الرئيسيةبحث

موافقات الشاطبي - الجزء الثاني

2

5بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب المقاصد والمقاصد التي ينظر فيها قسمان أحدهما يرجع إلى قصد الشارع والآخر يرجع إلى قصد المكلف فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء ومن جهة قصده في وضعها للإفهام ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها فهذه أربعة أنواع 6ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا وليس هذا موضع ذلك وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة كما أن أفعاله كذلك وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال في أصل الخلقة وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 7الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى كقوله بعد آية الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وقال في الصيام كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وفي الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال في القبلة فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة وفي الجهاد أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وفي القصاص ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب وفي التقرير على التوحيد ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين والمقصود التنبيه وإذا دل الإستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ومن هذه الجملة ثبت القياس والإجتهاد فلنجر على مقتضاه ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه فنقول والله المستعان 8النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة وفيه مسائل المسألة الأولى تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعتها من جانب الوجود والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان 9والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود وإلى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة العادات والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم والعبادات والعادات قد مثلت والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض بالعقد على الرقاب 10أو المنافع أو الأبضاع والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ويتلافى تلك المصالح كالقصاص والديات للنفس والحد للعقل وتضمين قيم الأموال للنسل والفطع والتضمين للمال وما أشبه ذلك ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب فإذا لم تراع دخل 11على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا وما أشبه ذلك وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات كثمرة الشجر ومال العبد وفي الجنايات كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع وما أشبه ذلك وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان ففي العبادات كإزالة النجاسة وبالجملة الطهارات كلها وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات وأشباه ذلك وفي العادات كآداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجاسات والمشارب المستخبثات والإسراف والاقتار في المتناولات وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة وسلب المرأة 12منصب الإمامة وإنكاح نفسها وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير وما أشبهها وفي الجنايات كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين المسألة الثانية كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية فأما الأولى فنحو التماثل في القصاص فإنه لا تدعو إليه ضرورة ولا تظهر فيه شدة حاجة ولكنه تكميلي وكذلك نفقة المثل وأجرة المثل وقراض المثل والمنع من النظر إلى الأجنبية وشرب قليل المسكر ومنع الربا والورع اللاحق في المتشابهات وإظهار شعائر الدين كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن وصلاة الجمعة والقيام بالرهن والحميل والإشهاد في 13البيع إذا قلنا إنه من الضروريات وأما الثانية فكاعتبار الكفء ومهر المثل في الصغيرة فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة وإن قلنا إن البيع من باب الحاجيات فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف وأما الثالثة فكآداب الأحداث ومندوبات الطهارات وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة والإنفاق من طيبات المكاسب والإختيار في الضحايا والعقيقة والعتق وما أشبه ذلك ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات فإن الضروريات هي أصل المصالح حسبما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله المسألة الثالثة كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها 14فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين أحدهما أن في إبطال الأصل إبطال التكملة لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها وهذا محال لا يتصور وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غيرمزيد والثاني أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلى وحفظ المروءات مستحسن فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس كان تناوله أولى وكذلك أصل البيع ضروري ومنع الغرر والجهالة مكمل فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلا في السلم وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها والإجارة محتاج 15إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ومثله جار في الإطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه قال مالك لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري والعدالة فيه مكملة للضرورة والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي وكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة والجماعة من شعائر الدين المطلوبة والعدالة مكملة لذلك المطلوب ولا يبطل الأصل بالتكملة ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلي كالمريض غير القادر سقط المكمل أو كان في اتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة وستر العورة من باب محاسن 16الصلاة فلو طلب على الإطلاق لتعذر أداؤها على من لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر كلها جار على هذا الأسلوب وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب المستظهري في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة واحمل عليه نظائره المسألة الرابعة المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية فلو فرض إختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق ولا يلزم من إختلالهما إختلال الضروري بإطلاق نعم قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق إختلال الحاجي بوجه ما وقد يلزم من إختلال الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما فلذلك إذا حوفظ على الضروري فينبغي المحافظة على الحاجي وإذا حوفظ على الحاجي فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي وأن الحاجي يخدم الضروري فإن الضروري هو المطلوب فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها أحدها أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي والثاني أن إختلال الضروري يلزم منه إختلال الباقيين بإطلاق والثالث أنه لا يلزم من إختلال الباقيين إختلال الضروري والرابع أنه قد يلزم من إختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق إختلال الضروري بوجه ما 17والخامس أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري بيان الأول أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى ولو عدم المكلف لعدم من يتدين ولو عدم العقل لارتفع التدين ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء ولو عدم المال لم يبق عيش وأعني بالمال ما يقع عليه الملك واستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة وإذا ثبت هذا فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى إذ هي تتردد على الضروريات تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات وتميل بهم فيها إلى التوسط والإعتدال في الأمور حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا أو مضطجعا ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته وكذلك ترك المسافر الصوم 18وشطر الصلاة وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك فإذا فهم هذا لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية وهكذا الحكم في التحسينية لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري فإذا كملت ما هو ضروري فظاهر وإذا كملت ما هو حاجي فالحاجي مكمل للضروري والمكمل للمكمل مكمل فالتحسينية إذا كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه بيان الثاني يظهر مما تقدم لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه لزم من اختلاله اختلال الباقيين لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة لم يكن اعتبار الجهالة والغرر وكذلك لو ارتفع أصل القصاص لم يمكن اعتبار المماثلة فيه فإن ذلك من أوصاف القصاص ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف وكما إذا سقط عن المغمى عليه أو الحائض أصل الصلاة لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها أو التكبير أو الجماعة أو الطهارة الحدثية أو الخبثية ولو فرض أن ثم حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر كان هذا فرض محال ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع لها ومكمل من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض فلا يصح أن يقال إن أصل الصلاة هو المرتفع وأوصافها بخلاف ذلك وكذلك نقول إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا أو الصيام كذلك كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار والنهي عن الصيام في العيد فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك 19ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل ولا يقال إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الإعتبار فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا وإذا لم تكن منيها عنها على الإطلاق لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له فلا يلزم من إختلال الأصل إختلال الفرع كما أصلت وأيضا فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة كالطهارة مع الصلاة وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد كجر الموس في الحج على رأس من لا شعر له فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل لأنا نقول إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة واعتبار من حيث أنفسها فأما اعتبارها من الوجه الثاني فليس الكلام فيه وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا فكذلك ما كان في الإعتبار مثله فإذا كان كذلك لم يصح القول ببقاء المكمل مع انتفاء المكمل وهو المطلوب وكذلك الصوم وأشباهه وأما مسألة الوسائل فأمر آخر ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله فلا يمكن والحال هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها فتكون 20إذ ذاك مقصودة لنفسها وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر فلا امتناع في هذا وعلى ذلك يحمل إمرار الموس على شعر من لا شعر له وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموس على رأس من ولد مختونا بناء على أن ثم ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه وإلا لم يصح فالقاعدة صحيحة وما اعترض به لا نقض فيه عليها والله أعلم بغيبه وأحكم بيان الثالث أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه ومن المعلوم أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه فكذلك في مسألتا لأنه يضاهيه مثال ذلك الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها لأمر لا يبطل أصل الصلاة وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر لا يبطل أصل البيع كما في الخشب والثوب المحشو والجوز والقسطل والأصول المغيبة في الأرض كالجزر واللفت وأسس الحيطان وما أشبه ذلك وكذا لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص لم يبطل أصل القصاص وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف بها كذلك ما نحن فيه اللهم إلا ان تكون الصفة ذاتية بحيث صارت جزءا من ماهية الموصوف فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية وقاعدة من قواعد ذلك الأصل وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها بالنسبة إلى القادر عليها هذا لا نظر فيه والوصف الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ولا من 21الحاجيات ولا من الضروريات لا يقال إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية أن لا تكون في دار مغصوبة وكذلك الذكاة من تمامها أن لا تكون بسكين مغصوبة وما أشبهه ومع ذلك فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف لأنا نقول من قال بالصحة في الصلاة والذكاة فعلى هذا الأصل المقرر بني ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها من حيث كانت أركانها كلها التي هي أكوان غصبا لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها كالصلاة في طرفي النهار والصوم في يوم العيد وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها لأن العمل بها غصب كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه فصار أصل الذكاة منهيا عنه فعاد البطلان إلى الأصل بسبب بطلان وصف ذاتي بهذا الاعتبار ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به بيان الرابع من أوجه أحدها أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار فالضروريات آكدها ثم تليها الحاجيات والتحسينات وكان مرتبطا بعضها ببعض كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه ومدخل للإخلال به فصار الأخف كأنه حمى للآكد والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فالمخل بما هو مكمل كالمخل بالمكمل من هذا الوجه 22ومثال ذلك الصلاة فإن لها مكملات وهي هنا سوى الأركان والفرائض ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان لأن الأخف طريق إلى الأثقل ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه وفي الحديث لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وقول من قال إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها وهوأصل مقطوع به متفق عليه ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب فالمتجرىء على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه فكذلك المتجرىء على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات فإذا قد يكون في إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها باطلاق بحيث لا يأتي بشيء منها وإن أتى بشيء منها كان نزرا أو يأتي بجملة منها إن تعددت إلا ان الأكثر هو المتروك والمخل به ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن وكانت إلى اللعب أقرب ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله وكذلك نقول في البيع إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود فكان وجود العقد كعدمه بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده وكذلك سائر النظائر والثاني أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب 23إليه وكذلك قراءة السورة والتكبير والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس ولا مملوك للغير ولا مفقود الذكاة بالنسبة إلى أصل إقامة البنية وإحياء النفس كالنفل وكذلك كون المبيع معلوما ومنتفعا به شرعا وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع كالنافلة وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبا بالكل فالإخلال بالمندوب مطلقا يشبه الإخلال بالركن من أركان الواجب لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به فمن هذا الوجه أيضا يصح أن يقال إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما والثالث أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول مكملة الأطراف حتى يستحسن ذلك أهل العقول فإذا أخل بذلك لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت واتصف بضد ما يستحسن في العادات فصار الواجب الضروري متكلف العمل وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة وذلك ضد ما وضعت عليه وفي الحديث بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فكأنه لو فرض فقدان 24المكملات لم يكن الواجب واقعا على مقتضى ذلك وذلك خلل في الواجب ظاهر أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعا في بعض ذلك وفي يسيرمنه بحيث لا يزيل حسنه ولا يرفع بهجته ولا يغلق باب السعة عنه فذلك لا يخل به وهو ظاهر والرابع أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ومؤنس به ومحسن لصورته الخاصة إما مقدمة له أو مقارنا أو تابعا وعلى كل تقدير فهو يدور بالخدمة حواليه فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه وهكذا إلى آخرها فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجا للمصلي واستدعاء للحضور ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة وفى الإعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شىء واحد وهو الحضور مع الله فيها بالإستكانة والخضوع والتعظيم والإنقياد ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ومقوية لجانبه فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره لكان خللا فيها وعلى هذا 25الترتيب يجرى سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها بيان الخامس ظاهر مما تقدم لأنه إذا كان الضروري قد يختل بإختلال مكملاته كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنه إلا بها كان من الأحق أن لا يخل بها وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها وهو قسم الضروريات ومن هنالك كان مراعي في كل ملة بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع فهى أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة المسألة الخامسة المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية من حيث هى موجودة هنا لا يتخلص كونها مصالح محضة وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعما على الإطلاق وهذا في مجرد الإعتياد لا يكون لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق قلت أو كثرت تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها كالأكل والشرب واللبس والسكني والركوب والنكاح وغير ذلك فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود إذ ما 26من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير ويدلك عل ذلك ما هو الأصل وذلك أن هذه الدار وضعت على الإمتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق وأصل ذلك الأخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص قال الله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وما في هذا المعنى وقد جاء في الحديث حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا وإذا غلبت الجهة الأخرى فهى المفسدة المفهومة عرفا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة فإن رجحت المصلحة فمطلوب ويقال فيه إنه مصلحة وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه ويقال إنه مفسدة على ما جرت به العادات في مثله فإن خرج عن مقتضى العادات فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية وأما النظر الثانى فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا فالمصلحة إذا كانت هى الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الإعتياد فهى المقصودة 27شرعا ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه وكذلك المفسدة إذا كانت هى الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الإعتياد فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها حسبما يشهد له كل عقل سليم فإن تبعتها مصلحة أو لذة فليست هى المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل بل المقصود ما غلب في المحل وما سوى ذلك ملغي في مقتضى النهي كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هى خالصة غير مشوبة بشىء من المفاسد لا قليلا ولا كثيرا وإن توهم أنها مشوبة فليست في الحقيقة الشرعية كذلك لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الإعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضى التفات الشارع إليها على الجملة وهذا المقدار هو الذى قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام والدليل على ذلك أمران أحدهما أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع أعني معتبرة عند الشارع لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ولا منهيا عنه بإطلاق بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ومنهيا عنه من حيث المفسدة ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك 28وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي كوجوب الإيمان وحرمة الكفر ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها وما أشبه ذلك فكان يكون الإيمان الذى لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه من جهة مافيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذى لا لذة فيه لها وكان الكفر الذى يقتضى إطلاق النفس من قيد التكليف وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمور به أو مأذونا فيه لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة وكل هذا باطل محض بل الإيمان مطلوب بإطلاق والكفر منهى عنه بإطلاق فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا والثانى أن ذلك لو كان مقصود الإعتبار شرعا لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق وهو باطل شرعا أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا فمعلوم في الأصول وأما بيان الملازمة فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة فهو مطوب بإيقاع الفعل ومنهى عن إيقاعه معا والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا فقد قيل له افعل ولا تفعل لفعل واحد أي من وجه واحد في الوقوع وهو عين تكليف ما لا يطلق لا يقال إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ولكن مأذونا فيها فلا يجتمع الأمر والنهي معا فلا يلزم المحظور لأنا نقول إن هذا لا يطرد في جميع المصالح فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها يصح أن تكون مأمورا بها وإن سلم ذلك فالإذن مضاد للأمر والنهي 29معا فإن التخيير مناف لعدم التخيير وهما واردان على الفعل الواحد فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به وهو ما أردنا بيانه وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة لإمكان الإنفكاك بأن يصلى في غير الدار وهذا ليس كذلك فإن قيل إن هذا التقدير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل وإنما االمقصود الخير فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره فالخير هو الذى خلق الخلق لأجله ولم يخلق لأجل الشر وإن كان واقعا به كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة وكذلك الإيلام بالقصد والحجامة وقطع العضو المتأكل إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت إن الشارع مع قصده التشريع لأجل المصلحة لا يقصد وجه المفسدة مع أنها لازمة للمصلحة وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني وليس كلامنا فيه وإنما كلامنا في القصد التشريعي وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهى ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق 30بإطلاق حسبما تبين في موضعه فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك وإن كان واقعا بالوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع أو عدم الوقوع وإنما هذا قول المعتزلة وبطلانه مذكور في علم الكلام فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر لا ملازمة بينهما فصل وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الإعتياد بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الإعتبار للشارع ففي ذلك نظر ولا بد من تمثيل ذلك ثم تخليص الحكم فيه بحول الله مثاله أكل الميتة للمضطر وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا وقتل القاتل وقطع القاطع وبالجملة العقوبات والحدود للزجر وقطع اليد المتأكلة وقلع الضرس الوجعة والإبلام بقطع العروق والقصد وغير ذلك للتداوي وما أشبه ذلك من الأمور التي انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة فلا يخلو أن تتساوى الجهتان أو تترجح إحداهما على الأخرى فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الاخر إذ اظهر التساوي بمقتضى الأدلة ولعل هذا غير واقع في الشريعة وإن فرض وقوعه 31فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل وذلك في الشرعيات باطل باتفاق وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا طرف الإقدام وطرف الإحجام فغير صحيح لأنه تكليف ما لا يطاق إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معا وهما علمان على القصد على الجملة حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى ولم يتعين ذلك للمكلف فلا بد من التوقف وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى فيمكن أن يقال إن قصد الشارع متعلق بالجهة الأخرى إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان فيجب الوقف وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح ويمكن أن يقال إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع لا بما هو مقصوده في نفس الأمر فالراجحة وإن ترجحت لا تقطع إمكان 32كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين وغير مطرح في النظر ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ والإمكان الأول جار على طريقة المصوبين والثاني جار على طريقة المخطئين وعلى كل تقدير فالذي يلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الإعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الرجحة إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد فكان تكليفا بما لا يطاق وكذلك يكون الحكم في المسائل الإجتهادية كلها سواء علينا أقلنا إن كل مجتهد مصيب أم لا فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريا على الإعتياد أو خارجا عنه فالقياس مستمر والبرهان مطلق في القسمين وذلك ما أردنا بيانه فإن قيل أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى دينك هكذا وإن في الكتاب الضربين فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول فإذا ناقضه لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب وبالله التوفيق المسألة السادسة لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين دنيوية وأخروية وتقدم الكلام على الدنيوية اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية فنقول إنها على ضربين أحدهما أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر كنعيم أهل الجنان وعذاب أهل الخلود في النيران أعاذنا الله من النار وأدخلنا الجنة 33برحمته والثاني أن تكون ممتزجة وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين في حال كونه في النار خاصة فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول وهذا كله حسبما جاء في الشريعة إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال وإنما تتلقى أحكامها من السمع أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ولا محل الإيمان وتلك مصلحة ظاهرة وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة من الإيمان والأعمال الصالحة ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما حاصلة له مع التعذيب فهي تنفس عنه من كرب النار إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة من استقراها ألفاها وأما كون الأول محضا فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة كقوله تعالى لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وقوله فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار الآية وقوله لا يموت فيها ولا يحيى وهو أشد ما هنالك إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة وفي الجنة آيات آخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا مفسدة كقوله إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين وقوله سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين إلى غير ذلك مما هو معلوم وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة أنت رحمتي وفي النار أنت عذابي 34فسمى هذه بالرحمة مبالغة وهذه بالعذاب مبالغة فإن قيل كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها وإذا كانت دركات الجحيم أعاذنا الله منها بعضها أشد فالذي دون الأشد أخف من الأشد والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما وأيضا فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه وإذا تصورت الخفة ولو بنسبة ما فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر فإن الجزاء على حسب العمل وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة كان الجزاء على تلك النسبة ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة وهذا معنى ممازجة المفسدة فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه هذا مقتضى نقل الشريعة نعم العقل لا يحيل ذلك فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما ولذلك قال تعالى لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون فلا حالة هنالك ليستريحوا إليها وإن قلت كيف وهي دار العذاب عياذا بالله منها وما جاء في حرمان الخمر فذلك راجع إلى معنى المراتب فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها 35كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد أما المخرج إلى الضحضاح فأمر خاص كشهادة خزيمة وعناق أبي بردة ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الإستقرائية القطعية غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى وذلك أن المراتب وإن تفاوتت لايلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ومعنى هذا أنك إذا قلت فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله فإذا قلت وفلان فوقه في العلم فهذا الكلام يقتضى أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول ولا يقتضى أن الأول متصف بالجهل ولو على وجه ما فكذلك إذا قلت مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء فلا يقتضى ذلك للعلماء نقصا من النعيم ولا غضا من المرتبة بحيث يداخله ضده بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي لا نقص فيه وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم كل في العذاب لا يداخله راحة ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض ولأجل ذلك لما سئل النبي عن خير دور الأنصار أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة ثم قال وفى كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد من حيث كانت أفعل التفصيل 36قد تستعمل على ذلك الوجه كقوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ونحو ذلك فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ولو قصد ذلك لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره فلحقنا سعد ابن عبادة فقال ألم تر أن نبي الله خير الأنصار فجعلنا خيرا فقال أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص وبين الأنواع وبين الصفات وقد قال الله تعالى تلك الرسل فصلنا بعضهم على بعض ولقد فضلنا بعض النبيين عل بعض وفي الحديث المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع وهذا معنى حسن جدا من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وزيادة الإيمان ونقصانه وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس وبالله التوفيق 37المسألة السابعة إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية وذلك على وجه لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تخل أحكامها لم يكن التشريع موضوعا لها إذ ليس كونها مصالح إذا ذاك بأولى من كونها مفاسد لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله وأيضا فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كلية في الشريعة لا تختص على الجملة وإن تنزلت إلى الجزئيات فعلى وجه كلي وإن خصت بعضا فعلى نظر الكلي كما أنها إن كانت كلية فليدخل تحتها الجزئيات فالنظر الكلي فيها منزل للجزئيات وتنزله للجزئيات لا يخرم كونه كليا وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع وكمال النظام فيه يأبى أن ينخرم ما وضع له وهو المصالح المسألة الثامنة المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية 38أو درء مفاسدها العادية والدليل على ذلك أمور أحدها ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت وقد قال ربنا سبحانه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن الآية والثاني ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار 39عادة كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها أو اتلافها وإحياء المال كان إحياؤها أولى فإن عارض إحياؤها إماتة الدين كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها كما جاء في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا كان إحياء النفوس الكثيرة أولى وكذلك إذا قلنا الأكل والشرب فيه إحياء النفوس وفيه منفعة ظاهرة مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداء وفى استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيرا ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا لا من حيث أهواء النفوس حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك هذا وإن كانوا بفقد الشرع عل غير شيء فالشرع لما جاء بين هذا كله وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم والثالث أن المنافع والمضار عامتها أن تكون اضافية لا حقيقية ومعنا كونها اضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص أو وقت دون وقت فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة ولكن عند وجود داعية الأكل وكون المتناول لذيذا طيبا لا كريها ولا مرا وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر 40عاجل ولا آجل ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل ولا آجل وهذه الأمور قلما تجتمع فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع أو تكون ضررا في وقت أو حال ولا تكون ضررا في آخر وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة لا لنيل الشهوات ولو كانت موضوعة لذلك لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء ولكن ذلك لا يكون فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء والرابع أن الإغراض في الأمر الواحد تختلف بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه فحصول الإختلاف في الأكثر يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا وافقت الأغراض أو خالفتها فصل وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد منها أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الأذن وفي المضار المنع كما قرره الفخر الرازي إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي وإنما عامتها أن تكون إضافية 41والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات حتى يكون الإنتفاع المعين مأذونا فيه وقت أو حال أو بحسب شخص وغير مأذون فيه إذا كان على غير ذلك فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن وفى المضار المنع وأيضا فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشىء الواحد وكيف يقال إن في الأصل في الخمر مثلا الإذن من حيث منفعة الإنتشاء والتشجيع وطرد الهموم والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما لا ينفكان أويقال الأصل في شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته والأصل فيه الإذن لأجل الإنتفاع به وهما غير منفكين فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا وذلك محال فإن قيل المعتبر عند التعارض الراجح فهو الذي ينسب إليه الحكم وما سواه في حكم المغفل المطرح فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم إذ هو دليل على أن المنافع ليس أصلها الإباحة بإطلاق وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع أو نفع ما مندفع 42ومنها أن القرافي أورد إشكالا في المصالح والمفاسد ولم يجب عنه وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد فقال المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماهما كيف كانا فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس وآلام ومفاسد في تحصيلها وكسبها وتناولها وطبخها وإحكامها وإجادتها بالمضغ وتلويث الأيدي إلى غير ذلك مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه لاختار عدمه فمن يؤثر وقد النيران وملابسة الدخان وغير ذلك فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة فليس بعضها أولى من بعض ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الإعتزال فإنه سفه ولا يمكنهم أن يقولوا إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على تركها وكل مفسدة توعد الله على فعلها هي المقصودة وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصودنا فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص فيندفع الإشكال لأنا نقول الوعيد عندكم والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة ويجب 43عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح وفعل المفاسد فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد لزم الدور ولو صحت الإستفادة في المصالح والمفاسد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد وتنعكس الحقائق حينئذ فإن المعتبر هو التكليف فأي شىء كلف الله به كان مصلحة وهذا يبطل أصلكم قال وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال فهو أن يتعذر عليهم أن يقولوا إن الله تعالى راعي مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل لأن المباحات فيها ذلك ولم يراع بل 44يقولون إن الله ألغى بعضها في المباحات واعتبر بعضها وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب بل سبيلهم استقراء المواقع فقط وهذا وإن كان يخل بنمط من الإطلاع على بعض أسرار الفقه غير أنهم يقولون يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ويعتبر الله يشاء ويترك ما يشاء لا غيره في ذلك وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الإعتزال هذا ما قاله القرافي وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها لم يبق لهذا الإشكال موقع أما على مذهب الأشاعرة فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير إخلال بالخروج في جريانها على الصراط المستقيم وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلال بنظام ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام وفى وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع وكل أصل من أصول التكليف فإذا حصل ذلك للعلماء الراسخين حصل لهم به ضوابط في كل باب 45علىما يليق به وهو مذكور في كتبهم ومبسوط في علم أصول الفقه وأما على مذهب المعتزلة فكذلك أيضا لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة والتفصيل في المصالح أو ينخرم به في المفاسد وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة وإنما اختلفوا في المدرك واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعا ومنضبطة في أنفسها وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا في كلامه على العزيمة والرخصة حين فسرها 46الإمام الرازي بأنها جواز الإقدام مع قيام المانع قال هو مشكل لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة إذ يجوز الإقدام على ذلك كله وفيه مانعان ظواهر النصوص المانعة إلزامه كقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وفى الحديث لا ضرر ولا ضرار وذلك مانع من وجوب هذه الأمور والآخر أن صورة الإنسان مكرمة لقوله ولقد كرمنا بنىآدم لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد ولا يلزمه المشاق والمضار وأيضا الإجارة رخصة من بيع المعدوم والسلم كذلك والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه ولم تعد منها واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة وبالعكس وإن قلت على العد كالكفر والإيمان فما ظنك بغيرهما وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي لأنه لا يمكن أن 47يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح فإن أكل الميتة وغيره وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح وحينئذ تندرج جميع الشريعة لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي التنقيح والمحصول العجز عن ضبط الرخصة وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني في الموضع مع ما ذكر في الرخصة في كتاب الأحكام ومنها أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه كقوله تعالى هو الذى خلق لكم ما في الأرض جميعا وقوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وقوله قل 48من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق بل بقيود تقيدت بها حسبما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد والله أعلم ومنها أن بعض الناس قال إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات قال ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشارع لم يرد به ثم يبنى عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها هذا قوله وفيه بحسب ما تقدم نظر أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة وذلك لم يكن وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معا وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصدا لإقامة مصالح الدنيا حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة وقد بث في ذلك من التصرفات وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه 49المسألة التاسعة كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية لا بد عليه من دليل يستند إليه والمستند إليه في ذلك إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا وكونه ظنيا باطل مع أنه أصل من أصول الشريعة بل هو أصل أصولها وأصول الشريعة قطعية حسبما تبين في موضعه فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ولو جاز إثباتها بالظن لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا وهذا باطل فلا بد أن تكون قطعية فأدلتها قطعية بلا بد فإذا ثبت هذا فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا فالعقلي لا موقع له هنا لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية وهو غير صحيح فلا بد أن يكون نقليا والأدلة النقلية إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال أولا فإن لم تكن نصوصا أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر فلا يصح استناد مثل هذا إليها لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع وإفادة القطع هوالمطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند فهذا مفيد للقطع إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة بل يوجد في بعض المواضع دون بعض ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول إن التمسك بالدلائل النقلية إذا 50كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم الإشتراك وعدم المجاز وعدم النقل الشرعي أوالعادي وعدم الإضمار وعدم التخصيص للعموم وعدم التقييد للمطلق وعدم الناسخ وعدم التقديم والتأخير وعدم المعارض العقلي وجميع ذلك أمور ظنية ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية وليس كذلك باتفاق وإذا كانت لا تلزم ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة أو المتن والدلالة معا ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر على قول المقرين بذلك وغير موجود على قول الآخرين فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين ولا يقال إن الإجماع كاف وهو دليل قطعي لأنا نقول هذا أولا مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ثم نقول ثانيا إن فرض وجوده فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ويجتمعون على أنه قطعي فقد يجتمعون على دليل ظني فتكون المسألة ظنية لا قطعية فلا تفيد اليقين لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على 51فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي فإن اجتمعوا على مستند ظني فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الإجتهاد من أهل الشرع وأن اعتبارها مقصود للشارع ودليل ذلك استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الإستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم وشجاعة علي رضي الله عنه وما أشبه ذلك فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ولا على وجه مخصوص بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات والمطلقات والمقيدات والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين لكان إخبار كل واحد منهم عل فرض عدالته مفيدا للظن فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن لكن للإجتماع خاصية ليست للإفتراق فخبر واحد مفيد للظن مثلا فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض فكذلك هذا إذ 52لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار وهذا بين في كتاب المقدمات من هذا الكتاب فإذا تقرر هذا فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث المسألة العاشرة هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات ولذلك أمثلة أما في الضروريات فإن العقوبات مشروعة للإزدجار مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدحر عما عوقب عليه ومن ذلك كثير وأما في 53الحاجيات فكالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة والملك المترفه لا مشقة له والقصر في حقه مشروع والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضا مع عدم الحاجة وأما في التحسينيات فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية لأن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت هذا شأن الكليات الإستقرائية واعتبر ذلك بالكليات العربية فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية كما نقول ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبتة إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة ما ثبت للشيء ثبت لمثله فإذا كان كذلك فالكلية في الإستقرائيات صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات وأيضا فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلا أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها 54أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى فالملك المترفه قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها إن المصلحة ليست الإزدجار فقط بل ثم أمر آخر وهو كونها كفارة لأن الحدود كفارات لأهلها وإن كانت زحرا أيضا على إيقاع المفاسد وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح المسألة الحادية عشرة مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لاتختص بباب دون باب ولا بمحل دون محل ولا بمحل وفاق دون محل خلاف وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الإستدلال على مطلق المصالح وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق لكن البرهان قام على ذلك فدل على أن المصالح فيها غير مختصة وقد زعم بعض المتأخرين وهو القرافي أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الإجتهاد واحد لأن القاعدة العقلية أن الراجح 55يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض بل متى كان أحدهما راجحا كان الآخر مرجوحا وهذا يقتضى أن يكون المصيب واحدا وهو المفتي بالراجح وغيره يتعين أن يكون مخطئا لأنه مفت بالمرجوح فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس وأن الشرائع تابعة للمصالح هذا ما قال ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية أما في مواطن الخلاف فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر بل فيما في الظنون فقط كان راجحا في نفس الأمر أو مرجوحا وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب 56أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم إلى الأسباب للإتفاق على أن الخطأ يقع فيها وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى هذا ما نقل عنه ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز فجهة المصلحة عنده هي الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ماهو جائز وما هو جائز لا ضرر فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة بل فيه مصلحة لأجلها أجيز وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة وهي كذلك في نفس الأمر على ما ظنه فلا ضرر لاحق به في الدنيا وفي الآخرة فحكم المصوب ههنا حكم المخطىء 57وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد بل هو من ناظرين ظن كل واحد منهما العلة التي بني عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه لا ما هو عليه في نفسه إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الأجماع فههنا اتفق الفريقان وإنما اختلفا بعد فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه والمصوبة حكمت بناء على أن لا حكم في نفس الأمر بل هو ما ظهر الآن وكلاهما بأن حكمه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر ويتفق ههنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفصيلا وكذلك من قال إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان أو ليست من صفات الأعيان وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا وهو من مباحث أصول الفقه وإذا ثبت لم يفتقر إلى الإعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام وارتفع إشكال المسألة والحمد لله وتأمل فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا 58وحكما وذلك يقتضى تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي وأن ذلك راجع إلى الذوات فكلام القرافي مشكل على كل تقدير والله أعلم المسألة الثانية عشرة إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها معصوم وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة ويتبين ذلك بوجهين أحدهما الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا كقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقوله كتاب أحكمت آياته وقد قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل والسنة وإن لم تذكر فإنها مبينة له ودائرة حوله فهي منه وإليه ترجع في معانيها فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ويشد بعضه بعضا وقال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا حكى أبو عمرو الداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال 59كنت يوما عند القاضي أبي إسحق إسماعيل بن إسحق فقيل له لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن فقال القاضي قال الله عز وجل في أهل التوراة بما استحفظوا من كتاب الله فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم وقال في القرآن إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فلم يجز التبديل عليهم قال علي فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي فذكرت له الحكاية فقال ما سمعت كلاما أحسن من هذا وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء فكذلك في الأرض وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة من مثله وهو كله من جملة الحفظ والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل والثاني الإعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله إلى الآن وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر فضلا عن القراء الأكابر وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة إذ أوحاها الله إلى رسوله عل لسان العرب ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا 60ونصبا وجرا وجزما وتقديما وتأخيرا وإبدالا وقلبا وإتباعا وقطعا وإفرادا وجمعا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان فسهل الله بذلك الفهم عنه في كتابه وعن رسوله في خطابه ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوي في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة وعما كان عليه السلف الصالحون وداوم عليه الصحابة والتابعون وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز اتباع الحق عن اتباع الهوى وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ويدفعون الشبه ببراهينه فنظروا في ملكوت السموات والأرض واستعملوا الأفكار وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا واتخذوا الخلوة أنيسا وفازوا بربهم جليسا حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سمواته وأرضه وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه فإن عارض دين الإسلام معارض أو جادل فيه خصم مناقض غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة فهم جند الإسلام وحماة الدين 61وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة تارة من نفس القول وتارة من معناه وتارة من علة الحكم حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو أحتيج في إيضاحها إليه وهوعين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة وبالله التوفيق المسألة الثالثة عشرة كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أوالحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي وذلك الجزئيات فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع والدليل على ذلك أمور منها ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر كترك الصلاة أو الجماعة أو الجمعة أو الزكاة أو الجهاد أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه كان العتب وعيدا أو غيره كالوعيد بالعذاب وإقامة الحدود في الواجبات والتجريح في غير الواجبات وما أشبه ذلك ومنها أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث والأمر والنهي فيها قد جاء حتما وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها أو ترك المأمور به من غير اختصاص ولا محاشاة إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم وحين كان ذلك كذلك دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها 62ومنها أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي لم يصح الأمر بالكلي من أصله لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجرى أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي فإنه مع الإهمال لا يجري كليا 63بالقصد وقد فرضناه مقصودا هذا خلف فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات وليس البعض في ذلك أولى من البعض فانحتم القصد إلى الجميع وهو المطلوب فإن قيل هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات فالجواب أن القاعدة صحيحة ولا معارضة فيها لما نحن فيه فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي حتى إن تخلف الجزئي هنالك إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى كما نقول إن حفظ النفوس مشروع وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه ثم شرع القصاص حفظا للنفوس فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا وهو النفس المجني عليها فصار عين اعتبار الجزئي في كليه هو عين إهمال الجزئي لكن في المحافظة على كليه من وجهين وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب 64فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض فلا يصح شرعا وإن كان لعارض فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى أو على كلي آخر فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي والثاني لا يكون تخلفه قادحا النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل المسألة الأولى إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية وهذا وإن كان مبينا في أصول الفقه وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب وجاء القرآن على وفق ذلك فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها فإن هذا البحث على هذا الوجه غير مقصود هنا وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة لأن الله تعالى يقول إنا أنزلناه قرآنا عربيا وقال بلسان عربي مبين وقال لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين وقال ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة هذا هو المقصود من المسألة 65وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم أو لم يجىء فيه شىء من ذلك فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به وجرى في خطابها وفهمت معناه فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب وهذا يقل وجوده وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب أو كان بعضها كذلك دون بعض فلا بد لها من أن تردها إلى حروفها ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها وإذا فعلت ذلك صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها كالألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال ومع ذلك فالخلاف الذي يذكره المتأخرون في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي ولا يستفاد منه مسألة فقهية وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمه فيه فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه وبالعام يراد به الخاص والظاهر يراد به غير الظاهر 66وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره وتتكلم بالكلام ينبىء أوله عن آخره أو آخره عن أوله وتتكلم بالشىء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة وتسمى الشىء الواحد بأسماء كثيرة والأشياء الكثيرة بإسم واحد وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شىء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب والذي نبه علىهذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ فيجب التنبه لذلك وبالله التوفيق المسألة الثانية للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة علىمعان نظران أحدهما من جهة كونها ألفاظ وعبارات مطلقة دالة علىمعان مطلقة وهى الدلالة الأصلية والثاني من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة علىمعان خادمة وهي الدلالة التابعة فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ولا تختص بأمة دون أخرى فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتي له ما أراد من غير كلفة ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها وهذا لا إشكال فيه 67وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار فإن كل خبر يقتضى في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك وذلك أنك تقول في ابتداء الأخبار قام زيد إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه بل بالخبر فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت زيد قام وفى جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة إن زيدا قام وفى جواب المنكر لقيامه والله إن زيدا قام وفى إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه قد قام زيد أو زيد قد قام وفى التنكيت على من ينكر إنما قام زيد ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره أعني المخبر عنه وبحسب الكناية عنه والتصريح به وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار وما يعطيه مقتضى الحال إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هى المقصود الأصلي ولكنها من مكملاته ومتمماته وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه وفى بعضها على وجه آخر وفى ثالثة على وجه ثالث وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت وما كان ربك نسيا 68فصل وإذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدا وربما أشار إلى شىء من ذلك أهل المنطق من القدماء ومن حذا حذوهم من المتأخرين ولكنه غير كاف ولا مغن في هذا المقام وقد نفى ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول فهو ممكن ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام فصار هذا الإتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي فصل وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من أوصافها لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام وهل تعد معها كوصف من الأوصاف الذاتية أو هي كوصف غير ذاتي في ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفروعية جملة إلا أن الإقتصار على ما ذكر فيها كاف فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة فالسكوت عن ذلك أولى وبالله التوفيق 69المسالة الثالثة هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح ويدل على ذلك أمور أحدها النصوص المتواترة اللفظ والمعنى كقوله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم وقوله فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته وفى الحديث بعثت إلى أمة أمية لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين والأمي منسوب إلى الأم وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره فهو على أصل خلقته التي ولد عليها وفى الحديث 70نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقد فسر معنى الأمية في الحديث أي ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب ونحوه قوله تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك والثاني أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا فإن كان كذلك فهو معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها فلا بد أن تكون على ما يعهدون والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية فالشريعة إذا أمية والثالث أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل 71ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم هذا على غير ما عهدنا إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا وهذا ليس بمفهوم ولا معروف فلم تقم الحجة عليهم به ولذلك قال سبحانه ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمى وعربى فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا ولما قالوا إنما يعلمه بشر رد الله عليهم بقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربى مبين لكنهم أذعنوا لظهور الحجة فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله مع العجز عن مماثلته وأدلة هذا المعنى كثيرة فصل واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن شيم فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الإهتداء في البر والبحر واختلاف الأزمان باختلاف سيرها وتعرف منازل سير النيرين وما يتعلق بهذا المعنى وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة كقوله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وقوله وبالنجم هم يهتدون وقوله والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار الآية وقوله 72هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وقوله وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة الآية وقوله ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وما أشبه ذلك 73ومنها علوم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب وهبوب الرياح المثيرة لها فبين الشرع حقها من باطلها فقال تعالى هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده الأية وقال أفرأيتم الماء الذى تشربون أانتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون وقال وأنزلنا من المعصرات ماءا ثجاجا وقال وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون خرج الترمذي قال رسول الله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا وفى الحديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي الحديث في الأنواء وفى الموطأ مما انفرد به إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته كم بقى من نوء الثريا فقال له العباس بقي من نوئها كذا وكذا فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار وقال تعالى وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه الآية وقال والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها إلى كثير من هذا ومنها علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية وفى القرآن من ذلك ما هو كثير وكذلك في السنة ولكن القرآن احتفل في ذلك وأكثره من الأخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون 74قال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية وقال تعالى تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا وفى الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت وغير ذلك مما جرى ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه كعلم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل ونهت عنه كالكهانة والزجر وخط الرمل وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب فإن الكهانة والزجر كذلك وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل فجاء النبى بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض وهو الوحي والإلهام وأبقى للناس من ذلك بعد موته عليه السلام جزء من النبوة وهو الرؤيا الصالحة وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة ومنها علم الطب فقد كان في العرب منه شىء لا على ما عند الأوائل بل مأخوذ من تجاريب الأميين غير مبنى على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة لكن وجه جامع شاف 75قليل يطلع منه على كثير فقال تعالى كلوا واشربوا ولا تسرفوا وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء وأبطل من ذلك ما هو باطل كالتداوي بالخمر والرقي التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا 76ومنها التفنن في علم فنون البلاغة والخوض في وجوه الفصاحة والتصرف في أساليب الكلام وهو أعظم منتحلاتهم فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم قال تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومنها ضرب الأمثال وقد قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل إلا ضربا واحدا وهو الشعر فأن الله نفاه وبرأ الشريعة منه قال تعالى في حكايته عن الكفار أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين أي لم يأت بشعر فإنه ليس بحق ولذلك قال وما علمناه الشعر وما ينبغي له الآية وبين معنى ذلك في قوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون فظهر أن الشعر ليس مبنيا على أصل ولكنه هيمان على غير تحصيل وقول لا يصدقه فعل وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلىعلوم العرب الأمية وأما ما يرجع إلى الإتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها فهو أول ما خوطبوا به وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية من حيث كان آنس لهم وأجري على ما يتمدح به عندهم كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتآء ذي القربى إلى آخرها وقوله تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا إلى انقضاء تلك الخصال وقوله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده وقوله قل إنما حرم ربي 77الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى لكن أدرج فيها ما هو أولى من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك أو فيه من المفاسد ما يربى على المصالح التي توهموها كما قال تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان وتبعث البخيل على البذل وتنشط الكسالى والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين والعطف على المحتاجين وقد قال تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق ولهذا قال عليه السلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين أحدهما ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي وهو الضرب الثاني وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر حتى كان من آخره تحريم الربا وما أشبه ذلك وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة 78ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام كما قالوا في القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة وإلحاق الولد بالقافة والوقوف بالمشعر الحرام والحكم في الخنثى وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين والقسامة وغير ذلك مما ذكره العلماء ثم يقول لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض وجبال وسحاب ونباب وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها وأن ما جاء به محمد هي تلك بعينها كقوله تعالى ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا وقوله ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا الآية غير أنهم غيروا جملة منها وزادوا واختلفوا فجاء تقويمها من جهة محمد وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي كقوله وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود إلى آخر الآيات وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة وقال تعالى 79ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن فالقرآن كله حكمة وقد كانوا عارفين بالحكمة وكان فيهم حكماء فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله وكان فيهم أهل وعظ وتذكير كقس بن ساعدة وغيره ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير تجد الأمر كما تقرر وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب المسألة الرابعة ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليه قواعد منها أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أوالمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع مانظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ولم يبلغنا أنه 80تكلم أحد منهم في شىء من هذا المدعي سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشىء مما زعموا نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الإهتداء بإعلامه والإستنارة بنوره أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وقوله ما فرطنا في الكتاب من شىء ونحو ذلك وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب وبما نقل عن الناس فيها وربما حكى من ذلك عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه وغيره أشياء فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو 81المراد بالكتاب في قوله ما فرطنا في الكتاب من شىء اللوح المحفوط ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تاويلها إلا الله تعالى وغير ذلك وأما تفسيرها بما عهد به فلا يكون ولم يدعه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ويجب الإقتصار في الإستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة فبه يوصل إلى علم 82ماأودع من الأحكام الشرعية فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقول على الله ورسوله فيه والله أعلم وبه التوفيق فصل ومنها أنه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه وهذا جار في المعانى والألفاظ والأساليب مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعانى وإن كانت تراعيها أيضا فليس أحد الأمرين عندها بملتزم بل قد تبنى على أحدهما مرة وعلى الآخر أخرى ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته والدليل على ذلك أشياء أحدها خروجها في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة والضوابط المستمرة وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها وإن لم يكن بها حاجة وتركها لما هو أولى في مراميها ولا يعد ذلك قليلا فى 83كلامها ولاضعيفا بل هو كثير قوي وإن كان غيره أكثر منه والثانى أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يراد فيها أو يقاربها ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذ كان المعنى المقصود عل استقامة والكافى من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف وفى هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التى صحت عندهم مما وافق المصحف وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال وإن كان بين القراءين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب مالك و ملك وما يخدعون إلا أنفسهم وما يخادعون إلا أنفسهم لنبوئنهم من الجنة غرفا لنثوينهم من الجنة غرفا إلى كثير من هذا لأن جيمع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب وهذا كان عادة العرب ألا ترى ما حكى ابن جنى عن عيسى بن عمر وحكى عن غيره أيضا قال سمعت ذا الرمة ينشد وظاهر لها من يابس الشخث واستعن عليها الصبا واجعل يديك لها سترا فقلت أنشدتنى من بائس فقال يابس وبائس واحد فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس لما كان معنى البيت قائما على الوجهين وصوابا على كلتا الطريقتين وقد قال في رواية أبي العباس 84الأحول البؤس واليبس واحد يعنى بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة وعن أحمد بن يحيى قال أنشدنى ابن الأعرابي وموضع زير لا أريد مبيته كأنى به من شدة الروع آنس فقال له شيخ من أصحابه ليس هكذا أنشدتنا وموضع ضيق فقال سبحان الله تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزير والضيق واحد وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة وبألفاظ متباينة يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص بحيث يعد مرادفة أو مقاربة عيبا أو ضعفا إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها وإنما معهودها الغالب ما تقدم والثالث أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا ولم يفرقوا بين ما له لفظ وما ليس له لفظ فقبح قمت وزيد كما قبح قام وزيد وجمعوا في الردف بين عمود ويعود من غير استكراه وواو عمود أقوى في المد وجمعوا بين سعيد وعمود مع اختلافهما وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التى تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري لسكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض وما ذلك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها والرابع أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه فقد كان الأصمعي يعيب الخطيئة واعتذر عن ذلك بأن قال وجدت شعره كله جيدا فدلنى على أنه كان يصنعه وليس هكذا الشاعر 85المطبوع إنما الشاعر المطبوع الذى يرمى بالكلام على عواهنه جيده على رديئة وما قاله هو الباب المنتهج والطريق المهيع عند أهل اللسان وعلى الجملة فالأدلة على هذا المعنى كثيرة ومن زوال كلام العرب وقف من هذا على علم وإذا كان كذلك فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتنى العرب به الوقوف عند ما حدته فصل ومنها أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعانى فإن الناس في الفهم وتأتى التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة فذاك كالكنايات الغامضة والرموز البعيدة التى تخفى عن الجمهور ولاتخفى عمن قصد بها وإلا كان خارجا عن حكم معهودها فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف واشتركت فيه اللغات حتى كانت قبائل العرب تفهمه 86وأيضا فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط لأن الضعيف ليس كالقوى ولا الصغير كالكبير ولا الأنثى كالذكر بل كل له حد ينتهى إليه في العادة الجارية فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه وألزموا ذلك من طريقهم بالحجة القائمة والموعظة الحسنة ونحو ذلك ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ولكلفهم بغير قيام حجة ولا إتيان ببرهان ولا وعظ ولا تذكير ولطوقهم فهم ما لا يفهم وعلم ما لم يعلم فلا حجر عليه في ذلك فإن حجة الملك قائمة قل فلله الحجة البالغة لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ويقوى به ضعيفهم وتنتهض به عزائمهم من الوعد تارة والوعيد أخرى والموعظة الحسنة أخرى وبيان مجارى العادات فيمن سلف من الأمم الماضية والقرون الخالية إلى غير ذلك مما في معناه حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين بل هم مشتركون في مقتضاه ولايكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله وزادهم تخفيفا دون الأولين وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وقد خرج الترمذى وصححه عن أبي بن كعب قال لقى رسول الله جبريل فقال يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذى لم يقرأ كتابا قط قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف 87فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذى يسع الأميين كما يسع غيرهم فصل ومنها أن يكون الاعتناء بالمعانى المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعانى وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد والمعنى هو المقصود ولا أيضا كل المعانى فإن المعنى الإفرادي قد لايعبأ به إذا كان المعنى التركيبى مفهوما دونه كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس ولا يابس اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخارى عن أنس ابن مالك أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قرأ فاكهة وأبا قال ما الأب ثم قال ما كلفنا هذا أو قال ما أمرنا بهذا وفيه أيضا عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله فاكهة وأبا ما الأب فقال عمر نهينا عن التعمق والتكلف ومن المشهور تأديبه لضبيع حين كان يكثر السؤال عن المرسلات و العاصفات ونحوهما وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ولا ينبنى على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي فرأى أن الإشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف ولهذا أصل في الشريعة صحيح نبه عليه قوله تعالى ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب إلى آخر الآية فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي لم يكن تكلفا بل هو مضطر إليه كما روى عن عمر نفسه في قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف 88فإنه سئل عنه على المنبر فقال له رجل من هذيل التخوف عندنا التنقص ثم أنشده تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم فليس بين الخبرين تعارض لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه بخلاف الأول فإذا كان الأمر هكذا فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب لأنه المقصود والمراد وعليه ينبنى الخطاب ابتداء وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذى ينبغى فتستبهم على الملتمس وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب فيكون عمله في غير معمل ومشيه على غير طريق والله الواقى برحمته فصل ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمى تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها أما الإعتقادية بأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ولم تكن أمية وقد ثبت كونها كذلك فلا بد أن تكون المعانى المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ وأيضا فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور 89الآلهية إلا بما يسع فهمه وأرجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة وهو قوله تعالى ليس كمثله شىء وسكتت عن أشياء لا تهتدى إليها العقول نعم لا ينكر تفاضل الإداركات على الجملة وإنما النظر في القدر المكلف به ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يبلغنا عنهم من الخواض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة بل الذى جاء عن النبي وعن أصحابه النهى عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها حتى قال لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شئ فمن خلق الله وثبت النهى عن كثرة السؤال وعن تكلف مالا يعنى عاما في الاعتقادات والعمليات وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل وإنما يريد ما كان من الأشياء التى لا تهتدى العقول لفهمها مما سكت عنه أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه وعلى هذا فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ولله در القائل وللعقول قوى تستن دون مدى إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها وأما العمليات فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم كتعريفها بالظلال وطلوع الفجر والشمس وغروبها وغروب الشفق وكذلك في الصيام في قوله تعالى حتى يتبين 90لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها نزل من الفجر وفى الحديث إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم وقال نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وقال لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ولدقة الأمر فيه وصعوبة الطريق إليه وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم وعفا عن الخطأ إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة ولا تطلب ما وراء هذه الغاية فإنها مظنة الضلال ومزلة الأقدام 91فإن قيل هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ومظان الشبهات ومجارى الرياء والتصنع للناس ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات التى هى عند الجمهور من الدقائق التى لا يهتدى إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص وقد كانت عندهم عظائم وهي مما لا يصل إليها الجمهور وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة وإن كان الجميع عربا وأمة أمية وهكذا سائر القرون إلى اليوم فكيف هذا وأيضا فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة وما يعرفه العلماء خاصة وما لا يعلمه إلا الله تعالى وذلك المتشابهات فهى شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق وما لا يوصل إليه على الإطلاق وما يوصل إليه البعض دون البعض فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة فالجواب أن يقال أما المتشابهات فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور آلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت آية التنزيه وإما راجعة إلى قواعد شرعية فتتعارض أحكامها وهذا خاص مبنى على عام هو ما نحن فيه وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه أحدها أنها أمور أضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة وإنما هى أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها حتى زايل الأمية من وجه فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته فنسبته إلى ما فهمه نسبة العامي إلى ما فهمه 92والنسبة إذا كانت محفوظة فلا يبقى تعارض بين ما تقدم وما ذكر في السؤال والثانى أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ورفع بعضهم فوق بعض كما أنهم في الدنيا كذلك فليس من له مزيد في فهم الشريعة كمن لا مزيد له لكن الجميع جار على أمر مشترك والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك بل يدخلون مع غيرهم فيها ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك بعينه فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك كما نقول إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم وهو منها عند قوم آخرين فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته وهكذا سائر المسائل التى يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج 93عن هذا القانون فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة والثالث أن ما فيه التفاوت إنما تجده في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التى لم يوضع لها حد يوقف عنده بل وكلت إلى نظر المكلف فصار كل أحد فيها مطلوبا بإداركه فمن مدرك فيها أمرا قريبا فهو المطلوب منه ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول فهو المطلوب منه وربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها بل بما هو دونها ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم والله أعلم فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها أو إلى تعطيل عاداته التى يقوم بها صلاح دنياه ويتوسع بسببها في نيل حظوظه وذلك أن الأمي الذى لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده بخلاف من كان له بذلك عهد ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ولم تنزل دفعة واحدة وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له مالك لا 94تنفذ الأمور فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق قال له عمر لا تعجل يا بنى فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادى فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس وكان أكثرها على أسباب واقعة فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع وكانت أقرب فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذى قبله قد صار عادة واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف وعن العلم به رأسا فإذا نزل الثانى كانت النفس أقرب للانقياد له ثم كذلك في الثالث والرابع ولذلك أيضا أونسوا في الابتداء بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه يقول تعالى ملة أبيكم إبراهيم ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه إلى غير ذلك من الآيات فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الأثنين وفى الحديث الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه وانشرح به صدره فلا يأتي فعل ثان إلا وفى النفس له القبول هذا في عادة الله في أهل الطاعة وعادة 95أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه فكان يحب الرفق ويكره العنف وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد وأسهل في التشريع للجمهور المسألة الخامسة إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين من جهة دلالته على المعنى الأصلى ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذى هو خادم للأصل كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذى تستفاد منه الأحكام وهل يختص بجهة المعنى الأصلي أو يعم الجهتين معا أما جهة المعنى الأصلي فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ولا يسع فيه خلاف على حال ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهى والعمومات والخصوصات وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول وأما جهة المعنى التبعي فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا هذا محل تردد ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر فللمصحح أن يستدل بأوجه أحدهما أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه أولا ولا يمكن عدم اعتباره لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح فإذا كان هذا المعنى يقتضى حكما شرعيا لم يمكن إهماله واطراحه كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول فهو إذا معتبر وهو المطلوب 96والثاني أن الإستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها بلسان العرب لا من جهة كونها كلاما فقط وهذا الإعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى وما دل بالجهة الثانية هذا وإن قلنا إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص فذلك كله غير ضائر وإذا كان كذلك فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص وترجيح من غير مرجح وذلك كله باطل فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية فكان اعتبارهما معا هو المتعين والثالث أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلى والمقصود الإخبار بنقصان الدين لا الإخبار بأقصى المدة ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ولو تصورت الزيادة لتعرض لها واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها الحديث 97فقال لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب الإستحباب فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة لكنه لازم مما قصد ذكره وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله وفصاله في عامين فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جيمعا من غير تفصيل ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر وقالوا في قوله تعالى فالآن باشروهن إلى قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الآية إنه يدل على جواز الإصباح جنبا وصحة الصيام لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضى ذلك وإن لم يكن مقصود البيان لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون وأشباه ذلك من الآيات فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله وخصوصا للملائكة نفى اتخاذ الولد لا أن الولد لا يملك لكنه 98لزم من نفي الولادة وأن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا إذ لا موجود إلا رب أو عبد واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام فيما سقت السماء العشر الحديث مع أن المقصود تقدير الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ومثله كل عام نزل على سبب فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود وإن كان السبب على الخصوص واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى وذروا البيع مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق مع 99أن المقصود في قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك لا خصوص الذكر إلى غير ذلك من المسائل التى لا تحصى كثرة وجميعها تمسك بالنوع الثانى لا بالنوع الأول وإذا كان كذلك ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه أحدها أن هذه الجهة إنما هى بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هى مؤكدة للأولى ومقوية لها وموضحة لمعناها وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ومن العقول موقع الفهم كما نقول في الأمر الآتى للتهديد أو التوبيخ كقوله اعملوا ما شئتم وقوله ذق إنك أنت العزيز الكريم فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر وإنما هو مبالعة في التهديد أو الخزي فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ولا يصح أن يؤخذ وكما نقول في نحو واسأل القرية التى كنا فيها إن المقصود سل أهل القرية ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال وغير 100ذلك فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم وكذلك قوله خالدين فيها ما دامت السموات والأرض بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يوخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها وإذا كان كذلك فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال والثانى أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هى الأولى إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية وقد فرضناه من الثانية هذا خلف لا يمكن لا يقال إن كونها دالة بالتبع لا ينفى كونها دالة بالقصد وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة والجميع مقصود للشارع ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية 101وينبنى على ذلك في أحكام التكليف حسبما يأتي بعد إن شاء الله فكذلك نقول هنا إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحييح ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى لأنا نقول هذا إن سلم من أدل الدليل على ما تقدم لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا من حيث كان مؤكد للمقصود الأصلي من النكاح وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع فكذلك نقول في مسألتنا إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هى مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى وما دلت عليه هو المعنى الأصلي فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعى زيادة على المعنى الأصلي وهو المطلوب وأيضا فإن بين المسألتين فرقا وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم وقضاء أوطارهم ورفع الحرج عنهم وإذا دخل تحت أصل الحاجيات صح افراده بالقصد من هذه الجهة ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية بخلاف مسألتنا فإن الجهة التابعة لا يصح افرادها بالدلالة على معنى غير التأكد للأولى لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره والثالث أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضى أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها وذلك غير صحيح ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى فيكون استفاده الحكم من جهتها على 102غير فهم عربي وذلك غير صحيح فما أدى إليه مثله وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم وإنما هى راجعة إلى أحد أمرين إما إلى الجهة الأولى وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك فأما مدة الحيض فلا نسلم أن الحديث دال عليها وفيه النزاع ولذلك يقول الحنفية أن أكثرها عشرة أيام وأن سلم فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع وفيه الكلام ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره وأفل مدة الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية وكذلك مسألة الإصباح جنبا إذ لا يمكن غير ذلك وأما كون الولد لا يملك فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع وما ذكر مسالة الزكاة فالقائل بالتعميم إنما بني على أن العموم مقصود ولم يبن على أنه غير مقصود وإلا كان تناقضا لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى وذروا البيع فهو عنده مقصود لا ملغى وإلا لزم 103التناقض في الأمر كما ذكر وكذلك شأن القياس الجلى لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت فلا يصح إعماله ألبتة وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث كذلك يمكن في الأول والثانى فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضى حكما شرعيا فلا يمكن إهماله وهذا عين مسألة النزاع والثانى مسلم ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا والله أعلم فصل قد تبين تعارض الأدلة في المسألة وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين فاقتضى الحال أن الجهة الثانية وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنة يقر بها كل ذي عقل سليم فيكون لها اعتبار في الشريعة فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة أحدها أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ومن العباد لله سبحانه إما حكاية وإما تعليما فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضى للعبد ثابتا غير محذوف كقوله تعالى يا عبادى الذين آمنوا إن أرضى واسعة قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا فإذا أتى 104بالنداء من العباد إلى الله تعالى جاء من غير حرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل والله منزه عن التنبيه وأيضا فإن أكثر حروف النداء للبعيد ومنها يا التي هي أم الباب وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا لقوله تعالى وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب الآية ومن الخلق عموما لقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم وقوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فحصل من هذا التنبيه على أدبين أحدهما ترك حرف النداء والآخر استشعار القرب كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة وهو العبد والدلالة على ارتفاع شأن المنادى وأنه منزه عن مداناة العباد إذ هو في دنوه عال وفى علوه دان سبحانه والثاني أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصح شأنه فأتى في النداء القرآني بلفظ الرب في عامة الأمر تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالإسم المقتضى للحال المدعو بها وذلك أن الرب في اللغة هو القائم بما يصلح المربوب فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا إلى آخرها ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وإنما أتى قوله تعالى وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك من غير إتيان بلفظ الرب لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به بل هو مما ينافيه بخلاف 105الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية فإن لفظ الرب فيها مناسب جدا والثالث أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يسحبا من التصريح بها كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة وعن قضاء الحاجة بالمجىء من الغائط وكما قال في نحوه كانا يأكلان الطعام فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل والرابع أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبىء في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه كقوله تعالى الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم قال إياك نعبد وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا كقوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى عبس وتولى أن جاءه الأعمى حيث عوتب النبى بهذا المقدار من هذا العتاب لكن على حال تقتضى الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب ثم رجع الكلام إلى الخطاب إلا أنه بعتاب أخف من الأول ولذلك ختمت الآية بقوله كلا إنها تذكرة والخامس الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى وإن كان هو الخالق لكل شىء كما قال بعد قوله قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء إلى قوله بيدك الخير ولم يقل بيدك الخير والشر وإن كان قد ذكر القسمين معا لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر نعم قال في أثره إنك على كل شىء قدير تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه حتى جاء في الحديث عن النبى 106والخير في يديك والشر ليس إليك وقال إبراهيم عليه السلام الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الخ فنسب إلى رب العالمين الخلق والهداية والإطعام والسقي والشفاء والإماتة والإحياء وغفران الخطيئة دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض فإنه سكت عن نسبته إليه والسادس الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة كما في قوله تعالى وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وقوله قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين قل إن افتريته فعلى إجرامي وقوله قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية والسابع الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية كقوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى لعلكم تتقون لعلكم تذكرون وما أشبه ذلك فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم دخولا في غمار العامة وإن بان عنهم 107بخاصية يمتاز بها وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات وقد كان رسول الله يعلم بأخبار كثير من المنافقين ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون لإجتماعهم في عدم انخرام الظاهر فما نحن فيه نوع من هذا الجنس والأمثلة كثيرة فإذا كان كذلك ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى وهو توهين لما تقدم اختياره والجواب أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني وإنما استفيد من جهة أخرى وهي جهة الإقتداء بالأفعال النوع الثالث في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقضاها ويحتوي على مسائل المسألة الأولى ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ولا معنى لبيان ذلك ههنا فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ولكن نبني عليها ونقول إذا ظهر من الشارع في بادىء الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه فقول 108الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقوله في الحديث كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وقوله لا تمت وأنت ظالم وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو الإسلام وترك الظلم والكف عن القتل والتسليم لأمر الله وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله يوم أحد وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة لا تشرف يا رسول الله لا يصيبوك الحديث فقوله لا يصيبوك من هذا القبيل المسألة الثانية إذا ثبت هذا فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها فإنه من تكليف ما لا 109يطاق كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ولا تكميل ما نقص منها فإن ذلك غير مقدور للإنسان ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار لاعتدال فيما يحل وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الإكتساب المسألة الثالثة إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان منها ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم ومنها ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ومثاله العجلة فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه لقوله تعالى خلق الإنسان من عجل وفي الصحيح أن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك وقد جاء أن الشجاعة والجبن غرائز وجبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها إلى أشياء من هذا القبيل وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات وجاء يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب وإذا ثبت هذا فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام أحدها ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا وهذا قليل كقوله 110ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به والثاني ما كان داخلا تحت كسبه قطعا وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه والطلب المتعلق بها عل حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها والثالث ما قد يشتبه أمره كالحب والبغض وما في معناها فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا إما لأنها من أصل الخلقة فلا يطلب إلا بتوابعها فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضى لذلك أفعالا أخر فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه فالطلب يرد عليه كقوله تهادوا تحابوا فيكون كقوله أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى على العبد وكثرة إحسانه إليه وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل وعين الشهوة لم ينه عنه وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبة فالطلب يرد على اللواحق كالغضب المثير لشهوة الإنتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع 111فصل ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه وما ينشأ عنها من آفات اللسان وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره وعليه يدل كثير من الأحاديث وكذلك فقه الأوصاف الحميدة كالعلم والتفكر والاعتبار واليقين والمحبة والخوف والرجاء وأشباهها مما هو نتيجة عمل فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا فليس تحصيله بمقدور أصلا فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات فهو حاصل ولا يمكنه الإنصراف عنه وإن كان غير ضرورى لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر وهو المكتسب دون نفس العلم لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هوالمكتسب فيكون المطلوب وحده وأما العلم على أثر النظر فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها كما هو رأى المحققين أم لم نقل ذلك فالجميع متفقون على أنه غير داخل تحت الكسب بنفسه وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل وإذا كانت على هذا الترتيب لم يصح التكليف بها أنفسها وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها أويتأخر عنها أو يقارنها والله أعلم المسألة الرابعة الأوصاف التى لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين أحدهما ما كان نتيجة عمل كالعلم والحب في نحو قوله أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمة 112والثانى ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل كالشجاعة والجبن والحلم والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس وما كان نحوها فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض على ذلك الترتيب والثانى وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين أدهما من جهة ما هى محبوبة للشارع أو غير محبوبة له والثانية من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع فأما النظر الأول فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة وفى بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما وفى بعض الحديث الشجاعة والجبن غرائز وجاء إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية وفى الحديث الأرواح جنود مجندة فما 113تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وهذا معنى التحاب والتباغض وهو غير مكتسب وجاء في الحديث وجبت محبتى للمتحابين في وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر والضعف خلاف ذلك وجاء إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها وجاء يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب وقال تعالى خلق الإنسان من عجل وجاء في معرض الذم والكراهية ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة ولا يقال إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال لأن ذلك أولا خروج عن الظاهر بغير دليل وثانيا أنهما يصح 114تعلقهما بالذوات وهى أبعد عن الأفعال من الصفات كقوله تعالى فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية أحبوا الله لماغذاكم به من نعمه و من الإيمان الحب في الله والبغض في الله ولا يسوغ في هذه المواضع أن يقال إن المراد حب الأفعال فقط فكذلك لا يقال في الصفات إذا توجه الحب إليها في الظاهر إن المراد الأفعال فصل وإذا ثبت هذا فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال كقوله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم أبغض الحلال إلى الله الطلاق ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وهذا كثير وإذا قلت أحب الشجاع وأكره الجبان فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف نحو قوله تعالى والله يحب المحسنين والله يحب الصابرين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وفى القرآن أيضا إن الله لا يحب كل مختال فخور والله لا يحب الظالمين وفى الحديث إن الله يبغض الحبر السمين فإذا الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال 115فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل وأما النظر الثانى وهو أن يقال هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف وهى غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها الثواب والعقاب أما لا يصح هذا يتصور في ثلاثة أوجه أحدها أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب والثانى أن يتعلقا معا بها والثالث أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر أما هذا الأخير فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما فأما الأول فيستدل عليه بوجهين أحدهما أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا لأنه تكليف بما لا يطاق وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا فالأوصاف المشار إليها لا ثواب عليها ولا عقاب والثانى أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هى صفات أو من جهة متعلقاتها فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ومعاقبا عليها أيضا كذلك لأن ما وجب للشىء وجب لمثله وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة وذلك محال وإن كان من حيث متعلقاتها فالثواب والعقاب على