الآن : وردت لفظة الآن ثماني مرات، بصيغة الاسم المعرف، «والألف واللاَّم [فيها] للعهد والإشارة إلى الوقت ». وثلاث مرَّات بصيغة الجمع آناء، وقد أفادت معاني زمنية عديدة، يحدِّدها السياق، ومن هذه المعاني نذكر:
2. الآن: بمعنى الآنية المفيدة لتنافي الاستمرار، وذلك في قول القرآن: {وَلَيْسَتِ التـَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيـِّئـَاتِ، حَـتَّىآ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ: إنـِّي تُبْتُ الاَنَ، وَلاَ الذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، اُوْلَئِكَ أَعْتَدْنـَا لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماً} سورة النساء 18، وقد دلَّ على تنافي الاستمرار الفعل «المضارعُ: يتوبون هناك». 3. الآن: للدلالة على الحدّ بين الزمانين الماضي والمستقبل؛ في مثل قول بني إسرائيل لنبيئهم موسى - في قصَّة البقرة -: {الاَنَ جِئْتَ بِالْحـَـقِّ} سورة البقرة 71، الآن: لا قبله في الماضي، ولا بعده في المستقبل.
هذا خلاف كلامي وفلسفي، لا مجال لفصل القول فيه في بحثنا هذا، إذ القرآن الكريم لم يتعرَّض لهذا الموضوع تعرُّض الدراسات الفلسفية له.
4. الآن: ظرف بمعنى الزمن الحاضر إلى قيام الساعة. وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {فَالاَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}سورة البقرة 187، أي «باشروهنَّ في الزمان كلِّه، متى شئتم، بعدما أبحت لكم». والظاهر أنَّ هذا المعنى يستعمل في الأحكام خاصَّة، ويفيد الإباحة بعد الحظر، والتحليل بعد التحريم، والتخفيف بعد التثقيل؛ ففي موضوع القتال- مثلا - قال سبحانه: {الاَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفاً} سورة الأنفال 66). ولا يفهم من الآيتن أنَّ الله أباح للمسلمين المباشرة في تلك الساعة فقط، ولا أنـَّه لم يخفَّف عنهم في القتال إلاَّ في ذلك الحين.
ومن المعلوم في تاريخ العلوم أنَّ العالم الفيزيائي "نيوتن" تحدَّث عن الآن الكونية The universal now وافترض أنـَّها يمكن أن تقال - في وقت واحد - في الكون كــلِّه. غير أنَّ "إينشتاين" حطم - فيما حطم من المفاهيم العلمية - هذا المفهوم بنظريته النسبية، وبين أنـه لا يمكن أن نفرض كلمة مثل الآن على الكون كلِّه، لاختلاف أنظمة الاتصال، وقصورها عن المزامنة المطلقة، إذ عن طريق الضوء - وهو أسرع وسيلة للاتصال - لا يمكن إلاَّ أن نرى ماضي الأكوان الأخرى.
أمـا من القرآن الكريم . فقد استنتجنا ما يمكن أن نطلق عليه اسم الآن المتجدِّدة، فلو أنَّ رئيس قبيلة قال في العصر الجاهليِّ - مثلا -: الآن أبيح لكم فعل كذا وكذا. فإنـَّه بموت الجميع تنعدم تلك الآنية، ولا يبقى لها أثر مطلقا؛ غير أنَّ قوله عزَّ وعلا للمسلمين: {فَالاَنَ بَاشِرُوهُنَّ}، يمكن أن يكرَّر في كلِّ زمان ومكان، وهي تتجدَّد بتجدُّد العصور والآماد، ففاعليتها تبقى إلى قيام الساعة، ذلك لأنـَّها تستمدُّ الخلود من قائلها: الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، والأوَّل والآخر؛ وتستقي الاستمرارية الدائمة من مصدرها: كلام الله الذي «لا يخلق على كثرة الردِّ». أي لا يتقادم ولا يصيبه الفناء والبِلى.