أخبار قيس ولبنى
هو قيس بن ذريح بن سنة، وفي رواية ابن الحباب يتصل نسبه ببكر بن عبد مناة عذري وهو من خزاعة واسم أبيه علي أو هو جده، وكان ينزل بظاهر المدينة وهو رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب، وسبب علاقته بلبنى بنت الحباب الكعبية أنه ذهب بعض حاجاته فمر ببني كعب وقد احتدم الحر فاستسقى الماء من خيمة منهم فبرزت إليه امرأة مديدة القامة بهية الطلعة عذبة الكلام سهلة المنطق فناولته اداوة ماء، فلما صدر قالت له ألا تبرد عندنا، وقد تمكنت من فؤاده فقال نعم، فمهدت له وطاء واستحضرت ما يحتاج إليه وإن أباها جاء، فلما وجده رحب به ونحر له جزوراً وأقام عندهم بياض اليوم ثم انصرف وهو أشغف الناس بها فجعل يكتم ذلك إلى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه وأنه مر بها ثانياً فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من بها فوجد عندها أضعاف ذلك فانصرف وقد علم كل واحد ما عند الآخر. فمضى إلى أبيه فشكا إليه فقال له دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك، فغم منه وجاء إلى أمه فكان منها ما كان من أبيه فتركهما. فأتى الحسين بن علي، سلام الله عليهما، فشكى ما به، فقال له الحسين: أنا أكفيك. فمضى معه إلى أبي لبنى، فلما بصر به، وثب إليه، وأعظمه، وقال: يا ابن رسول الله، ما جاء بك إلي ؟ ألا بعثت إلي فآتيك ؟ قال: قد جئتك خاطباً ابنتك لبنى، لقيس بن ذريح، وقد عرفت مكانه مني. فقال: يا ابن بنت رسول الله، ما كنت لأعصى لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا، أن يخطبها ذريح علينا، وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف أن يسمع أبوه بهذا، فيكون عاراً ومسبة علينا. فأتى الحسين سلام الله عليه ذريحاً، وقومه مجتمعون، فقاموا إليه وقالوا له مثل قول الخزاعي. فقال: يا ذريح، أقسمت عليك بحقي، إلا خطبت لبنى لابنك قيس. فقال: السمع والطاعة لأمرك.
ولما تزوجها أقام مدة مديدة على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الاقبال، وفنون المحبة. وكان قيس أبر الناس بأمه، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمه في نفسها، وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري. ولم تر للكلام موضعاً حتى مرض قيس مرضاً شديداً، فلما برئ، قالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس ولم يترك خلفاً، وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال، فيصير مالك إلى الكلالة، فزوجه غيرها، لعل الله عز وجل يرزقه ولداً، وألحت عليه في ذلك. فأمهل ذريح حتى اجتمع قومه، ثم قال له: يا قيس، إنك اعتللت هذه العلة ولا ولد لك، ولا لي سواك، وهذه المرأة ليست بولود، فتزوج إحدى بنات عمك لعل الله أن يهب لك ولداً تقر به عينك وأعيننا. فقال قيس: لست متزوجاً غيرها أبداً. فقال أبوه: يا بني، فإن مالي كثير، فتسر بالإماء. فقال: ولا أسوؤها بشيء أبداً. قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها. فأبى، وقال: الموت- والله- أسهل علي من ذلك، ولكني أخيرك خصلة من خصال. فقال: وما هي ؟ قال: تتزوج أنت، فلعل الله عز وجل أن يرزقك ولداً غيري. فقال: ما في فضل لذلك. قال: فدعني أرحل عنك بأهلي، وأصنع ما كنت صانعاً، لو كنت مت في علتي هذه. فقال: ولا هذا. قال: فادع لبنى عندك، وأرتحل عنك إلى أن أسلوها، فإني ما تحب نفسي أن أعيش، وتكون لبنى غائبة عني أبداً، وأن لا تكون في حبالي. فقال: لا أرضى بذلك، أو تطلقها، وحلف لا يكنه سقف بيت أبداً، حتى يطلق لبنى. وكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويجيء قيس فيقف إلى جانبه، فيظله بردائه، ويصلى هو بحر الشمس، حتى يفيء الفيء عنه، وينصرف إلى لبنى، فيعانقها، ويبكي، وتبكي معه. وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك، فتهلك، وتهلكني معك. فيقول لها: ما كنت لأطيع أحداً فيك أبداً. فيقال: إنه مكث كذلك سنة، ثم طلقها لأجل والده، فلم يطق الصبر عنها. قال ابن جريج: أخبرت أن عبد الله بن صفوان لقي ذريحاً أبا قيس، فقال له: ما حملك على أن فرقت بين قيس ولبنى، أما علمت أن عمر بن الخطاب ، قال: ما أبالي فرقت بين الرجل وامرأته، أو مشيت إليهما بالسيف. وروى هذا الحديث، إبراهيم بن يسار الرمادي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال الحسين بن علي عليهما السلام لذريح بن سنة، أبي قيس: أحل لك أن فرقت بين قيس ولبنى، أما أني سمعت عمر بن الخطاب ، يقول: ما أبالي فرقت بين الرجل وامرأته، أو مشيت إليهما بالسيف. قال أبو الفرج: أخبرني محمد بن خلف، وكيع، قال: حدثني محمد بن زهير، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنا عمر بن أبي نصر، عن ليث بن عمرو، أنه سمع قيس بن ذريح يقول ليزيد بن سليمان: هجرني أبواي، إثنتي عشرة سنة، أستأذن عليهما، فيرداني، حتى طلقتها.