المتعلقات وهى الأفعال والتروك لا عليها فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب وهو المطلوب 116وأما الثانى فيستدل عليه أيضا بأمرين أحدهما أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها والحب والبغض من الله تعالى إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى وهذا رأي طائفة أخرى وعلى كلا الوجهين فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام وهما عين الثواب والعقاب فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب والثانى أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات إما أن يستلزم الثواب والعقاب أو لا فإن استلزم فهو المطلوب وإن لم يستلزم فتعلق الحب والبغض إما للذات وهو محال وإما لأمر راجع إلى الله تعالى وهو محال لأن الله غني عن العالمين تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشىء بل هو الغني على الإطلاق وذو الكمال بكل اعتبار وإما للعبد وهو الجزاء إذ لا يرجع للعبد إلا ذلك 117وأمر ثالث وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات أو لا فإن كان الجزاء متفاوتا فقد صار للصفات قسط من الجزاء وهو المطلوب وإن كان متساويا لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل وذلك غير صحيح لما يلزم عليه أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب وبالعكس وهو محال فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها وذلك ما أردنا وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل أما الأول فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اظطرارا علم بها أو لم يعلم 118والثانى كشارب الخمر ومن أتى عرافا فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت أركانها وشروطها ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم عدلا كان أو فاسقا وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل وأما الثانى فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء فقوله إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف فقد ثبت بطلانه وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه ولصاحبه المذهب الأول أن يعترض على الثانى في أدلته أما الأول فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور وهو الصفات والذوات المخلوق عليها وأما الثانى فإن القسمة غير منحصرة إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجارى العادات وأما الثالث فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال الصانع 119وبالضد فكذلك ههنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات وهو المطلوب فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ولا حاجة إليه في هذا الموضع وبالله التوفيق المسألة الخامسة تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف وبقى النظر فيما يدخل تحت مقدوره لكنه شاق فهذا موضعه فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفى التكليف بما لا يطاق أن نعلم منه نفى التكليف بأنواع المشاق ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق وأيضا فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهما وأما المعتزلة فذلك أصلهم بخلاف التكليف بما يشق فإذا كان كذلك فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى المشقة وهى في أصل اللغة من قولك شق على الشىء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ومنه قوله تعالى لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس والشق هو الإسم من المشقة وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية أحدها أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره فتكليف ما لا يطاق 120يسمى مشقة من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدى كالمقعد إذا تكلف القيام والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء وما أشبه ذلك فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة والثانى أن يكون خاصا بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة إلا أن هذا الوجه على ضربين أحداهما أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها وهذا هو الموضع الذى وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء كالصوم في المرض والسفر والإتمام في السفر وما أشبه ذلك والثانى أن لا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها صارت شاقة ولحقت المشقة العامل بها ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما إلا أنه في الدوام يتعبه حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول وهذا هو الموضع الذى شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا حسبما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال وعن التنطع والتكلف وقال خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وقوله القصد القصد تبلغوا والأخبار هنا كثيرة وللتنبيه عليها موضع آخر فهذه مشقة ناشئة من أمر كلى وفى الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي 121والوجه الثالث أن يكون خاصا بالمقدور عليه وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف وهو في اللغة يقتضى معنى المشقة لأن العرب تقول كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به وتكلفة الشئ إذا تحملته على مشقة وحملت الشىء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا والرابع أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها انتظمت في أربعة فأما الأول فقد تخلص في الأصول وتقدم ما يتعلق به وأما الثانى وهى المسألة السادسة فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وقوله ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما 122حملته على الذين من قبلنا الآية وفى الحديث قال الله تعالى قد فعلت وجاء لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وما جعل عليكم في الدين من حرج يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الأنسان ضعيفا ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية وفى الحديث بعثت بالحنيفية السمحة وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما وإنما قال ما لم يكن إثما لأن ترك الإثم لا مشقة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ولكان مريدا للحرج والعسر وذلك باطل والثانى ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة وكذلك ما جاء من النهى عن التعمق والتكليف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف والثالث الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف وهو يدل 123على عدم قصد الشارع إليه ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف وذلك منفى عنها فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا وهى منزهة عن ذلك وأما الثالث وهي المسألة السابعة فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ويذمونه بذلك فكذلك المعتاد في التكاليف وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التى لا تعد مشقة عادة والتى تعد مشقة وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه وإلى وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وإن لم يكن فيها شىء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة وإن سميت كلفة فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته ولكن جعل له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات فكذلك التكاليف فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة وإذا تقرر هذا فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة بل من جهة ما في ذلك من 124المصالح العائدة على المكلف والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا فإن قيل ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف لأوجه أحدها أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة وهى المشقة فقول الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة لتسمية الشرع له تكليفا فهى إذا مقصودة له وعلى هذا النحو يتنزل قوله وما جعل عليكم في الدين من حرج وأشباهه والثانى أن الشرع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك فإذا يلزم أن 125يكون الشارع طالبا للمشقة بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسب عنه قاصد للمسبب وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا والثالث أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف مع قطع النظر عن ثواب التكليف كقوله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلى آخر الآية وقوله والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وما جاء في كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا وما جاء في إسباغ الوضوء على المكارة وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الآية وذلك لما في القتال من أعظم المشقات حتى قال تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وأشباه ذلك فإذا كانت المشقات من حيث هى مشقات مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف دل على أنها مقصود له وإلا فلو لم يقصدها لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التى لم يكلف بها فأوقعها المكلف باختياره حسبما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف وهو المطلوب فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين أحدهما أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة والثانى أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا فأما الثانى فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب وأما الأول فلا نسلم أنه قصد ذلك والقصد أن لا يلزم اجتماعهما فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع والإيلام بقصد 126العروق وقطع الأعضاء المتآكلة نفع المريض لا إيلامه وإن كان على علم من حصول الإيلام فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة فالنزاع في قصده للمشقة وإنما سمى تكليفا باعتبار ما يلزمه على عادة العرب في تسمية الشيء لما يلزمه وإن كان في الإستعمال غير مقصود حسبما هو معلوم في علم الإشتقاق من غير أن يكون ذلك مجازا بل على حقيقة الوضع اللغوي والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه أعني في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله وأيضا لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا 127لرفع المشقة وإيقاعها معا وهو محال باطل عقلا وسمعا وأيضا فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتآكلة وقلع الأضراس الوجعة وبط الجراحات وأن يحمي المريض ما يشتهبه وإن كان يلزم منه إذاية المريض لأن المقصود إنما هو المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإذاء التي هي بطريق اللزوم وهذا شأن الشريعة أبدا فإذا كان التكليف على وجه فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة لأن المقصود المصلحة فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها فإذا أمر بما تلزم عنه فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف وبها حصل العمل المكلف به ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود لا أنها مقصودة مطلقا فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيآته بسبب ما يلحقة من المصائب والمشقات كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ما يصيب 128المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من سيئآته وما أشبه ذلك وأيضا فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به وسيأتى تقريره إن شاء الله تعالى فصل ويترتب على هذا أصل آخر وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها وله أن يقصد العمل الذى يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل أما هذا الثانى فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر وذلك هو قصد الشارع يوضع التكليف به وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب 129وأما الأول فإن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل فالقصد إلى المشقة باطل فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض فإن قيل هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله فقال لهم إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال بنى سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفى رواية فقالوا ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا وفى رواية عن جابر قال كانت ديارنا نائية عن المسجد فأردنا أن نبيع بيوتنا فنتقرب من المسجد فنهانا رسول الله فقال إن لكم بكل خطوة درجة وفى رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شعراعها فإذا رجل يقول يا أهل السفينه قفوا سبع مرار فقلنا ألا ترى على أي حال نحن ثم قال في السابعة لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم من أيام الدنيا شديد الحر كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد الحر فيصومه 130وفى الشريعة من هذا مايدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل أحدهما سهل والآخر صعب فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم وترك الرخص جملة فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم وفى الصحيح أيضا عن أبي بن كعب قال كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله قال فتوجعنا له فقلنا له يا فلان لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض فقال أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله قال فحملت به حتى أتيت نبى الله فأخبرته قال فدعاه فقال له مثل ذلك وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر فقال له النبى إن لك ما احتسبت فالجواب أن نقول أولا إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي والظنيات لا تعارض القطعيات فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات وثانيا إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره فإنه زاد فيه وكره أن تعرى المدينة قبل 131ذلك لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ثم نزل إلى المدينة وقيل له عند نزوله العقيق لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد فقال بلغني أن النبى كان يحبه ويأتيه وأن بعض الأنصار أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد فقال له النبي أما تحتسبون خطاكم فقد فهم مالك أن قوله ألا تحتسبون خطاكم ليس من جهة إدخال المشقة ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه وأما حديث ابن المبارك فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ومع ذلك فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه 132كالوضوء عند الكريهات والظمأ والنصب في الجهاد فإذا اختيار أبي موسى رضى الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد وإنما فيه دليل عى قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره وهكذا سائر ما في هذا المعنى وأما شأن أرباب الأحوال فمقاصدهم القيام بحق معبودهم مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ولا يصح أن يقال إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات لما تقدم من الدليل عليه ولما سياتي بعد إن شاء الله وثالثا إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله الذين أرادوا التشديد بالتبتل حين قال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الآخر أما أنا فأقوم الليل ولا أنام وقال الآخر أما أنا فلا آتي النساء فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله وقال من رغب عن سنتي فليس مني وفى الحديث ورد النبي التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لا ختصينا ورد على من نذر أن يصوم قائما في الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام في الشمس 133وقال هلك المتنطعون ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة بحيث صار أصلا فيها قطعيا فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح وهذا واضح وبالله التوفيق فصل وينبنى أيضا على ما تقدم أصل آخر وهو أن الأفعال المأذون فيها إما وجوبا أو ندبا أو إباحة إذا تسبب عنها مشقة فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل أو لا تكون معتادة فإن كانت معتادة فذلك الذى تقدم الكلام عليه وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هى مشقة وإن لم تكن معتادة فهى أولى أن لا تكون مقصودة للشارع ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله أو لا فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ومثال هذا حديث الناذر للصيام قائما في الشمس ولذلك قال مالك في أمر النبى له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال أمره أن يتم ما كان لله طاعة ونهاه عما كان لله 134معصية لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده وهو ظاهر إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشره لا بسبب الدخول في العمل كما في المثال فالحكم فيه بين وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل فهذا هو الذى جاء فيه قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وجاء فيه مشروعية الرخص ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة فذاك ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه وإن لم يعمل بالرخصة فعلى وجهين أحدهما أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ويكره بسببه العمل فهذا أمر ليس له وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش وفى مثل هذا جاء ليس من البر الصيام في السفر وفى نحوه نهى عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان وقال لا يقض القاضى وهو غضبان وفى القرآن لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء 135العمل المأذون فيه على كماله فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف والثانى أن يعلم أن يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ولكن في العمل مشقة غير معتادة فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت بل المشقة في نفسها هى العنت والحرج وإن قدر على الصبر عليها فهى مما لا يقدر على الصبر عليه عادة إلا أن هنا وجها ثالثا وهو أن تكون المشقة غير معتادة لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ورب شىء هكذا فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ألا ترى إلى قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فجعلها كبيرة على المكلف واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله صلى الله عيله وسلم فهو الذى كانت قرة عينه في الصلاة حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا وقام حتى تفطرت قدماه فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية وهذا القسم يستدعى كلاما يكون فيه مد بعض نفس فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه مع تأكده في أصول الشريعة 136فصل فأعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين أحدهما الخوف من الانقطاع من الطريق وبغض العبادة وكراهة التكليف وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله والثانى خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها وقاطعا بالمكلف دونها وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء فانقطع عنهما فأما الأول فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة حفظ فيها على الخلق قلوبهم وحبها لهم بذلك فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ألا ترى إلى قوله تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم إلى آخرها فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله وزينه في قلوبنا بذلك وبالوعد الصادق بالجزاء عليه وفى الحديث عليكم من 137الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وفى حديث قيام رمضان أما بعد فإنه لم يخف على شأنكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها وفى حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة رضي الله عنها هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل فقال عليه الصلاة والسلام لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا وحديث أنس دخل رسول الله المسجد وحبل ممدود بين ساويتين فقال ما هذا قالوا حبل لزينب تصلى فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام أفتان أنت يا معاذ حين أطال الصلاة بالناس وقال إن منكم منفرين فأيكم من صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ونهى عن الوصال رحمة لهم ونهى عن النذر وقال إن الله يستخرج به من البخيل وإنه لا يغنى من قدر الله شيئا أو كما قال لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه ما تقدم من السآمة والملل والعجز وبغض الطاعة وكراهيتها وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن 138المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وقالت عائشة رضى الله عنها نهاهم النبي عن الوصال رحمة لهم قالوا إنك تواصل فقال إنى لست كهيئتكم إني أبيت يطعمنى ربي ويسقيني وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما فإذا وجد ما علل به الرسول كان النهي متوجها ومتجها وإذا لم توجد فالنهي مفقود إذ الناس في هذا الميدان على ضربين ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد فيؤثر فيه أو في غيره فسادا أو تحدث له ضجرا ومللا وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل كما هو الغالب في المكلفين فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخيص إن كان مما لا يجوز تركه أو يتركه إن كان مما له تركه وهو مقتضى التعليل ودليله قوله عليه الصلاة والسلام لا يقض القاضى وهو غضبان وقوله إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا وهو الذى أشار به عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم وقد قال بعد الكبر ليتني قبلت رخصة رسول الله 139والضرب الثانى شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل لوازع هو أشد من المشقة أو حاد يسهل به الصعب أو لما له في العمل من المحبة ولما حصل له فيه من اللذة حتى خف عليه ما ثقل على غيره وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره كما جاء في الحديث أرحنا بها يا بلال وفى الحديث حبب إلى من دنياكم ثلاث قال وجعلت قرة عيني في الصلاة وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه أفلا أكون عبدا شكورا وقيل له عليه الصلاة والسلام أنأخذ عنك في الغضب والرضى قال نعم وهو القائل في حقنا لا يقضى القاضى وهو 140غضبان وهذا وإن كان خاصا به فالدليل صحيح وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضى الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد كعمر وعثمان وأبي موسى الأشعري وسعيد بن عامر وعبد الله بن الزبير ومن التابعين كعامر بن عبد قيس وأويس ومسروق وسعيد بن المسيب والأسود بن يزيد والربيع بن خثيم وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش وكمنصور بن زاذان ويزيد بن هرون وهشيم وزر بن حبيش وأبي عبد الرحمن السلمي ومن سواهم ممن يطول ذكرهم وهم في اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم ومما جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله وكم من رجل منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة وسرد الصيام كذا وكذا سنة وروى عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام وأجاز مالك صيام الدهر وكان أويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح ويقول بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا ونحوه عن عبد الله بن الزبير وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر فكان علقمة يقول له ويحك لم تعذب هذا الجسد فيقول إن الأمر جد وعن ابن سيرين أن امرأة مسروق قالت كان يصلى حتى تورمت قدماه فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه وعن الشعبي قال غشي على مسروق في يوم 141صائف وهو صائم فقالت له ابنته أفطر قال ما أردت بي قالت الرفق قال يا بنية إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة إلى سائر ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التى لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة بل كانوا معدودين في السابقين جعلنا الله منهم وذلك لأن العلة التى لأجلها نهى عن العمل الشاق مفقودة في حقهم فلم ينتهض النهي في حقهم كما أنه لما قال لا يقض القاضي وهو غضبان وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر وانتفى عند انتفائه حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذى لا يشوش وهذا صحيح مليح فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد والثانى حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة فالخوف سوط سائق والرجاء حاد قائد والمحبة تيار حامل فالخائف يعمل مع وجود المشقة غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا والراجى يعمل مع وجود المشقة أيضا غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد ويفنى القوي ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان ويرخص له فيه إن كان لازما له حتى لا يحصل في مشقة ذلك لأن فيه تشويش النفس كما تقدم ولكن العمل الحاصل والحالة هذه هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة الصلاة في الدار المغصوبة 142وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي وأنه لا يجزئه إن فعل ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف والانتقال إلى التيمم وفى خوف المرض أو تفلف المال احتمال والشاهد للمنع قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات فالأمران مفترقان فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة فصارت ذات قولين وأيضا فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى وهى أن يقال هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله أم لأجل أنها حق للعبد فإن قلنا إنها حق لله فيتجه المنع حيث وجهه الشارع وقد رفع الحرج في الدين فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع وإن قلنا إنه حق للعبد فإذا سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة والذى يرجح هذا الثانى أمور منها أن قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وقد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد لقوله تعالى إن الله كان بكم رحيما يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم لأنه أرفق بهم وأيضا فقوله وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد ومنها ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإردة اليسر فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحرج والعسر فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي ومما يخص مسألتنا قيام النبي حتى تفطرت قدماه