ورئيس أركان جيش التحرير الوطني وكل قادة الولايات في داخل الوطن وكذلك مسؤولي اتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا كلهم كانوا، قبل اندلاع الثورة، مناضلين في صفوف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. لقد كان ذلك صحيحاً، لكن المحيط الذي تدخل بعنف وقام بالدور الرئيسي في إذكاء نار الفتنة إنما كان يعمل لإيجاد الفرص الملائمة لعودة الإيديولوجيات المختلفة إلى الميدان، وليس ثمة لتحقيق ذلك، أفضل من الصراع الدموي على السلطة، لأن إراقة الدماء واللجوء إلى العنف على حساب الحوار يؤديان حتماً إلى تشتيت الصف واختفاء الأمن والاستقرار وشيوع الفوضى والاضطراب وكلها آفات تنخر جسم المجتمع وتفسح المجال للتعددية بجميع أنواعها.

ورغم كل ذلك، فإن الدارس المتمعن للأوضاع السائدة يومها في الجزائر لا يسعه إلا أن يقول: إن مؤتمر وادي الصومام كان مصيباً في قراره، لكن الخطأ يكمن في كون القيادة الثورية لم تول كل العناية للتطور الإيديولوجي الذي كان يحدث بفعل نمو جبهة التحرير الوطني واتساع شبكة منظماتها الجماهيرية. ولو أنها فعلت ذلك لوجدت نفسها متشبعة بفكر واحد، تتكلم لغة واحدة ومستعدة لمواجهة كل الطوارئ بنفس العزيمة، ونفس الحزم اللذين تميزت بهما طيلة فترة الكفاح المسلح.

ولأن أغلبية المؤتمرين صادقت على القرار، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد جاء مكوناً من 34 عضواً نصفهم أساسي ونصفهم إضافي الصنفين ومشتملاً في الصنفين، على أقلية قليلة من الإطارات التي كانت تقود مختلف التشكيلات السياسية الوطنية التي قررت أخيراً، الالتحاق بجبهة التحرير الوطني ومايقال عن المجلس الوطني للثورة الجزائرية لا يمكن تطبيقه على لجنة التنسيق والتنفيذ التي اشتملت على خمسة أعضاء كلهم من قدامى حركة الانتصار للحريات الديمقراطية.( ) 2 - أولوية السياسي على العسكري: لقد لاقى معارضة شديدة من طرف عدد من القادة المشاركين في المؤتمر لاعتقادهم بأن عبان و أعضاء لجنة الصياغة الذين كانوا معه وهم من السياسيين إنما يريدون احتواء الثورة والسيطرة عليها، خاصة وأن المبدأ المذكور جاء مقروناً بآخر نص على أولوية الداخل على الخارج. وإذا عرفنا أن المسؤولين غير العسكريين هم قادة العاصمة التي استقلت عن الولاية الرابعة وأعضاء مندوبية الخارج واتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا أدركنا شرعية تخوف المعارضين للمبدأين. لكن السيد عمار بن عودة( ) يذكر أن التخوف المشار إليه سرعان ما تبدد عندما أعطيت التفسيرات التي مفادها أن المقصود بأولوية السياسي العسكري هو التركيز على التفاوض مع العدو لضبط شروط وقف إطلاق النار، لأن الانتصار العسكري على واحدة من أكبر الدول الاستعمارية في العالم يُعد من باب المستحيلات تقريباً خاصة إذا كانت تلك الدولة عضواً فاعلاً في منظمة الحلف الأطلسي( ). والحقيقة أن التفسيرات المذكورة إنما تم اللجوء إليها فقط للتهدئة ولتقديم التبريرات اللازمة لكبح النفوس وعدم الانقياد لما قد لا يحمد عقباه. فالسياسي والعسكري سواء كان عملاً أو شخصاً، شيء واحد، لأن العمل السياسي يبرمج له الرجل السياسي كما أن القائدالعسكري هو الذي يشرف على تنفيذ العمليات العسكرية التي يكون قد خطط لها. فإذا كانت الأولوية للعمل السياسي، فذلك يعني أن قرار الرجل العسكري يأتي في الدرجة الثانية كوسيلة لدعم مواقف المسؤول السياسي. وفيما يخص أولوية الداخل على الخارج، فإن المؤتمر قد لجأ إلى إقرارها لأسباب عدة يمكن استخلاص أهمها من العرض الذي قدمه الشهيد العربي بن المهيدي إلى المؤتمرين عن المهمة التي قام بها إلى القاهرة في مستهل عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف( ). فالعرض المذكور يؤكد بصريح اللفظ أن مصر لا يمكن الاعتماد عليها مطلقاً في الحصول على الأسلحة لأن موقفها من الثورة الجزائرية يخضع بقسط وافر إلى نشاطها الديبلوماسي( ) كما أن مندوبية جبهة التحرير الوطني غير قادرة على أن تكون قيادة موحدة بفعل الانقسام السائد بين أفرادها الذين مازال كل منهم يبحث عن الزعامة لنفسه. ومما لا ريب فيه أن ثمة خلافات أخرى كثيرة ظهرت أثناء أشغال المؤتمر لكن أصالة ثورة نوفمبر وضعت حداً لكل مامن شأنه أن يتجاوز الخط الأحمر. وظل العمل على تعبئة كل الطاقات الحية قصد القضاء المبرم على النظام الاستعماري هو المهمة الأساسية التي تحجب جميع المهام الأخرى، لأجل ذلك، فإن المؤتمرين صادقوا بالإجماع على الخطوط العريضة التالية: 1 - إن وحدة الشعب الجزائري مقدسة وكذلك وحدة التراب الوطني، وأي تنازل عن جزء من هذه أو تلك يعد خيانة عظمى. وتعتبر جبهة التحرير الوطني هي الممثل الشرعي للشعب والقائد الوحيد للثورة التي ستظل مستمرة إلى أن يتم بكيفية مطلقة تحرير الأرض وتحرير الإنسان. وعلى جبهة التحرير الوطني، كي تكون في مستوى المهمة المسطورة لها، أن تواصل ضرب جذورها في أعماق الجماهير الشعبية الواسعة لأن بذلك تكمن القوة التي هي في حاجة إليها لمواجهة عدة الامبريالية وعتادها. فمن هذا المنطلق تعمل جبهة التحرير الوطني بجميع الوسائل المتوفرة لديها، على محاربة الآفات الاجتماعية مثل الرشوة والجهوية والقبلية والعشائرية والانتهازية التي تشكل مصادر ضعف قاتل وحواجز تعرقل عملية التجنيد من جهة ومساعي بناء المجتمع الثوري من جهة ثانية. والنجاح في الارتقاء إلى ما تطلبه مستواها كحركة تحررية شاملة يحتم على جبهة التحرير الوطني أن ترسم مجموعة من الضوابط تلتزم بها في سعيها الدائب من أجل تحويل الجماهير الشعبية إلى طاقة خلاقة تتعدى وقف إطلاق النار لتهز أركان التخلف وتشق طريق الانتصار لعملية البناء والتشييد في كافة المجالات وعلى جميع الأصعدة. ومن جملة الضوابط التي صادق عليها مؤتمر وادي الصومام تجدر الإشارة إلى سياسة الإطارات وسياسة الإعلام وسياسة تنظيم الشرائح الاجتماعية المختلفة. فبالنسبة لإطارات الثورة يرى المؤتمر ضرورة تمكينهم من تكوين سياسي وإيديولوجي يتسلحون به لقيادة الجميع، كل حسب قدرته واختصاصه، في معركة حاسمة ضد واحدة من أعتى القوات الاستعمارية في العالم. وإذا كان الإطار يعرف أنه القدوة الحسنة للذين يسعى إلى تعبئتهم في شتى الميادين، فأنه مطالب بأن يكون مضرب المثل في التحلي بروح المسؤولية والامتثال للقوانين السائدة في صفوف جبهة التحرير الوطني، وبأن يكون سباقاً إلى التضحية، دقيقاً في تطبيق المبادئ ومنضبطاً في تأدية الواجب، وزيادة على ذلك، فإنه لا يعرف التهاون ولا يركن إلى ما تقوم به. لكن الثورة، لكي تحميه من الانحراف، تفرض عليه رقابة مشددة وتحتم عليه أن يكون يقظاً في جميع الحالات. أما عن الإعلام، فإن ميثاق وادي الصومام يرى أن وسائله يجب أن تكون قادرة على الرد بسرعة عن مناورات العدو إلى تأبيد التقسيم ونشر أسباب الخلاف والنزاع في أوساط الجماهير قصد عزلها عن جبهة التحرير الوطني. ذلك فإن رجل الإعلام ينطلق من كون الدعاية "ليست مجرد تهريج يتميز بعنف الكلمة العقيمة في غالب الأحيان والتي تذهب هباء منثورا، وبما أن الشعب الجزائري أصبح ناضجاً للقيام بالعمل المسلح الإيجابي والمثمر، فإن لغة جبهة التحرير الوطني يجب أن تكون معبرة عن رشدها وذلك بجعلها تتخذ شكلاً جدياً ومتزناً دون التجرد من الحزم والصراحة والحماس الثوري"( )، إن رجل الإعلام، في منظور جبهة التحرير الوطني، لا يقتصر على تلقي الأخبار وصياغتها ونشرها في أوساط الشعب ولكنه يجب أن يكون سريع البديهة واسع المعرفة وذا قدرة فائقة على الاستيعاب والتحليل والتميز. فالأخبار تأتيه مواد خام وهو يسهر على فرزها وقولبتها حسب ما تطلبه الظروف وتقتضيه المصلحة. ومن هذه الناحية فهو عبارة عن موجه للرأي العام وصانع للأجواء السياسية خاصة، لأجل ذلك يجب أن تتوفر فيه شروط أساسية أهمها التشبع بإيديولوجية جبهة التحرير الوطني والاستعداد للتضحية بكل شيء من أجل تجسيدها على أرض الواقع. لقد لاحظ مؤتمر الصومام أن الثورة قطعت خطوات حاسمة في تاريخها، وأنها أصبحت في حاجة إلى تعميم فلسفتها عن طريق التعليمات والشعارات، وعليه قرر مضاعفة عدد المراكز الإعلامية وتزويدها بكل ما تحتاج إليه من إمكانيات مادية وبشرية حتى تكون قادرة على تأدية الرسالة المنتظر منها تبليغها، ومن جهة أخرى، وكتتمة للجهد الذي قد تبذله المراكز، قرر إصدار أكبر عدد ممكن من النشريات الداخلية والدوريات العلمية والثقافية بالإضافة إلى تطوير "المقاومة الجزائرية" و"المجاهد" اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني( ). وأعطى المؤتمرون تلك، توجيهات خاصة بمضاعفة الجهد من أجل رفع مستوى الدعاية الثورية بحيث تتجاوز رسالتها الوطنية وتشق طريقها نحو الرأي العام العالمي الذي بدأ، فعلاً، يهتم بما يجري في الجزائر ويسعى إلى متابعة تطور كفاحها المسلح. فبهذا الصدد، جاء في محاضرة جلسات المؤتمر: "أن كل منشور أو تصريح أو استجواب أو بيان يصدر عن جبهة التحرير الوطني يجب أن يكون له، اليوم، صدى عالمياً. لأجل ذلك يجب أن يكون مطبوعاً بروح المسؤولية التي تشرف السمعة التي اكتسبتها الجزائر السائرة بثبات في طريق الحرية والاستقلال"( ). 2 - وفيما يخص تنظيم الشرائح الاجتماعية، فإن المؤتمر قد ركز على الحركة الفلاحية وذلك تقديراً للدور الأساسي الذي تقوم به المناطق الريفية في حياة الثورة وتحسباً للمناورات التي تحيكها السلطات الاستعمارية قصد التوغل في تلك المناطق من أجل تحييدها على الأقل. لقد أدركت قوات الاحتلال أن جيش التحرير الوطني ضرب جذوره في أعماق الجماهير الريفية التي احتضنت الثورة بكل قوة لأنها وجدت فيها منقذاً لها من حالة البؤس التي كانت مفروضة عليها، لأجل ذلك، ولأول مرة في تاريخ الاستعمار، أعلنت الحكومة الفرنسية عن استعدادها للقيام بإصلاح زراعي يستهدف تحسين أوضاع الفلاحين الجزائريين عن طريق إعادة توزيع بعض المساحات التي قد تقتطع من المزارع الكبرى أو من أراضي الشركات الخاصة ومؤسسات الدولة. كما أنها قررت في ذات الوقت تعديل نظام الخماسة الذي كان سائد في أرياف الجزائر خاصة. إن المقصود من هذه المناورات المفضوحة، كما جاء ذلك في ميثاق وادي الصومام، هو مغالطة أبناء الريف الجزائري وصدهم عن تبني الثورة، لكن الفلاح الجزائري الذي عرف، في الوقت المناسب، كيف يفشل سياسة الأهالي التي حاول المستعمر تطبيقها لتقسيم المواطنين إلى عرب وبربر متنافرين ومتماقتين، لن ينخدع لهذه المحاولة الجديدة خاصة وأنه يدرك بأن "الإصلاح الزراعي الحقيقي لا ينفصل عن الهدم الكلي للنظام الاستعماري".( ) فهذا الوضع الجديد الذي آل إليه الريف الجزائري هو الذي جعل المؤتمرين يدعون جبهة التحرير الوطني لبذل أكبر مايمكن من الجهد لمساعدة الفلاحين على تنظيم أنفسهم في إطار سياسة وطنية عادلة ترمي إلى: أ - تغذية الحقد الشديد على الاستعمار الفرنسي وإدارته وجيشه وشرطته وعلى الخونة المتعاونين معه. ب - تكوين احتياطي بشري يتزود منه جيش التحرير الوطني والمقاومة بصفة عامة. ج - نشر عدم الاستقرار في البوادي والعمل على خلق الشروط الموضوعية اللازمة لدعم المناطق المحررة وافتكاك مناطق جديدة من العدو. 3 - وإذا كانت الأرياف قد اندمج سكانها، منذ البداية، في صفوف جبهة التحرير الوطني محرزة بذلك على مكانة خاصة في تركيبة الثورة، فإن عمال المدن قد أسسوا تنظيماً نقابياً وطنياً أسموه الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وكان ذلك في اليوم الرابع والعشرين من شهر فيفري سنة ستة وخمسين وتسعمائة وألف. إن مؤتمر الصومام قد بارك، في محاضره، ميلاد الاتحاد الذي رأى فيه "تعبيراً عن رد فعل سليم قام به العمال الجزائريون ضد التأثير المُشّل الذي يصدر عن مسيري الكونفدرالية العامة للشغل والقوات الشغيلة والكونفدرالية الفرنسية للعمال المسيحيين"( ) وأوصى بأن تولي جبهة التحرير الوطني عناية خاصة بالمولود الجديد حتى يشتد عوده وتتدعم هياكله. لقد كانت حقوق العمال الجزائريين في بلادهم مهدورة، ولم يكن في مقدور أغلبيتهم المطالبة بأكثر مما يتكرم به أرباب العمل من الكولون الذين كانوا يقومون بالتوظيف وبالفصل كيفما يشاؤون ولم يكن في وسع التنظيمات النقابية الوقوف في وجه تلك التصرفات الاستبدالية نظراً لما كان للمعمرين من نفوذ سواء في مستوى الولاية العامة أو في أوساط الدوائر الحاكمة في العاصمة الفرنسية. أما الجزائريون المغتربون، فإن كثيراً منهم قد هاجر وفي نفسه ذلك الخوف من الطغيان، وذلك الشعور بالعجز عن المقاومة، ولذلك فإنهم كانوا يبذلون كل مافي وسعهم للبقاء بعيدين عن الجو النقابي، وعندما تبدد الإقامة مخاوفهم، فإنهم يجرون، كأصوات في البداية، إلى مختلف التشكيلات النقابية، وهناك من استطاع أن يتحول، بسرعة أحياناً، من مجرد صوت إلى مسؤول فاعل ومحرك للجماهير. فمن بين هؤلاء المسؤولين الذين اكتسبوا تجربة ميدانية وتسلحوا بوعي سياسي عال، برزت تلك الطليعة التي أنشأت، رغم الصعوبات والعراقيل، مركزية نقابية تهدف إلى لمّ شمل العمال الجزائريين داخل التراب الوطني وخارجه من أجل تحسيسهم بالواقع الوطني الجديد، وتزويدهم بإطار تنظيمي يتدربون فيه على تحمل مسؤولياتهم ويتجندون داخله ليكونوا الخزان الحقيقي الذي يمول جيش وجبهة التحرير الوطني بكل ما يحتاجان إليه من إمكانيات مادية وبشرية.

أ - أن قيادة الاتحاد لا تتشكل من عناصر منبثقة عن الأقلية الأوربية التي تتعرض للظلم الاستعماري، ولكنها مكونة من إطارات وطنية يدفعها وعيها الشديد إلى محاربة الاستغلال الاجتماعي من جهة والتميز العنصري من جهة ثانية.

ب- أن العمود الفقري لتلك القيادة ليس مكوناً من الارستقراطية العالمية التي تشمل الموظفين وعمال السكة الحديدية، ولكنه منبثق عن الطبقات الأكثر حرماناً مثل عمال الموانئ والمناجم والصناعات الزراعية.

ج - أن العمل الثوري قد أصبح حقيقة وهو قادر على توفير الشروط الموضوعية اللازمة لتحقيق التآخي الذي لابد منه لصنع الأداة القوية التي تستطيع الصمود في وجه آليات الحرب الاستعمارية، ولمنع ماقد يحدث من انقسام في أوساط عشرات آلاف العمال الذين سارعوا للانضمام إلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين مباشرة بعد ميلاده( ). إن جبهة التحرير الوطني لم تعد تكتفي بوجودالاتحاد واستقلاليته عن التنظيمات النقابية الفرنسية، بل أصبحت تطمح إلى أن يقوم التنظيم الجديد بدور أساسي في عملية تكوين العمال وتوعيتهم وتعبئتهم المستمرة وفي استمالة التنظيمات المماثلة في فرنسا أو في مختلف أنحاء العالم لمساندة كفاح الشعب الجزائري، لأجل ذلك فإن تعلق الأمر بمواجهة التحديات والصعوبات، هذا من جهة، ومن جهة ثانية أوصى باحترام الديمقراطية في أوساط العمال ومراعاة التقاليد السائدة داخل الحركات العمالية المعروفة في العالم. وبالإضافة إلى كل هذه التوجيهات السياسية والإجراءات التنظيمية التي سيكون لها أثر فعال في حياة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، حذر المؤتمر الإطارات النقابية من مغالطات الحزب الشيوعي الجزائري الذي "لايمكن لعجزه في الميدان السياسي إلا أن يتحول إلى فشل ذريع في المجال النقابي"( )وأكد أن عالم الشغل في الجزائر سيعرف تطوراً هاماً تحت إشراف جبهة التحرير الوطني خاصة وأن "المركزية النقابية الجديدة تختلف كلية عن المنظمات الفرنسية المماثلة سواء بالنسبة لاختيار قيادتها أو للتضامن الأخوي الذي تغذيه ثورة التحرير الوطني والذي يجد سنداً قوياً لدى عمال شمال إفريقيا والعالم أجمع( ).

فمن خلال كل ماتقدم، ترى جبهة التحرير الوطني أن الطبقة العاملة تستطيع، في خضم المعركة التحريرية الشاملة أن تسهم فعلياً في إحداث ديناميكية قادرة على تمكين الثورة من التطور بسرعة فائقة ومن اكتساب القوة الكافية لتحقيق النصر النهائي.

