الإقليم الثالث - الجزء التاسع | نزهة المشتاق في اختراق الآفاق الإقليم الثالث - الجزء العاشر المؤلف: الإدريسي |
الإقليم الرابع - الجزء الأول |
إن هذا الجزء العاشر من الإقليم الثالث وهو آخره من جهة المشرق تضمن جزءاً من بلاد الصين في جنوبه وهناك للصين أربع مدن إحداها سطرويا والثلاث منها خفيت أسماءها وفي هذا الجزء قطعة وسطى من بلاد التغزغزية وفيها من بلادها ثلاثة وفيها من بلاد خرخيز قطعة كبيرة وأهلها يجاورون البحر ولهم في هذا الجزء أربع مدن عامرة.
ونحن نريد أن نكمل أوصافها ونذكر ما هي عليه في حالاتها وهيئاتها ونصف مسافاتها إن شاء الله فنقول إن بلاد التغزغز قد ذكرنا حدها فيما تقدم قبل هذا ويتصل بها في جهة المشرق بلاد خرخيز مما يلي البحر الصيني وحد الصين فوقها في جهة الجنوب ويتصل بهم في جهة الشمال بلاد الكيماكية.
وجميع بلاد الأتراك تكون خلف النهر وفي أقصى بلاد فرغانة والشاش والطران وهم أمم لا يحصى لهم عدد لكثرتهم ولهم رؤوس يرجعون إليهم ويقومون بحمايتهم والنظر في مشكلات أمورهم.
وهم ظواعن رحالة منتقلون من مكان إلى مكان يطلبون الخصب حيث عرفوا به وهم أصحاب إبل وأغنام وأبقار كثيرة وبيوتهم شعر مثل بيوت العرب لا يقيمون في مكان بل هم مع الدهر منتقلون متحولون من موضع إلى موضع آخر ولهم حرث وحصاد وزرع وعندهم السمن والزبد والألبان كثيرة وينتجون الخيل كثيراً ويأكلون لحومها ولا يفضلون على طعامها شيئاً من اللحوم.
وملوكهم أهل عدة وشكة واحتفال ونظر وحزم وعدالة قائمة وسير حسنة ولهم قلوب جافية وطباع غليظة غشيمة.
والترك أصناف عدة فمنهم التبتية والتغزغزية والخرخيزية والكيماكية والخرلخية والجقر والبجاناك والتركش واذكش وخفشاخ والخلج والغزية وبلغارية وكلها من خلف النهر إلى جانب البحر الشرقي المظلم.
وأهلها متمذهبون بمذاهب شتى وهم يغزون المسلمين والأتراك المسلمون الذين بلغهم الإسلام وأسلموا يغزونهم ويسبونهم وجميع من وراء النهر من المسلمين يبلغهم النفير والإنذار بالعدو لكنهم أهل جلادة ونجدة وعزة وقوة ومنعة لا يهابون الترك بوجه ولا سبب فأما مدينة خاقان الخرلخية فإن فيها مصلحه للمسلمين ومصلحة للأتراك.
وجميع مداين الترك الذين ذكرناهم على ما حكاه أبو القاسم عبيد الله بن خرداذبه في كتابه إنها ست عشرة مدينة معمورة وهي بلاد عامرة عليها أسوار ولها حصون مانعة وما منها شيء إلا على جبل حصين منيع ولهم مزارع الحبوب ويتجهز منها بالجلود النمرية والسنجاب والببر والحديد والمسك والرقيق والحرير.
فأما بلاد الصين التي تجاور بلاد التغزغز فإن فيها ملوكاً من ملوك الصين لهم أجناد وعدد وأموال طائلة وحزم وجلادة على مكابدق الترك وغزوهم ومنعهم من أذية ديارهم وأهل الصين في هذه الجهة زيهم زي الأتراك من اللباس والركوب وآلات الحروب وعندهم الفيلة الكثيرة يصادررون بها في صدور مواكبهم.
والأتراك يهابون سطوتهم ويخافون شوكتهم فيمسكون عن أذية بلادهم ويحملون إلى الصين كثيراً مما عندهم من الصناعات والصوف والسمن والعسل وكثيراً من السلاح والشكة مثل الدروع والجواشن والأتراس والمقامع والثياب والمسك ونحو ذلك مما يحتاجون إليه ويتصرفون فيه وأهل الصين يهادونهم بسبب ذلك ويرفعون عن غزوهم لكنهم غير متغافلين عن جانبهم.