أو تورمت قدماه والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد ولكن المرفى طاعة 143الله يحلو للمحبين وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم وكذلك جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم وقد روى عن الحسن بن عرفة قال رأيت يزيد بن هرون بواسط وهو من أحسن الناس عينين ثم رأيته بعين واحدة ثم رأيته وقد ذهبت عيناه فقلت له يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان فقال ذهب بهما بكاء الأسحار وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى فإذا من غلب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق ومن غلب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق ولكن جعل ذلك إلى خيرته فصل وأما الثانى فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها ولا محيص له عنها يقوم فيها بحق ربه تعالى فإذا أوغل في علم شاق فربما قطعة عن غيره ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به فيقصر فيه فيكون بذلك ملوما غير معذور إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ولا بحال من أحواله فيها ذكر البخاري عن أبي جحيفة قال آخى النبي بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء وهي زوجة متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال له كل فإني صائم فقال ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال نم فنام ثم ذهب ليقوم فقال نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن فصلينا 144فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي فذكر له ذلك فقال النبي صدق سلمان وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ أفتان أنت أو أفاتن أنت ثلاث مرات فلولا صليت فسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ سورة البقرة والنساء فانطلق الرجل انظره في البخاري وكذلك حديث إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي الحديث ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة صلاةالصبح في الجماعة لإطالة الصلاة من الليل وأيضا فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وقيل لابن مسعود رضى الله عنه وإنك لتقل الصوم فقال إنه يشغلني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي منه ونحو هذا ما حكى 145عياض عن ابن وهب أنه آلى أن يصوم يوم عرفة أبدا لأنه كان في الموقف يوما صائما وكان شديد الحر فاشتد عليه قال فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار وكره مالك إحياء الليل كله وقال لعله يصبح مغلوبا وفي رسول الله أسوة ثم قال لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم فلا وإن كان وهو به فتور أو كسل فلا بأس به فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل وأنه يسبب تعطيل وظائف كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة نهي عن ذلك وإن لم يكن شئ من ذلك فالإيغال فيه حسن وسبب القيام بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أوالمحبة فإن قيل دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه وإن كان له وازع الخوف أو حادي الرجاء أوحامل المحبة لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل صائما النهار واطئا أهله إلى اشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد وإغاثة اللهفان وقضاء حوائج الناس وغير ذلك من الأعمال بل كثير منها تضاد أعمالا أخر بحيث لا يمكن الإجتماع فيها وقد لا تضادها ولكن تؤثر فيها نقصا وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة هذه ولهذا جاء من يشاد هذا الدين يغلبه وأيضا فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال 146ومسقطى الحظوظ فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان أحدهما أرباب الحظوظ وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم ولا يضر بحظوظهم فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا وقطع العوائد المباحة قد يوقع في المحرمات وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملق حكمة الشرع عن نفسه وذلك فساد كبير ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع كما أن ما في السموات وما في الأرض مسخر للإنسان فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور ويبقى في المندوب والمكروه على توازن فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه كالنكاح مثلا وينهى عن المكروه الذى لاحظ فيه عاجلا كالصلاة في الأوقات المكروهة وينظر في المندوب الذي لاحظ له فيه وفي المكروه الذي له فيه حظ أعني الحظ العاجل فإن كان ترك حظه في المندوب يؤدي 147لما يكره شرعا أو لترك مندوب هو أعظم أجرا كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات حسبما نبه عليه حديث إذارأى أحدكم امرأة فأعجبته الخ وكذلك ترك الصوم يوم عرفة أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن وفي الحديث إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر اقوى لكم وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه غلب الجانب الأخف كما قال الغزالي إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات على التورع عنها مع عدم طاعتهما فإن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله فإن كان في تناولها رضى الوالدين رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية وهو مخالفة الوالدين ومثله ما روى عن مالك أن طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال فيقع الترجيح بينها فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه والثاني أهل إسقاط الحظوظ وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح 148بين الأعمال غير أن سقوط حظوظهم لعزوب أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الإنقطاع وكراهية الأعمال ووفقهم في الترجيح بين الحقوق وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم فصاروا أكثر أعمالا وأوسع مجالا في الخدمة فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات وأما أنه يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة فمعتذر إلا في المنهيات فإنه ترك بإطلاق ونفي أعمال لا أعمال والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر كقوله إن لنفسك عليك حق وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده أو ساقط فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه فحظه أيضا آخر الأشياء المستحقة وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا فدخل فيه من الأعمال كثير وإذا عمل على حظه من حيث الأمر فهو عبادة كما سيأتي فصار عبادة بعد ما كان عادة فهو ساقط من جهته ثابت من جهة الأمر كسائر الطاعات ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس بل يصير أكثر عمله في الواجبات وهنا مجال رحب له موضع غير هذا فصل ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من المأذون فيه فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه 149إلا أنه قد يكون في الشرع سببا لأمر شاق على المكلف ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة كالقصاص والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة فإنها زجر للفاعل وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاه لكون قطع اليد المتأكلة وشرب الدواء البشيع مؤلما وشاقا فكما لا يقال للطبيب إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال فكذلك هنا فإن الشارع هو الطبيب الأعظم والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه ويشبه هذا ما في الحديث من قوله ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له من الموت لأن الموت لما كان حتما على المؤمن وطريقا إلى وصوله إلى ربه وتمتعه بقربه في دار القرار صار في القصد إليه معتبرا وصار من جهة المساءة فيه مكروها وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان الوفاء بها لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هى عبادات وإن شقت كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت كما إذا حلف بصدقه ماله فإنه يجزئه الثلث أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر فإنه يركب ويهدى أو كما إذا نذر أن لا يتزوج أو لا يأكل الطعام فإنه يسقط حكمه إلى أشباه ذلك 150فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف عام في المأمورات والمنهيات ولا يقال إنه قد جاء في القرآن فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فسمي الجزاء اعتداء وذلك يقتضى القصد إلى الاعتداء ومدلوله المشقة الداحلة على المعتدى لأنا نقول تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجاز معروف مثله في كلام العرب وفى الشريعة من هذا كثير كقوله تعالى الله يستهزىء بهم ومكروا ومكر الله إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا إلى أشباه ذلك فلا اعتراض بمثل ذلك فصل وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه فههنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق رفعا للمشقة اللاحقة وحفظا على الحظوظ التى أذن لهم فيها بل أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه وحفظا على تكميل الخلوص في التوجه إليه والقيام بشكر النعم فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد وفى التداوى عند وقوع الأمراض وفى التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار 151من درء المفاسد وجلب المصالح ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة إلا أن هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله ولا يعتبر هنا جهة التسليط والإبتلاء لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغي في التكليف وإن كان ممتبرا في العقد الإيماني كما لا تعتبر جهة التكليف ابتداء وإن كان في نفسه ابتلاء لأنه طاعة أو معصية من جهة العبد خلق للرب فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد فليس له في الأصل حيلة إلا الاستسلام لأحكام القضاء والقدر فكذلك هنا وأما إن لم يثبت انحتام الدفع فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي فيستسلم العبد للقضاء ولذلك لما لم يكن التداوي محتما تركه كثير من السلف الصالح وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض كما في حديث السوداء المجنونة التى سألت النبي أن يدعو لها فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك وكما 152فى الحديث ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب كما في التداوى حيث قال عليه الصلاة والسلام تداوو فإن الذى أنزل الداء أنزل الدواء وأما إن ثبت الإباحة فالأمر أظهر وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ وبقي الكلام على الوجه الرابع وذلك مشقة مخالفة الهوى وهى 153المسألة الثامنة وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها وصعب خروجها عنه ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين وحال من بعث إليهم رسول الله من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال ولم يرضوا بمخالفة الهوى حتى قال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية وقال إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم وما أشبه ذلك ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبدا لله فإذا مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف وإن كانت شاقة في مجاري العادات إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له وذلك باطل فما أدى إليه مثله وبيان هذا المعنى مذكور بعد إن شاء الله المسألة التاسعة كما أن المشقة تكون دنيوية كذلك تكون أخروية فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب أو فعل محرم فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التى هي غير مخلة بدين واعتبار الدين مقدم على 154اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع وكذلك هنا فإذا كان كذلك فليس للشارع قصد في إدخال المشقة من هذه الجهة وقد تقدم من الأدلة التىيدخل تحتها هذا المطلوب ما فيه كفاية المسألة العاشرة قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده كالمسائل المتقدمة وقد تكون عامة له ولغيره وقد تكون داخلة على غيره بسببه ومثال العامة له ولغيره كالوالى المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه إلا أن 155الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر ولحقه من ذلك ما يلحق غيره ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام وعلى كل تقدير فالمشقة من حيث هي غير مقصود للشارع تكون غير مطلوبة ولا العمل المؤدي إليها مطلوبا كما تقدم بيانه فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره فيلزم أيضا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك وإن لم يمكن فلا بد من الترجيح فإذا كانت المشقة العامة أعظم اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة وإن كان بالعكس فالعكس وإن لم يظهر ترجيح فالتوقف كما سيأتي ذكره في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله 156المسألة الحادية عشرة حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية فالشارع وإن لم يقصد وقوعها فليس بقاصد لرفعها أيضا والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره قل أو جل إما في نفس العمل المكلف به وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف وإما فيهما معا فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله وذلك غير صحيح فكان مما يستلزمه غير صحيح إلا أن هنا نظرا وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة بإختلاف تلك الأعمال فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقة في ركعتي الصبح ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد إلى غير ذلك من أعمال التكليف ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية فلم تخرج عن المعتاد على الجملة ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد في كل وقت في كل مكان وعلى كل حال فليس 157إسباغ الوضوء في السبرات يساوي إسباغه في الزمان الحار ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد مع فعله على خلاف ذلك وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله بعد قوله ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون إلى آخرها وقوله وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه الآية وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم في تخلفهم عن غزوة تبوك ومنع رسول الله صلى الله وسلم من مكالمتهم وإرجاء أمرهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وكذلك ما جاء في نكاح الإماء عند خشية العنت ثم 158قال وأن تصبروا خيرا لكم إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ولكنه في الحقيقة معتاد ومشقته في مثلها مما يعتاد إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج عن المعتاد وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل وواسطه هى الغالب والأكثر فإذا كان كذلك فكثيرا مما يظهر مبادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات وإذا لم تخرج عن المعتاد لم يكن للشارع قصد في رفعها كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة فلا يكون فيها رخصة وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف فحيث قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا ثم قال إلا تنفروا يعذكم عذابا أليما كان هذا موضع شدة لأنه يقتضى أن لا رخصة أصلا في التخلف إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران شدة الحر وبعد الشقة زائدا على مفارقة الظلال واستدرار الفواكه والخيرات وذلك كله زائد في مشقة الغزو زيادة ظاهرة ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد فلذلك لم يقع في ذلك رخصة فكذلك أشباهها وقد قال تعالى ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم وقد قال ابن عباس في قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج 159إنما ذلك سعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفارات وقال عكرمة ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وعن عبيد بن عمير أنه جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس فسأله عن الحرج فقال أولستم العرب ثم قال ادع لي رجلا من هذيل فقال ما الحرج فيكم قال الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج قال ابن عباس ذلك الحرج ما لا مخرج له فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات وأصل الحرج الضيق فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها فليس بحرج لغة ولا شرعا كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية وهى التمحيص والاختبار حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب فقد تبين إذا ما هو من الحرج مقصود الرفع وما ليس بمقصود الرفع والحمد لله فصل قال ابن العربي إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفى بعض أصول الشافعي اعتباره انتهى ما قال وهو مما ينظر فيه فإنه إن عني بالخاص الحرج الذى في أعلى مراتب المعتاد فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه لأنه إن كان من المعتاد فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه وإلا لزم في أصل التكليف فإن تصور وقوع اختلاف فإنما هو مبنى على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما وأيضا فتسميته خاصا يشاح فيه فإنه بكل اعتبار عام غير خاص إذ ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض وأن عني بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم وقد شرع فيه التخفيف فهذا عام والمرض 160قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ومنهم من يقدر على ذلك ومنهم من يقدر على الصوم ومنهم من لا يقدر فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة فالظاهر أنه خاص ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص وإلا فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة خزيمة فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك فإن قيل لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم وما كان خاصا ببعض الأقطار أو بعض الأزمان أو بعض الناس وما أشبه ذلك فالجواب أن هذا أيضا مما ينظر فيه فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين أو بعض الأزمان المعينة أو الأمكنة المعينة وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة أو على وجه لا يقاس عليه غيره كنهيه عن 161ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة وكتخصيص الكعبة بالإستقبال والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد فتصور مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأت فإن قيل ففى النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره قيل وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم بل جهة العموم أولى لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض وإن سقط سقط في البعض وهذا متفق عليه بين الإمامين فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك فإن قيل لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا وهوم عام كالتراب والطحلب وشبه ذلك أو خاص كما إذا كان عدم الإنفكاك خاصا ببعض المياه فإن حكم الأول ساقط لعمومه والثاني مختلف فيه لخصوصه وكذلك اختلف في ماء البحر هل هو طهور أم لا لأنه متغير خاص وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط وإن كان خاصا ففيه خلاف كما إذا قال كل امرأة 162أتزوجها من بني فلان أو من البلد الفلاني أو من السودان أو من البيض أو كل بكر أتزوجها أو كل ثيب وما أشبه ذلك فهي طالق ومثله كل أمة اشتريتها فهي حرة هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص كما لو قال كل حرة أتزوجها طالق وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط فإن قال فيه كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا وجرى فيه الخلاف وأشباه ذلك من المسائل فالجواب أن هذا ممكن وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عن مالك بعدم الاعتبار وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة وفى غيرها بالنسبة إلى علم الفقه لا بالنسبة إلى نظر الأصول إلا أنه إذا ثبت الخلاف فهو المراد ههنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال فإن الحرج العام هو الذى لا قدرة للانسان في الإنفكاك عنه كالأمثلة المتقدمة فأما إذا أمكن الانفكاك عنه فليس بحرج عام بإطلاق إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة لاختلاف أحوال الناس في ذلك وأيضا فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة الطرف العام الذى لا انفكاك عنه في العادة الجارية ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتفير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد والله أعلم 163المسألة الثانية عشرة الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه الداخل تحب كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال بل هو تكليف جار على موازنة تقتضى في جميع المكلفين غاية الإعتدال كتكاليف الصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل كقوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون يسألونك عن الخمر والميسر وأشباه ذلك فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الإعتدال فيه فعل الطبيب الرفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته وقوة مرضه وضعفه حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله أو لا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف 164بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم وتكمل بها تصرفاتهم كقوله تعالى الذى جعل لكم الأرض فراشا والسمآء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وقوله الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقوله هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون إلى آخر ما عد لهم من النعم ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران وشكوا في صدق ما قيل لهم أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أخبروا بحقيقتها وأنها في الحقيقة كلا شئ لأنها زائلة فانية وضربت لهم الأمثال في ذلك كقوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء الآية وقوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وقوله وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى فقال عليه الصلاة والسلام 165إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة وقال يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم والوعيد فيه والتشديد وقال تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ولما قال عليه الصلاة والسلام آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان شق ذلك عليهم إذ لا يسلم أحد من شئ منه ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر وكذلك لما نزل وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية شق عليهم فنزل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقارف 166بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له فسئل في ذلك رسول الله فأنزل الله قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية ولما ذم الدنيا ومتاعها هم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة فرد ذلك عليهم رسول الله وقال من رغب عن سنتي فليس مني ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة والمال والولد هي الدنيا واقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه فلا ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازى به المؤمنين في الآخرة وأنه جزاء لأعمالهم فنسب إليهم أعمالا وأضافها إليهم بقوله جزاء بما كانوا يعملون ونفى المنة به عليهم في قوله فلهم أجر غير ممنون فلما منوا بأعمالهم قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه لأنه مقطع حق وسلب عنهم ما أضاف إلى الآخرين بقوله أن هداكم للإيمان كذلك أيضا أى فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به 167وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار فقال عليه السلام إسق يا زبير فأمره بالمعروف وأرسل الماء إلى جارك فقال الرجل إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله عليه وسلم ثم قال إسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر واستوفى له حقه فقال الزبير إن هذه الآية نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر يعطي الغذاء ابتداء على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي أهو غذاء أم سم أم غير ذلك فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي والصحة المطلوبة وهذا غاية الرفق وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه فصل فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في االطرف الآخر فطرف التشديد وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر يؤتي به في مقابلة من غلب عليه الإنحلال في الدين 168وطرف التخفيف وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص يؤتي به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ومسلك الاعتدال واضحا وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها والتوسط يعرف بالشرع وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات النوع الرابع في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة ويشتمل على مسائل المسألة الأولى المقصد شرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا 169والدليل على ذلك أمور أحدها النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله والدخول تحت أمره ونهيه كقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك وقوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة كقوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله وأولئك هم المتقون وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام وقوله واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعباد على الإطلاق وبتفاصيلها على العموم فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال والانقياد إلى أحكامه على كل حال وهو معنى التعبد لله والثانى ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله وذم من أعرض عن الله وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات والعذاب الآجل في الدار الآخرة وأصل ذلك اتباع الهوي والإنقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة والشهوات الزائلة فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق وعده قسيما له كما في قوله تعالى يا دواد إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية وقال تعالى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وقال