4 - ودائماً في إطار تنظيم الفئات الاجتماعية المختلفة، قرر المؤتمر ضرورة إنشاء اتحاد عام للتجار الجزائريين يسند الإشراف عليه إلى وطنيين يكونون إضافة إلى تسيير شؤون التنظيم الجديد، مكلفين بإيجاد أفضل السبل لكسر الاحتكارات الأوربية التي تخنق التاجر الجزائري الصغير وتجعل منه مجرد آلة لا تتحرك إلا كيفما شاء المستغل لها. ويقوم الاتحاد من جهة أخرى، بنشر الوعي الثوري في أوساط كافة التجار الجزائريين الذين يجب أن يتنجندوا للإسهام فعلياً وبقسط وافر في تمويل الثورة إلى جانب المهمة الأساسية الأخرى التي حددها المؤتمر للاتحاد عندما أكد أن جبهة التحرير الوطني التي تسعى إلىجعل الاتحاد العام للعمال الجزائريين يتطور بسرعة في أجواء سياسية ملائمة، تنتظر منه القيام بمحاربة كافة أنواع التغريم والضرائب وبمقاطعة تجار الجملة المستعمرين وكل التنظيمات التجارية التي نشاطاتها في إطار الحرب الامبريالية الدائرة رحاها ضد الشعب الجزائري( ). 5 - وحظيت المرأة كذلك باهتمام مؤتمر وادي الصومام. ولم يكن ذلك الأمر الغريب خاصة عندما نرجع إلى تاريخ المقاومة الشعبية الذي عرف من النساء اللاتي قدن الكفاح المسلح أو شاركن فيه بما أصبح مضرباً للمثل في الشجاعة والإقدام. ولقد برهنت الفتيات الجزائريات، منذ اندلاع ثورة نوفمبر، على أنهن أهل لحمل مشعل لالة فاطمة أنسومر( )، وأن شجاعتهن لا تقل عن شجاعة الرجل سواء في ميدان المعارك والسلاح في أيديهن أو في المستشفيات والمستوصفات حيث يبدعن في التمريض وتضميد الجراح أو في القرى والمداشر ينشرن الوعي الثوري ويشاركن بقسط وافر في تربية الجماهير سياسياً وإيديولوجياً. فالفتاة الجزائرية غادرت صفوف الثانويات ومدرجات الجامعات تماماً كما فعل أخوها التلميذ والطالب، عندما وجهت لهم النداء جبهة التحرير الوطني( )، وعلى غرار إخوانها، أعربت عن استعدادها للانضمام إلى الصفوف وأصبح من الواجب على قيادات الثورة أن تهتم بتخصيص تنظيم لها شبيه بالاتحادات الأخرى يمكنها من النشاط اليومي لفائدة الكفاح المسلح( ). وفي انتظار ذلك، قرر المؤتمر إيجاد الصيغ العملية التي توفر للمرأة الجزائرية حيثما وجدت شروط المشاركة في المعركة مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانياتها المادية والأدبية، وعلى سبيل المثال، فإنها ريفية كانت أو مدنية، تستطيع الإسهام في رفع معنويات المقاتلين( ) وفي جمع المعلومات الخاصة بالعدو، والقيام بالاتصال بين المراكز كما أنها تستطيع القيام بالتمويل وتهريب المشبوهين وبمساعدة عائلات المجاهدين والمعتقلين، كل ذلك بالإضافة إلى مهامها كجندية عندما يقتضي الحال. ولتمكين المرأة من تأدية هذه المهمة النبيلة في وسط اجتماعي كان إلى قبل اندلاع الثورة لا يولي اهتماماً كبيراً للأنثى، أمرت جبهة التحرير الوطني بأن تعامل النساء وفقاً للشريعة الإسلامية التي تكبرهن أمهات وزوجات وأخوات، وسنرى في الحديث عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي كيف أن هذا الأمر قدأحدث تغييراً جذرياً في أوضاع الأسرة الجزائرية.

6 - ولم تكن حركة الشباب غائبة عن أذهان المؤتمرين خاصة وأن أغلبية مفجري الثورة لم يكونوا قد خرجوا بعد من طور الشباب( )وأن الشباب، في الجزائر، كانوا يمثلون أكثر من نصف السكان الإجمالي، زيادة على كون معظم الجزائريين ينضجون في سن مبكرة وينتقلون مباشرة من الطفولة إلى الكهولة نتيجة الفاقة والاملاق والحاجة إلى مصارعة الظروف الصعبة التي يتفنن في خلقها المستعمر الجشع.( )

