الإقليم الأول - الجزء التاسع | نزهة المشتاق في اختراق الآفاق الإقليم الأول - الجزء العاشر المؤلف: الإدريسي |
الإقليم الثاني - الجزء الأول |
إن هذا الجزء العاشر من الإقليم الأول وهو نهاية المعمور من جهة المشرق ولا يعلم أحد ما خلفه تضمن البحر الصيني المسمى بحر صنخى ومن الناس من يسميه بحر الصنف ورأسه ومبدؤه من البحر المحيط المسمى هناك البحر الزفتي لأن ماءه كدر وريحه عاصفة والظلمة لا تزال واقعة عليه في أكثر الأوقات ويتصل هذا البحر الزفتي بالبحر المحيط المتصل ببلاد ياجوج وماجوج إلى ما تحتها مما يلي الأرض الحالية في جهة الشمال ويتصل ببحر الظلمات المتصل أيضاً بجهة المغرب كما قد رسمناه ويتصل هذا البحر أيضاً من جهة الجنوب على جزائر الواق واق وبحر الحيات إلى البحر المحيط بالأرض في جهة الجنوب كما قد حكيناه وجئنا به مرسوماً بحول الله ومعونته.
وهذا البحر عاصف الرياح كثير الأمطار وريحه بحرية تجري ستة أشهر دائماً ثم تنقلب إلى ريح أخرى وفيه عدة جزائر فمنها ما يصل إلى التجار ومنها ما لا يصلون إليها لتعذر السلوك وهول البحر وتقلب الرياح وتوحش أهلها وانقطاعهم عن مجاورة الأمم المعلومة.
فأما الجزيرة المسماة بالموجه التي ببحر دارلارومى ففيها عدة ملوك إلا أنهم بيض غير مخرمي الآذان يشبهون أهل الصين في اللباس والزي ولهم خيل كثيرة يقاتلون عليها ملوكاً حولهم وهذه الجزيرة تتصل بمشارق الشمس وتوجد عندهم دابة المسك ودابة الزبادة ونساؤهم من أجمل نساء الأمم ولهم شعور طوال والنساء بها لا يتوارين ولا يستترن بشيء ويمشين مكشوفات الرؤوس ويكللن رؤوسهن بعصائب فيها أنواع من الودع الملون والأصداف المجزعة.
ومن هذه الجزيرة إلى جزيرة سبومة مجريان وهذه الجزيرة جزيرة عظيمة كثيرة الزروع والحبوب وبها أنواع من الطيور المأكولة التي ليست في بلاد الهند وبها نارجيل كثير وتتصل بهذه الجزيرة جزائر كثيرة صغار ولكنها معمورة وملكها يسمى قامرون وبلاده كثيرة المطر والرياح وبحرها مهول وعمق الماء به من أربعين باعاً إلى أكثر وأقل وفي جبال هذه الجزيرة يوجد الكافور الجيد كثيراً أكثر مما يكون في بلاد غيرها وفي بعض هذه الجزائر قوم يسمون القنجت مفلفلوا الشعور سود يخرجون إلى المراكب بالعدد والأسلحة والسهام المسمومة ولا ترد شوكتهم وقليلاً ما ينجو منهم من مر بهم أو سقط في أيديهم وفي أرنبة أنف كل واحد من هؤلاء المذكورين حلقة حديد أو نحاس أو ذهب.
وعلى رأس هذا البحر إلى جهة الصين جزيرة المايد وبينهما أربعة مجار وكذلك من جزيرة سبومة إلى جزيرة الأيام ومنها يخرج إلى بر الصنف وليس في كل البحار التي ذكرنا أكثر منه مطراً ولا أعصب منه رياحاً وربما أقامت السحابة تمطر اليوم واليومين لا تنقطع ويخرج من هذه الجزائر التي ببحر الصنف العود وغيره من الأفاويه وليس لهذا البحر غاية تعرف لسعته وساحله عليه بلاد الملك المسمى المهرج.
