الرئيسيةبحث

نهج البلاغة تحقيق فارس الحسون/خطب/2


الخطبة 2: بعد انصرافه من صفين


ومن خطبة له (عليه السلام)


بعد انصرافه من صفين


[وفيها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي ثمّ صفة قوم آخرين]

أحْمَدُهُ اسْتِتْماماً لِنِعْمَتِهِ، وَاسْتِسْلاَماً لِعِزَّتِهِ، واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلى كِفَايَتِهِ، إِنَّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ، وَلا يَئِلُ[1] مَنْ عَادَاهُ، وَلا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ; فَإِنَّهُ أَرْجَحُ ما وُزِنَ، وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ.


وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا، مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا[2]، نَتَمَسَّكُ بها أَبَداً ما أَبْقانَا، وَنَدَّخِرُهَا لاَِهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا، فَإِنَّها عَزيمَةُ الاِْيمَانِ، وَفَاتِحَةُ الاِْحْسَانِ، وَمَرْضَاةُ الرَّحْمنِ، وَمَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ[3].


وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَالعَلَمِ المأْثُورِ، وَالكِتَابِ المسْطُورِ، وَالنُّورِ السَّاطِعِ، وَالضِّيَاءِ اللاَّمِعِ، وَالاَمْرِ الصَّادِعِ، إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَاحْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَتَحْذِيراً بِالايَاتِ، وَتَخْويفاً بِالمَثُلاَتِ[4]، وَالنَّاسُ في فِتَن انْجَذَمَ[5] فِيها حَبْلُ الدِّينِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي[6] اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ[7]، وَتَشَتَّتَ الاَْمْرُ، وَضَاقَ الْـمَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، واَلعَمَى شَامِلٌ.


عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِْيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وَتَنكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ[8] سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ[9].


أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ[10]، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ، في فِتَن دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا[11]، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا[12]، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا[13]، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَار، وَشَرِّ جِيرَان، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بأَرْض عَالِمُها مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُها مُكْرَمٌ.


ومنها: ويعني آل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ[14] أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ[15] عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ[16] حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِه، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ[17].


منها: يعني بها قوماً آخرين

زَرَعُوا الفُجُورَ، وَسَقَوْهُ الغُرُورَ، وَحَصَدُوا الثُّبُورَ[18]، لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّد(عليهم السلام)مِنْ هذِهِ الاُمَّةِ أَحَدٌ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أبَداً.


هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمَادُ اليَقِينِ، إِلَيْهمْ يَفِيءُ الغَالي[19]، وَبِهِمْ يَلْحَقُ التَّالي، وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الوَصِيَّةُ وَالوِرَاثَةُ، الاْنَ إِذْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ.























  1. وَألَ: مضارعها يَئِلُ ـ مِثل وَعَدَ يَعِدُ ـ نجا ينجو.
  2. مُصَاصُ كل شيء: خالصُهُ.
  3. مَدْحَرَةُ الشيطان: أي أنها تبعده وتَطْرُدُهُ.
  4. المَثُلات ـ بفتح فضم ـ: العقوبات، جمع مَثُلَة بضم الثاء وسكونها بعد الميم.
  5. انْجَذَمَ: انقطع.
  6. السّوارِي: جمع سارية، وهي العَمُود والدِّعامة.
  7. النّجْر ـ بفتح النون وسكون الجيم ـ: الاصل.
  8. دَرَسَت، كانْدَرَسَتْ: انطَمَستْ.
  9. الشّرُك: جمع شِراك ككتاب وهي الطريق.
  10. المَنَاهِلُ: جمع مَنْهل، وهو مَوْرِد النهر.
  11. الاخْفَاف: جمع خُفّ، وهو للبعير كالقدَم للانسان.
  12. الاظلاف: جمع ظِلْف ـ بالكسر ـ للبقر والشاة وشبههما، كالخفّ للبعير والقدم للانسان.
  13. السّنَابك: جمع سُنْبُك ـ كقُنْفُذ ـ وهو طَرَفُ الحافر.
  14. اللّجَأ ـ محرّكةً ـ: المَلاَذُ وما تلتجىء وتعتصم به.
  15. العَيْبَةُ ـ بالفتح ـ: الوعاء.
  16. المَوْئِلُ: المَرْجِع.
  17. الفَرَائص: جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف لاتزال تُرْعَدُ من الدابة.
  18. الثّبُور: الهلاك.
  19. الغالي: المبالغ، الذي يُجاوز الحد بالافراط.