وليس النضج المبكر هو الصفة الوحيدة التي تميز الشباب الجزائري، ولكنه يمتاز كذلك بالحيوية وبالشجاعة والإقدام والتفاني في إنجاح ما تسند له من مهام، وعندما ينظر إليه من خلال الحياة اليومية، يكتشف أنه يتحلى بخصال أخرى كثيرة مثل روح المبادرة والصبر على المكروه والإرادة القوية والرغبة في الانعتاق والتحرير من كابوس الظلم والاستبداد. ولقد كانت قيادة جبهة التحرير الوطني تعرف جيداً أبناء شعبها. ولأنها تؤمن بأنهم يشكلون مشتلة أصيلة لتزويد جيش التحرير الوطني، فإنها خصصت لهم مكانة يستحقونها في ميثاق وادي الصومام. أما شباب الأرياف وشباب المدن غير المتمدرسين وهم الأغلبية الساحقة، فإن المؤتمر أوصى باعدادهم للمعركة وذلك بتطوير حسهم الوطني وتنمية استعداداتهم للتضحية القصوى في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني. وأما تلاميذ الثانويات وطلبة الجامعة فإن نضالهم يجب أن يكون على الجبهة العسكرية ككتاب في مستوى هياكل الثورة أو على الجبهة السياسية في إطار الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي كان قد تأسس بباريس على إثر مؤتمر انعقد في الفترة مابين الثامن والرابع عشر من شهر تموز سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف. وبتوجيه من جبهة التحرير الوطني، كان للاتحاد المذكور نشاط مكثف في داخل البلاد وفي خارجها وعلى سبيل المثال ذلك القرار التاريخي الذي تم اتخاذه يوم 20 / ك2 سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف والقاضي بتنظيم أسبوعين للتضامن مع إخوانهم المعتقلين على أن يكون اليوم الأول الذي هو يوم القرار ذاته، يوم الاضطراب عن الدروس والطعام( ). وصادق المضربون على لائحة وجهوها لكافة السلطات الاستعمارية يطالبون فيها بإطلاق سراح الطلبة المسجونين، وإجراء تحقيق فعلي حول اغتيال زميلهم زدور( ) ومعاقبة المجرمين المسؤولين عن ذلك، كما أنهم طالبوا بوقف عمليات القمع الأعمى، والاعتراف بوجود الأمة الجزائرية وحق الشعب في تقرير مصيره والتفاوض مع ممثله الشرعي والوحيد: جبهة التحرير الوطني. ومع تطور الكفاح المسلح ازداد الطلبة وعياً وتبلور التزامهم بمبادئ جبهة التحرير الوطني. يستخلص ذلك من خلال اللائحة السياسية التي اختتمت بها أشغال مؤتمرهم الثاني الذي انعقد بباريس في الفترة ما بين الرابع والعشرين والثلاثين مارس سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف( ). وعندما وجهت جبهة التحرير الوطني نداءها إلى الطلبة الزيتونيين خاصة للإضراب عن الدراسة والالتحاق فوراً بصفوف جيش التحرير الوطني في مختلف أنحاء الوطن وفي الحدود، اغتنم أعضاء الاتحاد المتواجدين بالعاصمة تلك الفرصة فقرروا الإضراب عن الدروس والامتحانات إلى أجل غير مسمى ووجهوا نداء إلى الطلبة يدعوهم إلى الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني. ومن خلال دعوتها إلى الإضراب العام، فإن جبهة التحرير الوطني لم تكن تقصد مجرد الوصول إلى إخلاء الثانويات ومدرجات الجامعات، كما أنها لم تكن ترمي إلى جعل كل تلك الأعداد الغفيرة من التلاميذ والطلبة يلتحقون بصفوف جبهة التحرير الوطني. لقد كان كل ذلك ثانوياً بالنسبة للهدف الأسمى الذي يتمثل من جهة في الإعلان للعالم أجمع بأن أغلبية الشعب الجزائري تدرك الواقع الاستعماري وهي مع الكفاح المسلح من أجل استرجاع السيادة الوطنية، وفي تحسيس آلاف الشباب والمراهقين ومن خلالهم الأولياء بكون أبواب الحرية التي سدها الاستعمار لا يفتح إلا بالإقدام على التضحية في جميع الميادين. ولقد ألح المؤتمر على مواصلة الاهتمام بمصير الشباب عامة والمعتقلين على وجه الخصوص حيث دعى إلى توفير كل الشروط التي تمكن من توظيف الطاقات الحية بكيفية عقلانية وإلى بذل قصارى الجهد في سبيل التخطيط لعمليتي التجنيد والتعبئة، لأجل ذلك، فإن المؤتمرين قرروا، بالنسبة للطلبة والطالبات، أن تحصر المهام التي تسند إليهم خاصة في المجالات السياسية والإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية إلى غير ذلك من الميادين التي يكونون فيها أكثر مردودية، وتكون مجهوداتهم أكثر فعالية، وعندما يكونون خارج التراب الوطني أو يتم تمريرهم، في حالة الاكتفاء، بواسطة جيش التحرير الوطني إلى تونس والمغرب فإنهم يتوجهون إلى مختلف الجامعات الكائنة في البلدان الشقيقة والصديقة ينهلون من ينابيع المعرفة بشتى أنواعها، ويستعدون للدور الذي ينتظر منهم القيام به بعد استرجاع السيادة الوطنية( ). 7- وعلاوة على تنظيم الفئات الاجتماعية الأصيلة، رأى مؤتمر وادي الصومام أن من فائدة الثورة أيضاً الاهتمام بالأقليات الأوربية سواء منها التي جاءت غازية في ركاب الاستعمار أو التي جاءت إلى الجزائر تطلب العيش بوسائل مختلفة( ). لقد كانت تلك الأقليات تمثل، من حيث العدد، أكثر من عشر السكان وتسيطر، فعلياً، على ثلثي الاقتصاد، ولها في باريس نفوذ على أكثر من واحدة من الجهات التي بيدها سلطة القرار. لأجل ذلك، فإن إهمالها قد يحولها إلى قوة مناهضة وتجعلها تقبل على توظيف إمكانياتها لدعم المجهود الحربي الاستعماري. ولم يكن المؤتمرون يجهلون أن الأوربيين، في الجزائر، ليسوا صنفاً واحداً، بل الجميع كان يدرك أن من بينهم الغلاة الذين لا ينتظر منهم شيء بإيمانهم الراسخ بأنهم من جنس أعلى وبأن نسبة كبيرة من أبناء جلدتهم إنما ولدوا ليكونوا وسيلة لهم تمكنهم من تسخير الجزائريين واستغلال ثرواتهم على اختلاف أنواعها. لكن الجزء الأكبر من المسيحيين واليهود قبل التعاون مع الثورة إما لطمع في حماية المصالح الخاصة واكتساب امتيازات أخرى نتيجة المستوى الثقافي العالي نسبياً والتكوين العلمي والمهني خاصة، وإما لقناعة فكرية نتيجة الانتماء إلى تشكيلات سياسية تقدمية متعددة. فعلى هذا الجزء قرر المؤتمر تركيز الجهد، وأوصى جبهة التحرير الوطني بإعطاء اهتمام خاص للجانب النفساني الذي يتعرض للضغط الاستعماري المكثف( ). إن الثورة الجزائرية لا تهدف إلى رمي الأوربيين في البحر كما أنها تدين الشعار الذي حمله أمثال "كريفو" لترهيب الأقليات وتنفيرهم من جبهة التحرير الوطني والذي يقول: "الحقيبة أو التابوت"( ) لكنها تريد فقط استرجاع الاستقلال الوطني الذي اغتصب سنة ثلاثين وثمان مائة وألف، وإقامة جمهورية ديمقراطية واجتماعية تضمن المساواة الحقيقية بين جميع المواطنين( ) ولأجل ذلك اختارت الكفاح المسلح وهي مصممة على مواصلته إلى أن يتجسد كل ما تصبو إليه، وتدعو كافة السكان، أياً كان أصلهم، للانضمام إلى صفوفها حتى تتظافر الجهود من أجل القضاء النهائي على النظام الاستعماري في الجزائر. إن النظر إلى الأقلية الأوربية بهذا المنظار هو الذي جعل المؤتمر يوصي جبهة التحرير الوطني بتشجيع كل المساعي التي من شأنها أن توصل إلى تكوين لجان وحركات جماهيرية تضم ما أمكن من الأوربيين الذين يرفعون شعار الدعوة إلى: - إيقاف الحرب التي يشنها الاستعمار ضد الشعب الجزائري. - فتح المفاوضات المباشرة من أجل إعادة السلم وتمكين الجزائر من استرجاع استقلالها الوطني. - مساعدة ضحايا القمع والإرهاب. - الدفاع عن الحريات الديمقراطية وتجريد الميليشيات الأوربية من السلاح. - توعية نساء الأجناد الفرنسيين وتنظيمهن للمطالبة بتسريح رجالهن من صفوف الجيش المقاتل في الجزائر. ومن خلال كل تلك اللجان والحركات ستتمكن جبهة التحرير الوطني من الوصول إلى الأوساط التقدمية في فرنسا ذاتها وانطلاقاً من تلك الأوساط يكون النفاذ إلى عامة الشعب قصد توعيته بالأخطاء التي قد تجرها إليه استمرارية الحرب، وتحسيسه بأعمال القمع والإرهاب التي تمارس باسمه من طرف الجيش الفرنسي في أرياف الجزائر وفي مدنها وقراها. وعندما يدرك الشعب الفرنسي كل ذلك، فإنه يسخط ويتحول إلى قوة ضاغطة يكون التعبير عنها بواسطة التظاهرة ضد إرسال الأجناد بدفعات متتالية يدعمون قوات الدمار في الجزائر ويموتون في سبيل قضية ظالمة، وستنظم المظاهرات أيضاً لحمل الحكومة الفرنسية على التفاوض مع جبهة التحرير الوطني وللمطالبة بإلغاء عمليات التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون السياسيون والأبرياء الذين غصت بهم المحتشدات والمعتقلات والتجمعات التي صارت تقام هنا وهناك بلا عد ولا حصر في مختلف أنحاء البلاد. وإذا كان دور جبهة التحرير الوطني لا يتعدى هذه الأهداف المتواضعة بالنسبة لما يمكن انتظاره من الشعب الفرنسي الذي يمول الحرب مادياً وبشرياً عن وعي أو عن غير وعي، فإن هذا الدور يتغير تماماً عندما يكون الأمر متعلقاً بالمغتربين الجزائريين الذين يعيشون في أوربا. فهناك تنظيم محكم لا يختلف عما هو معروف ومطبق في سائر مناطق الجزائر وفي كل من الحدود الغربية والشرقية( ). لقد أنشئت اتحادية جبهة التحرير الوطني بفرنسا في نفس الوقت الذي تأسست فيه باقي مناطق الجزائر، وحددت لها مهام أساسية، في بداية الأمر، لإرساء قواعد نضالية تكون قادرة على استئصال جذور الحركة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها السيد الحاج مصالي من جهة وعلى جمع الأموال الضرورية لتسير الثورة وتجهيزها من جهة ثانية( ). واستطاعت، رغم كل الصعوبات والعراقيل، أن تقطع في الاتجاه المذكور، أشواطاً بعيدة. لكن مؤتمر وادي الصومام أضاف إلى تلك المهام ما يلي( ). 1- العمل على توسيع الحركة الفرنسية المتحررة وتشجيعها على تنوير مختلف الطبقات الشعبية التي يجب أن تطلع على الفظائع والجرائم التي ترتكب ضد الشعب الجزائري الأعزل من ناحية، وعلى مساعدة جبهة التحرير الوطني خاصة في مجالات الإعلام والدعاية وتنقل المسؤولين والإطارات ونقل الوثائق من جهة ثانية. 2- تنظيم المغتربين الجزائريين في أوربا بأكملها مع التركيز على فرنسا وذلك لتحقيق غرضين رئيسيين هما: أ- تجنيد الطاقات وتوعيتها قصد إعدادها لتزويد جيش التحرير الوطني عن طريق تونس والمغرب الأقصى اللذين أنشئت على حدودهما مع الجزائر مراكز خاصة للتدريب العسكري. ونظراً إلى ارتفاع عدد المغتربين وصغر سنهم وانتشار الوعي السياسي في أوساطهم نتيجة الجهد الذي كانت بذلته حركة الانتصار للحريات الديمقراطية من ناحية وبفضل نشاط الحركات النقابية المختلفة من ناحية أخرى، فإن اتحادية جبهة التحرير الوطني في فرنسا سرعان ما تحولت إلى خزان بشري لا ينضب. ب- مواصلة عملية استئصال التنظيم المصالي، وتكثيف الاتصال مع الوسط العمالي قصد التخطيط لإلحاق ما يمكن من أضرار بالاقتصاد الاستعماري، وفي نفس الوقت الذي يتم فيه تنظيم العمال الجزائريين بصفة شبه عسكرية محكمة، توجه العناية إلى المنظمات والتشكيلات السياسية قصد استمالتها بالتدريج وجعلها تنفصل شيئاً فشيئاً عن النظام الاستعماري لتصبح في النهاية قوة داعمة للثورة الجزائرية. ج- في المجال العسكري: إن التنظيم الذي بدأت به الثورة ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف يدل دلالة قاطعة على أن جيش التحرير الوطني امتداد طبيعي للمنظمة الخاصة التي كانت قد تأسست عام سبعة وأربعين وألف في إطار حزب الشعب الجزائري والتي سبقت الإشارة إليها في الفصل الثالث من الباب الأول. وإذا قررت القيادة الأولى للثورة تقسيم الجزائر إلى مناطق.( ) فإنها فعلت ذلك تقليداً للمنظمة الخاصة التي كانت قد قسمت البلاد إلى تسع مناطق. وعلى غرار المنظمة الخاصة أيضاً، بدأ جيش التحرير الوطني ينظم نفسه على أساس الفوج ونصف الفوج. وكان المجاهدون الأوائل كلهم من أعضاء المنظمة الخاصة، لأجل ذلك اتسمت الانطلاقة بالسرية المطلقة وتميزت العمليات الأولى بكثير من الدقة والتنظيم المحكم حتى أن السلطات الاستعمارية التي اندهشت لذلك، أشاعت بأن ثمة تقنيين أجانب يسيرون المعركة ويوجهون الثورة في داخل البلاد وفي خارجها. ولاحظ المؤتمرون أن جيش التحرير الوطني قد برهن على قدرة فائقة في تنظيم عمليات عسكرية ناجحة مكنته من اكتساب الثقة في النفس ومن افتكاك أسلحة حربية جديدة وعديدة استعملت لدعم القدرة الحربية ولتجنيد أعداد وافرة من المجاهدين الذين بدأوا يتوافدون من مختلف الفئات الاجتماعية واجدين في قدماء المنظمة الخاصة إطارات مكونة ومدبرة على القتال. ولقد كانت الانتصارات التي أحرز عليها جيش التحرير الوطني( ) حافزاً قوياً بالنسبة لمجموعة من الجزائريين الذين كانوا يمارسون في صفوف الجيش الفرنسي سواء كجنود بسطاء أو كضباط وضباط صف، فهربوا محملين بالأسلحة والذخيرة، من ثكنتاهم والتحقوا بإخوانهم المجاهدين. ورأى بعض المؤتمرين أن ثبات جيش التحرير الوطني أمام قوات الجيش الاستعماري مدعاة إلى تطوير كيفية القتال وذلك بالتخلي عن حرب العصابات والتركيز على تنظيم المجاهدين في وحدات نظامية لا تختلف عما هو متعارف عليه في سائر الجيوش العالمية. ففي إطار إعادة التنظيم، قرر المؤتمر الإبقاء على تقسيم الجزائر إلى ستة أقسام يسمى كل واحد منها ولاية بدلاً من منطقة، معنى ذلك أن جبهة التحرير الوطني رجعت من جديد إلى الهيكلة التي كانت المفعول في عهد حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. وإذا كان المؤتمرون قد وافقوا بالإجماع على هذا التغيير الشكلي، فإن عدداً منهم وخاصة ممثلي المنطقة الثانية( ) قد أبدوا تحفظاً شديداً بالنسبة للتخلي عن حرب العصابات واستبدال المجموعات الصغيرة بالوحدات النظامية. لكن مبدأ المركزية الديمقراطية حسم الموقف في هذه المرة كذلك وسجل في محضر جلسات المؤتمر أن الولاية تقسم إلى مناطق والمنطقة إلى نواحي والناحية إلى أقسام( ). وإضافة إلى الولايات، استحدث المؤتمر منطقة جديدة تشمل الجزائر العاصمة وضواحيها اسماها المنطقة المستقلة واتخذ منها مقراً لقيادة جبهة التحرير الوطني المتمثلة في لجنة التنسيق والتنفيذ. أما القيادة فجماعية بالنسبة لجميع المستويات وتتكون فيما يخص أركان جيش التحرير الوطني من قائد عام يساعده ثلاثة نواب يشرفون على القطاعات السياسية والعسكرية والاتصال والاستعلامات. وقد حدد المؤتمر كذلك أنواع الرتب العسكرية وضبط الوحدات المكونة للجيش. ففي مستوى الولاية يتولى القيادة العامة ضابط برتبة صاغ ثاني يتميز بثلاث نجوم حمراء وينوبه ثلاثة رجال برتبة صاغ أول يتميز الواحد منهم بنجمتين حمراوين وثالثة بيضاء. ويسمى قائد الناحية ملازماً ثانياً تميزه نجمة حمراء وينوبه ضابط برتبة ملازم أول يتميز الواحد منهم بنجمة بيضاء. أما القسم فيقوده مساعد يميزه رقم ثمانية الهندي( 8 ) عليه خط أبيض، وكل من نوابه يسمى عريفاً أول ويميزه رقم سبعة الهندي( 7 ) بلون أحمر ومكرر ثلاث مرات. وهناك رتبتان لا تسند لصاحبهما مسؤولية على رقعة جغرافية محددة وهما: الجندي الأول وعلامته رقم ثمانية الهندي( 8 ) بلون أحمر والجندي الثاني وعلامته رقم ثمانية الهندي( 8 ) بلون أحمر ومكرر مرتين. أما الوحدات فتعرف كالآتي: نصف الفوج يتكون من أربعة جنود يقودهم جندي أول. الفوج ويتكون من عشرة رجال يقودهم جندي ثان. الفرقة وتتكون من ثلاثة أفواج يقودهم قائد الفرقة ونائبه. الكتيبة وتتكون من ثلاث فرق ويقودها خمسة إطارات. الفيلق ويتكون من ثلاث كتائب ويقودها عشرون إطاراً. إن التنظيم العسكري وحده لا يكفي، كما التنظيم مهما كانت قيمته، يظل ضرباً من الخيال ما لم يدعم هذا وذاك بالتسليح الذي يحتاج إليها المقاتلون. ولقد بدأت الثورة الجزائرية بقطع قليلة نسبياً من الأسلحة الحربية وبنادق الصيد التي كانت المنظمة الخاصة قد استوردتها من ليبيا وتونس بعد تأسيسها مباشرة، وخزنتها بوادي سوف في مرحلة أولى ثم إلى جبال الأوراس في مرحلة ثانية( ). وكانت التعليمات التي أعطيت للمجاهدين الأوائل تتمثل خاصة في حثهم على استعمال كل الوسائل لجلب الأسلحة من العدو أولاً وعن طريق السوق أو المساهمة الشعبية ثانية. وحظيت التعليمات المذكورة بتطبيق واسع في مختلف أنحاء البلاد( ). لكن ذلك لم يكن كافياً بسبب تزايد التجنيد الذي فاق كل توقع من جهة ونتيجة قرار الحكومة الفرنسية الخاص بمضاعفة عدد أسلحتهم المتطورة بما هو أحسن وأثقل من جهة ثانية. ولقد كان من الممكن التقليص من الفارق في العتاد لو أن السيد بوضياف ومندوبية الخارج استطاعا تأدية الدور المحدد لكل منهما على أحسن وجه. فالأول وجد صعوبة كبيرة في دخول السوق الأوربية للأسلحة بالإضافة إلى المشاكل الجمة التي اعترضت سبيله عندما بدأ يرسي قواعد جبهة التحرير الوطني في فرنسا، والثانية لم تتمكن من إقناع مصر وباقي البلاد العربية بضرورة الالتزام المطلق مع الثورة الجزائرية بحيث توفر لها كل ما تحتاج إليه من إمكانيات مادية، لأجل ذلك، وعندما طال انتظار الإمدادات، قام العربي بن المهيدي بمحاولات: الأولى في اتجاه تونس وليبيا والثانية في اتجاه المغرب بواسطة الباخرة "آتوس" التي تم شحنها في ميناء الإسكندرية. فانطلاقاً من كل هذه المحاولات وما أسفرت عنه من نتائج، قرر المؤتمر تعيين السيدين مصطفى بن عودة وعمار واعمران يتوجهان إلى الحدود الشرقية للبحث عن مصادر جدية للتسليح. وكانت تونس والمغرب الأقصى في ذلك الوقت قد اتفقا مع الحكومة الفرنسية على وقف إطلاق النار، لكن جيش التحرير الوطني( ) في كل من البلدين الشقيقين اشترط لقبول الاتفاق عدم التخلي عن جبهة التحرير الوطني. وقد وجد مبعوثا مؤتمر وادي الصومام سنداً قوياً في قائد الجيشين عبد الكريم الفاسي وعز الدين عزوز اللذين كانا، مثل جبهة التحرير الوطني، يؤمنان بأن استمرارية المعركة المسلحة وتوحيدها وتعميمها على كافة أنحاء بلاد المغرب العربي الموحد ونظراً إلى العلاقات المتميزة مع جيش التحرير الوطني في تونس والمغرب الأقصى، ورغم تردد الحكومتين الجديدتين في البلدين الشقيقين بالنسبة لما ينبغي أن يكون عليه موقفهما من جبهة التحرير الوطني بعد قبولهما وقف إطلاق النار، فإن المؤتمر أوصى بإنشاء مراكز حدودية للتدريب العسكري وأخرى لاستقبال اللاجئين وتنظيمهم( ). ج- في مجال الثقافة والاقتصاد: لم يخصص ميثاق وادي الصومام فصلاً مستقلاً لمعالجة الواقع الاقتصادي والثقافي في الجزائر أو لضبط آفاق المستقبل بالنسبة للمجالين المذكورين. لكننا عندما نقرأ مختلف فقرات الوثيقة التي صادق عليها المؤتمرون وكلفوا هيئات الثورة بالعمل على متابعة تطبيقها، فإننا نستطيع جمع ما يلزم من معلومات للتعرف على حقيقة الوضع الذي آل إليه الجزائريون بفعل الاستعمار الاستيطاني ولتصور النهج الذي لابد من اتباعه للقضاء على آثار السيطرة الأجنبية ولبناء المجتمع الذي يكون في مستوى ثورة نوفمبر. صحيح أن التركيز، في وثيقة وادي الصومام، كان على المجالين السياسي والعسكري لأن الهدف الرئيسي المستعجل كان هو استرجاع السيادة المغتصبة، لأن البناء الاقتصادي والثقافي مرهون بالتخلص من الوجود المادي للاستعمار الذي لا يزيله سوى العنف في الداخل والعمل الديبلوماسي المكثف في الخارج، لكن، رغم ذلك، فإن المتفحص للوثيقة، يجد أن المؤتمرين يؤكدون على أن السياسة الزراعية في الجزائر ظلت، منذ بداية الاحتلال قائمة على اغتصاب الأراضي الخصبة من أصحابها الخواص أو من المؤسسات الدينية والإدارية وتمليكها للكولون ولشركات الاستغلال الأوربية بصفة عامة لأجل ذلك فإن الهدف الأول، بعد التخلص من السيطرة الأجنبية يكون متمثلاً في إيجاد طريقة مثلى لإعادة المياه إلى مجاريها وجعل المغتصبة حقوقهم يسترجعون بعض ما أخذ منهم بالقوة. ولأن السلطات الاستعمارية مدركة لهذا المصير الحتمي الذي يأتي نتيجة عملية استرجاع السيادة الوطنية، على انتهاج سياسة الترغيب والمرونة تجاه سكان الريف الذين لم يكن يخفى عليهم أنهم سيشكلون القاعدة الأساسية لانتشار الكفاح المسلح ونجاحه. وفي إطار تلك السياسة أعلنت الحكومة الفرنسية عن عزمها على إجراء إصلاح زراعي قد يصل إلى حد توزيع جزء من الأراضي المسقية على المعدمين من الجزائريين. وذهب السيد لاكوست إلى أبعد من ذلك عندما صرح أنه يفكر في الإقدام على انتزاع مساحات هامة من المزارع الكبرى وتقسيمها على الفلاحين الجزائريين( ). ومن المعلوم أن كل تلك التصريحات لم تتعد حدود الكلام الذي سرعان ما اختفى عندما ارتفعت أصوات غلاة الكولون الداعية إلى استبدال ما أسمته لينا بالقمع وبتطبيق سياسة الأرض المحروقة. فأمام إعراض أولئك الكولون، تراجعت السلطات الاستعمارية التي وجدت، في الواقع، لخدمتهم. وللحفاظ على ماء الوجه أصدرت قراراً يقضي بإصلاح نظام الخماسة( ) الذي كان الفلاحون قد أصلحوه مجبرين نتيجة انتشار الكفاح المسلح. فالخماسة التي زعم لاكوست أنه يدخل عليها إصلاحات من شأنها أن تحسن أوضاع أبناء الريف الجزائري لا علاقة لها بالنهج الاستغلالي المتبع من طرف الأوربيين الذين كانوا يعاملون العمال معاملة البهائم، وحينما أحس المزارعون الجزائريون أنهم لا يستطيعون التصدي لتجاوزات الغزاة وعملائهم، صاروا يبحثون عن الفلاح الذي يقبل استثمار الأرض بالمناصفة ولم يكن لسلطات الاحتلال أي دخل في الموضوع لأن الأمر كان يتعلق بإيجاد من يعرض نفسه للخطر مقابل ناتج غير مضمون( ) وعلى هذا الأساس، فإن تطور الخماسة وتحولها إلى مناصفة إنما جاء نتيجة حتمية لانعدام الاستقرار والأمن في الأرياف ولقيام الجيش الفرنسي بتعميم سياسة الأرض المحروقة مما جعل مالك الأرض يوكل فلحها لمن تكون لهم الشجاعة الكافية لمواجهة التحدي بكل أنواعه. أما الأوربيون الكولون، فإنهم كانوا يستنجدون بالأجناد، يدفعون لهم ما يستحقون، لمواصلة خدمة أراضيهم بواسطة اليد العاملة الجزائرية. ولم يتغير في طريقة الاستغلال سوى سلوك الأفراد الذين صاروا يحجمون عن إهانة العمال ليس تأدباً ولكن خوفاً من انتقام المجاهدين. من هذا المنطلق، نستطيع القول إن تحليل المؤتمرين لسياسة الاستعمار الزراعية كان مصيباً حيث ركز على أن "سلطات الاحتلال لم تلجأ إلى مخادعة الفلاحين الجزائريين إلا لتصرفهم عن الثورة( ) لكن هذه المخادعة رغم ما أحيطت به من عناية، لا يمكن إلا أن تفشل مثل ما فشلت سابقتها التي استعملت لتطبيق مقولة "فرق تسد" ومخططات التجزئة التي تبقي المجتمع الجزائري في حالة الضعف الذي يمنعه من النهوض لاسترجاع الكرامة. إن الجزائر بلد زراعي ما في ذلك شك، وإذا كان ريفها قد تعرض للاستغلال بجميع أنواعه لنهب ما فيه من خيرات طيلة أكثر من قرن من الاحتلال( ) فإنه بمجرد الإعلان عن الثورة، لم يتردد في احتضانها بصدق وإخلاص. وقد كان أبناؤه وهم يعلنون عن التزامهم بجبهة التحرير الوطني، يدركون أن الاستعمار الاستيطاني أخذ منهم كل شيء بما في ذلك الأرض التي هي أعز ما يملكون. ونظراً لتمسك المحتل بما أحرز عليه من مغنم، وإصراره على عدم التنازل عن أي جزء من الممتلكات التي اغتصبها، فإن مؤتمر وادي الصومام قد ثبت في وثائقه أن الإصلاح الزراعي الحقيقي هو الحل الوطني لمشكلة البؤس الذي تتخبط فيه البوادي( ) لقد كانت الزراعة هي المجال الاقتصادي الوحيد الذي حظي بمعالجة تكاد تكون مفصلة نظراً لما له من أهمية وللمكانة التي يحتلها أبناء الريف في صفوف الثورة، لكن ذلك لا يعني أن المجالات الأخرى قد أهملت أو أبعدت عن اهتمامات المؤتمر. فالدارس لوثيقة وادي الصومام يرى بكل بساطة أن الأهداف الأساسية التي أعلنت عنها جبهة التحرير الوطني في ندائها الأول لم تتغير، بل على العكس، فإن المؤتمرين قد أضافوا عليها، نتيجة الخبرة المكتسبة طيلة حوالي عامين من الكفاح المسلح، كثيراً من التفاصيل والتوضيحات التي تقربها إلى فهم الجماهير الشعبية الواسعة( ). ومن المعلوم، لدى كل الباحثين المهتمين بتاريخ ثورة نوفمبر، أن الأهداف الرئيسية التي ضبطتها جبهة التحرير الوطني وأعلنت عنها في أول بيان لها تتمحور كلها حول نقطة واحدة هي هدم النظام الاستعماري حيثما وجد وبكل الوسائل التي يمكن الحصول عليها. معنى ذلك أن الشرارة الأولى التي انطلقت يجب أن تنتشر بكل سرعة لتشمل كافة أنحاء الوطن وأن يظل اللهب مستعراً إلى أن يتم تحرير الأرض وتحرير الإنسان. ففي إطار التحرير المذكور يمكن أن ندرج برنامج الثورة في المجالين الثقافي والاقتصادي. فالاستعمار الفرنسي الذي أصاب بلادنا في نهاية الثلث الأول من القرن الماضي كان من أبشع أنواع الاستعمار وأكثرها شراسة لأنه كان استيطانياً، ولأنه كان من منطلق ديني واقتصادي وحضاري في آن واحد. ولقد كان الذي وقع ليلة الفاتح من نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف بداية ثورة شهد التاريخ أنها من أعظم ما عرف العالم المعاصر، ولأنها كانت ثورة، فإنها استهدفت تحرير الأرض وتحرير الإنسان في ذات الوقت وهما مهمتان تتطلبان أكثر من وقف إطلاق النار. إن تحرير الأرض، في منظور ثورة نوفمبر، لا يتوقف عند تخليصها من السيطرة بل يتعدى ذلك إلى إعادة تأهيل مساحاتها الشاسعة وإعادة النظر في طرق التعامل معها بحيث تستعيد وظيفتها التي كانت تقوم بها قبل أن يفرض عليها الاحتلال. من هذا المنطلق، فإن تحرير الأرض يشمل، في ذات الوقت، استرجاع السيادة الوطنية على كافة المساحات المغتصبة والمستغلة سواء في طرف المستعمرين الفرادى والشركات الإمبريالية أو من طرف العملاء من المواطنين، وتخليصها من أنواع الزراعة التي أدخلت إلى بلادنا لتلبية بعض حاجات الفلاحة في فرنسا( )، ومن جهة أخرى، يتطلب تحرير الأرض إعادة صقل ذهنية الفلاح الجزائري والتركيز على استصلاح المساحات الشاسعة في الهضاب العليا وفي الصحراء( )، لأن الجزائر ليست هي الشريط الساحلي فقط ولأنها تتلقى، سنوياً كميات هائلة من مياه الأمطار التي يضيع أكثر من خمسة أسداسها في البحر( )، كما أن باطن أراضيها يحتوي على مليارات الأمتار المكعبة القابلة للتجديد. وبهذا المفهوم، فإن عملية تحرير الأرض كان يتوقف تحقيقها على ظهور ونجاح حركتين أساسيتين أولهما عسكرية واعية تستعمل العنف المتنور وتضم في صفوفها طلائع مؤمنة برسالتها وقادرة ليس على الاستشهاد فحسب، بل كذلك، وفي المقام الأول، على ربح ثقة الجماهير التي هي ضرورية لربح المعركة ضد المستعمر الذي يملك العدة والعتاد، وثانيتها ثقافية وطنية تستعمل التخطيط العقلاني ولا تتردد في اللجوء إلى العنف الثوري للقضاء على دابر التبعية بكافة أنواعها. هاتان الحركتان متلازمتان ومترابطتان أشد الارتباط بحيث يظل انتصار الواحدة لا شيء ما لم تتمكن الأخرى من تجسيد جل أهدافها على الأقل. لقد أدرك المؤتمرون أن تحرير الإنسان يكتسي نفس أهمية تحرير الأرض، لأن المواطن الحر لا يعيش على أرض مستعمرة، ولا يكون الإنسان حراً إلا إذا استطاع تخليص أرضه من كل أنواع العبودية لأجل ذلك فإنهم دعوا إلى ضرورة هدم النظام الاستعماري حتى يتسنى لجبهة التحرير الوطني أن ترسي قواعد الحركتين الثقافية والاقتصادية وبعثها إلى الوجود في وقت واحد( ). خلاصة الفصل: إن الدراسات التاريخية الموجهة للإحاطة بسير أحداث مؤتمر وادي الصومام ونتائجه ستتكاثر في المستقبل ما في ذلك شك. وبكثرتها ستزداد اختلافات المؤرخين حولها بسبب تباين وجهات نظر البقية من المخططين للمؤتمر والمشاركين الفعليين فيه ولأن الأرشيف لم يحفظ لنا كثيراً من التفاصيل التي لابد منها لقتل الموضوع بحثاً. ففي الآونة الأخيرة( )، مثلاً، تعددت الأصوات وأنيرت الأقلام في مناسبات مختلفة تهدف كلها إلى إيهام الناس بأن أصحابها يملكون الحقيقة دون سواهم. لكننا، عندما نخضع كل ما يصلنا إلى مجهر البحث العلمي، نجد أن الواقع غير ذلك مطلقاً. فالذي رافق المؤتمرين أو آواهم أو تولى حراستهم في أي مستوى كان، لا يمكن اعتماده اليوم كمصدر أساسي قادر على تنفيذ المعلومات المكتوبة التي نشرت أثناء فترة الكفاح المسلح. إنه قد يأتي، في حديثه أو مقاله، بعض الأفكار المكملة التي قد يكون استقاها في وقتها من مصدرها الحقيقي، لكن ذلك لا يعطيه حق الخوض في موضوعات أخرى عاشها بالسماع أو بالاستنتاج الشخصي فقط. إن النسيان لصيق الإنسان، وإذا كان ذلك الإنسان لا يؤرخ للأحداث التي يسمع عنها أو يشارك في صناعتها، وإذا كان لا يرعى ما حُفظ بالمذاكرة، فإن السرعة التي تمر بها السنون تتسبب، حتماً في إتلاف كثير من العناصر الرئيسية اللازمة لإعادة تشكيل الموضوع في الذهن قبل نقله إلى القارئ والسامع. لأجل ذلك، فإن المصادر الحية الجامعة في ذاكرتها بعض تفاصيل تاريخ ثورة نوفمبر، مطالبة من قبل الأجيال الصاعدة التي لها حق العلم الصادق الوافر، بالتلاقي فيما بينها للتأكد من صحة ما عندها من معلومات تكون كفيلة بتسهيل مهمة المؤرخين الوطنيين. إن الحساسيات الزائدة، والأنانية المزدوجة باللاشعور هي التي تدفع كثيراً من صانعي التاريخ إلى تزييفه وهم لا يعلمون أنهم بذلك يقزمون أنفسهم معه، فالمهم ليس أن يكون المرء الواحد وراء كل الأحداث فذلك من باب المستحيلات بل المهم هو أن يكون شريكاً في التخطيط للأحداث العظيمة وفي إنجاحها. إن الكتابة أو الحديث من منطق ذاتي وبدون معطيات كافية قد نتج عنها كثير من الغموض حول مؤتمر الصومام كمنعرج تاريخي في حياة الثورة وحول الوثيقة التي صادق عليها بالإجماع كمرجع أيديولوجي للتمكن من هدم النظام الاستعماري وبناء المجتمع الجزائري الجديد. لقد كان المؤتمر ضرورة لتقييم المرحلة المقطوعة لوضع الخطوط العريضة لمواصلة الكفاح المسلح والتخطيط للحل السلمي من أجل استرجاع السيادة الوطنية. كما أنه كان إجراءاً حتمياً لتزويد الثورة بقيادة وطنية موحدة مجددة، ولتوحيد التنظيم العسكري وتحديد المنطلقات التي تتحكم في مسار المعركة وتوجهها( ). وإذا كان المؤتمر، يومها، قد أدى دوره الإيجابي واستطاع أن يكون المنطلق لمرحلة جديدة في تاريخ ثورة نوفمبر، فإن مجموعة من العوامل ومن المستجدات التي سنتعرض لها في الفصل القادم، قد دفعت بعض المسؤولين إلى الطعن في كثير من مقوماته الأساسية لكن الذي ينبغي أن يبقى راسخاً لدى الباحث هو أن كل الطعون مهما كان مصدرها لن تقلل من قيمة النتائج التي توصل إليها المؤتمرون. وبعد أكثر من ثلاثين سنة من انعقاد مؤتمر الصومام ونشر الجزء الأكبر من الوثيقة الإيدويولوجية التي صادق عليها، فإن الدارس الموضوعي لا يسعه إلا القول، رغم كل الضغوطات والنواقص التي ستتعرض لها في حينها، إن المؤتمر كان ناجحاً، وإن نتائجه كانت مفيدة وصحية بالنسبة لاستمرارية الثورة، ويكفي للتدليل على صحة ادعائنا أن النصوص الأساسية للثورة كلها مازالت حتى اليوم تلتقي مع وادي الصومام في كل الخطوط العريضة التي اشتملت عليها.( )


الفصل الثالث

التطبيق العملي لأهداف جبهة التحرير الوطني بعد مؤتمر وادي الصومام

- تقييم آخر لنتائج وادي الصومام - التطبيق الميداني لمقررات الصومام - الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة - من حرب العصابات إلى حرب المواقع - التخطيط للعمل السياسي - الخلاصة





تقييم أخر لنتائج وادي الصومام: لقد كان مؤتمر وادي الصومام انتصاراً للثورة الجزائرية في نظر العديد من المحللين السياسيين الوطنيين على وجه الخصوص. لكن بعض المسؤولين الجزائريين في الخارج اعتبروا إفقاده نوعاً من الخيانة التي ستكون عواقبها وخيمة على مصير الكفاح المسلح في الجزائر. فضابط المخابرات المصري فتحي الديب أورد في كتابه "عبد الناصر وثورة الجزائر"( ) أن السيد أحمد بن بلة أكد" أن المؤتمر شكل نقطة تحول خطيرة في مسيرة الثورة للأسباب التالية: أ- إن اعتراض الولايات الشرقية والغربية التي تغيبت عن المؤتمر لن يتوقف عن حد الاعتراض على القرارات، بل ينتظر أن يتطور إلى صدام في إطار من محاولات التصفية بين القيادات في نطاق صراع داخلي. ب- أن الولايات المجاورة للحدود ستقوم بحجب السلاح عن الولايات الداخلية لإرغامها على التراجع عن قرارات المؤتمر. وقد وصلته رسائل تفيد بذلك. ج- احتمال انتقال صورة الصراع الداخلي المتوقعة إلى الخارج بعد خروج المجموعة الموالية لعبان رمضان، الأمر الذي سيزعزع ثقة الرأي العام العربي والعالمي في الصورة المشرفة التي أمكن تحقيقها لثورة الجزائر. د- بدء مرحلة الصراع بين السياسيين والعسكريين وما تحمله من آثار ضارة بالمسيرة الثورية خاصة بعد انتشار نغمة، سياسي وعسكري، في أوساط جيش التحرير الوطني( ).

