الرئيسيةبحث

مناهج البلغاء وسراج الأدباء

منهاج البلغاء وسراج الأدباء
المؤلف: حازم القرطاجني


منهاج البلغاء وسراج الأدباء

المعاني

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا ومولانا محمد.

قال الإمام الحافظ البليغ الحجة في مقام الأدب ومضماره حازم بن محمد القرطاجني.

أو منافرة لها (......) إلى (......) صحيح (......) .

المنهاج الأول في الإبانة عن ماهيات المعاني وأنحاء وجودها ومواقعها, و (ال) تعريف بضروب هيئاتها و (جهات) التصرف فيها وما تعتبر (به) أحوالها في جميع ذلك, من حيث تكون (ملائمة) للنفوس أو منافرة لها.

أ- معلم (دال) على طرق (العلم بالمعاني) وحقائقها وأنحاء (النظر) فيها (وبما ينبغي) أن تعتبر به أحوالها, من جهة ما يرجع إليها وما هو خارج (عنها) (......) هنالك موجودات خارج الذهن عن أمثلة لها وجود (......) وهي الهيئات النطقية.

لما كانت المعاني إنما (تتحصل) في الأذهان عن الأمور الموجودة في الأعيان وكانت تلك (المعاني) إنما تتحصل في الذهن بأعلام من العبارة توضع للدلالة (......) عن علم على صورة صورة منها, فتتمثل بحصول تلك الصورة في ال (......) الموجودة في الأعيان التي تلك الصور الحاصلة في الذهن (......) كانت تلك الصور الذهنية إنما يتخيل بها ما هي صور (......) (خارجة) عن الذهن (بوجه) مخصوص وترتيب مخصوص (......) تلك الصور الذهنية في الألفاظ إنما تدل على (......) .

(......) عليها هو الذي ران على قلوب شعراء المشرق المتأخرين (وأعمى) بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مائتي سنة. فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا نحو الفحول ولا من ذهب مذاهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها. فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم. هذا على كثرة المبدعين المتقدمين في الرعيل الأول من قدمائهم والحلبة السابقة زمانا وإحسانا منهم.

المنهج الثاني في الإبانة عن طرق اجتلاب المعاني وكيفيات التئامها وبناء بعضها على بعض, وما تعتبر به أحوالها في جميع ذلك, من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.

ب- معلم علة طرق العلم باقتباس المعاني وكيفية اجتلابها وتأليف بعضها إلى بعض.

يحب على من أراد جودة التصرف في المعاني وحسن المذهب في اجتلابها والحذق بتأليف بعضها إلى بعض أن يعرف أن للشعراء أغراضا أول هي الباعثة على قول الشعر. وهي أمور تحدث عنها تأثرات وانفعالات للنفوس, لكون تلك الأمور مما يناسبها ويبسطها أو ينافرها ويقبضها أو لاجتماع البسط والقبض والمناسبة والمنافرة في الأمر من وجهين. فالأمر قد (يبسط) النفس ويؤنسها بالمسرة والرجاء ويقبضها بالكآبة والخوف. وقد يبسطها أيضاً بالاستغراب لما يقع فيه من اتفاق بديع. وقد يقبضها ويوحشها بصيرورة الأمر من مبدإ سار إلى مآل غير سار. وإذا ارتيح للأمر من جهة واكترث له من جهة على نحو ما (......) جرى مجرى ذلك كانت أقوالا شاجية.

1- إضاءة: والارتياح للأمر السار إذا كان صادرا عن قاصد لذلك أرضى فحرك إلى المدح. والارتماض للأمر الضار إذا كان صادرا عن قاصد لذلك أغضب فحرك إلى الذم. وتحرك الأمور غير المصودة أيضا, من جهة ما تناسب النفس وتسرها ومن جهة ما تنافرها وتضرها, إلى نزاع إليها أو نزوع عنها وحمد وذم أيضا. وإذا كان الارتياح لسار مستقبل فهو رجاء. وإذا كان الارتماض لضار مستقبل كانت تلك رهبة. وإذا كان الارتماض لانقطاع أمل في شيء كان يؤمل, فإن نحي في ذلك منحى التصبر والتجمل سمي تأسيا أو تسليا, وإن نحي به منحى الجزع والاكتراث سمي تأسفا أو تندما. ويسمى استدفاع المخوف المستقبل استلطافا. وإذا استدفع المتكلم ذلك فأسعف به وضمن وصف الحال في ذلك كلاما سمي إعتابا. والتعزير على الأمر المرتمض منه والملامة فيه تسمى معاتبة. فإن كان الارتياح لأمر شأنه أن يسر محضره إلا أنه يكون بعيدا من المتكلم, من جهة زمان ماض أو مستقبل أو مكان أو إمكان, حرك ذلك إلى الاستراحة لذكره والتشوف إليه, فتكون الأقوال في الأشياء التي علقتها بأغراض النفوس على هذا النحو متنوعة إلى فنون كثيرة نحو التشوقيات والإخوانيات وما جرى مجرى ذلك.

2- تنوير: فقد تبين بهذا أن أغراض الشعر أجناس وأنواع تحتها أنواع. فأما الأجناس الأول فالارتياح والاكتراث وما تركب منهما نحو إشراب الارتياح الاكتراث أو إشراب الاكتراث الارتياح, وهي الطرق الشاجية. والأنواع التي تحت هذه الأجناس هي: الاستغراب والاعتبار والرضى والغضب والنزاع والنزوع والخوف والرجاء. والأنواع الأخر التي تحت تلك الأنواع هي: المدح والنسيب والرثاء والتذكرات وأنواع المشاجرات وما جرى مجرى هذه الطرق من المقاصد الشعرية. وسيأتي تفصيل هذه الجملة في موضعها في القسم الرابع إن شاء الله.

3- إضاءة: فمعاني الشعر, على هذا القسم, ترجع إلى وصف أحوال الأمور المحركة إلى القول أو إلى وصف أحوال المتحركين لها أو إلى وصف أحوال المحركات والمحركين معا. وأحسن القول وأكمله ما اجتمع فيه وصف الحالين.

4- تنوير: ولا يخلو الشيء في جميع تلك الأحوال من أن ينسب إلى الشيء بإيجابه له أو تزال نسبته إليه بسلبه عنه أو ينسب إليه لا على جهة إيجاب ولا سلب ولكن على جهة الاحتمال والإمكان. وكل ذلك لا تخلو أن تكون راجعة إلى ما يرجع إلى الشيء ويخصه في ذاته أو يكون غير راجع إلى ما يخصه في ذاته بل لأمر عرض له من غيره أو لما تدركه منه القوى الحسية أو التصورية أو بحسب نسبته إلى شيء تأخر في زمان أو مكان أو بحسب موقعه من اعتقاد ما أو بحسب ما يجعل شرطه فيه أو بحسب مقايسته بشيء آخر أو بحسب الفرض.

5- إضاءة: والمتصرف في هذه المعاني لا يخلو من أن يكون مثبتا لشيء ببعض تلك الاعتبارات أو مبطلا أو مسويا بين شيئين أو مباينا بينهما أو مرجحا أو متشككا, ولا يخلو من أن يكون معمما أو خاصا حاصرا أو غير حاصر آخذا للشيء بجملته أو محاشيا بعضه. وللعبارة عن جميع ذلك أدوات وضعت للاختصار. وقد يعبر عن جميع ذلك بغير تلك الأدوات. فهذه وأشباهها من المعاني, التي تدل على مقاصد المتكلم واعتقاداته وأحكامه في التصورات والتصديقات المتعلقات بغرضه, معان ثوان ينوطها بمعاني كلامه لتبين فيها أحكاما وشروطا.

6- تنوير: وهنا معان أخر, وهي أنحاء المخاطبات مثل أن يكون المتكلم مخبرا أو مستخبرا آمرا أو ناهيا داعيا أو مجيبا.

7- إضاءة: فقد تبين بهذا أن المعاني صنفان: وصف أحوال الأشياء التي فيها القول, ووصف أحوال القائلين أو المقول على ألسنتهم, وأن هذه المعاني تلتزم معاني أخر تكون متعلقة بها ومتلبسة بها, وهي كيفيات مآخذ المعاني وموقعها من الوجود أو الفرض أو غير ذلك ونسب بعضها إلى بعض, ومعطيات تحديداتها وتقديراتها, ومعطيات الأحكام والاعتقادات فيها, ومعطيات كيفيات المخاطبة.

8- تنوير: ويجب على من أراد حسن التصرف في المعاني, بعد معرفة ضروبها التي أجملت ذكرها, أن يعرف وجوه انتساب بعضها إلى بعض. فيقول: إنه قد يوجد لكل معنى من المعاني التي ذكرتها معنى أو معان تناسبه وتقاربه, ويوجد له أيضاً معنى أو معان تضاده وتخالفه. وكذلك يوجد لمضاد هـ في أكثر الأمر معنى أو معان تناسبه. ومن المتناسبات ما يكون تناسبه بتجاور الشيئين واصطحابهما واتفاق موقعيهما من النفس, ومنه ما تكون المناسبة باشتراك الشيئين في كيفية, ولا يشترط فيه التجاور ولا الاتفاق في الموقع من هوى النفس. وما جعل فيه أحد المتناسبين على هذه الصفة مثالا للآخر ومحاكيا له فهو تشبيه.

9- إضاءة: فإذا أردت أن تقارن بين المعاني وتجعل بعضها بإزاء بعض وتناظر بينها فانظر مأخذ يمكنك معه أن تكون المعنى الواحد وتوقعه في حيزين, فيكون له في كليهما فائدة, فتناظر بين موقع المعنى في هذا الحيز وموقعه في الحيز الآخر فيكون من اقتران التماثل, أو مأخذا يصلح فيه اقتران المعنى بما يناسبه فيكون هذا من اقتران المناسبة, أو مأخذا يصلح فيه اقتران المعنى بمضادة فيكون (هذه مطابقة أو مقابلة, أو مأخذا يصلح فيه اقتران الشيء بما يناسب) مضاده فيكون هذا مخالفة, أو مأخذا يصلح فيه اقتران الشيء بما يشبهه ويستعار اسم أحدهما للاخر فيكون هذا من تشافع الحقيقة والمجاز.

10- تنوير: وقد يكون المأخذ في العبارة المقترن فيها معنيا بأحد هذه الاقترانات على أن يكون كلا المعنيين عمدة في الكلام وركنا يثلم الغرض إزالته. وقد يكون المأخذ فيها على أن يكون أحد المعنيين عمدة والآخر فضلة أو كالفضلة لضروب من التتميميات والتعريضات وتحقيق صحة مفهوم أحدهما ببيان الصحة في مفهوم الآخر كمن يقول: العفاف فضيلة كما أن الفسوق رذيلة.

11- إضاءة: وإذ قد عرفنا كيفية التصرف في المعاني التي لها وجود خارج الذهن والتي جعلت بالفرض بمنزلة ما له وجود خارج الذهن فيجب أيضاً أن (يشار) إلى المعاني التي ليس لها وجود خارج الذهن أصلا, وإنما هي أمور ذهنية محصولها صور تقع في الكلام بتنوع طرق التأليف في المعاني والألفاظ الدالة عليها والتقاذف بها إلى جهات من الترتيب والإسناد, وذلك مثل أن تنسب الشيء إلى الشيء على جهة وصفه به أو الإخبار به عنه أو تقديمه عليه في الصورة المصطلح على تسميتها فعلا أو نحو ذلك. فالإتباع والجر وما جرى مجراهما معان ليس لها خارج الذهن وجود لأن الذي خارج الذهن هو ثبوت نسبة شيء إلى شيء أو كون الشيء لا نسبة له على الشيء. فأما أن يقدم عليه أو يؤخر عنه أو يتصرف في العبارة عنه نحوا من هذه التصاريف فأمور ليس وجودها إلا في الذهن خاصة.

12-تنوير: وإذ قد تبين هذا فيجب أن نشير إلى ما يحسن اعتماده في التصرف في هذه المعاني الذهنية. وإن تعددت في الشيء الواحد بحسب وضعه (و) ترتيبه فالواجب أن يعتمد من تلك الصور المتعددة وإن استوت دلالة ومعنى به يليق (......) عبارة لا تسد مسد عبارة في حسن وقع وإن كان مفهومهما واحدا, لان إحداهما أليق بالموضع وأشدهما مناسبة لما وقع في جنبتي الكلام المكتنفتين له أو لما وقع (......) إحداهما. ويكون هذا التناسب يقع بين المفهومات أو بين المسموعات الدالة عليها.

13- إضاءة: ويحسن أيضاً أن يقصد تنويع الكلام من جهة الترتيبات الواقعة في عباراته وفي ما دلت عليه بالوضع في جميع ذلك والبعد به عن التواطؤ والتشابه, وأن يؤخذ الكلام من كل مأخذ حتى يكون كل مستجدا بعيد من التكرار, فيكون أخف على النفس وأوقع منها بمحل القبول. ويقتدر على هذا بعرفتة كيفيات تصاريف العبارات وهيآت ترتيبها وترتيب ما دلت عليه, والبصيرة بضروب تركيباتها وشتى مآخذها, وبقوة ملاحظات الخواطر لضروب تلك العبارات وأصناف هيآتها وهيآت ما دلت عليه, وللحيل التي تنتظم بها تلك العبارات على الهيآت المختارة لمسلك الوزن باختصار أو حشو أو إبدال لفظة مكان لفظة أو تقديم أو تأخير, وبسرعة التنبه للموضع الذي تطابقه العبارة من الوزن في ترتيب الحركات والسكنات فيطبعها في ذلك الموضع ويصلها بما قبلها بزيادة أو نقص أو إبدال أو غير ذلك. وإن اتفق ألا يحتاج في صلتها بما قبلها إلى شيء من ذلك فهو أحسن. ولما كان التصرف في ترتيب العبارات بإزاء التصرف في ترتيب المعاني جعلت هذه الإضاءة الموضحة عن الوجوه التي يجب اعتمادها في جميع ذلك.

14- تنوير: يشترط في النقلة من بعض هذه المعاني الذهبية إلى بعض أن يكون ذلك غير خارج عن الهيآت التي وقعت للعرب في النقلة من بعض ذلك إلى بعض. ويشترط في المعاني التي خارج الذهن أن ينتقل في أمثلتها الذهبية يكون النظر في صناعة البلاغة من جهة ما يكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه ومن جهة ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه من النفوس من جهة هيأته ودلالته, ومن جهة ما تكون عليه تلك الصور الذهنية في أنفسها, ومن جهة مواقعها من النفوس من جهة هيآتها ودلالاتها على ما خارج الذهن, ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها الأشياء التي تلك المعاني الذهنية صور لها وأمثلة دالة عليها, ومن جهة مواقع تلك الأشياء من النفوس.

15- إضاءة: وقد تقدم الكلام في ما تكون عليه الألفاظ في أنفسها وبالنظر إلى هيآتها ودلالتها وكيفية مواقع تلك الهيآت بدلالتها من النفوس. وبقي الآن أن نتكلم في المعاني الذهبية وفي بعض ما يحتاج إليه في هذه الصناعة مما يتعلق بالأشياء التي تلك المعاني الذهبية صور لها مما تكون عليه تلك الأشياء وما تكون عليه صورها, ومن جهة مواقعها من النفوس, وكونها مما يستميل النفس أو ينفرها لكونها ملائمة لها أو منافرة, أو بإيهام النفس ذلك فيها بتخييل شعري أو إقناع خطابي وما يكون فيه معونة على تقوية ذلك.

16- تنوير: وأنا أدرج تفاصيل هذه الجملة في ما أشرعه إثر هذا من المعالم والمعارف بحسب ما يتوجه إليه النظر في معلم معلم ومعرف معرف من ذلك, لتعرف بذلك الطرق الصحيحة في اعتبار ما تكون عليه أحوال المعاني الذهنية وما هي أمثلة له بالنظر إلى ما يستحسن في كل مذهب من مذاهب هذه الصناعة وما لا يستحسن من ذلك. وقد سلكت من التكلم في جميع ذلك مسلكا لم يسلكه أحد قبلي من أرباب هذه الصناعة لصعوبة مرامه وتوعر سبيل التوصل إليه. هذا على أنه روح الصنعة وعمدة البلاغة. وعلى هذا جريت في أكثر ما تكلمت به فيما عدا هذا القسم من أقسام الكتاب. فإني رأيت الناس لم يتكلموا إلا في بعض ظواهر ما اشتملت عليه تلك الصناعة, (فتجاوزت أنا تلك الظواهر) بعد التكلم في جمل مقنعة مما تعلق بها التكلم في كثير من خفايا هذه الصنعة ودقائقها على حسب ما تقدم وما يأتي إن شاء الله.

ب?- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء وجود المعاني.

إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه, فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم. فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ. فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ من لم يتهيأ له سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيآت الألفاظ فتقوم بها في الأذهان صور المعاني فيكون لها أيضاً وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها.

1- إضاءة: قد تبين أن المعاني لها حقائق موجودة في الأعيان ولها صور موجودة في الأذهان ولها من جهة ما يدل على تلك الصور من الألفاظ وجود في الأفهام, ولها وجود ما يدل على تلك الألفاظ من الخط يقيم صور الألفاظ وصور ما دلت عليه في الأفهام والأذهان.

2- تنوير: وقد تقدم الكلام في كثير مما يجب معرفته من المعاني من حيث توجد في الألفاظ. وبقي أن نتكلم الآن فيها من حيث توجد في الأذهان, وأن نشفع ذلك بذكر بعض ما يتعلق بها من جهة وجودها خارج الذهن مما يتأكد معرفته في هذه الصناعة, وأن نستدرك ما لعلنا لم نذكره مما يتعلق بجهة وجودها في الألفاظ. فأما الوجود الذي لها من جهة الخط فليس التكلم فيه من مبادئ هذه الصناعة.

ج_ معلم دال على طرق العلم بكيفيات مواقع المعاني من النفوس من جهة ما تكون قوية الانتساب إلى طرق الشعر المألوفة والأغراض المعروفة عند جمهور من له فهم بالطبع, أو ضعيفة الانتساب إلى ذلك.

لما كان علم البلاغة مشتملا على صناعتي الشعر والخطابة وكان الشعر والخطابة يشتركان في مادة المعاني ويفترقان بصورتي التخييل والإقناع وكان لكلتيهما أن تخيل وأن تقنع في شيء شيء من الموجودات الممكن أن يحيط بها علم إنساني وكان القصد في التخييل والإقناع حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده وكانت النفس إنما تتحرك لفعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن واحد واحد من الفعل والطلب والاعتقاد بأن يخيل لها أو يوقع في غالب ظنها أنه خير أو شر بطريق من الطرق التي يقال بها في الأشياء إنها خيرات أو شرور

1- إضاءة: والأشياء التي يقال فيها إنها خيرات وشرور أو يتوهم أنها كذلك منها أمور يشترك في معرفتها وإدراكها الخاصة والجمهور ومنها أمور ينفرد بإدراكها ومعرفتها الخاصة دون الجمهور_ وكانت علقة جل أغراض الناس وآرائهم بالأشياء التي اشترك الخاصة والجمهور في اعتقادهم أنها خير أو شر, وكان أحق تلك الأشياء بأن يميل الناس إليها أو ينفروا عنها الأشياء التي فطرت النفوس على استذاذها أو التألم منها أو حصل لها ذلك بالاعتياد, وجب أن تكون أعرق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت علقته بأغراض الإنسان وكانت دواعي آرائه متوفرة عليه, وكانت نفوس الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على الميل إليها أو النفور عنها أو من حصول ذلك إليها بالاعتياد, ووجب أن يكون ما لم تتوفر دواعي أغراض الإنسان عليه وما انفرد بإدراكه المكتسب الخاصة دون الجمهور غير عريق في الصناعة الشعرية بالنسبة إلى المقاصد المألوفة والمدارك الجمهورية.

2- تنوير: فأما بالنظر إلى حقيقة الشعر فلا فرق بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه, ولا ميزة بين ما اشتدت علقته بالأغراض المألوفة وبين ما ليس له كبير علقة إذا كان التخييل في جميع ذلك على حد واحد, إذ المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك.

3- إضاءة: ولنبين الآن الطرق التي بها تكون علقة المعاني بالأغراض المألوفة عند الجمهور أكيدة وكيف لا تكون علقتها بذلك متأكدة: فأقول: إن الأقاويل المخيلة لا تخلو من أن تكون المعاني المخيلة فيها مما يعرفه جمهور من يفهم لغتها ويتأثر له, أو مما يعرفه ولا يتأثر له, أو مما يتأثر له إذا عرفه, أو مما لا يعرفه ولا يتأثر له لو عرفه. وأحق هذه الأشياء بأن يستعمل في الأغراض المألوفة من طرق الشعر ما عرف وتؤثر له, أو كان مستعدا لأن يتأثر له إذا عرف وكان في قوة كل واحد من جمهور من جبلته في الفهم صالحة أن يتصور ذلك إذا عرف به وذلك كالأخبار التي يحيل عليها الشعراء.

4- تنوير: وأحسن الأشياء التي تعرف ويتأثر لها أو يتأثر لها إذا عرفت هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها أو التألم منها أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم كالذكريات للعهود الحميدة المتصرمة التي توجد النفوس تلتذ بتخيلها وذكرها وتتألم من تقضيها وانصرامها. فإذن طرق الشعر إذا في ثلاث جهات: إما أن تكون مفرحة محضة يذكر فيها لقاء الأحبة في حال وجوده واجتلاء الروض والماء وما ناسبهما والتنغم بمواطن السرور ومجالس الأنس, وإما أن تكون (مفجعة) يذكر فيها التفرق والتوحش وما ناسب ذلك وبالجملة أضداد المعاني المفرحة المنعمة, وإما أن تذكر فيها مستطابات قد انصرمت فيلتذ لتخيلها ويتألم لفقدها فتكون طريقة شاجية. واستقصاء القول في هذا يجيء في القسم الرابع ولعلي أن أدرج أيضاً في هذا القسم فضل بيان لذلك.

5- إضاءة: فما فطرت نفوس الجمهور على استشعار الفرح منه والحزن أو الشجو أو حصل لها ذلك بالعادة هو المعتمد في الأغراض المألوفة في الشعر والمبنى عليه طرقها. وما لم توجد نفوسهم مفطورة عليه من ذلك بما اعتادته فإنما تقع في الأغراض المألوفة بحسب التبعية لما كانت مفطورة عليه أو معتادة له. وذلك بأن يستدرج مما وجد في النفس بحسب الجبلة والعادة إلى ما وجد بالكسب والاستفادة. وتذكر هذه على أنها بعيدة عن التأثير. فلذلك لا يحسن إيراد مثل هذه الأقاويل في الأغراض المألوفة من الشعر ولا يحسن أن تحاكى الأشياء العريقة في الشعر التي اشترطنا فيها الشروط المتقدمة إلا بمثلها مما توجد فيه تلك الشروط.

6- تنوير: فالمتصورات التي في فطرة النفوس ومعتقداتها العادية أن تجد لها فرحا أو ترحا أو شجوا هي التي ينبغي أن نسميها المتصورات الأصلية. وما لم يوجد ذلك لها في النفوس ولا معتقداتها العادية فهي المتصورات الدخيلة, وهي المعاني التي إنما يكون وجودها بتعلم وتكسب كالأغراض التي لا تقع إلا في العلوم والصناعات والمهن. فالمعاني المتعلقة بهذه الطرق الخاصة ببعض الجماهير لا تحسن في المقاصد العامة المألوفة التي ينحى بها نحو ما يستطيبه الجمهور أو يتأثرون له بالجملة. فإذا استعملت فيها فإنها معيبة لكونها دخيلة في الكلام بحسب الغرض. وإنما تكون أصيلة في الشعر إذا كان غرض الكلام مبنيا على ذلك. فأما إذا لم يكن قصده بنية الكلام على تخييل ما لا يعرفه الجمهور ولا تتأكد علقته بالأغراض, ولكن يورد ذلك على سبيل التبعية على جهة من المحاكاة أو غير ذلك, فإن ذلك غير أصيل في الشعر, ويكون الكلام معيبا بذلك.

7- إضاءة: والمعاني الشعرية منها ما يكون مقصودا في نفسه بحسب غرض الشعر ومعتمدا إيراده ومنها ما ليس بمعتمد إيراده ولكن يورد على أن يحاكى به ما اعتمد من ذلك أو يحال به عليه أو غير ذلك. ولنسم المعاني التي تكون من متن الكلام ونفس غرض الشعر المعاني الأول, ولنسم المعاني التي ليست من متن الكلام ونفس الغرض ولكنها أمثلة لتلك أو استدلالات عليها أو غير ذلك لا موجب لإيرادها في الكلام غير محاكاة المعاني الأول بها أو ملاحظة وجه يجمع بينهما على بعض الهيآت التي تتلاقى عليها المعاني ويصار من بعضها إلى بعض المعاني الثواني. فتكون معاني الشعر منقسمة إلى أوائل وثوان.

8- تنوير: وحق الثواني أن تكون أشهر في معناها من الأول لتستوضح معاني الأول بمعانيها الممثلة بها, أو تكون مساوية لها لتفيدتأكيدا للمعنى. فإن كان المعنى فيها أخفى منه في الأول قبح إيراد الثواني لكونها زيادة في الكلام من غير فائدة, فهي بمنزلة الحشو غير المفيد في اللفظ, ولمناقضة المقصد الشعري في المحاكاة والتخييل يكون إتباع المشتهر بالخفي حيث يقصد زيادة المشتهر شهرة أو تأكيد ما فيه من الاشتهار مناقضا للمقصد من حيث كان الواجب في المحاكاة أن يتبع الشيء بما يفضله في المعنى قصد تمثيله به أو يساويه أو لا يبعد عن مساواته, وهي أدنى مراتب المحاكاة.

فالأول هي التي يكون مقصد الكلام وأسلوب الشعر يقتضيان ذكرها وبينة الكلام عليها. والثواني هي التي لا يقتضي مقصد الكلام وأسلوب الشعر بنية الكلام عليها.

9- إضاءة: ومن المتصورات ما يليق بحقيقة مقاصد الشعر المألوفة وأغراضه المتداولة, وتصلح أن تورد فيها أوائل وثواني, ومنها ما لا يليق بها ولا يصلح فيها أن تورد أوائل ولكن تورد ثواني على ما تقدم ذكره. فالتي يصلح أن تورد أوائل وثواني هي ما تعلق المتصور فيه بشيء معروف عند الجمهور من شأنهم أن يرتاحوا إليه أو يكترثوا له, كان ذلك الشيء مدركا بالحس أو بغيره.

والتي لا يصلح أن تورد أوائل وتورد ثواني هي ما تعلق التصور فيها بحقيقة شيء لا تعم معرفته جميع الجمهور.

10- تنوير: فالأصيل في الأغراض المألوفة في الشعر من هذين الصنفين ما صلح أن يقع فيها أولا وثانيا متبوعا وتابعا, لأن هذا يدل على شدة انتسابه إلى طرق الشعر وحسن موقعه منها على كل حال. وهي المعاني الجمهورية. ولا يمكن أن يتألف كلام بديع عال في الفصاحة إلا منها.

والصنف الآخر وهو الذي سميناه بالدخيل لا يأتلف منه كلام عال في البلاغة أصلا إذ من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور, وذلك غير موجود في هذا الصنف من المعاني. وأيضا فإنه لا يقع في أغراض الشعر المألوفة إلا (ثانيا وتابعا) . ومن تتبع المعاني الواقعة في الشعر التي مرادها ما ذكرت, وكان له أدنى حظ من البلاغة, واعتبر كلا منها بالقوانين الموضوعة في أصول البلاغة, علم صحة ما قلته. وأنا أقرب على من لم يشد شيئا من علم البلاغة مرام التوصل إلى صحة ما ذكرته, بأن يتتبع في كتب الآداب والبلاغة مذاهب العلماء بالشعر في أي بيت -قالته الشعراء من المتقدمين والمحدثين- أو شعر في كل طريق من طرق الشعر التي منها النسيب والمديح والرثاء والهجاء. فإنه لا يجد مواد ما نص على فضله إلا من المعاني التي ذكرت أنها تقع أولا وثواني, ولا يجد فيها من المواد التي ذكرت أنها لا تقع إلا ثواني شيئا البتة. ولو لم يكن في ذلك إلا أن البصراء بهذه الصناعة, كأبي الفرج قدامة وأضرابه قد نص جميعهم على قبح إيراد المعاني العلمية والصناعية والعبارات المصطلح عليها في جميع ذلك, ونهوا عن إيراد جميع ذلك في الشعر.

وسيأتي في ما أذكره بعد, في هذا القسم إن شاء الله, ما يؤكد صدق القول وصحة المذهب في قبيح تلك المعاني بالنسبة إلى الأغراض المألوفة في الشعر.

11- إضاءة: وإنما احتجت إلى هذا لأن الطباع منذ اختلت, والأفكار منذ قصرت, والعناية بهذه الصناعة منذ قلت, وتحسين كل من المدعين صناعة الشعر ظنه بطبعه, وظنه أنه لا يحتاج في الشعر إلى أكثر من الطبع, وبنيته على أن كل كلام مقفى موزون شعر, جهالة منه: أن الطباع قد تداخلها من الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن, فهي تستجيد الغث وتستغث الجيد من الكلام ما لم تقمع بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين البلاغية, فيعلم بذلك ما يحسن وما لا يحسن.

ولا شك أن الطباع أحوج إلى التقويم في تصحيح المعاني والعبارات عنها من الألسنة إلى ذلك في تصحيح مجاري أواخر الكلم, إذ لم تكن العرب تستغني بصحة طباعها وجودة أفكارها عن تسديد طباعها وتقويمها باعتبار معاني الكلام بالقوانين المصححة لها, وجعلها ذلك علما تتدارسه في أنديتها ويستدرك به بعضهم على بعض وتبصير بعضهم بعضا في ذلك. وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب, لو تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك لاستخرج منه علما كثيرا موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة.

12- تنوير: وكيف يظن ظان أن العرب, على ما اختصت به من جودة الطباع لنشئهم على الرياضة واستجداد المواضع وانتجاع الرياض العوازب فضلا عن هذه الطباع التي داخلها الفساد منذ زمان واستولى عليها الخلل, كانت تستغني في قولها الشعر الذي هو بالحقيقة شعر ونظمها القصائد التي كانت تسميها أسماط الدهور عن التعليم والإرشاد إلى كيفيات المباني التي يجب أن يوضع عليها الكلام, والتعريف بأنحاء التصرف المستحسن في جميع ذلك, والتنبيه على الجهات التي منها يداخل الخلل المعاني ويقع الفساد في تأليف الألفاظ والمعاني.

وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة, وتعلم منه قوانين النظم, واستفاد عنه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية. فقد كان كثير أخذ الشعر عن جميل, وأخذه جميل عن هدبة ابن خشرم, وأخذه هدبة عن بشر بن أبي خازم, وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير, وأخذه زهير عن أوس بن حجر, وكذلك جميع شعراء العرب المجيدين المشهورين. فإذا كان أهل ذلك الزمان قد احتاجوا إلى التعلم الطويل فما ظنك بأهل هذا الزمان, بل أية نسبة بين الفريقين في ذلك؟!

13- إضاءة: وأنت تجيد الآن الحريص على أن يكون من أهل الأدب المتصرفين في صوغ قافية أو فقرة من أهل زماننا يرى وصمة على نفسه أن يحتاج مع طبعه إلى تعليم معلم أو تبصير مبصر. فإذا تأتى له تأليف كلام مقفى موزون, وله القليل الغث منه, بالكثير من الصعوبة, بأى وشمخ, وظن أنه قد سامى الفحول وشاركهم, رعونة منه وجهلا, من حيث ظن أن كل كلام مقفى موزون شعر. وإن مثله في ذلك مثل أعمى أنس قوما يلقطون درا في موضع تشبه حصباؤء الدر في المقدار والهيئة والملمس, فوقع بيده بعض ما يلقطون من ذلك فأدرك هيأته ومقداره وملمسه بحاسة لمسه, فجعل يعني نفسه في لقط الحصباء على أنها در, ولم يدر أن ميزة الجوهر وشرفه إنما هو بصفة أخرى غير التي أدرك. وكذلك ظن هذا أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق كيف اتفق نظمه وتضمينه أي غرض اتفق على أي صفة اتفق, لا يعتبر عنده في ذلك قانون ولا رسم موضوع. وإنما المعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن والنفاذ به إلى قافية. فلا يزيد بما يصنعه من ذلك على أن يبدي عن عواره, ويعرب عن قبح مذاهبه في الكلام وسوء اختياره.

