الرئيسيةبحث

وقعة برواز


ذكر وقعة برواز

رسالة كيكاوس إلى قيصر الروم و أفراسياب

قال: و لما أطلق ملك هاماوران و كيكاوس و أصحابه حمل اليه رستم ما أفاء اللّه عليه من أموال أولئك الملوك الثلاثة و ذخائرهم و أسلحتهم. فجلس كيكاوس على تخته و نفذ الى سوذابه تختا مرصعا بالجواهر مجللا بالوشائع على فرس بلجام ذهب عليه إكاف أعواده من المنذل الرطب، مزين بألوان الجواهر. و أمرها بالمصير اليه.

ثم برز فى العساكر و خيم على ظاهر البلد و عددهم يزيد على ثلاثمائة ألف فارس. و اجتمع عليه مائة ألف من هاماوران و مصر. و انضم اليه أيضا جمع عظيم من عساكر البربر. ثم أرسل الى قيصر ملك الروم و يأمره أن يسير فى آساد رجاله و أعيان قوّاده الى إيران لمقاتلة أفراسياب، حتى يتلاحق هو به.

فلما وقف قيصر على الرسالة و علم بصنيع رستم ببلاد مصر و البربر و ملوكها نفذ فارسا جريّا الى كيكاوس، و كتب اليه كتابا مشحونا بما يرضيه من الكلام. و قال فيه: إنا عبيد الملك نذعن لطاعته، و نبادر الى امتثال أوامره. و كنا لما قصد أفراسياب ممالك الملك قد انزعجنا لذلك، و طارت عقولنا فبادرنا الى لقائه و قتاله، و جرت بيننا وقعة قتل منا و منهم فيها خلق كثير.

و الآن حين جاءتنا البشرى بانتظام أحوال الدولة الشاهَنشَهية و علو راياتها المنصورة تأهبنا فى عساكرنا منتظرين و صول الخبر بانفصال الملك من تلك الجهة لنشرع الأسنة فى نحور أعدائه، و نبادر الى نصرته. فلما وصل الرسول بكتابه الى كيكاوس و وقف عليه ارتضى كلامه، و استحسن جوابه.

فكتب حينئذ الى أفراسياب يأمره بالخروج عن ممالك إيران و يقول له: لا تتعد طورك و ارجع القهقرى وراءك. فإن ممالك توران كافية لك. فكف يدك عن الفضول. و الأليق بك أن تحفظ روحك و تسلك سبيل الخدمة. ألا تعلم أن العالم تحت حكمنا، و إيران مأوانا و سرير ملكنا؟ و النمر و إن كان شديد الباس فلا يبلغ قدره أن يتوغل على السباع فى الأخياس. قال: فلما وقف أفراسياب على كتابه اغتاظ و هاج، و أجابه عن كتابه يعيب عليه ما كتب به إليه. و قال: لو كنت مستحقا لملك إيران لم تقصد بلاد مازندران.

و هأنا قد جئت مسارعا الى القتال رافعا رايات الإقبال. فعبى عند ذلك كيكاوس عسكره و أقبل مسرعا. و فعل أفراسياب مثل ذلك، و قال: ليس يستحق ملك إيران و توران غيرى. فإنى أنتمى الى أفريدون و تور، و أستحق ذلك بالإرث أوّلا و بالقوّة و التغلب ثانيا.

و إنى قد قاتلت العرب و هزمتهم و انتزعت تلك الممالك من أيديهم. فوصل كيكاوس من ناحية البربر، و تلقاه أفراسياب. فقامت الحرب بينهم على ساق، فأسرع القتل فى عساكر أفراسياب حتى أتى على أكثرهم.

فانهزم الباقون الى عسكر خوزستان. و ركب منها أفراسياب فى الفل من أصحابه و عاد الى توارن مهيضا مفلولا.

تعمير كيكاوس العالم

و رجع كيكاوس الى بلاد فارس فجدّد رسم السلطنة، و مهد قواعد العدل و الاحسان، و بسط ظلال الأمن و الأمان. فنفذ الى كل صوب واحدا من أمرائه، و رتب فى كل واحدة من مدن خراسان الأربع، و هى مرو نيسابور و بلخ و هراة، عسكرا. فالت الفتن، و طابت الدنيا، و أطاعه الجن و الإنس، و أذعن له الملوك أرباب التخوت و التيجان فى جميع الأقاليم.