وجزائر هذا الملك كثيرة الخيرات متصلة العمارات بها الزرع والضرع والفيلة والكافور والجوزبوا والسباسة والقرنفل والعود والقاقلة والكبابة وسائر الحبوب في بلاده موجودة ممكنة وبلاده كثيرة الوارد والصادر وليس بيد ملك من ملوك الهند ما بيده من هذه البضائع الموصوفة والتجارات الكثيرة المعروفة ومن الجزائر الموصوفة جزيرة المايد وهي جزيرة فيها عدة مدائن وهي أكبر من جزيرة الموجه طولاً وأوسع عرضاً وأخصب أرضاً وأهلها أشبه بأهل الصين من غيرهم أعني كل من جاور الصين من الأمم ولملوكها عبيد خصيان حسان وخدم بيض وبلادهم وجزيرتهم تتصل بأرض الصين وهم يراسلون ملك الصين ويهادونه ويهادنونه وبهذه الجزيرة تجتمع مراكب الصينيين الخارجة من جزائر الصين وإليها تقلع وبها تحط ومنها تخرج إلى سائر النواحي.
ومن جزيرة صنف إلى جزيرة صندى فولات عشره أيام وجزيرة صندى فولات جزيرة عظيمة فيها مياه عذبة وزروع وأرز ونارجيل وملكهم يقال له زنبد وأهلها يلبسون الفوط تأزراً وتوشحاً وجزيرة صندى فولات تحيط بها من جهة الصين جبال وعرة والرياح بها عاصفة وهي باب من أبواب الصين ومنها يركب إلى مدينة خانفو أربعة أيام وأبواب الصين اثنا عشر باباً وهي جبال في البحر بين كل جبلين فرجة يسار منها إلى موضع بعينه من مدائن الصين المقصودة بالساحل وجميع مراقي الصين لا يكون منها شيء إلا على خور تصعد فيه المراكب الشهر والأكثر والأقل بين جنات وغياض وناس ولهم أغنام وأموال زاكية ومياه جميع الأخوار حلوة لكن المد يدخلها من البحر والجزر يكون منها أيضاً في كل يوم وليلة مرتين وفي هذه المراقي أسواق وتجار وخرج ودخل ومراكب وبضائع تحمل وأخرى تحط وبهذه البلاد الأمن المتصل وفي ملوكها العدل وهو سنتهم وعليه يعولون فلذلك اتصلت عمارتهم وحسنت بلادهم وقل جزعهم وكثر أملهم واتسعت أيديهم في الأموال والحالات الحسنة وجميع أهل الهند والصين يقتلون السارق ويؤدون الأمانة وينصفون من أنفسهم من غير احتياج إلى حاكم أو مصلح كل ذلك منهم طبعاً وسجية وأخلاقاً خلقوا بها وطبعوا عليها وللملك قامرون في طاعتة جزيرتان تنسبان إلى بلاده واسم إحداهما جزيرة بوصا واسم الثانية جزيرة لاسية وفيها قوم ألوانهم إلى البياض وفي نسائهم جمال بارع وفيهم نجدة وبأس شديد وربما قطعوا على الناس في مراكب لهم سابقة الجري وإنما يفعلون ذلك إذا كانوا مع الصينيين في خلاف ولم تكن بينهم هدنة.
ومن جزيرة الموجه إلى جزيرة السحاب مسير أربعة مجار أو أكثر من ذلك وجزيرة السحاب سميت بهذا الاسم لأنه ربما طلع من ناحيتها سحاب أبيض يظل المراكب فيخرج منها لسان رقيق طويل مع الريح العاصفة حتى يلتصق ذلك اللسان بماء البحر فيغلي له ماء البحر ويضطرب مثل الزوبعة الهائلة فإن أدركت المركب ابتلعته ثم ترتفع تلك السحاب فتمطر مطراً فيه قذى البحر ولا يدرى أاستقت السحاب ذلك من البحر أم كيف هذا وهي جزيرة بها تلول رمل إذا مستها النار انسكبت وعادت فضة خالصة وفيما يليها من جهة جزائر الواق واق مواضع مقطوعة بالجبال والجزائر فلا يصل السالك إليها لامتناع بلادها وصعوبة مسالكها وسكانها مجوس لا يعرفون ديناً ولا اتصلت بهم شريعة ونساؤهم يكشفن رؤوسهن ويجعلن فيها الأمشاط المتخذة من العاج المكللة بالصدف وربما كان في رأس المرأة منهن عشرون مشطاً وغير ذلك ورجالهم يغطون رؤوسم بشبه القلانس وتسمى بلغة الهند البعارى وهم متحصنون بجبالهم لا يصلون إلى أحد ولا يتصل بهم أحد ولكنهم يشرفون على البحر ويتطلعون إلى المراكب وربما تكلموا معهم بكلام لا يفهم منهم وهم مقيمون في بلادهم بهذه الحالة التي وصفناهم بها وتتصل بهذه الجزائر جزائر الواق واق ولا يعرف ما بعدها وربما وصل أهل الصين إليها في الندرة وهي جزائر عدة ولا عامر بها إلا الفيلة وطيرها كثير جداً وبها شجر حكى المسعودي عنها أموراً لا تقبلها العقول من جهة الأخبار عنها لكن الله على ما شاء قدير.