14- تنوير: وإنما احتجت إلى الفرق بين المواد المستحسنة في الشعر والمستقبحة وترديد القول في إيضاح الجهات التي تقبح وإلى ذكر غلط أكثر الناس في هذه الصناعة لأرشد من لعل كلامي يحل منه محل القبول من الناظرين في هذه الصناعة إلى اقتباس القوانين الصحيحة في هذه الصناعة, وأزع كل ذي حجر عما يتعب به فكره ويصم شعره.

15- إضاءة: واعلم أن من المعاني المعروفة عند الجمهور ما لا يحسن إيراده في الشعر. وذلك نحو المعني المتعلقة بصنائع أهل المهن لضعتها. (فإن غالب) عباراتهم لا يحسن أن تستعار ويعبر بها عن معان تشبهها لأنها مزيلة لطلاوة الكلام وحسن موقعه من النفس.

16- تنوير: ومن المعاني التي ليست بمعروفة عند الجمهور ما يستحسن إيراده في الشعر, وذلك إذا كان مما فطرت النفوس على الحنين إليه أو التألم منه, وبالجملة على ما تتأثر له النفس تأثر ارتياح أو اكتراث بحسب ما يليق بغرض من ذلك, وكان من أوائلها الأصلية أو ما يناسبها مما هو بها شديد التعلق, ومن شأنه أن يستطرد منه إليها أبدا كأوصاف البروق. هذا إذا كان في قوة جميع الجمهور أن يعرف المعنى الذي بهذه الصفة إذا ألقي إليه كيفية وقوعه في الوجود ويستحسنه بعد المعرفة, وذلك كالإحالات على الأخبار القديمة المستحسنة وطرف التواريخ المستغربة. فإنها حسنة الموقع من النفوس وفي الشعر ما اشتهر من هذا القبيل, ويعبر عنه بحسان العبارات حتى يعرف الخبر منه مفصلا. ومن قصر عن تفهم شيء من ذلك لم يعوزه وجدان من يفهمه إياه, كما أن اللفظ المستعذب وإن كان لا يعرفه جميع الجمهور مستحسن إيراده في الشعر لأنه مع استعذابه قد يفسر معناه, لمن لا يفهمه, ما يتصل به من سائر العبارة. وإن لم يكن في الكلام ما يفسره لم يعوز أيضاً وجدان مفسره لكونه مما يعرفه خاصة الجمهور أو كثير منهم. والإتيان بما يعرف أحسن.

17- إضاءة: وليس الأمر في ما ذكرته كالأمر في المسائل العلمية. فإن أكثر الجمهور لا يمكن تعريفهم إياها, مع أن أحدهم إذا أمكن تعريفه إياها لم يجد لها في نفسه ما يجد للمعاني التي ذكرنا أنها العريقة في طريقة الشعر, لكون تلك المعاني المتعلقة بإدراك الذهن ليس الحسن والقبح والغرابة واضحا فيها وضوحه في ما يتعلق بالحس. وأيضا فإن المعاني التي تتعلق بإدراك الحس هي التي تدور عليها مقاصد الشعر, وتكون مذكورة فيه لأنفسها. والمعاني المتعلقة بإدراك الذهن ليس لمقاصد الشعر حولها مدار. وإنما تذكر بحسب التبعية للمتعلقة بإدراك الحسن لتجعل أمثلة لها, أو ينظر حكم في تلك بحكم في هذه, فيكون التمثيل والتنظير فيهما من قبيل تمثيل الأشهر بالأخفى وتنظير الأظهر بالأخفى. وهذه الحال في التمثيل والتنظير مناقضة للمقصود بهما, إذ المقصود بهما محاكاة الشيء بما النفوس له أشد انفعالا حيث يقصد بسطها نحو شيء أو قبضها عنه. وأيضا فإن المسائل العلمية يستبرد إيرادها في الشعر أكثر الناس ولا يستطيب وقوعها فيه إلا من صار من شدة ولوعه بعلم ما, بحيث يتشوف إلى ذكر مسائل ذلك العلم, ويجب إجراءها ولو في المواطن التي لا تليق بها ولا تقبلها البتة لكون التفرع الكلي للراحة والأنس والتفرج أو ضد ذلك قد حجر ذكرها. وأكثر الناس يستبردون ذكر الشيء من ذلك, حيث لا يليق, استبرادهم قول القائل: "والله إن كانت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك" في المواطن الذي قالها.

18- تنوير: وإنما يورد المعاني العلمية في كلامه من يريد التمويه بأنه شاعر عالم. وقد بينا أنه فعل نقيض ما يجب في الشعر. فلم يثبت له أنه قال شعرا إلا عند من لا علم له. وأما العلم فلا يثبت أيضاً للشاعر بأن يودع شعره معاني منه. فليس يبعد على الناظم إذا كان قد تصور مسائل من علم وإن قلت أن يعلقها ببعض معاني شعره ويناسب بينها وبين بعض مقاصد نظمه.

19- إضاءة: ومن كان مقصده أيضاً أن يظهر أنه مقتدر على المناسبة بين المتباعدين وأن يغطي بحسن تأليفه ووضعه على ما بينهما من التباين بعض التغطية, فإنه يكد خاطره في ما لا تظهر فيه صناعته ظهورها في غيره, ولا يتوصل بعد ذلك إلى الغرض المقصود بالشعر من تحريك النفوس. فأولى بمن هذه صفته أن يجعل موضوع صنعته ما يتضح فيه حسن صنعته ويكون له تأثير في النفوس وتحريك لها وحسن موقع منها من أن يجعل موضوع صنعته ما لا يدل, مع كونه لا يحرك الجمهور ولا يتضح فيه إبداع الصنعة, دلالة قاطعة. فقد يمكن أن يتدرب إنسان في المناسبة بين بعض الأغراض المقولة في الشعر وبين بعض المعاني العلمية. وتحصل له بمزاولة ذلك والحنكة فيه دربة لا تكون له في تأليف معاني الشعر المحضة والمناسبة بين بعضها وبعض. وقد يمكن أيضاً أن يقع ذلك له اتفاقا في بعض المواضع من غير أن يكون له تلك قوة مستمرة في غير ذلك من شعره. فقد بان أن مستعمل هذه المعاني العلمية في شعره يسيء الاختيار, مستهلك لصنعته, مصرف فكره في ما غيره أولى به وأجدى عليه. والولع بنظم هذه المسائل العلمية في الشعر (..........................................) (.........) التي يتصور بها الغرض في تلك المعاني الخارجة عن الذهن على أكمل ما ينبغي وأشده مناسبة للنفس.

فهذه لمحة إجمالية ترشد إلى جهات اقتباس المعاني, وإلى الأنحاء التي تستحسن في تأليفها واقترانها والنقلة من بعضها إلى بعض. ومنع من تفصيل ذلك الاضطرار معه إلى الإطالة الكثيرة. فليتول الناظر تفصيل ذلك بنفسه, فإنه مفيد في هذه الصناعة. وبالله الاستعانة على كل محاولة, وبه التوفيق.

د- معرف دال على طرق المعرفة بكيفيات تركيب المعاني وتضاعفها.

إن المعاني قد تكون مفردة الأجزاء ومتضاعفتها, وقد يكون بعض أجزائها مفردا وبعضها مضاعفا. وذلك بحسب تعدد الأفعال الواقعة في المواطن التي يعبر عما وقع فيها أو اتحادها, وبحسب تعدد ما تستند إليه تلك الأفعال أو اتحاده, وبحسب تعدد ما تتوجه لطلبه من المفعولات أو اتحاده.

وما يتركب من جهة التعدد والاتحاد في جميع ذلك, واقتران كل واحد من الأفعال وما تستند غليه, وما تطلبه بالآخر على حال موافقة له في التعدد والاتحاد أو مخالفة, تنقسم ثمانية أقسام: 1- متحد الفاعل, متحد المفعول, متعدد الفعل

2- أو متعدد الفاعل والمفعول, متحد الفعل 3- أو متحد الفعل والفاعل, متعدد المفعول 4- أو متحد الفعل, متعدد الفاعل والمفعول 5- أو متحد المفعول, متحد الفعل, متعدد الفاعل 6- أو متحد المفعول, متعدد الفاعل والفعل 7- أو متحد الجميع 8- أو متعدد الجميع.

ويحتاج الشاعر أن يكون متنبها لصور التقسيمات والتفصيلات والتقطيعات التي تتدرج في هذه الجملة, ويحسن صوغ الكلام عليها وتفصيله إليها, ومتهديا إلى المآخذ المستحسنة في جميع ذلك.

1- إضاءة: وهذه الأفعال المشترك فيها قد وضعها على أن يصل من الشيء إلى غيره مثل ما وصل إليه من غيره, وقد يتسلسل هذا. ولا ينبغي أن يتجاوز في ذلك المقدار الذي توجب مقاييس البلاغة الوقوف عنده. وقد تقدم ذلك في القسم الأول. ويكون التسلسل أيضاً في الأفعال المتعددة للمرفوعات المتعددة على هذا النحو. ولا تحسن الإطالة في ذلك. بل يجب أن يحتال في تفصيل الكلام إلى مقادير لا تسلسل فيها.

2- تنوير: وقد يشترك الشيئان أيضاً في فعل ويكون كلاهما متوجها لفعل الآخر. وهذا إذا كان في قضية واحدة خففوا بعض ما يقع فيه من التكرار بالكناية والحذف. فإذا كان في قضايا كثيرة تضاعف المقدار الباقي من التكرار بعد الكناية والحذف, فلم يحسن ذلك, على أنه قد يقع فيعدل إذ ذاك عن العبارة التي وقع فيها التكرار -بكونها جملتين يلزم في إحداهما ذكر ما في الأخرى-إلى عبارة مفردة تفيد ما تفيده تلك. وهي صيغتا الفاعل ونحو تضارب وضارب. فحينئذ لا يثقل تضاعف المعاني التي بهذه الصفة.

3- إضاءة: وقد يكون الكلام المؤتلف من معان كثيرة مما ذكر للأفعال فيه مفعولات, وقد يكون مما لا ذكر فيه لذلك, وقد يكون مؤتلفا من النوعين.

فأما ما تعددت فيه الأفعال ومرفوعاتها ومنصوباتها وتباينت فيحتاج إلى أن يناسب بين المعاني الواقعة بهذه الصفة في وضع عباراتها وتفصيلها إلى مقادير وصور تكون متلائمة الوضع متناسبة التفصيل ليقع في الكلام بذلك خفة وتناسب.

4- تنوير: فأما ما تلازمت فيه المعاني وارتبطت فطالت فلا يحسن تضاعفها إلا بعد اقتضاب العبارات وتصييرها إلى صيغ مختصرة. وكلما اختلفت جهات الصيغ, في ما لم يذهب به مذهب مناظرة أو تقسيم أو ما ناسب ذلك, كان أحسن.

5- إضاءة: وتحسن للكلام, أيضاً بحسب نسب بعض المعاني الواقعة فيه من بعض, من جهة مواقعها في زمان أو مكان ووضع بعضها في ذلك من بعض, ومن جهة التقاذف بالعبارات إلى تلك الأنحاء, صور أخر ربما وجد مثلها في ما تقدم وربما لم يوجد, لأن الشيء يقع مع الشيء في زمان أو مكان أو يقع بناحية منه وفي زمان غير زمانه متقدم عليه أو متأخر عنه. وقد تكتنف الشيء أشياء من جميع نواحيه. وكذلك تقع مكتنفاته في الزمان سابقة له وتالية. تترتب في القرب والبعد, في الزمان والمكان من أقرب ما يمكن إلى أقصى ما يمكن. وقد يقع الشيء في جميع نواحي الشيء في مرار عدة, أو بأن يكون شيئا يعم جهاته وكذلك في الزمان. ويتركب من هذه الأحوال شتى صور من الكلام. وتكون المعاني الواقعة بهذه الاعتبارات بحسب ما قدمته من تعدد الأفعال وتعدد مرفوعاتها ومنصوباتها أو اتحاد جميع ذلك أو اتحاد بعض من ذلك وتعدد بعض. فتتضاعف صور المعاني بذلك تضاعفا يعز إحصاؤه. والتركيبات التي بها هيآت العبارات وما تحتها من المعاني من جهة مواقع بعض المعاني من بعض في الأزمنة والأمكنة على ما تقدم راجعة إلى المعاني التي تقدم التعريف بأنها تقع تحديدات في الأزمنة والأمكنة. وكثيرا ما يتأتى في هذه التركيبات تقسيم الكلام وتفصيله على مقادير متعادلة متناسبة.

6- تنوير: وتتضاعف صور العبارات بما يوقع في معانيها من تحديدات ترجع إلى ما تكون عليه في نفوسها, من كونها عامة أو خاصة, كلية أو جزئية. وتتضاعف أيضاً بحسب الأحكام الواقعة في المعاني بعد تحديداتها, من نفي وإثبات ومساواة أو ترجيح أو غير ذلك, ومن جهة كيفيات المخاطبات في المعاني وكون ذلك يكون تأدية أو اقتضاء ونحو ذلك. وكل واحد من هذه له صيغ شتى يعبر بها عنه, فمع أن المعاني تتضاعف صورها بحسب ما تقدم فإن هذه الأشياء أيضاً مما تتضاعف بها الصيغ والعبارات عن تلك المعاني فيؤدي تنوع صور المعاني والعبارات- بجميع ذلك وبما قد ذكر أيضاً في غير هذا الموضع من هذا الكتاب مما تتكاثر به صور المعاني- إلى وقوع المعاني على هيآت وصور يعز حصرها ولا يتأتى استقصاؤها لكثرتها. وإنما يعرف صحتها من خللها أو حسنها من قبحها بالقوانين الكلية التي تنسحب أحكامها على صنف صنف منها, ومن ضروب بيانها. ويعلم من تلك الجمل كيفية التفصيل. ولا بد مع ذلك من الذوق الصحيح والفكر المائز بين ما يناسب وما لا يناسب وما يصح وما لا يصح بالاستناد إلى تلك القوانين على كل جهة من جهات الاعتبار في ضروب التناسب وغير ذلك مما يقصد تحسين الكلام به.

7- إضاءة: وللأفكار تفاوت في تصرفها في ضروب المعاني وضروب تركيبها من جميع هذه الجهات التي ذكرت. ويتقوى على ذلك بالطبع الفائق والفكر النافذ الرائق, وبالمعرفة بجميع ما يحتاج إلى معرفته في هذه الصناعة من حفظ الكلام والقوانين البلاغية التي تضمن هذا الكتاب جملة كبيرة منها.

8- تنوير: وصور المعاني ضربان: صور متكررة وصور غير متكررة. والتكرار لا يجب أن يقع في المعاني إلا بمراعاة اختلاف ما في الحيزين اللذين وقع فيهما التكرار من الكلام. فلا يخلو أن يكون ذلك إما لمخالفة في الوضع: بأن يقدم في أحد الحيزين ما أخر في الآخر, أو بأن تختلف جهات التعلق في الحيزين, أو بأن يفهم المعنى أولا من جهة من جهات الإبهام ثم يورد مفسرا من الجهة التي وقع فيها الإبهام, أو بأن يجمل ثم يفصل -وهذا يجتمع مع ما قبله من جهة ويفارقه من جهة- أو بأن يفصل ثم يجمل الضرب من المقاصد, أو بأن يورد على صورة من الجمع والتفريق كما يقال: أنت وزيد بحران لكن أنت للعذوبة وذلك للزعوفة أو بأن تبان الجهتان اللتان توافى بهما الضدان على الشيء كقوله: (الطويل -ق- المتدارك) يخشى ويتقى يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق فعلى هذه الأنحاء وما ناسبها يقع التكرار في المعاني فيستحسن. وكثيرا ما تقع التفصيلات والتفسيرات والتقسيمات في المعاني التي تكون من هذا القبيل.

9- إضاءة: فمن أحكم التصرف في هذا الضرب من المعاني المتكرر والضرب الآخر, وتصرف فيهما من جهات أنواع التركيبات التي أشرنا إليها في ما تقدم من هذا المعرف, كان كلامه ممتعا من كل فن من فنون البلاغة, وكان حسن الموقع من النفوس.

ومن كان له ذهن يتمكن به -له أن يفصل ما أجملت في هذا الباب ويفرع ما أصلت- انتفع بهذا الباب نفعا كثيرا في هذه الصناعة, إذ لم يمكنا نحن أن نتفرع إلى تفريع ذلك وتفصيله وتمثيله. فإن ذلك محوج إلى إطالة كثيرة. وإنما نتحرى أن نعل بين الأبواب أو نقارب العدل في ما نذكره, ليكون كل باب قد تضمن قسطا مقنعا مما يجب. فأما ما وراء الإقناع. فلا يمكن استقصاء ذلك في باب, فإن ذلك يضاعف حجم الكتاب, ويؤدي إلى إقطاع هذه الصناعة من عناية النفس فوق ما يجب لها إذ قدر العناية بالشيء إنما يجب أن يكون بإزاء قدر المستفاد منه, وفائدة هذه الصناعة بحسب ما سحب عليها الزمان من أذيال الإذالة وألحفها من معرة الخمول قليلة نزرة, بل غنما غاية محكمها إذاية أهل الفدامة له ممن يظن أن له قدما في الفصاحة, وهو منها بمنزلة الحضيض من السماك. فلذلك كان خليقا أن تكون العناية بهذه الصناعة غير بالغة أو تصرف عنها العناية بالجملة. ولا توفيق إلا بالله.

هـ- معلم دال على طرق العلم باستثارة المعاني من مكامنها واستنباطها من معادنها.

لما كانت الموصوفات والأوصاف وجهات انتساب بعضها إلى بعض وجهات تعلق الأغراض بها من ذوي الأغراض لا تحصى كثرة وجب أن تكون المعاني التي هي مركبة من تلك الأوصاف على حسب الأغراض أجدر بأن لا يستطاع إحصاؤها, ولكن يمكن أن ينبه على الطرق التي بها تتطرق الخواطر إليها وتتهدى منها إلى تأليفها.

فأقول: إن الأصل الذي به يتوصل إلى استثارة المعاني واستنباط تركيباتها هو التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء وما يتعلق بها من أوصاف غيرها, والتنبه للهيئات التي يكون عليها التآم تلك الأوصاف وموصوفاتها ونسب بعضها إلى بعض أحسن موقعا من النفوس, والتفطن إلى ما يليق بها من ذلك بحسب موضع موضع وغرض غرض.

1- إضاءة: ولاقتباس المعاني واستثارتها طريقان: أحدهما تقتبس منه لمجرد الخيال وبحث الفكر, والثاني تقتبس منه بسبب زائد على الخيال والفكر.

فالأول يكون بالقوة الشاعرة بأنحاء اقتباس المعاني وملاحظة الوجوه التي منها تلتئم, ويحصل لها ذلك بقوة التخيل والملاحظة لنسب بعض الأشياء من بعض ولما يمتاز به بعضها من بعض ويشارك به بعضها بعضا. ولكون خيالات ما في الحس منتظمة في الفكر على حسب ما هي عليه, لا يتباين فيه ما تشابه في الحس ولا يتشابه فيه ما تباين في الحس. فإذا كانت صور الأشياء قد ارتسمت في الخيال على حسب ما وقعت عليه في الوجود وكانت للنفس قوة على معرفة ما تماثل منها وما تناسب وما تخالف وما تضاد, وبالجملة ما انتسب منها إلى الآخر نسبة ذاتية أو عرضية ثابتة أو منتقلة أمكنها أن تركب من انتساب بعضها إلى بعض تركيبات على حد القضايا الواقعة في الوجود التي تقدم بها الحس والمشاهدة, وبالجملة الإدراك من أي طريق كان أو التي لم تقع لكن النفس تتصور وقوعها لكون انتساب بعض أجزاء المعنى المؤلف على هذا الحد إلى بعض مقبولا في العقل ممكنا عنده وجوده, وأن تنشئ على ذلك صورا شتى من ضروب المعاني في ضروب الأغراض.

2- تنوير: والطريق الثاني الذي اقتباس المعاني منه بسبب زائد على الخيال هو ما استند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل. فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوغ له معه إيراد ذلك الكلام أو بعضه بنوع من التصرف والتغيير أو التضمين فيحيل على ذلك أو يضمنه أو يدمج الإشارة إليه أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه, أو ليزيد فيه فائدة فيتممه أو يتمم به أو يحسن العبارة خاصة أو يصير المنثور منظوما أو المنظوم منثورا خاصة. فأما من لا يقصد في ذلك إلا الارتفاق بالمعنى خاصة, من غير تأثير من هذه التأثيرات, فإنه البكي الطبع في هذه الصناعة الحقيق بالإقلاع عنها وإراحة خاطره مما لا يجدي عليه غير المذمة والتعب.

3- إضاءة: وبحثه في ما استند إليه من تاريخ, على أن يناسب بين بعض مقاصد كلامه ويينه, فيحاكيه به أو يحيل به عليه أو يستشهد في ذلك على الحديث بالقديم, ويتصرف فيه بالجملة نحوا من التصاريف التي قدمنا ذكرها.

4- تنوير: وبحثه فيما استند إليه من حكمة أو مثل على أن يردف معاني كلامه بها مضمنا لها بالجملة أو مشيرا إليها على جهة استدلال أو تعليل أو نحو ذلك. وقد يتصرف المثل بإبرازه في عبارة جديدة لا تشبه عبارته الأولى. وقد تختصر العبارات عن الأمثال فيورد منها في البيت الواحد المثلان والثلاثة. وقد يتمثل بالمثل على غير ما تمثل به الأول. فربما حسن موقعه من الكلام الثاني أكثر من حسنه في الكلام الأول. فإن كان موقعه في الكلام الأول أحسن عد مورده في الكلام الثاني مسيئا مقصرا. وقد يتصرف في الأمثال والتواريخ والمنظوم والنثور أنحاء من التصرف غير هذه. وإنما ذكرت من ذلك ما تيسر.

و معرف دال على طرق المعرفة بما توجد المعاني معه حاضرة منتظمة في الذهن على ما يجب أن يكون من بعض عائد إلى بعض, وما به يكون كمال التصرف فيها وفي سائر أركان هذه الصناعة على المذهب المختار.

لما كان الشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول ثلاثة أشياء, وهي: المهيئات والأدوات والبواعث, وكانت هذه المهيئات تحصل من جهتين: 1- النشء في بقعة معتدلة الهواء, حسنة الوضع, طيبة المطاعم, أنيقة المناظر, ممتعة من كل ما للأغراض الإنسانية به علقه.

2- والترعرع بين الفصحاء الألسنة المستعملين للأناشيد المقيمين للأوزان.

وكان المهيء الأول موجها طبع الناشئ إلى الكمال في صحة اعتبار الكلام محسن الروية في تفصيله وتقديره ومطابقة ما خارج الذهن به إيقاع كل جزء منه في كل نحو ينحى به أحسن مواقعه وأعدلها حتى يكون حسن نشء الكلام مشبها حسن نشء المتكلم به. وقد تكون النشأة حسنة على غير هذا النحو. وذلك بأن تستجد الأهوية للناشئ وترتاد له مواقع المزن ومواضع الكلإ والنبات الغض, ولا يخيم به في الموضع إلا ريثما يصوح كلأه ويغيض ماؤه, فإن الطباع الناشئة أيضاً على هذه الحال, وإن لم تكن في الأقاليم المعتدلة, جارية مجرى تلك في سداد الخاطر والتنبه لما يحسن هيآته اللفظية والمعنوي' إلى ما تهدوا. ولو اتفق النشء على هذه الحال من استجداد الأهوية وارتياد الأماكن أزمنة شبابها لأمة تكون أرضهم التي يترددون فيها أحسن الأرض بقعة وأمتعها وأعد لها هواء وكانت دواعيهم تتوفر على جعل الكلام عدة لما يراد من استثارة الأفعال الجمهورية أو كفكفتها بالإقناعات والتخييل المستعملة فيه نحو توفر دواعي العرب إلى ذلك لكانت هذه الأمة أجدر أمة أن تحوز قصبات السبق في الفصاحة وأن تستولي على الأمر الأقصى في ذلك. وأفصح قبائل العرب من شارف هذه الحال التي وصفنا أو قاربها.

والمهيئ الثاني موجه إياه لحفظ الكلام الفصيح وتحصيل المواد اللفظية والمعرفة بإقامة الأوزان.

وكانت الأدوات تنقسم إلى العلوم المتعلقة بالألفاظ والعلوم المتعلقة بالمعاني.

وكانت البواعث تنقسم إلى أطراب وإلى آمال. وكان كثير من الأطراب إنما يعتري أهل الرحل بالحنين إلى ما عهدوه ومن فارقوه, والآمال إنما تعلق بخدام الدول النافعة وجب ألا تكمل تلك المهيآت للشاعر إلا بطيب البقعة وفصاحة الأمة وكرم الدول ومعاهدة التنقل والرحلة. فقلما برع في المعاني من لم تنشئه بقعة فاضلة, ولا في الألفاظ من لم ينشأ بين أمة فصيحة, ولا في جودة النظم من لم يحمله على مصابرة الخواطر في إعمال الروية الثقة بما يرجوه من تلقاء الدولة, ولا في رقة أسلوب النسيب من لم تشط به عن أحبابه رحلة ولا شاهد موقف فرقة.

1- إضاءة: ولما كان القول في الشعر لا يخلو من أن يكون وصفا أو تشبيها أو حكمة أو تاريخا احتاج الشاعر أن تكون له معرفة بنعوت الأشياء التي من شأن الشعر أن يتعرض لوصفها, ولمعرفة مجاري أمور الدنيا وأنحاء تصرف الأزمنة والأحوال, وأن تكون له قوة ملاحظة لما يناسب الأشياء والقضايا الواقعة من أشياء أخر تشبهها, وقضايا متقدمة تشبه التي في الحال.

2- تنوير: ولا يكمل لشاعر قول على الوجه المختار إلا بأن تكون له قوة حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة.

فأما القوة الحافظة فهي أن تكون خيالات الفكر منتظمة, ممتازا بعضها عن بعض, محفوظا كلها في نصابه. فإذا أراد مثلا أن يقول غرضا ما في نسيب أو مديح أو غير ذلك وجد خياله اللائق به قد أهبته له القوة الحافظة بكون صور الأشياء مترتبة فيها على حد ما وقعت عليه في الوجود, فإذا أجال خاطره في تصورها فكأنه اجتلى حقائقها. وكثير من خواطر الشعراء تكون معتكرة الخيالات, غير منتظمة التصور, فإذا أجال خاطره في أوصاف الأشياء وخيالاتها اشتبهت عليه واختلطت وأخذ منها غير ما يليق بمقصده وبالموضع الذي يحتاج فيه إلى ذلك.

وكان المنتظم الخيالات كالناظم الذي تكون عنده أنماط الجواهر مجزأة محفوظة المواضع عنده. فإذا أراد أي حجر شاء على أي مقدار شاء عمد إلى الموضع الذي يعلم أنه فيه فأخذه منه ونظمه. وكذلك من كانت خيالاته وتصوراته منتظمة متميزة فإنه يقصد بملاحظة الخاطر منها إلى ما شاء فلا يعدوه.

والمعتكر الخيالات كناظم تكون جواهره مختلطة, فإذا أراد حجرا على صفة ما تعب فيه تفتيشه, وربما لم يقع على البغية, فنظم في الموضع غير ما يليق به. والمعتكر الخيالات في هذه الحال أجدر بطول السدر لكون الأشياء التي في الحس أوضح من التي في التصور والذهن.

3- إضاءة: والقوة المائزة هي التي بها يميز الإنسان ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض مما لا يلائم ذلك, وما يصح مما لا يصح.

والقوى الصانعة هي القوى التي تتولى العمل في ضم بعض أجزاء الألفاظ والمعاني والتركيبات النظمية والمذاهب الأسلوبية إلى بعض والتدرج من بعضها إلى بعض, وبالجملة التي تتولى جميع ما تلتئم به كليات هذه الصناعة.

وهذه القوى التي هي الحافظة والمميزة والملاحظة والصانعة وما جرى مجراها, في احتياج الشاعر أن تكون موجودة في طبعه على ما سنفصله في القسم الثالث إن شاء الله, هي المعبر عنها بالطبع الجيد في هذه الصناعة

ز- معلم دال على طرق العلم بالمناسبة بين بعض المعاني وبعض والمقارنة بين ما تناظر منها.

إن المعاني منها ما يتطالب بحسب الإسناد خاصة, ومنها ما يتطالب بحسب الإسناد وبحسب انتساب بعض المعاني إلى بعض في أنفسها بكونها أمثالا أو أشباها أو أضدادا أو متقاربات من الأمثال أو الأضداد.

فالنسب الإسنادية تلاحظ الأفكار فيها أربعة أشياء وهي: البيان والمبالغة والمناسبة والمشاكلة التي يكون سببها من الخفاء بحيث قد يتعذر عرفان كنهه.

1- إضاءة: فأما ما التطالب فيه بحسب انتساب بعض المعاني إلى بعض فلا تخلو النسبة فيه من أن تقع بين المعنيين بواسطة أو بغير واسطة, فأما ما وقعت فيه بغير واسطة فيمكن حصر أنواعه وصوره, وأما ما يقع فيه النسب بواسطة فعزيز حصرها فيه لكون كل معنى يمكن أن يكون جهة للتطالب بين معنيين بتوسطه, وجهة التطالب هي النسبة. ولقوى النفوس تفاضل في ملاحظة الجهة النبيهة في نسبة معنى إلى معنى والتنبه إليها, ومبحثها في ذلك علة الجهات التي تفيد معاني كالتشبيهات والتتميمات والمبالغات والتعليلات وغير ذلك من ضروب الوجوه التي تكسب الكلام حسنا وإبداعا.

2- تنوير: واعلم أن النسب الفائقة إذا وقعت بين هذه المعاني المتطالبة بأنفسها على الصور المختارة التي تقدم ذكرها في القسم الأول في الكلام على ما تناظر من الكلم من حيث إن المعاني متناظرة كان ذلك من أحسن ما يقع في الشعر. فإن للنفوس في تقارن المتماثلات وتشافعها والمتشابهات والمتضادات وما جرى مجراها تحريكا وإيلاعا بالانفعال إلى مقتضى الكلام لأن تناصر الحسن في المستحسنين المتماثلين والمتشابهين أمكن من النفس موقعا من سنوح ذلك لها في شيء واحد. وكذلك حال القبح. وما كان أمللك للنفس وأمكن منها فهو أشد تحريكا لها. وكذلك أيضاً مثول الحسن إزاء القبيح أو القبيح إزاء الحسن مما يزيد غبطة بالواحد وتخليا عن الآخر لتبين حال بالمثول إزاء ضده. فلذلك كان موقع المعاني المتقابلات من النفس عجيبا.

3- إضاءة: وإذا كان في كل صورة من هذه المتقابلات زيادة معنى على التقابل المفرد زادت الصيغة حسنا كالقلب الذي يعرض في المتماثلات وذلك كقول بعضهم: (البسيط -ق- المتراكب)

فليعجب الناس مني أن لي بدنا ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن

وكإيراد المتشابهات بلفظ التماثل, كقول حبيب: (الخفيف -ق- المترادف)

دمن طالما التقت أدمع ألمز ... ن عليها, وأدمع العشاق

4- تنوير: واعلم أن التماثل والتشابه والتخالف قد يقع في أشياء كثيرة الوجود, وقد لا تقع هذه النسب إلا في أشياء قليلة, وقد لا توجد واقعة في أكثر من شيئين. فربما وجد متماثلان لا يوجد لهما مماثل ثالث بالجملة, أو بالنسبة على مثل حالهما في الوجود. وكذلك قد يوجد المتشابهان والمتخالفان على مثل هذه الحال.

5- إضاءة: وكلما كانت المتماثلات أو المتشابهات أو المتخالفات قليلا وجودها وأمكن استيعابها مع ذلك أو استيعاب أشرفها وأشدها تقدما في الغرض الذي ذكرت من أجله كانت النفوس بذلك أشد إعجابا وأكثر له تحركا. فإن كانت الأمثال أو الأشباه عتيدة الوجود لم يحسن الاستيعاب, ووجب التخطي فيها من الأشرف إلى الأشرف, وكان جديرا ألا يناسب منها إلا بين ذوات الشهرة والمناسبة لغرض الكلام. ولا تجد النفس للمناسبة بين ما كثر وجوده ما تجد لما قل, من الهزة وحسن الموقع, لكونها لا تستغرب جلب العتيد استغرابها لجلب ما عز.

