1
19بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة ونصب لنا من شريعة محمد أعلى علم وأوضح دلالة وكان ذلك أفضل ما من به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء وتجرى عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء لضعفها عن حمل هذه الأعباء ومشاركة عاجلات الأهواء على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء طالبين للشفاء كالقابض على الماء ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم ونستنتج القياس العقيم ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم ونمشي إكبابا على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار وارتفعت حقيقة أيدي الأضطرار إلى الواحد القهار وتوجهت إليه أطماع أهل الإفتقار لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار وثبت في مكتسبات الأفعال حكم الأضطرار فتداركنا الرب الكريم بلطفه العظيم ومن علينا البر الرحيم بعطفه العميم إذ لم نستطع من دونه حيلا ولم نهتد بأنفسنا سبلا بأن جعل العذر مقبولا والعفو عن الزلات قبل بعث الرسالات
20مأمولا فقال سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فبعث الأنبياء عليهم السلام في الأمم كل بلسان قومه من عرب أو عجم ليبينوا لهم طريق الحق من أمم ويأخذوا بحجزهم عن موارد جهنم وخصنا معشر الآخرين السابقين بلبنة تمامهم ومسك ختامهم محمد بن عبد الله الذي هو النعمة المسداة والرحمة المهداة والحكمة البالغة الأمية والنخبة الطاهرة الهاشمية أرسله إلينا شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وأنزل عليه كتابه العربي المبين الفارق بين الشك واليقين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ووضع بيانه الشافي وإيضاحه الكافي في كفه وطيبه بطيب ثنائه وعرفه بعرفه إذ جعل أخلاقه وشمائله جملة نعته وكلى وصفه فصار عليه السلام مبينا بقوله وإقراره وفعله وكفه فوضح النهار لذى عينين وتبين الرشد من الغي شمسا من غير سحاب ولا غين فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة ونشكر له والشكر أول الزيادة ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين خالق الخلق أجمعين وباسط الرزق للمطيعين والعاصين بسطا يقتضيه العدل والإحسان والفضل والإمتنان جاريا على حكم الضمان قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى كل ذلك ليتفرغوا لإداء الأمانة التي عرضت عليهم عرضا فلما تحملوها على حكم الجزاء حملوها فرضا ويا ليتهم اقتصروا على الإشفاق والإباية وتأملوا في البداية خطر النهاية لكنهم لم يخطر لهم خطرها على بال كما خطر للسماوات والأرض والجبال فلذلك سمي الإنسان ظلوما جهولا وكان أمر الله مفعولا دل على هذه الجملة المستبانة شاهد قوله وانا عرضنا الأمانة فسبحان من أجرى الأمور بحكمته
21وتقديره عل وفق علمه وقضائه ومقاديره لتقوم الحجة على العباد فيما يعملون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين بملة حنيفية وشرعة بالمكلفين بها حفية ينطق بلسان التيسير بيانها ويعرف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا وتهدي الكافة فهيما وغبيا وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا وترفق بجميع المكلفين مطيعا وعصيا وتقودهم بخزائمهم منقادا وأبيا وتسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا وتبوىء حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا وتلبس المتصف بها ملبسا سنيا حتى يكون لله وليا فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا وما أفقر من عادها وإن كان غنيا فلم يزل عليه السلام يدعو بها وإليها ويبث للثقلين ما لديها ويناضل ببراهينها عليها ويحمي بقواطعها جانبيها بالغ الغاية في البيان يقول بلسان حاله ومقاله أنا النذير العريان وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها وأسسوا قواعدها وأصلوها وجالت أفكارهم في آياتها وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال وشفعوا العلم بإصلاح الأعمال وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان وأشرق في قلوبهم نور الإيقان فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب ونجوما يهتدى بأنوارهم أولو الألباب رضي الله
22عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين وأسوة للمهتدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم الطالب لأسنى نتائج الحلوم المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم الحائم حول حمى ظاهر المرسوم طمعا في إدراك باطنه المرقوم معاني مرتوقة في فتق تلك الرسوم فإنه قد آن لك أن تصغى إلى من وافق هواك هواه وأن تطارح الشجى من ملكه مثلك شجاه وتعود إذ شاركته في جواه محل نجواه حتى يبث إليك شكواه لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى وتسري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامه فيحا وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا ولاقى من وجوهه المعترضة جها وصبيحا وعاتى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا فإن شئت ألفيته لتعب السير طليحا أو لما حالف من العاء طريحا أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا فلا عيش هنيئا ولا موت مريحا وجملة الأمر في التحقيق أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل وقلب بصدمات الأضغاث عليل فيمشي على غير سبيل وينتمي إلى غير قبيل إلى أن من الرب الكريم البر الرحيم الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم فبعثت له أرواح تلك الجسوم وظهرت حقائق تلك الرسوم وبدت مسميات تلك الوسوم فلاح في أكنافها الحق واستبان وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان وقويت النفس الضعيفة وشجع القلب الجبان وجاء الحق فوصل أسبابه وزهق الباطل فبان فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان وفوائده الغريبة البرهان وبدائعه الباهرة للأذهان ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره
23العقل ويقصر عن بث معشارة اللسان ايرادا يميز المشهور من الشاذ ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ ويوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والإجتهاد والقصور والنفاذ وينزل كلا منهم منزلته حيث حل ويبصره في مقامه الخاص به بما دق وجل ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والإعتدال ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الإستصعاد والإستنزال ليخرجوا من انحرافي التشدد والإنحلال وطرفي التناقض والمحال فله الحمد كما يجب لجلاله وله الشكر على جميل إنعامه وجزيل إفضاله ولما بدأ من مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى لم ازل اقيد من اوابده واضم من شوارده تفاصيل وجملا واسواق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا معتمدا على الاستقراآت الكلية غير مقتصر على الافراد الجزئية ومبينا اصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية حسبما اعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد وجمع تلك الفوائد إلى تراجم تردها إلى اصوالها وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها فانضمت إلى تراجم الاصول الفقهية وانتظمت في اسلاكها السنية البهية فصار كتابا منحصرا في خمسة اقسام الاول في المقدمات العلمية المحتاج اليها في تمهيد المقصود والثاني في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف والثالث في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام والرابع في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل وذكر مآخذها وعلى أي
24وجه يحكم بها على أفعال المكلفين والخامس في أحكام الإجتهاد والتقليد والمتصفين بكل واحد منهما وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات وأطراف وتفصيلات يتقرر بها الغرض المطلوب ويقرب بسببها تحصيله للقلوب ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية سميته بعنوان التعريف بأسرار التكليف ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومناخا للوفادة وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه فقال لي رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته فسألتك عنه فأخبرتني أنه كتاب الموافقات قال فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة فقلت له لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب فإني شرعت في تأليف هذه المعاني عازما على تأسيس تلك المباني فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء والقواعد المبني عليها عند القدماء فعجب الشيخ من غرابة هذا الإتفاق كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق ليكون أيها الخل الصفي والصديق الوفي هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق ومرجعك في جميع ما يعن لك من تصور وتصديق إذ قد صار علما من جملة العلوم ورسما كسائر الرسوم وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم لا جرم أنه قرب عليك في المسير وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير ووقف بك من الطريق السابلة على
25الظهر وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر فقدم قدم عزمك فإذا أنت بحول الله قد وصلت وأقبل على ما قبلك منه فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت وإياك وإقدام الجبان والوقوف مع الطرق الحسان والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الإستبصار وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والإستنصار إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار وألبس التقوى شعارا والإتصاف بالإنصاف دثارا واجعل طلب الحق لك نحلة والإعتراف به لأهله ملة لا تملك قلبك عوارض الأغراض ولا تغر جوهرة قصدك طوارق الإعراض وقف وقفة المتخيرين لا وقفة المتحيرين إلا إذا اشتبهت المطالب ولم يلح وجه المطلوب للطالب فلا عليك من الإحجام وإن لج الخصوم فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم والواقف دونها هو الراسخ المعصوم وإنما العار والشنار على من اقتحم المناهي فأوردته النار لا ترد مشرع العصبية ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصية فذلك مرعى لسوامها وبيل وصدود عن سواء السبيل فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار وعمي عنك وجه الإختراع فيه والإبتكار وغر الظان أنه شىء ما سمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله وحسبك من شر سماعه ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار وشد معاقده السلف الأخيار ورسم معالمه العلماء الأحبار وشيد أركانه أنظار النظار وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار ووجب قبول ما حواه والإعتبار بصحة ما أبداه والإقرار حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل
26ويطرق صحة أفكارهم من العلل فالسعيد من عدت سقطاته والعالم من قلت غلطاته وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل إذا وجد فيه نقصا أن يكمل وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام حتى أهدى إليه نتيجة عمره ووهب له يتيمة دهره فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه وطوقه طوق الأمانة التي في يديه وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه جعلنا الله من العاملين بما علمنا وأعاننا على تفهيم ما فهمنا ووهب لنا علما نافعا يبلعنا رضاه وعملا زاكيا يكون عدة لنا يوم نلقاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وها أنا أشرع في بيان الغرض المقصود وآخذ في انجاز ذلك الموعود والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
27مقدمات المؤلف
28مقدمات المؤلف
29تمهيد المقدمات المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب وهي بضع عشر مقدمة المقدمه الأولى إن أصول الفقه في الدين قطعية لاظنية والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي بيان الأول ظاهر بالإستقراء المفيد للقطع وبيان الثاني من أوجه أحدها أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهى قطعية وأما إلى
30الإستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضا ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما والؤلف من القطعيات قطعي وذلك أصول الفقه والثاني أنها لو كانت ظنية لم تكن راجعة إلى أمر عقلي إذ الظن لا يقبل في العقليات ولا إلى كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول وذلك غير جائز عادة وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها وهي لا شك فيها ولجاز تغييرها وتبديلها وذلك خلاف ما ضمن الله عز وجل من حفظها
31والثالث أنه لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه لجاز جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق فكذلك هنا لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات وقد قال بعضهم لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن لأنه تشريع ولم نتعبد بالظن إلا في الفروع ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب من الأصول تفاصيل العلل كالقول في عكس العلة ومعارضتها والترجيح بينها وبين غيرها وتفاصيل أحكام الأخبار كإعداد الرواة والإرسال فإنه ليس بقطعي واعتذر ابن الجويني عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى فيما دل عليه الدليل القطعي قال المازري وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول وأن كان ظنيا على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفا لكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر قال فهي في هذا كالعموم والخصوص قال ويحسن من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول لأن الأصول عنده هي الأدلة والأدلة عنده
32ما يفضي إلى القطع وأما القاضي فلا يحسن به إخراجها من الأصول على أصله الذي حكيناه عنه هذا ما قال والجواب أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعا به لأنه إن كان مظنونا تطرق إليه احتمال الإخلاف ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالإستقراء والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نص عليها ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة وهو المراد بقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم أيضا لا أن المراد المسائل الجزئية إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز ويؤيده الوقوع لتفاوت الظنون وتطرق الإحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطأ فيها قطعا فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد
33وفي معاني الآيات فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا هذا على مذهب أبي المعالي وأما على مذهب القاضي فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه فلا يمكن الإستدلال بها إلا بعد عرضها عليها واختبارها بها ولزم أن تكوم مثلها بل أقوى منها لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة بحيث تطرح الأدلة إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها فإنها حاكمة على غيرها فلا بد من الثقة بها في رتبتها وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين وأيضا لو صح كونها ظنية لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة وذلك غير صحيح ولو سلم ذلك كله فالإصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل
34أصولا وهذا كاف في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعا عليه بالتبع لا بالقصد الأول المقدمة الثانية إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به وهذا بين وهي إما عقلية كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة الوجوب والجواز والإستحالة وإما عادية وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا إذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل وإما سمعية وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ بشرط أن تكون قطعية الدلالة أو من الأخبار المتواترة في المعنى أو المستفاد من الإستقراء في موارد الشريعة فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة الوجوب والجواز والإستحالة ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة فراجع إلى وقوعه كذلك أو عدم وقوعه كذلك وكونه صحيحا أو غير صحيح راجع إلى الثلاثة الأول وأما كونه
35فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول فمن أدخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض المقدمة الثالثة الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع وهذا مبين في علم الكلام فإذا كان كذلك فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ووجود القطع فيها على الإستعمال المشهور معدوم أو في غاية الندور أعني في آحاد الأدلة فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم
36الإشتراك وعدم المجاز والنقل الشرعي أو العادي والإضمار والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق وعدم الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي وإفادة القطع مع إعتبار هذه الأمور متعذر وقد اعتصم من قال بوجودها بإنها ظنية في أنفسها لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا كله نادر أو متعذر وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع فإن للإجتماع من القوة ما ليس للإفتراق ولأجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعا وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى أقيموا الصلاة أو ما أشبه ذلك لكان في الإستدلال بمجرده نظر من أوجه لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ماصار به فرض الصلاة ضروريا في الدين لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين
37ومن ههنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالةالإجماع لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالإستدلال عليه وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب وهي مآخذ الأصول إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل إغفاله من بعض المتأخرين فاستشكل الإستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها إذ لم يأخذها مأخذ الإجتماع فكر عليها بالإعتراض نصا نصا واستضعف الإستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكلة ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات
38والجزئيات مأخذ هذا المعترض لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة إلا أن نشرك العقل والعقل إنما ينظر من وراء الشرع فلا بد من هذا الإنتظام في تحقيق الأدلة الأصولية فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل وعلمها عند الأمة كالضروري ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه وأن يرجع أهل الإجماع إليه وليس كذلك لأن كل واحد منها بانفراده ظني ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار كذلك لا يتعين هنا لإستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الإنفراد وإن كان الظن يختلف بإختلاف أحوال الناقلين وأحوال دلالات المنقولات وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه وكثرة البحث وقلته إلى غير ذلك فنحن إذا نظرنا في الصلاة فجاء فيها أقيموا الصلاة على وجوه وجاء مدح المتصفين بإقامتها وذم التاركين لها وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياما وقعودا وعلى جنوبهم وقتال من تركها أو عاند في تركها إلى غير ذلك مما
39في هذا المعنى وكذلك النفس نهي عن قتلها وجعل قتلها موجبا للقصاص متوعدا عليه ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان ووجب سد رمق المضطر ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف لهذا علمنا يقينا وجوب الصلاة وتحريم القتل وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة وبهذا امتازت الأصول من الفروع إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة فبقيت على أصلها من الإستناد إلى الظن بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق لا من آحادها على الخصوص فصل وينبني على هذه المقدمة معنى آخر وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بإنفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم لأن ذلك كالمتعذر ويدخل تحت هذا ضرب الإستدلال المرسل الذي أعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل
40معين فقد شهد له أصل كلي والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه كما أنه قد يكون مرجوحا في بعض المسائل حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح وكذلك أصل الإستحسان على رأي مالك ينبني على هذا الأصل لأن معناه يرجع إلى تقديم الإستدلال المرسل على القياس كما هو مذكور في موضعه فإن قيل الإستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح لأن
