الرئيسيةبحث

الاستشراق الألماني

على الرغم من اتصال ألمانيا بالشرق منذ الحروب الصليبية الأولى وانشقاقها بعد ذلك عن الكنيسة الكاثوليكية إثر حركة مارتن لوثر، فإن الدراسات الاستشراقية الألمانية لم تزدهر إلا في القرن الثامن عشر متأخرة في ذلك عن بقية دول أوروبا. ولم يشارك العلماء الألمان في الدراسات العربية اشتراكا فعليا إلا بعد ان توغل الأتراك في قلب أوروبا التي بدأت تهتم بدراسة لغات العالم الاسلامي ولعل الصفة البارزة للاستشراق الألماني أنه لم يزدهر نتيجة للاستعمار - كما هي الحال مع فرنسا وإنجلترا وهولندا - أو يرتبط بأهداف دينية تبشيرية كسواه. والاستشراق الألماني يمتاز بالموضوعية والعمق.وساهم المستشرقون الألمان أكثر من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية ، وخصوصاً كتب المراجع والأصول المهمة. ونشر المخطوطات، فإن أهم ما قام به المستشرقون الألمان وضع المعاجم العربية . فقد وضع فرايتاج (1788- 1861) المعجم العربي اللاتيني في أربعة أجزاء ، ثم وضع فيشر (1865- 1949م) معجماً للغة العربية الفصحي. وقاموس هانزفير (1909- 1981م) العربي - الألماني للغة العربية المعاصرة. وقاموس شراكل (1923م) الألماني - العربي الذي صدر سنة 1974، والقاموس الضخم للغة العربية الفصحى الذي عمل عليه أولمان (1931- ) في جامعة توبنجن ، وفي سنة 1980م كان وصل إلى حرف الكاف (ك) ، وفي سنة 2000 انتقل العمل على هذا القاموس إلى جامعة ميونيخ ووصل إلى حرف الميم (م) . وأن العمل على هذا القاموس سيستغرق مائة سنة ونيّف على الرغم من الإمكانات التكنولوجية والمادية المتوفرة ، وعلى رغم أن الذي يعمل على هذا القاموس هو فريق عمل. ومن حسن الحظ وسوءه!! في آن واحد، أن آلاف المخطوطات العربية والإسلامية قد وجدت طريقها نحو المكتبات الألمانية، فربما لو ظلت قابعة في أماكنها لقضي عليها وقد آلت إلى المكتبات الألمانية في الجامعات والبلديات من خلال الشراء والاستيلاء عليها من الأقطار العربية لكنها ـ وبحق ـ وجدت من يسعى إلى حفظها وتصنيفها وفهرستها والعمل على تحقيقها، وإن نظرة في أعداد هذه المخطوطات لتوضح لنا أهميتها كذخائر تراثية لا تقدر بثمن• وقد حظيت مكتبة برلين الوطنية بنصيب الأسد من هذه المخطوطات، إذ أن عددها يربو على عشرة آلاف مخطوط، فُهرست في عشرة مجلدات، وفي مكتبة جامعة جوتنجن جنوب ألمانيا نحو ثلاثة آلاف مخطوط من نفائس التراث العربي والكثير من المخطوطات الذخائر، ناهيك عما بها من كل إصدارات العالم العربي والإسلامي من كتب ودوريات منذ اختراع المطبعة، جاوز عمر بعضها المئة عام، واختفت من المكتبات العربية وصار الحصول على بعضها ضرباً من المستحيل، كل ذلك محفوظ بمكتبة جامعة توبنجن مما يجعل دورها دوراً ثنائياً في خدمة المخطوط والمطبوع من الفكر العربي، لم يقتصر دور المستشرقين الألمان على حفظ هذه المخطوطات فحسب، بل عمدوا إلى تحقيقها تحقيقاً علمياً ذا فهارس متعددة، واستوجب تحقيقهم وضع مؤلفات تعد عُمُداً في موضوعاتها كالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الذي وضعه المستشرق الألماني فلوجل1802 ـ 1870م، والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ومعجم شواهد العربية، وناشر كشف الظنون لحجي خليفة وكتاب الفهرست لإبن النديم وواضع فهرست المخطوطات العربية الموجودة في فيينا وهي بحق مؤلفات رائدة يعتمد عليها المحققون العرب وقد حقق المستشرقون الألمان عدداً كبيراً من أمهات التراث العربي مثل: الكامل لـالمبرد، وتاريخ الطبري الذي استمر تسعة عشر عاماً من العمل المتواصل، ومؤلفات البيروني، وبدائع الزهور لـابن إياس، وطبقات المعتزلة لـابن المرتضى، ومقالات الإسلاميين لـأبي الحسن الأشعري، والفهرست لـابن النديم، ومؤلفات ابن جني، وعدد كبير من دواوين الشعراء القدامى، وقد عكف إيفالد فاجنر على ديوان أبي فراس نحو عشرين عاماً حتى أكمله تحقيقاً• ولا يمكن لأي دارس في الأدب والنقد العربيين أن يتجاهل أعمال مستشرقين ألمان كبار مثل كارل بروكلمان وكتابه تاريخ الأدب العربي - على الرغم مما ورد فيه من بعض الأخطاء التي حاول دارسون عرب أن يتداركوها عليه كما فعل -عبدالله بن محمد الحبشي لكن يبقى لكتاب بروكلمان فضل السبق في التعريف بالتراث العربي الإسلامي المخطوط في جميع مكتبات العالم، وهو جهد فردي لم نستطع نحن ـ للأسف ـ فرادى وجماعات أن نقوم به، وقد أحسن الدكتور محمود فهمي حجازي وجمعٌ من المهتمين باللغة الألمانية ـ في ترجمته لهذا الكتاب ترجمة وافية أفادت المتلقي العربي• كما أن المعاجم التي وضعت في الألمانية مثل معجم هانزفير(العربي ـ الألماني) يعدَّ معجماً رائداً، كما يعدَّ كتاب العربية لـيوهان فوك من المصادر التي لا يستغنى عنها، وقد تحدث نجيب العقيقي في كتاب المستشرقون عن بعض المستشرقين الألمان وعن إسهاماتهم الفكرية .كما قام بعض الأساتذة من المستشرقين الألمان البارزين بالتدريس في بعض الجامعات العربية وخصوصاً في جامعة القاهرة أمثال: ليتمان وبرجستراشر وشاده وشاخت . كما أن أول مدير للمكتبة الخديوية في القاهرة كان المستشرق الألماني شتيرن. وعُيّن بعض المستشرقين الألمان أعضاء في مجامع اللغة العربية ؛ تقديراً لما قدّموه من خدمات للغة العربية والدراسات الإسلامية. وقد أزدهرت الدراسات الاستشراقية في ألمانيا بفضل إنشاء كراس عديدة لتعلم العربية في ألمانيا وأزدياد المكتبات الشرقية التي اكتظت بالآلآف من المخطوطات والمؤلفات العربية والشرقية النادرة وتأسيس الجمعيات الشرقية كالجمعية الشرقية الألمانية ، وإنشاء المجلات المتخصصة منها مجلة عالم الإسلام التي أنشأها مارتن هارتمان ومجلة إسلاميات التي أنشأها فيشر وبرز في هذا المجال فريدريش روجار تلميذ المستشرق النمساوى الكبير جوزيف بورجشتاله وكذلك هاينريش بارث ونجد أيضا آهلفارت الذي تعلم العربية وأتقنها وهو الذي وضع فهرس مكتبة برلين عن المخطوطات العربية