6- تنوير: وإذا كان معنى التماثل أو التشابه منتسبا إلى شيئين أو أشياء مشتركة فيه كان الوجه ألا يعاد ذلك المعنى مع كل واحد من الشيئين أو الأشياء مشتركة فيه كان الوجه ألا يعاد ذلك المعنى مع كل واحد من الشيئين أو الأشياء, وأن يكتفى بذكره مرة مع أحد تلك الأشياء على نحو من العبارة يعنى بها فيه عن التكرار إيثارا للاختصار, فيقدم محل التماثل متناسقة, وتقديمه أحسن. ويتفق على هذا الوجه أن يكون الكلام مع كونه من هذا الباب معدودا في التقسيم كقول التهامي: (الطويل -ق- المتدارك)

أبان لنا من دره يوم ودعا ... عقودا وألفاظا وثغرا وأدمعا

فاكتفى بذكر الدر مرة, وأورد الأشياء المنتسبة إليه إيرادا تقسيميا. وقد يتفق أن ينضاف فيه إلى التقسيم التفسير. كقول الشاعر: (البسيط -ق- المتراكب)

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى, وأبو سحق, والقمر

وقد يعد من هذا النحو قول البحتري: (البسيط -ق- المترادف)

في حلتي حبر وروض فالتقى ... وشيان: وشي ربى ووشي برود.

وقد يسوغ إجراء الشيئين مجرى الأشياء في الاكتفاء بذكر محل التماثل والتشبه مرة وإجراء الأشياء مجرى الشيئين في إعادة محل التماثل مع كل واحد منهما.

7- إضاءة: وأما المتخالفات والمتضادات فقد تكون الصيغ أيضاً فيها تقسيمية وتفسيرية. واستقصاء الكلام في ما أشرنا إليه بهذا المعلم يخرج عن غرض الاختصار والاقتصاد. وأنما أوردت ما أوردت من الكلام فيه كاللمحة الدالة, ومن فهم أصول هذا الباب سهل عليه تتبع فروعه اعتبار مواقع النسب فيها, وهو باب شريف.

ح- مأم من مذاهب البلاغة المستشرفة بهذا المعلم وما تقدم في المعلم المفتتح به هذا المنهج الذي فيه القول, وهو المذهب الذي تقصد فيه المطابقة.

وذلك بأن يوضع أحد المعنيين المتضادين أو المتخالفين من الآخر وضعا متلائما. وقدامة يخالف في هذه التسمية. فيجعل المطابقة تماثل المادة في لفظين متغايري المعنى, ويسمي تضاد المعنيين تكافؤا. ولا تشاح في الاصطلاح.

ولفظ المطابقة مشتق إما من قولك: هذا لهذا طبق أي مقدار لا يزيد عليه ولا ينقص, وإذا كان حقيقة الطباق مقابلة الشيء بما هو على قدره ومن وفقه سمي المتضادان إذا تقابلا ولاءم أحدهما في الوضع الآخر متطابقين. قال الخليل: "يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على حد واحد وألصقتهما." وإما من قولك: طابق الفرس إذا وقعت رجلاه في موضع يديه. قال الجعدي: (المتقارب -ق- المتواتر)

وخيل يطابقن بالدار عين ... طباق الكلاب, يطأن الهراسا

1- إضاءة: والمطابقة تنقسم إلى محضة وغير محضة.

فالمحضة مفاجأة اللفظ بما يضاده من جهة المعنى كقول جرير: (الكامل -ق- المتدارك)

وباسط خير فيكم بيمينه ... وقابض شر عنكم بشماليا

فقوله باسط وقابض وخير وشر من المطابقات المحضة. ومن ذلك قول دعبل: (الكامل -ق- المتراكب)

لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى

وغير المحضة تنقسم إلى مقابلة الشيء بما يتنزل منه منزلة الضد وإلى مقابلة الشيء بما يخالفه.

فأما ما تنزل منزلة الضد فمثل قول الشريف: (الرجز -ق- المترادف)

أبكي ويبسم والدجى ما بيننا ... حتى أضاء بثغره, ودموعي

فتنزل التبسم منزلة الضحك في المطابقة.

وأما المخالف فهو مقارنة الشيء بما يقرب من مضاده كقول عمرو ابن كلثوم: (الوافر -ق- المترادف)

بأنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا

ومن أبدع ما ضوغفت فيه المطابقة وجاءت العبارة الدالة عليها في أحسن ترتيب وأبدع تركيب قو أبي الطيب المتنبي: (البسيط -ق- المترادف)

أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي

وقد اجتمع في هذا البيت صنفا المطابقة: المحضة وغير المحضة.

2- تنوير: وقد تكون المطابقة بالإيجاب والسلب كقول السموءل: (الطويل -ق- المترادف)

وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول, حين نقول

وقول البحتري: (الطويل -ق- المتدارك)

تقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق, من حيث أعلم

وقد تقع المطابقة بغير اللفظ الصريح فيها, كقول بعضهم: (الطويل -ق- المتدارك)

فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم, مطلقا لم يكبل

وقد يوجد في الكلام ما صورته الطباق وليس بمطابقة من جهة المعنى كقول قيس بن الخطيم: (الطويل -ق- المتدارك)

وإني لأغني الناس عن متكلف ... يرى الناس ضلالا وليس بمهتدي

3- إضاءة: ويجري مجرى المطابقة تخالف وضع الألفاظ لتخالف في وضع المعاني, ولنسبة بعضها من بعض, فيقع بذلك بين جزأين من أجزاء الكلام نسبتان متخالفتان, فيجرى ذلك مجرى المطابقة في الألفاظ المفردة كقول بعضهم: (الرمل -ق- المتدارك)

أنت للمال إذا أصلحته ... فإذا أنفقته فالمال لك

ومن هذا النحو قول بعضهم: "إن من خوفك حتى تلقى الأمن خير ممن أمنك حتى تلقى الخوف". ويسمى هذا النوع من الكلام التبديل.

وقد تكلم الناس في ضروب المطابقات وبسطوا القول فيها فلا معنى للإطالة إذ قصدنا أن نتخطى ظواهر هذه الصناعة وما فرغ الناس منه إلى ما وراء ذلك مما لم يفرغ منه.

ط- مأم من المذاهب المستشرفة بالمعلم المتقدم أيضاً وهو مذهب المقابلة.

وإنما تكون المقابلة في الكلام بالتوفيق بين المعاني التي يطابق بعضها بعضا والجمع بين المعنيين اللذين تكون بينهما نسبة تقتضي لأحدهما أن يذكر مع الآخر من جهة ما بينهما من تباين أو تقارب, على صفة من الوضع تلائم بها عبارة أحد المعنيين عبارة الآخر كما لاءم كلا المعنيين في ذلك صاحبه.

1- إضاءة: وأنواع المقابلات تتشعب. وقل من تجده يفطن لمواقع كثير منها في الكلام. كما أن كثيرا من الناس يعد من المقابلة ما ليس منها. وأكثر ما يشعر به منها مقابلة التضاد والتخالف, كقول الجعدي: (الطويل -ق- المتدارك)

فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا

2- تنوير: فإذا وضع أحد المعنيين هذه الصفة بإزاء الآخر ومقابلا له كان الكلام بذلك بعضه بعضا, ومنتسبا أواخره إلى أوله. فكان للكلام بذلك حسن موقع من النفس.

3- إضاءة: وليس يشترط تحاذي عبارتي المعنيين المتقابلين في طرفي الكلام في الرتبة. وإذا أمكن تقابلهما فهو أحسن. وأنشد قدامة في ما تحاذت فيه العبارة: (الطويل -ق- المتدارك)

فيا عجبا, كيف اتفقنا فناصح ... وفي, ومطوي على الغش غادر

فقابل النصح والوفاء بالغش والغدر.

وأنشد أيضاً فيما لم تتخاذ فيه عبارتا المعنيين المتقابلين: (الوافر -ق- المترادف)

أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وسقينا دماءهم الترابا

فما صبروا لضرب عند حرب ... ولا أدوا لحسن يد ثوابا

فقابل ما في صدر البيت الأول بما في عجز الثاني, وما في عجز الأول بما في صدر الثاني.

وأنشد الخفاجي: (الطويل -ق- المتراداف)

جزى الله خيرا ذات بعل تصدقت ... على عزب حتى يكون له أهل

فإنا سنجزيها بحسن فعالها ... إذا ما تزوجنا وليس لها بعل

فجعل في مقابلة أن تكون المرأة ذات بعل وهو لا زوج له أن يكون هو ذا زوج وهي لا بعل لها, وحاجته وهو عزب بحاجتها وهي كذلك, وهذه مقابلة صحيحة.

4- تنوير: ومن ضروب المقابلة أيضاً قول تأبط شرا: (الطويل -ق- المتدارك)

أهز بها في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوارك

فقابل هز عطفه بالمنحة بهز عطف ممدوحه بالمدحة.

ومن المقابلة الصحيحة قول الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)

وإنا لتمضي بالأكف رما حنا ... إذا أرعشت أيديكم بالمعالق

ومن صحيح المقابلة في النثر قول هند بنت النعمان: "شكرتك يد نالتها خصاصة بعد نعمة, ولا ملكتك يد نالت ثروة بعد فاقة". وكتب بعضهم: "ولو أن (الأقدار إذ) رمت بك من المراتب في أعلاها بلغت في أفعال السؤدد إلى (ما وازاها) , فوازيت بمساعيك مراقيك وعادلت النعمة عليك بالنعمة فيك, ولكنك قابلت سمو الدرجة بدنو الهمة ورفيع الرتبة بوضيع الشيمة, فعاد علوك بالاتفاق إلى حال دنوك بالاستحقاق وصار جناحك في الانهياض إلى ما عليه قدرك في الانخفاض. فلا لوم على القدر إذ أذنب فيك فأناب وغلط بك فعاد إلى الصواب".

وهذه مقابلات صحيحة كلها.

5- إضاءة: ومن فساد المقابلة قول أبي عدى: (الخفيف -ق- المترادف)

يا ابن خير الأخيار من عبد شمس ... أنت زين الدنيا وغيث الجود

لأن غيث الجود ليس مقابلا لزين الدنيا من طريق المقابلة ولا التضاد.

ي- مأم من المذهب المستشرقة بالمعلم المتقدم أيضاً وهو التقسيم.

والتقسيم ضروب. فمن ذلك تعديد أشياء ينقسم إليها شيء لا يمكن انقسامه إلى أكثر منها, ومنها تعديد أشياء تكون لازمة عن شيء على سبيل الاجتماع أو التعاقب, ومنها تعديد أشياء تتقاسمها أشياء لا يصلح أن ينسب منها شيء إلا إلى ما نسب غليه من الأشياء المتقاسمة, ومنها تعديد أجزاء من شيء تتقاسمها أشياء أو أجزاء من شيء وتكون الأجزاء المعدودة إما جملة أجزاء الشيء أو أشهر أجزائه وأليقها بغرض الكلام, ويكون كل جزء منها لا يصلح أن ينسب إلى غير ما نسب غليه بالنظر إلى صحة المعنى, ومنها تعديد أشياء محمودة أو مذمومة من شيء متفقة في الشهرة والتناسب.

1- إضاءة: فما ركب من هذا القسم الأخير وما قبله مما ليس انقسامه إلى ما قسم غليه ضروريا لا تمكن الزيادة عليه ولا النقص منه, فإنه يسمى تقسيما على التسامح, ويسمى أيضاً تقطيعا. وما ركب من القسام المتقدمة فإنه التقسيم الصحيح.

2- تنوير: وينبغي أن يتحرز في القسمة من وقوع النقص فيها أو التداخل أو وقوع الأمرين فيها معا. فإن ذلك مما يعيب المعاني ويسلب بهجتها ويزيل طلاوتها. كما أن القسمة إذا تمت وسلمت من الخلل الداخل فيها من حيث ذكر وطابق حسن تركيب العبارة فيها حسن ترتيب المعاني كان الكلام بذلك أنيق الديباجة قسيم الرواء والهيئة.

واستقصاء الكلام في ما أشرت غليه من أنحاء القسمة وتفصيل القول في تمثيل ما رسمناه في ذلك محوج إلى إطالة تخرج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب. وقد تقدم التعريف بذلك, ولكني سألمع بأمثلة يسيرة من القسمة الصحيحة وما وقع فيه من ذلك عند التكلم في ما تكون عليه المعاني من كمال أو نقص. فليتصفح ذلك في المنهج الرابع, من هذا القسم, إن شاء الله تعالى.

يا- مأم من المذاهب المستشرقة بما تقدم أيضا, وهو مذهب التفسير.

والتفسير أيضاً أنواع. فمنه تفسير الإيضاح وهو إرداف معنى فيه إبهام ما بمعنى مماثل له غلا أنه أوضح منه. ومن ذلك قول أبي الطيب: (الطويل -ق- المتدارك)

ذكي تظنيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما ترى غدا

ومنه تفسير التعليل نحو قول أبي الحسن مهيار ابن مرزويه: (الطويل -ق- المتدارك)

بكيت على الوادي فحرمت ماءه ... وكيف يحل الماء أكثره دم

ومنه تفسير السبب نحو قوله: (الطويل -ق- المتدارك)

يرجى ويتقى ... يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق

ومنه تفسير الغاية, ومنه تفسير التضمن نحو قول ابن الرومي: (الطويل -ق- المترادف)

خبره بالداء, واسأله بحيلته ... تخبر وتسأل أخا فهم وإفهام

ومنه تفسير الإجمال والتفصيل كقول بعضهم: (الطويل -ق- المترادف)

أذكى وأخمد للعداوة والقرى ... نارين: نار وغى, ونار زناد

1- إضاءة: ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى المفسر, أو أن تكون في ذلك زيادة لا تليق بالغرض, أو أن يكون في المفسر زيغ عن سنن المعنى المفسر وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه, بل يجهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء.

2- تنوير: ومما جاء من التفسير غير وفق للمعنى المفسر قول بعضهم: (الطويل -ق- المتدارك)

فيا أيها الحيران في ظلم الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغي من العدا

تعال غليه تلق من نور وجهه ضياء, ومن كفيه بحرا من الندى

فمقابلة ما في عجز البيت الأول بما في عجز الثاني غير صحيحة. والتسامح في إيراد التفسير على مثل هذا مخل بوضع المعاني ومذهب لطلاوة الكلام, فينبغي أن يتحرز منه وألا يتسامح في مثله.

يب_ مأم من المذاهب المستشرقة بالمعلم المتقدم أيضاً وهو مذهب التفريع.

وهو أن يصف الشاعر شيئا بوصف ما. ثم يلتفت على شيء آخر يوصف بصفة مماثلة, أو مشابهة, أو مخالفة لما وصف به الأول, فيستدرج من أحدهما إلى الآخر, ويستطرد به غليه على جهة تشبيه أو مفاضلة أو التفات أو غير ذلك مما يناسب به بين بعض المعاني وبعض, فيكون ذكر الثاني كالفرع عن ذكر الأول. ومن ذلك قول الكميت: (البسيط -ق- المتراكب)

أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفى بها الكلب

وقول ابن المعتز: (الكامل -ق- المتدارك)

وكأن حمرة لونها من خده ... وكأن طيب نسيمها من نشره

حتى إذا صب المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبته من ثغره

ما زال ينجز لي مواعيد عينه ... فمه, وأحسب ريقه من خمره

وقول الصنوبري: (الكامل -ق- المتدارك)

ما أخطأت نوناته من صدغه ... شبها, ولا ألفاته من قده

فكأنما أنقاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من جلده

1- إضاءة: وكل معنى فرع عن معنى فقد يكون واقعا معه في حيز واحد, وقد يكون بينهما تباين في ذلك, وقد يكون المأخذ فيهما واحدا, وقد يكون متخالفا, وقد يكون أحدهما موجها من بعض جهات التوجيه نحو النسب الإسنادية على ما وجه غليه الآخر, وقد يكون أحدهما موجها إلى غير ما وجه إليه الآخر, ومن ذلك قول محمد بن وهيب: (الكامل -ق- المتراكب)

طللان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا نضد

لبسا البلى, فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد

2- تنوير: وينبغي أن يكون النقلة من أحد المعنيين على الآخر فيما قصد فيه التفريع متناسبة, وأن يكون المعنى الثاني مما يحسن اقترانه بالأول ويفيد الكلام حسن موقع من النفس. وما وقع من التفريع غير متناسب الوضع ولا متشاكل الاقتران لم يحس, وكان من قبيل التذييل والحشو الذي لا يحسن.

3- إضاءة: ولا ينبغي أن يذهب بالمعاني مذهب التفريع في قصيدة بجملتها, ولا أن يتابع ذلك في جملة فصول من القصيد, بل يلمع بذلك في بيت أو فصل غير طويل. وإن وقع ذلك في فصول أو أبيات غير متصلة, بحيث تقع المراوحة بينه وبين غيره من الصناعات, لم يكن مكروها, إذ يتوخى في جميع ذلك تناسب الانتقالات وحسن الاقترانات. وكلما كان الكلام مقتصرا به على فن واحد من الإبداعات, وإن كان حسنا في نفسه, لم يحسن لأن ذلك مؤد على سآمة النفس, فإن شيمتها الضجر مما يتردد والولع بما يتجدد.

المنهج الثالث, في الإبانة عما به تتقوم صنعتا الشعر والخطابة من التخييل والإقناع, والتعريف بأنحاء النظر في كلتا الصنعتين, من جهة ما به تقومت, وما به تعتبر أحوال المعاني في جميع ذلك, من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.

أ?- معلم دال على طرق العلم بما تتقوم به صناعة الشعر من التخييل, وما به تتقوم صناعة الخطابة من الإقناع, والرفق بين الصناعتين في ذلك.

لما كان كل كلام يحتمل الصدق والكذب غما أن يرد على جهة الإخبار والاقتصاص وإما أن يرد على جهة الاحتجاج والاستدلال, وكان اعتماد الصناعة الخطابية في أقاويلها على تقوية الظن لا على إيقاع اليقين -اللهم إلا أن يعدل الخطيب بأقاويله عن الإقناع إلى التصديق, فإن للخطيب أن يلم بذلك في الحال بين الأحوال من كلامه- واعتماد الصناعة الشعرية على تخييل الأشياء التي يعبر عنها بالأقاويل وبإقامة صورها في الذهن بحسن المحاكاة, وكان التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن, لأن الشيء قد يخيل على ما هو عليه وقد يخيل على غير ما هو عليه, وجب أن تكون الأقاويل الخطبية -اقتصادية كانت أو احتجاجية- غير صادقة ما لم يعدل بها عن الإقناع إلى التصديق, لأن ما يتقوم به وهو الظن مناف لليقين, وأن تكون الأقاويل الشعرية اقتصادية كانت أو استدلالية غير واقعة أبدا في طرف واحد من النقيضين اللذين هما الصدق والكذب, ولكن تقع صادقة وتارة كاذبة, إذ ما تتقوم به الصناعة الشعرية وهو التخييل غير مناقض لواحد من الطرفين. فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة, وليس يعد شعرا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل.

1- إضاءة: ولما كانت الأقاويل الصادقة لا تقع في الخطابة بما هي خطابة إلا بأن يعدل بها عن طريقتها الأصلية وكان ما وقع منها في الشعر غير مقصود من حيث هو صدق كما لا تكون الأقاويل الكاذبة فيها مقصودة من حيث هي كذب بل من حيث هي أقاويل مخيلة رأيت ألا أشتغل بحصر الطرق التي بها يماز القول الصادق من غيره وتفصيل القول في ذلك, فإن ذلك مخرج على محض صناعة المنطق. وإن كنت قد أشرت إلى الأنحاء التي يتعرف منها ذلك إشارة إجمالية لأرشد الناظر في هذه الصناعة إلى جهات الفحص عن ذلك, وأدله على مظان التماسه, فإن الخطيب واجب عليه والشاعر متأكد في حقه أن يعرف الوجوه التي تصير بها الأقاويل الكاذبة موهمة أنها صدق.

2- تنوير: وإنما يصير القول الكاذب مقنعا وموهما أنه حق بتمويهات واستدراجات ترجع إلى القول أو المقول له. وتلك التمويهات والاستدراجات قد توجد في كثير من الناس بالطبع والحنكة الحاصلة باعتياد المخاطبات التي يحتاج فيها إلى تقوية الظنون في شيء ما أنه على غير ما هو عليه بكثرة سماع المخاطبات في ذلك والتدرب في احتذائها.

3- إضاءة: والتمويهات تكون في ما يرجع على الأقوال. والاستدرجات تكون بتهيؤ المتكلم بهيئة من يقبل قوله, أو باستمالته المخاطب واستلطافه له بتزكيته وتقريظه, أو باطبائه إياه لنفسه وإحراجه على خصمه حتى يصير بذلك كلامه مقبولا عند الحكم, وكلام خصمه غير مقبول.

4- تنوير: والتمويهات تكون بطي محل الكذب من القياس عن السامع, أو باغتراره إياه ببناء القياس على مقدمات توهم أنها صادقة لاشتباهها بما يكون صدقا, أو بترتيبه على وضع يوهم أنه صحيح لاشتباهه بالصحيح, أو بوجود الأمرين معا في القياس أعني أن يقع فيه الخلل من جهتي المادة والترتيب معا, أو بإلهاء السامع عن تفقد موضع الكذب وإن كان إلى حيز الوضوح أقرب منه على حيز الخفاء بضروب من الإبداعات والتعجيبات تشغل النفس عن ملاحظة محل الكذب والخلل الواقع في القياس من جهة مادة أو من جهة ترتيب أو من جهة المادة والترتيب معا.

5- إضاءة: فلما كان كثير من التمويهات التي تكون من غير جهة اشتغال النفوس بالتعجيبات والإبداعات البلاغية عن تفقد محل الكذب يقصدها كثير من الناس بطباعهم ويتهدون إليها بأفكارهم -وإن كان تحصيل القوانين في حصر طرق تلك التمويهات أنفع شيء للخطيب في التوصل إلى الملكة الخطابية- رأيت ألا أشتغل بحصر تلك الطرق عما هو أنسب إلى هذه الصناعة من ذلك عن إبانة وجوه النظر البلاغي في الأقاويل الخطابية والشعرية من جهة ما يخص كلتا الصناعتين ويعمهما, وأن نشير في ما أشرنا إليه من ذكر طرق التمويهات الخطابية على ما أصله أهل صناعة المنطق كابن سينا وغيره.

6- تنوير: وليس ترد المقاييس في الأقاويل الشعرية والخطابية المقصود بها البلاغة إلا محذوفة إحدى المقدمتين أو النتيجة في الحمليات, ومحذوفة الاستثناءات والنتائج في الشرطيات المتصلات, لأن القياس كلام تلازمت فيه القضايا فصار مسئما بطوله مع ما يقع فيه من تكرار الأسوار والحد الأوسط وأجزاء النتيجة. وكذلك المقدمات والتوالي في الشرطيات المتصلات يقع فيهما وفيما يتصل بهما التكرار أيضاً بما يعاد من أجزائهما في الاستثناء والنتيجة. فلما كان القول القياسي قد لزمه الطول والتكرار لم يكن لهم بد, فيما قصدوا به البلاغة من كلامهم, من أن يعدلوا مقداره ويميطوا تكراره. فإن الكلام إذا خف واعتدل حسن موقعه من النفس, وإذا طال وثقل اشتدت كراهة النفس له.

7- إضاءة: وليس يحمد في الكلام أيضاً أن يكون من الخفة بحيث يوجد فيه طيش, ولا من القصر بحيث يوجد فيه انبتار, لكن المحمود من ذلك ما له حظ من الرصانة لا تبلغ به إلى الاستثقال, وقسط من الكمال لا يبلغ به إلى الإسآم والإضجار. فإن الكلام المتقطع الأجزاء المنبتر التراكيب غير ملذوذ ولا مستحلى, وهو شبه الرشفات المتقطعة التي لا تروي غليلا. والكلام المتناهي في الطول يشبه استقصاء الجرع المؤدي إلى الغصص, فلا شفاء مع التقطيع المخل ولا راحة مع التطويل الممل, ولكن خير الأمور أوساطها.

8- تنوير: ولا يحذف من المقاييس إلا ما يكون في قوة الكلام دليل عليه من مقدمة أو نتيجة أو قضية مستثناة. وهذا المحذوف قد يكون القصد به طي المقدمة التي يظهر فيها الكذب, وقد تكون مقدمات القياس كلها صادقة وتطوى إحداها لما ذكرته من قصد التخفيف خاصة.

9- إضاءة: وقد يكون اقتضاء ما أبقي من القياس لما أميط عنه اقتضاء صحيحا. وقد يكون غير مقتض له في الحقيقة ويظهر في بادئ الرأي أنه مقتض له على الصحة. وأكثر ما يكون هذا في الاستثناءات الشرطية نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المتدارك)

وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

ففي قوة هذا الكلام, على ما يترامى إليه غرض القول, أن يكون الاستثناء نقيض المقدم والنتيجة نقيض التالي, أي لكنك لم تسؤك مني خليقة فيوهم أنه منتج: فلا تسلي ثيابي من ثيابك. وهذا استثناء وإنتاج غير صحيحين, وإنما يستعمل هذا في الخطابة على جهة الإقناع. وإنما تصح نتيجة الشرطية المتصلة إذا استثني فيها عين المقدم فأنتج عين التالي, أو استثني نقيض التالي فأنتج نقيض المقدم. والمقدم هي القضية التي تلي حرف الشرط, والتالي هي القضية التي تكون جوابا للشرط.

10- تنوير: فإذا كان الاستثناء والإنتاج على هذا النحو الذي ذكرته آخرا وكانت القضايا صحيحة مسلمة كان القياس صحيحا وكان لزوم النتيجة لما تقدمها من أجزاء القياس واجبا, لأن القياس قول مؤلف من مقدمات وقضايا إذا كانت مسلمة ورتبت الترتيب الذي يجب في القياس الصحيح لزم عن ذلك القول المرتب لذاته قول آخر يسمى نتيجة.

11- إضاءة: فما كان من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل وموجودة فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا, سواء كانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية يقينية أو مشتهرة أو مظنونة. وما لم يقع فيه من ذلك بمحاكاة فلا يخلو من أن يكون مبنيا على الإقناع وغلبة الظن خاصة, أو يكون مبنيا على غير ذلك. فإن كان مبنيا على الإقناع خاصة كان أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر سائغا فيه. وما كان مبنيا على غير الإقناع مما ليس فيه محاكاة فإن وروده في الشعر والخطابة عبث وجهالة سواء كان ذلك صادقا أو مشتهرا أو واضح الكذب.

12- تنوير: وأكثر ما يستدل في الشعر بالتمثيل الخطابي. وهو الحكم على جزئي بحكم موجود في جزئي آخر يماثله, نحو قول حبيب: (البسيط -ق- المتراكب)

أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضى من ناضر السلم

فالأقاويل التي بهذه الصفة خطابية بما يكون فيها من إقناع, شعرية بكونها متلبسة بالمحاكاة والخيالات.

13- إضاءة: والاستدلالات الواقعة في الشعر والأمثال المضروبة فيه إنما تجيء تابعة لبعض ما في الكلام, أو لما قد أشير إليه مما هو خارج عنه. فهي إما محاكاة لمتنوعاتها, أو تخييلات فيها أو من أجلها. فكثير من الأمثال أيضاً يكون قولا شعريا, ويكون منها ما هو قول حق, ومنها ما ليس بحق كما كان ذلك في المحاكاة والاستدلالات.

14- تنوير: وإنما اتسع في المحاكيات الشعرية, على هذه الأنحاء التي أشرت غليها وعلى ما نذكره بعد في أصناف المحاكيات وكيفيات التصرف فيها, في لسان العرب خاصة. فلذلك وجب أن توضع لها من القوانين أكثر مما وضعت الأوائل.

فإن الحكيم أرسطاطاليس, وإن كان اعتنى بالشعر بحسب مذاهب اليونانية فيه ونبه على عظيم منفعته وتكلم في قوانين عنه, فإن أشعار اليونانية إنما كانت أغراضاً محدودة في أوزان مخصوصة, ومدار جل أشعارهم على خرافات كانوا يضعونها يفرضون فيها وجود أشياء وصور لم تقع في الوجود, ويجعلون أحاديثها أمثالا وأمثلة لما وقع في الوجود. وكانت لهم أيضاً أمثال في أشياء موجودة نحوا من أمثال كليلة ودمنة ونحوا مما ذكره النابغة من حديث الحية وصاحبها. وكانت لهم طريقة أيضاً - وهي كثيرة في أشعارهم - يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه, وتنقل الدول وما تجرى عليه أحوال الناس وتؤول إليه.

فأما غير هذه الطرق, فلم يكن لهم فيها كبير تصرف, كتشبيه الأشياء بالأشياء, فإن شعر اليونانيين ليس فيه شيء منه, وإنما وقع في كلامهم التشبيه في الأفعال لا في ذوات الأفعال.

ولو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم والأمثال, والاستدلالات واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظا ومعنى, وتبحرهم في أصناف المعاني وحسن تصرفهم في وضعها ووضع الألفاظ بإزائها, وفي إحكام مبانيها واقتراناتها ولطف التفاتاتهم وتتميماتهم واستطراداتهم, وحسن مآخذهم ومنازعهم وتلاعبهم بالأقاويل المخيلة كيف شاؤا, لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية.

فإن أبا علي بن سينا قد قال عند فراغه من تلخيص كتابه في الشعر: "هذا هو تلخيص القدر وجد في هذه البلاد من كتاب الشعر للمعلم الأول. وقد بقي منه شطر صالح ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق وفي علم الشعر, بحسب عادة هذا الزمان, كلاما شديد التحصيل والتفصيل. وأما ها هنا فلنقتصر على هذا المبلغ". انتهى كلام ابن سينا.

وفي كلامه إشارة إلى تفخيم علم الشعر, وما أبدت فيه العرب من العجائب, وإلى كثرة تفاصيل الكلام في ألفاظه ومعانيه ونظمه وأسالبيه, واتساع مجال القول في ذلك.

15- إضاءة: وقد ذكرت في هذا الكتاب من تفاصيل هذه الصنعة ما أرجو أنه من جملة ما أشار إليه أبو علي ابن سينا.

وقد تركت من ذلك أشياء لم يمكني الكلام فيها لكون بعض أغراض النفس تحث على الانحفار في التأليف وتعجيل الإتمام له, ولأن استقصاء القول في هذه الصناعة محوج إلى إطالة تتخون أزمنة الناظر وتعوقه عما يجب أن يترقى إليه من هذه الصناعة من العلوم النافعة. فإن النظر في أسرار هذه الصناعة مفتاح للنظر في تلك ومرقاة لها. وإنما يجب أن يقتصر في التأليف من هذه الصناعة على ظواهرها ومتوسطاتها, ويمسك عن كثير من خفاياها ودقائقها لأن مرام استقصائها عسير جدا, مضطر إلى الإطالة الكثيرة, ولأن هذه القوانين الظاهرة والمتوسطة أيضاً من فهمها وأحكم تصورها وعرفها حق معرفتها أمكنه أن يصير منها إلى خفايا هذه الصنعة ودقائقها, ويعلم كيف الحكم فيما تشعب من فروعها, فيحصل له جميع الصنعة أو أكثرها بطريق مختصر. والله ولي الإرشاد لمن استرشده.

16- تنوير: وإنما صح أن تقع الأقاويل الصادقة في الشعر, ولم تصح أن تقع في الخطابة ما لم يعدل بها عن الإقناع إلى التصديق, لأن ما تتقوم به صنعة الخطابة, وهو الإقناع, مناقض للأقاويل الصادقة, إذ الإقناع بعيد من التصديق في الرتبة. والشعر لا يناقض اليقين ما يتقوم به وهو التخييل, فقد يخيل الشيء ويمثل على حقيقته. فلذلك وجب أن يكون في الكلام المخيل صدق وغير صدق. ولا يكون في الكلام المقنع ما لم يعدل به إلى التصديق إلا الظن الغالب خاصة, والظن مناف لليقين.