فلما أزمعت لبنى الرحيل بعد العدة جاء وقد قوض فسطاطها فسأل الجارية عن أمرهم فقالت سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها غداة غد ترحل إلى أهلها فسقط مغشياً عليه، فلما أفاق وأنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكى حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي بكفيك إلا أن ما حان حائن
وقال أيضاً:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي وأقررت عين الشامت المتملق
وددت وبيت اللّه أني عصيتم وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوص البحر والبحر زاخر أبيت على اثباج موج مفرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر ويكره سمعي بعدها كل منطق
وسقط غراب بحيث ينظره فنعق حين رحيلها فأنشد:
لقد نادى الغراب ببين لبنى فطار القلب من حذر الغراب
وقال غداً تباعد دار لبنى وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت تعست ويحك من غراب وكان الدهر سعيك في تباب
وتبعها حين ارتحلت ينظر إليها، فلما غابت رجع يقبل أثر بعيرها، فليم على ذلك فأنشد:
وما أحببت أرضكم ولكن أقبل أثر من وطىء الترابا
لقد لاقيت من كلف بلبنى بلاء ما أسيغ له الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى عييت فلا أطيق له جوابا
ولما أجنه الليل أوى إلى مضجعه فلم يطق قرار فجعل يتململ ويتمرغ في موضعه ويقول:
بت والهم يا لبينى ضجيعي وجرت مذ نأيت عني دموعي
وتنفست إذ ذكرتك حتى زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
يا لبينى فدتك نفسي وأهلي هل لدهر مضى لنا من رجوع
وقال أيضاً:
قد قلت للقلب لا لبناك فاعترف قضلت لبانة ما قضيت فانصرف
قد كنت أحلف جهدي لا أفارقها أُف لكثرة زيف القيل والحلف
حتى تكنفني الواشون فافتلتت لا تأمنن أبداً من غش مكتنف
هيهات هيهات قد أمست مجاورة أهل العقيق وأمسينا على سرف
حيّ يمانون والبطحاء منزلها هذا لعمرك شكل غير مؤتلف
وأرسلت إليه يوماً أمه بنات يعبن لبنى عنده ويلهينه بالتعرض إلى وصلهن فأنشد:
يقر لعيني قربها ويزيدني بها عجباً من كان عندي يعيبها
وكم قائل قد قال تب فعصيته وتلك لعمري توبة لا أتوبها
فيا نفس صبر الست واللّه فاعلمي بأول نفس غاب عنها حبيبها
فلم ينصرفن ودمن على ما كن فيه فنادى يا لبنى فقلن ما لك، قال خدرت رجلي وكان من المعلوم عند العرب أنه إذا خدرت رجل الرجل وذكر لها أحب الناس إليها سكنت ثم قال:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني لفارقتها في حبها فقضيت
برت نبلها للصيد لبنى عشية ورشت بأخرى مثلها وبريت
فلما رمتني أقصدتني بلبلها وأخطأتهم بالسهم حين رميت
وفارقت لبنى ضلة فكأنني قرنت إلى العيوق ثم هويت
فيا ليت إني مت قبل فراقها وهل يرجعن قول المفرط ليت
فوطن لنفسي منك هلكاً فإنني كأنك بي قد يا ذريح قضيت
ورأيت الأبيات في كتاب لا أعرف جامعه وفيها يقول:
فيا ليت إني مت قبل فراقها وهل ينفعن بعد التفرق ليت
فإن يك تهيامي بلبنى غواية فقد يا ذريح بن الحباب غويت
فوطن البيت، ولما اشتد شوقه وزاد غرامه أفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال، فلام الناس أباه على سوء فعله فجزع وندمع وجعل يتلطف به، فأرسل له طبيباً وقينات يسألون عن حاله ويلهونه، فلما أطالو عليه أنشد:
عند قيس من حب لبنى ولبنى داء قيس والحب صعب شديد
فإذا عادني العوائد يوماً قالت العين لا أرى من أريد
ليت لبنى تعودني ثم أقضي أنها لا تعود فيمن يعود