و كان يرى كل ذلك من آثار رجولية رستم بن دستان و بسالته. فولاه بلهوانية العالم. ثم إنه استسخر الجن فى العمارة حتى بلغ منهم المجهود، فأمرهم بنقر الجبال و نحت الأحجار. و بنوا له موضعين و استعين فى جبل ألبرز و نحتوا فيهما من الأحجار أوارىّ الدواب: و علموا لها سوارى من الرخام، و سمروها بالفولاذ.

و أمرهم أيضا فعملوا له من الزجاج المرصع بالزبرجد مجلسين برسم الأكل و النوم. و عملوا بيتين من الفضة برسم السلاح، و قصرا من الذهب عاليا فى طول مائة و عشرين ذراعا

و قال المترجم فى دينكَرد : أن كيكاوس بنى سبع دور على جبل ألبرز واحدة من الذهب، و اثنتان من الفضة، و اثنتان من الحديد، و اثنتان من البلور.

و فى الثقابنمه: أنه أمر الشياطين فبنوا له مدينة طولها ثمانمائة فرسخ، و أمرهم فضربوا عليها سورا من صفر، و سورا من شبه، و سوار من نحاس، و سورا من فخار، و سورا من فضة، و سورا من ذهب. و كانت الشياطين تنقلها ما بين السماء و الأرض، و ما فيها من الدواب و الخزائن، و الأموال و الناس.

و هذا يشبه أساطير سليمان بن داود-علیهما السلام- و يقول : فزعم بعض أهل العلم بأخبار المتقدّمين أن الشياطين الذين كانوا سخروا له إنما كانوا يطيعونه عن أمر سليمان بن داود إياهم بطاعته».

و يقول :« و بنى ببابل الصرح الرفيع المشتمل على بيوت الحجر و الحديد و الصفر و النحاس و الرصاص و الفضة و الذهب».

الأبنية معتدل الهواء لا يظهر أثر صيف فيه و لا شتاء. و كان جميع فصوله فى طبيعة فصل الربيع.

و لا يزال الورد يتفتق فى رياضه، و الأزاهير تتهلل فى جناته. و استراح الخلق فى تلك الأيام من العناء و التعْب إلا الجن. فانهم كانوا يقاسون من المشقة و العناء جهد البلاء.


إضلال إبليس كيكاوس و صعود كيكاوس إلى السماء

قال: فجلس إبليس يوما حيث يخفى على كيكاوس، و جمع الجن فقال لهم: إنكم صرتم من كيكاوس فى تعب عظيم و بلاء شديد. و أريد منكم واحدا خفيف اليد عارفا بدقائق الحيل ليضل كيكاوس و يصدّه عن سبيل الحق. فلم يتجاسر أحد منهم على مجاوبته عن ذلك خوفا من كيكاوس سوى واحد منهم. فانه قال: أنا أقوم بهذا الأمر.

فتصوّر بصورة غلام فصيح يصلح لخدمة الملوك، و لزم باب كيكاوس حتى خرج يوما للصيد. فدنا منه و قبل الأرض بين يديه، و ناوله باقة ورد، و قال: إنك بهذه السلطنة و الحالة تستحق أن تكون السماء تحتك و الفلك تختك. و ما زال هذا الشيطان يستدرجه و يغويه حتى تمكن من دماغه، و مناه الصعود الى السماء.

و قام ذلك بنفسه حتى نفذ الى أوكار العقبان فأخذ منها أفراخا و جعلوها فى بيوت، و ربوها حتى ترعرعت، و صارت فى قوّة أشبال الأسود. فأمر فصنعوا تختا من العود القَمارىّ ، و سمروه بمسامير من الذهب، و نصبوا فى زوايا التخت و جوانبه الأربعة أربع حراب، و علقوا على كل واحدة فخذ حمل. ثم جاءوا بأربعة من تلك العقبان،) و ربطوا على أجنحتها ذلك التخت. و ركبه كيكاوس. فلما رأت العقبان اللحم هششن إليه و ارتفعن يطلبنه طائرات فى جو الهواء حتى بلغن أعنان السماء.

ثم أدركهن الضعف حين ابتل بنضح العرق قوادمهنّ ، فانقلبن متنكسات، فوقعن فى بعض الآجام من أرض آمل. و كيكاوس سالم لم يعطب. و كان قد سبق فى قضاء اللّه تعالى أن يخرج من ظهره سياوش فأنسأ له فى أجله.