فالشعر إذن قد تكون مقدماته يقينية ومشهورة ومظنونة. ويفارق البرهان والجدل والخطابة بما فيه من التخييل والمحاكاة, ويختص بالمقدمات المموهة الكذب. فيكون شعرا أيضاً ما هذه صفته باعتبار ما فيه من المحاكاة والتخييل, لا من جهة ما هو كاذب, كما لم يكن شعرا من جهة ما هو صدق, بل بما كان فيه أيضاً من التخييل. فلاختصاص الشعر باستعمال المحاكاة في المقدمات الكاذبة ما يقصر على النسبة إليه كل كلام مخيل مقدماته كاذبة, فيقال: كلام شعري إذ هو المختص باستعمال المقدمات الكاذبة من حيث يخيل فيها أو بها لا من حيث هي كاذبة. وإن شارك جميع الصنائع في ما اختصت به, وكان له أن يخيل في جميع ذلك, فالتخييل هو المعتبر في صناعته, لا كون الأقاويل صادقة أو كاذبة.

ب- معرف دال على المعرفة بماهية الشعر وحقيقته.

الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب على النفس ما قصد تحبيبه إليها, ويكره إليها ما قصد تكريهه, لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه, بما يتضمن من حسن تخييل له, ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة تأليف الكلام, أو قوة صدقه أو قوة شهرته, أو بمجوع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها.

1- إضاءة: فأفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيأته, وقويت شهرته أو صدقه, أو خفي كذبه, وقامت غرابته. وإن كان قد يعد حذقا للشاعر اقتداره على ترويج الكذب وتمويه على النفس وإعجالها إلى التأثر له قبل, بإعمالها الروية في ما هو عليه. فهذا يرجع إلى الشاعر وشدة تحيله في إيقاع الدلسة للنفس في الكلام. فأما أن يكون ذلك شيئا يرجع إلى ذات الكلام فلا.

وأردأ الشعر ما كان قبيح المحاكاة والهيئة, واضح الكذب, خليا من الغرابة, وما أجدر ما كان بهذه الصفة ألا يسمى شعرا وإن كان موزونا مقفى, إذ المقصود بالشعر معدوم منه, لأن ما كان بهذه الصفة من الكلام الوارد في الشعر لا تتأثر النفس لمقتضاه, لأن قبح الهيأة يحول بين الكلام وتمكنه من القلب, وقبح المحاكاة يغطي على كثير من حسن المحاكى أو قبحه ويشغل عن تخيل ذلك. فتجمد النفس عن التأثر له, ووضوح الكذب يزعها عن التأثر بالجملة.

2- تنوير: فإن حسنت الهيأة والمحاكاة ولم يكن الكذب شديد الوضوح, خادعا النفس عما تستشعره أو تعتقده من الكذب, وحركاها إلى اعتماد الشيء بفعل أو اعتقاد أو التخلي عنه تحريك مغالطة, فهذا أدنى مراتب الشعر إذا لم يعتد بما ذكرناه أولا.

3- إضاءة: وإنما يرجع الشاعر إلى القول الكاذب حيث يعوزه الصادق والمشتهر بالنسبة إلى مقصده في الشعر. فقد يريد تقبيح حسن وتحسين قبيح, فلا يجد القول الصادق في هذا ولا المشتهر, فيضطر حينئذ إلى استعمال الأقاويل الكاذبة.

4- تنوير: فأما إذا قصد تحسين حسن وتقبيح قبيح, فإنه متمكن من القول الصادق والمشهور فيهما. وأكثر أقوال الشعراء في هذين القسمين, إذا لم يقصدوا المبالغة في ما يحاكونه ويصفونه, صادقة. اللهم إلا أن يقصدوا المبالغة في تحسين حسن أو تقبيح قبيح فيتجاوزون حدود أوصافه الحقيقية ويحاكونه بما هو أعظم منه حالا أو أحقر ليزيدوا النفوس استمالة إليه أو تنفيرا عنه.

5- إضاءة: ولا يخلو الشيء الحسن من أن يكون أحسن ما في معناه, أو أن يكون ثم ما هو أحسن منه. وكذلك القبيح قد يوجد أقبح منه أو لا يوجد. فالحسن الذي لا أحسن منه, والقبيح الذي لا أقبح منه, ولا يوجد مساو لهما في معنييهما, لا ينبغي أن يكون الأقوال فيهما صادقة في الأولى والأكثر, فإن محاكاته بما هو دونه تقصير به وليس هناك إلى ما يطمح به. فأما الحسن والقبيح اللذان يوجد في معناها ما هو أعظم منهما أو ما يساويهما, فإن الأقاويل الشعرية ترد فيهما صادقة وكاذبة, بحسب ما يعتمده الشاعر من اقتصاد في الوصف أو مبالغة.

6- تنوير: وإذا حقق القول وجدت الأقاويل أيضاً في تقبيح الحسن وتحسين القبيح قد تكون صادقة لأن كل شيء حسن يقصد محاكاته وتخييله, وإن أحسن ما في معناه, فقد يوجد فيه وصف مستقبح. وكذلك الشيء القبيح, فإنه وإن كان لا أقبح منه, قد يوجد فيه وصف مستحسن.

فقد قال الجاحظ: " ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين, وإذا ذموا ذكروا أقبحهما".

وأنا أذكر الأنحاء التي يترامى إليها صدق الشعر أو كذبه بما يقتضيه أصل الصناعة ويوجبه. وهو الذي يعتمده المطبوعون من الشعراء, وهي ثمانية أنحاء: تحسين حسن لا نظير له. فهذا يجب أن تكون الأقاويل فيه صادقة وكذلك تقبيح القبيح الذي لا نظير له.

وتحسين حسن له نظير. وكثيرا ما يقع في هذا أيضاً الصدق إذا اقتصد في أوصافه واقتصر على الوقوف عند حدودها. وكذلك أيضاً إن اقتصد في محاكاته بغيره واقتصر به على المشابهة دون الغاية التي يطمح فيها عن محاكاة الشيء بالشيء إلى قول هو هو.

وفرق بين قولك في الشيء: إنه الشيء الآخر, وبين قولك: إنه مثله وشبهه, إذا لم ترد في نفسك معنى التشبيه, وتكون قد حذفت الحرف الدال عليه إيجازا, بل أردت أن يصير به اثنينية شيئين اتحادا. وهذا يكون في المشابهة وغيرها.

قال أبو علي بن سينا: "المجانسة اتحاد في الجنس, والمشاكلة اتحاد في النوع, والمشابهة اتحاد في الكيف, والمساواة اتحاد في الكم, والموازاة اتحاد في الوضع, والمطابقة اتحاد في الأطراف, والهو هو اتحاد في شيء من اثنين يجعل اثنين في الوضع تصير به اثنينيتهما اتحادا بنوع من الاتحادات الواقعة بين اثنين مما قيل".

فما وقع من الأوصاف والمحاكاة مقتصدا فيه غير متجاوز فهو قول صدق. فإذا قيل في الشيء: إنه كالشيء, وكان فيه شبه منه , فهو قول حق. لأن الكاف وحروف التشبيه إنما وضعت لأن تدل على الشبه من حيث إنه موجود, قل أو كثر, لا من حيث الكمية, فقد يقوى الشبه ويضعف وتكون المحاكاة مع ذلك صادقة إلا أنها في أحد الحالين أوضح.

وكثير من الناس يغلط فيظن أن التشبيه والمحاكاة من جملة كذب الشعر, وليس كذلك. لأن الشيء إذا أشبه الشيء فتشبيهه به صادق, لأن المشبه مخبر أن شيئا أشبه شيئا, وكذلك هو بلا شك. ولأن التشبيه بإظهار الحرف وإضماره قول صادق, إذا كان في أحد الشيئين شبه من الآخر -ورد التشبيه في القرآن لأن الماء يشبه السراب بلا شك, والهلال شبيه بالعرجون القديم ولا بد. وكذلك جميع تشبيهات الكتاب العزيز, الشبه فيها ظاهر- فقد تبين أن الوصف والمحاكاة لا يقع الكذب فيهما إلا بالإفراط وترك الاقتصاد.

وحكم تقبيح القبيح الذي له نظير حكم ضده الذي فرغت منه.

وقد يقع الصدق أيضاً في تحسين القبيح, ووقوعه في ما هو الغاية في القبح أقل من وقوعه في ما هو دون الغاية من ذلك. وكذلك حكم تقبيح الحسن, فإن الصدق في ما هو الغاية في ذلك أقل منه في ما دونها.

وسيأتي لهذا زيادة بيان.

7- إضاءة: ولنقسم الآن الكلام الشعري بالنسبة على الصدق والكذب القسمة التي يتبين بها كيف يقع الكذب في صناعة الشعر, وما الذي يسوغ منه وما لا يسوغ.

فأقول: عن الأقاويل الشعرية منها ما هو صدق محض, ومنها ما هو كذب محض, ومنها ما يجتمع فيه الصدق والكذب.

والكذب منه ما يعلم أنه كذب من ذات القول, ومنه ما لا يعلم كذبه من ذات القول. فالذي لا يعلم كذبه من ذات القول ينقسم: على ما لا يلزم علم كذبه من خارج القول, وإلى ما يعلم من خارج القول أنه كذب ولا بد.

فالذي لا يعلم كذبه من ذات القول, وقد لا يكون طريق إلى علمه من خارج أيضا: هو الاختلاق الإمكاني. وأعني بالاختلاق: أن يدعي الإنسان أنه محب ويذكر محبوبا تيمه ومنزلا شجاه, من غير أن يكون كذلك. وعنيت بالإمكان: أن يذكر ما يمكن أن يقع منه ومن غيره من أبناء جنسه, وغير ذلك مما يصفه ويذكره.

والذي يعلم من خارج القول أنه كذب ولا بد: الاختلاق الامتناعي, والإفراط الامتناعي والاستحالي.

والإفراط: هو أن يغلو في الصفة فيخرج بها عن حد الإمكان على الامتناع أو الاستحالة.

وقد فرق بين الممتنع والمستحيل, بأن الممتنع: هو ما لا يقع في الوجود وإن كان متصورا في الذهن, كتركيب يد أسد على رجل مثلا.

والمستحيل: هو ما لا يصح وقوعه في وجود, ولا تصوره في ذهن ككون الإنسان قائما قاعدا في حال واحدة.

فأما الإفراط الإمكاني فلا يتحقق ما هو عليه من صدق أو كذب, لا من ذات القول ولا من بديهة العقل, بل يستند العقل في تحقق ذلك إلى أمر خارج عنه وعن القول, إلا أن يدل القول على ذلك بالعرض. فلا يعتد بهذا أيضا. وإنما نسميه إفراطا بحسب ما يغلب على الظن.

8- تنوير: والاختلاق الإمكاني يقع للعرب من جهات الشعر وأغراضه.

وجهات الشعر: هو ما توجه الأقاويل الشعرية لوصفه ومحاكاته مثل: الحبيب, والمنزل, والطيف في طريق النسيب. فمثل هذه الجهات يعتمد وصف ما تعلق بها من الأحوال التي لها علقه بالأغراض الإنسانية, فتكون مسانح لاقتناص المعاني بملاحظة الخواطر ما يتعلق بجهة جهة من ذلك.

والأغراض: هي الهيئات النفسية التي ينحى بالمعاني المنتسبة على تلك الجهات نحوها ويمال بها في صغوها لكون الحقائق الموجودة لتلك المعاني في الأعيان مما يهيء النفس بتلك الهيآت, ومما تطلبه النفس أو تهرب منه, إذا تهيأت بتلك الهيآت.

وسيأتي لهذا فضل بيان في القسم الرابع إن شاء الله.

9- إضاءة: والاختلاق الامتناعي ليس يقع للعرب في جهة من جهات الشعر أصلا.

وكان شعراء اليونانيين يختلقون أشياء يبنون عليها تخاييلهم الشعرية ويجعلونها جهات لأقاويلهم, ويجعلون تلك الأشياء التي لم تقع في الوجود كالأمثلة لما وقع فيه, ويبنون على ذلك قصصا مخترعا نحو ما تحدث به العجائز الصبيان في أسمارهم من الأمور التي يمتنع وقوع مثلها.

وقد قال أبو علي ابن سينا: "وقد كان يستعمل في طراغوذيا أيضاً جزيئات في بعض المواضع مخترعة على قياس المسميات الموجودة. ولكن ذلك من النادر القليل. وفي النوادر قد يخترع اسم شيء لا نظير له من الوجود ويوضع بدل معنى كلي".

وقد ذم ابن سينا هذا النوع من الشعر فقال: "ولا يجب أن يحتاج في التخيل الشعري إلى هذه الخرافات البسيطة التي هي قصص مخترعة". وقال أيضا: "إن هذا ليس مما يوافق جميع الطباع".

10- تنوير: فأما أغراض الشعر المنوطة بالجهات المذكورة, فإن العرب كانت لها فيها اختلاقات: منها اقتصادية, ومنها إفراطية. والإفراطية منها ممكنة, وممتنعة, ومستحيلة.

فالكذب الاختلاقي في أغراض الشعر لا يعاب من جهة الصناعة لأن النفس قابلة له, إذ لا استدلال على كونه كذبا من جهة القول ولا العقل. فلم يبق إلا أن يعاب من جهة الدين. وقد رفع الحرج عن مثل هذا الكذب أيضاً في الدين, فإن الرسول ﷺ كان ينشد النسيب أمام المدح, فيصغي إليه ويثيب عليه.

والكذب الإفراطي معيب في صنعة الشعر إذا خرج (من) حد الإمكان إلى حد الامتناع أو الاستحالة.

والإفراط: هو القسم الذي يجتمع فيه الصدق والكذب. فإن الشاعر إذا وصف الشيء بصفة موجودة فيه, فأفرط فيها, كان صادقا من حيث وصفه بتلك الصفة, وكاذبا من حيث أفرط فيها وتجاوز الحد. فهذا قد يجيء منه ما يستحسنه بعض أرباب هذه الصنعة.

وسيأتي تفصيل القول في هذا إن شاء الله.

فأما القسم الثالث وهو القول الصادق, فمنه القول المطابق للمعنى على ما وقع في الوجود, ومنه المقصر عن المطابقة بأن يدل على بعض الوصف ويقع دون الغاية التي انتهى إليها الشيء من ذلك الوصف. فهذا النوع من الصدق في الشعر قبيح من جهة الصناعة وما يجب فيها.

11- إضاءة: فأغراض الشعر إذا منها حاصلة, ومنها مختلفة. والحاصلة منها ما تكون الأقاويل فيها اقتصادية وتقصيرية وإفراطية. وكذلك المختلفة تكون أقاويلها أيضاً اقتصادية وتقصيرية وإفراطية, والإفراطية: منها إمكانية ومنها امتناعية ومنها استحالية. يتركب منها عشرة أصناف: صنفان منها صادقان: 1- وهي الحاصلة التي أقاويلها اقتصادية, 2- والحاصلة التي أقاويلها تقصيرية.

وصنف يحتمل الصدق والكذب: وهي الحاصلة التي أقاويلها إمكانية.

وسبعة أصناف كاذبة: 1- وهي الحاصلة التي أقاويلها ممتنعة 2- والحاصلة التي أقاويلها مستحيلة 3- والمختلفة التقصيرية 4- والاقتصادية 5- والإمكانية 6- والامتناعية 7- والاستحالية.

فهذه قسمتها بالنسبة على الصدق والكذب.

12- تنوير: وتنقسم من جهة ما يستحسن في الشعر ويستساغ, ومن جهة ما يستساغ ولا يستحسن, ومن جهة ما لا يستساغ ولا يستحسن, على عشرة أقسام: أربعة منها مستحسنة: 1- وهي الحاصلة التي أقاويلها اقتصادية 2- والحاصلة التي أقوالها إمكانية 3- والمختلفة التي أقاويلها اقتصادية 4- والمختلفة التي أقاويلها إمكانية وقسمان منها مستساغان وغير مستحسنين, وهما: 1- الحاصلة التي أقوالها امتناعية, 2- والمختلفة التي أقاويلها امتناعية أيضاً.

وأربعة منها غير مستساغة ولا مستحسنة, وهي: 1- الحاصلة التقصيرية 2- والحاصلة الاستحالية, 3- والمختلفة التقصيرية, 4- والمختلفة الاستحالية.

فقد ثبت بهذا أن للاستساغة في الكلام الشعري ستة مذاهب, وللاستحسان أربعة مذاهب, وللصدق ثلاثة مذاهب.

كل هذه المذاهب الاستساغية والاستحسانية والصدقية يقع في جميع أنحاء الشعر الثمانية وهي: تحسين حسن له نظير, وتحسين حسن لا نظير له, وتقبيح قبيح له نظير, وتقبيح قبيح لا نظير له, وتحسين قبيح له نظير, وتقبيح حسن لا نظير له.

فالصدق في جميعها يدخل من ثلاثة مذاهب على ما بينته. وهو أكثر وقوعا في بعض هذه الأنحاء منه في بعض, كما تقدم.

13- إضاءة: وإنما احتجت على إثبات وقوع الأقاويل الصادقة في الشعر لأرفع الشبة الداخلة في ذلك على قوم, حيث ظنوا أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة. وهذا قول فاسد قد رده أبو علي ابن سينا في غير ما موضع من كتبه, لأن الاعتبار في الشعر غنما هو التخييل في أي مادة اتفق, لا يشترط في ذلك صدق ولا كذب, بل أيهما ائتلفت الأقاويل المخيلة منه فبالعرض. لأن صنعة الشعر هي جودة التأليف وحسن المحاكاة, وموضوعها الألفاظ وما تدل عليه.

فالصدق والكذب والشهرة والظن أشياء راجعة على المفهومات التي هي شطر الموضوع, فنسبتها إلى المدلولات التي هي المعاني كنسبة العمومية والحوشية والحال الوسطى بينهما والغرابة إلى الأدلة التي هي الألفاظ. وكل هذه الأصناف من الألفاظ تقع في الشعر. وصناعة الشاعر فيها حسن التأليف والهيئة. كما أن كل تلك المواد تقع فيه. وصناعة الشاعر فيها حسن المحاكاة والنسب والاقترانات الواقعة بين المعاني. وكما أن الألفاظ المستعذبة المتوسطة في الاستعمال أحسن ما يستعمل في الشعر لمناسبتها الأسماع والنفوس, وحسن موقعها منهما, ثم إن الشاعر مع ذلك يستعمل الحوشي والساقط تسامحا واتساعا, حيث تضطره الأوزان والقوافي, فكذلك المعاني التي تكون الأقاويل فيها صادقة أو مشتهرة, أفضل ما يستعمل في الشعر لكونها تحرك النفوس إلى ما يراد منها تحريكا شديدا.

وليست تحرك الأقاويل الكاذبة إلا حيث يكون في الكذب بعض خفاء أو حيث يحمل النفس شدة ولعها بالكلام لفرط ما أبدع فيه على الانقياد لمقتضاه, وإن كان مما يكره ولا يصدق الحاض عليه. ومع هذا فتحريكها دون تحريك الأقاويل الصادقة عام فيها قوي, وتحريك الكذبة خاص فيها ضعيف. وما عم التحريك الصادقة عام فيها قوي, وتحريك الكاذبة خاص فيها ضعيف. وما عم التحريك فيه وقوي كان أخلق بأن يجعل عمدة في الاستعمال حيث يتأتى. كما أن ما عذب من الألفاظ ولم يكن حوشيا ولا عاميا أجدر أن يعتمد في الشعر من غيره. لكن الشاعر أيضاً يضطر حيث يريد تحسين قبيح أو تقبيح حسن أو تتميم ناقص بالنسبة على ما يراد منه بالمبالغة في وصفه لتزيد النفوس زيادة الوصف تحريكا, فيستعمل حينئذ الأقاويل الكاذبة وما لا يوقع الصدق كما يستعمل الحوشي والعامي من الألفاظ مضطرا في ذلك, أو مسامحة للفكر في ما يقتضيه من المعاني أو يجتلبه من الألفاظ عفوا دون كد, أو لأن يرى بعض الأحوال المقدرة التي يتخيلها أهز من الأحوال التي وقعت له, فيبني قوله على الحال المخيلة الممكنة دون الواقعة, ليكون الكلام بذلك أشد موقعا من النفس وعلوقا بالقلب.

14- تنوير: فقد تبين أن أفضل المواد المعنوية في الشعر ما صدق وكان مشتهرا, وأحسن الألفاظ ما عذب ولم يبتذل في الاستعمال. وكلامنا ليس واجبا على الشاعر لزومه, بل مؤثرا حيث يمكن ذلك. وتبين بهذا أن قول من قال: إن مقدمات الشعر لا تكون إلا كاذبة كاذب, وأنه بمنزلة من يقول: إن الألفاظ الشعرية لا تكون إلا حوشية ولا تكون مستعملة, لأن الألفاظ المستعملة والمقدمات الصادقة أولى ما يستعمل في الشعر حيث يمكن ذلك ويكون الوضع والغرض لائقا به. وما مثله في قصر الشعر على الكذب مع أن الصدق أنجع فيه إذا وافق الغرض إلا مثل من منع من ذي علة ما هو أشد له موافقة بالنسبة إلى شكاته واقتصر به على أدنى ما يوافقه مع التمكن من هذا وذلك. فإن كان هؤلاء الذين رأيهم هذا نفسوا على الشعراء وقوع الصدق في كلامهم, فلا خلق أشد نفاسة من هؤلاء. وإن كان جرى عليهم سهو وغلط في ذلك, فما أجدر هذه الفطر البشرية والفكر الإنسانية بذلك! 15- إضاءة: ولعل الغلط إنما جرى عليهم من حيث ظنوا أن ما وقع من الشعر مؤتلفا من المقدمات الصادقة فهو قول برهاني, وما ائتلف من المشهورات فهو قول جدلي, وما ائتلفت من المظنونات المترجحة الصدق على الكذب فهو قول خطبي, ولم يعلموا أن هذه المقدمات كلها إذا وقع فيها التخييل والمحاكاة كان الكلام قولا شعريا لأن الشعر لا تعتبر فيه المادة, بل ما يقع في المادة من التخييل.

وقد قال أبو علي ابن سينا: "الأقاويل الشعرية مؤتلفة من المقدمات المخيلة من حيث يعتبر تخييلها, كانت صادقة أو كاذبة. وبالجملة تؤلف من المقدمات من حيث لها هيئة وتأليف تقبلها النفس بما فيها من المحاكاة, بل ومن الصدق, فلا مانع من ذلك".

فانظر تر كيف قرن هذا الإمام الرئيس صدق الشعر بالمحاكاة, لأن المحاكاة الحسنة في الأقوال الصادقة وحسن إيقاع الاقترانات والنسب بين المعاني مثل التأليف الحسن في الألفاظ الحسنة المستعذبة.

ثم قال ابن سينا: "ولا يلتفت إلى ما يقال من أن البرهانية واجبة والجدلية ممكنة أكثرية والخطابية ممكنة متساوية لا ميل فيها ولا ندرة, والشعرية كاذبة ممتنعة. فليس الاعتبار بذلك, ولا أشار إليه صاحب المنطق".

وقال أبو علي أيضاً في موضع آخر: "وليس يجب في جميع المخيلات أن تكون كاذبة, كما لا يجب في المشهورات وما يخالف الواجب قبوله أن تكون لا محالة كاذبة. وبالجملة التخييل المحرك من القول متعلق بالتعجب منه: إما لجودة هيأته أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو حسن محاكاته".

16- تنوير: واعلم أن للأقاويل المتعلقة بمناصحة ذوي التصافي, والتي لا يليق بها ذلك هي المقصود بها مغاشة ذوي الأضغان. فلا تكون في ما كان نصحا محضا في الأكثر إلا صادقة.

وإن كان لقاصد النصح أيضاً أن يتعرض للكذب النافع في طريق النصح, كمن يحذر قوما من عدو يتوقع إناخته عليهم, فإن له أن يقرب البعيد ويكثر القليل في ذلك ليأخذوا لأنفسهم بالحزم والاحتياط. ولا تكون في قصد به الغش إلا كاذبة.

وأكثر ما يمال بالأقاويل الشعرية في صغوى الصدق والكذب بحسب هذين المقصدين في مواطن إدارة الآراء والإشارة بوجوه الحيل والمكائد والتدابير لما يستقبل ويتوقع.

وهذه الأقاويل هي التي يسميها أبو علي ابن سينا "بالمنشوريات".

17- إضاءة: فقد تبين من هذا ومما قبله أن الشعر له مواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الصادقة, ومواطن لا يصلح فيها إلا استعمال الأقاويل الكاذبة, ومواطن يصلح فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الصادقة أكثر وأحسن, ومواطن يحسن فيها استعمال الصادقة والكاذبة واستعمال الكاذبة أكثر وأحسن, ومواطن تستعمل فيها كلتاهما من غير ترجح. فهي خمسة مواطن, لكل مقام منها مقال.

وقد بين أبو علي ابن سينا كون التخييل لا يناقض اليقين وكون القول الصادق في مواطن كثيرة أنجع من الكاذب. فقال: "والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط لأمور أو تنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار. وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكري, سواء كان المقول مصدقا به. فإن كونه مصدقا به غير كونه مخيلا أو غير مخيل. فإنه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه, فإن قيل مرة أخرى أو على هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة للتخيل لا للتصديق. فكثيرا ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا, وربما كان المتيقن كذبه مخيلا. وإن كانت محاكاة الشيء لغيره تحرك النفس وهو كاذب فلا عجب أن تكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق, بل ذلك أوجب, لكن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق. وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها. وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس للصدق لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه, ولا طراءة له. والصدق المجهول غير ملتفت إليه. والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شيء تستأنس به النفس فربما أفاد التصديق والتخييل معا, وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به".

وقد قال أبو نصر في كتاب الشعر: "الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما من طلب له أو هرب عنه".

ثم قال: "سواء صدق بما يخيل إليه من ذلك أم لا كان الأمر في الحقيقة على ما خيل له أو لم يكن".

فأنت ترى هذين الرجلين كيف جعلا التخييل قد يكون بما هو حقيقة في الشيء, وقد يكون بما لا حقيقة له.

18- تنوير: وإنما غلط في هذا -فظن أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة- قوم من المتكلمين لم يكن لهم علم بالشعر, لا من جهة مزاولته ولا من جهة الطرق الموصلة إلى معرفته.

ولا معرج على ما يقوله في الشيء من لا يعرفه, ولا التفات إلى رأيه فيه. فإنما يطلب الشيء من أهله. وإنما يقبل رأي المرء فيما يعرفه. وليس هذا جرحة للمتكلمين ولا قدحا في صناعتهم, فإن تكليفهم أن يعلموا من طريقتهم ما ليس منها شطط.

والذي يورطهم في هذا أنهم يحتاجون إلى الكلام في إعجاز القرآن, فيحتاجون إلى معرفة ماهية الفصاحة والبلاغة من غير أن يتقدم لهم علم بذلك, فيفزعون إلى مطالعة ما تيسر لهم من كتب هذه الصناعة. فإذا فرق أحدهم بين التجنيس والترديد, وماز الاستعارة من الإرداف, ظن أنه قد حصل على شيء من هذا العلم, فأخذ يتكلم في الفصاحة بما هو محض الجهل بها. ومثلهم في هذا مثل رجل, شاهدت له هذه القصة التي أذكرها, بمرسيه: وذلك أنه مرض له صاحب كان يعز عليه ويرى في حياته حياته, ولم يكن له علم بالطب والنظر فيها ليعالج صاحبه المريض. فانسلخت عنه ليلة وهو يتعاطى في غدها من المعالجة الطيبة ما لم يكن يتعاطاه في أمسه, إذ كان قد ظن أنه قد اكتسب معرفة صناعة الطب من ليلته. ثم شرع من صبيحته في معالجة صاحبه المريض, فقضى عليه في اليوم الثاني بثريدة أطعمها إياه رأى أنها تصلح به.

فكما أن هذا الرجل أصبح جالينوسا من ليلته كذلك يريد المتكلم في الفصاحة من المتكلمين أن يصبح من ليلته جاحظا وقدامة إن شاء. (الطويل -ق- المتواتر)

وإن كلام المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل

19- إضاءة: وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتأتى تحصيلها في الزمن القريب. وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار فيها! وإنما يبلغ الإنسان منها ما في قوته أن يبلغه. ألا ترى أن كثيرا من العلوم قد نفذ فيها قوم في أزمنة لا تستغرق إلا جزءا يسيرا من العمر؟! وهذا أبو الطيب المتنبي, وهو إمام في الشعر, لم يستقم شعره إلا من مزاولة الصناعة عشرين سنة, ثم زاولها بعد ذلك زمنا طويلا, وتوفي وهو يصيب فيها ويخطئ. وهذا ليس مختصا به وحده, بل كل إمام ناظم أو ناثر هذه غايته, إذ كانت هذه الصناعة تتشعب وجوه النظر فيها إلى ما لا يحصى كثرة. فقلما يتأتى تحصيلها بأسرها والعلم بجميع قوانينها لذلك. وسائرها من العلوم ممكن أن يتحصل كله أوجله. وليس هذا تفضيلا لصناعة البلاغة على غيرها من العلوم, إذ ليس يلزم إذا كان علم أشد تشعبا من علم آخر أن يكون أفضل منه, بل المفاضلة بين العلوم من جهات أخر وعلى ما ذكرته.

فلو قدرنا أن إنسانا ذكيا ينظر في علم من العلوم شهرا أو عاما لتحصلت له من ذلك العلم مسائل محققة, ولا يحصل له في هذا القدر من الزمان من هذه الصناعة شيء يعتد به, إذ أكثر ما يستحسن ويستقبح في علم البلاغة له اعتبارات شتى بحسب المواضع. فقد يحسن في موضع ما يقبح في موضع ويقبح في موضع ما يحسن في موضع, ولا يقف الإنسان على تلك المواضع إلا بطول المزاولة. ولا يشرف الإنسان على جمل من تلك المواضع يمكنه أن يستنبط بها أحكام ما سواها إلا بكثرة الفحص والتنقيب عما يجب اعتماده في جميع أحوال الصناعة من إيثار ما يجب أن يؤثر وترجيح مت يجب أن يرجح بالنظر إلى الشيء في نفسه أو النظر إلى ما يقترن به أو إلى ما هو خارج عن ذلك مما تقدم التعريف به.

ج- معلم دال على طرق العلم بالأشياء المخيلة.

الشعر كلام مخيل موزون, مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك. والتئامه من مقدمات مخيلة, صادقة كانت أو كاذبة, لا يشترط فيها -بما هي شعر- غير التخييل.

1- إضاءة: والتخييل في الشعر يقع من أربعة أنحاء: من جهة المعنى, ومن جهة الأسلوب, ومن جهة اللفظ, ومن جهة النظم والوزن.

وينقسم التخييل بالنسبة إلى الشعر قسمين: تخييل ضروري, وتخييل ليس بضروري, ولكنه أكيد أو مستحب, لكونه تكميلا للضروري وعونا له على ما يراد من إنهاض النفس على طلب الشيء أو الهرب منه.

والتخاييل الضرورية هي تخاييل المعاني من جهة الألفاظ. والأكيدة والمستحبة تخاييل اللفظ في نفسه وتخاييل الأسلوب وتخاييل الأوزان والنظم, وآكد ذلك تخييل الأسلوب.

2- تنوير: والتخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه, وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها, أو تصور شيء آخر بها انفعالا من غير روية إلى جهة من الانبساط أو الانقباض.

3- إضاءة: وطرق وقوع التخييل في النفس: إما أن تكون بأن يتصور في الذهن شيء من طريق الفكر وخطرات البال, أو بأن تشاهد شيئا فتذكر به شيئا, أو بأن يحاكى لها الشيء بتصوير نحتي أو خطي أو ما يجرى مجرى ذلك, أو يحاكى لها صوته أو فعله أو هيأته بما يشبه ذلك من صوت أو فعل أو هيأة, أو بأن يحاكى لها معنى بقول يخيله لها -وهذا هو الذي نتكلم فيه نحن في هذا المنهج- أو بأن يوضع لها علامة من الخط تدل على القول المخيل, أو بأن تفهم ذلك بالإشارة.

د- معرف دال عل طرق المعرفة بجهات مواقع التخييل من الأقاويل وما بإزائها من المعاني وما يحسن أن ينحى بالمحاكاة نحوه من ذلك وما لا يحسن.

وأحسن مواقع التخييل: أن يناط بالمعاني المناسبة للغرض الذي فيه القول متخييل الأمور السارة في التهاني, والأمور المفجعة في المراثي. فإن مناسبة المعنى للحال التي فيها القول وشدة التباسه بها يعاون التخييل على ما يراد من تأثر النفس لمقتضاه.