ويح قيس لقد تضمن منها داء خبل فالقلب منه عميد
فقال له الطبيب مذ كم هذه العلة بك ومذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا وليس إذا متنا بمنفصم العقد
فزاد كما زدنا وأصبح نامياً وليس إذا متنا بمنصم المهد
ولكنه باق على كل حادث وزائرتي في ظلمة القبر واللحد
فقال إنما يسليك عنها تذكر ما فيها من المساوي والمعايب وما تعافه النفس فقال:
إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثل ما على ألف شهر فضلت ليلة القدر
إذا ما شئت شبراً من الأرض أرجفت من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت ومتن كغصن البان منضمر الخصر
وأن أباه دخل وهو يخاطب الطبيب بذلك فجعل يؤنبه ويلومه، فلما لم يفد ذلك عرض عليه التزويج وأنشد:
لقد خفت أن لا تقنع النفس بعدها بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وازجر عنها النفس إن حيل دونها وتأبى إليها النفس إلا تطلعا
فلما أيس منه استشار قومه في دائه فاتفقت آراؤهم على أن يأمروه بتصفح احياء العرب فلعل أن تقع عينه على امرأة تستميل عقله فاقسموا عليه أن يفعل ففعل وأنه اتفق أن نزل بحي من فزارة فرأى جارية قد حسرت عن وجهها برقع خز وهي كالبدر حسناً وبهجة فسأل عن اسمها فقالت لبنى فسقط مغشياً عليه فارتاعت منه ونضحت وجهه بالماء وقالت إن لم تكن قيساً فمجنون. فلما أفاق استنسبته فإذا هو قيس فأقسمت عليه أن ينال من طعامها، فتناول قليلاً وركب فجاء أخوها على أثره فأعلمته القصة فركب حتى استرده وأقسم عليه أن يقيم عنده شهراً، فقال شفقت علي وأجاب فكان الفزاري يعجب به ويعرض عليه الصهارة حتى لامته العرب وقالوا نخشى أن يصير فعلك سنة فيقول دعوني في مثل هذا الفتى يرغب الكرام وقيس يقول له إن فيكم الكفاية ولكني في شغل لا ينتفع بي معه فألح عليه حتى عقد له على أخته ودخل بها فأقام معها أياماً لا تهش نفسه إليها ولا يكلمها ثم استأذن في الخروج إلى أهله فأذنوا له فخرج إلى المدينة وكان له بها صديق فأعمله أن لبنى قد بلغها تزويجه فغمت لذلك وقالت إنه لغدار وإني طالما خطبت فأبيت والآن أجيب هذا وإن أبا لفنى قد اشتكى قيساً إلى معاوية وإنه يشبب بابنته فكتب إلى مروان بهدر دمه وأمره أن يزوج ابنته بخالد بن خلدة الغطفاني وهو كندي حليف قريش فجعل النساء ليلة زفافها يغنينها:
لبينى زوجها أصبح لا حر يوازيه
له فضل على الناس وقد باتت تناجيه
وقيس ميت حقاً صريع في بواكيه
فلا يبعده اللّه وبعداً لنواعيه
ولما بلغ ذلك قيساً اشتد به الغرام فركب حتى أتى محلة قومها فقالت له النساء ما تصنع هنا وقد رحلت مع زوجها فلم يلتفت حتى أتى موضع خبائها فتمرغ به وأنشد:
إلى اللّه أشكوا فقد لبنى كما شكا إلى اللّه بعد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فجسمه نحيل وعهد الوالدين قديم
وأنشد حين بلغه هدر دمه:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عينيّ من دائم البكا ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
إلى اللّه أشكو ما ألاقي من الهوى ومن كرب تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشا وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين غزيرة بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوى يا نعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا بطون الهوى مقلوبة بظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ولكنما الدنيا متاع غرور
وقال أيضاً:
وإن تك لبنى قد أتى دون قربها حجاب منيع ما إليه سبيل
