☰ جدول المحتويات
بداية القصة
كان فى بلاد إيران مدينة كُجاران على ساحل البحر الفارسي. و كانت كثيرة الخلق ضيقة الساحة. من عادة بنات أهلها أنهن يوافين باب المدينة كل صبيحة، فاذا اجتمعن توجهن نحو سفح جبل هناك، قريب، و معهن مغازلهن. فيقبلن على الغزل ينصرفن بالعشى إلى مساكنهن. و كان فى هذه المدينة رجل يسمى هفتواذ. و إنما سمى بذلك لأنه كان له سبعة بنين.
و كانت له بنت تخرج كل يوم مع النبات إلى الجبل المذكور. فحضرت المكان يوما فسقطت من بعض الأشجار التى كانت هناك فى حجرها تفاحة. فعضتها فوجدت فى وسطها دودة فأخذتها و وضعتها فى وعاء برسم المنزل من الخلنج، و قالت: سأغزل اليوم على سعادة هذه الدودة. فغزلت شيئا كثيرا من القطن فوق المعهود منها، و غلبت أترابها. و لم يزل ذلك دأبها حتى استغنت بكثرة غزالها.
و كانت تطعم الدودة كل يوم قطعة تفاح. فقالت لها أمها يوما: كان الجن معك حتى تهيأ لك هذا الغزل الكثير. فأخبرتها بحال الدودة، و علم بذلك أبوها أيضا. فتيمنوا بالدودة و جعلوا يعتنون بأمرها و يربونها حتى كبرت و ضاق عليها وعاء المنزل. فعملوا لها صندوقا و وضعوها فيه. و ظهرت آثار بركتها على حال هفتواد و أولاده فكانوا يزدادون كل يوم ثروة و نماء و ترفعا و اعتلاء حتى استظهر بكنز غمر و مال دثر. فطمع أمير تلك المدينة فى ذات يده و اغتصابه كل أمواله.
استفاضة خبر الدودة بين الناس و ظهور آثار بركتها عليهم
فاجتمع أهل المدينة مع هفتواذ، و خرجوا على الأمير و تصدّوا لقتاله. فوقعت بينهم وقعة عظيمة أفضت إلى قتل الأمير.
و استبد هفتواذ بذخائر و أمواله. و خرج من تلك المدينة، و بنى على رأس بعض جبالها قلعة حصينة و تحوّل اليها نجليه و رجله و أهله و ولده و دودته. و حصن القلعة حتى عمل لها سوار من حديد. ثم إن الصندوق ضاق على الدودة فخفروا لها فى الصحر حوضا فى القلعة، و وضعوها فيه، و و كلوا بها خدما و مستحفظين. و كانوا يطمعونها كل يوم قدرا من الأرز، و يغذونها بالشهد و اللبن حتى أتت عليه خمس سنين فصارت من الكبر و الضخامة كالفيل. و استفاض خبرها بين الناس فسميت تلك الناحية كرمان.
قال: و اجتمع لهفتواذ جيش عظيم حتى كان بنوه السبعة يركبون فى عشرة آلاف فارس. و كانوا مظفرين على جميع من ينهض لقتالهم من الملوك.
قتال أردشير لهفتواد و هزيمة أردشير
فلما وقف أردشير على حال هفتواذ، و أنه لا يفكر فى بيت كيقباد نفذ اليه بعض الإصبَهبَذين فى عسكر عظيم كشف. فكسرهم هفتواذ كسرا، و أوسعهم قتلا و أسرا. فعاد من سلم من الوقعة الى أردشير فأعلمه بما جرى على أصحابه. فالتهب غيظا و سار فى عساكره قاصدا قصد هفتواذ. فلما دنا بعضهم من بعض كادت الأرض تمور من كثرة العساكر فقامت الحرب بينهم على ساق، و جرت بينهم وقعة عظيمة. و لما أمسى أردشير تأخر و نزل. ثم إن هفتواذ أخذ عليه الطريق من جميع جوانبه، و ضاق على عسكره الطعام حتى جهدوا.
نهب مهرك نوشزاد صاحب جهرم دار أردشير و استيلائه على أمواله و بلغ أردشير أن صاحب جهرم المسمى مِهرك هجم على مدينته المستحدثة التى تسمى أردشير خُرّه فنهبها و استولى على ذخائره و خزائنه بها. فضاق أردشير بذلك ذرعا، و استحضر أصحابه و شاورهم فى حاله، و فاوضهم فيما دهاه من مهرك.
ثم أمر بمد السماط فوضع بين يدى أردشير حمل مشوىّ . فلما اشتغل الحاضرون بالأكل جاءت نشابة حتى وقعت فى الحَمَل الذى بين يدى أردشير. فاستعظموا ذلك و كفوا أيديهم عن الطعام.
فقام بعضهم و نزع النشابة من الحمل فوجدوا عليها كتابة فهلوية فقرئت فاذا فيها ذكر أن النشابة رمى بها من القلعة، و لو أراد راميها أن يصيب بها أردشير لتيسر له. و فى الكتابة: اعلم أيها الملك العالم! أن ثبات هذه القلعة من سعادة الدودة. و لا ينبغى لشهريار مثلك أن يكون من قتلاها. قال: و كان من بين القلعة و منزل أردشير مسافة فرسخين ففرج أردشير و حمد اللّه تعالى و شكر مرسل تلك النشابة.