إرجاع رستم كيكاوس

قال: فلما استقرّ على الأرض قعد حزينا يقرع سن الندم. ثم انتهى الخبر بسلامته الى رستم و طوس و جيو فصاروا إليه. و لما حصلوا لديه أقبل عليه جوذرز يعنفه، و قال له: إن المارستان أولى بك من شارِستان مالك تعرض كل حين سريرك و مملكتك لأعدائك متبعا رأيك الفائل؟

و قد ألقيت بيدك الى التهلكة مرارا ثلاثا و أنجاك اللّه تعالى منها. فما أيقظك ذلك، و لا اتعظت.

و أوّل ذلك قصدك بلاد مازندران و ما لاقيت فيها من الشدائد. ثم تهجمك على ضيافة عدوّك و ماتم عليك من ذلك. ثم إنه لم يسلم أحد غير اللّه من منازعتك.

و لما فرغت من أهل الأرض قصدت نحو السماء. فانظر كم وقعت ثم سلمت، و أشفيت على الهلكة ثم نجوت.

فكن سالكا لسبيل الملوك الماضين، و اقتد بهم فى عبودية مالك السماوات و الأرضين، و لا تعتصم إلا به، و لا تعوّل إلا عليه. فاعترف عند ذلك كيكاوس على نفسه، و صدق مقالته. ثم ركب العمارية و هو حليف أسف و قرين ندم.

فجلا فى مكان معتكفا أربعين يوما يعفر خده فى التراب بين يدى اللّه عز و جل، و يبكى و يستغفر، و يسأله أن يتوب عليه. و بقى منكس الرأس فى المعتكف لا يخرج من فرط الحياء حتى مضى على ذلك زمان.

فلما علم أن اللّه تعالى قد تاب عليه خرج و جلس على تخت المملكة. فأقبل الى خدمته ملوك الأقاليم طائعين و مذعنين. و عادت الأيام الى ما كانت عليه فى الأوّل . و استخراج الناس فى كنف العدل و ظل الأمن وادعين ساكنين.

حرب الأبطال السبعة

قال صاحب الكتاب: سمعت أن رستم بن دستان على دعوة للملوك، و الأمراء فى موضع يسمى بردوند و كان فى هذا المكان قصور عالية و عنده بيت النار الذى عمله برزين فاجتمع فى هذه الدعوة من الملوك و القوّاد طوس و جوذَرز و بهرام و جُرجين و جِيو و كُستَهَم و زنكه و خرّاد و برزين و كُرازه مع كل واحد منهم من الفرسان المقاتلة جمع عظيم.

فاستراحوا زمانا الى المناظلة و المعاقرة و الملاعبة بالصوالجة و الأكر من مكاره الحرب و شدائدها.

فاتفق أن جيو بن جوذرز قال يوما لرستم: إن رأيت نركب للصيد، و نستصحب الفهود و الجوارح، و نصير الى متصيد أفراسياب فنصطاد فى صحراء توران اصطيادا يبقى فى العالم ذكره أبد الدهر. فوافق ذلك رأى رستم فتواعدوا على ذلك و ركبوا من ليلتهم مدلجين فى العساكر، و استصحبوا الفهود و البزاة. و سارا حتى وصلوا الى وادى الشهد.

و كان هناك متصيد أفراسياب. و من أحد جانبيه الماء و من جانبه الآخر مدينة سرخس و باديتها و كان فى ذلك الموضع صيد كثير فأكبوا على الطرد و الصيد حتى أخلوا المكان من السباع، و أخافوا الطيور فى الهواء.

فأقاموا على ذلك أسبوعا لا يفترون عن اللهو و اللعب. فلما كان اليوم الثامن نبهم رستم على رأى رآه، و قال لهم: ما أشك أن الخبر قد انتهى الى أفراسياب بتوغلنا هذه المواضع.

فلا بدّ من طليعة تكون أمامنا و تحفظ الطريق. حتى اذا أحس بعسكر أفراسياب أخبرتنا و أنذرتنا كيلا ينتهز الخصم منا فرصة. فتجرّد لذلك منهم كُرازه ، و اشتغل الباقون بما هو فيه من الصيد و اللهو غير مفكرين فى عدوّهم .

قال: و انتهى الخبر الى أفراسياب بحصولهم فى ذلك المتصيد، فدعا أمراء جيشه و قوّاد عسكره، و فاوضهم فى أمر رستم و القوّاد السبعة الذين معه.

و قال: لا بدّ لنا من أن نركض اليهم و نهجم عليهم. فإنا اذا قبضنا على أولئك الملوك السبعة ضاق الأمر على كيكاوس.