وأما بلاد خرخيز فبلاد كثيرة الخصب والمسافر ومياههم كثيرة وبها أنهار جارية تجري إليهم من ناحية تخوم الصين وأعظم أنهارهم نهر يسمى منخاز وهو كثير الماء عظيم الجري وجريه على الأحجار وقليلاً ما يكون فيه الماء راكداً كالعادة في سائر الأودية.
ولهم عليه أرحاء يطحنون بها الأرز والحنطة وسائر الحبوب كذلك يطحنونها ويخبزونها وقد يأكلونها طبيخاً دون طحن وهم يتقوتون بذلك.
وهذا الوادي ينبت على حافاته شجر العود والقسط الحلو وفيه سمك يسمى الشطرون يفعل في الجماع ما يفعل السقنقور الذي يوجد في نيل مصر ويذكر أن هذا السمك ليس له شوك كثير ولحمه مفصص ولا رائحة له مثل رائحة السمك والمدينة التي يسكنها ملك خرخيز هي مدينة حصينة لها سور منيع وخندق وفصيل كبير.
وبقربها جزيرة الياقوت ولها طريق يتصل بالبر غير أن هذه الجزيرة يحيط بها جبل مستدير صعب الصعود إلى أعلاه لا يقدر على الوصول إلى رأسه إلا بعد جهد ومشقة ولا يقدر أحد على النزول إلى أرض الجزيرة بوجه.
ويحكى أن بها حيات قتالة وبأرضها حصى الياقوت كثير وأهل تلك الناحية يتصيدون هذه اليواقيت على أصناف حيل يعرفون صنعها وبين هذه المدينة والبحر المحيط بهذه الجزيرة نحو من ثلاث مراحل ومدن الخرخيزية كلها مجتمعة في موضع واحد من الأرض في نحو من ثلاث مراحل وهي أربع مدن كبار لها أسوار وحصون منيعة.
وأهلها أهل عدة وقوة وحمية وأكثر ما يتحذرون من ملك الكيماكية لأنه جابر مطالب محارب لمن جاوره وبلاد الخرخيز أيضاً تنتج فيها الخيل والغنم والبقر وخيلهم قصار الرقاب سمان وهم يعلفونها للذبح والأكل وأكثر تصرفهم وانتقالهم على البقر.
ونساء الخرخيز يتصرفن في جميع الأشغال كتصرف الرجال وليس للرجال تصرف في أكثر من الحرث والحصاد لا غير والنساء بها يحجمن أطراف ثديهن لئلا تعظم وفيهن حصافة وشدة وجراءة مثل الرجال وهم يحرقون موتاهم ويلقون رمادهم في نهر منخاز ومن بعد منهم عن النهر يحرق ميته ثم يذريه على الأرض مع الريح حتى يذهب.
وأما بلاد التغزغز فمنها مدينة خزخراكث وبينها وبين مدينة خاقان ملكهم يوم خفيف وهي مدينة كثيرة الخيرات وفيها صنائع ويجلب إليها حديد كثير يتجهز به سائر الآفاق من بلاد الترك ومن خزخراكث إلى مدينة نضخو أربع مراحل ومدينة نضخو على بحيرة كبيرة وتسمى بحيرة كوارث.
وهذه البحيرة ماؤها حلو وبها طير كثير يبيض ويفرخ على الماء وهو شبيه بالطائر المسمى بالهدهد مبرقش بضروب الألوان وإلى هذه البحيرة ينتجع كثير من الأتراك لكثرة ربيعها وعشبها.
ومن مدينة نضخو إلى مدينة خاقان أربع مراحل خفاف في عمارة متصلة وقوم ظواعن رحالة ينتقلون من موضع إلى موضع ومنها إلى نشران وهي مدينة كبيرة في جهة الشمال ست مراحل وهي مدينة حسنة للتغزغز على نهر كبير خصيب الضفتين ومواشي أهل هذه المدينة تسرح في ناحيتيه وجانبيه وبها تجارات وصناعات ويوجد في هذا النهر أحجار اللازورد ويجمع بها منه جمل كثيرة فيحمل إلى خراسان والعراق وسائر بلاد الشامات وإلى هنا انتهى بنا القول في الإقليم الثالث بتمام هذا الجزء العاشر والحمد لله أولاً وأخيراً.
نجز الجزء العاشر من الإقليم الثالث... والحمد لله ويتلوه الجزء الأول من الإقليم الرابع إن شاء الله.