الرئيسيةبحث

نجم الشمال (لافكرافت)

نجم الشمال
Polaris

المؤلف: هوارد فيليبس لافكرافت
قصة قصيرة كتبها لافكرافت عام 1918 ونشرها في عدد ديسمبر 1920 من مجلة The Philosopher


أرى نجم الشمال من النافذة الشمالية في غرفتي وهو يتوهّج بنور غريب. كان النجم يشرق في الأعلى خلال ساعات الظلام الجهنمية الطويلة. وفي الخريف، عندما تأتي رياح الشمال وهي تلعن وتنوح، وعندما تتهامس أشجار المستنقع ذات الأوراق الحمراء مع بعضها في ساعات الفجر تحت الهلال الهزيل، أجلس مرتاحا وأنا أراقب ذاك النجم. وعلى هذه المرتفعات تتألق كوكبة ذات الكرسي، وبدا الدب الأكبر من وراء أشجار المستنقع التي غطاها الضباب وتمايلت مع ريح الليل. وقبيل الفجر رأيت نجم الرّماح يتلألأ فوق المقبرة على الرابية المنخفضة، وكوكبة الهلبة تشرق بعيدا من الشرق الغامض؛ لكن نجم الشمال يرنو من نفس المكان في السماء السوداء، يرمش بعنف مثل عين تجاهد لتحمل رسالة غريبة، لكنه لا يتذكر شيئا عدا أنه كان يحمل رسالة ما ذات مرة. أحيانا، فإن السماء تلبدها الغيوم، فأتمكن من النوم بسلام.

أتذكر جيدا ليلة الشفق القطبي العظيم، عندما برقت هذه الأنوار الشيطانية فوق المستنقع. وبعدها أتت الغيوم، ثم خلدت إلى النوم.

رأيت تلك المدينة للمرة الأولى تحت الهلال الهزيل. انتصبت ساكنة وناعسة على هضبة غريبة في وادٍ بين القمم الغريبة. بنيت حيطانها وأبراجها وأعمدتها وقببها وأرصفتها من الرخام الشاحب. وفي شوارع الرخام انتصبت أعمدة الرخام، ونحتت على قممها صور رجال ملتحين. كان الهواء دافئا وساكنا. وتوهّج نجم الشمال فوقها بعشرة درجات. ظللت أتفرس بالمدينة طويلا لكن النهار لم يأتي. ظهر نجم الدبران الأحمر، وظل يرمش قرب الأفق في السماء ولكنه لم يغرب، ورأيته وهو يزحف ربع الطريق حول الأفق، ورأيت ضوءا وحركة في البيوت والشوارع. خرجت أشكال تلبس ثيابا غريبة، وتحت القمر الهزيل تحدث الرجال الحكماء بلغة فهمت كلامها، ولكنها لم تشبه أيّ لغة أعرفها. وعندما زحف الدبران الأحمر نحو الأفق، حل الظلام والصمت مجددا.

صحوت وقد حُفر في ذاكرتي منظر المدينة، وظهرت داخل روحي ذكرى أخرى مبهمة لست متأكدا من ماهيتها. فيما بعد، وعندما أنام في الليالي الغائمة، كنت كثيرا ما أرى المدينة؛ أحيانا أراها تحت نور ذاك القمر الهزيل، وأحيانا تحت أشعة الشمس الصفراء الحارة والتي لم تغرب، ولكنها ظلت قريبة من الأفق. وفي الليالي الصافية، كان نجم الشمال يتوهج كما لم يتوهج من قبل.

بدأت أتساءل عن مكاني في تلك المدينة على الهضبة بين القمم. كنت راضيا في بادئ الأمر بمراقبة كل شيء فيها بالروح دون البدن، ولكني أرغب الآن بتحديد علاقتي بها، وأن أتكلم بما يدور بخلدي بين الرجال الذين تحدّثوا كل يوم في الميادين العامة. قلت لنفسي، "هذا ليس حلما، فبأي وسيلة يمكنني أن أثبت واقعية الحياة الأخرى في بيت الحجارة والطوب جنوب المستنقع الشرير والمقبرة على الرابية المنخفضة، حيث يناظر نجم الشمال نافذتي الشمالية كل ليلة؟"

في إحدى الليالي كنت أستمع لحديث الناس في الميدان الكبير ذو التماثيل العديدة، وأحسست بتغيير في داخلي؛ أدركت أنه أصبح لدي جسد. لم أعد غريبا في شوارع مدينة أولاثوي التي تقع على هضبة ساركيس بين القمم نوتون وكاديفونيك. تكلّم معي صديقي ألوس، وكان حديثه يسرّ الروح لأنه كان حديث رجل حقيقي ووطني. وفي تلك الليلة أتت الأخبار بسقوط مدينة دايكوس، وتقدّم جيش الإينوتو؛ وهم شياطين صفر جهنميون ضخام الجثة ظهروا قبل خمسة سنوات من الغرب المجهول ليدمروا حدود مملكتنا، ثم يحاصرون مدننا. احتل هؤلاء القوم الأماكن المحصّنة أسفل الجبال، وأصبح طريقهم الآن مفتوحا إلى الهضبة، إلا إذا قاومهم كل مواطن بقوة عشرة رجال. ذلك أن تلك المخلوقات الضخمة كانت تتقن فنون الحرب، ولم تقم وزنا للشرف الذي منع رجالنا الطوال في لومار من البدء بغزو لا يرحم.