ليس من السهل على الدارس المحقق أن يأخذ كتابة السيد فتحي الديب على أنها حقيقة تاريخية مسلم بها كتلك التي يرويها الثقاة الذين يتولون بأنفسهم إخضاع المعلومات إلى المقاييس والمعايير المعروفة لجمهور المؤرخين. وعلى الرغم من أن "عبد الناصر والثورة الجزائرية" صدر عن دار المستقبل العربي سنة 1984 ونشر أيضاً مترجماً إلى اللغة الفرنسية، وأن السيد بن بلة لم يعارض، قولاً أو كتابة، ما جاء في الكتاب من المعلومات منسوبة إليه حول المؤتمر، فإننا نعتبر أن الفصل الرابع عشر كله مغلوط ولا يمكن اعتماده في تقييم نتائج أشغال وادي الصومام. إن حكمنا بهذه القسوة على هذا الفصل مستخلص خاصة من النقطة العاشرة التي توهم القارئ الخالي الذهن بأن مرحلة الصراع الداخلي والتصفية الجسدية المذكورين من بين الأسباب التي اعتمد عليها السيد أحمد بن بلة لإصدار حكمه الآنف الذكر قد بدأت فعلاً وأن "أول ضحاياها هو المناضل القائد البطل مصطفى بن بو لعيد.. ولحق به المناضل الجسور والوطني المخلص يوسف زيغود قائد ولاية شمال قسنطينة الذي صاحبت ظروف وقوعه في كمين أعده الفرنسيون له بعد خروجه من مخبئه علامات استفهام تشير بإصبع الاتهام بالخيانة والغدر إلى مساعديه في القيادة إبراهيم مزهودي وعلى كافي"( ). إن هذين الخبرين لا أساس لهما من الصحة: أولاً لأن الشهيد مصطفى بن بولعيد لم يكن من المعارضين لقرارات مؤتمر وادي الصومام لسبب واضح وبسيط يتمثل في كونه استشهد قبل انعقاد المؤتمر بحوالي خمسة أشهر. أما يوسف زيغود فإن استشهاده كان في نهاية الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر في حين أن الذيب يذكر أنه تلقى الخبرين في نهاية الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر سنة 1956. وبالإضافة إلى ذلك فإن السيدين على كافي وإبراهيم مزهودي كانا من أكثر القادة ارتباطاً بالشهيد، بل إن مزهودي، عندما وقع الاستشهاد، كان قد وصل إلى الحدود التونسية في إطار تنفيذ مقررات المؤتمر. وإن الرجوع إلى المصادر الحية واستنطاق الوثائق المتوفرة للباحثين يدلان، بما لامجال للشك فيه، على أن جل المعارضين لنتائج المؤتمر لم يفعلوا ذلك من منطلقات أيديولوجية لكنهم كانوا، فقط، مدفوعين بأغراض شخصية بعضها يتعلق بالجري وراء السلطة وبعضها الآخر ناتج عن الانحياز لأشخاص دون التمعن في الموضوع.

هكذا نرى أن السيد بن بلة يجعل في مقدمة مأخذه على المؤتمر أنه لم يجمع سوى قادة الولايات الرابعة والثالثة والثانية مؤكداً أن باقي القادة قد تخلفوا عن الحضور وهم ممثلو وهران والأوراس وسوق أهراس والصحراء والخارج( ). إن هذا المأخذ مرفوض في أساسه لأن المنطقة الخامسة أي الغرب الجزائري كانت ممثلة في شخص قائدها الأول الشهيد العربي بن مهيدي الذي ترأس المؤتمر. أما المنطقة الأولى فإن عدم حضورها يرجع فقط لكون ضباطها السامين لم يتفقوا على تعيين خليفة الشهيد مصطفى بن بولعيد. وفيما يخص سوق أهراس والصحراء فإنهما لم تكونا من ضمن المناطق الخمس التي تأسست وانطلقت في الكفاح ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954. ودائماً حسب السيد فتحي الديب( )، فإن بن بلة يرفض نتائج مؤتمر وادي الصومام لأن السياسيين هم الذين سيطروا على أشغاله دون العسكريين الذين تنقصهم الخبرة في مجال المناورات من جهة، ولأن عبان اختار بالفعل الدكتور محمد الأمين دباغين لتمثيل الثورة الجزائرية بالقاهرة وللتحقيق مع أعضاء المندوبية حول تقصيرهم في أداء مهمتهم المتمثلة خاصة في تزويد الداخل بما يحتاج إليه من سلاح وذخيرة من جهة أخرى. إن هذين السببين مختلفان فقط وليس ثمة في الواقع ما يعمها، لأن عبان رمضان نفسه لم يكن محترفاً سياسياً بل كان، كغيره، مناضلاً يؤمن بضرورة انتهاج الكفاح المسلح استرجاع السيادة الوطنية، وقبل أن ينخرط في حزب الشعب الجزائري الذي تقلد في صفوفه مسؤوليات هامة، كان جندياً في الجيش الفرنسي على غرار بن بلة ذاته. أما الدكتور محمد الأمين دباغين، فإن أعضاء مندوبية الخارج هم الذين طالبوا بإرساله إلى القاهرة ليكون عليهم رئيساً( ). وليس ذلك بالشيء الغريب إذا علمنا أن النواة الأولى التي قررت الدخول في مرحلة الكفاح المسلح كانت قد لجأت إليه ليقود الثورة بعد أن رفض ذلك الشرف مصالي الحاج لأسباب ليس هذا محل التعرض إليها. فالدكتور، إذن، لم يعين من طرف عبان الذي اقتصر دوره على تبليغه رسائل المندوبية. وحتى عندما وصل مصر، فإنه رفض ممارسة المسؤولية المسندة إليه دون قرار رسمي يوافق عليه الجميع وقد صدر ذلك القرار بالفعل عن مؤتمر وادي الصومام، ويبدو أن بعضهم تقبل ذلك بكثير من التردد والحذر. ولقد كان هناك نوع آخر من التردد لكنه، هذه المرة، خاص بقرار أساسي اتخذه المؤتمر ويتعلق بفتح أبواب قيادة جبهة التحرير الوطني إلى عدد من السياسيين الذين لم يتكونوا في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه من تنظيمات سرية أو علنية على حد سواء. إن هذا القرار قد أثار أثناء أشغال المؤتمر معارضة عدد من المسؤولين الذين وصفوه بالانحراف الذي يعرض الثورة إلى خطر الموت لأنه يقضي على وحدة التصور ووحدة التفكير الضروريين للاستمرارية الثورية، لكن مبدأ المركزية الديمقراطية حسم الموقف كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. هكذا، إذن، يمكن القول أن نتائج مؤتمر وادي الصومام قد استقبلت، ظاهرياً، بارتياح كبير من طرف المسؤولين في جميع المستويات، لكنها، في الواقع تسببت في ميلاد صراع داخلي على السلطة كان يمكن أن يغذى وينتشر لو لم يحدث اختطاف الطائرة التي كانت تنقل القادة الأربعة من المغرب إلى تونس في اليوم الثاني والعشرين من شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. ولقد كانت لجنة التنسيق والتنفيذ تتوقع حدوث بعض التصدع في الصف، لأجل ذلك تقرر إيفاد السادة عمار بن عودة وعمار واعمران وإبراهيم مزهودي إلى تونس قصد شرح النتائج التي توصل إليها المؤتمر، وإيجاد الحلول اللازمة للمشاكل العديدة التي تعترض سبيل تزويد الداخل بالأسلحة والذخيرة. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الأخوة لاقوا صعوبات كثيرة وهم يؤدون هذه المهمة الصعبة. ومن جملة الصعوبات التي اعترضت سبيلهم فإن السيد فتحي الديب قد أشار إلى تمرد ما يسمى بقيادة مناطق جيش التحرير الوطني الذين اجتمعوا "في مكان ما"( ) وقرروا عدم الاعتراف بقرارات مؤتمر وادي الصومام لأنهم لم يشاركوا في وضعها، وأجمعوا على ضرورة إبعاد موقدي المؤتمر باعتبار أن وجودهم في تونس يشكل مصدراً للقلاقل ويتسبب في تعطيل عملية التسليح( ). وعلى الرغم من أن السيد فتحي الديب قد نشر ضمن ملحقات كتابه وثيقة تحمل توقيعات عدد من مسؤولي جيش التحرير الوطني في أقصى شرق الجزائر لتدعيم زعمه وإعطائه نوعاً من المصداقية، إلا أن فحص الوثيقة المذكورة يبين بوضوح تام أن هناك خلطاً كبيراً في المصطلحات ترتب عليه ذلك الغموض الذي استند عليه الكاتب لإصدار حكمه. فمحضر الاجتماع المنعقد، فعلاً، بتاريخ الخامس عشر من شهر ديسمبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف يذكر أن الموقعين عليه قرروا، بادئ ذي بدء، عدم الاعتراف بقرارات وادي الصومام لكن المحضر لم يذكر أن الجهات التي يمثلونها لا يمكن أن تكون مناطق لأنها في مجملها تابعة لمنطقتين اثنتين هما: الشمال القسنطيني والأوراس. وعندما يرجع الدارس إلى شخصية الموقعين على الوثيقة، فإنه يتأكد من أنهم لم يكونوا مؤهلين لتقييم نتائج المؤتمر خارج هياكلهم النظامية، ولقد كان عليهم إبداء كل آرائهم في إطار اجتماعات الولاية( ) التي ينتمون إليها. أما خارج ذاك، فإنهم إنما يكونون قد شقوا عصى الطاعة ويطبق عليهم النظام الداخلي لجيش التحرير الوطني. وحينما يطرح الدارس كل هذه التعليقات النظرية جانباً، ويعود إلى ميدان، يجد، بكل موضوعية، أن مؤتمر وادي الصومام أثرى بالفعل أيديولوجية جبهة التحرير الوطني، وزود الثورة بالأدوات التي كانت تنقصها لمواصلة المسيرة ولتوفير أسباب استمرارية الكفاح المسلح والنضال السياسي من أجل استرجاع الاستقلال الوطني. ويتمثل الإثراء خاصة في إعطاء جبهة التحرير الوطني نفسها مفهوماً آخر إذا لم تبق ذلك التنظيم الذي يعمل على لم شمل نزعات سياسية مختلفة نتجت عن الأزمات الداخلية التي مر بها نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب الجزائري ثم حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وعن الصراعات التي وقعت بين المشرفين على الجناح السياسي والمسؤولين عن المنظمة الخاصة من جهة وبين دعاة الشرعية السياسية وأنصار الكفاح المسلح من جهة ثانية. بل تحولت إلى حركة مفتوحة أبوابها ليس فقط لمناضلين صهرتهم أيديولوجية واحدة ولكن لمواطنين وإطارات ومناضلين ظلوا حتى ذلك التاريخ متمسكين بأيديولوجية مختلفة وقرروا تجميد تمسكهم ذلك للالتحاق بالمسار الثوري دون أن يقدموا الدليل على أن التحاقهم نهائي وبدون رجعة( ). وإذا كان ذلك الالتحاق الذي سمح به مؤتمر وادي الصومام قد جاء نتيجة نوع من التنازل عن واحد من الشروط الأساسية الواردة في نداء الفاتح من نوفمبر، ويتمثل في إعلان الملتحق عن تخليه النهائي عن أيديولوجيته، فإنه، في واقع الأمر، قد حقق انتصاراً لجبهة التحرير الوطني التي استطاعت، تفضل ذلك، أن تضم إلى صفوفها عدداً كبيراً من الإطارات السياسية والثقافية التي ستؤدي دوراً لا يستهان به خلال ما تبقى من سنوات الكفاح المسلح، وقد كان من الممكن أن يكون انتصاراً أكبر، لو لم تتعرض البلاد إلى أزمة صائفة اثنين وستين تسعمائة وألف التي فتحت شهية المحترفين السياسيين على حساب المصلحة الوطنية. ومجرد انتهاء أشغال المؤتمر، رجعت لجنة التنسيق والتنفيذ إلى العاصمة وتوجه العقيد يوسف زيغود إلى الأوراس مكلفاً بالإشراف على عملية إنهاء الخلافات القائمة بين مختلف القيادات المحلية، وتعيين القائد الموحد الذي يكون أهلاً لخلافة الشهيد مصطفى بن بوالعيد، غير أن هذه المهمة الصعبة والنبيلة في ذات الوقت لم يكتب لها النجاح على يد قائد الولاية الثانية الذي استشهد قبل حتى أن يخرج من ولايته( ). إن هذه المهمة قد أسالت كثيراً من الحبر وحاول العديد من المؤرخين إعطائها تأويلاً غير الذي وجدت من أجله. فزيغود يوسف كان مشهوراً بقدرته على التنظيم وكانت له خبرة واسعة بالعمل العسكري بالإضافة إلى معرفته بإطارات الولاية الأولى الذين كانوا يكنون له كل الاحترام نظراً للعلاقات النضالية والودية التي كان يقيمها مع قائدهم بلا منازع الشهيد مصطفى بن بوالعيد. ومن الممكن أن زيغود كان ينجح في توحيد مختلف الفرق المتنازعة على السلطة في الأوراس، ولو تم ذلك لربحت الثورة وقتاً ثميناً واستفادت من طاقات وطنية ضاعت بلا سبب يذكر. وشكل استشهاد زيغود أول امتحان اجتازته القيادة العليا بنجاح حيث تم تعويضه بسرعة وبدون أي مشكل( ) واستمرت لجنة التنفيذ والتنسيق تواصل تطبيق الأيديولوجية التي صادق عليها المؤتمر. ففي المجال العسكري، تكيف جيش التحرير الوطني بسرعة فائقة مع التنظيم الجديد، وبدا يعمل طبقاً للقوانين المختلفة المشار إليها في محلها، وينطبق هذا القول حتى على المناطق التي أبدت تحفظها وعبرت عنه بممارسات وصلت إلى حد استعمال العنف. وكان لتمركز لجنة التنسيق والتنفيذ في عاصمة البلاد أثر بالغ الأهمية على معنويات القوات الجزائرية المقاتلة داخل المدن وفي الجبال والأرياف عامة. فوحدة القيادة وتواجدها في ميادين المعركة زاد المجاهدين حماساً، وقرب المواطنين أكثر من صفوف جبهة التحرير الوطني.