علم أردشير بأمر الدودة و اتخاذه الحيلة للوصول إليها
فارتحل راجعا الى فارس فأتبعه عسكر هفتواذ، و قتلوا من أصحابه خلقا كثيرا، و تفرق الباقون آخذين نحو بلادهم.
و وقع أردشير فى جماعة من خواصه الى قرية فصادف رجلين من أهل تلك القرية فقال لهما: فى أى طريق أخذ أردشير؟ و كيف عبر؟ و قصد بذلك التعمية عليهما. و استرشدهما عن الطريق فأرشده اليه، و دعواه الى ضيافتهما. فنزل أردشير و دخل الى منزلهما فقدما اليه طعاما، و طفقا يحدثانه و يلاطفانه و يهونان عليه أمر هفتواذ، و أنه سوف يخمد جمره و تركد ريحه. فعلق كلامهما بقلبه و استحسنه فأخبرهما بنفسه. فوثبا و قبلا الأرض بين يديه.
فخاضوا فى حديث هفتواذ و استيلائه على ذلك الطرف و استظهاره بالعدل و العُدد ، فقالا: أيها الملك! إن الدودة التى استعلى بها أمر هفتواذ شيطان لا يقاومه أحد، و لا يمكن الظفر بها إلا بالحيلة: فليفكر الملك فى ذلك. فركب الملك من تلك الضيعة و توجه نحو أردشير خُرّه ، و استصحب الرجلين.
فلما وصل اليها جمع عسكره، و أطلق أرزاقهم، و ركب و سار نحو مدينة جهرم قاصدا قصد مِهراك الغادر. فلم يقدر على الثبات بين يديه فهرب. فنزل أردشير فى جهرم و أرسل وراءه الطلبة حتى ظفر به فقتله و قتل جميع من كان ينتسب اليه من أولاده و أقاربه، و لم يهرب منهم سوى بنت له، فإنها نجت و لم يظفر بها.
قتل أردشير تلك الدودة بالحيلة
ثم إنه سار من ذلك المكان فى اثنى عشر ألف فارس حتى نزل على منزل من قلعة هفتواذ. و سلم العسكر الى بعض أمرائه و أوصاه بحفظهم و بأن بيت الطائع و يفرّق الجواسيس. و قال: إنى أريد أن أحتال حيلة لقتل هذه الدودة اقتداء بجدّى إسفنديار فى قتل أرجاسب فاذا أخبرك الديدبان بأنه شاهد النهار من القلعة دخانا و بالليل نارا فانهض فى العسكر حتى تنتهى الى باب القلعة.
ثم استحضَر دواب و أوقرها بالثياب و الجواهر و الذهب و الفضة، و حمل قدرا كبيرة من الحديد مع جملة من الرصاص و النحاس، و استصحب طائفة من ثقاته و فيهم الفلاحان اللذان أضافاه. و لبسوا ملابس الصوف، و توجهوا نحن القلعة فى زى التجار. فصعد اليها بأحماله و رجاله. و تيسر له النزول عند حرس الدودة و مستحفظيها.
و قال: إنى تاجر خراسانى قد أتيت بجملة من القماش و الذهب و الفضة و الجوهر لأبيع و أبتاع فى مدينتكم هذه على سعادة الدودة. ثم قال لهم: إنى أريد أن أفتح البيع و الشراء بضيافتكم. فكونوا أضيافى ثلاثة أيام. ففعل ذلك و أضافهم. و قال و لهم: دعونى أتبرك بخدمة و الدودة و إطعامها. قال فأط مخدعهم يوما و سقاهم حتى سكروا و غمرهم السكر أجمعين.
فنصب قدر الحديد و أداب فيها ما كان معه من الرصاص و النحاس، و قدّمها الى حوض الدودة على مثل عادتهم فى تقديم قدر الأرز اذا أرادوا إطعامها. ففغرت فاها فأفرغ ما فى القدر فى حلقها فانشق حلقومها، و سمع منه صوت عظيم ارتج منه الجبل. و بادر الى السكارى فى أصحابه بالسيوف فقتلوهم عن آخرهم.
و كان الديدبان قد شاهد ارتفاع الدخان بالنهار حين أو قد نار الضيافة فأخبر سالار عسكره فركب و سار بهم الى القلعة. فوافق وصولهم اليها طلوع الصبح.
مقتل هفتواد على يدي أردشير
فلما علم هفتواذ بمجىء العسكر بادر الى باب القلعة فرأى أردشير عليه كأسد هصور فأحس بالشر. و نزل أردشير و انضم الى أصحابه، و تناوشوا الحرب ساعة فأسروا هفتواذ و ولده الأكبر سابور. فأمر بهما فصلبها و رشقا بالسهام.
و استولى على القلعة و ذخائرها و دفائنها فاصطفى البعض لنفسه و فرّق الباقى على عساكره. ثم سلم ذلك الاقليم الى الفلاحين المذكورين، و عاد الى بلاد و فارس. ثم ارتحل و سار منها الى شهر زور و منها الى مدينة طيسفون و قعد مقعد السلطنة.