ومن جزيرة صنف إلى جزيرة ملاي مسافة اثني عشر يوماً بين جزائر وجبال شارعة في البحر وهذه الجزيرة معترضة من المغرب إلى المشرق ولكنها تتصل مع جهة المغرب بساحل الزنوج وتمر مع المشرق وفي جهة الشمال معترضة اعتراضاً مؤرباً إلى أن تماس ساحل الصين وهي أطول الجزائر قطراً وأكثرها عمارةً وأخصبها جبالاً وأوسعها مملكةً وأنفعها تجارةً وبها الفيلة والكركدن وضروب الأفاويه والعطر مثل القرنفل والقاقلة والسنبل والهرنوة والجوزبوا وفيها جبال فيها معادن ذهب عجيب بالغ الطيب وهو أفضل ذهب يكون ببلاد الصين ولأهل هذه الجزيرة بيوت وقصور يتخذونها على الخشب على مراكب تعوم على وجه الماء وهم ينقلونها حيث أرادوا ولهم أرحاء تدور بالرياح وفيها يطحنون الأرز والحنطة وسائر ما يتخذونه لمعايشهم.
ومن جزيرة المايد في الشرق إلى جزيرة صنجى مسير ثلاثة أيام خفاف وهي جزيرة عامرة فيها خصب ومياه عذبة وأهلها ألوانهم بين البياض والسمرة يحملون في آذانهم أقراط النحاس للرجل قرط واحد وللمرأة قرطان وأكلهم الأرز والقصب كثير عندهم والنارجيل وفي بلادهم معادن الذهب المذكورة في الكثرة والجودة وبهذه الجزيرة أيضاً أصنام عدة على ضفة البحر كل صنم منها رافع يده اليمنى كأنه يشير إلى الناظر إليه أن ارجع إلى حيث جئت فليس خلفي أرض تسير إليها ومن هذه الجزيرة يسار إلى جزائر السيلا وهي كثيرة متقاربة بعضها من بعض وفيها مدينة تسمى الكيوه من دخلها من المسافرين استوطنها ولم يرد الخروج عنها لطيب ثراها وكثرة خيرها والذهب بها كثير جداً حتى أن أهلها يتخذون سلاسل كلابهم وأطواق قرودهم من الذهب ويأتون بالقمص المنسوجة فيبيعونها وكذلك في جزائر الواق واق مثل ذلك أعني من الذهب الكثير وإن التجار يدخلون إليها مع الطلاب ويسبكون الذهب فيها ويخرجونه من هناك مسبوكاً وقد يخرجون ترابه فيذيبونه في بلادهم على الصنعة المعروفة بينهم وفي جزائر الواق واق الأبنوس الذي لا يفوقه شيء في الجودة.
وأيضاً فإن هذا البحر الصيني مع ما يليه من بحر الصنف وبحر دارلاروى وبحر هركند وبحر عمان يوجد بها المد والجزر وقد حكوا عن بحر عمان وبحر فارس أن المد والجزر يكونان فيهما مرتين في اليوم والليلة وحكى ربانيو البحر الهندي والبحر الصيني أن المد والجزر يكونان مرتين في السنة فمرة يمد في شهور الصيف شرقاً ويجزر ضده البحر الغربي ثم يرجع المد غرباً ستة أشهر وقد ذكر في المد والجزر أقوال كثيرة وجب لنا أن نذكر بعضها بالوجيز من القول مع استيفاء المعنى فأما أرسطوطاليس وأرشميدس فإنهما قالا في ذلك إن المد والجزر يحدثان عن الشمس إذا حركت الريح البحار وموجها فإذا انتهى ذلك إلى البحر المسمى أطلنطيقس وهو البحر المحيط كان عنه المد وإذا صارت هذه الريح في النقصان والسكون كان عنها الجزر وأما ساطوطس فإنه يرى أن علة المد والجزر تكون بامتلاء القمر وزيادته وأن الجزر يكون بنقصانه وهذا كلام يحتاج إلى الزيادة فيه والبيان عما أتى به الفلاسفة مجملاً فنقول إن المد والجزر الذي رأيناه عياناً في بحر الظلمات وهو البحر المحيط بغربي الأندلس وبلاد برطانيه فإن المد يبتدئ فيه في الساعة الثالثة من النهار إلى أول الساعة التاسعة ثم تأخذ في الجزر ست ساعات مع آخر النهار ثم يمد ست ساعات ثم يجزر ست ساعات هكذا يمد في اليوم مرة وفي الليل مرة ويجزر في اليوم مرة وفي الليل مرة أخرى وعلة ذلك أن الريح تهيج هذا البحر في أول الساعة الثالثة من النهار وكلما طلعت الشمس في أفقها كان المد مع زيادة الريح ثم تنقص الريح عند آخر النهار لميل الشمس إلى الغروب فيكون الجزر أيضاً وكذلك الليل أيضاً تهيج الريح في صدره وتركد مع آخره وزيادة الماء في المد يكون في ليلة ثلاث عشرة وليلة أربع عشرة وليلة خمس عشر وليلة ست عشرة ففي هذه الليالي المذكورة يفيض المد فيضاً كثيراً ويصل إلى أمكنة لا يصل إليها إلا إلى مثل تلك الليالي من الشهر الآتي وهذا من آيات الله المبصرة في هذا البحر يراه أهل المغرب مشاهدة لا امتراء فيه ويسمى هذا المد فيضاً.