وبمجرد العودة إلى العاصمة، شرعت القيادة العليا في الإعداد لتطبيق قرار المؤتمر المتعلق بدعم العمل الفدائي وتعميمه حتى يتمكن سكان المدن من القيام بواجبهم الوطني في إطار الكفاح المسلح الذي أصبح حقيقة ملموسة في كافة أرياف البلاد. وتضاعف العمل الفدائي ابتداء من شهر سبتمبر سنة ست وخمسين من العمليات الجريئة التي استهدفت تفجير أشهر النوادي والمقاهي التي يرتادها الفرنسيون العسكريون والمدنيون على حد سواء( ). وخارج العاصمة يمكن الإشارة إلى ما اصطلح على تسميته بعملية "العصفور الأزرق( ) التي مكنت الثورة من الاستحواذ، دفعة واحدة على خمسين وثلاثمائة قطعة من أحسن أنواع السلع واستفادة من عدد ماثل من الجنود المناضلين الذين عملت القوات الاستعمارية على تدريبهم عسكرياً في ظرف قصير وملائم للغاية. وفي نفس الفترة، عرفت كبريات المدن، خاصة في الولايات الأولى والثانية والثالثة، نشاطاً فدائياً كبيراً بقصد تطهير صفوف الشعب من الخونة، ونشر جو الثقة في أوساط المواطنين الذين أرهقهم العنف الاستعماري الذي بلغ قمته في تطبيق ما يسمى بالمسؤولية الجماعية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية كان العمل الفدائي يهدف إلى تفكيك شبكات العدو الاستعلامية، وضرب مصالحه الحيوية المتمثلة سواء في المحلات العمومية أو في المؤسسات الاقتصادية التي يستغلها غلاة الكولون. ومن حين لآخر، كان الفدائيون يوجهون رصاصهم وقنابلهم لضباط الأمن الفرنسيين وقادة الأقسام الإدارية المختصة( ) والقواد والآغوات والباشوات( ) الذين لم يستجيبوا لنداءات الثورة وتعليماتها الداعية إياهم إلى الاستقالة والانضمام إلى التنظيم المدني لجبهة التحرير الوطني. ولئن كان من الصعب، اليوم، تقديم إحصاء دقيق لكل العمليات الفدائية التي تم تنفيذها في الفترة الفاصلة ما بين مؤتمر وادي الصومام والدورة التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالقاهرة ابتداءاً من يوم عشرين آب سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف( )، فإن الرجوع إلى الجرائد الاستعمارية التي كانت تصدر في ذلك الوقت يمكننا من تقديم نظرة إجمالية عن الموضوع( ). ولقد حاولنا حصر عدد العمليات بالنسبة لمدينة قسنطينة وحدها، فوجدنا معدلها يزيد عن خمس في كل يوم بالنسبة للفترة المذكورة أعلاه. وإلى جانب تكثيف العمل الفدائي، قامت مختلف الولايات بإعادة هيكلة نفسها طبقاً لمقررات وادي الصومام وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثاني. وبمجرد أن فرغت من تكوين اللجان النظامية وتنصيبها قصد تكليفها بالإشراف على شؤون المواطنين الإدارية والتعليمية ولأجل توعية الجماهير وإنقاذها من براثن العدو الذي بدأ يزرع "الأقسام الإدارية المختصة"( ) في المناطق الريفية و"المصالح الإدارية العمرانية"( ) في المدن. ولقد كان المؤتمرون الذين قرروا تأسيس المجالس الشعبية يعلمون علم اليقين أن التنظيم الشعبي هو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها العمل الفدائي، ويتوقف عليها نجاح العمليات العسكرية ذلك أن المجالس هي التي تتولى تحسيس الجماهير بأهمية الكفاح المسلح وبضرورة الإسهام فيه مباشرة أو بطريقة غير مباشرة( ). فالفدائيون والمجاهدون يمكن تجنيدهم بكل سهولة، لكن وجودهم حتى بأعداد كثيرة لا يكون له معنى إلا إذا وجدت القاعدة التي تراقب العدو وتجمع أخباره والتي تحضر المؤن وتعد مراكز الراحة والانطلاق والتي تشرف على جمع الاشتراكات والتبرعات وشراء ما يحتاج إليه الجيش من معدات ومستلزمات مختلفة. وإن عودة سريعة إلى ذلك الوقت، وبالذات طريقة تأسيس المجالس الشعبية، تكفي للتدليل على أن الثورة كانت تتبع الأسلوب الديمقراطي لتعيين المسؤولين عن تلك المجالس. فالمسؤولون على المستوى الأعلى كانوا يستشيرون أكبر عدد ممكن من أبناء القرية قبل اختيار رئيس المجلس والأعضاء الأربعة الذين يساعدونه. وعندما تكون الظروف الأمنية مواتية، فإن السكان الراشدين هم الذين يدعون للانتخاب بكل حرية. وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام لم تتعرض بالتفصيل للمجالس الشعبية، فإن المشروع على مستوى الولاية، قد وضع نوعاً من القانون الداخلي الذي حددت بمقتضاه مهام كل واحد من الأعضاء المكونين للمجلس. فالرئيس مسؤول عن التنسيق ومكلف بتنفيذ التعليمات والتوجيهات وبتنشيط الهياكل النظامية ومراقبتها، وكذلك السهر على تطبيق القرارات التي يتخذها المجلس نفسه، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يرأس الاجتماعات ويراقب أعمال الشرطة. أما مسؤول المال فيستقبل كل المدخولات التي يضع بشأنها تقريراً شهرياً. ويتولى تسديد نفقات الهياكل النظامية وصرف المنح لعائلات الشهداء والمجاهدين. وبينما يقوم مسؤول الدعاية والأخبار بتنظيم مراكز البريد وجمع المعلومات وتبليغها في شكل تقارير منتظمة إلى القيادة، فإن مسؤول الأمن يشرف مباشرة على رجال الشرطة ويحدد الأماكن الملائمة لتمركز الجيش، كما أنه يضبط المسالك والطرقات التي يتبعها الأفراد والجماعات والقوافل. وأما مسؤول التموين فتنحصر مهمته في الجمع والتخزين والتوزيع، ولديه يجد المسؤولون الجرد الشامل لممتلكات الثورة من الحبوب والمواد الغذائية والثروة الحيوانية. وتعتمد المجالس الشعبية في تأدية مهامها على مسؤولي المشاتي( ) والمداشر( ) الذين تسند إليهم صلاحيات واسعة في ميادين التنظيم والمراقبة وإعداد المأوى والمأكل وتسجيل الحالة المدنية وغيرها من الأعمال الضرورية لضمان التسيير الحسن وإبقاء الجماهير الشعبية في حالة اليقظة الدائمة والاستعداد المستمر. ومع مر الأيام فإن الإشراف على شؤون المواطنين والعمل على تنظيم حياتهم في جميع مجالاتها قد أدى بقيادات الثورة إلى اصطدام بالواقع المعيشي الذي تراكمت مساوئه بفعل الوجود الاستعماري الذي كان يهدف بالدرجة الأولى إلى زرع الشقاق في أوساط الجماهير وإغراقها في بحور المشاكل الزائفة التي تنغص حياة المواطن وتمنعه من الاهتمام بالقضايا الحقيقية والتي هي قضايا التحرير والتحرر والرقي والتقدم. ومع اندلاع الثورة، وحدت الجماهير الشعبية نفسها في مواجهة وضع جديد يعنيها مباشرة ويمس جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وإذا كان هذا الوضع الجديد قد أحدث تغييراً جذرياً يعمل جاهداً، على إبقائها لأنها تضمن ديمومة تبعية أغلبية الشعب الجزائري وقبولها السيطرة الاستعمارية باعتبارها الحتمية التي لا مرد لها سوى القدرة الإلهية ، فإن العلاقات الإنسانية الجديدة التي أوجدها والمسؤوليات المختلفة التي صاحبته منذ ظهوره ثم راحت تكبر وتتسع وترسخه وتطوره، كل ذلك قد دفع قيادة الثورة إلى أن تدرج مسألة تنظيم القضاء ضمن الأولويات التي تحظى بالعناية الكبرى. ولأجل ذلك، فإن الثورة التي كانت تهدف، قبل كل شيء، إلى تحرير الإنسان( ) قد عملت، منذ الساعات الأولى، على إنشاء لجان للصلح أو كانت لها مهمة البث في القضايا العالقة بين الناس، وحل المشاكل التي من شأنها أن تعرقل عملية بناء المجتمع الجديد المزمع بناؤه بعد تقويض أركان الاستعمار. وعلى إثر أشغال مؤتمر وادي الصومام، استبدلت لجان الصلح بلجان العدل التي أصبح من صلاحياتها النظر في كل المنازعات الشخصية والمدنية والجزئية المنشورة بين الأطراف الجزائرية أمام العدالة الاستعمارية التي لم تخف اندهاشها الكبير أمام الإحجام المفاجئ للمتخاصمين( ). وعلى الرغم من أن وثيقة وادي الصومام قد أهملت التركيز على البعد الإسلامي لثورة نوفمبر، فإن قيادات الولايات قد حرصت كل الحرص على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لكل الأحكام التي تصدر باسم الشعب الجزائري.( ) وعندما كانت لجنة العدل تسند إلى مناضل أمي، فإنه يلجأ إلى المتفقهين في الدين يستشيرهم قبل الفصل في القضايا المنشورة أمامه. أما عن الاختصاص المحلي، فإن لكل واحدة من هيئات الثورة لجنتها للعدل التي تنظر في قضايا المواطنين التابعين لها. وتتشكل كل لجنة من رئيس وأربعة أعضاء يشترك جميعهم في دراسة الموضوع المعروض عليهم وفي المداولة حوله، وعندما يتعذر الإجماع يلجأ إلى بعض الشخصيات التي لها إلمام بالقضية فيطلب رأيها على سبيل الاستشارة والتوضيحات الإضافية. وإذا كان الأمر يتعلق بجريمة أو بقضية أحد أطرافها من مناضلي جبهة التحرير الوطني أو أعضاء جيش التحرير الوطني، فإن لجنة العدل تتخلى عن الموضوع( ) وتحوله إلى هيئات قضائية أخرى تسمى المحكمة الثورية. وفي جميع الحالات، فإن تنفيذ الأحكام يخضع لإجراءات مضبوطة ضمن القانون الداخلي لجيش التحرير الوطني. وبالموازاة مع العمل على تنظيم القواعد الشعبية ووضع أسس النظام القضائي، كانت قيادات الثورة في مستوى الولايات تولي أهمية خاصة بإقامة المنشآت الصحية عبر مختلف أنحاء الوطن وتبذل جهوداً جبارة لتقديم أدنى ما يمكن من التعليم لأبناء الريف الجزائري ولتنظيم حملات محو الأمية بالنسبة للكبار. أما في مجال الصحة، فإنها لم تكتف بإعداد مراكز الاستشفاء (المستشفيات) والتخطيط لمواقعها حتى تكون قادرة على تلبية حاجات جيش التحرير الوطني والمواطنين المقيمين بالمناطق المحررة على وجه الخصوص( ) بل إنها زودت المراكز المذكورة بقانون داخلي موحد يحدد شروط القبول فيها ويضبط المقاييس التي يجب أن تتوفر في هيأة المشرفين عليها من أطباء وممرضين وكيفية جلب الأدوية اللازمة وما ينبغي القيام به لضمان أمنها في جميع الحالات. ولقد أدت مراكز الاستشفاء دوراً كبيراً، وليس في معالجة المرضى والجرحى فحسب ولكن كذلك في تكوين الممرضات والممرضين الذين كانوا يختارون من بين الشباب المتعلم قليلاً( )، وعلى الرغم من قلة الأدوية والعتاد الطبي، نظراً للمراقبة الشديدة التي تفرضها سلطات الاستعمار على الصيدليات والمستشفيات التي تشغل جزائريين، فإن المراكز الصحية التابعة لجيش التحرير الوطني كانت تستقبل، للمداواة العاجلة والضرورية، أعداداً كبيرة من المواطنين العاديين. وأما في ميدان التعليم، فإن جيش التحرير الوطني قد نظم بنجاح حملات واسعة النطاق لمحو الأمية في صفوفه( ) قبل أن يشرع في تأسيس المدارس اللازمة لتعليم أبناء الريف، وتمكينهم من الدخول إلى عالم القراءة والكتابة. وكلما كانت الفرصة مواتية كان الأطفال، في سن المراهقة خاصة، يهجرون إلى الحدود الشرقية والغربية حيث الدراسة منتظمة تحت إشراف جبهة التحرير الوطني( ). وإلى جانب كل هذه الأعمال الموجهة إلى تغيير صورة المجتمع الجزائري تغييراً جذرياً، وإلى إرساء قواعد الكفاح المسلح وتزويده بالأرضية الصلبة التي تضمن له النجاح، فإن النشاط العسكري والسياسي قد تضاعف بكيفية لم يعد الاستعمار قادراً على إخفاء نتائجها سواء في داخل الوطن أو في خارجه. فبالنسبة إلى الخارج، استطاعت جبهة التحرير الوطني أن تفرض القضية الجزائرية على الساحة الدولية، خاصة بعد أن احتضنها مؤتمر باندونغ( ) وتعهد السيد شوان لاي بوقوف الصين إلى جانبها حتى يتحقق لها النصر. وفيما يتعلق بالداخل، فإن جيش التحرير الوطني قد ارتفعت أعداده من حوالي 400 مناضل مسلح ليلة الفاتح من نوفمبر إلى حوالي 23000 مجاهد ما بين مسبل وجندي غداة مؤتمر وادي الصومام.

كما أن الأسلحة التي كان أغلبها من بنادق الصيد وبقايا الحرب الإمبريالية الثانية، قد أصبحت تتضمن أكثر من ثلاثة آلاف قطعة حربية وأكثر من عشرة آلاف بندقية صيد. وصارت ميزانية الثورة قريبة من مليار فرنك قديم بينما كانت عشية نوفمبر لا تكاد تذكر. وعلى الرغم من أن الثورة قد تلقت ضربتين قاسيتين في شهر أكتوبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف، تتمثل الأولى في تمكن الجيش الاستعماري من الاستيلاء على الباخرة "أتوس س( ) المقلة لحوالي مائة طن من الأسلحة والذخيرة الحربية كانت في طريقها إلى منطقة الناظور الغربية، وتتعلق الثانية بإجبار طائرة الخطوط الملكية المغربية على النزول بمطار الجزائر وعلى متنها أربعة من أعضاء القيادة التساعية التي تحملت مسؤولية تفجير الثورة، فإن العدو قد تزعزع من أعماقه نتيجة التغيير الكمي والنوعي الذي أدخل على طرائق القتال في مدينة الجزائر وضواحيها وفي سائر كبريات مدن البلاد وقراها. وقد عبرت القيادة المدنية الفرنسية عن عجزها في مواجهة نشاط جبهة التحرير الوطني في المجالين السياسي والعسكري عندما أقدم السيد روبير لاكوست في اليوم السابع من شهر ك2 سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف على استدعاء الجنرال صالان وماسي وأسند لهما مهمة "إعادة الأمن والاستقرار إلى العاصمة"( ). وواجهت قيادة جبهة التحرير الوطني في العاصمة دخول المظليين بقوة إلى المعركة بتنظيم عدد كبير من العمليات الفدائية وبإضراب شامل انطلق في نهاية الأسبوع الرابع من نفس الشهر( ).

إن مختلف المصادر التي بين أيدينا اليوم تركز على العمل الفدائي الذي عرفته العاصمة ولا تعير إلا اهتماماً متواضعاً للعمليات التي أنجزها الفدائي في باقي مدن الجزائر وقراها وذلك على الرغم من أن تلك العمليات كانت في كثير من الأحيان تكاد تكون خيالية. فالإعلام العالمي، عندما لا يكون منحازاً، فإنه يستقي معلوماته من وسائل الإعلام الفرنسي وهذه الأخيرة موجهة للتقليل من أهمية التزايد الذي عرفه الكفاح المسلح مباشرة بعد مؤتمر الصومام ولتعميم الواقع الذي من شأنه أن يظهر للرأي العام العالمي أن قيادات الثورة تبذل جهوداً مكثفة لتطبيق مقررات المؤتمر المذكور. أما الأجهزة الإعلامية التي كانت في حوزة الثورة، فإنها، رغم كل المحاولات، لم ترق إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على الاستجابة للحاجة، وحتى الإعلام العربي الذي كان متعاطفاً مع الثورة بالضرورة، فإنه لم يكن من حيث الإمكانيات المادية والتقنية، قادراً على تأدية الدور الذي يسمح بتقديم العمل الثوري في صورته الحقيقية التي يعمل العدو على إخفائها بكل ما أوتي من قوة( ). وسيظل إضراب الأسبوع، كما اصطلح على تسميته، مادة غزيرة للمؤرخين السياسيين وللمسؤولين الجزائريين الذين عايشوا الحدث أو شاركوا في الإعداد له من قريب أو من بعيد. أما الشهيد العربي بن المهيدي وأنصاره فموقفهم لا غبار عليه. فالإضراب، بالنسبة إليهم، امتحان عسير مطلوب منه تحقيق نتيجتين إيجابيتين مقابل تضحيات جسام لا يمكن تقييمها مسبقاً. فالنتيجة الأولى تتكتل في توسيع الهوة بين جماهير الشعب الجزائري، وقوى الاحتلال الفرنسي وفي هز النفوس المترددة والمتشككة وجعلها تقتنع بأن التضامن الوطني هو الضمان الوحيد لتوفير الشروط اللازمة للقضاء على النظام الاستعماري واسترجاع السيادة الوطنية، وتكمن النتيجة الثانية في تنبيه الرأي العام العالمي إلى أن شعار الجزائر الفرنسية خرافة لم يعد لها وجود بفعل إجماع الجزائريين على طاعة أوامر جبهة التحرير الوطني.

ويرى كبار العسكريين الفرنسيين أن تنظيم الإضراب وتمديده لمدة أسبوع كان خطأ ارتكبته لجنة التنسيق التنفيذية، إذ أن إغلاق المحلات التجارية وبقاء السكان في منازلهم سهل على المصالح الاستعمارية المختصة مهمتها فيما يتعلق بمراقبة تحركات المشبوهين، أعطاها فرصة التدخل السريع للمطاردة ولتطويق الأماكن التي تمركزت فيها القيادات السياسية واللجان الشعبية ومجموعات الفدائيين. ويلح بعض المسؤولين ممن لم يكونوا محبذين للإضراب على أن نظرتهم كانت الصائبة، لأن الكلفة، في حسابهم، كانت أكثر بكثير من الأهداف التي تحققت ومهما اختلفت وجهات النظر وتعددت الأحكام، فإننا نرى *فيما يخصنا، وانطلاقاً من تحليلنا لكل المعطيات والنتائج، أن إضراب الأسبوع كان شبيهاً في أكثر من قطعة بانتفاضة الشمال القسنطيني التي وقعت في اليوم العشرين من شهر آب سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف، ومن ثم وعلى غرار العشرين أوت فهو عملية ناجحة رغم كل ما ترتب عنها من نتائج سلبية ورغم كل ما كلفته من أثمان باهظة في جميع الميادين. لكن الاعتراف بالنجاح لا يمنع أبداً من القول: "إن الإضراب هو الذي أدى إلى استشهاد العربي بن المهيدي وإلى خروج لجنة التنسيق والتنفيذ من التراب الوطني وبذلك وضعت نفسها أمام امتحان عسير يتعلق بممارسة مبدأ أولوية الداخل على الخارج خاصة. لقد كانت قيادة مؤتمر وادي الصومام، عندما أبرزت المبدأ المذكور، تهدف إلى استعماله قصد إبعاد مندوبية الخارج عن السلطة وجعلها مجرد مصلحة من جملة مصالح أخرى كثيرة وذلك على الرغم من أن المبدأ في حد ذاته مصيب لأن القيادة الحقيقية للثورة إنما هي تلك التي تكون على اتصال دائم بالقوات المقاتلة، ومن الصعب جداً أن تخضع إلى خارج الولايات، تقود كفاحاً يحتاج إلى أوامر يومية تتوقف نجاعتها على مدى معرفة الميدان معطياته. لكن عبان رمضان الذي لم يكن يخفي عليه ذلك أراد توظيف المنطق والفعالية لتحقيق شيء في نفسه يمكن أن نسميه اليوم حب المسؤولية أو حسابات الماضي. فالشهيد العربي بن المهيدي، من بين أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، هو الوحيد الذي ظل وفياً للمبادئ التي صادق عليها المؤتمر عندما رفض الخروج وصرح في آخر اجتماع عقدته اللجنة بتاريخ 15/2/1957 أنه "يفضل الموت في ساحة المعركة( ) حتى يكون وقوداً جيداً وكافياً لثورة لن تتوقف حتى تسترجع الجزائر سيادتها. أما في الخارج، ومن غياهب السجن، فإن السيدين، بن بلة وبوضياف قد عبرا عن تضامنهما مع ابن المهيدي الذي أُلقي عليه القبض يوم 23 فيفري وأعدم في ظروف أحاط بها كثير من الغموض( ). ويعتبر خروج لجنة التنسيق والتنفيذ تجسيداً للهزيمة التي منيت بها جبهة التحرير الوطني في مدينة العاصمة وذلك على الرغم من كل العمليات العسكرية التي نفذت خلال الأشهر الستة جاءت بعد انعقاد مؤتمر وادي الصومام. وبمجرد الالتحاق بالعاصمة التونسية اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ لتقييم المرحلة المقطوعة، لكن السيد بلقاسم كريم الذي كان من المقررين الأساسيين في وادي الصومام أبدى رغبة ملحة في التخلي عن المبادئ الرئيسية، وراح يلوح بضرورة إسناد القيادة للمسؤولين التاريخيين علماً بأنه الوحيد، من بينهم الذي ظل طليقاً وعلى قيد الحياة( )، كما أنه رفع شعار التصالح مع رفاق الدرب المعتقلين لسد الطريق أمام المركزيين المعتدلين ولتمكين العسكريين من شغل مناصب الحل والربط في أجهزة الثورة. وإذا كان السيدان دحلب وابن خدة لم يظهرا معارضتهما للأفكار الجديدة التي جاء بها السيد كريم بلقاسم، فإن عبان رمضان قد بذل كل ما في وسعه للتصدي لها، لكن الظروف تغيرت، فلم يعد هو الآمر الناهي، ولم يعد كريم هو ذلك المنبهر أمام شخصيته الفذة، وتبين أن حساباته التي جعلته يختار ابن خدة ودحلب لعضوية اللجنة كانت خاطئة. كل ذلك سوف يكون له بالغ الأثر على مسيرة الثورة وسوف يكون عبان أول من يدفع ثمن سوء التقدير. الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية: رغم كل الخلافات التي بدأت تلوح في الآفاق، فإن أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ قد أنهوا اجتماعهم المشار إليه أعلاه بالتصديق على ورقة عمل تضمنت تقييماً مفصلاً وموضوعياً للمراحل التي قطعتها الثورة، ومجموعة من الاقتراحات العلمية التي من شأنها أن تكون أساساً لبرنامج العمل المستقبلي الذي سوف يصدر عن الهيئة العليا للثورة في دورتها االرسمية الأولى التي تقرر، بعد استشارات واسعة، عقدها بمدينة القاهرة في الفترة من 20 إلى 27 أوت سنة سبع وخمسين وتسعمئة وألف( ). ولقد كانت الدورة، بالفعل منعرجاً خطيراً في تاريخ ثورة نوفمبر، وكان من الممكن أن يتحول اللقاء إلى مأساة دموية، لكن الروح الوطنية تغلبت في النهاية، وتوصل المشاركون إلى مجموعة من الحلول الوسطى التي ساعدت على تجاوز الحساسيات الشخصية وأوجدت السبيل لتواصل الكفاح المسلح مع الحفاظ على مظهر القيادة ووحدة التوجه رغم كل ما وقع من مشادات ونزاعات واختلافات تجاوزت حد اللياقة في كثير من الأحيان. وإذا كان المجلس الوطني قد اختار بعد نقاش عدم تأييد السيد كريم بالنسبة لطرحه المتعلق بضرورة إسناد مسؤولية الثورة لأقدم العناصر القيادية، وفضل مواصلة السير طبقاً لأسلوب العمل الذي دشنه السيد عبان أثناء مؤتمر وادي الصومام عندما فتح أبواب المسؤولية إطارات متشبعة بإيديولوجية غير التي وضعها نجم شمال إفريقيا، فإنه قد أبدى كثيراً من المرونة عندما تعلق الأمر بمراجعة مبدأي أولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري. هكذا، قرر المجلس الوطني وتوسيع نفسه بحيث انتقل عدد أعضائه من أربعة وثلاثين إلى أربعة وخمسين، وقرر كذلك رفع عدد أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ إلى أربعة عشر. وفي الحالتين لم يبق التعيين مقصوراً على العناصر الملتزمة في صفوف حزب الشعب الجزائري وما تفرع عنه بعد الحرب الإمبريالية الثانية. وعلى سبيل المثال، تجدر الإشارة إلى لجنة التنسيق تضمنت السيدين فرحات عباس ومحمود شريف( ) وهما من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. إن الانفتاح على العناصر القيادية الوافدة من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ومن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كان إجراء طبيعياً ومنطقياً في ذات الوقت رغم أنه كان مرفوضاً بدرجات متفاوتة من معظم إطارات حركة الانتصار للحريات الديمقراطية. أما الصفة الطبيعية للإجراء فمتأتية من كون جبهة التحرير الوطني حركة سياسية مسلحة تهدف أساساً إلى تقويض أركان الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ولذلك فهي في حاجة إلى جميع الطاقات الحية بدون استثناء، وليس من المعقول أبداً أن توصد أبواب النضال بجميع أنواعه في وجه المتطوعين له. ولو لم تفعل لتركت *مفتوحة لأبواب المناورات الدنيئة للسلطات الاستعمارية التي كانت تستطيع توظيف الأبواب المغلقة لإنشاء حركات تتناحر فيما بينها وتسهل مهمة العدو الرامية إلى خنق أنفاس الثورة.

