فهرس |
لاحظ علماء الدولة العثمانية منذ عهد السلطان مراد الثالث (982-1003هـ = 1574-1595م) أن الفساد قد استشرى في أجهزة الدولة، وأن الفتن والثورات بدأت تطل برأسها، ولم تعد الدولة قادرة على أن تُمْسك بزمام الأمور، وأصبحت في حاجة إلى من يبثّ فيها الحياة، ويأخذ بيدها بعيدا عن موارد الهلكة والسقوط، وظهرت دعوات إصلاحية تستند إلى استلهام روح الإسلام ومبادئه في علاج الخلل، وإلى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف مؤسسات الدولة؛ حتى تنهض الدولة وتهبّ من كبوتها، وتعيد إلى الأذهان سالف عهدها العظيم.
ثم ظهرت دعوات إصلاحية تنادي بضرورة الاستفادة من التقدم الأوروبي، بعد أن بلغت الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري أسوأ حالاتها ضعفا وانحلالا. وأول حركة إصلاحية تبنت هذا النهج كانت في عهد السلطان أحمد الثالث، الذي تجمع حوله عدد من المثقفين الذين يقفون وراء هذا الاتجاه.
ثم شهد عصر السلطان سليم الثالث بدايات الإصلاح الحربي، وتطوير التعليم العسكري على النمط الغربي، وما ارتبط به من اقتباس المعرفة الأوروبية، ثم جاء السلطان محمود الثاني، فخطا بالإصلاح خطوات واسعة، وحاول أن يوقظ الدولة العثمانية، وأن يدفعها إلى ما تستحقه من مكانة وتقدير.
تقلد السلطان محمود الثاني مقاليد الخلافة العثمانية سنة (1199هـ = 1784م) وهو في الرابعة والعشرين من عمره، واستقر عزمه على أن يمضي في طريق الإصلاح الذي سلكه بعض أسلافه من الخلفاء العثمانيين، ورأى أن يبدأ بالإصلاح الحربي، فكلف الصدر الأعظم "مصطفى البيرقدار" بتنظيم الإنكشارية وإصلاح أحوالهم، وإجبارهم على اتباع التنظيمات القديمة الموضوعة منذ عهد السلطان سليمان القانوني وأُهملت شيئا فشيئا.
حاول الصدر الأعظم أن يقوم بالمهمة التي كلفه بها السلطان محمود الثاني؛ فقوبل باعتراض من الإنكشارية، وثاروا في العاصمة ثورة عارمة في (رمضان 1223هـ = 1808م) وحاولوا إرجاع السلطان السابق "مصطفى الرابع" ليكون ألعوبة في أيديهم، وأضرموا النيران في السرايا الحكومية، ومات الصدر الأعظم في هذه الفتنة محترقا وهو يحاول أن يقضي على تلك الفتنة، واضطر السلطان أن يخضع لهم بعد أن أضرموا النار في العاصمة، وكادت النيران تقضي عليها، مؤجلا فكرة التخلّص منهم إلى وقت آخر.
وكان السلطان يرى أن اشتداد نفوذ الإنكشارية قد حطم جهود كل من يحاول الإصلاح من السلاطين السابقين، وأن سرّ نجاح محمد علي في حركته الإصلاحية أنه بدأ بإزالة عقبة مشابهة وهي المماليك فتخلص منهم في الحادثة المعروفة باسم "مذبحة القلعة"، وقد تخلص السلطان محمود الثاني من الإنكشارية تماما في سنة (1240هـ=1826م).
وجّه السلطان محمود الثاني عنايته إلى بناء فرق عسكرية تأخذ بالنظم الحديثة؛ فأنشأ قوة من سلاح المدفعية على يد ضباط أوروبيين، وكان نجاح هذه القوة في تعلم الفنون العسكرية الحديثة حافزا له في تنظيم قوة أخرى من المشاة على نفس الطريقة.
وبدأ السلطان يعمل على إيجاد رأي عام يؤيد ما يتجه إليه من إصلاحات، بإقامة الحفلات الكبرى لأي إنجاز تقوم به قواته، وباستصدار فتوى من كبار مشايخ الدولة بوجوب تعليم فنون الحرب، وضرورة إصلاح الجندية، وإدخال النظام العسكري الحديث في فرق الإنكشارية التي لا يمكنها بما هي عليه الآن الوقوف أمام الجيوش الأوروبية، وأحيا السلطان محمود الثاني ما أقامه مصطفى الثالث من مدارس للطوبجية والبحرية والهندسة، وأنشأ مدرسة حربية لتخريج الضباط على غرار المدارس الحربية الأوروبية، وكذا مدارس لتعليم الجند وتدريبهم على نَسَق مدارس الجيش في إنجلترا.
وأخذ السلطان بنظام التجنيد الإجباري لأبناء المسلمين، وجعل مدة التجنيد عشر سنوات، وأرسل الضباط في بعثات للخارج على نطاق واسع، واستدعى عددا من الضباط من بروسيا لتدريب القوات الجديدة.