41الأصل الأعم كلى وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة والأعم لا إشعار له بالأخص فالشرع وإن اعتبر كلى المصلحة من أين يعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها فالجواب أن الأصل الكلى إذا انتظم في الاستقراء يكون كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد أما كونه كليا فلما يأتى في موضعه إن شاء الله وأما كونه يجرى مجرى العموم في الأفراد فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد ومن هنالك استنبط لأنه انما استنبط من أدلة الأمر والنهى الواقعين على جميع المكلفين فهو كلى في تعلقه فيكون عاما في الأمر به والنهى للجميع لا يقال يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة وهو باطل لأنا نقول لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب فصل وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الاجماع حجة ظنى لا قطعى إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفردها ما يفيده القطع فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة ومن بعده ومال أيضا بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة اللفظية في الأخذ
42بأمور عادية أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع وكذلك مسائل أخر غير الإجماع عرض فيها أنها ظنية وهى قطعية بحسب هذا الترتيب من الاستدلال وهو واضح إن شاء الله تعالى المقدمة الرابعة كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبنى عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافتة إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له ومحققا للاجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه كعلم النحو واللغة والاشتقاق والتصريف والمعانى والبيان والعدد والمساحة والحديث وغير ذلك من العلوم التى
43يتوقف عليها تحقيق الفقه وينبنى عليها من مسائله وليس كذلك فليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله وإنما اللازم أن كل أصل يضاف إلى الفقه لا ينبنى عليه فقه فليس بأصل له وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التى تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها كمسألة ابتداء الوضع ومسألة الإباحة هل هى تكليف أم لا ومسألة أمر المعدوم ومسألة هل كان النبي متعبدا بشرع أم لا ومسألة لا تكليف إلا بفعل كما أنه لا ينبغى أن يعد منها ماليس منها ثم البحث فيه في عمله وأن انبنى عليه الفقه كفصول كثيرة من النحو نحو معانى الحروف
44وتقاسيم الإسم والفعل والحرف والكلام على الحقيقة والمجاز وعلى المشترك والمترادف والمشتق وشبه ذلك غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هى عريقة في الأصول وهى أن القرآن عربي والسنة عربية لا بمعنى أن القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية في الأصل أو لا يشتمل لأن هذا من علم النحو واللغة بل بمعنى أنه في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عربى بحيث إذا حقق هذا التحقيق سلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع وفى ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع وهذه مسألة مبينة في كتاب المقاصد والحمد لله فصل وكل مسألة في أصول الفقه ينبنى عليها فقه إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عارية أيضا كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير والمحرم المخير فإن كل فرقة موافقة
45للآخرى في نفس العمل وإنما اختلفوا في الإعتقاد بناء على أصل محرر في علم الكلام وفى أصول الفقه له تقريرا أيضا وهو هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان أو إلى خطاب الشارع وكمسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي وهو ظاهر فإنه لا ينبنى عليه عمل وما أشبه ذلك من المسائل التى فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه لا يقال إن ما يرجع الخلاف فيه إلى الاعتقاد ينبنى عليه حكم ذلك الاعتقاد من وجوب أو تحريم وأيضا ينبنى عليه عصمة الدم والمال والحكم بالعدالة أو غيرها من الكفر إلى مادونه وأشباه ذلك هو من علم الفروع لأنا نقول هذا جار في علم الكلام في جميع مسائله فليكن من أصول الفقه وليس كذلك وإنما المقصود ما تقدم
46المقدمة الخامسة كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعى وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا والدليل على ذلك استقراء الشريعة فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به ففى القرآن الكريم يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج فوقع الجواب بما يتعلق به العمل إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال لم يبدو في أول الشهر دقيقا كالخيط ثم يمتلىء حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى ثم قال وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت في هذا المعنى فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال في التمثيل إتيان للبيوت من ظهورها والبر إنما هو التقوى لا العلم بهذه الأمور التى لا تفيد نفعا في التكليف ولا تجر إليه وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها أى إن السؤال عن هذا سؤال عما
47لا يعنى إذ يكفى من علمها أنه لا بد منها ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن الساعة قال للسائل ما أعددت لها بإسناد البخاري ومسلم إعراضا عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة ولم يجبه عما سأل وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم نزلت في رجل سأل من أبي روى أنه عليه السلام قام يوما يعرف الغضب في وجهه فقال لا تسألوني عن شىء إلا أنبأتكم فقام رجل فقال يا رسول الله من أبي قال أبوك حذافة فنزلت وفى البابين روايات أخر وقال ابن عباس في سؤال بنى إسرائيل عن صفات البقرة لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم وهذا يبين أن سؤالهم لم يكن فيه فائدة وعلى هذا المعنى يجرى الكلام في الآية قبلها عند من روى أن الآية نزلت فيمن سأل احجنا هذا لعامنا أم للأبد فقال عليه السلام للأبد ولو قلت نعم لو جبت وهذه الجملة ملفقه من حديثين في قصتين مختلفتين
48وفى بعض رواياته فذرونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم الحديث وإنما سؤالهم هنا زيادة لا فائدة عمل فيها لأنهم لو سكتوا لم يقفوا عن عمل فصار السؤال لا فائدة فيه ومن هنا نهى عليه السلام عن قيل وقال وكثرة السؤال رواه البخاري صحيح لانه مظنة السؤال عما لا يفيد وقد سأله جبريل عن الساعة فقال ما المسئول عنها باعلم من السائل رواه البخاري صحيح فأخبره
49أن ليس عنده من ذلك علم وذلك يبين أن السؤال عنها لا يتعلق به تكليف ولما كان ينبنى على ظهور أماراتها الحذر منها ومن الوقوع في الأفعال التى هى من أماراتها والرجوع إلى الله عندها أخبره بذلك ثم ختم عليه السلام ذلك الحديث بتعريفه عمر أن جبريل أتاهم ليعلمهم دينهم فصح إذا أن من جملة دينهم في فصل السؤال عن الساعة أنه مما لا يجب العلم به أعنى علم زمان إتيانها فليتنبه لهذا المعنى في الحديث وفائدة سؤاله له عنها وقال إن أعظم الناس جرما من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجل مسألته الشيخين صحيح وهو مما نحن فيه فإنه إذا لم يحرم فما فائدة السؤال عنه بالنسبة إلى العمل وقرأ عمر بن الخطاب وفاكهة وأبا وقال هذه الفاكهة فما الأب ثم قال نهينا عن التكلف وفى القرآن الكريم ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى الآية وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يجابوا وأن هذا مما لا يحتاج إليه في التكليف وروى أن أصحاب النبى ملوا ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا فأنزل الله تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية وهو كالنص في الرد عليهم فيما سألوا وأنه لا ينبغى السؤال إلا فيما يفيد في التعبد لله ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا حديثا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف انظر الحديث في فضائل القرآن لأبى عبيد وتأمل خبر عمر بن الخطاب مع ضبيع في سؤاله الناس عن أشياء من القرآن لا ينبنى عليها حكم تكليفى وتأديب عمر له وقد سأل ابن الكواء علي بن أبى طالب عن الذاريات ذروا فالحاملات وقرا الخ فقال له علي ويلك
50سل تفقها ولا تسأل تعنتا ثم أجابه فقال له ابن الكواء أفرأيت السواد الذي في القمر فقال أعمى سأل عن عمياء ثم أجابه ثم سأله عن أشياء وفى الحديث طول وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل ويحكى كراهيته عمن تقدم وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة منها أنه شغل عما يعنى من أمر التكليف الذي طوقه المكلف بما لا يعنى إذ لا ينبنى على ذلك فائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة أما في الآخرة فإنه يسأل عما أمر به أو نهى عنه وأما في الدنيا فإن عمله بما علم من ذلك لا يزيده في تدبير رزقه ولا ينقصه وأما اللذة الحاصلة عنه في الحال فلا تفى مشقة اكتسابها وتعب طلبها بلذة حصولها وإن فرض أن فيه فائدة في الدنيا فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك وكم من لذة وفائدة يعدها الإنسان كذلك وليست في أحكام الشرع إلا على الضد كالزنى وشرب الخمر وسائر وجوه الفسق والمعاصى التى يتعلق بها غرض عاجل فإذا قطع الزمان فيما لا يجنى ثمره في الدارين مع تعطيل ما يجنى الثمرة من فعل مالا ينبغى ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك وهو مشاهد في التجربة العادية فإن عامة المشتغلين بالعلوم التى لا تتعلق بها
51ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب حتى تفرقوا شيعا وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعنى وخرجوا إلى ما لا يعنى فذلك فتنة على المتعلم والعالم وإعراض الشارع مع حصول السؤال عن الجواب من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل ومنها أن تتبع النظر في كل شىء وتطلب علمه من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يخالف السنة فاتباعهم في نحلة هذا شأنها خطأ عظيم وانحراف عن الجادة ووجوه عدم الاستحسان كثيرة فإن قيل العلم محبوب على الجملة ومطلوب على الإطلاق وقد جاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق فتنتظم صيغه كل علم ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل وما لا يتعلق به عمل فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم وأيضا فقد قال العلماء إن تعلم كل علم فرض كفاية كالسحر والطلسمات وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل فما ظنك بما قرب منه كالحساب والهندسة وشبه ذلك وأيضا فعلم التفسير من جملة العلوم المطلوبة وقد لا ينبنى عليه عمل وتأمل حكاية الفخر الرازي أن بعض العلماء مر بيهودى وبين يديه مسلم يقرأ عليه علم هيئة العالم فسأل اليهودي عما يقرأ عليه فقال له أنا أفسر له آية من كتاب الله فسأله ما هى وهو متعجب فقال قوله
52تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج قال اليهودي فأنا أبين له كيفية بنائها وتزيينها فاستحسن ذلك العالم منه هذا معنى الحكاية لا لفظها وأيضا فإن قوله تعالى أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء يشمل كل علم ظهر في الوجود من معقول أو منقول مكتسب أو موهوب وأشباهها من الآيات ويزعم الفلاسفة أن حقيقة الفلسفة إنما هو النظر في الموجودات على الإطلاق من حيث تدل على صانعها ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات فهذه وجوه تدل على عموم الإستحسان في كل علم على الإطلاق والعموم فالجواب عن الأول أن عموم الطلب مخصوص وإطلاقه مقيد بما تقدم من الأدلة والذي يوضحه أمران أحدهما أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب بل قد عد عمر ذلك في نحو وفاكهة وأبا من التكلف الذي نهى عنه وتأديبه ضبيعا ظاهر فيما نحن فيه مع أنه لم ينكر عليه ولم يفعلوا ذلك إلا لأن رسول الله صلى الله وسلم لم يخض في شىء من ذلك ولو كان لنقل لكنه لم ينقل فدل على عدمه والثاني ما ثبت في كتاب المقاصد أن هذه الشريعة أمية لأمة أمية وقد قال عليه السلام نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا صحيحمسلم والنسائي رواية إلى نظائر ذلك والمسألة مبسوطة هنالك والحمد لله وعن الثاني أنا لا نسلم ذلك على الإطلاق وإنما فرض الكفاية رد كل فاسد وإبطاله علم ذلك الفاسد أو جهل إلا أنه لا بد من علم أنه فاسد والشرع متكفل بذلك والبرهان على ذلك أن موسى عليه السلام لم يعلم علم السحر الذي جاء به السحرة مع أنه بطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر وهو المعجزة ولذلك لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم خاف موسى من ذلك ولو كان عالما به لم يخف كما لم يخف العالمون به وهم السحرة فقال الله له لا تخف إنك أنت الأعلى
53ثم قال إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى وهذا تعريف بعد التنكير ولو كان عالما به لم يعرف به والذي كان يعرف من ذلك أنهم مبطلون في دعواهم على الجملة وهكذا الحكم في كل مسألة من هذا الباب فإذا حصل الإبطال والرد بأي وجه حصل ولو بخارقة على يد ولي لله أو بأمر خارج عن ذلك العلم ناشىء عن فرقان التقوى فهو المراد فلم يتعين إذا طلب معرفة تلك العلوم من الشرع وعن الثالث أن علم التفسير مطلوب فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب فإذا كان المراد معلوما فالزيادة على ذلك تكلف ويتبين ذلك في مسألة عمر وذلك أنه لما قرأ وفاكهة وأبا توقف في معنى الأب وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة كالحب والعنب والزيتون والنخل ومما هو من طعامه بواسطة مما هو مرعى للأنعام على الجملة فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الأفراد فضلا فلا على الإنسان أن لا يعرفه فمن هذا الوجه والله أعلم عد البحث عن معنى الأب من التكلف وإلا فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبى من جهته لما كان من التكلف بل من المطلوب علمه لقوله ليدبروا أياته ولذلك سأل الناس على المنبر
54عن معنى التخوف في قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف فأجابه الرجل الهذلي بأن التخوف في لغتهم التنقص وأنشده شاهدا عليه تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر يأيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم ولما كان السؤال في محافل الناس عن معنى والمرسلات عرفا والسابحات سبحا مما يشوش على العامة من غير بناء عمل عليه أدب عمر ضبيعا بما هو مشهور فإذا تفسير قوله أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها الآية بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل غير سائغ ولأن ذلك من قبيل مالا تعرفه العرب والقرآن إنما نزل بلسانها وعلى معهودها وهذا المعنى مشروح في كتاب المقاصد بحول الله وكذلك القول في كل علم يعزى إلى الشريعة لا يؤدى فائدة عمل ولا هومما تعرفه العرب فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي كما استدل أهل العدد بقوله تعالى فاسأل العادين وأهل الهندسة بقوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية وأهل التعديل النجومى بقوله الشمس والقمر بحسبان وأهل المنطق في أن نقيض الكلية السالبة جزئية
55موجبة بقوله إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل الكتاب الآية وعلى بعض الضروب الحملية والشرطية بأشياء أخر وأهل خط الرمل بقوله سبحانه أو أثارة من علم وقوله عليه السلام كان نبي يخط في الرمل رواه مسلم صحيح إلى غير ذلك مما هو مسطور في الكتب وجميعه يقطع بأنه مقصود لما تقدم وبه تعلم الجواب عن السؤال الرابع وأن قوله أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء لا يدخل فيه من وجوه الاعتبار علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها ولا يليق بالأميين الذين بعث فيهم النبي
56الأمى بملة سهلة سمحة والفلسفة على فرض أنها جائزة الطلب صعبة المأخذ وعرة المسلك بعيدة الملتمس لا يليق الخطاب بتعلمها كى تتعرف آيات الله ودلائل توحيده للعرب الناشئين في محض الأمية فكيف وهى مذمومة على ألسنة أهل الشريعة منبه على ذمها بما تقدم في أول المسألة فإذا ثبت هذا فالصواب أن مالا ينبنى عليه عمل غير مطلوب في الشرع فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة وعلم النحو والتفسير وأشباه ذلك فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب إما شرعا وإما عقلا حسبما تبين في موضعه لكن هنا معنى آخر لا بد من الالتفاف إليه وهو المقدمة السادسة وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبى يليق بالجمهور وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور وإن فرض تحقيقا فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه كما إذا طلب معنى الملك فقيل إنه خلق من خلق الله يتصرف في أمره أو معنى الإنسان فقيل إنه هذا الذى أنت من جنسه أو معنى التخوف فقيل هو التنقص أو معنى الكوكب فقيل هذا الذى نشاهده بالليل ونحو ذلك فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبى حتى يمكن الامتثال وعلى هذا وقع البيان في الشريعة كما قال عليه السلام الكبر بطر
57الحق وغمط الناس رواه مسلم والترمذي ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد وكما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة من حيث كانت أظهر في الفهم منها وقد بين عليه السلام الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور وكذلك سائر الأمور وهو عادة العرب والشريعة عربية ولأن الأمة أمية فلا يليق بها من البيان إلا الأمي وقد تبين هذا في كتاب المقاصد مشروحا والحمد لله فإذا التصورات المستعملة في الشرع إنما هى تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة وأما الثاني وهو ما لا يليق بالجمهور فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له لأن مسالكه صعبة المرام وما جعل عليكم في الدين من حرج كما إذا طلب معنى الملك فأحيل به على معنى أغمض منه وهو ماهية مجردة عن المادة أصلا أو يقال جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلى أو طلب معنى الإنسان فقيل هو الحيوان الناطق المائت أو يقال ما الكوكب فيجاب بأنه جسم بسيط كرى مكانه الطبيعى نفس الفلك من شأنه أن ينير متحرك على الوسط غير مشتمل عليه أو سئل عن المكان فيقال هو السطح الباطن من الجرم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوى وما أشبه ذلك من الأمور التى لا تعرفها العرب ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعانى ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلف به وأيضا فإن هذا تسور على طلب معرفة ماهيات الأشياء وقد اعترف أصحابه بصعوبته بل قد نقل بعضهم أنه عندهم متعذر وأنهم أوجبوا أن لا يعرف شىء من الأشياء على حقيقته إذ الجواهر لها فصول مجهولة والجواهر عرفت بأمور
58سلبية فإن الذاتي الخاص إن علم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا وإن لم يعلم فكان غير ظاهر للحس فهو مجهول فإن عرف ذلك الخاص بغير ما يخصه فليس بتعريف والخاص به كالخاص المذكور أولا فلا بد من الرجوع إلى أمور محسوسة أو ظاهرة من طريق أخرى وذلك لا يفي بتعريف الماهيات هذا في الجوهر وأما العرض فإنما يعرف باللوازم إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك وأيضا ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها وللمنازع أن يطالب بذلك وليس للحاد أن يقول لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه إذ كثير من الصفات غير ظاهر ولا يقال أيضا لو كان ثم ذاتي آخر ما عرفت الماهية دونه لأنا نقول إنما تعرف الحقيقة إذا عرف جميع ذاتياتها فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف حصل الشك في معرفة الماهية فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإيتان بها ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها وهذا المعنى تقرر وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها فتسور الإنسان على معرفتها رمى في عماية هذا كله في التصور وأما التصديق فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية أو قريبة من الضرورية حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول
59الله وقوته فإذا كان كذلك فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة وهو الذي نبه القرآن على أمثاله كقوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق وقوله تعالى قل يحييها الذي أنشأها أول مرة إلى آخرها وقوله تعالى الله الذي خلقكم ثم وزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء وقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق وإلا فتقرير الحكم كاف وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس هذا وإن كان راجعا إلى نظم الأقدمين في التحصيل فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود لا من حيث احتذاء من تقدمهم وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل فليس هذا الطريق بشرعي ولا تجده في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف الصالح فإن ذلك متلفة للعقل
60ومحارة له قبل بلوغ المقصود وهو بخلاف وضع التعليم ولأن المطالب الشرعية إنما هي في عامة الأمر وقتية فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي لكان مناقضا لهذه المطالب وهو غير صحيح وأيضا فإن الإدراكات ليست على فن واحد ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضروريات وما قاربها فإنها لا تفاوت فيها يعتد به فلو وضعت الأدلة على غير ذلك لتعذر هذا المطلب ولكان التكليف خاصا لا عاما أو أدى إلى تكليف ما لا يطاق أو ما فيه حرج وكلاهما منتف عن الشريعة وسيأتي في كتاب المقاصد تقرير هذا المعنى المقدمة السابعة كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول والدليل على ذلك أمور
61أحدها ما تقدم في المسألة قبل أن كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ولو كان له غاية أخرى شرعية لكان مستحسنا شرعا ولو كان مستحسنا شرعا لبحث عنه الأولون من الصحابة والتابعين وذلك غير موجود فما يلزم عنه كذلك والثاني أن الشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى يأيها الناس اتقوا ربكم الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا إلا الله الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يسوون به غيره في العبادة فذمهم على ذلك وقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون إنا أنزلنا
62إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص الآية وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصى كلها دال على أن المقصود التعبد لله وإنما أوتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده سبحانه لا شريك له ولذلك قال تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وقال فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون وقال هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد لا بد أن أعقب بطلب التعبد لله وحده أو جعل مقدمة لها بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها إلا تذكرة إلا كذا وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم والآيات في هذا المعنى لا تحصى والثالث ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به فقد قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال وإنه لذو علم لما علمناه قال قتادة يعني لذو عمل بما علمناه وقال تعالى أمن هو قانت انآء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة إلى أن قال قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية وقال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب وروى عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى فكبكبوا فيها هو والغاوون قال قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره وعن أبي هريرة في البخاري ومسلم صحيح قال إن
63فى جهنم أرحاء تدور بعلماء السوء فيشرف عليهم من كان يعرفهم في الدنيا فيقول ما صيركم في هذا وإنما كنا نتعلم منكم قالوا إنا كنا نأمركم بالأمر ونخالفكم إلى غيره وقال سفيان الثوري إنما يتعلم العلم ليتقى به الله وإنما فضل العلم على غيره لأنه يتقى الله به وعن النبى انه قال لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال اخرجه الترمذي ضعفها وفي رواية اخرى صححها وذكر فيها وعن علمه ماذا عمل فيه وعن أبي الدرداء إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة أعلمت أم جهلت فأقول علمت فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتنى تسألنى فريضتها فتسألنى الآمرة هل ائتمرت والزاجرة هل ازدجرت فأعوذ بالله من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع وحديث أبى هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة قال فيه ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن قال كذبت ولكن ليقال فلان قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على
64وجهه حتى ألقى في النار رواه احمد والنسائي ومسلم وقال إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه ضعفه الترمذي والطبرانى وغيرهم وروى أنه عليه السلام كان يستعيذ من علم لا ينفع عن زيد بن ارقم وقالت الحكماء من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به وقال معاذ بن جبل اعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا وروى أيضا مرفوعا إلى النبى وفيه زيادة إن العلماء همتهم الرعاية وإن السفهاء همتهم الرواية وروى موقوفا أيضا عن أنس بن مالك وعن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنى عشرة من أصحاب رسول الله قالوا كنا نتدارس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله فقال تعلموا ما شئتم أن
65تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا سندها ضعيف وكان رجل يسأل أبا الدرداء فقال له كل ما تسأل عنه تعمل به قال لا قال فما تصنع بازدياد حجة الله عليك وقال الحسن اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه فإن وافق قوله عمله فنعم ونعمة عين وقال ابن مسعود إن الناس أحسنوا القول كلهم فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه ومن خالف فعله قوله فإنما يوبخ نفسه وقال الثوري إنما يطلب الحديث ليتقى به الله عز وجل فلذلك فضل على غيره من العلوم ولولا ذلك كان كسائر الأشياء وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال أدركت الناس وما يعجبهم القول إنما يعجبهم العمل والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعى وإنما هو وسيلة إلى العمل وكل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به فلا يقال إن العلم قد ثبت في الشريعة فضله وإن منازل العلماء فوق منازل الشهداء وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن مرتبة العلماء تلى مرتبة الأنبياء وإذا كان كذلك وكان الدليل الدال على على فضله مطلقا لا مقيدا فكيف ينكر أنه فضيلة مقصودة لا وسيلة هذا وإن كان وسيلة من وجه فهو مقصود لنفسه أيضا كالإيمان فإنه شرط في صحة العبادات ووسيلة إلى قبولها ومع ذلك فهو مقصود لنفسه
66لأنا نقول لم يثبت فضله مطلقا بل من حيث التوسل به إلى العمل بدليل ما تقدم ذكره آنفا وإلا تعارضت الأدلة وتناقضت الآيات والأخبار وأقوال السلف الأخيار فلا بد من الجمع بينها وما ذكر آنفا شارح لما ذكر في فضل العلم والعلماء وأما الإيمان فإنه عمل من أعمال القلوب وهو التصديق وهو ناشىء عن العلم والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها أما العلم فإنه وسيلة وأعلى ذلك العلم بالله ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله فإن قيل هذا متناقض فإنه لا يصح العلم بالله مع التكذيب به قيل بل قد يحصل العلم مع التكذيب فإن الله قال في قوم وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون فأثبت لهم المعرفة بالنبى ثم بين أنهم لا يؤمنون وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم كما أن الجهل مغاير للكفر نعم قد يكون العلم فضيلة وإن لم يقع العمل به على الجملة كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف إذا فرض أنها لم تقع في الخارج فإن العلم بها حسن وصاحب العلم مثاب عليه وبالغ مبالغ العلماء لكن من جهة ما هو مظنة الانتفاع عند وجود محله ولم يخرجه ذلك عن كونه وسيلة كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة وإن لم يأت وقت الصلاة بعد أو جاء ولم يمكنه اداؤها لعذر فلو فرض أنه تطهر على عزيمة أن لا يصلى لم يصح له ثواب الطهارة فكذلك إذا علم على أن لا يعمل لم ينفعه علمه وقد وجدنا وسمعنا أن كثيرا من النصارى واليهود يعرفون دين الإسلام ويعلمون كثيرا من أصوله وفروعه ولم يكن ذلك نافعا
67لهم من البقاء على الكفر باتفاق أهل الإسلام فالحاصل أن كل علم شرعى ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه وهو العمل فصل ولا ينكر فضل العلم في الجملة إلا جاهل ولكن له قصد أصلى وقصد تابع فالقصد الأصلى ما تقدم ذكره وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا وإن لم يكن في أصله كذلك وان الجاهل دنىء وإن كان في أصله شريفا وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار وحكمه ماض على الخلق وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين إذ قام لهم مقام النبى لأن العلماء ورثة الأنبياء وأن العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة وأهله أحياء أبد الدهر إلى سائر ماله في الدنيا من المناقب الحميدة والمآثر الحسنة والمنازل الرفيعة فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى وإن كان صاحبه يناله وأيضا فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له ومحبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس وميلت إليها القلوب وهو مطلب خاص برهانه التجربة التامة والاستقراء العام فقد يطلب العلم للتفكه به والتلذذ بمحادثته ولا سيما العلوم التى للعقول فيها مجال وللنظر في أطرافها متسع ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع ولكن كل تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادما للقصد الأصلى أو لا فإن كان خادما له فالقصد إليه ابتداء صحيح وقد قال تعالى فىمعرض المدح والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما وجاء عن بعض السلف الصالح اللهم اجعلنى من أئمة المتقين وقال عمر لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التى هى مثل
68المؤمن النخلة لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا وفى القرآن عن إبراهيم عليه السلام واجعل لي لسان صدق في الآخرين فكذلك إذا طلبه لما فيه من الثواب الجزيل في الآخرة وأشباه ذلك وإن كان غير خادم له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح كتعلمه رياء أو ليمارى به السفهاء أويباهى به العلماء أو يستميل به قلوب العباد أو لينال من دنياهم أو ما أشبه ذلك فإن مثل هذا إذا لاح له شىء مما طلب زهد في التعلم ورغب في التقدم وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه وأنف من الإعتراف بالتقصير فرضى بحاكم عقله وقاس بجهله فصار ممن سئل فأفتى بغير علم فضل وأضل أعاذنا الله من ذلك بفضله وفى الحديث لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتحتازوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار صحيح وقال من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة صحيح على شرط البخاري ومسلم وفى بعض الحديث سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية فقال هوالرجل يتعلم العلم يريد أن يجلس إليه الحديث وفى القرآن العظيم إن الذين يكتمون ما أنرل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الآية والأدلة في المعنى كثيرة
69المقدمة الثامنة العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب المرتبة الأولى الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به فبمقتضى الحمل التكليفي والحث الترغيبي والترهيبي وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف فلا يكتفي العلم ههنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله من زجر أو قصاص أو حد أو تعزير أو ما جرى هذا المجرى ولا إحتياج ههنا إلى إقامة برهان على ذلك إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه والمرتبة الثانية الواقفون منه على براهينه إرتفاعا عن حضيض التقليد المجرد واستبصارا فيه حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه ويعتمد عليه إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان وإنما هو كالأشياء المكتسبة والعلوم المحفوظة التي يتحكم عليها العقل وعليه يعتمد في استجلابها حتى تصير من جملة مودعاته فهؤلاء إذا دخلوا في العمل خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى بل لا نسبة بينهما إذ هؤلآء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا ومن جملة التكذيب الخفي العمل على مخالفة
70العلم الحاصل لهم ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين فلا بد من الإفتقار إلى أمر زائد من خارج غير أنه يتسع في حقهم فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات بل ثم أمور أخر كمحاسن العادات ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها وأشباه ذلك وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة إلا إنها أخفى مما قبلها فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية والأخذ في الإتصافات السلوكية والمرتبة الثالثة الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول أو تقاربها ولا ينظر إلى طريق حصولها فإن ذلك لا يحتاج إليه فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية وهذه المرتبة هي المترجم لها والدليل على صحتها من الشريعة كثير كقوله تعالى أمن هو قآنت آنآء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ثم قال قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم لا من أجل غيره وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم والذين يخشون ربهم هم العلماء لقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق الآية ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه وهو معنى هذه المرتبة بادروا إلى الإنقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ليس بالسحر ولا الشعوذة ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون فحصر تعقلها
71في العالمين وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال وقال أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ثم وصف أهل العلم بقوله الذين يوفون بعهد الله إلى آخر الأوصاف وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون وقال في أهل الإيمان والإيمان من فوائد العلم إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى أن قال أولئك هم المؤمنون حقا ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لآ اله إلا هو فشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق إذ التخالف محال وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة لأنهم محفوظون من المعاصي وأولو العلم أيضا كذلك من حيث حفظوا بالعلم وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم ذلك وأقلقهم حتى يسألوا النبي كنزول آية البقرة وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية وقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل والأدلة أكثر من إحصائها هنا وجميعها يدل
72على أن العلم المعتبر هو الملجىء إلى العمل به فإن قيل هذا غير ظاهر من وجهين أحدهما أن الرسوخ في العلم إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة أولا فإن لم يكن كذلك فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به ولا ملجىء إليه وإن كان محفوظا به من المخالفة لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه لكن العلماء تقع منهم المعاصي ما عدا الأنبياء عليهم السلام ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وقال ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ثم قال ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وسائر ما في هذا المعنى فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم فلو كان العلم صادا عن ذلك لم يقع والثاني ما جاء من ذم العلماء السوء وهو كثير ومن أشد ما فيه قوله عليه السلام إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه وفي القرآن أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب وقال إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية وقال إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا الآية وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والأدلة فيه
73كثيرة وهو ظاهر في أن أهل العلم غير معصومين بعلمهم ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب فكيف يقال إن العلم مانع من العصيان فالجواب عن الأول أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفه بالأدلة المتقدمة وبدليل التجربة العادية لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا فإن تخلف فعلى أحد ثلاثة أوجه الأول مجرد العناد فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي فغيره أولى وعلى ذلك دل قوله تعالى وجحدوا بها الآية وقوله تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وأشباه ذلك والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا والثاني الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم وعليه يدل عند جماعة قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب الآية وقال تعالى إن الذين اتقو إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية فقد لا تبصر العين ولا تسمع الأذن لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصاب ومع ذلك لا يقال إنه غير مجبول على السمع والإبصار فما نحن فيه كذلك والثالث كونه ليس من أهل هذه المرتبة فلم يصر العلم له وصفا أو كالوصف مع عده من أهلها وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه أو اعتقاد غيره فيه ويدل عليه قوله تعالى ومن أضل ممن اتبع
74هواه بغير هدى من الله وفي الحديث إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس إلى أن قال اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا رواه للشيخانصحيح و وقوله ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم ابن عبدالبر بسند لم يرضه الحديث فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علما فليسوا من الراسخين في العلم ولا ممن صار لهم كالوصف وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم فلا اعتراض بهم فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو الداخل تحت حفظ العلم حسبما نصته الأدلة وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير وقد روى عن النبي أنه قال إن لكل شىء إقبالا وإدبارا وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها أو قال آخرها حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا الحديث رواه ابن السنى وابو نعيم الحديث وفي الحديث سيأتي
75على أمتي زمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج اخرجه الطبراني في الاوسط والحاكم عن ابي هريرة إلى أن قال ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول وعن علي يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف علمهم عملهم يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم تلك إلى الله عز وجل وعن ابن مسعود كونوا للعلم رعاة ولا تكونوا له رواة فإنه قد يرعوى ولا يروي وقد يروي ولا يرعوى وعن أبي الدرداء لا تكون تقيا حتى تكون عالما ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا وعن الحسن العالم الذي وافق علمه عمله ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث سمع شيئا فقاله وقال الثوري العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا وعن الحسن قال الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل وعنه في قول الله تعالى وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قال علمتم فعلمتم ولم تعملوا فو الله ما ذلكم بعلم وقال الثوري العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجىء إلى العمل وقال الشعبي كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ومثله عن وكيع بن الجراح وعن ابن مسعود ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله والآثار في هذا النحو كثيرة
76وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم وإنما هو رواة والفقه فيما رووا أمر آخر أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله على أن المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه وعدم الإجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به ويلجىء إليه كما تقدم بيانه وهو معنى قول الحسن كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وعن معمر أنه قال كان يقال من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله وعن حبيب بن أبي ثابت طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد وعن الثوري قال كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وهو معنى قوله في كلام آخر كنت أغبط الرجل يجتمع حوله ويكتب عنه فلما ابتليت به وددت أني نجوت منه كفافا لا علي ولا لي وعن أبي الوليد الطيالسي قال سمعت ابن عيينة منذ أكثر من ستين سنة يقول طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون وقال الحسن لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم فصل ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة وما هي والقول في ذلك على الإختصار أنها أمر باطن وهو الذي عبر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود وهو راجع إلى معنى الآية وعنه عبر في الحديث في أول ما يرفع من العلم الخشوع رواه الترمذي وقال مالك ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور
77يجعله الله في القلوب وقال أيضا الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل ولكن عليه علامة ظاهرة وهو التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة وأما تفصيل القول فيه فليس هذا موضع ذكره وفي كتاب الإجتهاد منه طرف فراجعه إن شئت وبالله التوفيق المقدمة التاسعة من العلم ما هو من صلب العلم ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه فهذه ثلاثة أقسام القسم الأول هو الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب وإليه تنتهي مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرفها وهي أصول الشريعة وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان هذا وإن كانت وضعية لا عقلية فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي وعلم الشريعة من جملتها إذ العلم بها مستفاد من الإستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة وحاكمة غير محكوم عليها وهذه خواص
78الكليات العقليات وأيضا فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود وهو أمر وضعى لا عقلى فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار وارتفع الفرق بينهما فإذا لهذا القسم خواص ثلاث بهن يمتاز عن غيره إحداها العموم والإطراد فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا وهو معنى كونها عامة وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما فهو راجع إلى عموم كالعرايا وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة والصاع في المصراة وأشباه ذلك فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها وهي أمور عامة فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة والإعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك والثانية الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا ولا تخصيصا لعمومها ولا تقييدا لإطلاقها ولا رفعا لحكم من أحكامها لابحسب
79عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال بل ما أثبت سببا فهو سبب أبدا لا يرتفع وما كان شرطا فهو أبدا شرط وما كان واجبا فهو واجب أبدا أو مندوبا فمندوب وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك والثالثة كون العلم حاكما لا محكوما عليه بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه لا زائد على ذلك ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم فإذا كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث فهو من صلب العلم وقد تبين معناها والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب والحمد لله والقسم الثاني وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي بل إلى ظني أو كان راجعا إلى قطعى إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو أكثر من خاصة واحدة فهو مخيل ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول من غير أن يكون فيه إخلال بأصله ولا بمعنى غيره فإذا كان هكذا صح أن يعد في هذا القسم فأما تخلف الخاصية الأولى وهو الإطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم لأن عدم الإطراد يقوي جانب الإطراح ويضعف جانب الإعتبار إذ النقض فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم ويقربه من الأمور الإتفاقية الواقعة عن غير قصد فلا يوثق به ولا يبني عليه وأما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت فيأباه صلب العلم وقواعده فإنه إذا حكم في قضية ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض
80الأحوال كان حكمه خطأ وباطلا من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عم فيما هو خاص فعدم الناظر الوثوق بحكمه وذلك معنى خروجه عن صلب العلم وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكما ومبنيا عليه فقادح أيضا لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة غير مجرد راحات النفوس فاستوي مع سائر ما يتفرج به وإن لم يصح فأحرى في الأطراح كمباحث السوفسطائيين ومن نحا نحوهم ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها أحدها الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه عل الخصوص في التعبدات كإختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود وكونها على بعض الهيئات دون بعض واختصاص الصيام بالنهار دون الليل وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار واختصاص الحج بالأعمال المعلومه وفي الأماكن المعروفة وإلى مسجد مخصوص إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه فيأتي بعض الناس فيطرق إليه حكما يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع وجميعها مبني على ظن وتخمين غير مطرد في بابه ولا مبني عليه عمل بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى
81ما ليس لنا به علم ولا دليل لنا عليه والثاني تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها ولا يطلب التزامها كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد فالتزمها المتأخرون بالقصد فصار تحملها على ذلك القصد تحريا لها بحيث يتعنى في إستحراجها ويبحث عنها بخصوصها مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل وإن صحبها العمل لأن تخلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث كما في حديث الراحمون يرحمهم الرحمن حسن صحيح فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه التلميذ من شيخه فإن سمعه منه بعد ما أخذ عنه غيره لم يمنع ذلك الإستفادة بمقتضاه وليس بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها حتى يقال إنه مقصود فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه والثالث التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة لا على قصد طلب تواتره بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة ومن جهات شتى وإن كان راجعا إلى الآحاد في الصحابة أو التابعين أو غيرهم فالإشتغال بهذا من الملح لا من صلب العلم خرج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد
82الكناني قال خرجت حديثا واحدا عن النبي من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق شك الراوي قال فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت له يا أبا زكريا قد خرجت حديثا عن النبي من مائتي طريق قال فسكت عني ساعة ثم قال أخشى أن يدخل هذا تحت ألهاكم التكاثر هذا ما قال وهو صحيح في الإعتبار لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه فصار الزائد على ذلك فضلا والرابع العلوم المأخوذة من الرؤيا مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات وما يتلقى منها تصريحا فإنها وإن كانت صحيحة فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في الشريعة في مثلها كما في رؤيا الكناني المذكورة آنفا فإن ما قال فيها يحيى بن معين صحيح ولكنه لم نحتج به حتى عرضناه على العلم في اليقظة فصار الإستشهاد به مأخوذا من اليقظة لا من المنام وإنما ذكرت الرؤيا تأنيساوعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء من الإستشهاد بالرؤيا والخامس المسائل التي يختلف فيها فلا ينبني على الإختلاف فيها فرع عملى إنما تعد من الملح كالمسائل المنبه عليها قبل في أصول الفقه ويقع كثير منها في سائر العلوم وفي العربية منها كثير كمسألة اشتقاق الفعل من المصدر ومسألة اللهم ومسألة أشياء ومسألة الأصل في لفظ الإسم وإن انبنى البحث فيها على أصول مطردة ولكنها لا فائدة تجنى ثمرة للإختلاف فيها فهي خارجةعن صلب العلم
83والسادس الإستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية وكثيرا ما يجري مثل هذا لأهل التصوف في كتبهم وفي بيان مقاماتهم فينتزعون معاني الأشعار ويضعونها للتخلق بمقتضاها وهو في الحقيقة من الملح لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب ولذلك اتخذه الوعاظ ديدنا وأدخلوه في أثناء وعظهم وأما إذا نظرنا إلى الأمر في نفسه فالإستشهاد بالمعنى فإن كان شرعيا فمقبول وإلا فلا والسابع الإستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح بناء على مجرد تحسين الظن لا زائد عليه فإنه ربما تكون أعمالهم حجة حسبما هو مذكور في كتاب الإجتهاد فإذا أخذ ذلك بإطلاق فيمن يحسن الظن به فهو عند ما يسلم من القوادح من هذا القسم لأجل ميل الناس إلى من ظهر منه صلاح وفضل ولكنه ليس من صلب العلم لعدم اطراد الصواب في عمله ولجواز تغيره فإنما يؤخذ إن سلم هذا المأخذ والثامن كلام أرباب الأحوال من أهل الولاية فإن الإستدلال به من قبيل ما نحن فيه وذلك أنهم قد أوغلوا في خدمة مولاهم حتى أعرضوا عن غيره جملة فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الأطراح لكل ما سوى الله وأعربوا عن مقتضاه وشأن من هذا شأنه لا يطيقه الجمهور وهم إنما يكلمون به الجمهور وهو وإن كان حقا ففي رتبته لا مطلقا لأنه يصير في حق الأكثر من الحرج أو تكليف مالا يطاق بل ربما ذموا بإطلاق ما ليس بمذموم إلا على وجه دون وجه وفي حال دون حال فصار أخذه بإطلاق موقعا
84في مفسدة بخلاف أخذه على الجملة فليس على هذا من صلب العلم وإنما هو من ملحه ومستحسناته والتاسع حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي كما يحكى عن الفراء النحوي أنه قال من برع في علم واحد سهل عليه كل علم فقال له محمد بن الحسن القاضي وكان حاضرا في مجلسه ذلك وكان ابن خالة الفراء فأنت قد برعت في علمك فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك ما تقول فيمن سها في صلاته ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا قال الفراء لا شىء عليه قال وكيف قال لأن التصغير عندنا لا يصغر فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له لأنه بمنزلة تصغير التصغير فالسجود للسهو هو جبر للصلاة والجبر لا يجبر كما أن التصغير لا يصغر فقال القاضي ما حسبت أن النساء يلدن مثلك فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر فلو جمعهما أصل واحد لم يكن من هذا الباب كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد روى أن أبا يوسف دخل على الرشيد والكسائي يداعبه ويمازحه فقال له أبو يوسف هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك فقال يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي فأقبل الكسائي على أبي يوسف فقال يا أبا يوسف هل لك في مسألة فقال نحو أم فقه قال بل فقه فضحك الرشيد حتى فحص برجله ثم قال تلقي على أبي يوسف فقها قال نعم قال يا أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق أن دخلت الدار وفتح أن قال إذا دخلت طلقت قال أخطأت يا أبا يوسف فضحك الرشيد ثم قال كيف الصواب قال إذا قال أن فقد وجب الفعل ووقع الطلاق وإن قال إن فلم يجب ولم يقع الطلاق قال فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي فهذه
85المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر فإن كثيرا منها يستفز الناظر استسحانها ببادىء الرأى فيقطع فيها عمره وليس وراءها ما يتخذ معتمدا في عمل ولا اعتقاد فيخيب في طلب العلم سعيه والله الواقي ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ أن أبا العباس ابن البناء سئل فقيل له لم لم تعمل إن في هذان من قوله تعالى إن هذان لساحران الآية فقال في الجواب لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول فقال السائل يا سيدي وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيئين فقال له المجيب يا هذا إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها فأنت تريد أن تحكها بين يديك ثم تطلب منها ذلك الرونق أو كلاما هذا معناه فهذا الجواب فيه ما ترى وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العلم والقسم الثالث وهو ما ليس من الصلب ولا من الملح ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والإعتقادات أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال فهو غير ثابت ولا حاكم ولا مطرد أيضا ولا هو من ملحه لأن الملح هي التي تستحسنها العقول وتستملحها النفوس إذ ليس يصحبها منفر ولا هي مما تعادي العلوم لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شىء من ذلك هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه فلشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه وحقيقة
86أصله وهم وتخييل لا حقيقة له مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء كالإغراب باستجلاب غير المعهود والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص وأنهم من الخواص وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب ولا يحور منه صاحبه إلا بالإفتضاح عند الإمتحان حسبما بينه الغزالي وابن العربي ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره وأن المقصود وراء هذا الظاهر ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الإمام واستنادهم في جملة من دعاويهم إلى علم الحروف وعلم النجوم ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية حتى آل ذلك إلى مالا يعقل على حال فضلا عن غير ذلك ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة والمتحكمون وكل ذلك ليس له أصل ينبنى عليه ولا ثمرة تجنى منه فلا تعلق به بوجه فصل وقد يعرض للقسم الأول أن يعد من الثانى ويتصور ذلك في خلط بعض العلوم ببعض كالفقيه يبنى فقهه على مسألة نحوية مثلا فيرجع إلى تقريرها مسألة كما يقررها النحوى لا مقدمة مسلمة ثم يرد مسألته الفقهية إليها والذى كان من شأنه أن يأتى بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبنى عليها فلما لم يفعل ذلك وأخذ يتكلم فيها وفى تصحيحها وضبطها والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلا غير محتاج إليه وكذلك إذا افتقر إلى مسألة عددية فمن حقه أن يأتى بها مسلمة ليفرع عليها في علمه فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددى في علم العدد كان فضلا معدودا من الملح إن عد منها وهكذا سائر العلوم التى يخدم بعضها بعضا
87ويعرض أيضا للقسم الأول أن يصير من الثالث ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها على ضد التربية المشروعة فمثل هذا يوقع في مصائب ومن أجلها قال علي رضى الله عنه حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب وإذا عرض للقسم الأول أن يعد من الثالث فأولى أن يعرض للثانى أن يعد من الثالث لأنه أقرب إليه من الأول فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني وإلا لم يكن مربيا واحتاج هو إلى عالم يربيه ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها وفروعها منقولها ومعقولها غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض وإن كان حكمة بالذات والله الموفق للصواب المقدمة العاشرة إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ويتأخر العقل فيكون تابعا فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل والدليل على ذلك أمور الأول أنه لو جاز للعقل تخطى مأخذ النقل لم يكن للحد الذى حده النقل فائدة لأن الفرض أنه حد له حدا فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد وذلك في الشريعة باطل فما أدى إليه مثله والثاني ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع لكان محسنا ومقبحا هذا خلف
88والثالث أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا في أفعالهم وأقوالهم وإعتقاداتهم وهو جملة ما تضمنته فإن جاز للعقل تعدي حد وآحد جاز له تعدي جميع الحدود لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله أي ليس هذا الحد بصحيح وإن جاز إبطال واحد جاز إبطال السائر وهذا لا يقول به أحد لظهور محاله فإن قيل هذا مشكل من أوجه الأول أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان وحاصلة عدم اعتبار المعقول جملة ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه والثاني أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو والله على كل شيء قدير و على كل شيء وكيل و خالق كل شيء وهو نقص من مقتضى العموم فلتجز الزيادة لأنها بمعناه ولأن الوقوف
89دون حد النقل كالمجاوز له فكلاهما إبطال للحد على زعمك فإذا جاز إبطاله مع النقص جاز مع الزيادة ولما لم يعد هذا إبطالا للحد فلا يعد الآخر والثالث أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام لا يقضي القاضي وهو غضبان فمنعوا لأجل معنى التشويش القضاء مع جميع المشوشات وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف وذلك خلاف ما أصلت وبالجملة فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه فالجواب أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر أما الأول فليس القياس من تصرفات العقول محضا وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمر بها ونبه النبي على العمل بها فأين استقلال العقل بذلك بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجرى بمقدار ما أجرته ويقف حيث وقفته وأما الثاني فسيأتي في باب العموم والخصوص إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص وإن سلم أنها تخصص فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب
90بأدلة شرعية دلت على ذلك فالعقل مثلها فقوله والله على كل شىء قدير خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارى وصفاته لأن ذلك محال بل المراد جميع ما عدا ذلك فلم يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه وإذا كان كذلك لم يصح قياس المجاوزة عليه وأما الثالث فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير فليس من تحكيم العقل بل من فهم معنى التشويش ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ لكن خصصه المعنى والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص فإن لفظ غضبان وزنه فعلان وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضى الامتلاء مما اشتق منه فغضبان إنما يستعمل في الممتلىء عضبا كريان في الممتلىء ريا وعطشان في الممتلىء عطشا وأشباه ذلك لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلىء غضبا حتى كأنه قال لا يقضى القاضى وهو شديد الغضب أو ممتلىء من الغضب وهذا هو المشوش فخرج المعنى عن كونه مخصصا وصار خروج يسير الغضب عن النهى بمقتضى اللفظ لا بحكم المعنى وقيس على مشوش الغضب كل مشوش فلا تجاوز للعقل إذا
91وعلى كل تقدير فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء وبذلك ظهرت صحة ما تقدم المقدمة الحادية عشرة لما ثبت أن العلم المعتبر شرعا هو ما ينبنى عليه عمل صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية فما اقتضته فهو العلم الذى طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة وهذا ظاهر غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعى وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية حسبما يأتى إن شاء الله المقدمة الثانية عشرة من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا ثم علمه وبصره وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا غير أن ما علمه من ذلك على ضربين ضرب منها ضرورى داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة كالتقامه الثدى ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا هذا من المحسوسات وكعلمه بوجوده وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات وضرب منها بوساطة التعليم شعر بذلك أولا كوجوه التصرفات الضرورية نحو محاكاة الأصوات والنطق بالكلمات ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات وكالعلوم النظرية التى للعقل في تحصيلها مجال ونظر في المعقولات وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر فلا بد من معلم فيها وان