وأما منطقية الإجراء فمتأتية من كون الإيديولوجية كلها كانت ترمي إلى تغيير وضع المجتمع الجزائري في اتجاه الأفضل. فالاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري كان يهدف إلى تحقيق المساواة في المواطنة بين الفرنسيين والجزائريين معتقداً أن النضال السياسي وحده يكفي للوصول إلى تلك الغاية، ومع مر السنين ثبت لقيادات الحزب والمناضلين الواعين أن الكولون لن يسمحوا للإنسان الجزائري بالانعتاق من عبودية الاستعمار وما يترتب عليها من أنواع الاستغلال والعسف والاضطهاد، لأجل ذلك فإنهم غيروا قناعتهم وصاروا يؤمنون بتمايز الشعب الجزائري وبضرورة إقامة دولته ((المتعاونة مع فرنسا لاالتابعة لها أو المنفصلة عنها. وبالمؤازرة مع تغيير القناعات ظهرت محاولات متعددة لتطوير مشروع المجتمع وتغيير أسلوب النضال، وتواصلت إلى أن وجد الاتحاد نفسه مندمجاً في جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. إذن، وانطلاقاً مما سبق، يجب التأكيد على أن تغييراً نوعياً قد تجسد على الميدان خلال تلك الدورة الأولى التي عقدها المجلس الوطني للثورة الجزائرية مستهدفاً المنطلقات الأيديولوجية بحيث لم يعد يشترط الانتماء العضوي لحزب الشعب الجزائري والتشبع المطلق بأيديولوجيته للتمكن من ممارسة المهام القيادية العليا. وفيما يتعلق بأولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج، فإن المجلس الوطني قد ألغى قرار مؤتمر وادي الصومام وأكد في لائحته النهائية أن الأولوية لا تكون إلا حيث الفعالية وحيث مصلحة الثورة. وفي الحقيقة، فإن هذا التأكيد لم يكن إلا شكلياً، ولأن الواقع لم يكن كذلك بالنسبة للنقطتين على حد سواء. ففيما يخص النقطة الأولى، تجدر الإشارة إلى أن السلطة كلها قد انتقلت إلى القادة العسكريين الذين بدأوا يجنحون إلى الاستبداد رغم معارضة عبان الذي أصبح شبه وحيد نظراً لسكوت من كانوا يسمون بالسياسيين الذين رضوا بدور المنفذ. وقد كان الفرنسيون يدعون هؤلاء العسكريين: "الباءات الثلاث وهم يعنون: بلقاسم كريم، وبن طوبال لخضر وبالصوف عبد الحفيظ( ). وفيما يخص النقطة الثانية، وباستثناء العلاقات مع الخارج، فإن الداخل كان مستقلاً وسيظل كذلك إلى غاية وقف إطلاق النار. من حرب العصابات إلى حرب الواقع: لقد كان اندلاع الثورة ليلة الفاتح نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف تطبيقاً ميدانياً للمبدأ القائل بضرورة استعمال الكفاح المسلح من أجل استرجاع الاستقلال الوطني، لأجل ذلك، فإن جل مناضلي حركة الانتصار للحريات الديمقراطية هللوا للشرارة الأولى قبل أن تبدأ المشادات الكلامية ثم الصراعات الدموية من انتصار الزعيم مصالي ومناضلي الوليد الجديد: جبهة التحرير الوطني( ). وإذا كانت الفترة الممتدة إلى نهاية شهر أوت سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف قد امتازت بممارسة حرب العصابات ضد العدو بالمؤازرات مع التركيز على توعية الجماهير الشعبية وتنظيمها في إطار مواجهة عمليات التمشيط الواسعة التي كانت القوات الاستعمارية تقوم بها من أجل السيطرة على جبال وغابات المناطق الأولى والثانية والثالثة وافتكاكها من جيش التحرير الوطني الذي تمكن خلال وقت قصير جداً من تجنيد جموع غفيرة من الشباب المؤمن بقضية التحرير المستعد للاستشهاد من أجلها، وإذا كان مؤتمر وادي الصومام قد قرر تنشيط العمل الفدائي في المدن والقرى من أجل تعميم حالة الحرب وتخفيف الضغط على المجاهدين في الجبال، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته الأولى المنعقدة بالقاهرة، قد ثبت قرار المؤتمرين في وادي الصومام وأيده بقرار آخر يدعو إلى تجاوز حرب العصابات من أجل تحويل كبير من جيش التحرير الوطني مفهوم الولايات من جهة، ولتوفير الظروف الملائمة لإنجاز "ديان بيان فو " جزائرية من جهة ثانية.

إن اتخاد هذا القرار يرجع في أساسه إلى تأثر بعض أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ( ) بأدبيات كل من ماوتسي تونغ وتروتسكي، لكنه لم يأخذ في الاعتبار الواقع الجزائري الذي كان، يوماً، يختلف كلية عن الواقع الصيني أو الهند الصينية إذ، رغم الانتصارات العديدة التي أحرزها جيش التحرير الوطني، ورغم سيطرته، ليلاً خاصة على مناطق عديدة، ورغم المساندة الشعبية التي كان يحظى بها، فإن جبهة التحرير الوطني لم تتمكن، إلى غاية ذلك التاريخ، من تحرير مناطق يمكن الاحتفاظ بها لتكوين منطلقات لوحدات أكبر من الفيالق( )، لأجل ذلك، فإن القرار ظل حبراً على ورق سوف لن تتزود الثورة الجزائرية بفرقتها العسكرية المتخصصة ولن تفرض على فرنسا ديان بيان فو ثانية. وفي إطار نفس التوجه الخاص بالعمل من أجل تجاوز مفهوم الولايات، قرّر المجلس الوطني للثورة الجزائرية ضرورة الإسراع بإنشاء قيادة موحدة لجيش التحرير الوطني، لكن تنفيذ هذا القرار تعثر في بداية الأمر نتيجة الصراع الذي صاحب خروج لجنة التنسيق والتنفيذ من الجزائر والذي قام في أساسه بين السيدين بلقاسم كريم وعبان رمضان( ). وبعد التخلص من هذا الأخير( ) ظهرت إلى الوجود، في شهر أفريل سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، لجنة التنظيم العسكري مقسمة إلى فرعين لكن بدون رأس موحد في الظاهر على الأقل( ). أما الفرع الأول فيترأسه العقيد هواري بومدين( ) ومقره الحدود الجزائرية التونسية التي تتخذ منطلقاً للإشراف على الكفاح المسلح في شرقي البلاد الذي يشمل في هذه الحالة، الولايات الأولى والثانية والثالثة.( ) وبمجرد التنصيب وانطلاق العمل، تمكن العقيد هواري بومدين من تنظيم الفرع الذي أسندت إليه مسؤوليته، تنظيماً عصرياً تميز، في ذلك الوقت، بالدقة في التخطيط والانضباط في ممارسة النشاط العسكري، واستطاع، في ظرف قصير، أن يثبت ويطور أجهزة الاستعلامات والإمدادات التي أنشأها سلفه ومعلمه العقيد عبد الحفيظ بو الصوف، وتجاوز بدون كثير عناء مسألة الأشخاص إذ عرف كيف يختار محيطه الضيق ويفرض جو الأخوة والتعاون بين الجميع بما في ذلك النائب الذي كان يراهن عليه السيد بلقاسم كريم للسيطرة على غربي البلاد. لكن العقيد محمدي السعيد لم يحالفه النجاح في تأدية مهمته إذ وجد صعوبة جمة في إقناع نوابه بمسؤوليته عليهم، ولذلك راح كل واحد منهم يعمل مستقلاً ومباشرة مع الولاية التي جاء منها أو كان يشرف عليها( ) ومع واحد وأكثر من الباءات الثلاث الذين سبقت الإشارة إليهم. وبالتدريج تأزم الوضع في الحدود الشرقية وبدأ المرض يسري إلى هيئات الثورة بداخل الوطن وخاصة منه الولاية الأولى والقاعدة الشرقية. وأمام هذا التطور الخطير اجتمعت لجنة التنسيق والتنفيذ في اليوم التاسع من شهر سبتمبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، فأقرت عجز القائد ونوابه وقررت ضد كل واحد منهم عقوبات مختلفة( ). وفي نفس الاجتماع، أطلعت لجنة التنسيق والتنفيذ على التقارير المقدمة من طرف أعضاء اللجنة( ) التي كانت عينتها لدراسة إمكانية إنشاء حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية. وبدلاً من استدعاء المجلس الوطني للاجتماع بصفته الهيئة العليا للثورة الجزائرية التي يحق لها اتخاذ القرار، في مثل هذه الحالات، لجأ السادة: بلقاسم كريم ولخضر بن طبال وعبد الحفيظ بوصوف إلى القيام بأول انقلاب عسكري وأعلنوا عن تكون حكومة برئاسة السيد فرحات عباس على أن يظلوا هم السلطة المرجعية الوحيدة التي بيدها الحل والربط( ). ولقد كان الانقلاب هروباً إلى الأمام لأن الباءات الثلاث -على حد التعبير الفرنسي- كانوا متأكدين أن أغلبية أعضاء المجلس الوطني أصبحوا مقتنعين بعدم قدرتهم على تسيير شؤون الثورة الجزائرية. وتسربت معلومات مفادها أن قادة الداخل عازمون على إبعادهم واستبدالهم بمن هم أكثر منهم كفاءة. وكانت الأنظار قد بدأت تتجه إلى العقيدين محمد لعموري ومصطفى لكحل اللذين كانا، منذ مدة، يحذران من الانحراف ويطالبان بعدم الابتعاد عن الخط الإيديولوجي كما ورد تحديده في بيان الفاتح من نوفمبر. ويبدو أن هذه الدعوة التي رفع لواءها العقيدان محمد ومصطفى قد وجدت أنصاراً كثيرين من بين إطارات جميع الولايات، ويبدو كذلك أن اتصالات أولية مباشرة قد وقعت مع الداخل وعلى أثرها عاد لعموري من منفاه خفية ليترأس في منطقة الكاف( ) اجتماعاً سرياً انعقد بتاريخ 16/11/1958 ويشارك فيه عدد كبير من إطارات الثورة العسكرية والسياسية من أجل إطاحة الحكومة المؤقتة وإعادة تأهيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية وتطهيره من العناصر التي دبرت الانقلاب أو شاركت فيه من قريب أو بعيد، وكان من الممكن أن تنجح المبادرة لو لم يتفطن. الباءات الثلاث إلى اللجوء إلى السلطات التونسية وإلى الضباط الجزائريين القادمين من الجيش الاستعماري عبر ألمانيا وإيطاليا. أما الحكومة التونسية فقد أوهموها بأن قادة الداخل إذ يدعون إلى الالتزام بنداء أول نوفمبر، فإنهم يهدفون إلى جر تونس والمغرب الأقصى إلى إعلان الحرب على فرنسا وعدم القبول بإيقافها إلا عندما يسترجع شمال إفريقيا سيادته التي تكون منطلقاً لوحدته في إطار المبادئ العربية الإسلامية. وأحيط الرئيس بورقيبة علماً بأن أنصار صالح بن يوسف وراء الاجتماع المنعقد بالكاف، وأن إطارات سامية من بينهم متواجدة بالقاعة. وأما الضباط الجزائريون القادمون من الجيش الفرنسي( ) فقد أقنعوهم بأن الحركة تستهدفهم لأن ضباط جيش التحرير الوطني يرفضون تواجدهم على الحدود الجزائرية التونسية ويعتبرونهم عيوناً تعمل لفائدة الجيش الاستعماري. بعض هؤلاء الضباط اشتغل في صفوف الجيش الفرنسي ضد جيش التحرير الوطني داخل الجزائر في السنوات الأولى للثورة، وبعضهم ظل في فرنسا أو في ألمانيا داخل الثكنات، وقد التحقوا بالحدود الجزائرية الشرقية والغربية عن طريق اتحادية جبهة التحرير الوطني بأوربا في فترات متتالية ابتداءاً من سنة 1957. وكان يمكن أن يشكلوا دعماً كبيراً لقدرة الولايات العسكرية لكنهم لم يدخلوا إلى التراب الوطني سوى بعد وقف إطلاق النار، الأمر الذي جعل أبناء جيش التحرير الوطني يستاؤون ويطالبون بتسريحهم غير أن العقيد هواري بومدين كان متمسكاً بهم، وبدأ الصراع بين الطرفين محتداً خاصة ابتداءً من المؤتمر التأسيسي لحزب جبهة التحرير الوطني المنعقد في الفترة ما بين 16 و 21 أفريل سنة 1964. وتجدر الإشارة إلى أن دعم بو مدين لهم قد مكنهم بالتدريج من السيطرة على الجيش. ويعتبر العقيد الشاب محمد شعباني أول ضحايا ذلك الصراع( ). فبهذه الكيفية تمكن الباءات الثلاث من تعبئة الضباط من غير أبناء جيش التحرير الوطني، ومن جعل الجيش التونسي يتحرك بقوة في اتجاه مكان الاجتماع، ولأن المجتمعين لم يكن لهم أي حساب مع الحكومة التونسية، فإنهم انخدعوا وبسهولة استسلموا للأسر. ولما علم أن تسلمت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مجموع المتمردين أقامت لهم محكمة أصدرت على عجل أحكاماً مختلفة ضدهم( ). ومن الجدير بالذكر أن المحاكمة كانت صورية فقط. وفي الواقع فإن الأمر يتعلق باغتيالات جماعية استهدفت مجموعة من خيرة إطارات الثورة قصد الاستجابة لطموحات شخصية( )، تماماً مثل ما وقع قبل ذلك بحوالي سنة عندما أعدم عبان رمضان بدون محاكمة. ومما لا شك فيه أن العمليتين كانتا انحرافاً أيديولوجياً خطيراً سوف يكون له تأثيره البالغ على مسار الثورة في الخارج لأنه سيدخلها عالم الإرهاب وانعدام الثقة. التخطيط للعمل السياسي: إن أشغال الدورة الأولى للمجلس الوطني لم تتوقف عند قضايا التسيير والمسؤولية، لكنها امتدت لتشمل كافة الموضوعات الأساسية التي تؤثر مباشرة على مصير الثورة وقد سعى المشاركون في الدورة لتعطي الأولوية في التنفيذ لكل ما من شأنه أن يدعم صفوف الثورة وطنياً، ويخدم العلاقات المغاربية ويثبت جبهة التحرير الوطني على الساحة الدولية وخاصة في حظيرة الأمم المتحدة. فبالنسبة للعلاقات المغاربية، لاحظت الدورة أنها أصبحت تشكو نوعاً من الفتور، خاصة بعد أن استرجعت كل من تونس والمغرب الأقصى استقلالها، وانتهت، بعد مناقشات واسعة وثرية، إلى أن قرار وادي الصومام في هذا الشأن، وهو تجسيد لما جاء في بيان أول نوفمبر، قد ظل حبراً على ورق نتيجة عدم وجود التجارب لدى الشقيقين المستقلين حديثاً. لقد كان وادي الصومام قد دعا إلى تنسيق العمل السياسي وإنشاء لجنة للتنسيق تشارك فيها جميع الأحزاب الوطنية التونسية والمغربية إلى جانب جبهة التحرير الوطني وذلك من أجل إنشاء لجان شعبية تساند الثورة الجزائرية، وإيجاد سبل التضامن والتوحيد بين المنظمات الجماهيرية والنخبوية في الأقطار الثلاثة( ) لكن مشاغل المغرب الأقصى وتونس قد تغيرت وأصبح البلدان يعملان على توطيد سيادتهما في إطار الحدود التي وضعها الاستعمار. ومما لا شك فيه أن، انحرافاً عن البرنامج الأساسي الذي كان يدعو إلى استمرار الكفاح المسلح حتى يتمكن شمال إفريقيا بأكمله من استرجاع سيادته وطرد المغتصب من أراضيه( ). أما عن دعم الصف الوطني فلا بد من الذكر بأن الفلاحين الجزائريين هم أول من تحمل عبئ الثورة وشكل عمودها الفقري، وذلك طبيعي عندما نعرف أن سكان الريف في الجزائر كانوا، قبل عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، يمثلون أكثر من ثلثي الشعب، وعندما قرر مؤتمر وادي الصومام تكثيف العمل الفدائي في الحواضر( ) أصدر في ذات الوقت، توجيهات واضحة للاهتمام بتنظيم القوى الوطنية الحية، قصد تمكينها من الارتباط، عضوياً بجبهة التحرير الوطني وجعل المدن تقوم بدورها الحقيقي في معركة التحرير، وكانت فئات العمل والتجار والطلبة في طليعة من حظي بعناية القيادة السياسية التي تمكنت، في وقت قصير جداً، من إبراز تنظيماتها الوطنية وتزويدها بالعناصر المناضلة القادرة على تنشيطها في جميع المجالات، وتوظيفها، عقلانياً، لخدمة الكفاح المسلح. ففيما يخص العمال الجزائريين الذين كانوا ينشطون نقابياً في مختلف المنظمات الفرنسية( ). فإن جبهة التحرير الوطني قد توصلت( ) بعد دراسات ومشاورات، إلى تقديم ملف قانوني كامل تم، بموجبه، إنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين في اليوم الرابع والعشرين من شهر فيفري شباط سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف وعينت أميناً عاماً له السيد عيسات إيدير( ) ثم رصدت له الميزانية اللازمة للإنطلاقة بالكيفية التي تمكن من مغالبة وإلغاء منافسيه: الاتحاد النقابي للعمال الجزائريين( ) والاتحاد العام للنقابات الجزائرية( ). وبالفعل، استطاع الاتحاد العام للعمال الجزائريين أن تقطع خطوات جبارة في مجالي التجنيد والعلاقات مع المنظمات المماثلة العاملة خاصة في البلدان الغربية، وبذلك أصبح قادراً على تعبئة الجماهير الشعبية لتلبية نداء جبهة التحرير الوطني كما كان الأمر بالنسبة لإضراب الأسبوع الذي سبقت الإشارة إليه، وسهلت أمامه مهمة النفاذ إلى الأوساط النقابية الدولية التي لم تعد تخفي تعاطفها مع الثورة الجزائرية. وبالتدريج، صار الاتحاد يضع الكفاح التحريري في مقدمة نشاطه ويعلن في جميع المناسبات أن أهدافه هي نفس أهداف جبهة التحرير الوطني وهي تتمثل في العمل بجميع الوسائل من أجل تقويض أركان الاستعمار حتى يتسنى للعمال الجزائريين أن يمارسوا الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية( ). غير أن وضع الكفاح التحريري في مقدمة الإنشغالات لم يصرف المركزية النقابية الجزائرية عن تأدية مهامها الأساسية في الدفاع عن حقوق العمال وحماية مصالحهم وفي التخطيط للمستقبل بواسطة تكوين الإطارات( ) إعداد الدراسات التقنية الكفيلة بترقية الاقتصاد الجزائري وتنميته بعد استرجاع السيادة الوطنية( ). وأمام هذا النشاط المتزايد لجأت السلطات الاستعمارية إلى اعتقال آلاف المناضلين والإطارات النقابية قبل أن تعمد إلى إصدار قرار بحل الاتحاد رسمياً بحجة ارتباطه بحزب سياسي، وردت الأمانة العامة للاتحاد على هذا الإجراء التعسفي مؤكدة أن جبهة التحرير الوطني "ليست حزباً، ولكنها تجمع وطني يضم كل القوى الحية في البلاد. وفي جبهة التحرير الوطني تنصهر كل النزاعات السياسية والاجتماعية في سبيل تحقيق التحرير السياسي والاقتصادي والاجتماعي"( ). وبالإضافة إلى ذلك استشهدت باللائحة الخامسة والثلاثين الصادرة عن الندوة العالمية للشغل التي تنص على أن "الهدف الأساسي والدائم لكل حركة نقابية هو تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي لفائدة العمال، ولبلوغ ذلك، تستطيع النقابات، وفقاً للقوانين الجاري بها العمل، إقامة علاقات مع الأحزاب السياسية"( ). وبالدخول إلى السرية، تضاعف نشاط الاتحاد العام للعمال الجزائريين في سبيل تجسيد برامج جبهة التحرير الوطني ولم تلبث صفوفه أن تعززت بانضمام أغلبية أعضاء بفرنسا في اليوم الثالث عشر من شهر مارس سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، وصرح أمينه العام المساعد قائلاً: "أن هذا القرار قد جاء نتيجة اقتناعنا بأنه "لا يمكن أن يوجد سوى تمثيل واحد للعمال الجزائريين"( ). أما الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي تأسس في الفصل الأخير من السنة الأولى للثورة( )، فإن نشاطه الفعلي لم يظهر إلاّ في مستهل السنة الثانية بعدما وقع اعتقال الطالبين الشهيدين: بلقاسم زدور وعمارة رشد. فعلى إثر ذينك الاعتقالين اللذين وقعا في وقت واحد تقريباً( ) لكن في مدينتي وهران بالنسبة للأول والجزائر بالنسبة للثاني، أصدر الاتحاد منشوراً يندد فيه بأعمال القمع التي تمارسها السلطات الاستعمارية ويطالب بالمصالح الفرنسية المعينة باحترام للإجراءات القانونية خاصة فيما يتعلق بمدة الحبس الاحتياطي الذي لا ينبغي أن تفوق ثمان وأربعين ساعة بمحلات الشرطة، ويندد بعمليات التعذيب الجسماني التي يتعرض لها السجناء الجزائريون( ). وكان المنشور كافياً ليثير رد فعل الغلاة من قادة الاتحاد الوطني للطلبة الفرنسيين وفي مقدمتهم السيد جاك لابورت الذي صرح بأن موقف الهيئات القيادية للطلبة المسلمين الجزائريين يعتبر فعلاً سياسي ومن ثم فهو عبارة عن ممارسة غير شرعية ومبادرة من شأنها تشجيع الخارجين عن القانون والمعتدين على العدالة الفرنسية. لكن الاتحاد، منذ تأسيسه، لم يخف توجهاته الوطنية والتزامه بالعمل من أجل تحقيق أهداف الثورة بقيادة جبهة التحرير الوطني حتى أن رئيسه( ) صرح رسمياً قائلاً: "فإذا كان المقصود بالمتمردين والخارجين عن القانون هم أولئك الرجال الذين يطالبون بحريتهم وهم لا يطالبون بها مسلحين إلا لأن كل الأبواب الأخرى قد سدت أمامهم، ويكافحون في سبيل كرامتهم وحقهم في الوجود وخارجون عن القانون"( ). وفي شهر أفريل سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف عقد الاتحاد مؤتمره الثاني في باريس واعتمد نداء الفاتح من نوفمبر لصياغة وثائقه النهائية، وقد جاء في لائحته السياسية: "أن كفاح الشعب الجزائري لا يمكن أن ينتهي بغير استرجاع السيادة الوطنية، وعليه فإن الطلبة المسلمين الجزائريين يلحون على المطالبة بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد والشرعي للشعب الجزائري"( ). وفي أثناء دورته الأولى المنعقدة بالقاهرة، درس المجلس الوطني للثورة الجزائرية مسألة الإضراب اللامحدود، ولما أجمع الأعضاء على أنه أدى المهمة المنتظرة منه، فإنهم قرروا آمر اللجنة المديرة للاتحاد بأن تضع له حداً لمهمة افتتاح السنة الدراسية 57/58( )، وقد تم ذلك بالفعل على إثر الاجتماع الذي عقد بباريس في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف. ثم جاءت الخطوة الحاسمة في نهاية نفس السنة إذ عقد الاتحاد مؤتمره الثالث بضواحي باريس في الفترة ما بين الثالث والعشرين والثامن والعشرين من شهر ديسمبر، وصادق بالإجماع على اللائحات السياسية العامة التي لفت فيها انتباه الرأي العام الفرنسي والعالمي إلى ضرورة الضغط على الحكومة الفرنسية كي تحترم مبدأ الحق الطبيعي للشعوب في الاستقلال، وبالإضافة إلى ذلك أكد ما جاء في مقررات المؤتمر الثاني المشار إليها أعلاه( ). وتجدر الاشارة، هنا، إلى أن المؤتمر نجح نجاحاً باهراً إذ حضر جلسته الختامية مندوبو اتحادات طلابية غفيرة إلى جانب ممثلي الاتحاد العالمي للطلبة والاتحاد العام لطلبة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تدخل هذان الأخيران بكلمتين قويتين كلفتهما الاستنطاق والطرد من التراب الفرنسي( ). وبعد شهر واحد من انتهاء أشغال المؤتمر ونشر نتائجها، أصدرت الحكومة الفرنسية قراراً يحمل تاريخ الثامن والعشرين من شهر جانفي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف ويقضي بحل الاتحاد بحجة انتمائه لجبهة التحرير الوطني، وبذلك دخل التنظيم الطلابي الجزائري مرحلة السرية إلى جانب باقي المنظمات الجماهيرية العاملة في صفوف الثورة، ويستعمل جميع الوسائل لتجسيد أيديولوجيتها على أرض الواقع. وإذا كان التنظيمان العمالي والطلابي قد وقعت هيكلتها قبل مؤتمر وادي الصومام، فإن الاتحاد العام للتجار الجزائريين لم يتأسس إلا بعد أن رجعت لجنة التنسيق والتنفيذ إلى العاصمة. وقد انعقد مؤتمر الأول يومي الثالث عشر والرابع عشر من شهر سبتمبر سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف، وقام بدور أساسي في إنجاح إضراب الأسبوع المسطور أعلاه. قبل ذلك، وبأمر من قيادة الثورة، أعلن الاتحاد عن إضراب تجريبي بمناسبة الذكرى الثانية لانطلاق الكفاح المسلح، ولقد استجاب التجار الجزائريون بالإجماع للإعلان المذكور مما جعل السلطات الاستعمارية ترد بعنف كبير فتأمر بإغلاق المتاجر( ) ولمدد تتراوح ما بين شهر وشهرين وتلقي القبض على عشرة من القيادة المنتخبة حديثاً( ) وتزج بهم في محتشد البرواقية( ) وفي نهاية شهر نوفمبر من نفس السنة شارك الاتحاد، بمدينة طرابلس، في أشغال المؤتمر السادس لغرف التجارة والصناعة والفلاحة عن البلدان العربية( ) وقدم بالمناسبة، عرضاً وافياً عن الإمكانيات الاقتصادية التي تتوفر عليها الجزائر، ومنذ ذلك التاريخ دخل السرية هو أيضاً وراح يعمل بكل ما في وسعه على تعبئة عالم التجارة إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني.

