يا عَينُ مَهما كُنتِ ذاتَ جُمودٍ
يا عَينُ مَهما كُنتِ ذاتَ جُمودٍ المؤلف: شكيب أرسلان |
يا عَينُ مَهما كُنتِ ذاتَ جُمودٍ
فَلَأُبكِينكِ دَماً عَلى مَحمودِ
وَلَأُمطِرَنكَ مِنَ الدُموعِ سَحائِباً
تَروينَها عَن كَفِّهِ في الجودِ
وَلَأَنتَ يا كَبِدي فَمِن نارِ الأَسى
ذوبي وَيانارُ الضُلوعِ فَزيدي
ماكُنتُ يا قَلبُ الحَديدَ فَإِن تَكُن
فَالنارُ قَد تُلوى بِكُلِّ حَديدِ
أَتُعِزُّ في مَحمودِ دَمعَةَ ناظِرِ
لَو كانَ فيهِ قَسوَةَ الجَلمودِ
مِن بَعدِ ما مَلَأَ النَواظِرَ قُرَّةً
وَغَدا مَسَرَّةَ قَلبِ كطُلَّ وَدودِ
ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ مِثلَ جَبينِهِ
شَرخَ الشَبابِ يَعودُ طَعمُ الدودِ
ما كُنتُ آمُلُ أَنَّ شُعلَةَ ذِهنِهِ
تَعدو عَلَيها اليَومَ كَفَّ خَمودِ
ما كُنتُ آمُلُ أَن نَكباءَ الرَدى
تودي بِغُصنِ شَبابِهِ الأَملودِ
وَبِكُلِّ نَفسٍ مِن أَمائِرِ نَبلِهِ
إيماضَ بارِقَةٍ وَلَمحَ شُهودِ
سَهِرَ الَيالي في وِصالِ حَقائِقٍ
وَالغَيرُ يَسهَرُ في وِصالِ الغَيدِ
ما غَرَّهُ زَهوٌ وَلا حَسَبُ العُلا
إِلّا بِمَجمَعِ طارِفِ وَتَليدِ
نَظُمَت بِهِ زَهرَ الخِلالِ كَأَنَّها
في الخودِ عَقدَ اللُؤلُؤِ المَنضودِ
ما كانَ مَن يَمضي وَهَذا شَأوُهُ
في السِتِّ وَالعِشرينَ غَيرَ شَهيدِ
ما ارعَ مِثلُ القَصفٍ في شَرخِ الصِبا
وَالقَطفُ قَبلَ حَلاوَةِ العُنقودِ
يَومَ غَدا في كُلِّ دارٍ مَأتَماً
فينا وَفي الفِردَوسِ يَومَ العيدِ
لَبِسَ النَهارَ بِهِ دُجُنَّةَ غاسِقٍ
وَلَقَد يَكونَ ضِيا اللَيالي السودِ
وَلّى وَخَلَّفَ في ذَويهِ مِنَ الأَسى
حالاً أَشَقَّ مِنَ الحِمامِ المودي
لَو كانَ يَنظُرُ لِلحَقيقَةِ ناظِرٌ
فَالمَوتُ لِلمَوجودِ لا المَفقودِ
هَذا يَموتُ بِكُلِّ يَومٍ حَسرَةً
إِذا ذاكَ راحَ بِيَومِهِ المَوعودِ
يا أَيُّها المَحمودُ رِفقاً بِالأُلى
دَفَنوكَ بَينَ جَوانِحٍ وَكَبودِ
قَد كُنتَ سَبّاقاً إِلى حَوضِ العُلا
فَسَبَقتَ نَحوَ المَورِدِ المَورودِ
وَالكُلُّ رَكبٌ سائِرونَ وَإِنَّما
أَهلُ النَباهَةِ فَوقَ خَيلٍ بَريدِ
رِفقاً بِوالِدِكَ الكَريمِ فَقَد وَفى
شَجوَ الفَقيدِ بِفَرحَةِ المَولودِ
غادَرَت بُعدَكَ كُلَّ باكٍ جَفنَهُ
يَمتاحُ مِن بَحرِ البُكا بِمَديدِ
وَمَضَيتُ قاصِداً جَنَّةً وَتَرَكتَنا
مِن حُزنِنا في النارِ ذاتَ وَقودِ
قَد عَزَّ فيكَ الصَبرَ لَولا أَنَّهُ
فَرضٌ وَإِنَّ الحُزنَ غَيرَ مُفيدِ
قَد كُنتَ تَفدي في مَقامٍ كَريهَةٍ
لَو أَنَّ ثُمَّةَ مَوقِفاً لِجُنودِ
المَوتَ حَتَمَ وَالمَسافَةِ بَينَنا
نَزرٍ وَما مَن قامَ بِبَعيدِ
يَتَخَيَّلُ الإِنسانُ أَبعَدَ مَطمَعِ
وَالَوتُ مِنهُ مِثلَ حَبلٍ وَريدِ
لا تَستَحِقُّ مِنَ الهُمومِ حَياتَنا
لَو أَنصَفَ الأَقوامُ غَيرَ زَهيدِ
لَكِنَّ حَقَّ الطَبعُ مَحكومٌ بِهِ
وَالعَقلُ مُرتَبِطٌ بِبَعضِ قُيودِ
يا ثاكِلَ المَحمودِ صَبِراً بَعدَهُ
فَبَقاءُ أَحمَدَ سَلوَةَ المَفئودِ
إِن جَلَّ خَطبُكَ بِالَّذي أَثكَلتَهُ
فَالرُكنُ باقٍ لَيسَ بِالمَهدودِ
وَمِنَ الإِلَهِ عَلى الفَقيدِ تَحِيَّةً
وَفِراقُ عاجِلَةٍ لِدارِ خُلودِ
مَهما تَعاظَمَتِ الخُطوبُ عَلى الفَتى
فَعَزاؤُهُ في العَدلِ وَالتَوحيدِ