فإن نسيم الجو يجمع بيننا ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا بالليل في الحين تلتقي ونعلم أنا بالنهار نقيل
وتجمعنا الأرض القرار وفوقنا سماء نرى فيها النجوم تجول
إلى أن يعود الدهر سلما وتنقضي ترات يرها عندنا وذحول
وحجت لبنى في تلك السنة فاتفق خروجه أيضاً فتلاقيا فأبهت وأرسلت إليه مع امرأة تستخبر عن حاله وتسلم عليه فأعاد السلام والسؤال وأنشد:
إذا طلعت شمس النهار فسلمي فإني يسليني عليك طلوعها
بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت وعشر إذا اصفرت وحان رجوعها
ولو أبلغتها جارة قولي أسلمي طوت حزناً وارفض منها دموعها
وحين انقضى الحج مرض مرضاً أنهكه فأكثر الناس من عيادته فجعل يتكفر لبنى وعدم رؤيته لها فأنشد:
ألبنى لقد جلت عليك مصيبتي غداة غد إذ حل ما أتوقع
تمنيني نيلاً وتلويني به فنفسي شوقاً كل يوم تقطع
ألومك في شأني وأنت مليمة لعمري وأجفى للمحب وأقطع
وأخبرت أني فيك مت بحسرة فما فاض من عينيك للوجد مدمع
إذا أنت لم تبكي عليّ جنازة لديك فلا تبكي غداً حين أرفع
فحين بلغتها الأبيات جزعت جزعاً شديداً وخرجت إليه خفية على ميعاد فاعتذرت عن الانقطاع وأعلمته أنها إنما تترك زيارته خوفاً عليه أن يهلك وإلا فعندها ما عنده ولكنها جلدة وفي منازل الأحباب يرفعه إلى ابن عباس قال مررت بربع عفا وسمه وإذا بشخص فسلمت عليه لم يرد فمضيت وإذا هو يناديني فرجعت فرد علي السلام واعتذر ثم ذكر أنه تعتريه غيبة العقل أطواراً هذا ودمعه يسفح كالغيث فقلت له من أنت قال قيس ابن ذريح وأنشد:
أمانيه لبنى ولم يقطع المدى بوصل ولا هجر فبيأس طامع
أبى اللّه أن يلقي الرشاد متيم ألا كل شيء حمّ لا شك واقع
هما برحابي معولين كلاهما فؤاد وعين ماقها الدهر دامع
إذا نحن أفنينا البكاء عشية فموعدنا قرن من الشمس طالع
قال الحافظ مغلطاي وأخبرت لبنى بمرضه في حبها فقالت دفعاً للوهم مم يتمارض فبلغته القصة فأنشد:
تكذبني بالودّ لبنى وليتها تكلف مني مثله فتذوق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني لكم والهدايا المشعرات صديق
تتوق إليك النفس ثم أردّها حياء ومثلي بالحياء حقيق
إذ ود سوام النفس عنك وماله على أحد إلا عليك طريق
شهدت على نفسي بأنك غادة رداح وإن الوجه منك عتيق
وأنك لا تجزين مني صحابة ولا أنا للهجران منك أطيق
وإنك قسمت الفؤاد فنصفه رهين ونصف في الحبال وثيق
كأن الهوى بين الحيازيم والحشا وبين التراقي واللهاة حريق
فإن كنت لما تعلمي العلم فاسألي وبعض لبعض في الفعال يفوق
سلى هل قلاني من خليل صحبته وهل ذمّ رحلي في الرفاق رفيق
وهل يجتوي القوم الركام صحابتي إذا اغبرّ محشيّ المعجاج عميق
واكتم أسرار الهوى فأميتها إذا باح مزاح بهن يروق
هل الصبر إلا أن أصدّ فلا أرى بأرضك إلا أن يكون طريق
وروى أن قيساً انتقى ناقة من إبله وقصد المدينة ليبيعها فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه، ثم قال له ائتني غداً في دار كثير بن الصلت أقبضك الثمن، فجاء وطرق الباب فأدخله وقد صنع له طعاماً وقام لبعض حاجاته، فقالت المرأة لخادمتها سليه ما بال وجهه متغيراً شاحباً فتنفس الصعداء، ثم قال هكذا حال من فارق الأحبة. فقالت استخبريه عن قصته فاستخبرته فشرع يحكي أمره فرفعت الحجاب وقالت حسبك قد عرفنا حالك فبهت حين عرفها لا ينطق ساعة، ثم خرج لوجهه فاعترضه الرجل وقال ما بالك عدلت قبض مالك وإن شئت زدناك، فلم يكلمه ومضى فدخل الرجل فقالت له ما هذا الذي فعلت إنه لقيس فحلف أنه لا يعرفه، وأنشد قيس معاتباً لنفسه:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت فللدهر والدنيا بطون وأظهر