1- إضاءة: ويحسن موقع التخييل من النفس, أن يترامى بالكلام على أنحاء من التعجيب, فيقوى بذلك تأثر النفس لمقتضى الكلام.

والتعجب يكون باستبداع ما يثيره الشاعر من لطائف الكلام التي يقل التهدي إلى مثلها. فورودها مستندر مستطرف لذلك: كالتهدي إلى ما يقل التهدي إليه من سبب للشيء تخفى سببيته, أ, غاية له, أو شاهد عليه, أو شبيه له أو معاند, وكالجمع بين مفترقين من جهة لطيفة قد انتسب بها أحدهما على الآخر, وغير ذلك من الوجوه التي من شأن النفس أن تستغربها.

2- تنوير: ويجب ألا يسلك بالتخييل مسلك السذاجة في الكلام, ولكن يتقاذف بالكلام في ذلك إلى جهات من الوضع الذي تتشافع فيه التركيبات المستحسنة والترتيبات والاقترانات والنسب الواقعة بين المعاني. فإن ذلك مما يشد أزر المحاكاة ويعضدها. ولهذا نجد المحاكاة أبدا يتضح حسنها في الأوصاف الحسنة التناسق, المتشاكلة الاقتران, المليحة التفصيل, وفي القصص الحسن الاطراد, وفي الاستدلال بالتمثيلات والتعليلات, وفي التشبيهات والأمثال والحكم, لأن هذه أنحاء من الكلام قد جرت العادة في أن يجهد في تحسين هيآت الألفاظ والمعاني وترتيباتها فيها.

3- إضاءة وإذا كان في قوة القول البسيط أو القريب من البساطة أن يتخيل منه أشياء لو وضع اللفظ طبقا لها لم يكن إلا متركبا, حسن الهيئة, جرى مجرى ما قبله في الاستحسان. وذلك كالتشبيه بغير حرف وكالاستعارة وما جرى مجراهما في ذلك.

هـ- معلم دال على طرق العلم بما تنقسم غليه المحاكاة.

لا يخلو المحاكي من أن يحاكي موجودا بموجود أو بمفروض الوجود مقدره. ومحاكاة الموجود بالموجود لا تخلو من أن تكون محاكاة شيء بما هو من جنسه أو محاكاة شيء بما ليس من جنسه. ومحاكاة محسوس بغير محسوس, أو غير محسوس بمحسوس, أو مدرك بغير الحس بمثله في الإدراك. وكل ذلك لا يخلو من أن يكون محاكاة معتاد بمعتاد, أو مستغرب بمستغرب, أو معتاد بمستغرب, أو مستغرب بمعتاد. وكلما قرب الشيء مما يحاكى به كان أوضح شبها. وكلما اقترنت الغرابة والتعجيب بالتخييل كان أبدع.

1- إضاءة: وتنقسم التخاييل والمحاكيات بحسب ما يقصد بها إلى: محاكاة تحسين, ومحاكاة تقبيح, ومحاكاة مطابقة لا يقصد بها إلا ضرب من رياضة الخواطر والملح في بعض الواضع التي يعتمد فيها وصف الشيء ومحاكاته بما يطابقه ويخيله على ما هو عليه. وربما كان القصد بذلك ضربا من التعجيب أو الاعتبار. وربما كانت محاكاة المطابقة في قوة المحاكاة التحسينية أو التقبيحية. فإن أوصاف الشيء الذي يقصد في محاكاته المطابقة لا تخلو من أن تكون من قبيل ما يحمد ويذم وإن قل قسطها مثلا من الحمد والذم. فكأن التخييل بالجملة لم يخل من تحريك النفس إلى استحسان أو إلى استقباح. فلهذا كانت قوة محاكاة المطابقة في كثير من المواضع قوة إحدى المحاكاتين التحسينية أو التقبيحية, لكنها قسم ثالث على كل حال, إذ لم تخلص على تحسين ولا تقبيح.

وقد ذكر هذا أبو علي بن سينا, وقسم المحاكيات هذه القسمة.

2- تنوير: ومما تنقسم غليه المحاكاة -وقد كان يليق بهذه القسمة أن تكون مدرجة في القسم المصدر به هذا المعلم فاستدركناها هنا إذ فاتت هنالك, وقد اندرج في هذه أيضاً بعض ما اندرج في تلك- وذلك أن المحاكاة إما أن تكون محاكاة وجود أو محاكاة فرض. وكلتاهما لا تخلو من أن تكون محاكاة مطلقة, أو محاكاة شرط, أو محاكاة إضافية, أو محاكاة تقدير وفرض. ومحاكاة الموجود بالموجود غما أن تكون محاكاة كلي بكلي, أو جزئي بجزئي, أو كلي بجزئي أو جزئي بكلي. وكل قسم من هذه فإما أن يحاكي فيه محسوس بمحسوس, أو محسوس بغير محسوس, أو غير محسوس بمحسوس, أو غير محسوس بغير محسوس. ولا يخلو أن يحاكى الشيء بما هو من نوعه الأقرب, أو جنسه الأقرب أو الأبعد, أو بغير جنسه.

3- إضاءة: وينقسم التخييل بالنظر على متعلقاته قسمي: تخيل المقول فيه بالقول, وتخيل أشياء في المقول فيه وفي القول من جهة ألفاظه ومعانيه ونظمه وأسلوب.

فالتخييل الأول يجرى مجرى تخطيط الصور وتشكيلها. والتخييلات الثواني تجرى مجرى النقوش في الصور والتوشية في الأثواب والتفصيل في فرائد العقود وأحجارها.

وقد ذكرت في تأليف الألفاظ واقترانات المعاني, وأذكر بعد هذا إن شاء الله في الهيآت النظمية وضم بعض الأبيات والفصول إلى بعض وفي نسق أجزاء الجهات في أسلاك الأساليب مما يستحسن من ضروب الصيغة والهيئات المستحسنة في جميع ذلك ما تغنى بذكره هناك عن أن أنصه لك هنا.

وتلك الصيغ والهيئات هي التخاييل الثواني. وللنفس بما وقع به من ذلك تشاكل في الكلام ابتهاج لأن تلك الصيغ تنميقات الكلام وتزيينات له. فهي تجرى من الأسماع مجرى الوشي في البرود والتفصيل في العقود من الأبصار. فالنفوس تتخيل بما يخيل لها الشاعر من ذلك محاسن ضروب الزينة فيبتهج لذلك. ولهذا نقلوا إلى بعض الهيئات اللفظية التي من هذا القبيل أسماء الصناعات التي هي تنميقات في المصنوعات. فقالوا الترصيع, والتوشيح, والتسهيم من تسهيم البرود. وكثير من الكلام الذي ليس بشعري باعتبار التخييل الأول يكون شعرا باعتبار التخييل الثواني. وإن غاب هذا كثير من الناس.

4- تنوير: وتنقسم المحاكاة من جهة ما تخيل الشيء بواسطة أو بغير واسطة قسمين: قسم يخيل لك فيه الشيء نفسه بأوصافه التي تحاكيه, وقسم يخيل لك الشيء في غيره.

وكما أن المحاكي باليد قد يمثل صورة الشيء نحتا أو خطا فتعرف المصور بالصورة, وقد يتخذ مرآة يبدي لك بها تمثال تلك الصورة فتعرف المصور أيضاً بتمثال الصورة المتشكل في المرآة فكذلك الشاعر تارة يخيل لك صورة الشيء بصفاته نفسه, وتارة يخيلها لك بصفات شيء آخر هي مماثلة لصفات ذلك الشيء. فلا بد في كل محاكاة من أن يكون جارية على أحد هذين الطريقين: إما أن يحاكى لك الشيء بأوصافه التي تمثل صورته, وإما بأوصاف شيء آخر تماثل تلك الأوصاف. فيكون ذلك بمنزلة ما قدمت من أن المحاكي للشيء, بأن يضع له تمثالاً يعطي به صورة الشيء المحاكي, قد يعطي أيضاً هيئة تمثال الشيء وتخطيطه بأن يتخذ له مرآة يبدي صورته فيها. فتحصل المعرفة بما لم يكن يعرف: إما برؤية تمثاله, وإما برؤية صورة تمثاله. فيعرف الشيء بما يحاكيه, أو بما يحاكي ما يحاكيه. وربما ترادفت المحاكاة وبني بعضها على بعض فتبعد الكلام عن الحقيقة بحسب ترادف المحاكاة وأدى (ذلك) إلى الاستحالة. ولذلك لا يستحسن بناء بعض الاستعارات على بعض حتى تبعد عن الحقيقة برتب كثيرة لأنها راجعة إلى هذا الباب. فمحاكاة الشيء نفسه هي المحاكاة التي ليست بواسطة, ومحاكاة الشيء بغيره هي المحاكاة التي بواسطة.

5- إضاءة: وكل واحدة من المحاكاتين: المتحدة والمزدوجة -أعني أن الواحدة تشتمل على محاكاة الشيء نفسه على حسب ما ألف فيه, ومحاكاة الشيء بغيره على حسب ما ألف فيهما, ومحاكاته فيه على غير ما ألف. وأعني بغير المألوف أن تكون حاله مستغربة.

ومن محاكاة الشيء بغيره على غير ما ألف فيه قول أبي عمر ابن دراج: (البسيط -ق- المترادف)

وسلافة الأعناب يشعل نارها ... تهدي إلي بيانع العناب

فالمألوف أن يذوى النبات الناعم بمجاورة النار لا أن يونع, فأرغب في هذه المحاكاة كما ترى.

6- تنوير: وللمحاكاة انقسام بحسب تنوعها إلى المألوف والمستغرب ومقابلة بعضها ببعض. فيحصل عن ذلك ستة أقسام:

1- محاكاة حالة معتادة 2- ومحاكاة حالة مستغربة 3- ومحاكاة معتاد بمعتاد 4- ومستغرب بمستغرب 5- ومعتاد بمستغرب 6- ومستغرب بمعتاد.

ومحاكاة الأحوال المستغربة إما أن يقصد بها إنهاض النفوس إلى الاستغراب أو الاعتبار فقط. وإما أن يقصد حملها على طلب الشيء وفعله أو التخلي عن ذلك مع ما تجده من الاستغراب.

وللنفوس تحرك شديد للمحاكيات المستغربة لأن النفس إذا خيل لها في الشيء ما لم يكن معهودا من أمر معجب في مثله وجدت من استغراب ما خيل لها مما لم تعهده في الشيء ما يجده المستطرف لرؤية ما لم يكن أبصره قبل. ووقوع ما لم يعهده في نفسه موقعا ليس أكثر من المعتاد المعهود.

وفنون الإغراب والتعجيب في المحاكاة كثيرة. وبعضها أقوى من بعض وأشد استيلاء على النفوس وتمكنا من القلوب.

7- إضاءة: وتنقسم المحاكاة أيضاً -من جهة ما تكون مترددة على ألسن الشعراء قديما بها العهد, ومن جهة ما تكون طارئة مبتدعة لم يتقدم بها عهد- قسمين: فالقسم الأول هو التشبيه الذي يقال فيه إنه مخترع. وهذا أشد تحريكا للنفوس إذا قدرنا تساوي قوة التخييل في المعنيين لأنها أنست بالمعتاد فربما قل تأثرها له, وغير المعتاد يفجؤها بما لم يكن به لها استئناس قط فيزعجها إلى الانفعال بديها بالميل إلى الشيء والانقياد إليه أو النفرة عنه والاستعصاء عليه. وأما المعنى في نفسه فحقيقة واحدة. ولا فرق بالنظر إلى حقيقته بين أن يكون جديدا مخترعا وأن يكون قديما متداولا. وإنما الفضل في المعنى المخترع راجع إلى المخترع له وعائد عليه ومبين عن ذكاء ذهنه وحدة خاطره.

وسيأتي لهذا فضل بيان في المنهج الرابع من هذا القسم إن شاء الله.

8- تنوير: وتنقسم المحاكاة أيضا, بالنظر إلى محاكاة جزء من معنى بجزء من معنى, أو محاكاة معنى بمعنى, أو محاكاة قصة تتضمن معاني بقصة تتضمن معاني, ثلاثة أقسام, الثالث منها تاريخ.

9- إضاءة: والتخاييل في المعاني منها محاكيات تقع في أمور من جهة ما ترتبت في مكان وحصل لبعضها وضع ونسبة من بعض, فتحاكى على ما وقعت عليه من ذلك. ومنها محاكيات تقع في أمور من جهة ما ترتبت في زمان ووقع فيه بعضها بنسبة من بعض وانتسب شيء منها إلى شيء, فتحاكى أيضاً على ما وقعت عليه من ذلك.

10- تنوير: وإذا خيلت الأمور المترتبة في مكان أو زمان فلا يخلو من أن يتعرض إلى أن ما خيل عليه أمر كلي في ما كان من ذلك الجنس أو مناقضه لمن يعتقد أن ضد ما خيلته المحاكاة حكم كلي. فيستثني المحاكي بعض ذلك الكلي فيخرجه عن ذلك الحكم, أولا يتعرض. فإن تعرض فالقول إن كان متعلقا بأمر للناس به عناية وكان قد خرج في عبارة محكمة حكمة أو مثل أو جار مجرى الحكمة والمثل, وإن لم يتعرض فالقول اختصاص أو غير ذلك.

11- إضاءة: ولا تخلو نفوس الأمور بأقوال دالة على خواصها وأعراضها اللاحقة التي تقوم بها في الخواطر هيآت تلك الأمور وتتسق صورها الخيالية, أو تخيل بأن تحاكى بأقوال دالة على خواص أشياء أخر وأعراضها التي بها تنتظم صورها الخيالية في النفس فتجعل الصور المرتسمة من هذه الأشياء المحاكى بها أمثلة لصور الأشياء المحاكاة. ويستدل بوجود الحكم في المثال على وجوده في المثل. فالقول على هذا ينقسم: إلى محاكاة قصص وما جرى مجراه, وإلى محاكاة حكمة, وإلى محاكاة قصص بقصص أو نحوه, وإلى محاكاة قصص بحكمة, ومحاكاة حكمة بحكمة. ولا تحاكى الحكمة بالقصص إلا حيث تكون جزئية لأن الحكمة إذا كانت كلية كانت أعم من القصص, فلا تحاكى لذلك به إلا على جهة الاستدلال التمثيلي. وربما منع من ذلك في بعض المواضع كون الحكمة أشرف من القصص وأجزل موقعا, فلا يفتقر إلى إعانتها بمحاكاة إذا كانت بالغة. فالحكم على هذا إذا استقصيت أركانها وأعرب عنها بلفظ جزل محكم العبارة أنيق النظام خفيف على اللسان مخيل لما دل به عليه محاكاة كانت أمثلة لما قبلها أو لم تكن.

و معرف دال على طرق المعرفة بأحكام المحاكيات وما يجب أن يعتبر فيها, والاستبانة لمناقل الفكر في التخيلات الشعرية, وكيفية التهدي إلى التحسينات والتقبيحات التي ينحى بالأقاويل المخيلة نحوها.

قد قدمت أن المحاكاة تنقسم قسمين: محاكاة الشيء نفسه, ومحاكاة الشيء في غيره. وبقي أن نتبين أحكام هذه وأحكام تلك. فلنقدم أحكام محاكاة الشيء نفسه. فأقول: إن الأشياء منها ما يدرك بالحس, ومنها ما ليس إدراكه بالحس. والذي يدركه الإنسان بالحس فهو الذي تتخيله نفسه لأن التخييل تابع للحس, وكل ما أدركته بغير الحس فإنما يرام تخييله بما يكون دليلا على حاله من هيئات الأحوال المطيفة به واللازمة له, حيث تكون تلك الأحوال مما يحس ويشاهد. فيكون تخييل الشيء من جهة ما يستبينه الحس من آثاره والأحوال اللازمة له حال وجوده والهيئات المشاهدة لما التبس به ووجد عنده. وكل ما لم يحدد من الأمور غير المحسوسة بشيء من هذه الأشياء, ولا خصص بمحكاة حال من هذه الأحوال بل اقتصر على إفهامه بالاسم الدال عليه, فليس يجب أن يعتقد في ذلك الإفهام أنه تخييل شعري أصلا, لأن الكلام كله كان يكون تخييلا بهذا الاعتبار.

1- إضاءة: فأما الأشياء المدركة بالحس فإنها تخيل بخواصها وأعراضها. وكلما كانت الأعراض في ذلك قريبة شهيرة مناسبة لغرض القول كانت أحسن. ولا يخلو الشيء المخيل من أن يقصد تخييله على الكمال أو يقتصر فيه على أدنى ما يخيله. فإن قصد تخييله على الكمال وجب أن يقصد في محاكاته إلى ذكر خواصه وأعراضه القريبة اللازمة له في جميع أحواله أو اللاحقة له في حال ما من جهة هيئته ومقداره ولونه وملمسه. وربما أردف ذلك بمحاكاة هيئته وحركته أو صوته إن كان مما له ذلك. وإن قصد الاقتصار فيه على أدنى ما يخيله كان الوجه أن يقصد إلى بعض خواص الشيء وأعراضه القريبة الشهيرة فيه, كما يقال الضئيلة الرقشاء, فتتخيل منه الحية. ويستحسن في المحاكاة أن يبدأ بالأصل في الشيء والأشهر فيه.

2- تنوير: وكل شيء حوكي بما تدركه الحواس فلا يخلو من أن يكون متساوي الأجزاء متماثلها, أو متخالفها متفاوتها. وكلاهما لا يخلو من أن يكون على صفة واحدة من جميع أقطاره, أو على صفات شيء في هيئته أو لونه أو ملمسه. وكل ذلك لا يخلو من أن يكون على شكل واحد في حالي حركته وسكونه أو يكون ما يختلف شكله في الحالين. وكل ذلك يجب أن يعتبر في المحاكاة إذا قصد تخييل الشيء على جميع هيآته وأوصافه وفي جميع أحواله. فلا يخلط ما تعلق بوصف حال من ذلك بما تعلق بحال مغايرة لها. وقد يخيل الشاعر الشيء ببعض أوصافه دون بعض, وعلى ما يكون عليه في بعض أحواله.

3- إضاءة: وكل ما تختلف أجزاؤه وأقطاره وأشكاله وهيئاته في حال حال من شؤونه فإن المحاكاة فيه لا تخلو من أن تفصل بحسب الأجزاء والأقطار والأشكال والهيئات وتجعل هذه الأشياء أركانا للكلام تقسم التخاييل إليها, وتبنى المحاكاة عليها كقول امرئ القيس: (المتقارب -ق- المتدارك) إذا أقبلت قلت سر عوفة وقول الأسعر الجعفي: (الرجز -ق- المتدارك) أما إذا استقبلته فتقول هذا مثل سرحان الغضا أو تجعل الشيء المخيل بحسب تباين أجزائه وأقطاره وأشكاله قطبا لمدار الأوصاف المخيلة لهيئة جزء جزء وقطر قطر من أجزاء الشيء وأقطاره, ولكل ما تتنوع إليه أشكاله وهيئاته بحسب اختلاف أحوالها مقرونة بمخيلاتها وما هي محاكاة له في الحقيقة على سبيل التخصيص أو مستغنى عن ذلك. فيكون الكلام على هذا متناسقا متسلسلا, وعلى الوجه الآخر مفصلا مقسما. وكلما كثرت التخاييل زاد التفصيل حسنا.

4- تنوير: وإذا حوكي الشيء جملة أو تفصيلا فالواجب أن تؤخذ أوصافه المتناهية في الشهرة والحسن إن قصد التحسين, وفي الشهرة والقبح إن قصد التقبيح. ويبدأ (في الحسن) بما ظهور الحسن فيه أوضح وما النفس بتقديمه أعنى, ويبدأ في الذم بما ظهور القبح فيه أوضح والنفس بالالتفات إليه أيضاً أعنى, وينتقل من الشيء إلى ما يليه في المزية من ذلك. ويكون بمنزلة المصور الذي يصور أولا ما جل من رسوم تخطيط الشيء, ثم ينتقل إلى الأدق فالأدق. وهذا في تخييلات الأشياء المقصود تخييل جزء جزء منها واجب, مثل أن يبدأ بتخييل أعالي الإنسان ويختتم بتخييل أسفله, لاسيما إذا كانت المحاكاة تفصيلية. فإن كانت الأوصاف المخيل بها متفاوتة لم يحسن الجمع بينهما كيفما رتبت إلا باستئناف أحدهما في حيز من الكلام منفصل عن حيز الآخر أو بمنزلة المنفصل, لأن النقلة من الأدنى إلى الأعلى المفاوت طفرة, ومن الأعلى إلى الأدنى المفاوت سقوط وانحطاط. فأما إذا تناسبت الأوصاف فالوجه تقديم ما عناية النفس به أكبر وهو عندها أشهر في الشيء وأظهر فيه بالنسبة على غرض الكلام.

فهذا هو الوجه في المحاكيات والأوصاف إذا تناسبت, وأن يقال منا قال حبيب: (الكامل -ق- المترادف)

إنا غدونا واثقين بواثق ... بالله شمس ضحى وبدر تمام

وكما قال المتنبي: (البسيط -ق- المتراكب) شمس ضحاها هلال ليلتها ويحبون عكس هذا, لكن هذا هو الوجه الذي كثر في فصيح كلام العرب.

فأما قول القائل: (الرجز -ق- المتدارك)

تالله لا كلمتها ولو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي

فإنما كان النسق ههنا على سبيل الترقي لأن أو يذهب بها حيث يقصد تعجيب المخاطب من زيادة الشيء تعظيما بعد تعظيم أو تحقيرا بعد تحقير مذهب من تخطى الشيء على ما هو أبلغ منه في المعنى. فحسن هذا لما كان هذا المذهب مناسبا لمعنى (أو) وما ينحى بها نحوه.

5- إضاءة: وإنما قدمت العرب أدنى المعنيين على الآخر في مواضع معلومة من كلامها لمعان أخر: إما لأن الأحقر من جهة ما متقدم على ما هو أجل منه من جهة أخرى, أو لأن أحدهما في ضمن الآخر ويخيل بعض ما خيل لا يكون بينهما تباين إلا من جهة الأزيد والأنقص والأعم والأخص. فذكر القاصر منهما بعد الآخر فضل, فلا يمكن أن يقون به إلا بتقديمه عليه, أو لأن الأحقر بالنسبة إلى غرض الكلام أبلغ نحو قولهم: ما أخذت منه قليلا ولا كثيرا لأن إنكار القليل أبلغ من جهة الجحود فكان القليل لذلك أولى بالتقديم, أو لأن الأحقر يكون فيه استدراج لذكر الأجل وتسبب له, ولمعان أخر يطول ذكرها. وكذلك التغليب في مثل القمرين إنما يغلب الأرجح من جهة الفصاحة أو البلاغة لفظا أو معنى. وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل, قد أغنى عن ذكره هنا ما أوردناه ونورده بعد إن شاء الله من قوانين الفصاحة والبلاغة. فهذا هو القانون الذي يجب أن يعتبر في ترتيب التخييل والأوصاف.

6- تنوير: وإنما وقع الغلط في هذا لقوم من القدماء كانوا فقراء من علم البلاغة على غنائهم من الرواية, ولقوم من أبناء هذا الزمان هم أفقر خلق الله من تلك وهذه, ولمن يريد أن يستنبط قوانين هذه الصناعة من صناعة أخرى لعله لا يحسنها بله هذه, وذلك غير ممكن, فإنما يستنبط الشيء من معدنه ويطلب في مظنته, أو لعل من هذه صفته قد رأى يوما أحدا ممن تكلم في علم البلاغة قد عاب الانحطاط من الصفة إلى ما يوافقها في نسق واحد من الكلام. فهذا لا يخلو من أن يكون غير عارف بهذه الصناعة مثله, فهو جدير أن يظن أن ضد ذلك حسن وهو البدء بالشيء الأحقر والصيرورة منه إلى الأعظم المفاوت له في غرض يتراميان فيه إلى تحسين شيء واحد أو تقبيحه, أو يكون عارفا بالصنع فيكون قد عاب ما هو جدير بالعيب, وهو يعتقد أن ضده معيب أيضاً كذلك لأن كلا الموضعين من وضع التنافر. وما أكثر ما يقع الغلط للناس في هذه الصنعة من هذا الباب! لأن وجوه النظر في ما يحسن ويقبح في هذه الصنعة لا تحصى كثرة. وكل ما يستحسن ويستقبح فإن له اعتبارات شتى بحسب المواضع وما يليق بواحد منها. وبحسب الأغراض والأحوال وتباين المقاصد في جميع ذلك تتشعب طرق الاعتبار في هذه الصناعة إلى ما يعز حصره, فيطالع بعض من لم يتفرغ لهذه الصنعة ولا في طبعه أن يعلمها لو تفرغ لها الشيء التافه من الأقاويل في هذه الصناعة, فيبني نظره فيها على ذلك, وهو قد حفظ شيئا وغابت عنه أشياء.

7- إضاءة ويجب في محاكاة أجزاء الشيء أن ترتب في الكلام على حسب ما وجدت عليه في الشيء لأن المحاكاة بالمسموعات تجري من السمع مجرى المحاكاة بالمتلونات من البصر. وقد اعتادت النفوس أن تصور لها تماثيل الأشباح المحسوسة ونحوها على ما عليه ترتيبها. فلا يوضع النحر في صور الحيوان إلا تاليا للعنق وكذلك سائر الأعضاء فالنفس تنكر لذلك المحاكاة القولية إذا لم يوال بين أجزاء الصور علة مثل ما وقع فيها, كما تنكر المحاكاة المصنوعة باليد إذا كانت كذلك. فإن وقعت محاكاة على هذا النحو من فساد الترتيب فالواجب أن يعتقد فيها أنها صور جزئية إذا كان كل جزء منها قد خيل على حدته على ما يجب فيه لا صورة كلية لأن المجموع ليس له نظام المجموع, فيجب لهذا أن تعتبر المحاكاة تفاريق.

8- تنوير: ولا يخلو الشيء من أن يحاكى بأوصاف له شهيرة أو صفات خاملة أو بمجموعها. ولا تخلو من أن تقع التخاييل في جميع أجزاء الشيء أو في بعضها. والمخيل الذي تقع التخاييل في بعض أجزائه لا يخلو أن تقع في طرف واحد منه, أو في كلا طرفيه, أو فيهما معا وما بينهما. وأحسن التخاييل ما اشتهرت الأوصاف فيه وعمت.

9- إضاءة: فالمحاكاة التامة في الوصف هي استقصاء الأجزاء التي بموالاتها يكمل تخييل الشيء الموصوف. وفي الحكمة استقصاء أركان العبارة عن جملة أجزاء المعنى الذي جعل مثالا لكيفيات مجاري الأمور والأحوال وما تستمر عليه أمور الأزمنة والدهور. وفي التاريخ استقصاء أجزاء الخبر المحاكى وموالاتها على حد ما انتظمت عليه حال وقوعها, كقول الأعشى: (البسيط -ق- المترادف)

كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار

إذ سامه خطتي خسف, فقال له: ... قل ما شاء, فإني سامع حار

فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار

فشك غير طويل, ثم قال له اقتل أسيرك, إني مانع جاري

فهذه محاكاة تامة, ولو أخل بذكر بعض أجزاء هذه الحكاية لكانت ناقصة, ولو لم يورد ذكرها إلا إجمالا لم تكن محاكاة ولكن إحالة محضة.

10- تنوير: فأما طريق التهدي إلى تحسينات الأشياء وتقبيحاتها بالمحاكاة فإنه لما كان المقصود بالشعر إنهاض النفوس إلى فعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن فعله أو طلبه أو اعتقاده بما يخيل لها فيه من حسن أو قبح وجلالة أو خسة وجب أن تكون موضوعات صناعة الشعر الأشياء التي لها انتساب إلى ما يفعله الإنسان ويطلبه ويعتقده. والأقاويل الدالة على تلك الأشياء من حيث تخيل بها تلك الأشياء. فتحسين المحاكاة وتقبيحها إما يتعلقا بفعل أو اعتقاد, أو يتعلقا بالشيء الذي يفعل أو يعتقد.

وطرق تعلقها بالشيء أو فعله أو اعتقاده أربعة:

1- إما أن يحسن الشيء من جهة الدين وما توثره النفس من الثواب على فعل شيء أو اعتقاده وتخاف من العقوبة على تركه وإهماله وإما أن يقبح من ضد ذلك.

2- وإما أن يحسن من جهة العقل وما يجب أن يوثره الإنسان من جهة ما هو عاقل ذو أنفة من الجهل والسفاهة وإما أن يقبح من ضد ذلك.

3- وإما أن يحسن من جهة المروءات والكرم وما توثره النفس من الذكر الجميل والثناء عليه أو يقبح من ضد ذلك.

4- وإما أن يحسن من جهة الحظ العاجل وما تحرص عليه النفس وتشتهيه مما ينفعها من جهة ما توثر من النعمة وصلاح الحال أو يقبح من ضد ذلك.

فوقوع التحسينات والتقبيحات في التخاييل الشعرية إنما يسلك به أبدا طريق من هذه الأربعة وهي: الدين والعقل والمروءة والشهوة.

ويتعلق التحسين والتقبيح أبدا إما بالشيء الذي يراد الميل إليه أو النفرة عنه, وإما بفعله أو اعتقاده. فإذن التحسينات المتعلقة بالشيء بالنسبة على هذه الطرق أربعة, وبفعله أو اعتقاده أربعة, فتلك ثمانية جهات يتفقدها الشاعر إذا أراد تحسين شيء.

وللتقبيحات أيضاً بالنسبة إلى تلك الطرق فيما تعلق بالشيء أربعة مذاهب, وفيما تعلق بفعله أو طلبه أو اعتقاده أربعة أيضا. فهذه أيضاً ثماني جهات.

والجهات المزدوجة وهي التي يتعلق التحسين والتقبيح فيها بالشيء وفعله أو اعتقاده معا بالنسبة على تلك الطرق الأربعة أيضاً ثمان.

فحصل من هذه الأنحاء التي تتفرع غليها التحسينات والتقبيحات أربع وعشرون صورة. وإذا اعتبر تحسين الشيء نفسه أو تقبيحه بالنظر إلى ما يكون عليه في نفسه وما يرجع إليه, أو بالنسبة على ما يكون منه بسبب مما هو خارج عنه, ومن جهة ما يقع منه أو به فعل, تضاعفت القسمة.

11- إضاءة: والتحسين والتقبيح يتعلقان بالفعل من جهة ما هو عليه في نفسه, ومن جهة ما تكون عليه الأحوال المطيفة به. والأحوال المطيفة بالفعل هي: 1- الزمان 2- والمكان 3- وما منه الفعل 4- وما إليه الفعل 5- وما به الفعل 6- وما من أجله الفعل 7- وما عنده الفعل.

فقد يكون الفعل حسنا أو قبيحا في نفسه, وقد يكون الحسن والقبح من جهة بعض هذه الأحوال المطيفة. فكل فعل قصد تحسينه أو تقبيحه من جهة ما يرجع غليه في نفسه, أو من جهة ما يرجع إلى الأحوال المطيفة به فإنما يكون التحسين والتقبيح فيه من جهة ما يكون وفقا لبعض تلك الأشياء التي كأنها غايات تترامى إليها مطالب الناس, أو من جهة ما لا يكون وفقا لها. وتلك الأشياء التي عليها مدار التحسينات والتقبيحات هي: الورع والعقل والمروءة والشهوة في الحظ العاجل. فتحسين الفعل وتقبيحه يقع في كل ركن من هذه الأركان من ثمانية أنحاء على ما تقدمت الإشارة إليه من حيث إن الفعل تطيف به أحوال سبعة.

12- تنوير: وإنما جعلت التحسين والتقبيح ينصرفان طورا على الشيء نفسه, وتارة على فعله أو اعتقاده أو طلبه, وتارة إلى مجموع ذلك كله, لأن الشيخ إذا عشق جارية جميلة وأردنا أن نصرفه عنها بالأقاويل الشعرية اعتمدنا ذم الفعل وعيب التصابي في حال المشيب وما ناسب هذا. فإن كانت قبيحة أو ممن يجوز تخييل القبح فيها أضفنا إلى ذم تصابي الشيخ ذم قبح الفتاة. فإن كان العاشق شابا اعتمدنا ذم ما في المرأة من قبح خلق وخلائق نحو ما يوصف النساء به من الغدر والملالة وغير ذلك. ولم نقبح عليه العشق في الشباب إلا من جهة عقل أو نحو ذلك.