واتجه السلطان إلى إصلاح البحرية، فأعاد فتح مدرسة البحرية التي كان قد أنشأها السلطان مصطفى الثالث، وشرع في بناء ثكنات خاصة لرجال البحرية الذين سُموا أحيانا بـ"جنود البحر"، وبنى دارا جديدة للمدرسة البحرية عُنِي بتلاميذها ومدرسيها، وزودها بالأدوات والمكتبة والأجهزة، ثم بنى مدرسة بحرية أخرى قصرها على الطلاب المتفوقين من المدرسة القديمة.
وأنشأ السلطان عددا من الترسانات البحرية في عدد من الثغور، وهي تعد من أهم إصلاحات محمود الثاني، وأعاد فتح المدرسة الهندسية البحرية التي كانت قد أنشئت في قبل في سنة (1208هـ=1793م)، وكلما انتهى العمل في بناء قطعة بحرية أُنزلت للبحر في احتفال عظيم، وكان السلطان يُسرّ لإنشاء السفن الجديدة سرورا عظيما ويخلع على طاقمها هباته وهداياه.
عُنِي محمود الثاني بتنظيم التعليم حيث أنشأ المدارس الابتدائية المسماة "صبيان مكتبي" لتعليم الهجاء التركي وقراءة القرآن، ومبادئ اللغة العربية، والمدارس الثانوية "مكتب رشدية" لتعليم الرياضيات والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب المدارس الملحقة بالمساجد، كما أنشئت مدارس تُعِدّ طلابها للالتحاق بمدارس البحرية والطب والزراعة والهندسة والمدفعية، وكانت المدرسة الإعدادية لمدرسة الطب ملحقة بها.
واعتنى محمود الثاني بمدرسة تعليم اللغات التي أنشئت في عصر السلطان محمود الرابع لتخريج المترجمين، وكان يلتحق خريجو هذه المدارس بالسفارات المختلفة.
وأكثر محمود الثاني من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس لتحصيل الفنون والعلوم الحديثة، وكلف سفيره في باريس "أحمد باشا" بمرافقتهم وكتابة تقارير عنهم.
حاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة المركزية، فوضع الأوقاف تحت إشرافه وألغى الإقطاعات الصغيرة وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى أول إحصاء للأراضي الزراعية التركية في العصر الحديث، وأدخل تحسينات على شبكة المواصلات، وأنشأ طرقا جديدة وأدخل البرق، وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة.
وشهد عصر السلطان محمود نشاطا في حركة التعمير، وصيانة المرافق القديمة التي أصابها الإهمال، فأنشأ في سنة (1241هـ = 1825م) "جامع نصرت" أي جامع النصر في إستانبول، وأعاد تعمير مسجد "آيا صوفيا" وغيره من مساجد العاصمة. ودعا إلى بناء المنازل من الحجر بدلا من الخشب، وكانت العاصمة كثيرا ما تتهدد بالحرائق التي تنشب في البيوت الخشبية، وأقام برج الحريق من الرخام، وكان مرتفع البناء لاكتشاف الحرائق ورفع راية وإضاءة مصباح عند رؤية الحريق مباشرة.
وأوجد السلطان محمود نظام "الحجر الصحي" للوقاية من انتشار الأوبئة، وعُنِي بالإكثار من المستشفيات والصيدليات ومكاتب التحصين، وصار الأخذ بالإجراءات الصحية الأوروبية هو القاعدة، وكان السلطان حريصا على إيجاد وعي صحي بين الناس.
امتاز السلطان محمود الثاني بالشخصية القوية والهمة العالية، والعزيمة الصادقة، حاول جاهدا أن يعيد للدولة مكانتها، لكن الأحداث الدولية لم تساعده، وأنهكته الحروب مع روسيا، وشغلته حروبه مع محمد علي والي مصر الطموح الذي تطلع إلى ضم أجزاء كبيرة من الدولة، ووقعت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في سنة (1245هـ = 1830م).
تعرض السلطان للإصابة بعدوى السل، ولما اشتد به المرض نُقل إلى إحدى ضواحي إستانبول للاستشفاء بهوائها النقي، ثم لم يلبث أن عاجلته المنية في (19 من ربيع الآخر 1255هـ = 2 من يوليو 1839م) وخلفه السلطان عبد المجيد.
محمد عبد اللطيف البحراوي: حركة الإصلاح العثماني- دار التراث- القاهرة 1398هـ=1978م.
محمد زيد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية- دار النفائس- بيروت 1403هـ=1983م.
علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية- المكتب الإسلامي- بيروت 1415هـ=1994م.
محمد حرب: الدولة العثمانية- سفير للطباعة والنشر- القاهرة 1996م.
→ سبقه مصطفى الأول |
سلاطين عثمانيون |
خلفه ← عبد المجيد الأول |