و انتخب من عسكره ثلاثين ألفا من رجال الحرب، و أمرهم ألا يفتروا عن الركض و ركب فيهم فأخذوا طريق البرية فى أهبة القتال. و أراد سدّ الطريق على رستم و أصحابه، و قطعة عليهم لئلا يفلت منهم أحد. فلما قربوا رأى كرازه الذى كان طليعتهم غبارا عظيما. فعلم بأنهم عسكر أفراسياب، فعطف عنانه الى مجتمع أصحابه، و أنذرهم بمجئ أفراسياب. و كان رستم حينئذ يشرب مع الأمراء.

فقال له: ما هذا الفزع من عسكر أفراسياب؟

إنهم لو زادوا على مائة ألف و لم يكن فى هذا الموضع غير واحد منا لكسرهم و هزمهم. فكيف و قد اجتمع هاهنا هؤلاء السباع السبعة الذين لا يثبت بين أيديهم أحد ثم أمر السقاة بادارة الكؤوس. و وضع على كفه بلبلة من السلاف البابلى، و سمى كيكاوس، و قبل الأرض و شربها على اسمه.

فقام الأمراء و قالوا ليس هذا وقت الشرب.


بطولة رستم في الحرب مع التورانيين

و قال له جِيو : الرأى أن أركب و أتلقاهم، و أحفظ رأس القنطرة، و أمانعهم ساعة حتى يلبس عساكرنا السلاح و يستعدّوا . فركب راكضا. و لما وصل الى القنطرة رأى أفراسياب و عسكره قد قعطوا الماء الى هذا الجانب.

فلبس رستم و الأمراء أسلحتهم، و ثاروا فى وجوههم أمثال النمور. و خاض جيو غمرة الحرب كأنه ليث أضل طريقه. و لما رأى أفراسياب رستم امتلأ منه رعبا فتوقف و لم يقدم، و جعل يسير وراء عسكره ناظرا فى الرأى و التدبير. ففتل خلق كثير من أصحابه، و ظهر عليهم آثار الدبرة.

فقال عند ذلك لصاحب جيشه فيران، و هو عماد أمره و متولى حله و عقده:

ما لنا فى قمام الرأى و التدبير أمثال الآساد، و أراكم الآن فى معترك الحرب و ملتحم القتال أمثال الثعالب؟

فتقدّم أنت و ابذل جهدك، و استعمل جدّك ، و لك ممالك إيران. فتقدّم عند ذلك فيران و زحف فى عشرة آلاف من الآساد المذكورين، و قصد رستم و ثار اليه كأنه النار. فاستشاط رستم لما رآه، و جاش و كالبحر اللجىّ و وقع فى أصحابه يضرب يمينا و شمالا حتى قتل أكثرهم.


بطولة الكوس و هو من قادة أفراسياب

فقال أفراسياب: إن دام هذا الحال الى المغرب لم يبق أحد من التورانية. فاستحضر رجلا من أصحابه يسمى الكوس معروفا بالنجدة و الشجاعة، و حثه على الجدّ فى القتال. فتقدّم فى اثنى عشر ألفا، و أصلاهم نار الحرب، و قصد أخا لرستم يسمى زواره، و هو يحسبه رستم، فاشتدّ بينهما القتال و تطاعنا حتى تقصفت رماحهما. ثم استل كل واحد منهما سيفه فتضاربا حتى انكسرت أسيافهما.

ثم تضاربا بالجرز فغلب الكوس زواره بضربة ألقاه بها عن ظهر فرسه. فلما رأى رستم ما جرى على أخيه صاح على الكوس صيحة عظيمة بلغت منه حتى ارتخت يده، و كل سيفه.

ثم إنه أقبل على رستم فتعلق أحدهما بالاخر فطعنه رستم فى صدره طعنة اختطفه بها عن سرجه و رماه الى الأرض.

و عند ذلك سل الأمراء السبعة أسيافهم، و جدوا فى القتال حتى كسروهم، ولوا مدبرين و الأمراء فى أقفيتهم.


هروب أفراسياب من المعركة

و ركض رستم خلف أفراسياب ليأخذه فلم يفلت منه إلا بجُرَيعة الذقن. و عاد الى توران خائبا مفلولا، و رجع الايرانيون مظفرين منصورين الى متصيدهم الذى كانوا فيه. و كتبوا الى حضرة الملك كيكاوس بما جرى لهم فى صيدهم و حربهم. و زعموا أنه لم يقتل منهم أحد و لم يجر عليهم بأس سوى أن زواره وقع من الفرس ثم ركب سالما. و أقاموا بعد الوقعة أسبوعين فى موضعهم ذلك ثم ركبوا عائدين الى خدمة الملك كيكاوس سالمين غانمين.