في قسيمه وأما من خاف مقام ربه ونهىالنفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فقد حصر الأمر في شيئين الوحى وهو الشريعة والهوى فلا ثالث لهما وإذا كان كذلك فهما متضادان وحين تعين الحق في الوحى توجه للهوى 170ضده فاتباع الهوى مضاد للحق وقال تعالى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وقال ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن وقال أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم وقال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى والثالث ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى والمشي مع الأغراض لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذى هو مضاد لتلك المصالح وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته وسار حيث سارت به حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها أو كان له شريعة درست كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم وإطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا وهى التى يسمونها السياسة المدينة فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة وهو أظهر من أن يستدل عليه وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعى على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهى العباد وأغراضهم إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة أما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار إذ يقال له افعل كذا كان لك فيه غرض أم لا ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض 171أم لا فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل وأما سائر الأقسام وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره فهى راجعة إلى إخراجها عن اختياره ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض وقد لا يكون فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار بل في رفعه مثلا كيف يقال إنه داخل تحت اختياره فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه كما يطرأ للمتنازعين في حق وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس فيحب الآن ما يكره غدا وبالعكس فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشئ الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى فسبحان الذى أنزل في كتابه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن فإذا إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف إلا من حيث كان قضاء من الشارع وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعى لا بالاسترسال الطبيعي وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعيه هواه حتى يكون عبدا لله فإن قيل وضع الشرائع إما أن يكون عبثا أو لحكمة فالأول باطل باتفاق وقد قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين 172ما خلقناهما إلا بالحق وإن كان لحكمة ومصلحة فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ورجوعها إلى الله محال لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام فإيبق إلا رجوعها إلى العباد وذلك مقتضى أغراضهم لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه والشريعة تكلفت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم وأيضا فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون أو وجوبا على ما يزعمه المعتزلة وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا كان ما ينافيه باطلا فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهى عائدة علهيم بحسب أمر الشارع وعلى الحد الذى حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك فالأوامر والنواهي مخرجة له عن داوعي طبعه واسترسال أغراضه حتى يأخذها من تحت الحد المشروع وهذا هو المراد وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة وذلك ما أردنا ههنا 173فصل فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد منها أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق لأنه خلاف الحق بإطلاق فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة وتأمل حديث ابن مسعود رضى الله عنه في الموطأ إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي يطيلون في الصلاة ويقصرون في الخطبة يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم فأما العبادات فكونها باطلة ظاهر وأما العادات فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي فوجودها في ذلك وعدمها سواء وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به كما تقدم في كتاب الأحكام وفى هذا الكتاب وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أوالنهي أو التخيير فهو صحيح وحق 174لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ووافق فيه صاحبه قصد الشارع فكان كله صوابا وهو ظاهر وأما إن امتزج فيه الأمران فكان معمولا بهما فالحكم للغالب والسابق فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع فلا إشكال في لحاقه بالقسم الثانى وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد فإذا جعل الحظ تابعا فلا ضرر على العامل إلا أن هنا شرطا معتبرا وهو أن يكون ذلك الوجه الذى حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع فهو لاحق بالقسم الأول وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع وهواه تبع وإن لم يكف عند ورود النهي عليه فالغالب والسابق له الهوى والشهوة وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده فواطىء زوجته وهى طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه أو لإذن الشارع فإن حاضت فانكف دل على أن هواه تبع وإلا دل على أنه السابق فصل ومنها أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا 175أما أولا فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي لأنه مضاد لها وأما ثانيا فإنه إذا اتبع واعتيد ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به حتى يسري معها في أعمالها ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج فقد يكون مسبوقا بالإمتثال الشرعي فيصير سابقا له وإذ صار سابقا له صار العمل الإمتثالي تبعا له وفى حكمه فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ودليل التجربة حاكم هنا وأما ثالثا فإن العامل بمقتضى الإمتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم وانفتاح مغاليق العلوم وربما أكرم ببعض الكرامات أو وضع له القبول في الأرض فانحاش الناس إليه وحلقوا عليه وانتفعوا به وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة من الصلاة والصوم وطلب العلم والخلوة للعبادة وسائر الملازمين لطرق الخير فإذا دخل عليه ذلك كان للنفس به بهجة وأنس وغنى ولذة ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك كما قال بعضهم لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف أو كما قال وإذا كان كذلك فلعل النفس تنزع إلى مقدمات تلك النتائج فتكون سابقة للأعمال وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله هذا وإن كان الهوى المحمود ليس بمذموم على الجملة فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين فلا حاجة إلى تقريره ههنا 176فصل ومنها أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لإقتناص أغراضه كالمرائى يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس وبيان هذا ظاهر ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها دون توخي مقاصد الشرع المسألة الثانية المقاصد الشرعية ضربان مقاصد أصلية ومقاصد تابعة فأما المقاصد الأصلية فهى التى لاحظ فيها للمكلف وهى الضروريات المعتبرة في كل ملة وإنما قلنا إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هى ضرورية لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال ولا بصورة دون صورة ولا بوقت دون وقت لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية وإلى ضرورية كفائية فأما كونها عينية فعلى كل مكلف في نفسه فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب 177من ربه إليه وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ولحيل بينه وبين اختياره فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ محكوما عليه في نفسه وإن صار له فيها حظ فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي وأما كونها كفائية فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين لتستقيم الأحوال العامة التى لا تقوم الخاصة إلا بها إلا أن هذا القسم مكمل للأول فهو لاحق به في كونه ضروريا إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائى وذلك أن الكفائى قيام بمصالح عامة لجميع الخلق فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط وإلاصار عينيا بل بإقامة الوجود وحقيقته أنه خليفة الله فىعباده على حسب قدرته وما هيء له من ذلك فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله فضلا عن أن يقوم بقبلة فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من 178ذلك فلا يجوز لوال أن يأخذ أجره ممن تولاهم على ولايته عليهم ولا لقاض أن يأخذ من المقضى عليه أوله أجره على قضائه ولا لحاكم على حكمه ولا لمفت على فتواه ولا لمحسن على إحسانه ولا لمقرض على قرضه ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التى للناس فيها مصلحة عامة ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات وعلى هذا المسلك يجرى العدل في جميع الأنام ويصلح النظام وعلى خلافة يجرى الجور في الأحكام وهدم قواعد الإسلام وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجازة عليها ولا قصد المعاوضة فيها ولا نيل مطلوب دنيوى بها وأن تركها سبب للعقاب والأدب وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة لأن في تركها أي مفسدة في العالم وأما المقاصد التابعة فهى التى روعي فيها حظ المكلف فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد 179الخلات وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن ثم خلق الجنة والنار وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس ههنا وأنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده لضعفه عن مقاومة هذه الأمور فطلب التعاون بغيره فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة وجعل الإكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولو شاء لمنعنا في الإكتساب الأخروى القصد إلى الحظوظ فإنه المالك وله الحجة البالغة ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به فبهذا اللحظ قيل إن هذه المقاصد توابع وإن تلك هي الأصول فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد 180المسألة الثالثة قد تحصل إذا أن الضروريات ضربان أحدهما ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الإقتيات واتخاذ السكن والمسكن واللباس وما يلحق بها من المتممات كالبيوع والإجارات والأنكحة وغيرها من وجوه الإكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية والثاني ما ليس فيه حظ عاجل مقصود كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية من الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه ذلك أو من فروض الكفايات كالولايات العامة من الخلافة والوزارة والنقابة والعرافة والقضاء وإمامة الصلوات والجهاد والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام فأما الأول فلما كان للانسان في حظ عاجل وباعث من نفسه يستدعيه إلى طلب ما يحتاج إليه وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه بل جعل الإحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب بل كثيرا ما يأتي في معرض 181الإباحة كقوله وأحل الله البيع فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق كلوا من طيبات ما رزقناكم وما أشبه ذلك مع أن لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والإكتساب فهذا من الشارع كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الإكتساب حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية كما لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب وما أشبه ذلك فالحاصل أن هذا الضرب قسمان قسم يكون القيام باالمصالح فيه بغير واسطة كقيامه بمصالح نفسه مباشرة وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والإكتساب بما للغير فيه مصلحة كالإجارات والكراء والتجارة وسائر وجوه الصنائع والإكتساب فالجميع يطلب الإنسان بها حظه فيقوم بذلك حظ الغير خدمة دائرة بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا حتى تحصل المصلحة للجميع ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر وهذه حكمة بالغة ولما كان النظر هكذا وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم بل هو على الضد من ذلك أكدت 182جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا والإبعاد بالنار في الآخرة كالنهي عن قتل النفس والزنى والخمر وأكل الربا وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل والسرقة وأشباه ذلك فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه فإن عز السلطان وشرف الولايات ونخوة الرياسة وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها وأكد النظر في مخالفة الداعي فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها كقوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إلى آخرها وفي الحديث لا تطلب الإمارة فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها أو كما قال وجاء النهي عن غلوم الأمراء وعن عدم النصح في الإمارة لما كان هذا كله على خلاف الداعي من النفس ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات 183وأما قسم الأعيان فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود اكد القصد إلى فعله بالإيجاب ونفيه بالتحريم وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات بل هي خالصة لله رب العالمين ألا لله الدين الخالص وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان ونخوة الولاية وشرف الأمر والنهي وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع بل هو مطلوب متأكد فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك وقد قال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك الآية وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وفي الحديث من طلب العلم تكفل الله برزقه إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق فصل فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه 184حظه بالقصد الثاني من الشارع وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل فيه العمل المبرأ من الحط وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولا من حظ نفسه وماله وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامةالمعالم الدينية وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السموات لهم ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم وما يخصون به من انشراح الصدور وتنوير القلوب وإجابة الدعوات والإتحاف بأنواع الكرامات وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وأيضا فإذا كان من هذا وصفه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ويتكفلوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه وماله في الآخرة من النعيم أعظم وأما الثاني فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر فإن أكل المستلذات ولباس اللينات وركوب الفارهات ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لاحظ فيه 185وأيضا فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير وإن كان في طريق الحظ فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه وهكذا نفقته على أولاده وزوجته وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير عاقل وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب والله أعلم فصل وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة وقسم اعتبر فيه ذلك وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه كالصناعات والحرف العادية كلها وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلابه حظه في خاصة نفسه وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض وقسم يتوسط بينهما فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ الأمر الذى لاحظ فيه وهذا ظاهر في الأمور التى لم تتمحض في العموم وليست خاصة ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام والأحباس والصدقات والأذان وما أشبه ذلك فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ ولا تنافض في هذا فإن جهة الأمر بلاحظ غير وجه الحظ فيؤمر انتدابا أن يقوم به 186لحظ ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة حين لا يكون ثم قائم بالانتداب وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية وتعليم العلوم على تنوعها ففى ذلك ما يوضح هذا القسم المسألة الرابعة ما فيه حظ العبد محضا من المأذون فيه يتأتى تخليصه من الحظ فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد صار مجردا من الحظ كما أنه إذا لبى الطلب بالإمتثال من غير مراعاة لما سواه تجرد عن الحظ وإذا تجرد من الحظ ساوى ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذى لاحظ فيه للمكلف وإذا كان كذلك فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد هذا 187مما ينظر فيه ويحتمل وجهين من النظر أحدهما أن يقال إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في القصد لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم أو صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولى عليه ولا على ما تعبد به كذلك ههنا لا ينبغى له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف وما سوى ذلك يبذله من غير عوض إما بهدية أو صدقة أو إرفاق أو إعراء أو ما أشبه ذلك أو يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ الغير لأنه لما صار كالوكيل على 188غيره والقيم بمصالح عد نفسه مثل ذلك الغير لأنها نفس مطلوب إحياؤها علىالجملة ومثل هذا محكى التزامه عن كثير من الفضلاء بل هو محكى عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات لكن لا ليدخروا لأنفسهم ولا ليحتجنوا أموالهم بل لينفقوها في سبيل الخيرات ومكارم الأخلاق وما ندب الشرع إليه وما حسنته العوائد الشرعية فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم فهذا وجه يقتضى أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لاحظ فيه ألبتة ويدل على أن هذا مراعى على الجملة وإن قلنا بثبوت الحظ أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين فإن طلب الحاجة إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية وانتقاء الموانع الشرعية ووجود الأسباب الشرعية على الإطلاق والعموم وهذا كله لاحظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أمر به من الإحسان إليه في المعاملة والمسامحة في المكيال والميزان والنصيحة على الإطلاق وترك الغش كله وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع وأن لا تكون المعاملة عونا له على ما يكره شرعا فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان إلى غير ذلك من الأمور التى لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ 189هذا والإنسان بعد في طلب حظه قصدا فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري المشروع في الأعمال لا بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات وهو مجمع عليه فكذلك فيما صار بالقصد كذلك وأيضا فإن فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ وإذا كان كذلك فهي داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضى سلب الحظ فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به سواء علينا أقلنا إنه مطلوب به طلبا شرعيا أم لا فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ ألبتة وهذا ظاهر فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا 190جازما بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله الدين النصيحة وتوعد على تركه في مواضع فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله فكونه معمولا به على عوض لا يتصور أن أن يكون إيثارا لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية فهذا وجه نظري في المسألة يمكن القول بمقتضاه والوجه الثانى أن يقال أنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله وجعله المقدم على غيره حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا وكان له أن يدخره لنفسه أو يبذله لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة فهى هدية الله إليه فكيف لا يقبلها وهو إن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ ومن حيث جعل له وبالقصد الذى أبيح له القصد إليه وأيضا فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ فهى وسيلة وطريق إلى حظه فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ما ليس 191له في العمل به حظ لأنه وسيلة إلى حظه كالمعاوضات فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ ويعملون في أخراهم كذلك فالجميع مبني على إثبات الحظوظ وهو المطلوب وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة مما حد الشارع من غير تعد يقع في طريقها وأيضا فإنما حدث الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه ولذلك قال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة 192وقال فمن نكث فإنما ينكث على نفسه وفي أخبار النبي بعد ذكر الظلم وتحريمه يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ولا يختص مثل هذا بالآخرة دون الدنيا ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه لقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم وقال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والأدلة على هذا تفوت الحصر فالإنسان لا ينفك عن طلبه حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة وقد يمكن الجمع بين الطريقين وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه فيعمل العمل أو يكتسب الشئ فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ولا يدخر لنفسه من ذلك شيئا بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى وإما قوة يقين بالله لأنه عالم به وبيده ملكوت السموات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه أو عدم التفات إلى حطه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه أو أنفة من الإلتفات إلى حظه مع حق الله تعالى أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال وفي مثل هؤلاء جاء ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 193وقد نقل عن عائشة رضى الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين قال الرواى أراه ثمانين ومائة ألف فدعت بطبق وهى يومئذ صائمة فجعلت تقسمه بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فلما أمست قالت يا جارية هلمى أفطري فجاءتها بخبز وزيت فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه فقالت لا تعنينى لو كنت ذكرتنى لفعلت وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهى صائمة وليس في بيتها إلا رغيف فقالت لمولاه لها أعطيه إياه فقالت ليس لك ما تفطرين عليه فقالت أعطيه إياه قالت ففعلت فما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو انسان ما يهدى لنا شاة وكفنها فدعتنى عائشة فقالت كلي من هذا هذا خير من قرصك وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهى ترقع ثوبها وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ثم أفطرت على خبز الشعير وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة فلا يأخذ إلا من الملك لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه فإذ دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها وهؤلاء هم أرباب الأحوال ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم إن استغنى استعف وإن احتاج أكل بالمعروف وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه فقد يكون في الحال غنيا عنه فينفقه حيث يجب الإنفاق ويمسكه حيث يجب الإمساك وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الإكتساب فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره وهو لم يفعل بل جعل نفسه كآحاد الخلق فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم 194وفى الصحيح عن أبي موسى قال قال رسول الله إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم وفى حديث المواخاة بين المهاجرين والأنصار هذا وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام ابدأ بنفسك ثم بمن تعول بل يحمل على الإستقامة في حالتين 195فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ إذ للقصد إليه أثر ظاهر وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ولم يفعل هنا ذلك بل آثر غيره على نفسه أو سوى نفسه مع غيره وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برءآء من الحظوظ كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم فأين الحظ هنا بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن وامتنعوا مما منعوا منه واقتصروا على الانفاق في كل ما لهم إليه حاجة فمثل هؤلاء بالإعتبار المتقدم أهل حظوظ لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها فإن قيل في مثل هذا إنه تجرد عن الحظ فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي وهذا هو الحظ المذموم إذا لم يقف دون ما حد له بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها ولا كلام في هذا وإنما الكلام في الأول وهو لم يتصرف إلا لنفسه فلا يجعل في حكم الوالى على المصالح العامة على المسلمين بل هو وال على مصلحة نفسه وهو من هذا الوجه ليس بوال عام والولاية العامة هى المبرأة من الحظوظ فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به لكن على نسبة القسمة ونحوها 196المسألة الخامسة العمل إذا وفق المقاصد الشرعية فإنما على المقاصد الأصلية أو المقاصد التابعة وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع فلنضع في كل قسم مسألة فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعيه هواه حتى يكون عبدا لله وهذا كاف هنا وينبنى عليه قواعد وفقه كثير من ذلك أن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة وأبعد عن مشاركة الحظوظ التى تغبر في وجه محض العبودية وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه على قولنا إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد وهو أيضا جار على القول بالوجوب العقلي فمجرد قصد الإمتثال للأمر والنهي أو الأذن كاف فى 197حصول كل غرض في التوجه إلى مجرد خطاب الشارع فالعامل على وفقه ملبيا له برىء من الحظ وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة بل هو