ولم يكتف المغرب الأقصى وتونس بالتوقف عن الكفاح وقبول الحل الفرنسي تاركين جبهة التحرير الوطني وحدها في الميدان، بل إن السلطات الرسمية، في كل من البلدان قد أصبحت، خوفاً من فرنسا، تشد الخناق على الثورة الجزائرية فتعترض سبيل الإمدادات الواردة إليها من مختلف أنحاء العالم وتحاول، بشتى الوسائل، التدخل في شؤون جيش التحرير الوطني المقيم على حدودها، وفي كثير من الأحيان تتحول تلك المحاولات إلى معارك دامية بين الأشقاء. من هذا المنطلق قررت الدورة تكثيف الاتصال بسلطات البلدان وحددت لذلك مجموعة من الأهداف تندرج كلها في إطار التوجه الوحدوي كما جاء التنصيص عليه في بيان الفاتح من نوفمبر( )، وفي مقدمة هذه الأهداف يأتي ما يلي: 1- فتح مفاوضات عسكرية لتسوية أوضاع الأسرى من جميع الأطراف ثم التعرض لنقاط الخلاف والعمل على إزالتها. وفي هذا السياق وقعت في تونس لقاءات متعددة بين ممثلين عن جبهة التحرير الوطني وممثلين عن الجيش التونسي ولقاءات أخرى مماثلة في المغرب الأقصى. وعلى الرغم من أن تلك اللقاءات قد ساعدت على تلطيف الأجواء وحل بعض المشاكل الثانوية إلا أن التحفظات ظلت قائمة ولم تتمكن الأطراف المتفاوضة من تجاوز عقد الإقليمية التي غرستها فيهم سلطات الاستعمار، ولم تتوقف القوات التونسية والقوات المغربية، كل واحدة على حدودها، عن مهاجمة مراكز جيش التحرير الوطني الجزائري وحجز كميات كبيرة من الأسلحة الموجهة إليه عن طريق البحر، ولم تنج حتى المؤن والأغطية والملابس والأدوية المخصصة للاجئين. 2- العمل على إعادة إحياء الاتفاق المبرم بتاريخ الواحد والعشرين من شهر جانفي سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف بين جيش تحرير المغرب وجيش التحرير الوطني الجزائري والذي مفاده أن الطرفين لن يتوقفا عن الكفاح المسلح حتى يسترجع المغرب العربي كله استقلاله التام. ويؤكد الاتفاق أن قضية شمال إفريقيا قضية شعب واحد "غلب على أمره على يد مستعمر واحد في ظروف واحدة ولو اختلف التاريخ"( ). 3- العمل بجميع الوسائل على تحميس الشعب العربي في كل من تونس والمغرب الأقصى حتى يستمر في ضغطه على السلطات الرسمية من أجل إبقائها ملتزمة بمساندة الكفاح المسلح في الجزائر وعدم الرضوخ للتهديدات الصادرة عن الحكومة الفرنسية. 4- العمل على إقناع الطرفين المغربي والتونسي بسلامة موقف جبهة التحرير الوطني الذي يطرح الاعتراف بالاستقلال شرطاً مسبقاً للدخول في أي تفاوض مع السلطات الاستعمارية. 5- تشجيع المغرب وتونس على مواصلة العمل، الدولي من أجل بلورة الحل المغاربي للقضية الجزائرية وذلك في إطار التوصية التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 11/12/1957( ). أما بالنسبة للعلاقات الخارجية، وفي إطار تدويل القضية الجزائرية كما جاء ذلك في بيان الفاتح من نوفمبر، لاحظت الدورة الأولى للمجلس الوطني أن فرنسا لم تغير سياستها التي تجعل الجزائر مجموعة من العملات الفرنسية لا يحق لأي تنظيم خارجي، بما في ذلك الأمم المتحدة، أن تتدخل في شؤونها. وعلى الرغم من المناورات الديبلوماسية الهادفة إلى تخدير الرأي العام العالمي بواسطة إبداء الاستعدادات الوهمية للتفاوض مع ممثلي جبهة التحرير الوطني( )، فإن الحكومة الفرنسية لم تقطع أية خطوة من شأنها التدليل على نيتها في التوصل إلى حل يأخذ في الاعتبار طموحات الشعب الجزائري في استرجاع استقلاله، لأجل ذلك، أصدرت الدورة لائحة تدعو، من خلالها، إلى تكثيف النشاط الخارجي الذي أوصت بأن يكون في اتجاهات ثلاثة: 1- في اتجاه الأمم المتحدة: لقد أثبت مجلس الأمن أنه قادر على التدخل لتسوية القضايا المعقدة عندما وضع حداً للاحتلال الهولندي في أندونيسيا سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف. لكن فيما يخص الجزائر، فإن فرنسا تملك حق الفيتو، وعليه فإن جبهة التحرير الوطني مضطرة للتركيز على الجمعية العامة معتمد على نص المادة العاشرة من ميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد المسطور في الميثاق المذكور. وإقناع الجمعية العامة للأمم المتحدة بعدالة القضية الجزائرية ليس بالأمر الهين خاصة إذا علمنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء الدبلوماسية الفرنسية، يكفي للتدليل على ذلك نص الفقرة التالية المقتطفة من الندوة الصحفية التي عقدها السيد جون فوستر دلاس( ) يوم 4/2/11957 بمناسبة أشغال الدورة الحادية عشر للأمم المتحدة: "إن الولايات المتحدة الأمريكية مقتنعة بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يمكن أن تقدم أية لائحة عملية حول القضية الجزائرية. أتمنى أن لا تحاول ذلك الوضع في الجزائر معقد جداً، ولا أدري إذا كان يمكن التوصل إلى صياغة نص ذي قيمة في الموضوع، بل إني أشك حتى في جدوى العمل على إيجاد مثل ذلك". وأمام اللجنة السياسية التي كانت مجتمعة عشية انعقاد الدورة الموالية. صرح هنري كابت لودج قائلاً: "ينبغي، في الوقت الراهن، إعطاء فرنسا إمكانية إرساء قواعد التطور السياسي الذي يضمن لسكان الجزائر تحقيق طموحاتهم في السلام والاستقرار( ). ولم تستسلم جبهة التحرير الوطني لذلك التحيز المعلن، بل إن لجنة التنسيق والتنفيذ قد جندت أكثر الإطارات كفاءة من أجل النفاذ إلى أوساط الطبقات الحاكمة في جميع الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا، أمريكا، إيطاليا، وألمانيا واستطاعت في بداية الأمر، أن تستميل رجال الأعمال وتجار الأسلحة ثم تمكنت، بالتدريج من ربح ثقة في التشكيلات السياسية التي لم تلبث أن تبنت القضية الجزائرية وصارت تناضل في سبيل تسويتها على أساس الاستقلال الوطني. 2- في اتجاه المنظمة الأفرو آسيوية: لقد وجدت الثورة الجزائرية، منذ الأسابيع الأولى لاندلاعها، سنداً قوياً في دول إفريقيا وآسيا. ويرجع الفضل في ذلك، بادئ الأمر، إلى روابط العروبة والإسلام التي وظفت إلى أبعد الحدود من أجل تدويل القضية الجزائرية وفتح المجال الديبلوماسي العالمي أمام جبهة التحرير الوطني. ففي شهر جانفي سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف( ) تحركت المملكة العربية السعودية بواسطة الرسالة إلى مجلس الأمن تطالبه فيها بالتدخل السريع لإيقاف الحملات القمعية التي تمارسها فرنسا الاستعمارية في الجزائر. وبعد ذلك بحوالي ثلاثة أسابيع طلبت مجموعة من الدول الأقرو آسيوية إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة العاشرة للأمم المتحدة( ). وفي سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. وفي اليوم الثالث عشر من شهر جوان، طلبت ثلاث عشرة دولة إفريقية آسيوية من مجلس الأمن أن يعقد جلسة عاجلة لإنهاء الحرب الدائرة رحاها في الجزائر. رفض ذلك، فإن مجموعة أخرى من البلدان الأقرو آسيوية قد طلبت، في الأول من أكتوبر عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمالها الحادية عشر( ). وفي السادس عشر من شهر جويلية سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف طلبت إدراجها في جدول أعمال الدورة الثانية عشرة. وفي كل واحدة من هذه المرات كانت الجمعية تتخذ قرارات إجماعية تعرب فيها عن أملها في أن تتوقف الحرب في الجزائر بواسطة التفاوض بين فرنسا وجبهة التحرير الوطني. لكن، في كل مرة، كانت فرنسا تضرب عرض الحائط بتوصيات الجمعية العامة مستغلة عضويتها في مجلس الأمن وما يتبع ذلك من حق استعمال الفيتو. ولقد درست الدورة الأولى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية هذا الوضع، وإذ ثمنت الجهد المبذول من طرف عدد كبير من الدول الأفرو آسيوية، فإنها قررت تشكيل وفود متعددة تتحرك في جميع المناسبات ولا يبقى العمل مقصوراً على دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن وكان لنشاط تلك الوفود أثر فاعل لم يلبث أن تجسد في مؤتمر التضامن الأفرو آسيوية المنعقد في القاهرة بتاريخ السادس والعشرين من شهر ديسمبر سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف( ). 3- في اتجاه الحلف الأطلسي: تنص المادة الرابعة من ميثاق الحلف الأطلسي على أن المنظمة "تجتمع كلما بدا لواحد من أطرافها أن سلامة ترابه الوطني واستقلاله السياسي أو أمنه مهدد". ولقد تمكنت فرنسا أثناء وضع الميثاق المذكور سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف من أن تجعل المادة السادسة تنص بصريح العبارة على أن الاعتداء على الجزائر يعتبر اعتداء على فرنسا. ولقد استغل بعض السياسيين والبرلمانيين الفرنسيين وجود هذين النصين فراحوا يدفعون حكومتهم إلى المطالبة بتدخل الحلف مباشرة لخنق أنفاس الثورة في الجزائر. وكان أعضاء المنظمة يعرفون حقيقة ما يجري في الجزائر، ويدركون أنه يتنافى مع روح المادة السابقة من ميثاقهم التي تمنع المساس بالحقوق المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكنهم، رغم ذلك، كانوا متعاطفين مع فرنسا بسبب ما يجمع بينهم من منطلقات استعمارية وإمبريالية، ولقد جاء التعاطف المذكور مجسداً في مواقف كل من أمريكا وبريطانيا على مستوى مجلس الأمن وكذلك في غض الطرف عن تحويل فرنسا لقواتها العسكرية من قواعد الحلف الأطلسي إلى داخل التراب الجزائري وهي محملة بأرقى ما أنتجته المصانع الحربية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي إنكلترا. فأمام هذا الوضع المتحيز الصارخ، قرر المجلس الوطني للثورة الجزائرية تعبئة أقصى ما في حوزة جبهة التحرير الوطني من إمكانيات من أجل النفاذ إلى مختلف مستويات القرار في البلاد الغربية عامة وفي أمريكا وبريطانيا على وجه الخصوص، وبفضل تحركات الكتلة الآفرو آسيوية وبعض مواقف المعسكر الاشتراكي، استطاعت القضية الجزائرية أن تفرض نفسها على الساحة الدولية وبالتدريج أصبحت الشعوب الغربية نفسها تتحدى حكومة فرنسا وتعلن عن مواقفها المساندة لكفاح الشعب الجزائري بقيادة جبهة التحرير الوطني( ). خلاصة الفصل: هكذا، إذن، يتضح من خلال هذا الفصل أن جبهة التحرير الوطني حاولت بالتوجيهات الرئيسية الواردة في مشروع المجتمع الذي تضمنته وثيقة وادي الصومام، وعلى الرغم من الصعوبات التي ظهرت في الميدان بالنسبة لجناحيها السياسي والعسكري، وعلى الرغم من أن فرنسا ألقت بكل ثقلها المادي والبشري في ميدان المعركة، فإن الثورة قد تجذرت في أوساط الجماهير الشعبية التي اطمأنت للتنظيم المحكم وللانتصارات الكثيرة والمتنوعة التي اطمأنت لم يعد قادراً على إخفائها. وأمام ذلك الوضع الجديد، ونظراً لقرار وادي الصومام المتعلق بإمكانية إسناد المناصب القيادية العليا إلى الإطارات القادمة من التشكيلات السياسية التي لم تكن تؤمن بضرورة انتهاج الكفاح المسلح كطريقة وحيدة لاسترجاع السيادة المغتصبة ونظراً، كذلك، للتكوين العالي والخبرة الواسعة التي كان يتمتع بها هؤلاء الإطارات بالمقارنة مع نظرائهم المكونين في صفوف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، فإن نوعاً من الانحراف قد بدأ يتسرب إلى المنطلقات الأيديولوجية نفسها( )، وساعد على ذلك ظهور التنافس على المسؤولية في أعلى هرم السلطة بالإضافة إلى تمكن الثقافة الغربية من ذهنيات عدد كبير من المسؤوليين القياديين في جبهة التحرير الوطني في الخارج لأن الداخل سيظل سليم التوجه بفعل تأثير القواعد التي لا يمكن أن ترضى بأي بديل عن عروبتها وإسلامها. وبالفعل، فإن أدبيات جبهة التحرير الوطني التي كانت تنشر على أعمدة لسانها المركزي أو في شكل منشورات وكتيبات قد تتلون بألوان مختلفة وتجندت جهتان على الأقل للتأثير في أيديولوجية الثورة الجزائرية، فمن ناحية، هناك ما يسمى بالتيار التحرري في فرنسا، فأصحاب هذا التيار هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية لإيهام الوطنيين الجزائريين والرأي العام العالمي بأن ثمة، في صفوف الشعب الفرنسي، من يرفض الاستعمار ويناهض ممارساته اللاإنسانية ولذلك فهم يساندون الكفاح الذي يخوضه الشعب الجزائري في سبيل استرجاع استقلاله الوطني، وفي الواقع فإنهم إنما يخططون لمستقبل بلادهم بواسطة العمل بجميع الوسائل على احتواء العناصر الأكثر تأثيراً في قيادات الثورة وجعلهم ينبهرون أمام شعارات جوفاء مثل الديمقراطية واللائكية والمبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وغيرها مما هو مستنبط من التاريخ الأوربي ولا علاقة له بالمجتمع العربي الإسلامي في الجزائر. أما الجهة الثانية فتتمثل في المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي الذي أدرك أن الحزب الشيوعي الجزائري قد أخفق في أن يجد لنفسه مكانة محترمة في قيادة الثورة فراح يجند الديمقراطيات الشعبية التي تدور في فلكه لمواجهة التوسع الرأسمالي في المنطقة. لقد كان من المفروض، في نظر الاتحاد السوفياتي، أن يكون الحزب الشيوعي الجزائري هو قائد الثورة أو، على الأقل، هو طليعتها التي بيدها التخطيط والتوجيه. لكن الحزب الشيوعي الجزائري عجز عن الإلتحام بالجماهير الشعبية وربح ثقتها وذلك بسبب الفكر الماركسي الذي ينطلق منه والذي يتنافى، في كثير من المواطن، مع الدين الإسلامي الذي هو دين الشعب الجزائري من جهة، وبسبب تبعية الشيوعيين الجزائريين للحزب الشيوعي الفرنسي الذي ينكر وجود الأمة الجزائرية بمفهومها الوطني ويرفض، عن قناعة، استقلال الجزائر عن الإمبراطورية الفرنسية( ).