ومن كبار المستشرقين يوليوس فلهوزن الذي برز في مجال الدراسات الأسلامية فحقق تاريخ الطبري وكذلك نجد تيودور نولدكه الشهير وكارل بروكلمان صاحب تاريخ الأدب العربي الذي يعد موسوعة لا غني عنها لأي باحث في مجال الدراسات الأسلامية-كما أشرنا آنفاً- . بجانب دورهم انصب اهتمامهم على تعلم اللغة العربية وتعليمها، ولقد كان للمعاهد الاستشراقية في الألمانيتين ـ قبل الوحدة ـ وفي الدول الناطقة بالألمانية مثل النمسا وسويسرا وجانب كبير من هولندا وبلجيكا ولوكسمبورج وغيرهم دور كبير في نشر اللغة العربية، وقلَّ أن نجد مدينة كبرى في ألمانيا دون أن نرى مركزاً لتعليم اللغة العربية .وهنالك عدد لا بأس به من المجلات المتخصصة في الآداب العربية والإسلامية أو في أمور السياسة والاقتصاد بالمنطقة، وربما كان من أهم هذه الدوريات مجلة عالم الإسلام Die welt des Islam وهي مجلة تعنى بالتراث والحداثة في الإسلام وفيها مقالات لا غنى للباحث عن الاطلاع عليها ومن أسف أن ما ينشر فيها لا يترجم إلى العربية• وهنالك مجلة الشرق وهي مجلة تعني بالأمور المعاصرة في العالم الإسلامي المعاصر. كما أننا لا نغفل دور المتاحف الإسلامية المنتشرة في ربوع ألمانيا ومعظمها عبارة عن مجموعات فنية خاصة لهواة جمعوها ومعظمهم من المستشرقين خلال رحلاتهم نحو الشرق، وإذا تجاوزنا عرضاً عن كيفية الجمع وما اعتراها من شبهات السرقة إلا أن فتحها للجمهور مجاناً يعرف المشاهد الأوروبي بحضارة الإسلام وفنونه المبدعة بما فيها من نفائس المخطوطات والمصاحف والوثائق النادرة .