كأني في أرجوحة بين أحبل إذا فكرة منها على القلب تخطر
وقيل أنه حين جاء ليقبض ثمن المطية رأى لبنى فعاد مبهوتاً فسأله أأنت قيس قال نعم قال ارجع لنخيرها فإن اختارتك طلقتها وظن الرجل أنها تبغض قيساً فخيرها فاختارت قيساً فطلقها لوقته. وحكي أن سبب طلاقها أن قيساً قصد ابن أبي عتيق وكان أكثر أهل زمانه مروءة في ذلك، فجاء إلى الحسن والحسين وأعلمهما أن له حاجة عند زوج لبنى وطلب أن ينجداه عليه فمضيا معه حتى اجتمعوا به وكلموه في ذلك فقال سلوا ما شئتم فقال له ابن أبي عتيق "أهلاً كان أو مالاً؟" قال نعم، فقال أريد أن تطلق لبنى ولك ما شئت عندي فقال أشهدكم أنها طالق ثلاثاً فاستحيوا منه وعوضه الحسن مائة ألف درهم وقال له لو علمت الحاجة ما جئت. وروى أن لبنى عاتبت قيساً على تزويج الفزارية فحلف لها أن عينيه لم تكتحل برؤيتها ولم يكلمها لفظة واحدة وأنه لو رآها لم يعرفها وأخبرته لبنى أنها كاره زوجها وأعلمته أنها لم تتزوجه رغبة فيه بل شفقة على قيس حين أهدر دمه ليخلى عنها فطلقها حين علم ما بينهما وأرسل أخو الفزارية إلى قيس حين أبطا عنه يسأله الرجوع فأعاد الرسول بالخيار في أمر اخته فاختار الرجل عدم الفرقة وقصد قيس معاوية فمدحه فرق له وكان ذلك قبل طلاق لبنى فقال له إن شئت كتبت إلى زوجا بطلاقها فقال لا ولكن ائذن لي أن أكون ببلدها ففعل فنزل قيس حين زال هدر دمه بحبها وظافرت مدائحه فيها حتى غنى بها معبد والغريض واضرابهما فرق الناس له هذا ولما طلقت نقلت إلى العدة بأمر ابن أبي عتيق فمن ذاهب إلى أنها أكملت عدتها وتزوجها وأقاما إلى الموت بدليل مدحه لابن أبي عتيق حيث قال:
جزى الرحمن أفضل ما يجازى على الاحسان خيراً من صديق
فقد جربت إخواني جميعاً فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ورأى حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي أغصتني حرارتها بريقي
ومن ذاهب وهم الأكثر إلى أنها ماتت في العدة وأن مدحه لابن أبي عتيق حين لم يشك في عودها إليه وقد نهاه عن مدحه وقال له من سمع بهذا يعدني قواداً والقائلون بموت لبنى في العدة أجمعوا أن قيساً خرج حين بلغه ذلك حتى وقف على قبرها وأنشد:
مات لبينى فموتها موتي هل ينفعن حسرة على الفوت
إني سأبكي بكاء مكتئب قضى حياة وجداً على ميت
ثم بكى حتى أغمي عليه فحمل ومات بعد ثلاث ودفن إلى جانبها وكان ذلك في سنة وله أشعار كثيرة منها حكاه الشهاب في منازل الأحباب عن أبي العباس على تردد في أنه لابن الدمينة.
وفي عروة العذري إن مت أسوة وعمرو بن عجلات الذي قتلت هند
وبي مثل ما قد نابه غير أنني إلى أجل لم يأتني وقته بعد
وفيض دموع العين بالليل كلما بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو
ومنها:
لقد عنيتني يا حب لبنى فقع إما بموت أو حياة
فإن الموت أيسر من حياة منغصة لها طعم الشتات
وقال الآمرون تعز عنها فقلت ولا إذا حانت وفاتي
ومنها:
ما وجدت وجدي بها أم واحد ولا وجد النهدي وجدي على هند
ولا وجد العذري عروة في الهوى كوجدي ولا من كان قبلي ولا بعدي
ومنها:
لو أن امرأ أخفي الهوى عن ضميره لمت ولم يعلم بذاك ضمير
ولكن سألقي اللّه والنفس لم تبح بسرّك والمستخبرون كثير
المراجع كتاب الأغاني – أبو الفرج الأصفهاني. الفرج بعد الشدة - القاضي التنوخي. تزيين الأسواق في أخبار العشاق - داود الأنطاكي.