13- إضاءة: والتحسينات والتقبيحات الشعرية تميل على أشياء وتنصرف عن أشياء وتكثر في أشياء وتقل في أشياء بحسب ما يكون عليه الشيء من التباس بآداب البشر, وما يكون عليه من نفع أو ضرر, أو لا يكون له التباس يعتد به في تأثر النفوس له من جهة نفع أو ضرر. وقد تقدم التنبيه على أحوال المعاني في جميع ذلك. فليتصفح هنالك, والله الموفق.

14- تنوير: فأما كيفيات مناقل الفكر في التخييلات التي يرام بها إيقاع التحسينات والتقبيحات, وفي التخيلات التي يقصد بها أن تكون أعوانا على إيقاع ذلك فيحصل باقتفاء الخواطر مناقلها في جميع ذلك, بوضع ما يجب في حيز حيز من تلك المناقل على ما يجب من الأجزاء التي منها التئام هذه الصناعة لفظا ومعنى كمال هذه الصناعة على الوجه الذي تكون به مهيأة لحصول الغاية المقصودة بها فهي أن للمخيلين في التخييلات التي يحتاجون غليها في صناعتهم أحوالا ثمانية. لكل واحدة منها في زمان مزاولة النظم مرتبة لا تتعداها.

الحالة الأولى: يتخيل فيها الشاعر مقاصد غرضه الكلية التي يريد إيرادها في نظمه أو إيراد أكثرها على ما أبينه في القسم الثالث إن شاء الله.

الحال الثانية: أن يتخيل لتلك المقاصد طريقة وأسلوبا أو أساليب متجانسة أو متخالفة ينحو بالمعاني نحوها ويستمر بها على مهايعها. وسيأتي الكلام في الأساليب في القسم الرابع أن شاء الله.

الحال الثالثة: أن يتخيل ترتيب المعاني في تلك الأساليب. ومن أهم هذه التخيلات موضع التخلص والاستطراد.

الحال الرابعة: أن يتخيل تشكل تلك المعاني وقيامها في الخاطر في عبارات تليق بها ليعلم ما يوجد في تلك العبارات من الكلم التي تتوازن وتتماثل مقاطعها ما يصلح أن يبني الروي عليه. وفي هذه الحال أيضاً يجب أن يلاحظ ما يحق ما يحق أن يجعل مبدأ ومفتتحا للكلام, وربما لحظ في هذه الحال موضع التخلص والاستطراد.

15- إضاءة: فهذه أربع أحوال في التخاييل الكلية.

والحال الخامسة, وهي أول حال من التخاييل الجزئية: أن يشرع الشاعر في تخيل المعاني معنى معنى بحسب غرض الشعر.

الحال السادسة: أن يتخيل ما يكون زينة للمعنى وتكميلا له. وذلك يكون بتخيل أمور ترجع إلى المعنى من جهة حسن الوضع والاقترانات والنسب الواقعة بين بعض أجزاء المعنى وبعض, وبأشياء خارجة عنه مما يقترن به ويكون عونا له على تحصيل المعنى المقصود به.

والحال السابعة: أن يتخيل, لما يريد أن يضمنه في كل مقدار من الوزن الذي قصد, عبارة توافق نقل الحركات والسكنات فيها ما يجب في ذلك الوزن في العدد والترتيب بعد أن يخيل في تلك العبارات ما يكون محسنا لموقعها من النفوس.

الحال الثامنة: أن يتخيل, في الموضع الذي تقصر فيه عبارة المعنى عن الاستيلاء على جملة المقدار المقفى, معنى يليق أن يكون ملحقا بذلك المعنى, وتكون عبارة المعنى الملحق طبقا لسد الثلمة التي لم يكن لعبارة الملحق به وفاء بها. ومن هذا قول المتنبي: (الطويل -ق- المتدارك)

نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد

ولا يتفق هذا إلا في بعض المواضع. وهذه الأحوال كلها قد ألمعت في هذا الكتاب بما يجب في كل واحدة منها بحسب ما توسع له هذا الموضوع, إذ لتفصيل القول في جميع ذلك طول كثير, وفي ما ذكرته وأذكره من ذلك إن شاء الله مقنع.

16- تنوير: فعلى هذا النحو من الانتقال أصل منشأ الشعر. وقد يحصل للشاعر بالطبع البارع وكثرة المزاولة ملكة يكون بها انتقال خاطره في هذه الخيالات أسرع شيء حتى يحسب من سرعة الخاطر أنه لم يشغل فكره بملاحظة هذه الخيالات وإن كانت لا تتحصل له إلا بملاحظتها ولو مخالسة. وكانت هذه الملكة نحوا من ملكة الخاطر, فإنه وإن كان أصل تعلمه القراءة تتبع الحروف وحركاتها وسكناتها مقطعة, فإنه تحصل له ملكة لا يحتاج معها إلى ذلك التتبع. بل يعلم عندها يقع بصره على مجموع الحروف المختطة أي لفظ يدل عيه ذلك المجموع. هذا على أن صناعة مؤلف الكلام كصناعة الناسج تارة ينسج بردا من يومه وتارة حلة من عامه, ولكل قيمته. وإنما يظن أن ليس بين أنماط الكلام هذا التفاوت من جهل لطائف الكلام وخفيت عليه أسرار النظم.

ز- معلم دال على طرق العلم بما يخص المحاكاة التشبيهية من الأحكام.

وينبغي أن ينظر في المحاكاة التشبيهية من جهات. فمن ذلك جهة الوجود والفرض. وينبغي أن تكون المحاكاة على الوجه المختار بأمر موجود لا مفروض.

1- إضاءة: ومن ذلك جهة الإدراك. وينبغي أن تكون المحاكاة في الأمور المحسوسة حيث تساعد المكنه من الوجوه المختارة بالأمور المحسوسة. وبها يحسن بأن تحاكي الأمور غير المحسوسة حيث يتأتى ذلك ويكون بين المعنيين انتساب. ومحاكاة المحسوس بغير المحسوس قبيحة.

2- تنوير: وينبغي أن تكون المحاكاة التي يقصد بها وضوح الشبه منصرفة على جنس الشيء الأقرب كتشبيه أيطل الفرس بأيطل الظبي. والمحاكاة التي يقصد بها التوسع والراحة والقناعة بما تيسر من الشبه منصرفة إلى الجنس الأبعد كتشبيه متن الفرس بالصفاة.

وينبغي أن تكون المحاكاة التي يقصد بها اجتماع وضوح الشبه وظهور نبل الشاعر وحذقه منصرفة إلى الجنس الذي يلي الجنس الأقرب كتشبيه الأشياء الحيوانية بالأشياء النباتية, نحو تشبيه قلوب الطير رطبة بالعناب, ويابسة بالخشف, وتشبيه غبرة الروق بالقلم المستمد.

3- إضاءة: وينبغي أن يكون المثال المحاكي به معروفا عند جميع العقلاء أو أكثرهم بالسجية. ولا يحسن أن يكون مما ينكر ويجهل.

4- تنوير: وينبغي أن تكون الأوصاف التي يشترك فيها المثال والممثل أشهر صفاتها أو من أشهراها. واعتبار هذا الشرط آكد في صفات الممثل به. وينبغي أن تكون الصفات التي يتضادان فيها أخمل صفاتهما.

5- إضاءة: ويشترط في المحاكاة التي يقصد بها تحريك النفس إلى طلب الشيء أو الهرب منه أن يكون ما يحاكى به الشيء المقصود إمالة النفس نحوه مما تميل النفس إليه, وأن يكون ما يحاكى به الشيء المقصود تنفير النفس عنه مما تنفر النفس عنه أيضا. فإن مثل ما يقصد تحريك النفس على طلبه بما من شأنها أن تهرب عنه, وما قصد تحريكها إلى الهرب منه بما من شأنها أن تطلبه, كان ذلك خطأ وجاريا مجرى التناقض. وذلك مثل قول حبيب: (الطويل -ق- المترادف)

إذا ذاقها, وهي الحياة, رأيته ... يعبس تعبيس المقدم للقتل

فأما المحاكاة التي لا يقصد بها تحسين ولا تقبيح ولكن, محاكاة الشيء بما يطابقه فقط, فالمذهب الأمثل محاكاة الحسن بالحسن والقبيح بالقبيح. وقد يحاكى الشيء الحسن في حيز وبالنسبة إلى غرض بما هو قبيح في حيز آخر وبالنسبة إلى غرض آخر. ولا يقصد في ذلك إلا محاكاتهما من حيث تطابقا. وقد يقصد بذلك ضرب من الإغراب. فيستسهل لذلك تمثيل ما تميل النفس إليه بما تنفر عنه, كقول ابن الرومي: (الرجز -ق- المترادف)

هام وأرغفة وضاء فخمة ... قد أخرجت من جاحم فوار

كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النار

وكأن هذا وما جرى مجراه من عبث المنهومين.

6- تنوير: واعلم أنه لا تحسن محاكاة ذي مقدار كبير بذي مقدار صغير, ولا محاكاة ذي مقدار صغير بذي مقدار كبير, إذا كان بينهما تفاوت في ذلك. وكذلك لا تحسن محاكاة ذي لون بذي لون مخالف له ما لم تقصد في ما تفاوت من ذلك وما تخالف محاكاة هيئة فعل أو حال في المحاكاة والمحاكى به. فإذا قصدت محاكاة هيئة بهيئة لم تلتفت إلى تفاوت ما بين الواحد والآخر في المقدار ولا تباين ما بينهما في اللون, ولذلك استحسن تشبيه الذباب بالقادح, لأن المقصود محاكاة إحدى الحالين بالأخرى. فالمحاكاة إنما تعلقت بالهيئة لا بالمقدار. وعلى هذا حمل تشبيه العصا بالجان وهو حية صغيرة كثيرة الهيج والحركة بعد تشبيهها بالثعبان المبين, لأن المقصود في التشبيه محاكاة هيئة الحركة, وليس المقصود محاكاة مقدار هذا بمقدار ذلك.

7- إضاءة: واعلم أنه إذا اجتمع في المحاكي والمحاكى به أوصاف ثلاثة أو اثنان منها وهي: المقدار والهيئة واللون جاز عكس المحاكاة, وحسن أن تحاكي الشيء بما حاكيته به.

8- تنوير: واعلم أن الصوت والهيئة إذا اتفقا في متناه في الحقارة ومتناه في العظمة فلا تحسن محاكاة أحدهما بالآخر إلا حيث يقصد غلو في تحقير المحاكي أو تعظيمه. فإذا لم يتفاوتا في ذلك, جازت محاكاة أحدهما بالآخر. وكان الأعظم محاكى به حيث يقصد التعظيم, والأحقر محاكى به حيث يقصد التحقير. ولا يجوز العكس إلا حيث يتقاربان أو يتكافآن.

9- إضاءة: واعلم أن الشيء إذا حوكي بالشيء, والمقصود محاكاة أحد فعليهما بالآخر, وكان في فعل المحاكي تقصير عن فعل المحاكى به, فإنه مستساغ في الشعر أن يحاكى المقصر عنه وأن يجعل مثله أو مربيا عليه إذا كانت الزيادة في ذلك الفعل مستحسنة بالنسبة إلى ما يراد منه من منفعة أو غير ذلك. ومن هذا تشبيه الفرس بالريح والبرق.

ويجوز أن يحاكى الأعظم حالا في الفعل أو المقدار بالأحقر في ذلك أو هذا إذا كان التحقير في الأعظم مستحسنا بالنسبة إلى ما يراد منه. وكأن القسم الأول تكميل وهذا تعديل.

ح- معرف دال على طرق المعرفة بالوجوه التي لأجلها حسن موقع المحاكاة من النفس.

لما كانت النفوس قد جبلت على التنبه لأنحاء المحاكاة واستعمالها والالتذاذ بها منذ الصبا, وكانت هذه الجبلة في الإنسان أقوى منها في سائر الحيوان -فإن بعض الحيوان لا محاكاة فيه أصلا, وبعضها فيه محاكاة يسيرة: إما بالنغم كالببغاء, وإما بالشمائل كالقرد- اشتد ولوع النفس بالتخيل, وصارت شديدة الانفعال له حتى أنها ربما تركت التصديق للتخيل. فأطاعت تخيلها وألغت تصديقها. وجملة الأمر أنها تنفعل للمحاكاة انفعالا من غير رؤية, سواء كان الأمر الذي وقعت المحاكاة فيه على ما خيلته لها المحاكاة حقيقة، أو كان ذلك لا حقيقة له فيبسطها التخييل للأمر أو يقبضها عنه. فلا تقصر في طلبه أو الهرب منه عن درجة المبصر لذلك. فيكون إيثار الشيء أو تركه طاعة للتخييل غير مقصر عن إيثاره أو تركه انقياداً للرؤية.

1- إضاءة: ومن التذاذ النفوس بالتخيل أن الصور القبيحة المستبشعة عندما قد تكون صورها المنقوشة والمخطوطة والمنحوتة لذيذة إذا بلغت الغاية القصوى من أشبه بما هي أمثلة له، فيكون موقعها من النفوس مستلذا لا لأنها حسنة في أنفسها بل لأنها حسنة المحاكاة لما حوكي بها عند مقايستها به.

قال هذا أبو علي ابن سينا في كتاب الخطابة من كتاب الشفاء. ثم قال: "وهذا كله للمناسبة بين الصورة مثلا وما يحاكيها. وهذه المناسبات أمور في الطبيعة".

وقال ابن سينا أيضاً في كتاب الشعر من كتاب الشفاء:

"إن النفوس تنشط وتلتذ بالمحاكاة، فيكون ذلك سبباً لأن يقع عندها للأمر فصل موقع. والدليل على فرحهم بالمحاكاة أنهم يسرون بتأمل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة المتقزز منها. ولو شاهدوها أنفسها لتنطوا عنها. فيكون المفرح ليس نفس تلك الصورة ولا المنقوش بل كونها محاكاة لغيرها إذا كانت قد أتقنت.؟ ولهذا السبب ما صار التعليم لذيذاً لا إلى الفلاسفة فقط بل إلى الجمهور، لما في التعليم من المحاكاة، لأن التعليم تصوير ما للأمر في رقعة النفس. ولهذا ما يكثر سرور الناس بالصور المنقوشة بعد أن يكونوا قد أحسوا الخلق التي هذه أمثالها. فإن لم يحسوها قبل لم تتم لذتهم، بل إنما يلتذون حينئذ قريبا بما يلتذون من نفس محاكاة النقش في كيفيته ووضعه وما يجري مجراه".

ثم قال ابن سينا: "والسبب الثاني حب الناس للتأليف المتفق أو للألحان طبعا. ثم قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان فمالت إليها النفوس وأوجدتها. فمن هاتين العلتين تولدت الشعرية".

وقد تضمن كلام ابن سينا شرطا من شروط المحاكاة لم نذكره اكتفاء بالإشارة إليه في هذا الموضوع. وهو أن الالتذاذ بالتخيل والمحاكاة إنما يكمل بأن يكون قد سبق للنفس إحساس بالشيء المخيل وتقدم لها عهد به.

وبقي أن نبسط الكلام شيئاً في تبيين ما للمحاكاة من حسن موقع من النفوس من جهة اقترانها بالمحاسن التأليفية والصيغ المستحسنة البلاغية، وهو الذي أشار إليه أبو علي ابن سينا بالتأليف المتفق.

تنوير: فأما السبب في حسن موقع المحاكاة من النفس من جهة اقترانها بالمحاسن التأليفية فهو أنه لما كان للنفس في اجتلاء المعاني في العبارات المستحسنة من حسن الموقع الذي يرتاح له ما لا يكون لها عند قيام المعنى بفكرها من غير طريق السمع، ولا عند ما يوحى إليها المعنى بإشارة، ولا عند ما تجتليه في عبارة مستقبحة، ولهذا نجد الإنسان قد يقوم المعنى بخاطره على جهة التذكر، وقد يشار له إليه، وقد يلقى إليه بعبارة مستقبحة، فلا يرتاح له في واحد من هذه الأحوال. فإذا تلقاه في عبارة بديعة اهتز له وتحرك لمقتضاه، كما أ، العين والنفس تبتهج لاجتلاء ما له شعاع ولون من الأشربة في الآنية التي تشف عنها كالزجاج والبلور ما لم تبتهج لذلك إذا عرض عليها في آنية الحنتم وجب أن تكون الأقاويل الشعرية أشد الأقاويل تحريكا للنفوس، لأنها أشد إفصاحاً عما به علقة الأغراض الإنسانية، إذا كان المقصود بها الدلالة على أعراض الشيء ولواحقه التي للآداب بها علقة.

والأقاويل غير الشعرية، وخصوصا ما قصد به التصديق والدلالة على ماهيات الأشياء، إنما تفهم منها في أكثر الأمر تلك اللواحق والأعراض على جهة الالتزام والتضمن. وليس ما يكون نصا على الشيء في تمكين إلقائه من النفس طبقا له مثل ما لا يفهم الشيء منه إلا بطريق ضمن أو لزوم.

وأيضا فإن الأقاويل الشعرية يحسن موقعها من النفوس من حيث تختار مواد اللفظ وتنتقى أفضلها وتركب التركيب المتلائم المتشاكل وتستقصى بأجزاء العبارات التي هي الألفاظ الدالة على أجزاء المعاني المحتاج إليها حتى تكون حسنة إعراب الجملة والتفاصيل عن جملة المعنى وتفاصيله، يكون التخيل كما قدمت، يجب فيه تخييل أجزاء الشيء عند تخييله حتى تتشكل جملته بتشكل أجزاء، فتقوم صورته بذلك في الخيال الذهني على حد ما هي عليه خارج الذهن، أو أكمل منها إن كانت محتاجة إلى التكميل.

وقد قال أفلاطون في كتاب السياسة له: "إنا لا نلوم مصورا إن صور صورة إنسان فجعل جميع أعضائه على غاية الحسن، فنقول له إنه ليس يمكن أن يكون إنسان على هذه الصورة، وذلك أن المثال ينبغي أ، يكون المثال".

وليس ما سوى الأقاويل الشعرية في حسن الموقع من النفوس مماثلا للأقاويل الشعرية، لأن الأقاويل التي ليست بشعرية ولا خطابية ينحى بها نحو الشعرية لا يحتاج فيها إلى ما يحتاج إليه في الأقاويل الشعرية، إذ المقصود بما سواها من الأقاويل إثبات شيء أو إبطاله أو التعريف بماهيته وحقيقته.

وإنما يثبت الشيء بغيره وربما هو خارج عنه مما له نسبة إلى ما يرجع غليه مما شأنه إذا ألفت العبارة فيه تأليفا محدودا أن ينتقل منه إليه ويصار به إلى معرفة ثباته أو ارتفاعه. وإذا عرف فإنما يعرف بقول يدل على ماهيته المشتركة والخاصة, وليس يدل على اللواحق والأعراض التي بها تشبث الآداب الإنسانية وعلقة الأغراض إلا على جهة التزم. وإذا خيل لك الشيء بالأقاويل المحاكية له فالمقصود محاكاة ما هو عليه من حسن أو قبح بأقاويل تخيل لواحقه وأغراضه التي بها علقة الأغراض, ومحاسن الشيء ومساويه راجعة غليه. فإذا حوكي الشيء بصفاته أو ما هو مثال لصفاته تصور بما يرجع إليه وبما له علقة بالأغراض مما يرجع إليه أو ما هو مثال لما يرجع إليه. وإذا قصد التعريف به أو الاستدلال عليه عرف بما ليس له علقة بالأغراض, واستدل عليه بما هو خارج عنه.

فمحصول ما عدا الأقاويل الشعرية إيقاع تعريف أو تصديق بما لا تشتد علقته بالأغراض أو لا تكون علقته بالجملة, أو مغالطة السامع وإيهامه أن ذلك واقع من غير أن يكون كذلك. ومحصول الأقاويل الشعرية تصوير الأشياء الحاصلة في الوجود وتمثيلها في الأذهان على ما هي عليه خارج الأذهان من حسن أو قبح حقيقة, أو على غير ما هي عليه تمويها وإيهاما, فأقوال دالة على ما يلحق الأشياء ويعرض لها مما هو خارج عن مقوماتها مما علقة الأغراض الإنسانية به قوية.

فالمحصول الأول كحصول العلم مثلا بامتلاء إناء أو خلوه بأن يبصر مثلا يرشح أو يوجد ثقيلا أو يبصر مكفأ ويوجد خفيفا. والمحصول الثاني وهو الذي للأقاويل الشعرية مثل ما تشف لك آنية الزجاج عن صورة ما تحويه. فلذلك صارت الأقاويل الشعرية أشد إبهاجا وتحريكا للنفوس من غيرها. فلشدة منسبة الأقاويل الشعرية للأغراض الإنسانية كانت أشد تحريكا للنفوس وأعظم أثرا فيها.

3- إضاءة: وليست المحاكاة في كل موضع تبلغ الغاية القصوى من هز النفوس وتحريكها, بل تؤثر فيها بحسب ما تكون عليه درجة الإبداع فيها, وبحسب ما تكون عليه الهيئة النطقية المقترنة بها, وبقدر ما تجد النفوس مستعدة لقبول المحاكاة والتأثر لها.

4- تنوير: فتحرك النفوس للأقوال المخيلة إنما يكون بحسب الاستعداد, وبحسب ما تكون عليه المحاكاة في نفسها, وما تدعم به المحاكاة وتعضد مما يزيد به المعنى تمويها والكلام حسن ديباجة من أمور ترجع إلى لفظ أو معنى أو نظم أو أسلوب. وقد ذكرت جل كليات تلك الأشياء في هذا الكتاب.

5- إضاءة: والاستعداد نوعان: استعداد بأن تكون للنفس حال وهوى قد تهيأت بهما لأن يحركها قول ما بحسب شدة موافقته لتلك الحال والهوى كما قال المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)

وإنما تنفع المقالة في المر ... ء, إذا وافقت هوى في الفؤاد

والاستعداد الثاني هو أن تكون النفوس معتقدة في الشعر أنه حكم وأنه غريم يتقاضى النفوس الكريمة الإجابة إلى مقتضاه بما أسلبها من هزة الارتياح لحسن المحاكاة. هكذا كان اعتقاد العرب في الشعر. فكم خطب عظيم هونه عندهم بيت! وكم خطب هين عظمه بيت آخر!. ولهذا ما كانت ملوكهم ترفع أقدار الشعراء المحسنين, وتحسن مكافأتهم على إحسانهم. وكان لغير العرب بين الأمم في القديم أيضاً من العناية بالشعر والتأثر له وحسن الاعتقاد فيه مثل ما كان للعرب. وقد قال أبو علي ابن سينا: "إنهم كانوا ينزلون الشاعر منزلة النبي فينقادون لحكمه ويصدقون بكهانته". هذا على أن العرب انتهت من إحكام الصنعة الجديرة بالتأثير في النفوس إلى ما لم تنته إليه أمة من الأمم, لاضطرارهم إلى التأنق في تأسيس مباني كلامهم وإحكام صنعته بسكناهم البيد البسابس في غير إيالة تربطهم وسياسة تضبطهم. فكانوا أخلق أمة بأن يكثر تنازعهم فيما يقيمون به معايشهم. فاتخذوا الإبل لارتياد الخصب, واتخذوا الخيل للعز والمنعة, واتخذوا الكلام المحكم نظما ونثرا للوعظ والحض على المصالح.

6- تنوير: ولشدة حاجة العرب إلى تحسين كلامها اختص كلامها بأشياء لا توجد في غيره من ألسن الأمم. فمن ذلك تماثل المقاطع في الأسجاع والقوافي لأن في ذلك مناسبة زائدة, ومن ذلك اختلاف مجاري الأواخر, واعتقاب الحركات على أواخر أكثرها, ونياطتهم حرف الترنم بنهايات الصنف الكثير المواقع في الكلام منها لأن في ذلك تحسينا للكلم بجريان الصوت في نهاياتها, ولأن للنفس في النقلة من بعض الكلمة المتنوعة المجاري إلى بعض على قانون محدود راحة شديدة واستجدادا لنشاط السمع بالنقلة من حال إلى حال, ولها, في حسن اطراده في جميع المجاري على قوانين محفوظة قد قسمت المعاني فيها على المجاري أحسن قسمة, تأثر من جهتي التعجيب والاستلذاذ للقسمة البديعة والوضع المتناسب العجيب. فكان تأثير المجاري المتنوعة وما يتبعها من الحروف المصوتة من أعظم الأعوان على تحسين مواقع المسموعات من النفوس, وخصوصا في القوافي التي استقصت فيها العرب كل هيئة تستحسن من اقترنات بعض الحركات والسكنات والحروف المتماثلة المصوتة وغير المصوتة ببعض, وما تتنوع إليه تلك الاقترنات من ضروب الترتيب. فهذه فضيلة مختصة بلسان العرب. ولهذا قال أبو نصر: "إن الألسن العجمية متى وجد فيها شعر مقفى فإنما يرومون أن يحتذوا فيه حذو العرب. وليس ذلك موجودا في أشعارهم القديمة".

7- إضاءة: وإنما التزمت العرب إجراء اللواحق المصوتة على أعقاب الكلم ونهاياتها على قانون قانون في موضع موضع لا يتعدى, في كل موضع منها صورة مخصوصة من المجاري (لوجهين) :

أحدهما أنها احتاجت إلى فروق بين المعاني. وقد كان يمكنها أن تجعل لذلك علامات غير اختلاف مجاري الأواخر كما فعل غيرها من الأمم, لكنها اختصرت وجعلت مجاري الأواخر, التي احتاجت إليها لتنويع مجاري القوافي والأسجاع وتحسين نهايات الكلمة بالجملة, فروقا بين المعاني, فاجتمع لها في إجراء الأواخر على ما أجرتها فائدتان. والوجه الثاني في السبب الذي لأجله التزموا إجراء الكلام على قانون قانون بحسب موضع موضع أنهم لو أجروا أواخر الكلم كيف اتفق لم يكن ذلك ملذوذا لأن ذلك أمر لا يرجع على نظام. ولجري الأمور على نظام منضبط محكم موقع عجيب من النفس بحفظ المتكلم لنظام كلامه ومقابلته بضروب هيآته ضروب هيآت المعاني اللائقة بها. ولو كان الأمر في ذلك على غير نظام لما كان للنفوس في ذلك تعجيب, ولكانت الفصاحة مرقاة غير معجزة أحدا.

8- تنوير: ولنرجع على ما كنا بسبيله من المتكلم فيما تكون عليه النفس من استعداد لقبول المحاكاة والتأثر لها أو غير ذلك. فنقول: إن الاستعداد الذي يكون بانطواء السامع على هوى يكون غرض الكلام المخيل موافقا له فينفعل له بذلك أمر موجود لكثير من الناس في كثير من الأحوال. وأما الاستعداد الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان, بل كثير من أنذال العالم -وما أكثرهم! - يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة. وكان القدماء, من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها ضد ما اعتقده هؤلاء الزعانفة, على حال قد نبه عليها أبو علي ابن سينا فقال: "كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي, فيعتقد قوله ويصدق حكمه, ويؤمن بكهانته" فانظر إلى تفاوت ما بين الحالين: حال كان ينزل فيها منزلة أشرف العالم وأفضلهم, وحال صار ينزل فيها منزلة أخس العالم وأنقصهم! 9- إضاءة: وإنما هان الشعر على الناس هذا الهون لعجمة ألسنتهم واختلال طباعهم. فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه المحركة جملة فصرفوا النقص إلى الصنعة, والنقص بالحقيقة راجع إليهم وموجود فيهم, ولأن طرق الكلام اشتبهت عليهم أيضا. فرأوا أخساء العالم قد تحرفوا باعتفاء الناس واسترفاد سواسية السوق بكلام صوروه في صورة الشعر من جهة الوزن والقافية خاصة, من غير أن يكون فيه أمر آخر من الأمور التي بها يتقوم الشعر. وكأن منزلة الكلام الذي ليس فيه إلا الوزن خاصة من الشعر الحقيقي منزلة الحصير المنسوج من البردي وما جرى مجراه من الحلة المنسوجة من الذهب والحرير, لم يشتركا إلا في النسج كما لم يشترك الكلامان إلا في الوزن.

ولكثرة القائلين المغالطين في دعوى النظم وقلة العارفين بصحة دعواهم من بطلاهم لم يفرق الناس بين المسيء المسف إلى الاسترفاد بما يحدثه وبين المحسن المرتفع عن الاسترفاد بالشعر. فجعلوا قيمتهما متساوية, بل ربما نسبوا إلى المسيء إحسان المحسن وإلى المحسن إساءة المسيء. فصارت نفوس العارفين بهذه الصنعة بعض المعرفة أيضاً تستقذر التحلي بهذه الصناعة, إذ نجسها أولئك الأخساء واشتبه على الناس أمرهم وأمر أضدادهم, فأجروهم مجرى واحدا من الاستهانة بهم. فالمعرة لا شك منسحبة على الرفيع في هذه الصنعة بسبب الوضيع. فلذلك هجرها الناس, وحقها أن تهجر.

10- تنوير: ولأن النفوس أيضاً قد اعتقدت أن الشعر كله زور وكذب على ما رآه قوم ابن سينا رادا عليهم. وكان يجب على هؤلاء إن كان لهم علم بالشعر ألا يحملهم الحسد فيما قصرت عنه طباعهم على أن يتكلموا في ذلك بغير تحقيق. وكثيرا ما يذم الإنسان ما منعه, شيمة ثعالية, فيحملهم الحسد على الغض من الشعر ومن أهله بإخراجه من الحقائق جملة, وإن كانوا ممن ليس لهم به علم, وما أجدرهم أيضاً بهذا! فكان يجب عليهم أن يتعلموا أو لا يتكلموا فيما لم يعملوا. فالناس إذا اعتقدوا هذا الاعتقاد كانوا خلفاء بأن يأخذوا أنفسهم بألا تتحرك للشعر ولا تهتز غليه. وأنت إذا نظرت من تعلم منه شيمة حسد من الكهول والشيوخ الذين يئسوا من البلاغة في النظم والنثر وجدته إذا أنشدته شعرا حسنا إما شديد الحبوس مربد الوجه لشدة الاغتياط, وإما باديا فيه يسير من الهزة وظاهرا منه أنه يقمع نفسه ويمنعها تسريح العنان في الهزة لئلا يسر بذلك المنشد ولاسيما إن كان الشعر له. فأما الأحداث فمثل هذا الحسد فيهم قليل لأنهم لم يقطعوا يأسهم من إدراك البلاغة, وأيضا فإنهم لا يطالبون أنفسهم في السن الحديثة من الاستكمال والأنفة من النقص في المعارف بما طالب به أنفسهم أولئك.

11- إضاءة: وربما قال قائل: إذا كانت الأقاويل الشعرية منها ما يخيل الشيء ويمثله نفسه بتعرف صورة الشيء مما أعطاه ومثله القول المخيل, كالذي يحاكي بالدمية صورة امرأة فتعرف صفاتها بها, ومنها ما يترك فيه المعنى المخيل للشيء ويخيل بما يكون مثالا لذلك المعنى, كالذي يتخذ مرآة فيقابل الدمية بها فيريك تمثالها فتعرف أيضاً صورة الشيء المحاكى بالدمية بالتمثال الذي يبدو للدمية في المرآة. وقد رأينا من يرى الدمية أو تمثالها في المرآة لا يتحرك لها ولا لتمثالها بنسبة مما كان يتحرك لرؤية الشخص الذي حوكيت صورته بالدمية. فيجب على هذا أن لا يكون التحرك لما يتخيل من الشعر بنسبة من التحرك لمشاهدة الأشياء التي خليت. وأنتم تقولون إن الأقاويل الشعرية ربما كان التحرك لما يتخيل من محاكاتها أشد من التحريك لمشاهدة الشيء الذي حوكي, وابتهاج النفس بما تتخيله من ذلك فوق ابتهاجها بمشاهدة المخيل. فيقال له أولا: إن الدمية والشخص الذي صورت على صورته يختلف اعتبارهما في تحريك النفوس. فالدمية تحركها بالتعجيب من حسن محاكاتها وإبداع الصنعة في تقديرها على ما حكي بها, والشخص الذي هو تمثال له إن كان مستحسنا فإنه يحرك الذي هي تمثال له من هذا الطريق, بل الأمر في الأكثر على ذلك. والقول المخيل قل ما يخلو من التعجيب, بل كأنه مستصحب له من اقل ما يمكن من ذلك في القول المخيل على أكثر ما يمكن. والتعجيب في القول المخيل يكون إما من جهة إبداع محاكاة الشيء وتخييله كما كان ذلك في الدمية, ويكون من جهة كون الشيء المحاكي من الأشياء المستغربة والأمور المستطرفة. وإذا وقع التعجيب من الجهتين المذكورتين على أتم ما من شأنه أن يوجد فيهما فتلك الغاية القصوى من التعجيب. وللنفوس على ما بلغ هذه الغاية تحريك شديد.