وكل ما في بحر الهند والصين من المراكب السفرية صغاراً كانت أو كباراً فإنها منشأة من الخشب المحكم نجره وقد حمل أطراف بعضه على بعض وهندم وخرز بالليف وجلفط بالدقيق وشحم البابة والبابة دابة كبيرة تكون في بحر الهند والصين منها ما يكون طوله نحواً من مائة ذراع في عرض عشرين ذراعاً ينبت على سنام ظهرها حجارة صدفية وربما تعرضت للمراكب فكسرتها وحكى أيضاً الربانيون أنهم يرشقونها بالسهام فتتنحى عن طريقهم وذكروا أيضاً أنهم يتصيدون ما صغر منها فيطبخونها في القدور فيذوب جميع لحمها ويعود شحماً مذاباً وهذا الدهن مشهور ببلاد اليمن في عدن وغيرها من المدن الساحلية وفي بلاد فارس وساحل عمان وبحر الهند والصين وهو عمدتهم في سد خروق المراكب بعد خرزها ومن العجايب التي في بحر الهند والصين مما أخبر به تجار الناحية أن في هذا البحر جبال ومضائق تجري معهما المراكب وربما تطاير من البحر إلى المراكب صبيان صغار مثل صبيان الزنج سود طول أحدهم نحو من أربعة أشبار يدورون في المراكب ولا يؤذون أحداً ثم يعودون إلى البحر وهذا عندهم مشهور فإذا رأى هذا أهل المراكب علموا أنها علامة لقدوم الريح التي تسمى ريح الخب وهي ريح خبيثة مخوفة فيستعدون لذلك ويأخذون أهبتهم لقدومها فيخففون الأمتعة عن المراكب ويلقون بها في البحر ويلقون أيضاً بما معهم من السمك والملح حتى لا يتركون منه شيئاً ويقطعون من طول الصواري ذراعين وأكثر مخافة أن تنكسر فتهب الريح المذكورة قولاً وفعلاً في حين هبوبها ويصابرها من قدر الله له بالخلاص حتى ينجو أو يتلف كيف شاء الله له وعندهم علامة أخرى للخلاص إذا قضى الله بذلك وهي أن يرى أهل المركب على صاريهم طائراً ذهبي اللون كأنه شعلة نار ويسمى البهمن فإذا رأوه علموا أنه من علامات التخلص وهذا مما قد أبصر عياناً وتواترت الأخبار عنه حتى لا يقدر على إنكاره وفي بحر الصين دابة تعرف بالغيدة لها جناحان كالقلاعين تشيلهما في الجو وتحمل على المراكب فتقلبها ويكون طول هذه الدابة مائة ذراع أو نحوها وإذا رأى أهل المراكب هذه الدابة ضربوا الخشب بعضها ببعض فتنفر منها تلك الدابة وتخرج لهم عن الطريق وقد قيض الله سبحانه لهذه الدابة سمكة صغيرة تسمى الهيدة فإذا رأتها هذه الدابة الكبيرة نفرت منها ومرت على وجهها فلا تستقر بمكان من البحر ما دامت الهبيدة تتبعها.