ويمكن لنا إيجاز أهم خصائص هذه المدرسة في الأتي :

- عدم ارتباط الاستشراق بأهداف سياسية أو دينية أو استعمارية. - غلبة الروح العلمية والانصاف على توجهات هذه المدرسة. - تعدد مجالات البحث وشموليتها لفروع المعارف الشرقية " آداب - لغة – تاريخ – جغرافيا – فنون ......... الخ " - الاهتمام بعلم الببليوجرافية و فهرسة المخطوطات وتصنيف وتحرير المعاجم العربية " بروكلمان ، فستنفلد ، هانزفير ".


راجع

إدوارد سعيد : الإستشراق : المعرفة ، السلطة ، الإنشاء ، نقله إلى العربية كمال أبو ديب ، الطبعة الأولى ، بيروت ، مؤسسة الأبحاث العربية ، 1981 ، 368 صفحة .

إدوارد سعيد : الثقافة والإمبريالية ، نقله إلى العربية وقدّم له كمال أبو ديب ، الطبعة الثانية ، بيروت دار الآداب، 1998.

إدوارد سعيد : تعقيبات على الإستشراق ، ترجمة وتحرير صبحي الحديدي ، الطبعة الأولى ، عمّان ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1996.

إرفن جميل شك : الاستشراق جنسياً ، ترجمة و تحقيق عدنان حسن ، الطبعة الأولى ، دمشق ، قدمس للنشر والتوزيع ، 2003 .

إسماعيل أحمد عماير ة : بحوث في الاستشراق ، الطبعة الأولى ، عمّان ، دار وائل للطباعة والنشر والتوزيع ، 2003 ، 543 صفحة .

إسماعيل أحمد عمايرة : المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية : بحث في الجذور التاريخية ، عمان ، دار حنين ، 1992.

إسماعيل أحمد عمايرة : بحوث في الاستشراق واللغة ، القاهرة ، مؤسسة الرسالة ، 2000.

إسماعيل محمد : الاستشراق بين الحقيقة و التضليل : مدخل علمي لدراسة الاستشراق، الطبعة الثالثة ، القاهرة، دار الكلمة للنشر، 2000.

أكرم ضياء العمري : موقف الاستشراق من السيرة والسنّة النبوية، الرياض، مركز الدراسات والإعلام دار إشبيليا، 1417/1998.