12- تنوير: ثم يقال لمن اعترض بأن محاكاة الشيء يجب أن يكون التحرك لها أقل من التحرك لمشاهدته أن تمثلنا في المحاكتين بالدمية والمرآة على جهة من التسامح. وإنما ينبغي أن يمثل حسن المحاكاة في القول بأحسن ما يمكن أن يوجد من ضروب تصاوير الأشياء وتماثيلها. فأقول إن من أحسن ما يرى من ذلك تصور أشعة الكواكب والشمع والمصابيح المسرجة في صفحات المياه الصافية الساكنة التموج من الخلجان والأودية والمذانب والأنهار. وكذلك نمثل أفانين شجر الدوح بما ضم من ثمر وزهر في صفحات الماء الصفو إذا كان الدوح مطلا عليه. فإن اقتران طرتي الغدير الدوحية بما يبدو من مثالها في صفاء الماء من أعحب الأشياء وأبهجها منظرا. ونظير ذلك من المحاكاة في حسن الاقتران أن يقرن بالشيء الحقيقي في الكلام ما يجعل مثالا له مما هو شبيه به على جهة من المجاز تمثيلية أو استعارية كقول حبيب: (الخفيف -ق- المترادف)

دمن طالما التقت أدمع ال ... مزن عليها وأدمع العشاق

وقول ابن التنوخي: (الطويل -ق- المترادف)

لما ساءني أن وشحتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح

فحسن اقتران أدمع العشاق, وهي حقيقة, بأدمع المزن وهي غير حقيقية, واقتران الوشاح الذي هو حقيقة بالوشاح المراد به التزام المعتنق وهو غير حقيقي يجري في حسن موقعه من السمع والنفس مجرى موقع حسن اقترن الدوح الذي له حقيقة بمثاله في الغدير ولا حقيقة له من العين. فإن المسموعات تجري من السمع مجرى المتلونات من العين.

13- غضاءة: وأما تخييل الشيء نفسه بالقول المحاكي له فكأن نسبته إلى النفس والسمع نسبة إفصاح الزجاجة عما حوته وإفشائها سر ما أودعته إلى العين من تماثيل الشمع ذوات الأنوار أو الأدواح الخضر ذوات النور في صفحات الماء ما ليس لها لرؤية صور هذه الأشياء حقيقة, لأن حال معانية أشكال هذه الأشياء في المياه أقل تكررا على الإنسان من مشاهدة حقائق تلك الصور. فهي لها أشد استطرافا. وأيضا فإنه يقع في اقتران تمثال الشيء المستحسن به من التشاكل نحو التشاكل نحو مما يقع بين اقتران بعض المتلونات ببعض.

وأيضا فإن محاكاة الشيء بغيره أطرف من محاكاته بصفات نفسه. وهي أكثر جدة وطراءة منها. فكانت محاكاته بها أطراف من محاكاته بصفات نفسه.

فلهذا وما ذكرنا فيما تقدم ولما نذكره بعد في قوانين المعاني والنظم والأسلوب, وما يقع في كل ذلك من إبداع التخاييل وحسن الهيآت التي هي أعوان للتخاييل المعنوية على ما يراد من تأثر النفوس لها, حسن موقع الأقاويل الشعرية من النفوس.

14- تنويرك واعلم أن منزلة حسن اللفظ المحاكى به وإحكام تأليف من القول المحاكى به ومن المحاكاة بمنزلة عتاقة الأصباغ وحسن تأليف بعضها إلى بعض وتناسب أوضاعها من الصور التي يمثلها الصانع.

وكما أن الصورة إذا كانت أصباغها رديئة وأوضاعها متنافرة وجدنا العين نابية عنها غير مستلذة لمراعاتها, وإن كان تخطيطها صحيحا, فكذلك الألفاظ الرديئة والتأليف المتنافر, وإن وقعت بها المحاكاة الصحيحة فإنا نجد السمع يتأذى بمرور تلك الألفاظ الرديئة القبيحة التأليف عليها, يشغل النفس تأذي السمع عن التأثر لمقتضى المحاكاة والتخييل. فلذلك كانت الحاجة في هذه الصناعة إلى اختيار اللفظ وإحكام التأليف أكيدة جدا

د- المنهج الرابع في الإبانة عن الأحوال التي تعرض للمعاني في جميع مواقعها من الكلام, فتوجد بها ملائمة للنفوس أو منافرة لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بأنحاء النظر في أحوال المعاني وما يجب اعتباره فيها من جهة ما يرجع إليها في أنفسها أو من جهة ما يقترن بها ويكون لها به علقة.

وأنا أشير على أنحاء النظر في جميع ذلك بإضاءات وتنويرات, من إيراد الآراء البلاغية أرفعها في معلم معلم ومعرف معرف, وأنبه على ما يتأكد التنبيه عليه من ذلك بقول موجز إذ لا ينفسح الوقت الذي للنفس فيه بعض تخل عن الشواغل إلى تسريح العنان في ذلك.

1- إضاءة: واعتبار ما تكون عليه المعاني من صحة وكمال ومطابقة للغرض المقصود بها وحسن موقع من النفس يكون بالنظر إلى ما المعنى عليه في نفسه, وبالنظر إلى ما يقترن به من الكلام وتكون له به علقة, وبالنظر إلى الغرض الذي يكون الكلام مقولا فيه, وبالنظر إلى حال الشيء الذي تعلق به القول.

2- تنوير: والنظر في المعنى من جهة ما يكون عليه في نفسه لا يخلو من أن يكون متعلقا بما يرجع إلى مادته, أو بما يرجع إلى تأليفه, أو بما يرجع إلى مقداره, أو بما يرجع إلى هيئته. وقد تقدم الكلام في كثير مما يحتاج إليه في المعاني من هذه الجهات الأربع. وسأستدرك في هذا النهج ما يكون تتميما لذلك المبدأ وتوطيدا على ذلك الأس, إن شاء الله.

3- إضاءة: ولا يخلو اعتبار المعنى في جميع ذلك من أن يكون بالنظر إلى ما هو ضروري فيه أو متأكد أو مستحب. والضروري هو ما لا يتم الغرض إلا به. والمتأكد هو الذي يزيد به الكلام حسنا وإن كان قد يستغنى عنه ويكون اعتماده بين الرجاحة على اطراحه. والمستحب هو المائل إلى حيز الرجحان في ذلك.

4- تنوير: وقد أدرجت تفاصيل القول في جميع ذلك في منهج منهج ومعلم معلم من مناهج هذا الكتاب ومعالمه, إذ لم يمكن إدراج ذلك في منهج واحد, لأن ذلك يخرجه إلى مباينة غيره من المناهج في الطول, فيعدل بوضع الكتاب إلى ضد ما قصدنا به من المناسبة والمعادلة. فلذلك اقتصرت في هذا المنهج من النظر في صحة المعاني على ما يقع فيها من إحالة, من جهة نسبة وصف إلى موصوف, ومن جهة تناقض واقع بين متقابلين, أو من جهة تدافع بين المعاني وأغراض الكلام, أو من جهة تباين بين الأوصاف وأحوال الموصوفين.

5- إضاءة: وكذلك اقتصرت أيضاً من النظر في كمال المعاني على الإشارة على بعض جهات الكمال فيها لأن الكمال أيضاً يكون بالنظر إلى ما المعنى عليه في نفسه, ويكون بالنظر على ما يكتنفه وتكون له به علقة, ويكون بالنظر إلى غرض الكلام, ويكون بالنظر إلى حال الشيء الذي فيه القول.

6- تنوير: وكمال المعنى في نفسه يكون باعتبار استيفاء أجزائه البسيطة, أو استيفاء أجزائه المركبة, لأن المعاني منها ما ينحل إلى أجزاء مركبة, ومنها ما لا ينحل إلا إلى أجزاء بسيطة. وقد تقدم أن أجزاء المعاني قد يكون جميعها متعددا, وقد يتعدد بعضها دون بعض, وأنها قد تتكرر لضروب من المقاصد. وكل ذلك لا يخلو من أن يكون ضروريا بالنظر إلى صحة المعنى وكمال تأديته أو أكيدا فيه أو مستحبا.

7- إضاءة: وإذا وقع التعداد في المعاني وكان ضروريا بالنسبة على الغرض واستمر في العبارة على نسق متشابه سمي قسمة. وقد يسمى بذلك ما كان متأكدا أو مستحبا, وإن لم يكون ضروريا, على سبيل المسامحة. وأما ما سوى ذلك من أنحاء النظر في كمال المعنى فقد تضمنت التنبيه عليه مواضع كثيرة من هذا الكتاب, فليتأمل هنالك.

8- تنوير: وتمكن المعنى أيضاً يكون بنحو من تلك الاعتبارات, ولم نلمم في هذا الموضع إلا بما يكون التمكن فيه بالنظر إلى ما يواجه به المعنى ويرام التوفيق في الوضع بينهما من جهة ما لأحدهما انتساب إلى الآخر يقتضي المقارنة بينهما, وما عدا ذلك من أنحاء التمكن يتعرف من مواضع أخر من هذا الكتاب.

9- إضاءة: فأما وضوح المعاني وبيانها وغموضها واستغلاقها فأنا أستقصي في هذا المنهج أنحاء النظر في الوجوه التي بها يكون بيان المعنى أو انبهامه من جهة ما يرجع إليه في نفسه, ومن جهة نسبة اللفظ الدال عليه إلى فهم المخاطب, وإن كان ذكر هذا أليق بالقسم الأول. لكنا قصدنا في هذا المنهج أن يكون القول في جميع ما يكون به انبهام المعاني مستقصى, وأن نتقصى أنحاء النظر من ذلك فيما تقدم الإلماع به من ذلك في المنهج الثالث من القسم الأول.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء النظر في صحة المعاني وسلامتها من الاستحالة الواقعة بالإفراط في المبالغة.

لا يخلو الشيء المقصود مدحه أو ذمه من أن يوصف بما يكون فيه واجبا أو ممكنا أو ممتنعا أو مستحيلا. والوصف بالمستحيل أفحش ما يمكن أن يقع فيه جاهل أو غالط في هذه الصناعة. والممتنع قد يقع في الكلام إلا أن ذلك لا يستساغ إلا على جهة من المجاز. والفرق بين الممتنع والمستحيل: أن المستحيل هو الذي لا يمكن وقوعه ولا تصوره, مثل أن يكون شيء طالعا نازلا في حال. والممتنع هو الذي يتصور وإن لم يقع كتركيب عضو من حيوان على جسد من حيوان آخر.

1- إضاءة: فمدار الأوصاف إذن -بالنظر إلى ما يستساغ ويوثر- إنما هو على ما كان واجبا واقعا, أو ممكنا معتاد الوقوع, أو مقدره. والممكن لا يخلو من أن تتوفر فيه دواعي الإمكان أو أن تقل. وكلما توفرت دواعي الإمكان كان الوصف أوقع في النفس وأدخل في حيز الصحة. ولهذا يقال: ممكن قريب وممكن بعيد.

2- تنوير: والواجب الثابت الوقوع لا يخلو من أن يكون متناهيا في الخال التي هو عليها, أو قاصرا فيها, أو وسطا بين المتناهي والقاصر. وكل ذلك لا يخلو من أن يكون الوصف به تحسينا للموصوف ومدحا له, أو تقبيحا له وذما. والمدح بالقاصر مما يحسن تقصير في المدح. والذم بالقاصر مما يقبح تقصير في الذم.

3- إضاءة: فبهذا الترتيب يتبين ما يصح ويحسن من المبالغة, وما لا يصح منها ولا يحسن. فإن العلماء بصناعة البلاغة متفقون على أن ما أدى إلى الإحالة قبيح. وقد خالف في هذا جماعة ممن لا تحقيق عنده في هذه الصناعة ولا بصيرة له بها, فاستحسنوا من المبالغة ما خرج عن حد الحقيقة إلى حيز الاستحالة, واحتجوا بمطالبة النابغة حسان بن ثابت بالمبالغة في أوصافه حين أنشده قوله: (الطويل -ق- المتدارك)

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

فقال له: "قللت جفانك وسيوفك, ولو قلت الجفان والسيوف لكان أبلغ". والبصراء بصناعة البلاغة العارفون بما يجب فيها يقولون: إنما طالب النابغة حسانا بمبالغة حقيقة, وهي تكثير الجفان والسيوف. فاستدرك عليه التقصير عما يمكن فيما وصف, ولم يطالبه بتجاوز غاية الممكن والخروج إلى ما يستحيل.

4- تنوير: وقد يستساغ الوصف بما يؤدي إلى الإحالة حيث يقصد التهكم بالشيء أو الزراية عليه والإضحاك به. كقول الطرماح: (الطويل -ق- المتدارك)

ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت

فهذا وأشباهه إنما استعمل على جهة الزراية والإضحاك. فهو مقصود به غرض ما, يسوغ دونه.

5- إضاءة: وإنما جرى الغلط على كثير من الناس في هذا حيث لم يفرقوا بين الوصف الذي لا يخرج عن حد الإمكان وإن لم يثبت وقوعه, وبين الخارج إلى حيز الاستحالة. وغلطتهم في ذلك أبيات وقعت فيها مبالغات خفيت عليهم فيها جهات الإمكان, فظنوا أنها من الممتنعة أو المستحيلة.

ومثل ذلك من المبالغات التي يمكن أن تتصور لها حقيقة وأن تصرف إلى جهة الإمكان, وإن كان مما يستندر وقوع مثله قول المتنبي: (الطويل -ق- المتدارك)

وأنى اهتدى هذا الرسول بأرضه ... وما سكنت مذ سرت فيها القساطل

ومن أي ماء كان يسقي جياده ... ولم تصف من مزج الدماء المناهل

فهذا مستساغ مقبول من حيث يمكن أن تتصور له حقيقة وإن لم تكن واقعة, إذ كانت كثرة الجيوش لا حد لها. ومتى قدرت الزيادة في مقدار منها وإن كثر أمكنت. فجائز أن يغزو أرض قوم من الجيوش ما يصير حزنها سهلا وخيارها وعثا حتى يصير صخرها رهجا وترابها إهبا, فيثور نقعها بأقل حركة أو نفس فلا تسكن القساطل فيها مدة. فأراد المبالغة في جيش ممدوحه فجعله بالغا إلى هذا المقدار. وكذلك سفك الدماء ليس له حد ينتهى إليه. ومتى قدرت الزيادة في مقدار منه أمكنت, فجائز في حق ممدوحه أن يريق من دماء أعدائه ما تكدر منه المياه مدة. فأراد المبالغة في ما أراق هذا الممدوح من دماء الروم, فجعله بالغا إلى ذلك المقدار.

ولا يلزم أبا الطيب أن يكون صادقا في ذلك, لأن صناعة الشعر لها أن تستعمل الكذب إلا أنها لا تتعدى الممكن من ذلك أو الممتنع إلى المستحيل, وإن كان الممتنع فيها أيضاً دون الممكن في حسن الموقع من النفوس.

6- تنوير: فأما مثل قول أبي الطيب في وصف الأسد: (الكامل -ق- المترادف)

سبق التقاءكه بوثبة هاجم ... لو لم تصادفه لجازك ميلا

فقبيح, غذ لا يمكن في جرم الأسد وقوته من الزيادة ما أمكن في الجيوش والدماء.

وبهذا الاعتبار يتبين لك ما يحسن من المبالغة وما لا يحسن وما يسوغ منها وما لا يسوغ. فمن اعتمده حمده إن شاء الله.

ج- معلم دال على طرق العلم بأنحاء النظر في صحة المعاني وسلامتها من الاستحالة الواقعة بفساد التقابل.

وجهات التقابل أربعة: 1- جهة الإضافة وهي أن تكون نسبة شيء إلى شيء آخر مخالفة لنسبة ذلك الشيء إليه, مثل الضعف للعشرة بالقياس على نصفها, والأب إلى ابنه, والمولى إلى عبده.

2- وجهة التضاد كالأبيض والأسود.

3- وجهة الغنية والعدم كالأعمى والبصير.

4- وجهة السلب والإيجاب نحو زيد جالس, زيد ليس بجالس. فالجمع بين متقابلين من هذه الأربعة من جهة واحدة تناقض.

1- إضاءة: فإن تقابل المعنيان من جهتين, لم يكن ذلك تناقضا مثل أن يقال إن العشرة ضعف ونصف, لكنها ضعف الخمسة ونصف العشرين. ولو قيل إنها نصف العشرين وضعفها كان محالا. وكذلك قول القائل: زيد بصير القلب أعمى العين صحيح. ولو قيل إنه أعمى العين بصيرها كان محالا. وكذلك في التضاد يصح أن يقال في الفاتر إنه حار عند البارد وبارد عند الحار, ولا يكون حارا باردا عند أحدهما. وكذلك في السلب والإيجاب نحو زيد كريم بالمال, زيد ليس كريما بالجاه, فهذا صحيح. ولا يصح أن يكون كريما بأحدهما غير كريم به في حال واحدة.

2- تنوير: فضروب التقابل الأربعة إنما يصح منها ما لم يتواف المتقابلان فيه من جهة واحدة, ولكن نيط هذا بجهة وهذا بجهة.

فمن الكلام الذي انصرف فيه أحد المتقابلين بالسلب والإيحاب إلى غير الجهة التي انصرف إليها الآخر, فكان ذلك صحيحا سالما من التناقض, قول ابن الرومي: (الطويل -ق- المترادف)

وليسوا بأجذال الطعان ذوى القنا ... ولكنهم بالحزم والرأي أجذال

ولم يخلقوا أبطال بأس ونجدة ... ولكنهم بالرفق واللين أبطال

فجعلهم أبطالا من جهة وغير أبطال من جهة، وأجذالا من وجه وغير أجذال من وجه.

3- إضاءة: وربما تسامح بعضهم في أني يورد معنى في بيت ثم يأتي في بيت آخر بمعنى يقابله على أحد الأنحاء المتقدمة منه التقابل ويجمع بينهما من جهة واحدة، وذلك إذا كان البيت منقطعا عن البيت فيجري البيتين إذا كان كلاهما مستقلا بنفسه مجرى قصيدتين، فكما جاز للشاعر أ، ينقص في قصيدة ما قال في قصيدة أخرى كذلك يجوز له في البيتين المتميز أحدهما عن الآخر.

فأما إذا كان معنى البيت الواحد متعلقا بمعنى البيت الآخر، فإن الجمع بين المتقابلين فيهما من جهة واحدة غير سائغ. وإنما يجوز ذلك مع عدم الاتصال.

وترك التناقض على كل حال أحسن. وقد قال أبو عثمان الجاحظ: "إن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم يمدحون بالشيء الذي يهجون به. وهذا باطل، ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين. وإذا ذموا ذكروا أقبحهما". وقال الخفاجي تلميذ أبي العلاء: "إنهم على ذلك يتصرف قولهم. فإن أبا تمام لما وصف يوم لا فراق بالطول فقال: (الكامل -ق- المترادف)

يوم الفراق، لقد خلقت طويلا ... لم تبق لي جلدا ولا معقولا

علل طوله بما لقي فيه من الوجد لرحيل أحبابه عنه.

وأبو عبادة البحتري لما وصفه بالقصر فقال: (الكامل -ق- المترادف)

ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل

قصرت مسافته على متزود ... منه لدهر صبابة وعويل

فهما وإن خالف كلاهما صاحبه فقد ذكرا لما ذهبا إليه وجوها يصح عليها الكلام".

4- تنوير: فمما حمل على التناقض من أقاويل الشعراء قول عبد الرحمن بن عبد الله القس: (الطويل -ق- المتدارك)

أرى هجرها والقتل مثلبين فاقصروا ... ملامكم، والقتل أعفى وأيسر

ومما حمله بعض البلغاء على التناقض، وأوله بعضهم على وجه من الصحة قول زياد الأعجم: (الطويل -ق- المتدارك)

تراه إذا أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم

قال ألو الفرج قدامة: "تناقض من حيث أوجب الكلام للكلب، ثم أعدمه إياه بقوله وهو أعجم".

وقال الخفاجي: "ليس الأعجم هو الذي عدم الكلام جملة كالأخرس، وإنما هو الذي يتكلم بعجمة. وإذا قيل فلان يتكلم وهو أعجم لم يكن متناقضا". انتهى كلام الخفاجي.

والبيت محتمل وجها آخر من التأويل يصح عليه. وهو أنه قد يعنى بالكلام ما يفهم من إشارة من لا يستطيع النطق وحركاته وشمائله حيث يقصد بذلك إفهام ما في نفسه.

وما أبدع قول ابن دراج عندما ذكر وداع امرأته وما ظهر من الشجو في ألحاظ بنيه الصغير، لما أبصر من حالهما عند ذلك فتبين ذلك في عينيه: (الطويل -ق- المترادف)

عيي بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير

5- إضاءة: وذهب أبو الفرج قدامة إلى تناقض قول أبي لنواس: (الطويل -ق- المترادف)

كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيب في سواد عذار

تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفري ليل عن بياض نهار

وقال: "إنه وصف الحباب في البيت الأول بالبياض حين شبهها بالشيب ووصف الخمر بالسواد حين شبهها بسواد العذار، ثم وصف الحباب في البيت الثاني بالسواد حين شببه بتفري الليل ثم وصف الخمر بالبياض حين قال عن بياض نهار، وكون كل واحد من الحباب والخمر أسود أبيض مستحيل". وقد سأل أبو الفرج نفسه فقال: "إن قيل إنه لم يصف الحباب في البيت الثاني بالسواد وإنما شبهه بالليل في تفريه وانسحاره عن النهار دون انفس اللون". وأجاب عن هذا: "بأن أبا نواس قد صرح بأنه لم يرد غير اللون فقط لقوله عن بياض نهار".

وقد يحتمل قول أبي نواس وجوها من التأويل لا يكون معها فيه تناقض.

فمن ذلك أن يكون أراد أن يشبه سواد الخمر بالليل والحباب بالنجوم، فلم يتسع له الكلام لهذا التشبيه، فلوح له في البيت الثاني تلويحا لطيفا بقوله: "تفري ليل عن بياض نهار" حيث كانت النجوم في ضمن الليل تفري الليل ونجومه عن بياض النهار. فالضمير في قوله انفرى راجع إلى ما تردت به الخمر من لون السواد المشبه تفريه بتفري الليل، ولو كان لاضمين في قوله انفرى راجعا على الحباب لكان أليق بكلام أبي نواس في هذه القصيدة أن يقول تحلت به فيجعل الحباب حليا لها على ما جرت عليه عادة الشعراء - فإنا لا نعلم أحدا جعل الحباب رداء- والمشبه ببياض النهار بياض الماء الممزوج بالخمر، شبه تفري سواد الخمر عن بياض الماء الذي جلاه إذ مزج به بتفري الليل عن بياض النهار. وقد يمكن أن يكون في هذا التشبيه غشارة إلى تشبيه الحباب بالنجوم ولم يذكرها لأنها في ضمن الليل وتابعة له في انحساره. وقد يمكن أن يكون الضمير في انفرى راجعا إلى الحباب ويكون قوله تفري ليل في قوة تفري نجوم ليل أو يكون قد اكتفى بذكر الليل لأن النجوم في ضمنه.

6- تنوير: وليس لقائل أن ينفصل عما ألزمه الفرج قدامة من أن أبا نواس أراد بالبياض نفس اللون بأن يقول: لعله لم يرد بقوله بياض نهار حقيقة اللون، ولكنه استعمله على حد قولهم أقمنا بمكان كذا بياض نهار وأديم ليل، لأن قول القائل أقمنا أديم ليل وبياض نهار معناه أقمنا يوما من أوله إلى آخره وليلة من أولها إلى آخرها.

وقد يقال أيضاً أقمت بها أديم يوم كما قال بشر ابن أبي خازم: (الوافر -ق- المترادف)

وباتت ليلة وأديم يوم ... على الممهى، يجز لها الثغام

فالمراد في مثل هذا الاستعمال ببياض يوم مخالف للمراد به في قول أبي نواس، إذا لا يمكن أن يريد تفري ليل عن نهار من أوله إلى آخره. فبياض النهار إذن على ما ألزمه أبو الفرج، ومعنى الشعر على ما تأولناه لا على ما تأوله، إذ المعنى الذي قلناه صحيح والعبارة قابلة له على ما فيها من الاختصار الذي كاد أن يخل بالمقصود.

وكلما أمكن حمل بعض كلام هذه الحلبة المجلية من الشعراء على وجه من الصحة كان ذلك أولى من حمله على الإحالة والاختلال لأنهم من ثبت ثقوب أذهالهم وذكاء أفكارهم واستبحارهم في علوم اللسان وبلوغهم من المعرفة به الغاية القصوى.

وقد قال الخليل بن أحمد: "الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا. ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده ومد المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته واستخراج ما كلت الألسن عن وسفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه. فيقربون البعيد ويبعدون القريب ويحتج بهم ولا يحتج عليهم ويصورون الباطل في صورة لاحق والحق في صورة الباطل".

فلأجل ما أشار إليه الخليل, رحمه الله, من بعد غايات الشعراء وامتداد آمادهم في معرفة الكلام واتساع مجالهم في جميع ذلك, يحتاج أن يحتال في تخريج كلامهم على وجوه من الصحة, فإنهم قل ما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم, فليسوا يقولون شيئا إلا وله وجه, فلذلك يجب تأول كلامهم على الصحة والتوقف عن تخطئتهم فيما ليس يلوح له وجه.

وليس ينبغي أن يعترض عليهم في أقاويلهم إلا من تزاحم رتبته في حسن تأليف الكلام وإبداع النظام رتبتهم. فإنما يكون مقدار فضل التأليف على قدر فضل الطبع والمعرفة بالكلام. وليس كل من يدعي المعرفة باللسان عارفا به في الحقيقة. فإن العارف بالأعراض اللاحقة للكلام التي ليست مقصودة فيه من حيث يحتاج إلى تحسين مسموعه أو مفهومه ليس له معرفة بالكلام على الحقيقة البتة وإنما يعرفه العلماء بكل ما هو مقصود فيه من جهة لفظ أو معنى. وهؤلاء هم البلغاء الذين أصلوه.

فمن جعل ذلك هدي سبيله, ومن اعتمده أحمده.

د- معرف دال على طرق المعرفة بما يوضع من المعاني وضع غيره من حيث تكون واجبة أو ممكنة أو ممتنعة, وما لا يجوز أن يوضع وضع غيره من ذلك.

أما طرق الجد وما لم يقصد المتكلم به مشاجرة ولا مغالبة فلا يوضع فيها واجب وضع ممتنع, ولا الممتنع وضع الواجب, ولا ممكن وضع ممتنع, ولا واجب وضع ممكن, وإنما يوضع الممكن وضع الواجب, ويجوز أن يوضع الممتنع وضع الجائز إذا كان المقصود بذلك ضربا من المبالغة.

1- إضاءة: فأما طرق الهزل وما يقصد به الإضحاك أو التهكم فإن المعنى قد يوضع في ما وضع جميع ما يخالفه من الجهات المذكورة. وكذلك في الأقاويل التي يقصد بها المشاجرة والمكابرة لأن مواطن الهزل والضجرة تحتمل من قلة المبالاة بحقائق الكلام ما لا تحتمله مواطن الجد والاعتدال.

2- تنوير: ولا يجوز وضع شيء من الواجبات أو الممكنات وضع المستحيل, ولا أن يوضع المستحيل وضع شيء من ذلك في موطن جد ولا في موطن هزل ولا في حال اعتدال ولا تحرج. وقد تقدم أن الفرق بين الممتنع والمستحيل هو أن المستحيل لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم مثل كون الشيء أسود أبيض وطالعا نازلا في حال واحدة. والممتنع هو ما يمكن تصوره في الوهم وإن لم يمكن وجوده مثل أن يتصور تركيب بعض أعضاء نوع من الحيوان على جسد نوع آخر.

3- إضاءة: وقد تكلم الخفاجي في هذا, وأغفل التفرقة بين الأقاويل التي ترد على الأنحاء المتقدمة من جهة ما تقع فيه من المواطن والأحوال, وبين ما يسوغ من ذلك في حال دون حال وموطن دون آخر, وتكلم في ما يسوغ في جميع ذلك ويجوز من جهة ما ينحى بالأقاويل نحوه من مبالغة أو اقتصاد. فأجاز أن يوضع الممتنع وضع الجائز إذا كان في ذلك ضرب من الغلو والمبالغة وهو كما قال, ومنع أن يوضع الجائز وضع الممتنع على كل حال. والصحيح أن ذلك يقع حيث تقصد المبالغة. وربما وضع الجائز وضع الممتنع حيث تقل دواعي الإمكان في جوازه ويكون القصد بذلك ضربا من المبالغة.

4- تنوير: فأما إذا لم تقصد مبالغة ولا مغالبة فلا يوضع جائز وضع ممتنع ولا ممتنع وضع جائز. ومن أمثلة ذلك فيما لم تقصد فيه مبالغة قول بعضهم: (الطويل -ق- المتدارك)

فإن صورة راقتك فاخبر فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر

فبنى على أن مرارة العود أكثر ما تكون عن اليبوسة وأنها في الأخضر على سبيل القلة, والأمر بخلاف ذلك لأن وجود المرارة مع الخضرة هو الأكثر, فكأنه وضع الواجب في الأكثر موضع الجائز في الأقل. وهذا غلط مستقبح في المعاني مؤد إلى انعكاس حقائق المقاصد, فليتحفظ من مثله, فإنه خارج عن جملة ما استسغناه بحسب المواطن والأحوال والمطامح الإفراطية التي من شأن الشعراء أن ينحرفوا بالمعاني التي وقع فيها وبحسبها عن الحقائق التي يجب في نسبها وفي انتساب بعض مفهوماتها على بعض انحرفا ما لضروب من المقاصد ليس منها موجودا في هذا البيت.

هـ- معلم دال على طرق العلم بالوجوه التي بها يقع التدافع بين بعض المعاني وبعض.

كل قول قصد به محاكاة شيء ونحي بذلك منحى من الأغراض فإنه يجب ألا يتعرض فيه إلى ما هو أليق بمضاد الشيء المحاكى به وأخص به أو أخص بمناسب مضاده, وألا يتعرض في تخييل حال الشيء المحاكى به إلى ما هو أخص بحال مضاد ذلك الشيء أو مناسب مضاده, وألا يتعرض في القول وما دل عليه إلى ما هو أخص بمضاد الغرض الذي نحي به منحاه أو إلى ما هو أخص بمناسب مضاد ذلك الغرض, وألا يتعرض فيه إلى لفظ له عرف فيما يضاد المعنى الذي دل عليه أو الغرض الذي نحي به منحاه أو الشيء الذي قصدت به محاكاته ولا إلى ما يناسب مضادات جميع ذلك, فإن التعرض في القول لما يضاد معناه مدلوله وغرضه, أو إلى ما يناسب تلك المضادات, أو إلى ما له عرف في شيء من ذلك, ضروب من التدافع.

1- إضاءة: وأكثر ما يقع التعرض في أحد المتضادين إلى ذكر ما هو أليق بالآخر وأخص به إذا كان للمتعرض له علقة بما هو خارج عن غرض القول مما سوى ذلك من أغراض المتكلم أو الموصوف أو المخاطبين, فألم به لأجل تلك العلقة وسها عن كونه قادحا في غرض القول أو فيما يرجع على حال الشيء المحاكي, أو تسومح في ذلك القدر من القدح اختيارا, أو لز على المسامحة فيه اضطرار.

2- تنوير: فالجهات التي يجب فيها أن يتوقى في الشيء ما هو أخص بمضاده وما جرى مجراها هي جهات التضاد والتخالف في الأفعال والانفعالات والهيئات والأحوال والتمييزات وأغراض الكلام المترامية على أنحاء هذه الأشياء نحو التهنئة والتعزية والمديح والهجاء.

3- إضاءة: فمن المعاني التي قصد فيها الذم فأورد في العبارة عنها ما هو أليق بالمدح قول الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)

بأي رشاء يا جرير وماتح ... تدليت من هامات تلك القماقم

فقال له جرير: "جعلتني أتدلى على قومك".