كان صديقي ألوس قائد كل قوات الهضبة، وضعت فيه بلادنا الأمل الأخير بالنجاة. تكلّم في هذه المناسبة عن الأخطار التي ستواجهنا، وحثّ رجال أولاثوي وشجعان لومار على مواصلة تقاليد أسلافهم، الذي اضطروا للهجرة جنوبا من زوبنا أمام تقدم طبقة الجليد العظيمة، وردّوا بكل جرأة أقوام الغنوفكيه المتوحشين ذي الشعر الكثيف والأذرع الطويلة الذين وقفوا في طريقهم. لم يمنحني ألوس أي دور في القتال، فقد كنت ضعيفا وكان يغشى على إذا تعرضت للشدة والمشاق. لكن عيناي كانتا الأحدّ في المدينة، رغم ما قضيته من ساعات طويلة كل يوم وأنا أدرس المخطوطات البناكوتية وحكمة الآباء الزوبناريين؛ لم يرغب صديقي أن يجعلني فريسة للكسل، فمنحني واجبا كان عديم الأهمية تقريبا. أرسلني إلى برج مراقبة في ثابنين لأكون عينا لجيشنا. فإن حاول الإينوتو احتلال الحصن من الممر الضيق وراء قمة نوتون، وبذلك يفاجئون الحامية، فسأعطي إشارة النار التي تحذر الجنود وأنقذ البلدة من كارثة محتمة.

صعدت البرج وحيدا، إذ احتاجوا لكلّ رجل ضخم الجثة ليدافع عن المعابر. أنهك دماغي بالحماس والإعياء، إذ لم أنم منذ عدة أيام؛ رغم ذلك فقد كان عزمي ثابتا، ذلك أني أحببت وطني لومار، وأحببت مدينة أولاثوي الرخامية التي تقع بين قمم نوتون وكاديفونيك.

وقفت في الغرفة القابعة أعلى البرج، ونظرت إلى الهلال الهزيل، وكان أحمرا وشريرا، وبدا لي وهو يرتجف من الأبخرة التي حامت على وادي بانوف البعيد. رأيت نجم الشمال الشاحب من فتحة في السقف وهو يتلألأ ويرتعش كما لو أنه كائن حي، وينظر إليّ شزرا وكأنه شيطان. فكرت أن روحه تهمس بكلام شرير وتغويني لأستسلم للنعاس الخائن بقصيدة ملعونة ظل يكرّرها مرارا:

"نم أيها الحارس حتى تدور الأرض
لستّ وعشرين ألف عام
إلى أن أعود
إلى البقعة التي أشتعل فيها الآن.
سترتفع النجوم الأخرى عما قريب
إلى محورها وسط السماء؛
نجوم تلقى سكونها ونجوم تلقي بركتها
بالنسيان الجميل:
وعندما تنتهي دورتي
سيدقّ الماضي على بابك."

عبثا كنت أنازع النعاس، وأنا أحاول أن أربط بين هذه الكلمات الغريبة وبعض من علوم السماء التي تعلمتها من المخطوطات البناكوتية. أحسست برأسي وهو بتثاقل ويدور ويتدلى إلى صدري، وعندما نظرت للأعلى وجدت أنني في حلم؛ ورأيت نجم الشمال يبتسم إلي من نافذة فوق الأشجار المتهادية المخيفة فوق مستنقع الحلم. وكنت ما زلت أحلم.

وسط هذا الخزي واليأس كنت أصرخ بجنون، أستجدى مخلوقات الحلم حولي لتوقظني قبل أن يحتل الإينوتو الممر خلف قمة نوتون ويفاجئون الحصن؛ لكن هذه المخلوقات شيطانية، يسخرون مني ويقولون أنني لا أحلم. يسخرون مني وأنا نائم، والعدو الأصفر البدين ينسلّ بهدوء علينا. فشلت في واجبي وخنت مدينة أولاثوي الرخامية؛ خذلت ألوس، صديقي وقائدي. لكن ظلال الحلم لا تزال تسخر مني. تقول أنه لا توجد أرض تدعى لومار إلا في أحلامي؛ وفي تلك العوالم حيث يشرق نجم الشمال ويزحف الدبران الأحمر نحو الأفق، فلا يوجد شيء الثلج والجليد منذ آلاف السنين، ولا يعيش بها إنسان عدا شعب أصفر بدين أنهكه البرد، وكان يدعى "الإسكيمو".

أتلوى والذنب يعذبني، أسعى بكل جهدي لأنقذ المدينة التي يتعاظم عليها الخطر في كل لحظة، وأجاهد لأنفض عني هذا الحلم الغريب عن بيت من الحجارة والطوب جنوب المستنقع الشرير والمقبرة على الرابية المنخفضة؛ ينحني نجم الشمال، مستويا وبشعا، من المدفن الأسود، يرمش مثل عين مجنونة تجاهد لتوصل رسالة غريبة، لكنه لا يتذكر شيئا عدا أنه كان يحمل رسالة ما ذات مرة.