92كان الناس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا فالإمكان مسلم ولكن الواقع في مجارى العادات أن لابد من المعلم وهو متفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل كاختلاف جمهور الأمة والإمامية وهم الذين يشترطون المعصوم والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام ومع ذلك فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم علما كان المعلم أو عملا واتفاق الناس على ذلك في الوقوع وجريان العادة به كاف في أنه لا بد منه وقد قالوا إن العلم كان في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتحه بأيدى الرجال وهذا الكلام يقضى بأن لا بد في تحصيله من الرجال إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم وأصل هذا في الصحيح إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء الحديث فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به وهذا أيضا واضح في نفسه وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء إذ من شروطهم في العالم بأى علم اتفق أن يكون عارفا بأصوله وما ينبنى عليه ذلك العلم قادرا على التعبير عن مقصوده فيه عارفا بما يلزم عنه قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية وجدناهم قد أتصفوا بها على الكمال غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى بعضها على بعض اشتبهت وربما تصور تفريعها على أصول
93مختلفة في العلم الواحد فأشكلت أو خفى فيها الرجوع إلى بعض الأصول فأهملها العالم من حيث خفيت عليه وهي في نفس الأمر على غير ذلك أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح وأشباه ذلك فلا يقدح في كونه عالما ولا يضر في كونه إماما مقتدى به فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص فصل وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم وإن خالفتها في النظر وهى ثلاث إحداها العمل بماعلم حتى يكون قوله مطابقا لفعله فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به في علم وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد والحمد لله والثانية أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك وهكذا كان شأن السلف الصالح فأول ذلك ملازمة الصحابة رضى الله عنهم لرسول الله وأخذهم بأقواله
94وأفعله واعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان وعلى أي وجه صدر فهم فهموا مغزى ما أراد به أو لا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذى لا يعارض والحكمة التى لا ينكسر قانونها ولا يحوم النقص حول حمى كمالها وإنما ذلك بكثرة الملازمة وشدة المثابرة وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية حيث قال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى قال ففيم نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم قال يا ابن الخطاب إنى رسول الله ولم يضيعنى الله أبدا فانطلق عمر ولم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك فقال أبو بكر إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا قال فنزل القرآن على رسول الله بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال يا رسول الله أو فتح هو قال نعم فطابت نفسه ورجع فهذا من فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين أيها الناس اتهموا رأيكم والله لقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أنى أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته اخرجه البخاري وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال
95وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم والتباس الأمر ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبى حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهرى وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم والثالثة الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبى واقتداء التابعين بالصحابة وهكذا في كل قرن وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه أعنى بشدة الإتصاف به وإلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين كذلك كانوا ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى فلما ترك هذا الوصف رفعت البدع رؤوسها لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوي ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى
96فصل وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان أحدهما المشافهة وهى أنفع الطريقين وأسلمهما لوجهين الأول خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم يشهدها كل من زاول العلم والعلماء فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة وحصل له العلم بها بالحضرة وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادى من قرائن أحوال وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال وقد يحصل بأمر غير معتاد ولكن بأمر يهبه الله لمتعلم عند مثوله بين يدى المعلم ظاهر الفقر بادى الحاجة إلى ما يلقى إليه وهذا ليس ينكر فقد نبه عليه الحديث الذى جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عند ما مات رسول الله وحديث حنظلة الأسيدى حين شكا إلى رسول الله أنهم إذا كانوا عنده وفى مجلسه كانوا على حالة يرضونها فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم فقال رسول الله لو أنكم تكونون كما تكونون عندى لأظلتكم الملائكة بأجنحتها اخرجه مسلم والترمذي صحيح وقد قال عمر بن الخطاب وافقت ربى في ثلاث وهى من فوائد مجالسة العلماء إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم مالا يفتح له دونهم ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم وتأدبهم معه واقتدائهم به فهذا الطريق نافع على كل تقدير وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل وكانوا يكرهون ذلك وقد كرهه مالك فقيل له فما نصنع قال تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة وحكى عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان وخيف على الشريعة الاندراس
97الطريق الثانى مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين وهو أيضا نافع في بابه بشرطين الأول أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه وهو معنى قول من قال كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء وهو مشاهد معتاد والشرط الثاني أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين وأصل ذلك التجربة والخبر أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما ما بلغه المتقدم وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين وعلومهم في التحقيق أقعد فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين والتابعون ليسوا كتابعيهم وهكذا إلى الآن ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى وأما الخبر ففي الحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم رواه الخمسة وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك وروى عن النبي أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض رواه إبراهيم الحربي عن ابي ثعلبة ولم يذكر منزلته من الصحة ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير وتكاثر الشر شيئا بعد شىء
98ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق وعن ابن مسعود أنه قال ليس عام إلا الذى بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم ومعناه موجود في الصحيح في قوله ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون رواه البخاري وقال عليه السلام إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل من الغرباء قال النزاع من القبائل رواه مسلم وفى رواية قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذين يصلحون عند فساد الناس رواه الطبراني وعن أبى إدريس الخولانى إن للإسلام عرى يتعلق الناس وإنها تمتلخ عروة عروة وعن بعضهم تذهب السنة سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة وتلا أبو هريرة قوله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح الآية ثم قال والذى نفسى بيده ليخرجن من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا وعن عبد الله قال أتدرون كيف ينقص الإسلام قالوا نعم كما ينقص صبغ الثوب وكما ينقص سمن الدابة فقال عبد الله ذلك منه ولما نزل قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم بكى عمر فقال عليه والسلام ما يبكيك قال يا رسول الله إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فلم يكمل شىء قط إلا نقص فقال عليه السلام صدقت اخرجه ابن ابي شيبة والأخبار هنا كثيرة وهى تدل على نقص الدين والدنيا وأعظم ذلك العلم فهو إذا في نقص بلا شك
99فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوع كان وخصوصا علم الشريعة الذى هو العروة الوثقى والوزر الأحمى وبالله تعالى التوفيق المقدمة الثالثة عشرة كل أصل علمى يتخذ إماما في العمل فلا يخلوا إما أن يجرى به العمل على مجارى العادات في مثله بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط أولا فإن جرى فذلك الأصل صحيح وإلا فلا وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد بالفرض لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا ومثاله في علم الشريعة الذى نحن في تأصيل أصوله أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى وخبر رسوله وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد فإذا كل أصل شرعى تخلف عن جريانه على هذه المجارى فلم يطرد ولا استقام بحسبها في العادة فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها ويقع ذلك في فهم الأقوال ومجارى الأساليب والدخول في الأعمال فأما فهم الأقوال فمثل قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على
100المؤمنين سبيلا إن حمل على أنه إخبار لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه وهو تقرير الحكم الشرعى فعليه يجب أن يحمل ومثله قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين إن حمل على أنه تقرير حكم شرعى استمر وحصلت الفائدة وإن حمل على أنه إخبار بشأن
101الوالدات لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما علم قبل الآية وأما مجارى الأساليب فمثل قوله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا الخ فهذه صيغة عموم تقتضى بظاهرها دخول كل مطعوم وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط ومن جملته الخمر لكن هذا الظاهر يفسد جريان الفهم في الأسلوب مع إهمال السبب الذى لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر لأن الله تعالى لما حرم الخمر قال ليس على الذين آمنوا فكان هذا نقضا للتحريم فاجتمع الإذن والنهى معا فلا يمكن للمكلف امتثال ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر وقل له إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله إذ لا يصح أن يقال للمكلف اجتنب كذا ويؤكد النهى بما يقتضى التشديد فيه جدا ثم
102يقال فإن فعلت فلا جناح عليك وأيضا فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله وهو بعد استقرار التحريم كالمنافى لقوله إذا ما اتقوا وآمنوا وعلموا الصالحات فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يطاق وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر الإطلاق وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة حتى تقيد بالقيود المقتضية للإطراد والإستمرار فتصح وفى ضمنه تدخل أحكام الرخص إذ هو الحاكم فيها والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية لم يأمن الغلط بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الإجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر إحداهما أنه كتب إلى بعض شيوخ المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه والشغل به فقال فيه وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته فرغ سره منه بالخروج عنه ولو كان يساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون فاستشكلت هذا الكلام وكتبت إليه بأن قلت أما أنه
103مطلوب بتفريغ السر منه فصحيح وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب فلا أدري ما هذا الوجوب ولو كان واجبا بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم وديارهم وقراهم وأزواجهم وذرياتهم وغير ذلك مما يقع لهم به الشغل في الصلاة وإلى هذا فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال وأيضا فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة هذا ما لا يفهم وإنما الجاري على الفقه والإجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة وقد يندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله من مال أو غيره إن أمكنه الخروج عنه شرعا وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم ثم ينظر بعد في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة أو استحبابها أو سقوطها وله موضع غير هذا اه حاصل المسألة فلما وصل إليه ذلك كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه وهو صحيح لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة لإختلاف أحوال الناس فلا يصح إعتماده أصلا فقهيا ألبتة والثانية مسألة الورع بالخروج عن الخلاف فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها
104ولا زلت منذ زمان استشكله حتى كتبت فيها إلى المغرب وإلى إفريقية فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر بل كان من جملة الإشكالات الواردة أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها إختلافا يعتد به فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات وهو خلاف وضع الشريعة وأيضا فقد صار الورع من أشد الحرج إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ولا معاملة ولا أمر من أمور التكليف من خلاف يطلب الخروج عنه وفي هذا ما فيه فأجاب بعضهم بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه المختلف فيه إختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربه وليس أكثر مسائل الفقه هكذا بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي مواد التأمل وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل وأما الورع من حيث ذاته ولو في هذا النوع فقط فشديد مشق لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي عنه وقد قال عليه السلام حفت الجنة بالمكاره رواه مسلم هذا ما أجاب به فكتبت إليه بأن ما قررتم من الجواب غير بين لأنه إنما يجري في المجتهد
105وحده والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال فليس مما نحن فيه وأما المقلد فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين والعامي في عامة أحواله لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر وليس العامى كذلك وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة والخلاف الذي لا يعتد به قليل كالخلاف في المتعة وربا النساء ومحاش النساء وما أشبه ذلك وأيضا فتساوى الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين ولا يكونان كذلك عند بعض فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد لأن ما يأمره به من الإجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده من غير أن يخرج عن الخلاف لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعى أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور وهو شديد جدا ومن يشاد هذا الدين يغلبه وهذا هو الذي أشكل على السائل ولم
106يتبين جوابه بعد ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة وإذا تأملنا مناط المسألة وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع بينا فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع وإن كان شديدا في مخالفة النفس وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في مخالفة النفس فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج وأنه ليس ما أشرتم إليه اه ما كتبت به وهنا وقف الكلام بيني وبينه ومن تأمل هذا التقرير عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد ولا يجري في الواقع مجرى الإستقامة للزوم الحرج في وقوعه فلا يصح أن يستند إليه ولا يجعل أصلا يبنى عليه والأمثلة كثيرة فاحتفظ بهذا الأصل فهو مفيد جدا وعليه ينبني كثير من مسائل الورع وتمييز المتشابهات وما يعتبر من وجه الإشتباه وما لا يعتبر وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله
107القسم الثاني كتاب الأحكام
108القسم الثاني كتاب الأحكام
109بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الأحكام والأحكام الشرعية قسمان أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف والآخر يرجع إلى خطاب الوضع فالأول ينحصر في الخمسة فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل وهى جملة المسألة الأولى المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب فلأمور أحدها أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخييرلم يتصور أن يكون التارك به مطيعا لعدم تعلق الطلب بالترك فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ولا طلب فلا طاعة والثانى أن المباح مساو للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا
110لا يقال إن الواجب والمندوب يفارقان المباح بأنهما مطلوبا الفعل فقد قام المعارض لطلب الترك وليس المباح كذلك فإنه لا معارض لطلب الترك فيه لأنا نقول كذلك المباح فيه معارض لطلب الترك وهو التخيير في الترك فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا وبين التخيير فيه والثالث أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه وهذا غير صحيح باتفاق ولا معقول في نفسه والرابع إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره بأن يترك ذلك المباح وأنه كنذر فعله وفى الحديث من نذر أن يطيع الله فليطعه رواه الستة الا مسلم فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالندر لكنه غير لازم فدل على أنه ليس بطاعة وفى الحديث أن رجلا نذر أن يصوم قائما ولا يستظل فأمره رسول الله أن يجلس وأن يستظل ويتم صومه رواه البخاري قال مالك أمره عليه السلام أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية فجعل نذر ترك المباح معصية كما ترى
111والخامس أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه وقد فرضنا أن تركه وفعله عند الشارع سواء لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله وهذا باطل قطعا فإن القاعدة المتقف عليها أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا فإذا تحقق الاستواء في الدرجات وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان فيلزم تساوى درجتى الفاعل والتارك وإذا فرضنا تساويهما في الطاعات والفرض أن التارك مطيع دون الفاعل فيلزم أن يكون أرفع درجة منه هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة اللهم إلا أن يظلم الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع فلا كلام في هذا والسادس أنه لو كان ترك المباح طاعة للزم رفع المباح من أحكام الشرع من حيث النظر إليه في نفسه وهو باطل بالإجماع ولا يخالف في هذا الكعبى لأنه إنما نفاه بالنظر إلى ما يستلزم لا بالنظر إلى ذات الفعل وكلامنا إنما هو
112بالنظر إلى ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم وأيضا فإنما قال الكعبى ما قال بالنظر إلى فعل المباح لأنه مستلزم ترك حرام بخلافه بالنظر إلى تركه إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا ولا فعل مندوب فيكون مندوبا فثبت أن القول بذلك يؤدى إلى رفع المباح بإطلاق وذلك باطل باتفاق والسابع أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار فترك المباح إذا فعل مباح وأيضا القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد حسبما يأتى إن شاء الله وذلك يستلزم رجوع الترك إلى الاختيار كالفعل فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك جاز أن يكون فاعله مطيعا وذلك تناقض محال فإن قيل هذا كله معارض بأمور أحدها أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة منها أن فيه إشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات وصدا عن كثير من الطاعات ومنها أنه سبب في الإشتغال عن الواجبات ووسيلة إلى الممنوعات لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضراوة الخمر وبعضها يجر إلى بعض إلى أن تهوى بصاحبها في المهلكة والعياذ بالله ومنها أن الشرع قد جاء بذم الدنيا والتمتع بلذاتها كقوله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم
113الدنيا وقوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها وفى الحديث إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم الحديث وفيه إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم صحيح عن الشيخان وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة وهو كاف في طلب ترك المباح لأنه أمر دنيوى لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح ومنها ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة وقد جاء أن حلالها حساب وحرامها عذاب وعن بعضهم اعزلوا عني حسابها حين أتى بشىء يتناوله والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب وأن سرعة الإنصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد والمباح صاد عن ذلك فإذا تركه أفضل شرعا فهو طاعة فترك المباح طاعة فالجواب أن كونه سببا في مضار لا دليل فيه من أوجه أحدها أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوى الطرفين ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع صار ممنوعا من باب سد الذرائع لا من جهة كونه مباحا وعلى هذا يتنزل قول من قال كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به
114البأس وروى مرفوعا وكذلك كل ما جاء من هذا الباب فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف وأيضا فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح كالمال إذا لم تؤد زكاته والخيل إذا ربطها تعففا ولكن نسى حق الله في رقابها وما أشبه ذلك والثانى أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة فليس تركه أفضل بإطلاق بل هو ثلاثة أقسام قسم يكون ذريعة إلى منهى عنه فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به كالمستعان به على أمر أخروى ففى الحديث نعم المال الصالح للرجل الصالح اخرجه احمد بسند جيد وفيه ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم إلى أن قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء رواه مسلم صحيح بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أ اجرا وإن كان قاضيا لشهوته لأنه يكف به عن الحرام وذلك في الشريعة كثير لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به كان لها حكم ما توسل بها إليه وقسم لا يكون ذريعة إلى شىء فهو المباح المطلق وعلى الجملة فإذا فرض ذريعة إلى غيره فحكمه حكم ذلك الغير وليس الكلام فيه والثالث إنه إذا قيل إن ترك المباح طاعة على الإطلاق لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه فهو معارض بمثله فيقال بل فعله طاعة بإطلاق لأن
115كل مباح ترك حرام ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح فقد شغل النفس به عن جميعها وهذا الثانى أولى لأن الكلية هنا تصح ولا يصح أن يقال كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهى عنه بإطلاق فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة وأما قوله إنه سبب في طول الحساب فجوابه من أوجه أحدها أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه لزم أن يكون التارك محاسبا على تركه من حيث كان الترك فعلا ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح وذلك محال فما أدى إليه مثله وأيضا فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب ثم قضى بأن التارك لا يحاسب مع أنه آت بحلال وهو الترك فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض وهذا تناقض من القول والثانى أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك لزم أن يطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها فقد قال تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فقد انحتم على الرسل عليهم الصلاة والسلام أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك وكذلك سائر المكلفين لا يقال إن الطاعات يعارض طلب تركها طلبها لأنا نقول كذلك المباح يعارض طلب تركه التخيير فيه وأن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة والثالث أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال إنه راجع
116إلى أمر خارج عن نفس المباح فإن المباح هو أكل كذا مثلا وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها فإذا روعيت صار الأكل مباحا وإن لم تراع كان التسبب والتناول غير مباح وعلى الجملة فالمباح كغيره من الأفعال له أركان وشروط وموانع ولواحق تراعى والترك في هذا كله كالفعل فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسئولا عنه كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه ولا يقال إن الفعل كثير الشروط والموانع ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك فإن ذلك فيه قليل وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك لأنا نقول حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات كان فعلا أو تركا ولو بمجرد القصد وأيضا فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل من حقوق الله أو حقوق الآدميين أو منهما جميعا يدل عليه قوله إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه اخرجه البخاري وتأمل ح حديث سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما يبين لك هو وما في معناه أن الفعل والترك في المباح على الخصوص لا فرق بينهما من هذا الوجه فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح فالفعل والترك سواء وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا فالفعل والترك أيضا سواء وأيضا إن كان في المباح ما يقتضي الترك ففيه ما يقتضي عدم الترك لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده ألا ترى إلى قوله تعالى والأرض وضعها للأنام إلى قوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وقوله وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه إلى قوله ولعلكم تشكرون وقوله وسخر
117لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الإمتنان بالنعم وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والإنتفاع ثم الشكر عليها وإذا كان هكذا فالترك له قصدا يسأل عنه لم تركته ولأي وجه أعرضت عنه وما منعك من تناول ما أحل لك فالسؤال حاصل في الطرفين وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله وهذه الأجوبة أكثرها جدلي والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه إما في جهة تناوله واكتسابه وإما في جهة الإستعانة به على التكليفات فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به فقد شكر نعم الله وفي ذلك قال تعالى قل من حرم زينة الله إلى قوله خالصة يوم القيامة أي لا تبعة فيها وقال تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وفسره النبي عليه السلام بأنه العرض لا الحساب الذي فيه مناقشة وعذاب وإلا لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة وإليه يرجع قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين أعنى سؤال المرسلين ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات كما سيذكر على إثر هذا والثانى من الأمور المعارضة أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا وذلك منقول عنهم تواترا كترك الترفه في المطعم والمشرب والمركب والمسكن وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب وأبو ذر وسلمان وأبو عبيدة بن الجراح وعلي بن أبى طالب وعمار وغيرهم رضى الله عنهم
118وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب الجهاد وكذلك الداودى في كتاب الأموال ففيه الشفاء ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح ولو كان ترك المباح غير طاعة لما فعلوه والجواب عن ذلك من أوجه أحدها أن هذه أولا حكايات أحوال فالاحتجاج بمجردها من غير نظر فيها لا يجدى إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد وسيأتي إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الإحتجاج والثاني أنها معارضة بمثلها في النقيض فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل ويأكل اللحم ويختص بالذراع وكانت تعجبه وكان يستعذب له الماء وينقع له الزبيب والتمر ويتطيب بالمسك ويحب النساء وأيضا فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين والعلماء المتقين بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ونيل منزلة ودرجة إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم ولا شارك أحد أخاه المؤمن ممن قرب عهده أو بعد في رفده وماله مشاركتهم يعلم ذلك من طالع سيرهم ومع ذلك فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا ولو كان مطلوبا لعلموه قطعا ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء لكنهم لم يفعلوا فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات فنهوا عن ذلك وأدلة هذه الجملة كثيرة وانظر في باب المفاضلة بين الفقر
119والغنى في مقدمات ابن رشد والثالث إذا ثبت أنهم تركوا منه شيئا طلبا للثواب على تركه فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة بل لأمور خارجة وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك منها أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات وحائل دون خيرات فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه من باب التوصل إلى ما هو مطلوب كما كانت عائشة رضي الله عنها يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح فتتصدق به وتفطر على أقل ما يقوم به العيش ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا وهذا هو محل النزاع ومنها أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرا لا يختاره لنفسه بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة فيترك المباح لما يؤديه إليه كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيرة إلى الشام أتي بفرس فلما ركبه فهملج تحته أخبر أنه أحس من نفسه فنزل عنه ورجع إلى حماره وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم حين لبسها النبي فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه وهو المعصوم
120ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع فيترك من حيث هو وسيلة كما قيل إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها وفي الحديث لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس صحيح الاسناد وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية نظر إلى محرم أو تكلم فيما لا يعنيه أو نحوه ومنها أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر لغيره أنه مباح إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة ولم يتخلص له حلة وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف كقوله كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس ولم يتركوا كل ما لا بأس به وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع ومنها أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله إما للعون به على طاعة الله وإما لأنه يحب أن يكون عمله كله خالصا لله لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة أو عونا على عبادة أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني ومن ذلك أن يتركه حتى
121يصير مطلوبا كالأكل والشرب ونحوهما فإنه إذا كان لغير حاجة مباح كأكل بعض الفواكه فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء ثم يأكل قصدا لإقامة البنية والعون على الطاعة وهذه كلها أغراض صحيحة منقولة عن السلف وغير قادحة في مسألتنا ومنها أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة من علم أو تفكر أو عمل مما يتعلق بالآخرة فلا تجده يستلذ بمباح ولا ينحاش قلبه إليه ولا يلقي إليه بالا وهذا وإن كان قليلا فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة بل هو في طاعة بما اشتغل به وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أتيت بمال عظيم فقسمته ولم تبق لنفسها شيئا فعوتبت على تركها نفسها دون شيء فقال لا تعنيني لو كنت ذكرتني لفعلت ويتفق مثل هذا للصوفية وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له هو في حكم المغفول عنه ومنها أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا والإسراف مذموم وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار فيكون التوسط راجعا إلى الإجتهاد بين الطرفين فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف فيتركه لذلك ويظن من يراه ممن ليس ذلك إسرافا في حقه أنه تارك للمباح ولا يكون كما ظن فكل أحد فيه فقيه نفسه والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب وهو شرط من شروط تناول المباح ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك ولا مطلوب الفعل كدخول المسجد لأمر مباح هو مباح ومن
122شرطه أن لا يكون جنبا والنوافل من شرطها الطهارة وذلك واجب ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك واجبين فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم فلا تعدو هذه الوجوه وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم والله أعلم والثالث من الأمور المعارضة ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا وترك لذاتها وشهواتها وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا وذم تاركه على الجملة حتى قال الفضيل بن عياض جعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد وقال الكتاني الصوفي الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ولا مدني ولا عراقي ولا شامي الزهد في الدنيا وسخاوة النفس والنصيحة للخلق قال القشيري يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد إنها غير محمودة والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر والزهد حقيقة إنما هو في الحلال أما الحرام فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام عام في أهل الإيمان ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص وهو الزهد في المباح فأما المكروه فذو طرفين وإذا ثبت هذا فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة وهو لا فائدة فيه ومحال أن يمدح شرعا مع استواء فعله وتركه والجواب من أوجه أحدها أن الزهد في الشرع مخصوص بما طلب تركه حسبما يظهر
123من الشريعة فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات أو لغير ذلك مما تقدم والثاني أن أزهد البشر لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين مع تحققهم في مقام الزهد والثالث أن ترك المباحات إما أن يكون بقصد أو بغير قصد فإن كان بغير قصد فلا اعتبار به بل هو غفلة لا يقال فيه مباح فضلا عن أن يقال فيه زهد وإن كان تركه بقصد فإما أن يكون القصد مقصورا على كونه مباحا فهو محل النزاع أو لأمر خارج فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد وإن كان أخرويا فالترك إذا وسيلة إلى ذلك المطلوب فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب لا من جهة مجرد الترك ولا نزاع في هذا وعلى هذا المعنى فسره الغزالي إذ قال الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فلم يجعله مجرد الإنصراف عن الشيء خاصة بل بقيد الإنصراف إلى ما هو خير منه وقال في تفسيره ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب لغير الأحب محال ثم ذكر أقسام الزهد فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال ومن تأمل كلام المعتبرين فهو دائر على هذا المدار
124فصل وأما كون المباح غير مطلوب الفعل فيدل عليه كثير مما تقدم لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء وقد استدل من قال إنه مطلوب بأن كل مباح ترك حرام وترك الحرام واجب فكل مباح واجب إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح مع قطع النظر عما يستلزم مستوى الطرفين وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح لوجوه أحدها لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة فلا يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا وهذا باطل باتفاق فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة كما تحكم عليها بسائر الأحكام وإن استلزمت ترك الحرام فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم لأنه أمر خارج عن ماهية المباح والثاني أنه لو كان كما قال لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة وذلك باطل على مذهبه ومذهب غيره
125بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف وقد فرضناه واجبا فليس بمباح فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف والثالث أنه لو كان كما قال لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية لإستلزامها ترك الحرام فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة وتصير واجبة فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه فهو باطل لأنه يعتبر جهة الاستلزام فلذلك نفى المباح فليعتبر جهة الاستلزام في الأربعة الباقية فينفيها وهو خلاف الإجماع والمعقول فإن اعتبر في الحرام والمكروه جهة النهي وفي المندوب جهة الأمر كالواجب لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما فإن قال يخرج المباح عن كونه مباحا بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه فذلك غير مسلم وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به والخلاف فيه معلوم فلا نسلم أنه واجب وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ولا في تركه دون فعله بل قصده جعله لخيرة المكلف فما كان من المكلف من فعل أو ترك فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة أيهما فعل فهو قصد الشارع لا أن للشارع قصدا
126في الفعل بخصوصه ولا في الترك بخصوصه لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص وإلى تركه على الخصوص فأما الأول فأشياء منها الأمر بالتمتع بالطيبات كقوله تعالى يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا وقوله يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله وقوله يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إلى أشباه ذلك مما دل الامر به على قصد الإستعمال وأيضا فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها وقررت عليهم فهم منها القصد إلى التنعم بها لكن بقيد الشكر عليها ومنها أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات وجعل ذلك من أنواع ضلالهم فقال تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا أي خلقت لأجلهم خالصة يوم القيامة لإتباعة فيها ولا إثم فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها ومنها أن هذه النعم هدايا من الله للعبد وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد هذا غير لائق في محاسن العادات ولا في مجاري الشرع بل قصد المهدي أن تقبل هديته وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه فليقبل ثم ليشكر له عليها وحديث ابن عمر وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة ظاهر في هذا المعنى حيث قال عليه
127السلام إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه مسلم باسقاط لفظ انها زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ألم تغضب وفي الحديث إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه رواه احمد وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب كالفطر في السفر أو التحريم كما قاله طائفة في قوله من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى آخرها وإذا تعلقت المحبة بالمباح كان راجح الفعل فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة وعلى والخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة كالطلاق السنى فإنه جاء في الحديث وإن لم يصح أبغض الحلال إلى الله الطلاق رواه أبو داود ولذلك لم يأت به صيغة أمر في القرآن ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم وإنما جاء مثل قوله الطلاق مرتان فإن طلقها فلا تحل له من بعد يأيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة وجاء كل لهو
128باطل إلا ثلاثة اخرجه ابن خزيمة وكثير من أنواع اللهو مباح واللعب أيضا مباح وقد ذم فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافى قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا وتركا على غير الجهات المتقدمة والجواب من وجهين أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي فالإجمالي أن يقال إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوى الطرفين فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح وإما لأنه مباح في أصله ثم صار غير مباح لأمر خارج وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة وأما التفصيلي فإن المباح ضربان أحدهما أن يكون خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني أن لا يكون كذلك فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له فيكون مطلوبا ومحبوبا فعله وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه وإباحته بالجزء وهو خادم لأصل ضروري وهو إقامة الحياة فهو مأمور به من هذه الجهة ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب فالأمر به
129راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد لا من حيث هو جزئى معين والثاني إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة أولا يكون خادما لشىء كالطلاق فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلى إقامة النسل في الوجود وهو ضروري ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه كان مبغضا ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى كالشقاق وعدم إقامة حدود الله وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص وفى هذا الزمان مباح وحلال وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا وقد تقدم ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري كالدين على الكافر والتقوى على العاصي كان من تلك الجهة مذموما وكذلك اللهو واللعب والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ولا يلزم عنه محظور فهو مباح ولكنه مذموم ولم يرضه العلماء بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش ولا في إصلاح معاد لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية وفى القرآن ولا تمش في الأرض مرحا إذ يشير إلى هذا المعنى وفي الحديث كل لهو باطل إلا ثلاثة ويعنى بكونه باطلا أنه عبث
130أو كالعبث ليس له فيه فائدة ولا ثمرة تجنى بخلاف اللعب مع الزوجة فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا وهو النسل وبخلاف تأديب الفرس وكذلك اللعب بالسهام فإنهما يخدمان أصلا تكميليا وهو الجهاد فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه وهذا الجواب مبنى على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية فلنضعه هنا وهي المسألة الثانية فيقال إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقى فالمباح يكون مباحا بالجزء مطلوبا بالكل على جهة الندب أوالوجوب ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع فهذه أربعة أقسام فالأول كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والمركب والملبس مما سوى الواجب من ذلك والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه
131فى محاسن العادات كالإسراف فهومباح بالجزء فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه لكان جائزا كما لو فعل فلو ترك جملة لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ففى الحديث إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده رواه البخاري وقوله في الآخر حين حسن من هيئته أليس هذا أحسن اخرجه مالك اليس هذا خيرا وقوله إن الله جميل يحب الجمال اخرجه مسلم وابو داود والترمذي بعد قول الرجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة وكثير من ذلك وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها والثاني كالأكل والشرب ووطء الزوجات والبيع والشراء ووجوه الاكتسابات الجائزة كقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا أحل لكم صيد البحر وطعامه أحلت لكم بهيمة الأنعام وكثير من ذلك كل هذه الأشياء مباحة بالجزء أى إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها فذلك جائز أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان أو تركها بعض الناس لم يقدح ذلك فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا
132لما هو من الضروريات المأمور بها فكان الدخول فيها واجبا بالكل والثالث كالتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح واللعب المباح بالحمام أو غيرها فمثل هذا مباح بالجزء فإذا فعل يوما ما أو في حالة ما فلا حرج فيه فإن فعل دائما كان مكروها ونسب فاعله إلى قلة العقل وإلى خلاف محاسن العادات وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح والرابع كالمباحات التى تقدح في العدالة المداومة عليها وإن كانت مباحة فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئآت أهل العدالة وأجرى صاحبها مجرى الفساق وإن لم يكن كذلك وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا وقد قال الغزالي إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة ومن هنا قيل لا صغيرة مع الإصرار فصل إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها وصلاة الجماعة وصلاة العيدين وصدقة التطوع والنكاح والوتر والفجر والعمرة وسائر النوافل الرواتب
133فإنها مندوب إليها بالجزء ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح فلا تقبل شهادته لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة فهم أن يحرق عليهم بيوتهم كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع من تكثير النسل وإبقاء النوع الإنساني وما أشبه ذلك فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له فلا محظور في الترك فصل إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة وسماع الغناء المكروه فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة فإن داوم عليها قدحت في عدالته وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة لم تقبل شهادته وكذلك اللعب الذى يخرج به عن هيئة أهل المروءة والحلول بمواطن التهم لغير عذر وما أشبه ذلك فصل أما الواجب إن قلنا إنه مرادف للفرض فإنه لا بد أن يكون
134واجبا بالكل والجزء فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي وإذا كان واجبا بالجزء فهو كذلك بالكل من باب أولى ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا أما بحسب الجواز فذلك ظاهر فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف يأثم بتركها ويعد مرتكب كبيرة فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه وما أشبه ذلك فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها وأما بحسب الوقوع فقد جاء ما يقتضى ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه رواه ابن خزيمة في صحيحه وهو على شرط مسلم فقيد بالثلاث كما ترى وقال في الحديث الآخر من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا على شرط مسلم كذلك مع أنه لو تركها مختار غيرمتهاون ولا مستخف لكان تاركا للفرض فإنما
135قال ذلك لأن مرات أولى في التحريم وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر لم تجز شهادته قاله سحنون وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون إذ تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته قاله سحنون وكذلك يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته وصار في عداد من فعل كبيرة بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة وأما إن قلنا إن الواجب ليس بمرادف للفرض فقد يطرد فيه ما تقدم فيقال إن الواجب إذ كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل لا مانع يمنع من ذلك فانظر فيه وفى أمثلته منزلا على مذهب الحنفية وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم فيقال في الفرض إنه يختلف بحسب الكل والجزء كما تقدم بيانه أول الفصل وهكذا القول في الممنوعات أنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما أو في حالة ما فلا تكون كذلك في أحوال أخر بل يختلف الحكم فيها كالكذب من غير عذر وسائر الصغائر مع المداومة عليها فإن المداومة لها تأثير في كبرها وقد ينضاف الذنب إلى الذنب فيعظم بسبب الإضافة فليست
136سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه ولذلك عدوا سرقة لقمة والتطفيف بحبة من باب الصغائر مع أن السرقة معدودة من الكبائر وقد قال الغزالي قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر قال ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق عوده إليها ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره فصل هذا وجه من النظر مبنى على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق ولمدع أن يدعى اتفاق أحكامها وإن اختلفت بالكلية والجزئية أما في المباح فمثل قتل كل مؤذ والعمل بالقراض والمساقاة وشراء العرية والإستراحة بعد التعب حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب والتداوي إن قيل إنه مباح فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من فعلها ولا من تركها إثم ولا كراهة ولا ندب ولا وجوب وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا فهو كما لو فعلوه كلهم وأما في المندوب فكالتداوي إن قيل بالندب فيه لقوله عليه السلام تداووا اخرجه أبو داود عن ابي الدرداء وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية لقوله إذا قتلتم فأحسنوا القتلة رواه الخمسة الا البخاري فإن هذه
137الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها ولا ممنوعا وكذلك لو فعلها دائما وأما في المكروه فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ والاستجمار بالحممة والعظم وغيرهما مما ينقى إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن فليس النهى عن ذلك نهى تحريم ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ولا يؤثم وكذلك البول في الجحر واختناث الأسقية في الشرب وأمثال ذلك كثيرة وأما في الواجب والمحرم فظاهر أيضا التساوي فإن الحدود وضعت على التساوي فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة وقاذف الواحد كقاذف الجماعة وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس في إقامة الحدود عليهم وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك وما أشبه ذلك وأيضا فقد نص الغزالى على أن الغيبة أو سماعها والتجسس وسوء الظن وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها لأنها غالبة في الناس على الخصوص كما كانت الفلتات في غيرها غالبة فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات فإذا ثبت هذا استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل
138أما الأول فإن الكلي والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والمكلفين ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس خف الخطب فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك داخلهم الحرج من وجوه عدة والشرع طالب لدفع الحرج قطعا فصال الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد فيكون الفعل إذا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا وهكذا العمل بالقراض وما ذكر معه فلا استواء إذا بين الكلي والجزئي فيه وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعى وناهيك به نعم قد يسبق ذلك النظر إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي وأما إذا تباعد ما بينهما فالواقع ما تقدم ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه وأما ما ذكره في الواجب والمحرم فغير وارد فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر وان اتفقت في بعض وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة وإن سلم ففى العدالة وحدها لمعارض راجح وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة فتعذرت الشهادة فصل إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة فقد يطلب الدليل على صحتها والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير بل
139هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مورادها ومصادرها ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب وانشراح الصدر فيدل على ذلك جمل منها ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان مما لا يجرح به لولم يداوم عليه وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة ولولا أن للمداومة تأثيرا لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه وما لم يداوم عليه من الأفعال لكنهم اعتبروا ذلك فدل على التفرقة وأن المداوم عليه أشد وأحرى منه إذا لم يداوم عليه وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية وهذا المسلك لمن اعتبره كاف ومنها أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات إذ مجارى العادات كذلك جرت الأحكام فيها ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد كالحكم بالشهادة وقبول خبر الواحد مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد لكن الغالب الصدق فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم ولا طرح الظن باطلاق وليس كذلك بل حكم بمقتضى ظن الصدق وإن برز بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية في حكم الكلية وهو دليل على صحة اختلاف الفعل
140الواحد بحسب الكلية والجزئية وأن شأن الجزئية أخف ومنها ما جاء في الحذر من زلة العالم في علمه أو عمله إذا لم تتعد لغيره في حكم زلة غير العالم فلم يزد فيها على غيره فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والإتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول فصارت عند الإتباع عظيمة جدا ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه إن صالحا فصالح وإن طالحا فطالح وفيه جاء من سن سنة حسنة أو سئية اخرجه مسلم وأن نفسا لا تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل رواه الخمسة وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب وإن كانت في نفسها صغيرة والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية وهو المطلوب المسألة الثالثة المباح يطلق بإطلاقين أحدهما من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك والآخر من حيث يقال لا حرج فيه وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام
141أحدها أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل والثاني أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك والثالث أن يكون خادما لمخير فيه والرابع أن لا يكون فيه شىء من ذلك فأما الأول فهو المباح بالجزء المطلوب الفعل بالكل وأما الثاني فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل بمعنى أن المداومة عليه منهى عنها وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني ومعنى هذه الجملة أن المباح كما مر يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك كترك الدوام على التنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح فإن ذلك هو المطلوب وقد تكون في طرف الفعل كالاستمتاع بالحلال من الطيبات فإن الدوام فيه
142بحسب الإمكان من غير سرف مطلوب من حيث هو خادم لمطلوب وهو أصل الضروريات بخلاف المطلوب الترك فإنه خادم لما يضادها وهو الفراغ من الأشتغال بها والخادم للمخير فيه على حكمه وأما الرابع فلما كان غير خادم لشىء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء فصار مطلوب الترك أيضا لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا فهو إذا خادم لمطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له فصار مطلوب الترك أيضا وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق وإنما هو مباح بالجزء خاصة وأما بالكل فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك فإن قيل أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوى الطرفين فالجواب أن لا
143لأن ذلك الذى تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه من غير اعتبار أمر خارج وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه فإذا نظرت إليه في نفسه فهو الذى سمى هنا المباح بالجزء وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة فهو المسمي بالمطلوب بالكل فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه فلا قصد له في أحد الأمرين وهذا معقول واقع بهذا الإعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد وموار للسوأة وجمال في النظر مطلوب الفعل وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ولا بهذا الوقت المعين فهو نظر بالكل لا بالجزء المسألة الرابعة إذا قيل في المباح إنه لا حرج فيه وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك لوجوه أحدها أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك كقوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقوله وكلا منها رغدا حيث شئتما وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا والآية الأخرى في معناها فهذا تخيير
144حقيقة وأيضا فالأمر في المطلقات إذا كان الأمر للإباحة يقتضي التخيير حقيقة كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله كلوا من طيبات ما رزقناكم وما أشبه ذلك فإن إطلاقة مع أنه يكون على وجوه واضح في التخيير في تلك الوجوه إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه وجاء وإذا رأو تجارة أو لهوا انفضوا إليها وهو الطبل أو ما في معناه وقال تعالى ومن الناس من يشترى لهو الحديث وما تقدم من قول بعض الصحابة حدثنا يا رسول الله حين ملوا ملة فأنزل الله عز وجل الله نزل أحسن الحديث وفي الحديث كل لهو باطل تقدم في المسألة السابقة وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجمتع مع التخيير في الغالب فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر وما سكت عنه فهو عفو أي مما عفي عنه وهذا
145إنما يعبر به في العادة إشعارا بأن فيه ما يعفى عنه أو ما هو مظنة عنه أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات وحاصل الفرق أن الواحد صريح في رفع الإثم والجناح وإن كان قد يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة وأما الإذن فمن باب مالا يتم الواجب إلا به أو من باب الأمر بالشىء هل هو نهي عن ضده أم لا والنهي عن الشىء هل هو أمر بأحد أضداده أم لا والآخر صريح في نفس التخيير وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة وأما رفع الحرج فمن تلك الأبواب والدليل عليه أن رفع الجناح قد يكون مع الواجب كقوله تعالى فلا جناح عليه أن يطوف بهما وقد يكون مع مخالفة المندوب كقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فلو كان رفع للجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك لم يصح مع الواجب ولا مع مخالفة المندوب وليس كذلك التخيير المصرح به فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك ولا مندوبا وبالعكس
146والثاني أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك وأنهما على سواء في قصد ورفع الحرج مسكوت عنه وأما لفظ رفع الجناح فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه فيمكن أن يكون مقصودا له لكن بالقصد الثاني كما في الرخص فإنها راجعة إلى رفع الحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر وبالعكس فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع لاحرج فيه فلا يؤخذ منه حكم الإباحة إذ قد يكون كذلك وقد يكون مكروها فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه فليتفقد هذا في الأدلة والوجه الثالث مما يدل على أن مالا حرج فيه غير مخير فيه على الإطلاق أن المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل صار خارجا عن محض اتباع الهوى بل اتباع الهوى فيه مقيد وتابع بالقصد الثاني فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء ولما كان مطلوبا بالكل وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات والقصد إليها في التكاليف فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه ولا هو مضاد له بل هو مؤكد له فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي فلا ضرر في اتباع الهوى هنا لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء وإنما اتباع الهوى فيه خادم له
147وأما قسم ما لا حرج فيه فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة لكنه لقلته وعدم دوامه ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه لم يحفل به فدخل تحت المرفوع الحرج إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا وإن كان فتحا لبابه في الجملة فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي حتى يجتمع مع غيره من جنسه والإجتماع مقو ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه وهو المضاد للمطلوب فعله وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول تحت كلي أمر اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون مخيرا فيه فتصريح بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى وأنه مضاد للشريعة المسألة الخامسة إن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر والدليل على ذلك أن المباح كما تقدم هو ما خير فيه بين الفعل والترك بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام فهو إذا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ولا حاجي ولا تكميلي من حيث هو جزئي فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة وكذلك المباح الذي يقال لا حرج فيه أولى أن يكون راجعا إلى الحظ وأيضا فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري
148أو حاجي أو تكميلي وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه فما خرج عن ذلك فهو مجرد نيل حظ وقضاء وطر فإن قيل فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف ولعل بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ فالجواب أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جىء بها لمصالح العباد فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض غير أن الحظ على ضربين أحدهما داخل تحت الطلب فللعبد أخذه من جهة الطلب فلا يكون ساعيا في حظه وهو مع ذلك لا يفوته حظه لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه وهذا معنى كونه بريئا من الحظ وقد يأخذه من حيث الحظ إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب فطلبه من ذلك الوجه صار حظه تابعا للطلب فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ وسمي باسمه وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب وبالله التوفيق والثاني غير داخل تحت الطلب فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض فهو قد أخذه إذا من جهة حظه فلهذا يقال في المباح إنه العمل المأذون فيه المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة
149المسألة السادسة الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد فإدا عريت عن المقاصد لم تتعلق بها والدليل على ذلك أمور أحدها ما ثبت من أن الأعمال بالنيات وهو أصل متفق عليه في الجملة والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة أما في غير ذلك فالقاعدة مستمرة وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا فكذلك ما كان مثلها والثاني ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والنائم والصبي والمغمى عليه وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها جائز أو ممنوع أو واجب أو غير ذلك كما لا اعتبار بها من البهائم وفي القرآن وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وقال ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال قد فعلت وفي معناه روى الحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه حديث صحيح وإن لم
150يصح سندا فمعناه متفق على صحته وفي الحديث أيضا رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمغمى عليه حتى يفيق رواه احمد وابن خزيمة فجميع هؤلاء لا قصد لهم وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم والثالث الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق فإن قيل هذا في الطلب وأما المباح فلا تكليف فيه قيل متى صح تعلق التخيير صح تعلق الطلب وذلك يستلزم قصد المخير وقد فرضناه غير قاصد هذا خلف ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين وغير ذلك لأن هذا من قبيل خطاب الوضع وكلامنا في خطاب التكليف ولا بالسكران لقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون وفي سواهما لما أدخل السكر على نفسه كان كالقاصد
151لرفع الأحكام التكليفية فعومل بنقيض المقصود أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة فصار استعماله له تسببا في تلك المفاسد فيؤآخذه الشرع بها وإن لم يقصدها كما وقعت مؤآخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما وكما يؤآخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم ونظائر ذلك كثيرة فالأصل صحيح والإعتراض عليه غير وارد المسألة السابعة المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الإعتبار المتقدم وجدته خادما للواجب لأنه إما مقدمة له أو تذكار به كان من جنس الواجب أولا فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها ونوافل الصيام والصدقة والحج وغير ذلك مع فرائضها والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى والسواك وأخذ الزينة وغير ذلك مع الصلاة وكتعجيل الإفطار وتأخير السحور وكف اللسان عما لا يعنى مع الصيام وما أشبه ذلك فإذا كان كذلك فهو لاحق بقسم الواجب بالكل وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء ويحتمل هذا المعنى تقريرا ولكن ما تقدم مغن عنه بحول الله
152فصل المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع كان كالمندوب مع الواجب وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا وهو أعظمها ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود كطهارة الحدث وستر العورة واستقبال القبلة والأذان للتعريف بالأوقات وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب يكون وجوبه بالجزء دون وجوبه بالكل وكذلك بعض الممنوعات منه ما يكون مقصودا ومنه ما يكون وسيلة له كالواجب حرفا بحرف فتأمل ذلك المسألة الثامنة ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا ولا عتب ولا ذم وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا لأمرين أحدهما أن حد الوقت إما أن يكون لمعنى قصده الشارع أو لغير معنى وباطل أن يكون لغير معنى فلم يبق إلا أن يكون لمعنى وذلك المعنى هو أن يوقع الفعل فيه فإذا وقع فيه فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت وهو
153يقتضى قطعا موافقه الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه فلو كان فيه عتب أو ذم للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذى وقع فيه العتب بسببه وقد فرضناه موافقا هذا خلف والثاني أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الجزء من الوقت الذى وقع فيه العتب ليس من الوقت المعين لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا والعتب مع التخيير متنافيان فلا بد أن يكون خارجا عنه وقد فرضناه جزءا من أجزائه هذا خلف محال وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل فإن قيل قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها وهو أصل قطعى وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض ولا ببعض الأحوال دون بعض إذا كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلابد فالمقصر عنه معدود في المقصرين والمفرطين ولا شك أن من كان هكذا فالتعب لاحق به في تفريطه وتقصيره فكيف يقال لا عتب عليه ويدل على تحقيق هذا ما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه لما سمع قول النبى أول الوقت رضوان الله وآخره عفوا الله رواه الترمذي قال رضوان الله أحب الينا من عفوه فإن رضوانه للمحسنين وعفوه عن المقصرين وفى مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا فقد قال في المسافرين يقدمون الرجل لسنه يصلي بهم فيسفر بصلاة الصبح قال يصلي الرجل وحده في أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة فقدم كما ترى
154حكم المسابقة ولم يعتبر الجماعة التى هي سنة يعد من تركها مقصرا فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء فلم يصمه حتى مات فعليه الإطعام وجعله مفرطا كمن صح أو قدم في شعبان فلم يصمه حتى دخل رمضان الثانى مع أن القضاء ليس على الفور عنده قال اللخمى جعله مترقبا ليس على الفور ولا على التراخي فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان فلا إطعام لأنه غير مفرط وإن مات قبل شعبان فمفرط وعليه الإطعام نحو قول الشافعية في الحج إنه على التراخى فإن مات قبل الأداء كان آثما فهذا أيضا رأي الشافعية مضاد لمقتضى الأصل المذكور فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا إما بالنص وإما بالإجتهاد ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا بل آثما في بعضها وذلك مضاد لما تقدم فالجواب أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر غير أن ما عين له وقت معين من الزمان هل يقال إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة فيكون الأصل المذكور شاملا له أم يقال ليس شاملا له والأول هو الجارى على مقتضى الدليل فيكون قوله عليه السلام حين سئل عن أفضل الأعمال فقال الصلاة لأول وقتها ذكره أبو داود والترمذي في الترغيب والترهيب يريد به وقت الاختيار مطلقا ويشير إليه أنه عليه السلام حين علم الأعرابي الأوقات صلى فى
155أوائل الأوقات وأواخرها وحد ذلك حدا لا يتجاوز ولم ينبه فيه على تقصير وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضرورات إذا صلى فيها من لا ضرورة له إذ قال تلك صلاة المنافقين عن الستة الا البخاري الحديث فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذى تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان فإنما ينبغى أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدود وعند ذلك يسمى مفرطا ومقصرا وآثما أيضا عند بعض الناس وكذلك الواجبات الفورية وأما المقيدة بوقت العمر فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة في أول أزمنة الإمكان فإن العاقبة مغيبة فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدى ذلك المطلوب فلم يفعل مع سقوط الأعذار عد ولابد مفرطا وأثمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره فإن آخره غير معلوم وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور فلا تعود عليه بنقض وأيضا فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة فإن للمكلف الإختيار في الأشياء المخير فيها وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض كما يقول بذلك في الإطعام في كفارة رمضان مع وجود التخيير في الحديث وقول مالك به وكذلك العتق في كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما هو مخير في أي الرقاب شاء مع أن الأفضل أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه ولا يعد مختار غير الأعلى
156مقصرا ولا مفرطا وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين وما أشبه ذلك من المطلقات التى ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها مع حصول الفضل في الأعلى منها وكما أن الحج ماشيا أفضل ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ولامقصرا وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها ولا يعد من كان جار المسجد بقلة خطاه له مقصرا بل المقصر هو الذى قصر عما حد له وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه وليس في مسألتنا ذلك وأما حديث أبى بكر رضي الله عنه فلم يصح وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار وإن سلم فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر وأما المسائل مالك فلعل استحبابه لتقديم الصلاة وترك الجماعة مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة وكان الإمام قد أخر إليه وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان بناء على القول بالفور في القضاء فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال فلا اعتراض بذلك وبالله التوفيق المسألة التاسعة الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين كانت من حقوق الله كالصلاة والصيام والحج أو من حقوق الآدميين كالديون والنفقات والنصيحة وإصلاح ذات البين وما أشبه ذلك أحدهما حقوق محدودة شرعا والآخر حقوق غير محدودة فأما المحدودة المقدرة فلازمة لذمة المكلف مترتبهة عليه دينا حتى يخرج عنها كأثمان المشتريات وقيم المتلفات ومقادير الزكوات وفرائض الصلوات وما أشبه ذلك فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا
157عليه والدليل على ذلك التحديد والتقدير فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ولا يسقط عنه إلا بدليل وأما غير المحدودة فلازمه له وهو مطلوب بها غير أنها لا تترتب في ذمته لأمور أحدها أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة إذ المجهول لا يترتب في الذمة ولا يعقل نسبته إليها فلا يصح أن يترتب دينا وبهذا استدللنا على عدم الترتب لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار والتكليف بأداءنا لا يعرف له مقدار تكليف بمتعذر الوقوع وهو ممتنع سمعا ومثاله الصدقات المطلقة وسد الخلات ودفع حاجات المحتاجين وإغاثة الملهوفين وإنقاذ الغرقى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدخل تحته سائر فروض الكفايات فإذا قال الشارع أطعموا القانع والمعتر أو قال أكسوا العارى أو أنفقوا في سبيل الله فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه وسد خلته بمقتضى ذلك الإطلاق فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التى من أجلها أمر ابتداء والذى هو كاف يختلف بإختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع فيحتاج إلى مقدار من الطعام فإذا تركه حتى أفرط
158عليه احتاج إلى أكثر منه وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به فإذا كان المكلف به يختلف بإختلاف الأحوال والأزمان لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة وهذا معنى كونه مجهولا فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثانى مكلفا بشىء آخر لا بالأول أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة والثانى أنه لو ترتب في ذمته أمر لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ثم لم يفعل فترتب في ذمته ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد فأما أن يقال إنه مكلف أيضا بسدها أولا والثانى باطل إذ ليس هذا الثانى بأولى بالسقوط من الأول لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف والخلة باقية هذا محال فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية وهذا غير معقول في الشرع والثالث أن هذا يكون عينا أو كفاية وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين وهو باطل لا يعقل وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد أوغير مقسط فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم وهو باطل كما تقدم والرابع لو ترتب في ذمته لكان عبثا ولا عبث في التشريع فإنه
159إذا كان المقصود دفع الحاجة فعمران الذمة ينافي هذا المقصد إذ المقصود إزالة هذا العارض لا غرم قيمة العارض فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب كان عبثا غير صحيح لا يقال إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها إذ المقصود بها سد الخلات وهى تترتب في الذمة لأنا نقول نسلم أن المقصود ما ذكرت ولكن الحاجة التى تسد بالزكاة غير متعينه على الجملة ألا ترى أنها تؤدي اتفاقا وأن لم تظهر عين الحاجة فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها بخلاف ما نحن فيه فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب فالمال غير مطلوب لنفسه فيها فلو ارتفع العارض بغير شىء لسقط الوجوب والزكاة ونحوها لا بد من بذلها وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ولذلك عينت وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم فإن قيل لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة لكان مانعا من أصل التكليف أيضا لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه وما أشبه ذلك لكان تكليفا بما لا يطاق إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي
160وإذا علم بالوحي صار معلوما لا مجهولا والتكليف بالمعلوم صحيح هذا خلف فالجواب أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع كما لو قال أعتق رقبة وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان فهذا هو الممتنع أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف فالتكليف به صحيح كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقى فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة فما لم يتعين خلة فلا طلب فإذا تعينت وقع الطلب هذا هو المراد هنا وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين فلم يتمحض لأحدهما هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب والزوجات ولأجل ما فيه من الشبه بالضر بين اختلف الناس فيه هل له ترتب في الذمة أم لا فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ولذلك محض بالتقدير والتعيين والثانى لاحق بقاعدة التحسين والتزيين ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين فلا بد فيه من النظر في كل وافعة على التعيين والله أعلم فصل وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين وحاصل
161الثانى إقامة الأود العارض في الدين وأهله إلا أن هذا الثانى قد يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية كالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وأما إذا لم يتحتم فهو مندوب وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان فتأمل هذا الموضع وأما الضرب الثالث فآخذ شبها من الطرفين أيضا فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء والله أعلم المسألة العاشرة يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ومن الدليل على ذلك أوجه أحدها ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين
162مع القصد إلى الفعل وأما دون ذلك فلا وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ممن شأنه أن تتعلق به فهو معنى العفو المتكلم فيه أي لا مؤآخذة به والثانى ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص فقد روى عن النبى أنه قال إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها رواه الدارقطني ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها رواه الدارقطني وقال ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلها في القرآن يسألونك عن المحيض و يسألونك عن اليتامى و يسألونك عن الشهر الحرام ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم يعنى أن هذا كان الغالب عليهم وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال مالم يذكر في القرآن فهو مما عفا الله عنه وكان يسأل عن الشىء لم يحرم فيقول عفو وقيل له ما تقول في أموال أهل الذمة فقال العفو يعنى لا تؤخذ منهم زكاة وقال عبيد ابن عمير أحل الله حلالا وحرم حراما فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو والثالث ما يدل على هذا المعنى في الجملة كقوله تعالى عفا الله عنك
163لم آذنت لهم الآية فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص وقد ثبت في الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون ومنه قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم بناء على حكم البراءة الأصلية إذ هى راجعة إلى هذا المعنى ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها وقد قال إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شىء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته وقال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبياءهم ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقرأ عليه السلام قوله تعالى ولله على الناس حج البيت الآية فقال رجل يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام فقال رسول الله والذى نفسى بيده لو قلتها لو جبت ولو جبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم فذروني ما تركتكم ثم ذكر معنى ما تقدم وفى مثل هذا نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية ثم قال عفا الله عنها أى عن تلك الأشياء فهى إذا عفو وقد كره عليه السلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسأل عن شىء فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شىء إلا أخبرتكم به ما دامت في مقامى هذا قال أنس فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك وأكثر رسول الله أن يقول سلوني فقام
164عبدالله بن حذافة السهمي فقال من أبي قال أبوك حذافة فلما أكثر أن يقول سلوني برك عمر بن الخطاب على ركبتيه فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا قال فسكت رسول الله حين قال عمر ذلك فنزلت الآية وقال أولا والذي نفسي بيدي لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر وظاهر من هذا المساق أن قوله سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ولأجل ذلك جاء قوله تعالى إن تبد لكم تسؤكم وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه وهو ما نهى عن السؤال عنه فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته وإن فرض أن الإحتمال الآخر مراد فهو مما يعفى عنه ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاؤا شدد عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه وعن حكمه ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة وأنها ليست من الأحكام الخمسة فصل ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة منها ما يكون متفقا عليه ومنها ما يختلف فيه فمنها الخطأ والنسيان فإنه متفق على عدم المؤاخذة