لأن تحرك هذين التيارين من أجل النفاذ بقوة في أوساط الثورة الجزائرية بالخارج قد ولد بالتدريج مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الغربية التي سوف تكون منطلقاً لكثير من الغموض الذي سيجعل الانحراف يبلغ أوجه في مؤتمر طرابلس سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف. ومن جملة تلك المصطلحات والمفاهيم التي انتشرت بسرعة كبيرة كان لها مفعول سيئ على مسار الثورة نذكر على سبيل المثال: الباءات الثلاثة، العسكريون، المحافظون، المعتدلون، التقدميون، المتشددون الرجعيون العرب والقبائل( ). ومما لا شك فيه أن تداول هذه المصطلحات وهذه المفاهيم المزيفة في وسائل الإعلام الفرنسية والغربية بصفة عامة قد رسخها في الأذهان وجعلها، شيئاً فشيئاً، تتحول إلى نوع من المعتقدات التي نخرت جسم الثورة وساعدت على تشتيت قواها الحقيقية بالإضافة إلى فتح أبواب واسعة أمام جحافل المخترقين من الأعداء والانتهازيين. لكن أول خطوة في طريق الانحراف الأيديولوجي القاتل تبقى هي إلغاء مبدأ العمل الجماعي من طرف أقوى عناصر لجنة التنسيق والتنفيذ عندما قرروا ثم نفذوا إعدام رفيقهم الشهيد عبان رمضان دون محاكمة وسبب معلوم وخاصة دون الرجوع إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي هو وحده مؤهل للنظر في مثل هذه القضية. ولم تبق هذه الخطوة يتيمة بل تكررت بالنسبة لقرارين حاسمين في تاريخ الكفاح المسلح وهما: نقل الحرب إلى فرنسا وتأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية( ). إن الأمر هنا، لا يتعلق بتقييم القرارين في حدهما إيجابيان ومفيدان للثورة ما في ذلك شك، وقد أثبت التاريخ ذلك، ولكن الطريقة المستعملة في اتخاذهما تشكل انتهاكاً صارخاً لصلاحيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وسوف تتحول بالتدريج إلى قاعدة يلجأ إليها الأقوى كلما أراد الانفراد بالسلطة. وعندما نرجع الأمور إلى حقيقتها نقول بكل بساطة، إن الذين استعملوا هذه الطريقة أول مرة( ) هم الذين فتحوا باب الانقلابات العسكرية في تاريخ الثورة الجزائرية وقد كانوا هم أنفسهم ضحية لها سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف..


المفاوضات ووقف إطلاق النار: وفي نهاية شهر جوان سنة ستين وتسعمائة وألف فشل اللقاء الذي جرى في مدينة مولان بين وفد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ووفد الحكومة الفرنسية برئاسة السيد روجي موريس الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية. وعن ذلك الفشل كتب الجنرال ديغول مايلي: "إن شروط التفاوض التي نقلها الوفد الجزائري تتضمن ضرورة تنظيم محادثة مباشرة بين فرحات عباس والجنرال ديغول، والسماح للمتفاوضين الجزائريين بالإقامة في التراب الفرنسي وإستقبال ومقابلة من يريدون، والإدلاء بجميع التصريحات، وكذلك إطلاق سراح ابن بلة ورفاقه المعتقلين بجزيرة إيكس لينضموا إلى المتفاوضين، بالطبع، قيل للوفد الجزائري إن كل ذلك لن يكون مقبولاً إلا إذا توقفت المعارك والحوادث. وبصفة خاصة، فإن الجنرال ديغول لن يتحدث مع قائد المتمردين مادام الرصاص يطلق على جنوده في الجزائر ومادام المدنيون من مواطنيه يغتالون حتى في شوارع بباريس"( ). إن الإنتفاضة الشعبية قد غيرت هذه الغطرسة وجعلت الجنرال ديغول في شهر جانفي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف يكتب: "أن الجزائر تكلفنا أكثر مما تدره علينا... ولذلك فإنني أكرر أن فرنسا تعمل على إيجاد حل يخلصها منها نهائياً. وسوف لن ترى مانعاً في أن يقرر السكان الجزائريون إقامة دولة تتولى تسيير شؤون بلادهم( ). لقد كان الجنرال ديغول، قبل هذا التاريخ، يراهن على إمكانية إخماد صوت الثورة بواسطة العمل العسكري حتى يعيد للجيش الفرنسي إعتباره بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت به في ديان بيان فو، ولذلك رأيناه يختار الجنرال شال قائداً أعلى للقوات المسلحة ويأتي إلى الجزائر بأكبر عدد ممكن من الجنود تحت قيادة أفضل ما لفرنسا من ضباط سامين. ولتسهيل مهمة الجيش عمل جبهتين سياسيتين لإضعاف جبهة التحرير الوطني وليجعلها تنشغل بموضوعات أخرى غير التي تستلزمها المعركة. فمن جهة، جند كل أنواع المخابرات الفرنسية والمصالح السيكلوجية من أجل التوصل إلى زرع الشقاق في الأوساط القيادية للثورة وزعزعت الثقة السائدة على جميع المستويات. ومن جهة ثانية لم يترك محاولة واحدة دون إستعمالها لإيجاد قوة ثالثة بواسطة تشجيع الحركة الوطنية الجزائرية التي يتزعمها مصالي الحاج أو عن طريق دفع المنتخبين الجزائريين وبعض الشخصيات البارزة إلى تشكيل هيئات يمكن اللجوء إليها لأحكام الضغط على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. كل هذه المساعي التي قام بها الجنرال ديغول مدة ثلاثين شهراً لم تحقق له ماكان ينتظر من نتائج، بل جعلته يلمس بنفسه أن الإنتصار مستحيل وأن مواصلة الحرب مستحيلة إلى مالا نهاية ستعرض الجيش الفرنسي إلى الإنقسام والوحدة الوطنية إلى الزوال كما أكد بنفسه في مذكراته( ). وعليه، وخدمة لفرنسا، قرر الإلتفات إلى جهبة التحرير الوطني من أجل التفاوض الجدي وراح يبحث عن مبررات موقفه الجديد، وليلبسه الثوب الذي لا يشين سمعة الجنرال وسمعة فرنسا معاً. وكانت أول خطوة في الطريق الجديد هي إستفتاء الشعب الفرنسي حول موافقته أو عدم موافقته على تمكين الجزائريين من تقرير مصيرهم، ولم يكن ذلك في الحقيقة سوى تمثيل لأن الإعلان عن حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه قد تم باسم فرنسا في اليوم السادس عشر من شهر سبتمبر سنة تسع وخمسين وتسعمائة وألف. ويومها أعطى الجنرال ديغول شرحاً وافياً لمعنى تقرير المصير إذ قال: إن الجزائريين بممارستهم لهذا الحق سيفضلون فيما إذا كانوا يريدون الإنفصال الكلي عن فرنسا التي هي في هذه الحالة ستتوقف عن تزويد الجزائر بالخير العميم وبمليارات الفرنكات وعن فعل أي شيء لتجنيبها الفاقة والفوضى. أو هم يريدون الفرنسة التي يصبحون بموجبها جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفرنسي يتمتعون بكامل المساواة في ممارسة الحقوق السياسية والإقتصادية والإجتماعية( ). وتتمثل الخطوة الثانية في فتح التفاوض مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد أن فشلت جميع محاولات الجنرال ديغول الرامية إلى إيجاد مسلك آخر يجنبه ذلك. فمن ناحية التوصيل إلى القضاء عسكرياً على جبهة التحرير الوطني وجد الجنرال نفسه، كما رأينا، مضطراً للإعتراف بالواقع الذي أثبت تجذر جيش التحرير الوطني وإنتشاره في مختلف أنحاء الوطن بحيث لم يعد في مقدور أية قوة التغلب عليه( ). وفيما يتعلق بتكوين القوة الثالثة. أيقن الجنرال ديغول أن كل بناء ينجزه في هذا المجال يتحول تلقائياً لفائدة جبهة التحرير الوطني( )، ومن ذلك أن البرلمانيين الجزائريين المسلمين الذي شجعوا على تأسيس حزب وطني يكون بديلاً لجبهة التحرير الوطني قد شكلوا، بالفعل، التجمع الديمقراطي الجزائري، ولكن ليطالبوا الحكومة الفرنسية بفتح مفاوضات عاجلة ومباشرة مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. أما الخطوة الثالثة فقد قطعها الجنرال ديغول في شهر أفريل( ) عندما وجه خطاباً للأمة الفرنسية ذكرها فيه بمواقفه الهادفة لإزالة الإستعمار وهي مواقف ظلت تلازمه من أكثر منذ عشرين سنة ولم يكن متمسكاً بها بسبب حركة التحرير التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية بل لأنها تخدم مصلحة فرنسا وتساعدها على التخلص من الكوابح التي تمنعها من التقدم والتطور، وعندما تطرق للقضية الجزائرية قال: "وبهذا الصدد، فإن أي تصور أو أي إنتخاب لن يكون واقعياً إلا إذا ساهم فيه، بالمقام الأول، الذين يحاربون من أجل الإستقلال وذلك لأن الأغلبية الساحقة من الجزائريين، في الوقت الحاضر، يجدون فيهم تعبيراً عن أنفسهم. وعليه أصبح الأمر اليوم، يتعلق بحمل جبهة التحرير الوطني على الإتفاق معنا. وحينما تتوقف المعارك يقترح على مواطني البلدين أن يقرروا، بواسطة الإقتراع، بناء الجزائر المستقلة وتنظيم علاقاتها مع فرنسا( ). هكذا، إذن، جعل الجنرال ديغول اللجوء إلى التفاوض مطلباً حيوياً لم تفرضه عليه الثورة الجزائرية، ولكنه يندرج ضمن مبادئ التحرر والإنعتاق التي زعم أنها ظلت دائماً ملازمة له، وفي إطار تلبية رغبة السكان الجزائريين وتمشياً مع إرادة الشعب الفرنسي التي عبر عنها بواسطة استفتاء الثامن من شهر جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. ولقد وجد من بين المؤرخين ورجال السياسة من صدق هذا الإدعاء نسي الجميع مختلف التصريحات التي كان الجنرال يدلي بها والتي كان ينكر فيها على جبهة التحرير الوطني حق التفاوض باسم الشعب الجزائري ويلوح بضرورة إشراك أطراف أخرى لتسوية المشكل الجزائري على أساس "التهدئة والتحول الإقتصادي والعمل من أجل تكوين الشخصية الجزائرية الجديدة( ). أما مسألة إسترجاع الإستقلال الوطني فلم تكن مطروحة على الإطلاق. ففي اليوم التاسع والعشرين من شهر جانفي سنة ستين وتسعمائة وألف قال ديغول: "إن منظمة المتمردين تزعم أنها لا توقف القتال إلا إذا تحادثت معها حول مصير الجزائر، وذلك يعني أننا نعترف بها المنظمة الوحيدة التي تمثل الشعب الجزائري، ونعترف بها مسبقاً كحكومة للجزائر. وهذا ما لن أفعله أبداً". وقبل الإنتفاضة الشعبية بحوالي شهر فقط( ) كرر ذلك بصيغة أخرى إذ صرح: "إنهم يزعمون أن وقف القتال لن يتم إلا إذا ضبطوا معنا شروط الإستفتاء كأنهم يمثلون الجزائر جميعها". ومهما يكن من أمر، فإن الإتصالات السرية قد أستؤنفت جدية بين الطرفين مباشرة بعد إستفتاء الثامن من جانفي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف ثم تعثرت بسبب محاولة الحكومة الفرنسية من جديد إقحام أطراف أخرى في المحادثات( ) وبسبب الإنقلاب( ) العسكري الفاشل الذي وقع ليلة الثاني والعشرين من شهر ماي سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف ثم تعثرت بسبب محاولة الحكومة الفرنسية من جديد اقحام أطراف أخرى في المحادثات وبسبب الانقلاب العسكري الفاشل الذي وقع ليلة الثاني والعشرين من شهر ماي سنة واحد وستين وتسعمائة وألف، إنما كان ذلك بالنسبة لجبهة التحرير الوطني على أساس الشروط الواردة في نداء الفاتح من نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف وهي حرفياً كما يلي( ): 1- الإعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية، ملغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضاً فرنسية رغم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري. 2- فتح مفاوضات مع الممثلين المفاوضين من طرف الشعب الجزائري على أساس الإعتراف بالسيادة الجزائرية للشعب واحدة لا تتجزأ. 3- خلق جو من الثقة وذلك بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ورفع كل الإجراءات الخاصة وإيقاف كل مطاردة ضد القوات المكافحة. من هذا المنطلق، وفي نفس اليوم الذي بدأت فيه المفاوضات أعلنت الحكومة الفرنسية عن إطلاق سراح ستة آلاف معتقل سياسي ونقل القياديين الخمسة إلى قصر توركان وعن هدنة عسكرية من طرف واحد لأن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية اعتبرت ذلك في غير أوانه، ولأنها لو فعلت لوقعت في الفخ المنصوب لها وتم وقف إطلاق النار قبل كل تسوية سياسية وهو ما ظلت تدعو إليه الحكومات الفرنسية منذ سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف. وكان التفاوض صعباً. فالجانب الفرنسي رغم الضمانات الشكلية المذكورة أعلاه لم يغير موقفه الأساسي المتناقض تماماً مع جبهة التحرير الوطني. لم يكن الجانب الجزائري، فيما يخصه، قادراً على تجاوز الشروط الوارد ذكرها ضمن النصوص الأساسية للثورة. وبقيت المحادثات تدور في حلقة مفرغة مدة خمسة وعشرين يوماً وقد توقفت بطلب من الحكومة الفرنسية في اليوم الثالث عشر من شهر جوان سنة واحد وستين وتسعمائة وألف. وعلى الرغم من تمسك كل طرف بموقفه، فإن الوفدين قررا مواصلة الإتصال فيما بينهما ولم يكن من السهل، في ذلك الوقت، التكهن بإمكانات التوصل بسرعة إلى تقريب وجهات النظر. فالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تريد من فرنسا أن تعترف للجزائر بالسيادة المطلقة وبسلامة التراب الوطني وبوحدة الشعب ذي الثقافة العربية والإسلامية إلى جانب أقلية أوروبية وبجبهة التحرير الوطني كممثل وحيد للشعب الجزائري. أما فرنسا فتزيد حسب الترتيب الإستقلال الداخلي، وفصل الصحراء عن الجزائر وتجزئة الشعب على أساس عرقي وتنظيم طاولة مستديرة تشارك فيها أطراف أخرى وهدنة فقط، وأدى تواصل الإتصالات السرية بين الطرفين إلى تنظيم لقاء جديد في مدينة لوقران الفرنسية دام أسبوعاً كاملاً ولم تدرس فيه سوى مسألة الصحراء التي أقترح الوفد الفرنسي تسويتها بواسطة ندوة مشتركة بين جميع البلدان المجاورة لها. وأمام الوفد الجزائري علقت المفاوضات من جديد وكان ذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر جويلية سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. في كل هذه الأثناء كانت الساحة الجزائرية قد عرفت تطورات خطيرة تتمثل خاصة في ظهور المنظمة السرية المسلحة( ) إبتداء من مستهل شهر مارس وشروعها في العمل التخريبي بواسطة التقتيل ونسف المؤسسات الإقتصادية، وقد توج ذلك بإنقلاب الجنرالات الأربعة صبيحة اليوم الثاني والعشرين من شهر أفريل. وفي داخل قيادة الثورة توترت العلاقات بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبين قيادة الأركان التي قدمت إستقالتها بواسطة رسالة تحمل تاريخ الخامس عشر من شهر جويلية، ضمنتها مآخذ كثيرة في مقدمتها التهاون والفوضى والرشوة. وأمام هذه الأوضاع كلها، ونظراً لكون المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يجتمع في دورته العادية فإنه إستدعى لذلك، وأنطلقت إشغاله بطرابلس في اليوم الخامس من شهر أوت سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف. تواصلت أشغال المجلس مدة بين أعضاء قيادة الأركان وأعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وخاصة منهم السيدين فرحات عباس وكريم بلقاسم، فبالنسبة للأول، يرى قادة الجيش أنه غير متشبع بإيديولوجية الثورة وأنه معتدل أكثر مما ينبغي وغير قادر على مواجهة الحكومة الفرنسية، ويرون بالنسبة للثاني أنه لم يحسن الدفاع عن الملف الجزائري في مختلف اللقاءات مع الجانب الفرنسي، وأنه قدم كثيراً من التنازلات بدون فائدة تذكر. ورداً على هذه الإتهامات التي لا تستند على دليل مادي، وزعت على المشاركين في الدورة محاضر جلسات التفاوض، وعمل رئيس الحكومة ونائبه على التشهير بقيادة الأركان التي "اتصلت بكل الأموال التي طلبتها وجلبنا لها كميات هائلة من الأسلحة المتطورة والذخيرة. وبدلاً من إمداد الداخل بما يحتاج إليه راحت تشغل نفسها بأمور سياسية لاناقة لها فيها ولا جمل( ). ويبدو للوهلة الأولى أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية إنتصر لقيادة الأركان إذ صادق بالإجماع على استبدال السيد ابن يوسف بن خدة الذي كان واحداً من القادة الأساسيين للحركة الثورية وواحداً من المساعدين الرئيسيين للشهيد العربي بن المهدي أثناء توليه إعادة تنظيم المنطقة الرابعة( )والإعداد لمؤتمر وادي الصومام. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس ابن خدة الذي عين عضواً بأول لجنة التنسيق والتنفيذ قد ظل وفياً للخط الإيديولوجي ولم يفتأ ينادي بضرورة عودة القيادة العليا للثورة إلى أرض الوطن، عملاً بأولوية الداخل على الخارج. لكن السيد فرحات عباس لم ينظر إلى عملية إستبداله بهذا المنظار، بل رأى في الأمر إنحرافاً خطيراً لجبهة التحرير الوطني التي بعد هذا التعديل الجديد، قد أصبحت حكراً على عناصر حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية يقول: "يظهر جلياً، بعد التحليل أن الحكومة المؤقتة الجديدة لم تعد تمثل جبهة التحرير الوطني في مجموعها، بل حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية وحدها، فالمؤامرات التي حيكت في تونس قد أدت إلى إبعاد ممثلي الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. ومع إقتراب موعد الإستقلال تجمع المركزون( )واعتلوا الصدارة متهمين إيانا بالإنتهازيين والمتطفلين في حين أن الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد إنضم قبلهم إلى جبهة التحرير الوطني( ). إن فرحات عباس، في تحليله هذا، لم يكن واقعياً ولا منطقياً، فمن جهة يؤكد إنضمام الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري إلى جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف وطبقاً للشروط المعمول بها في ذلك الوقت أي حل التنظيم والإلتحاق الفردي والتخلي عن الإيديولوجية السابقة، ومن جهة أخرى يعلل إبعاده عن رئاسة الحكومة بكونه فقط من الإتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فإن ممثلهم، أن صح هذا التعبير، قد أزيح عن التشكيلة الثانية التي كان يرأسها عباس نفسه، ولم ير داعياً يومها، للتعليق على الإجراء الذي اعتبر عملاً طبيعياً. الخاتمــــة وخلاصة القول، فإن أيديولوجية ثورة التحرير قد أثريت مرات عديدة خلال الفترة التي حددناها لهذه الدراسة وعلى الرغم من كل ذلك، وبعد كل الوقت الذي قضيناه مع النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ونؤكد أن المشروع الذي وضعته ثم أثرته هذه الأخيرة مازال صالحاً لتحقيق المستقبل الأفضل بالنسبة للجزائر، وأن الأهداف الرئيسية المسطورة فيه لم تتحقق بعد رغم مرور أكثر من اربعين سنة على استرجاع الاستقلال الوطني. وبالفعل، فإن الثورة الجزائرية قد استهدفت "محو النظام الاستعماري في الجزائر" بواسطة تحرير الأرض وتحرير الإنسان. ولأن الإنسان الجزائري لم يتحرر بعد، ولأن الأرض في الجزائر مازالت تشكو آثار العدوان الاستعماري عليها، فإننا نعتبر أن نظام الاستعمار الجديد قد وظف عناصره في مجالات التربية والإعلام والثقافة من أجل تكوين إنسان جزائري تابع وعاجز عن الارتقاء إلى مستوى أيديولوجية جبهة التحرير الوطني التي أدار لها ظهره في أول فرصة أتيحت له، وكان ذلك بمناسبة أحداث الخامس من شهر أكتوبر سنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف. من إنشاء adda khadou عدة خدو ملاحظة معظم معلومات هذا البحث مقتبسة من كتاب تاريخ الجزائر

مصادر ومراجع

اسلام اون لاين

  
بوابة الجزائر تصفح مقالات ويكيبيديا المهتمة بالجزائر.
   {{{{{3}}}}}
بوابة الجزائر تصفح مقالات ويكيبيديا المهتمة بالجزائر.