ظهور إسماعيل باشا صديق (المفتش )
إذا تأملت في القروض السابقة لعام 1869، لوجدت أنها قروض كمالية كانت البلاد في غنى عنها ، لأنها أنفقت في الجملة فيما لا يهم مصالح البلاد الحيوية ، ولكنك إذا قارنتها بالقروض اللاحقة تجدها أقل مقداراً وأخف عبئاً.
ذلك أنه حدث في سنة 1868 حادث مالي كان له شأن كبير في زيادة القروض ، وانحدار مالية البلاد إلي الهاوية ، وهو إسناد وزارة المالية إلي إسماعيل باشا صديق المشهور (بالمفتش). كان وزير المالية سنة 1868 إسماعيل راغب باشا ، فعزله الخديوي بحجة عدم خبرته في المسائل المالية ، وعين مكانة إسماعيل صديق باشا المعروف بالمفتش ، فكان هذا الرجل في ذاته من الكوارث التي حلت بمصر في عهد إسماعيل.
نشأ إسماعيل صديق نشأة بؤس وعوز ، ثم صار موظفاً في الدائرة السنية ، ولكنه نال عطف الخديوي لأنه أخوه من الرضاعة ، فما زال يرقي حتى نال رتبة الباشوية ، وبلغ منصب مفتش عموم الأقاليم ، ومن هنا جاء لقبه (المفتش ) الذي لازمه وصار علماً له ، فلما عزل الخديوي راغب باشا عين مكانه إسماعيل صديق ، فتسلم خزائن مصر ، وظل يتصرف فيها نحو ثماني سنوات طوال ، إلي أن لقي مصرعه في نوفمبر سنة 1876 ، وهذه السنوات المشئومة هي التي جرت الخراب المالي على البلاد ، وهي أتعس فترة في تاريخ مصر الحالي.
بقى المفتش متقلداً وزارة المالية طوال هذه المدة ، اللهم إلا فترة وجيزة تولاها عمر باشا لطفي سنة 1873 ، ثم عادت إلي المفتش ثانية ، وظل طوال هذه السنين حائزاً لرضى الخديوي وعطفه ، وقد كسب هذا الرضا لأفتنانه في جمع المال من القروض ، أو من إرهاق الأهليين بمختلف أنواع الضرائب ، فكان الخديوي يجد ما يطلبه من المال كلما أراد ن وكما هو أيضا يقتطع نصيبه من الغنيمة ، اثري إثراء فاحشاً ، وقلد مولاه في عيشة البذخ والإسراف والاستكثار من القصور والأملاك والجواري والحظايا ، والية يرجع السبب في استدانة الحكومة نحو ثمانين مليون جنيه ضاع معظمها سدي ، أو ذهبت إلي جيوب الأجانب ، وكان لنيله رضا الخديوي حائزاً سلطة واسعة المدى في إدارة شئون الحكومة ، وصاحب الأمر والنهي بين الموظفين وغيرهم ، فكان بلا مراء أقوى رجال الدولة نفوذاً بعد الخديوي.
وسترى فيما يلي مبلغ تأثير اصطفاء الخديوي لمثل إسماعيل صديق في تضخم الديون وتبديد الملايين من الجنيهات حتى وصلت البلاد إلي حالة الإفلاس.
وفي خلال المفاوضات (نوفمبر سنة1876) بصدد الرقابة الثنائية، وقع حادث رهيب له اتصال وثيق بارتباك مصر المالي، وهو مقتل إسماعيل صديق باشا. كان جوشن، مع مطالبته بالرقابة الثنائية، يحتم إقصاء إسماعيل صديق من وزارة المالية، كشرط جوهري لإصلاحها، فقبل الخديوي مضطراً تضحية وزيره الذي كان موضع ثقته سنوات عديدة ، واستقال إسماعيل صديق من منصبه بناء على إلحاح جوشن ، وإذعان للخديوي ، وعين الأمير حسين كامل (السلطان حسين كامل لاحقاً) خلفاً له. ولم يكتفي جوشن بذلك ، بل أعتزم مقاضاة إسماعيل صديق باشا أمام المحاكم المختلطة عن العجز الواقع في الميزانية، متهماً إياه بتبديد هذا العجز إضراراً بحقوق حملة الأسهم ، فاضطرب الخديوي من هذا التهديد، وأدرك من حديثه مع وزيره الأمين أنه لا يبقى على ولائه لمولاه في سبيل الدفاع عن نفسه، وأنه إذا قدم للمحاكمة فإنه سيشرك الخديوي معه في تبديد أموال الدولة، بل ربما ألقى عبء المسئولية على عاتقه ففكر إسماعيل في التخلص منه ودبر مشروع محاكمته بتهمة التآمر على الخديوي، وإثارة الخواطر الدينية ضد مشروع جوشن وجوبير، وقبل أن تبدأ المحاكمة اعتزم أن يتخلص منه بلا جلبه أو محاكمة ، وإنفاذاً لهذا الغرض استدعاه إلي سراي عابدين، كعلامة على الثقة به، وهدأ روعه ، وتلطف في محادثته ، ثم أصطحبه إلي سراي الجزيرة مظهراً أنه رضى عنه، ولكن لم تكد العربة التي أقلتهما تجتاز حدائق السراي، وتقف أمام باب القصر، ومن تلك اللحظة اختفى نبؤه عن الجمهور، إذ عهد الخديوي إلي اتباعه بقتله، فقتلوه، وألقوا جثته في النيل (نوفمبر 1876). ولم يعلم الناس بادئ الأمر بما حل بالمفتش ، واستمرت المحاكمة الصورية ماضيه في سبيلها ، وحكم المجلس الخصوصي بنفيه إلي دنقلة وسجنه بها ، في حين أنه لقي حتفه قبل أن تتم المحاكمة.
اعتقد إسماعيل أنه بقتل المفتش قد حقق غرضين، أولهما أن يتخلص من إذاعة أسرار اشتراكه وإياه في تبديد أموال الدولة، وثانيهما أن ينال عطف المندوبين الأوربيين جوشن وجوبير في مطالبهما منه، وقد حقق إسماعيل الغرض الأول، فإنه بمقتل المفتش ، وإلقاء جثته في قاع اليم ، قد غيبت معه أسرار التلاعب والعبث بأموال الخزانة العامة ، أما الغرض الثاني فلم يتحقق ، لأن إسماعيل صار تحت رحمة المندوبين الأوربيين وتدخلهما المستمر في شئون الحكومة.
وبعد مقتل المفتش صدر مرسوم 18 نوفمبر 1876 القاضي بفرض الرقابة الثنائية على المالية المصرية.