وملوك الهند والصين ترغب في ارتفاع ظهور الفيلة وتزيد في أثمانها الذهب الكثير وأرفعه تسعة أذرع إلا فيلة الأخوار فإنها عشرة أذرع وأحد عشر ذراعاً وأعظم ملوك الهند بلهرا وتفسير هذا الاسم ملك الملوك ويتلوه الكمكم وبلاده بلاد الساج وبعده ملك الطافن وبعده ملك جابة وبعده ملك الجرز وبعده غابة وبعده دهمى ويحكى أن له خمسين ألف فيل وله الثياب المخملة ومن بلده العود الهندي ثم يتلوه الملك المسمى قامرون ويتصل ملكه بالصين.
وأهل الهند سبعة أجناس أحدها الساكهرية وهم الأشراف منهم والملك يكون فيهم ولا يكون في غيرهم وجميع الأجناس يسجدون لهم عند اللقاء وهم لا يسجدون لأحد ثم البراهمة وهم عباد الهند ولباسهم جلود النمور أو غيرها من الجلود وربما وقف الرجل منهم وبيده عصا ويجتمع إليه الناس فيقف على رجليه يوماً إلى الليل يخطب عليهم ويذكرهم الله عز وجل ويصف لهم أمور من هلك من سائر الأمم الماضية وهؤلاء البراهمة لا يشربون الخمر ولا شيئاً من الأنبذة وعبادتهم الأصنام على جهة التوسط إلى الله تعالى وبعدهم الجنس الثالث وهم الكسترية يشربون من الخمر ثلاثة أقداح فقط ولا يسرفون في شربها مخافة أن يفارقوا عقولهم وهذه الطبقة يتزوجون في البراهمة والبراهمة لا تتزوج فيهم وبعد هؤلاء الشوذرية وهم الفلاحون وأصحاب الزراعات وبعدهم الفسية وهم أصحاب الصناعات والمهن ومنهم السندالية وهم أصحاب اللحون في نسائهم جمال مشهور ومنهم الركية وهم سمر أصحاب لهو ولعب ومعازف وأنواع من الآلات.
ومذاهب أكثر أهل الهند اثنتان وأربعون ملة فمنهم من يثبت الخالق والرسل ومنهم من يثبت الخالق وينفي الرسل ومنهم ينفي الكل ومنهم من يتوسط بالأحجار المنحوتة ومنهم من يتوسط بالأحجار المكدسة يصب عليها الدهن والشحم ويسجد لها ومنهم من يعبد النار ويحرق نفسه بها ومنهم من يعبد الشمس ويسجد لها ويعتقد أنها الخالقة المدبرة للعالم ومنهم من يعبد الشجر ومنهم من يعبد الثعابين يحوطونها بحظائر ويطعمونما أرزاقاً مقدرة وهم يتوسلون بها ومنهم من لا يتعب نفسه بعبادة ولا غيرهما وينكر الكل وسنذكر أمور الهندية: وحداً فواحداً بعد هذا بيمن الله وتسديده.
ولما تكلمنا على هذا الجزء بره وبحره وجزائره وجئنا من ذلك بما تيسر للذكر رأينا أن نكمل القول فيما بقي من مراقي الصين التي على الساحل حسب ما تقدم رسمه قبل هذا بعون الله تعالى فأول مراقي الصين كما قدمناه مدينة خانفو وهي المرقى الأعظم وهي على خور يصعد فيه إلى كثير من بلاد البغبوغ وهو ملك الصين بأسره لا ملك فوقه بل كل ملوك ذلك المكان تحت طاعته والذكر له ومن مدينة خانفو إلى مدينة خانكو وهي مدينة جليلة بديعة البناء بهجة الأسواق حسنة البساتين والرياضات كثيرة الفواكه ويصنع بها الغضار الصيني وثياب الحرير وبالجملة إن فيها جميع ما في مدينة خانفو وهي على خور كبير يحيط بها ويصعد في هذا الخور إلى عدة من بلاد الصين كما قلناه أيضاً وفيما يذكر أن في الصين ثلاث مائة مدينة كلها عامرة وفيها عدة ملوك لكنهم تحت طاعة البغبوغ والبغبوغ يقال له ملك الملوك كما قدمنا ذكره وهو ملك حسن السيرة عادل في رعيته رفيع في همته قادر في سلطانه مصيب في آرائه حازم في اجتهاده شهم في إرادته لطيف في حكمته حليم في حكمه وهاب في عطائه ناظر في الأمور القريبة والبعيدة بصير بالعواقب تصل أمور عبيده المستضعفين إليه من غير منع ولا توسط من ذلك أن له في قصره مجلساً قد اتقن بنيانه