المقدم شرعا على الغير فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر أو اعتبارا بعلة الأمر وهوالقصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها كان هو المقدم شرعا ابدأ بنفسك ثم بمن تعول أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها أو بحياة من تحت نظره وقد يتسع نظره فيكتسب ليحي به من شاء الله وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة وتقع نفقته حيث لم يقصد ويقصد غير ما كسب وإن كان لا يضره أنه لم يكل التدبير إلى ربه وأما الثانى فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شىء قدير وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية ولا يفوته من حظه شىء بخلاف مراعاة المقاصد التابعة فقد يفوته معها جل هذا أو جميعه لأنه إنما يراعى مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردا عن غير ذلك وهذا وإن كان جائزا فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد 198الشارع الأصلي وهو منجر معه ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا فيرجع إل التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم فإذا لم يراع لم يبق إلا مراعاة الحظ خاصة هذا وجه ووجه ثان أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شىء سوى ذلك وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخله فيه وإما إلى ما فهم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيدة فجعله وسيلة وسببا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء وهذا أيضا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر فهو عامل بمحض العبودية مسقط لحظه فيها فكأن السيد هو القائم له بحظه بخلاف العامل لحظة فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر ولا من حيث فهم مقصود الأمر ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ فهو إن امتثل الأمر فمن جهة نفسه 199فالإخلاص على كما له مفقود في حقه والتعبد بذلك العمل منتف وإن لم يمتثل الأمر فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد فضلا عن أن يكون مخلصا فيه وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين إذا غلب عليه طلب حظه وذلك نقص ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب بل يطلب حظه بما هو أخف وسبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى يهدى الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف وقد قال تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد بخلاف طالب الحظ فإنه عامل بنفسه وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه فالأول محمول والثانى عامل بنفسه فلذلك فلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق فإن رأيت من يدعي تلك الحال فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام فإن أوفي به فهو ذاك وإلا علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول فذلك أثر من آثار الإخلاص وصاحب الحظ ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول وثبت له الإخلاص وصارت أعماله عبادات فإن قيل فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين بل قد جاء عن سيد المرسلين أنه كان يحب الطيب والنساء والحلواء والعسل وكان تعجبه الذراع ويستعذب له الماء وأشباه ذلك 200مما هو اتباع لحظ النفس إذا كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال بل كان يستعمله إذا وجده وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين وهو أتقى الخلق وأزكاهم وكان خلقه القرآن فهذا في هذا الطرف ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله ومع ذلك فليس له في الآخرة من خلاق ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة حتى صار في الناس آية وكل ما يعمله مبني على باطل محض وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين فالجواب من وجهين أحدهما أن ما زعمت ظواهر وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة فانظر ما قاله الإسكاف في فوائد الأخبار في قوله عليه الصلاة والسلام حبب إلى من دنياكم ثلاث يلح لك من ذلك المطلع خلاف ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة وهى أعلى العبادات بعد الإيمان وهكذا يمكن أن يقال في سواها وأيضا فإنه لا يلزم من حب الشىء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال فمن أين لك أنه كان كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ دون أن يتناوله من حيث الأذن وهذا هو عين البراءة من الحظ وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم تبين نحوه في كل مقتدى به ممن اشتهرت ولايته وأما الكلام عن الرهبان فلا نسلم أنها مجردة من الحظ بل هى عين الحظ واستهلاك في هوى النفس لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه لأن حظ النفس في الجاه أعلى 201ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم فإنها أعلى وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والإحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ التى يستحقر متاع الدنيا في جنبها وذلك أول منهى في مسألتنا فلا كلام فيمن هذا شأنه ولذلك قالوا حب الرياسة آخر ما يخرج من رءوس الصديقين وصدقوا والثانى أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءا من الحظوظ وقد لا يكون كذلك والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أولا فإن كان أمر الشارع فهو الحظ المبرأ المنزه لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره فكما يكون في مصالح غيره مبرءا عن الحظ كذلك يكون في مصالح نفسه وذلك بمقتضى القصد الأول وهذا شأن من ذكر في السؤال ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلى كان فرعا من فروعه فله حكمه فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول فإنه سعى في الحظ وليس ما نحن فيه هكذا وأما شأن الرهبان ومن أشبههم فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع فينقطعون في الصوامع والديارات ويتركون الشهوات واللذات ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه وما يظنون أنه سبب إليه ويعاملونه في الخلق وفى أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف ولا أقول إنهم غير مخلصين بل هم مخلصون إلى من عبدوا ومتوجهون صدقا إلى ما عاملوا إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم لا ينفعهم الله بشىء منه في الآخرة لأنهم بنوا على غير أصل وجوه يومئذ خاشعة عامله ناصبة تصلى نارا حامية والعياذ بالله ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة وقد جاء في الخوارج 202ما عملت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم الحديث فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهرة لكنه مبني على غير أصل فلذلك قال فيهم يمرقون من الذين كما يمرق السهم من الرمية وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير وعلى الجملة فالإخلاص في الإعمال إنما يصح خلوصه مع إطرار الحظوظ لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله وإن كان على أصل فاسد فبالضد ويتفق هذا كثير في أهل المحبة فمن طالع أحوال المحبين رأى اطراح الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التى تتهيأ من الإنسان فإذا قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه ولا أنفيه فصل ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات كانت من قبيل العبادات أو العادات لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ويترك إذا طلب منه الترك فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب 203أما باليد فظاهر في وجوه الإعانات وأما باللسان فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم وبالقلب لا يضمر لهم شرا بل يعتقد لهم الخير ويعرفهم بأحسن الأوصاف التى اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها حتى لا يعاملها إلا بالتى هى أحسن كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في كل ذي كبد رطبة أجر وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها وحديث إن الله كتب الإحسان على كل مسلم فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة الحديث إلى أشباه ذلك فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه واقتداء بنبية عليه الصلاة والسلام فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كلها بخلاف من كان عاملا على حظه فإنه إنما يلتفت إلى حظه أو ما كان طريقا إلى حظه وهذا ليس بعبادة على الإطلاق بل هو عامل في مباح إن لم يخل بحق الله أو بحق غيره فيه والمباح لا يتعبد إلى الله به وإن فرضناه قام على 204حظه من حيث أمره الشارع فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة وإن فرضته كذلك فهو خارج عن داعيه حظه بتلك النسبة فصل ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاة باتفاق وإذا كانت كذلك صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل وهذا عامل بالكل فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله فقد صار عاملا بالوجوب فأما البناء على المقاصد التابعة فهو بناء على الحظ الجزئى والجزئي لا يستلزم الوجوب فالبناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب فقد يكون العمل مباحا إما بالجزء وإما بالكل والجزء معا وإما مباحا بالجزء مكروها أو ممنوعا بالكل وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام فصل ومن ذلك أن المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في ا لعمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع إما بعد فهم ما قصد وإما لمجرد امتثال الأمر وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد 205وأولها وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ كان المتلقى له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع فهو حر أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة وأما القصد التابع فلا يترتب عليه ذلك كله لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ وأخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه وخص عمومه فلا ينهض نهوض الأول شاهده قاعدة الأعمال بالنيات وقوله عليه الصلاة والسلام الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذى هى له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه لم يرد أن يسقى به كان ذلك له حسنات فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول لأنه قصد بارتباطها سبيل الله وهذا عام غير خاص فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص ثم قال عليه الصلاة والسلام ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهى له ستر فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه كان حكمها مقصورا على ما قصد وهو الستر وهو صاحب القصد التابع ثم قال عليه الصلاة والسلام ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهى على ذلك وزر فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى ولا كلام فيه هنا ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه 206وسلم أو بالصحابة أو التابعين لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدى في الإقتداء وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به كما في قول بعض الصحابة في إحرامه بما أحرم به رسول الله فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال فصل ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم أما الأول فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذى يدخل تحت قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر وإذا فعل جوزي على كل نفس أحياها وعلى كل مصلحة عامة قصدها ولا شك في عظم هذا العمل ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا وكان العالم يستغفر له كل شىء حتى الحوت في الماء بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده لأن الأعمال بالنيات فمتى كان قصده أعم كان أجره أعظم ومتى لم يعم قصده لم يكن أجره إلا على وزان ذلك وهو ظاهر وأما الثانى فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر فالعامل على ضده يعظم به وزره ولذلك كان على ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحترمة لأنه أول من سن القتل وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها 207فصل ومن هنا تظهر قاعدة أخرى وهى أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها ويتبين لك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا فإنك تجده مطردا إن شاء الله المسالة السادسة العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية أولا فأما الأول فعمل بالامتثال بلا إشكال وإن كان سعيا في حظ النفس وأما الثانى فعمل بالحظ والهوى مجردا والمصاحبة إما بالفعل ومثاله أن يقول مثلا هذا المأكول أو هذا الملبوس أو هذا الملموس أباح لي الشرع الاستمتاع به فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه وإما بالقوة ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه لكن نفس الأذن لم يخطر بباله وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه من الطريق الفلاني فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم كالأول إذا كان الطريق التى توصل إلى المباح من جهته مباحا إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى ويجرى غير المباح مجراه في الصورتين 208فإذا تقرر هذا فبيان كونه عاملا بالحظ والإمتثال أمران أحدهما أنه لو لم يكن كذلك لم يجز لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امنثال الأمر من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك بل كان يمتنع للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ وهذا غير صحيح باتفاق ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشئ من ذلك ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى فدل على ان القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافى أصل الأعمال فإن قيل كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها قيل معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع لا يقصد بها عمل جاهلي ولا اختراع شيطاني ولا تشبه بغير أهل الملة كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسمعيل المخزومي أجرى عينا فقال له المهندسون عند ظهور الماء لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم وأمر فصيع له ولأصحابه منها طعام فأكل وأكلوا 209وقسم سائرها بين العمال فيها فقال ابن شهاب بئس والله ما صنع ما حل له نحرها ولا الأكل منها أما بلغه أن رسول الله نهى أن يذبح للجن لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح على النصب وسائر ما أهل لغير الله به وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما يجاود به صاحبه فأكثرهما عقرا أجودهما نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به قال الخطابي وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان وأوان حوادث يتجدد لهم وفي نحو ذلك من الأمور وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة والسلام عن 210عن طعام المتباريين أن يؤكل وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه فهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل فإذا زيد فيه هذا القصد كان تشريكا في المشروع ولحظا لغير أمر الله تعالى وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز وقوله فيها إنها مما أهل لغير الله به وهو باب واسع والثاني أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق وذلك باطل قطعا فيبطل ما يلزم عنه أما بيان الملازمة فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ لا فرق بينه وبين طلب الإستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا مناسبة فيه ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا وأما بطلان التالي فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي واعملوا يدخلكم الجنة واتركوا تدخلوا الجنة ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار ومن يعمل كذا يجز بكذا وهذا بلا شك تحريك على العمل بحظوظ النفوس فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل وذلك باطل باتفاق فكذلك ما يلزم عنه وأيضا فإن النبي كان يسئل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك وقد أخبر الله تعالى عمن قال إنما نطعمكم 211لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا بقولهم إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا وفى الحديث مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى آخر الحديث وهو نص في العمل على الحظ وفى حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي اشترط لربك واشترط لنفسك فلما اشترط قالوا فما لنا قال الجنة الحديث وبالجملة فهذا أكثر من أن يحصى وجميعه تحريض على العمل بالحظ وإن لم يقل اعمل لكذا فقد قال اعمل يكن لك كذا فإذا لم يكن مثله قادحا في العبادات فأولى أن لا يكون قادحا في العادات فإن قيل بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول أما المعقول فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة لأنه لو لم يكن مقصدا لم يكن مطلوبا بالعمل وقد فرضناه كذلك هذا خلف وكذلك العمل ولو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه وقد فرضناه أنه يعمله ليصل 212به إلى غيره وهو حظه فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة وقد تقرر أن الوسائل من حيث هى وسائل غير مقصودة لأنفسها وإنما هى تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار بل كانت تكون كالعبث وإذا ثبت هذا فالأعمال المشروعة إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد فاشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها فإذا أخذت من جهة الحظوظ سقط كونها متعبدا بها فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما ينبغي أن يسقط التعبد بها وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به فحظ النفس متعلق به فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة فصار مهمل الإعتبار في العبادة فبطل التعبد فيه وذلك معنى كون العمل غير صحيح وأيضا فهذا المأمور أو المنهى بما فيه حظه يا ليت شعرى ما الذى كان يصنع لو ثبت أنه عرى عن الحظوظ هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه فالمأمور به والمنهى عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة وعلى هذا نبه القائل بقوله 213هب البعث لم تأتنا رسله وجاجحة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق ثناء العباد على المنعم ويعنى بالوجوب بالشرع فإذا جعل وسيلة أخرج عن مقتضى المشروع وصار العمل بالأمر والنهي علىغير ما قصد الشارع والقصد المخالف لقصد الشارع باطل والعمل المبنى عليه مثله فالعمل المبنى على الحظ كذلك وإلى هذا فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق ولا حجة له عليه ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه بل لو عذب أهل السموات والأرض لكان له ذلك بحق الملك قل فلله الحجة البالغة فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله وعلى أن ما لم يخلص لله منها فلا يقبله الله كقوله تعالى وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقوله فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا وفى الحديث أنا أغنى الشركاء عن الشرك وفيه فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرآة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه أي ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شىء فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء وفى الآثار من ذلك أشياء وقد جمع الأمر كله قوله تعالى ألا لله الدين الخالص 214وأيضا فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال فقال الغزالي كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب قل أو كثر إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وقل به إخلاصه قال والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ ما وأغراض عاجلة ولذلك من سلم له في عمره خطرة واحده خالصة لوجه الله نجا وذلك لعز الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب بل الخالص هو الذى لا باعث فيه إلا طلب القرب من الله تعالى ثم قال وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها حتى يجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه قال وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق للدنيا في قلبه قرار حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الحياة فلا يشتهى الطعام لأنه طعام بل لأنه يقويه على العبادة ويتمنى لو كفى شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ في الفضول الزائدة على الضرورة ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية فلا يكون له هم إلا الله تعالى فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته فلو نام مثلا ليريح نفسه ويقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور ثم تكلم على باقي المسألة وله في الإحياء من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله فإذا كان كذلك فالعامل الملتفت 215إلى حظ نفسه على خلاف ما وقع الكلام عليه فالجواب أن ما تعبد العباد به على ضربين أحدهما العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات والثاني العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى والأول هو حق الله من العباد في الدينا والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم فأما الأول فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا فإن كان أخرويا فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم وإذا ثبت شرعا فطلبه من حيث أثبته صحيح إذ لم يتعد ما حده الشارع ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره ولا قصد مخالفته إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي وذلك غير قادح في إخلاصه لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله لا ما قصد به غيره لأنه عز وجل يقول إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم إلى قوله في جنات النعيم الآية فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص ومعنى كونه مخلصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره فهذا قد عمل على وفق ذلك وطلب الحظ ليس 216بشرك إذ لا يعبد الحظ نفسه وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب وهو الله تعالى لسكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد فهذا هو الذي أشرك حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل والله لا يقبل عملا فيه شرك ولا يرضى بالشرك وليست مسألتنا من هذا فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى فذلك باعث له على الإخلاص قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك وأيضا فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ لا في الدنيا ولا في الآخرة على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه والتلذذ بمناجاته وذلك حظ عظيم بل هو أعظم ما في الدارين وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك فإن الله تعالى غني عن العالمين قال تعالى ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين وإلى هذا فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص والإخلاص البرىء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص وذلك قليل فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق وهذا شديد وعلى أن بعض الأئمة قال إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ والبراءة من الحظوظ صفة إلهية ومن ادعاه فهو كافر قال أبو حامد وما قاله حق ولكن القوم إنما أرادوا به يعني الصوفية البراءة عما يسميه الناس حظوظا وذلك الشهوات 217الموصوفة في الجنة فقط فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله العظيم فهذا حظ هؤلاء وهذا لا يعده الناس حظا بل يتعجبون منه قال وهؤلاء لو عرضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة الشهود للحضرة الآلهية سرا وجهرا نعيم الجنة لاستحقروها ولم يلتفتوا إليها فحركتهم لحظ وطاعتهم لحظ ولكن حظهم معبودهم دون غيره هذا ما قال وهو إثبات لأعظم الحظوظ ولكن هؤلاء على ضربين أحدهما من يسبق له امتثال أمر الله الحظ فإذا أمر أو نهي لبى قبل حضور الحظ فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ وأصحاب هذا الضرب على درجات ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء والثاني من يسبق له الحظ الامتثال بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء وسبق له الخوف أو الرجاء فلبى داعي الله فهو دون الأول ولكن هؤلاء مخلصون أيضا إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه من حيث لا يقدح في الإخلاص عما تقدم فصل وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا فهو قسمان قسم يرجع إلى صلاح الهيئة وحسن الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا وهذا ضربان أحدهما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءآة الناس بالعمل والآخر يرجع إلى المراءآة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك فهذه ثلاثة أقسام أحدها يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة فإن كان هذا القصد متبوعا فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله وهذا بين وإن كان تابعا فهو محل نظر واجتهاد واختلف العلماء في هذا الأصل فوقع 218في العتبية في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ويحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق غيره فكره ربيعة هذا وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير فيقول له إنك لمراء وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك وقد قال تعالى وألقيت عليك محبة مني وقال عن إبراهيم عليه السلام واجعل لى لسان صدق في الآخرين وفي حديث ابن عمر وقع في نفسي أنها النخلة فأردت أن أقولها فقال عمر لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا وطلب العلم عبادة قال ابن العربي سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ما بينوا قال أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات قلت ويلزم ذلك قال نعم لتثبت أمانته وتصح إمامته وتقبل شهادته قال ابن العربي ويقتدى به غيره فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة والثاني ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءآة الغير وله أمثلة أحدها الصلاة في المسجد للأنس بالجيران أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال والثاني الصوم توفيرا للمال أو استراحة من عمل الطعام وطبخه أو احتماء لألم يجده أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له والثالث الصدقة