وأحكم سمكه وأبدعت محاسنه له فيه كرسي ذهب يجلس فيه ووزراؤه حوله في كل جمعة مرتيين وعلى أعلى رأسه جرس معلق تمتد منه سلسلة ذهب إلى خارج القصر مهندمة الوضع ويتصل طرف السلسلة إلى أسفل القصر فإذا جاء المظلوم بكتاب مظلمته جاء إلى طرف السلسلة فاجتذبها فيتحرك الجرس فيخرج وزير الملك يده من الطاق وذلك علامة يفهم بها أنه يقول له اصعد إلينا فيصعد المظلوم هناك إلى المجلس على درج مختص بصعود المظلومين عليه حتى يقف بين يدي الملك فيسجد المظلوم ثم يقف فيمد الملك يده إلى المظلوم ويأخذ الكتاب منه وينظر فيه ثم يدفعه إلى وزرائه ويحكم له بما يجب الحكم به بما يقتضيه مذهبه وشرعه من غير تسويف ولا تطويل ولا وساطة وزير ولا حاجب ومع ذلك فإنه مجتهد في دينه مقيم لشريعته ديان محافظ كثير الصدقة على الضعفاء ودينه عبادة البدود وبين مذهبه ومذهب الهندية انحراف يسير وأهل الهند والصين كلهم لا ينكرون الخالق ويثبتونه بحكمته وصنعته الأزلية ولا يقولون بالرسل ولا بالكتب وفي كل حال لا يفارقون العدل والإنصاف.
وأهل الإقليم الأول كلهم حمر أو سود فأما أهل الهند والسند والصين وكل من احتضن منهم البحر فألوانهم سمر وأما أهل الصحارى من الزنج والحبشة والنوبة وسائر السودان الذين سبق ذكرهم فلقلة الرطوبة البحرية وتوالي إحراق الشمس لهم وممرها عليهم دائماً تفلفلت شعورهم واسودت ألوانهم وأنتنت أعراقهم وتقشفت جلود أقدامهم وتشوهت خلقهم وقلت معارفهم وفسدت أذهانهم فهم في نهاية الجهالة واقعون وإليها ينسبون وقلما أبصر منهم عالم أو نبيل وإنما يكتسب ملوكهم السياسة والعدل بالتعليم من أقوام يصلون إليهم من أهل الإقليم الرابع أو الثالث ممن قرأ السير وأخبار الملوك وقصصها.
وفي هذا الإقليم الأول من الحيوانات التي لا توجد بغيره من الأقاليم الستة الباقية الفيلة والكركدنات والزرائف والقردة ذوات الأذناب والبقر والجواميس التي لا أذناب لها والنسانس وهم صنف من الخلق وقد تقدم ذكرهم قبل هذا وأنهم يتعلقون بالشجر فلا يلحقون والثعابين الرانجية التي ذكرها ابن خرداذبه وحكاها صاحب كتاب العجائب وأخبر أيضاً عنها جماعة من المؤلفين والكل منهم باتفاق يقولون إن في جبال جزيرة الرانج ثعابين تلتقم الفيل والجاموس ولا يفوتها إذا ظفرت به.
وبهذا الإقليم أيضاً معدن الزمرد ولا يوجد على الأرض إلا في المعدن المذكور قبل هذا والياقوت بأنواعه لا يوجد إلا بجزيرة سرنديب وكذلك الدابة التي في بحر اليمن وبحر هركند المسماة بالبابة لا توجد إلا في هذا البحر دون غيره وكذلك الدابة المسماة بالغيدة لا تكون إلا في هذا البحر وسمكة الغرا توجد به كثيراً وأيضاً السمكة المسماة سقنقورا لا تكون إلا في هذا النيل من هذا الإقليم لا في غيره وفي هذا الإقليم من الطيب القرنفل والصندل والكافور والعود وكل هذه لا يوجد شيء منها في سائر الأقاليم ولا يكون إلا في هذا الإقليم بعينه والليل والنهار فيه متكافيان في حال الاعتدال متساويان في تقدير الساعات وإن كان في آخره من جهة العرض نقص يسير فلا يتبين ذلك إلا عن بحث وعناء كل ذلك قسمة حكيم وتدبير خلاق عليم وفيما ذكرناه من الأخبار من هذا الإقليم الأول بلغة وكفاية لأهل الطلب والعناية والحمد لله أولاً وآخراً لا رب غيره ولا معبود سواه ولا مرجو إلا هو. نجز الجزء العاشر من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء الأول من الإقليم الثاني إن شاء الله.