ومن الأبيات التي وقع فيها سوء أدب حيث يجب حسن الأدب قول جرير: (الرجز -ق- المترادف)

يا بشر حق لوجهك التبشير ... هلا غضبت لنا وأنت أمير

قد كان حقك أن تقول لبارق ... يا آل بارق فيم سب جرير

فقال بشر: ما وجد ابن اللخناء رسولا غيري!؟.

4- تنوير: ومن ذلك أن تأتي العبارة في صورة ما يضاد الغرض, نحو ما حكي من أن بعض الشعراء أنشد الداعي في يوم المهرجان: (الرجز -ق- المتواتر)

تقل بشرى ولكن بشريان ... غرة الداعي, ويوم المهرجان

فأمر بضربه خمسين عصا وقال: "هذا أبلغ في إصلاح أدبه".

ومن ذلك استفتاح أبي نواس قصدته التي هنى فيها الفضل بن يحي ابن خالد بدار ابتناها فقال: (الطويل -ق- المترادف)

أربع البلى إن الخشوع لباد عليك وإني لم أخنك ودادي

فتطير الفضل من ابتدائه, فلما ختم القصيدة بقوله:

سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغاد

استحكمت كراهته لما سمع. فما مر أسبوع حتى نكب بنو برمك.

وحكي أن البحتري أنشد محمدا بن يوسف أو غيره من أمراء الثغور: (الطويل -ق- المتدارك)

لك الويل من ليل تطاول آخره ... ووشك نوى حي تزم أباعره

فقال له الممدوح: "بل لك الويل والحرب". على أن هذا البيت روى بالهاء بدل الكاف في قوله لك وهي أشبه من الرواية الأخرى.

وقد أنكر عبد الملك على جرير ما هو دون هذا حين أنشده: (الوافر -ق- المترادف) "أتصحو أم فؤادك غير صاح"؟ .

فقال له الملك: "بل فؤادك".

5- إضاءة: وقد تكون للعبارة دلالة على أمر مكروه خارج عما جيء بها للدلالة عليه, إما باشتراك وقع في اللفظ, أو بعرف واستعمال حدث فيه ولو للعامة. فيجب أن يتحفظ من ذلك حيث تتهيأ تلك العبارة بنفسها أو مع ما يكتنف بها لأن يفهم منها بحسب الاشتراك الواقع فيها أو بحسب العرف والاستعمال أمر قبيح في حق ممدوح أو مندوب أو منسوب به أو نحو ذلك مما يكره في حقه القبح.

ومن ذلك قول الصاحب في عضد الدولة: (الطويل -ق- المتدارك)

ضممت على أبناء تغلب تاءها ... فتغلب ما كر الجديدان تغلب

فقال عضد الدولة: " يقي الله! ".

ومما أكد القبح في هذه اللفظة التي هي قوله تغلب وقوعها قافية, فإنها مقطع الكلام وموضع تخلي السامع وتفرغه لتفقد ما مر على سمعه مما وقع فيها. فالسمع أقرب عهدا به, وهو أشد ارتساما فيه. ولو وردت اللفظة التي أنكرها عضد الدولة في أثناء البيت لكان الأمر فيها أسهل.

6- تنوير: ومما يجب التحفظ منه في المواضع التي يجب فيها التباعد عن الفحش وعن كل ما يتطرق به إليه وصون الكلام من جميع ما يكون فيه إذ كان بأمر الريب والرفث, التعرض إلى الأشياء التي يفهم منها ذلك, ولو بعرف عامي أو استعمال لأهل الهزل.

ومما يندرج في هذه الجملة قول المتنبي في أم سيف الدولة: (الوافر -ق-المترادف)

رواق العز فوقك مسبطر ... وملك علي ابنك في كمال

فلفظة مسبطر بعد قوله للمرأة فوقك قبيحة, ولاسيما بعد أن استعملها ابن حجاج حيث استعملها وعرف ذلك من قوله.

ونحو منه قول مروان ابن أبي حفصة في زبيدة بنت جعفر: (البسيط -ق- المتراكب)

يهزها كل عرق من أرومتها ... يزداد طيبا إذا الأعراق لم تطب

فلفظة عرق بعد قوله يهزها قبيحة بالنظر على ما هو متعارف عند العامة.

وقد كان بعض الشيوخ الذين أخذت عنهم هذه الصناعة يوصي باجتناب الألفاظ التي يفهم منها على حدتها أو مع ما يكتنفها معنى قبيح ولو بالعرف العامي.

7- إضاءة: وإذا كان في اللفظة عرف في طريق من الطرق الشعرية فالواجب ألا تستعمل في مضاد ذلك الطريق, وذلك كقول حبيب: (الخفيف -ق- المترادف)

يا أبا جعفر جعلت فداكا ... بز حسن الوجوه حسن قفاكا

فالقفا ليس يليق غلا بطريقة الذم. وكذلك الأخدع والقذال. فاستعمال هذه الألفاظ في المدح مكروه.

8- تنوير: ومن وضع الشيء موضع الشيء موضع ما يضاده ما وقع لكثير من تمني البؤس حيث يجب تمني النعيم في قوله: (الطويل -ق- المتدارك)

وددت وبيت الله أنك بكرة ... هجان, وأني مصعب ثم نهرب

كلانا به فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا, فلا ننفك نرمى ونضرب

فقالت له عزة: "لقد أردت بنا الشقاء! أما وجدت أمنية أوطأ من هذه! ؟ ".

ومن أقبح المتمنى وأسوإ المذاهب في ذلك ما ورد في قصيدة أبي صخر في الفصل الذي أوله: "تمنيت من حبي علية, وهو مذكور في أمالي أبي علي وغيرها, فلا وغيرها, فلا معنى للإطالة بإيرادها.

9- إضاءة: فكل هذه الأشياء, التي نبهنا عليها بهذا المعلم, من وضع ما لا يليق موضع ما يليق. وهو وضع غير مؤثر.

وإنما الوضع المؤثر وضع الشيء الوضع اللائق به, وذلك يكون بالتوافق بين الألفاظ والمعاني والأغراض من جهة ما يكون بعضها في موضعه من الكلام متعلقا ومقترنا بما يجانسه ويناسبه ويلائمه من ذلك.

والوضع الذي لا يؤثر يكون بالتباين بين الألفاظ والمعاني والأغراض من جهة ما يكون بعضها في موضعه من الكلام متعلقا ومقترنا بما يناقضه ويدافعه وينافره.

ولهذه الجملة تفاصيل قد وقعت الإشارة إليها في مواضع كثيرة من هذا الكتاب فليتأمل ذلك في مظان ذكره, وبالله التوفيق. و- معرف دال على طرق المعرفة بما تكون عليه المعاني من كمال أو نقص.

فأما الكمال في المعاني فباستيفاء أقسامها واستقصاء متمماتها وانتظام العبارات جميع أركانها حتى لا يخل من أركانها بركن ولا يغفل من أقسامها قسم ولا يتداخل بعض الأقسام على بعض.

1- إضاءة: وقد تقدم الإلماع بطرف من ذكر المتممات. ونحن نذكر في هذا الموضع كيف تقع المعاني كاملة باستيفاء أقسامها وانتظام العبارات جميع أركانها ومتمماتها حتى لا يقع فيها نقص ولا تداخل. فمن المعاني التي وردت القسمة فيه تامة صحيحة قول نصيب: (الطويل -ق- المترادف)

فقال فريق لا, وقال فريقهم نعم ... وفريق قال ويحك ما ندري

ومن المعاني التي وقع التقسيم فيها تاما صحيحا قول الشماخ: (الطويل -ق- المتدارك)

متى ما تقع أرساغة مطمئنة ... على حجر يرفض أو يتدحرج

لأن الحجر إن كان رخوا ارفض, وإن كان صلبا تدحرج. وليس لقائل أن يقول: إنه غادر قسما ثالثا, وهو أن تكون الأرض رخوة فيسوخ الحجر فيها, فإن الأرض إذا كانت بهذه الصفة لم يقع الحافر عليها وقوع اطمئنان واعتماد, فبقوله مطمئنة صحت القسمة وكملت.

ومن المعاني التي قسمت أتم تقسيم على جهة من التدريج والترتيب قول زهير: (البسيط -ق- المتراكب)

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

ومن أمثلة ذلك في النثر قول بعضهم: "فلم تخل فيما بدأتني به من مجد تأثلته, أو شكر تعجلته, أو أجر ادخرته, أو متجر اتجرته, أو من أن تكون جمعت ذلك كله".

2- تنوير: ومما انتظمت فيه العبارة جميع أركان المعنى واستوفت غايات المقصد قو الشاعر: (الطويل -ق- المتدارك)

أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه, عاذوا بالسيوف القواضب

فاستوفى ركني المعنى بقوله: يقبل الحق منهم ويعطوه, فتم المعنى وكمل. ومما ورد المعنى فيه مستوفى من جميع أركانه متمما من جميع جهاته قول ابن الرومي: (البسيط -ق- المتراكب)

عفى كلوم زماني ثم قلمه ... عني فأحفاه, ثم اقتص ما اجترحا

فلم يغادر ركنا من أركان المعنى إلا ذكره, فتم المعنى وجاء في نهاية البلاغة.

3- إضاءة: ومن المعاني التي وقعت قسمتها ناقصة قول جرير: (البسيط -ق- المترادف)

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها

فهذه قسمة ناقصة لأنه أخل بالقسم الثالث. وقيل: إن بعض بني حنيفة سئل: من أي الأثلاث هو من بيت جرير؟ ! فقال: من الثلث الملغى.

ومما نقصت قسمته من المعاني بتداخل قسم على قسم قول أبي تمام: (الكامل -ق- المترادف)

قسم الزمان ربوعها بين الصبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا

فتداخلت القسمة لأن القبول هي الصبا على ما ذكره جماهير أهل اللغة. ومما تداخلت قسمته أيضاً من المعاني قول الآخر: (المتقارب -ق- المتدارك)

أبادر إهلاك مستهللك ... لما لي أو عبث العابث

فأما قول هذيل الأشجعي: (الطويل -ق- المتدارك)

فما برحت ترمي إليه بطرفها ... وتومض أحيانا إذا خصمها غفل

فيحتمل أن يكون من القسمة المتداخلة لن الإيماء بالطرف والإيماض به سواء. ويحتمل ألا يكون في الكلام تداخل بأن يريد بقوله تومض تبتسم, وهذا الوجه أولى بأن يحمل البيت عليه ليسلم الكلام بذلك من الخلل.

ز- معلم دال على طرق بوقوع المعاني المتقاربة متمكنة.

فمما يمكن المعاني أن توضع مواضعها اللائقة بها المهيأة, وألا توضع موضعا غيرها من المعاني أولى به, وإن كان للمعنى الموضوع أيضاً موقع من ذلك الموضع لأنه مقصر عن موقع غيره من المعاني فيه.

ومن طريف ما ورد في ذلك قول الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)

وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم

كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم

وقول ابن هرمة: (المتقارب -ق- المترادف)

وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقد حي بكفي زنادا شحاحا

كتاركة بيضها بالعرا ... وملبسة بيض أخرى جناحا

فإن معنى بيت الفرزدق الثاني مناسب لمعنى بيت ابن هرمة الأول, ومعنى بيت ابن هرمة الثاني مناسب لمعنى بيت الفرزدق الأول, حتى لو أن الفرزدق قال:

وإنك إذ تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم

كتاركة بيضها بالعرا ... وملبسة بيض أخرى جناحا

لكان قد وضع الكلام موضعه الذي يليق به, وكان المعنى صحيحا متمكنا, ولو أن ابن هرمة قال:

وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنادا شحاحا

كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم

لكان كلامه صحيحا وتشبيهه واقعا موقعه اللائق به.

1- إضاءة: ومن هذا الباب ما روي أن أبا الطيب أنشد سيف الدولة قصيدته التي أولها (الطويل -ق- المتدارك) على قدر أهل العزم تأتي العزائم فلما انتهى على قوله:

وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم

قال له سيف الدولة: "قد نقدنا عليك يا أبا الطيب ما نقدنا على امرئ القيس في قوله: (الطويل -ق- المترادف)

كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال

فقال له المتنبي: "أيها الأمير, عن البزاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك. وإذا صح النقد على امرئ القيس صح علي, وإنما أراد امرؤ القيس أن يقرن ركوب اللذة بركوب اللذة في بيت, وأن يجمع بين الشجاعة والكرم في بيت". فاستحسن سيف الدولة ما قاله, ووصله.

2- تنوير: والنقد الذي أشار إليه سيف الدولة في بيتي المتنبي وبيتي امرئ القيس هو أن صدر البيت الأول من قول امرئ القيس يقضي ظاهر الكلام أن يوصل بعجز البيت الثاني ويوصل صدر البيت الثاني بعجز الأول, وكذلك يظهر في باديء الرأي أن صدر البيت الأول من قول المتنبي يصلح أن يتمم بعجز البيت الثاني ويتمم صدر الثاني بعجز الأول. فيقال في قول امرئ القيس:

كأني لم اركب جوادا ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال

ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ويقال في قول أبي الطيب:

وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

3- إضاءة: وقد احتج أبو الطيب لامرئ القيس بما أوردناه وبقي أن نبين وجه الحجة في قول أبي الطيب. فنقول: إن أبا الطيب أراد أن يقرن بين أن الردى لا نجاة منه لواقف وبين أن الممدوح وقف ونجا منه, وبين أن الأبطال ريعت وانهزمت وأن سيف الدولة لم يرع ولم ينهزم, وابتسام الثغر وانبلاج الوجه مما يدل على عدم الروع.

4- تنوير: وإنما قال: "كأنك في جفن الردى وهو نائم" لأنه جعل الردى في هذا الموضع بصورة الناظر المبصر الذي لا يعيب عنه شيء ولا يخفى عليه مقتلو ولأن السبل إلى المهج واضحة له. فلما نجا الممدوح تعجب في سلامته منه وخفائه عنه مع كونه بالموضع الذي يبصر فيه, فقدر سببا لخفائه عنه النوم الشاغل للأجفان عن رؤية ما دنا منها.

وقد يكون عدم التمكن في المعاني من أنحاء أخر قد ذكرت في مواضعها من هذا الكتاب. وإنما نبهت بهذا المعلم على هذا الضرب الواقع في المعاني التي يوضع بعضها بإزاء بعض لنسب تقتضي ذكر المعنى مع ما يناسبه وإيقاعه على جانب ما يليق به.

ح- معرف دال على طرق المعرفة بما يكون من المعاني أصيلا في بابي المدح والذم, وما ليس منها أصيلا في ذلك.

لما كان الإنسان في جميع ما يحاوله ويسعى نحوه إنما يلتمس حظوظا يكون فيها صلاح لنفسه أو حظوظا فيها صلاح لبدنه, وكان استقصاء الإنسان مصالح نفسه وابتغاؤه لها من كل وجه لا يصل منه على غيره مضرة ولا ظلم, وكان استقصاؤه حظوظ بدنه وطلبه لها من كل وجه يؤدي إلى ضرر غيره وظلمه -والظلم قبيح فما أدى إليه قبيح- وجب لذلك أن يكون الفضل في القناعة من حظوظ البدن بما لا يؤدي على مزاحمة ذي استحقاق وفي الرغبة في جميع حظوظ النفس.

وحظوظ النفس هي التي يكون لها خيرات وكمالات بالنظر على نعيمها الباقي, وحظوظ البدن هي التي تكون لها خيرات وكمالات بالنظر على نعيمها الفاني, فالفاضل من آثر نعيم نفسه الباقي على نعيم بدنه الفاني, ومن أنصف غيره من ذوي الاستحقاق فيما فيه نعيم بدنه الفاني أو آثره بذلك على نفسه. والإيثار أفضل ليعتاض بذلك ما يكون له سببا على النعيم الباقي كالأجر أو ما يتنزل في توهمه منزلة النعيم الباقي كالذكر الجميل.

1- إضاءة: ولما كان للإنسان كمالات في بدنه تحصل عن اعتياد ما يصدر عنها بعد تحصيلها أو ما ينحو نحوها ليحصلها عن اعتياد ما يصدر عنها بعد تحصيلها أو ما ينحو نحوها ليحصلها ملكات تصدر عنها أفعال, وكمالات في نفسه تصدر عنها أو تنحو نحوها أفعال وانفعالات, وكمالات في عقله تصدر عنها تمييزات وإدراكات, وكان الإنسان فيما يصدر عن تلك الكمالات وينحو نحوها لا يخلو من أن يروم حظا يوثر به نفسه على بدنه أو بدنه على نفسه أو غيره على نفسه أو نفسه على غيره, وكان المحمود من ذلك إيثار نفسه على بدنه وإيثار غيره على نفسه, والطرفان الآخران مذمومان, وكانت الأفعال المحمودة والمذمومة من جميع ذلك تختلف رتبها في مقدار ما يجب عليها من الحمد والذم بحسب اختلاف الأحوال المطيفة بها -والأحوال المطيفة بالأفعال هي: الزمان, والمكان, وما منه الفعل, وما إليه الفعل, وما عنده الفعل, وما به الفعل, وما من أجله الفعل. فأخذ أبي دؤاد الحق من ابنه وإقادته بحاره الذي قتله يربي على كثير مما يجل من فواضل الكرم ونوافه, وإن كان ذلك نصفة منه, وجود كعب على النمري بالجرع التي آثره بها على نفسه حتى مات عطشا في المكان الذي كانا فيه أعظم أثرا في الكرم من وجود غيره بكل حظ جليل لا تعود به السماحة عليه بمثل ما عادت على كعب.- وجب أن يكون الفعل معتبرا بتلك الأحوال المطيفة. فيكون بالنسبة إلى حال منها محمودا، وبالنسبة إلى حال أخرى مذموما، ويكون بالنسبة إلى بعض تلك الأحوال في أعلى درجات الحمد، وتارة في أدنى الدرجات من ذلك، ووسطا بين الحالين. وكذلك تختلف أيضاً حاله في درجات الذم بحسب اختلاف تلك الأحوال المطيفة.

2- تنوير: ولما كانت الأشياء الصادرة عن تكل الكمالات والناحية نحوها منها ما للإنسان أني فعله، ومنها ما ليس إليه أن يفعله بل هو مضطر إليه، وكان ما ليس إليه أن يفعله منه ما يدل على وجود ما للإنسان أن يفعله، ومنه ما لا يدل على وجود ذلك له، والذي يدل على وجود ذلك له ولو بتقوية الظن في ذلك منه ما يدل على وجود الأفعال المحمودة، ومنه ما يدل على وجود الأفعال المذمومة، وجب أن تكون الأشياء التي تدل على وجود الأشياء المحمودة قد تستعمل في الحمد، كما أن الأشياء الدالة على وجود الأفعال المذمومة قد تستعمل في الذم وليت بأصلية في ذلك.

3- إضاءة: وقد يجري مجرى هذه الأشياء، في كونها يحمد بها لدلالتها على ما يحمد، أشياء أخر خارجة عن أوصاف الشيء المحمود، كذكر كرم الأسرة وشرف السلف لكون فضل الأصل يدل على فضيلة الفرع في كثير من الأمر.

4- تنوير: وأكثر ما تعتمد العرب به في المدح الأفعال التي تتجشم الأنفس فيها الضرر لنفع غيرها ممن له أدنى استحقاق أو حاجة على ذلك. ولهذا قال أبو الطيب المتنبي: (البسيط -ق- المترادف)

لولا المشقة ساد الناس كلهم، ... الجود يفقر، والإقدام قتال

4- إضاءة: والأمور التي تتجشم فيها النفوس المشقة والضرر لتنفع بذلك غيرها وتريحها: إما أن تكون حقوقا ثابتة قبل المتجشم للمشقة فيها فيكون ذلك منه نصفة وعدلا، وإما أن تكون غير واجبة قبله بل يسمح بها تبرعا ويتفضل بها إيثارا فيكون ذلك منه نافلة وفضلا. وأحسن المدح ما كان بهذا الصنف من الأفعال.

6- تنوير: وقد فرق الناس بين ما يكون المدح أو الذم حقيقيا، وما ليس بحقيقي من ذلك. وقسموا الفضائل التي يكون بها المدح الحقيقي إلى أربع خلال على ما أنا في ذكره.

فمن ذلك قول أبي الفرج قدامة، وقد سبقه القدماء إلى هذه القسمة قال: "لما كانت فضائل الناس، من حيث هم ناس -لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان- على ما عليه أهل الألباب، إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيبا وبما سواها مخطئا. وقد قال زهير: (الطويل -ق- المتدارك)

أخي ثقة لا تتلف الخمر ما له ... ولكنه قد يتلف المال نائل

لأنه قد وصفه بالعفة وبقلة إمعانه في اللذات وبأنه لا ينفذ فيها ماله وبإهلاكه ما له في البذل وانحرافه إلى ذلك عن اللذات وذلك هو العدل، ثم قال:

تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله

أراد أن فرحه بما يعطي أكثر من فرحه بما يأخذ، فزاد في وصف السخاء منه بأن جعله يهش ولا يحلقه مضض ولا تكره لفعله ثم قال:

ومن مثل حسن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لخصم يحاوله

فأتي في هذا البيت بالوصف من جهة العقل والشجاعة، فاستوفى ضروب الممادح الأربعة التي هي فضائل الإنسان على الحقيقة. وزاد ما هو وإن كان داخلا في الأربعة فكثير من الناس لا يعرف وجه دخوله فيها حيث قال أخي ثقة، فوصفه بالوفاء، والوفاء داخل في هذه الفضائل التي قدمنا.

وقد يتفنن الشعراء فيعدون أنواع الفضائل الأربع وأقسامها، وكل داخل في جملتها، مثل أن يذكروا ثقافة المعرفة والحياء والبيان والسياسة والصدع بالحجة والعلم والحلم عن سفاهة الجهلة وغير ذلك مما يجري هذا المجرى وهي من أقسام العقل، وكذكركم القناعة وقلة الشره وطهارة الإزار وغير ذلك وهي من أقسام العفة، وكذكركم الحماية والأخذ بالثأر والدفاع عن الجار والنكاية في العدو وقتل الأقران والمهابة والسر في المهامة والقفار الموحشة وما شاكل ذلك وهي من أقسام الشجاعة، وكذكركم السماحة والتغابن والانظلام والتبرع بالنائل والإجابة للسائل وقرى الأضياف وما جانس هذه الأشياء وهي من أقسام العدل.

فأما تركيب بعضها مع بعض فيحدث منها ستة أقسام: يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة الصبر على الملمات ونوازل الخطوب والوفاء بالوعود، وعن تركيب العقل مع السخاء البر والإنجاز للموعد وما أشبه ذلك، وعن تركيب العقل والعفة التنزه والرغبة عن المساوي والاقتصار على أدنى معيشة وما أشبه ذلك، وعن تركيب الشجاعة مع السخاء الإتلاف والإخلاف وما جانس ذلك، وعن تركيب الشجاعة مع العفة إنكار الفواحش والغيرة على الحرم، وعن تركيب السخاء مع العفة الإسعاف بالقوت والإيثار على النفس وما أشبه ذلك".

قال: "وكل واحد من هذه الفضائل وسط بين طرفين مذمومين".

7- إضاءة: وإذ قد حكينا كلام أبي الفرج قدامة فلنتبع ذلك بإشارة إلى بيان قوله: "إن كل واحد من هذه الفضائل وسط بين طرفين مذمومين". فأقول: إن الفعل العائد بمنفعة ما إنما يحمد ما لم يعد الإفراط فيه بمضرة وما لم يكن من القلة والتقصير بحيث لا يغني، فإذا وقع وسطا بين هذين الطرفين كان محمودا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "خير الأمور أوساطها". ألا ترى أن الكرم إذا أفرط عد سرفا وتبذيرا، والإقدام إذا أفرط فهجم بصاحبه على المتالف في كل حين وموطن عد ذلك تهورا وهوجا، وإذا وقع التقصير عن الإقدام والبذل بالجملة أو وقع من ذلك ما لا اعتداد به عد ذلك بخلا وجبنا. وقد تكون قلة الشيء بحيث لا يوجب عليه حمدا ولا ذما.

8- تنوير: وجميع تلك الأفعال ونقائصها إنما تعد فضائل أو رذائل فيستوجب عليها الثناء عليها الثناء المطلق أو الذم المطلق، ويعتقد في صاحبها أنه خير أو شرير، إذا حصلت له فيها ملكة وصارت له عادة لا يفارقها إلى ما ناقضها. فإن وقع الفعل المسمى فضيلة منه ولم يتبعه بمثله ولا تمادى عليه لم يستحق أن يسمى فاضلا ولا أن يثنى عليه الثناء المطلق. وعلى هذا يجب أيضاً أن يكون الاعتبار في وقوع الفعل المسمى رذيلة، فاعلم ذلك.

9- إضاءة: وكان أبو الفرج قدامة يذهب إلى أن المدح بالحسن والجمال والذم بالقبح والدمامة ليس بمدح على الحقيقة ولا ذم على الصحة، ويخطئ من يمدح بهذا ويذم بذلك. ويستدل بانكار عبد الملك بن مروان قول ابن قيس الرقيات: (المنسرح -ق- المتراكب)

يأتلق التاج فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب

وقد رد عليه هذا الآمدي، وتابعه الخفاجي في الرد عليه. فقال: "إن كان قدامة يعتقد أن ذلك ليس بفضيلة، لما كان الإنسان قد خلق عليه، فهذا حكم الفضائل النفسانية. فإن الكريم قد خلق كريما والشجاع شجاعا. فكما لا يقدر القبيح الوجه أن يستبدل صورة غير صورته، فكذلك الجاهل لا يقدر أن يستفيد عقلا فوق عقله".

واعتراضه هذا غير صحيح لأن الحكماء المتكلمين في الفضائل قد أنفقوا على أن الإنسان قد يقدر على أن يكتسب بعض الفضائل بالتطبع وأن يستكمل كثيرا مما نقصه من ذلك بالاعتياد والرياضة ومجاهدة النفس، فينتقل برياضة النفس في ذلك حالا فحالا حتى يصير الصعب قبل التطبع والارتياض سهلا بعدها. وما زال الناس يروضون أخلاقهم بالتأدب والتدرب، فتترقى بذلك في مراتب الفضل درجاتهم وتتهذب بعد الجفاء أخلاقهم. قيل للأحنف ابن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عصم. ولا بد في حصول هذا التطبع من سباق استعداد لتحصيله بالطبع، فيخرج إلى الفعل بعد كونه في القوة.

فأما خلقة الإنسان وصورته فليس في قدرته نقل شيء منها عما وجد عليه. فحمد الإنسان بما يستحسن من هذا القبيل مخادعة له، وذمة بما يستقبح من ذلك تحامل عليه. ويشهد لهذا ما حكاه الرواة من أن المغيرة ابن حبناء وزيادا الأعجم لم يزالا يتهاجيان حتى غيره زياد بعلل كانت أصابت بعض أهل بيته. فقال المغيرة: "ما ذنبنا فيما ذكره، هذه أدواء، وإنما يعير المرء بما اكستبه".

10- تنوير: فقد تبين أن رأي من رأى أن المدح بما ليس للإنسان فيه تصرف ولا له قدرة على تغييره عما هو عليه مما هو خارج عن الفضائل الأربع موافق لما حكي عن العرب في ذلك. وإنما يمدح بما هو خارج عن الفضائل الأربع إذا كان مما شأنه أن توجد الفضائل أبدا بوجوده، فتورد كالأدلة على ذلك.

ط- معلم دال على طريقة العلم بما يجب أن يعتمد في مدح صنف صنف من الناس.

ويجب أن يقصد في مدح صنف صنف من الناس إلى الوصف الذي يليق به، وأن يعتمد في مدح واحد واحد ممن يراد تقريظه ما يصلح له من تلك الفضائل وما تفرع منها، وأن لا يجعل لاشيء منها حلية لمن لا يستحقه ولا هو من بابه.

1- إضاءة: فأما مدح الخلفاء فيكون بأفضل ما يتفرع من تلك الفضائل وأجلها وأكملها كنصر الدين وإفاضة العدل وحسن السيرة والسياسة والعلم والحلم والتقى والورع والرأفة والرحمة والكرم والهيبة وما أشبه ذلك. وينبغي أن يتخطى في أوصافهم من جميع ذلك حدود الاقتصاد إلى حدود الإفراط، وأن يترقى عن وصفهم بفعال ما يكون حقا واجبا على تقريظهم بما يكون من ذلك نافلة وفضلا.

2- تنوير: ومدح الأمراء يكون بالكرم والشجاعة ويمن النقيبة وسداد الرأي والتيقظ والحزم والدهاء وما ناسب ذلك. ويطمح بهم في الأوصاف إلى حيث يليق بمناصبهم وما انتهت غليه ممالكهم حتى تكون رتبة العظماء منهم ثانية عن رتبة الخلفاء، وتتدرج مراتبهم في ذلك على أدنى ما يتميز به الملك عن السوقة.

3- إضاءة: ومدح الوزراء ومن حل محلهم من الكتاب يكون بالعلم والحلم والكرم وحسن التدبير وتثمير الأموال ونحو ذلك. وينبغي أن يكون المطمح في وصف كل وزير على قدر مستوزره، فيكون لوزراء الخلفاء في ذلك مزية لا تلحق ورتبة لا تسامى حتى إن مراتب كثير من الملوك ربما قصرت عن مراتبهم، ثم تندرج مراتبهم في ذلك على نحو ما ذكرناه في مراتب الملوك.

4- تنوير: ومدح القضاة يكون بالعلم والتقى والدين والنزاهة والعدل بين الخصوم وإنصاف المظلوم وما جرى ذلك المجرى. ولهم أيضاً مراتب فيما ينبغي أن ينحلوه من الأوصاف، فيطمح بقاء الخلفاء ثم بقضاة الملوك ثم بقضاة الأصقاع الكبار إلى حيث لا يطمح بغيرهم. وينبغي أيضاً أن يكون تعظيمهم على قدر عظمهم في علومهم وأديانهم وعقولهم.

5- إضاءة: فقد تبين من هذا أن أمداح الخلفاء يجب أن تكون نمطا واحدا ينحى بأوصافها أبدا نحو الإفراط، وأن أمداح الأمراء والوزراء والقضاة ومن جرى مجراهم من كبار العلماء ينبغي أن يكون كل واحد منها ثلاثة أنماط: ينحى بالنمط الأعلى منحى الإفراط، وينحى بالنمط الأدنى منحى الاقتصاد، وتكون أوصاف النمط الوسط اقتصادية مشوبة ببعض إفراط وذلك بحسب ما بيناه من اختلاف درجات الممدوحين في ضخامة الخطط وفخامة الولايات.

6- تنوير: فعلى هذا الترتيب يجب أن يكون المدح، وأن يحافظ على ما يجب اعتماده في امتداح كل طبقة من الممدوحين. فلا يسمى بها إلى الرتب التي فوقها ولا ينحط بها إلى ما دونها.

ي- معرف دال على طرق المعرفة بما يكون به وضوح المعاني أو غموضها.

إن المعاني وإن كانت أكثر مقاصد الكلام ومواطن القول تقتضي الإعراب عنها والتصريح عن مفهوماتها فقد يقصد في كثير من المواضع إغماضها وإغلاق أبواب الكلام دونها. وكذلك أيضاً قد نقصد تأدية المعنى في عبارتين: إحداهما واضحة الدلالة عليه، والأخرى غير واضحة الدلالة لضروب من المقاصد. فالدلالة على المعاني إذن على ثلاثة أضرب: دلالة إيضاح، ودلالة إبهام، ودلالة إيضاح وإبهام معا.

1- إضاءة: وقد تقدم التعريف بكثير من الوجوه التي بها يكون إيضاح الدلالات على المعاني في مواضع كثيرة من هذا الكتاب. وبقي أن نذكر الآن ما يتيسر لنا ذكره من الوجوه التي يكون في المعاني بوجودها فيها أو في عباراتها إغماض لها وبعد بها عن البيان ليعتمد الشاعر ما يليق بكلامه من تك الوجوه حيث يقصد كناية أو إلغازا وما شابه ذلك مما لا يقصد في الدلالة عليه التصريح، ولتجتنب تلك الوجوه حيث يقصد التصريح عن المعاني والإبانة عنها حتى يأتي في كل موضع بما يليق به.

2- تنوير: ووجوه الإغماض في المعاني: منها ما يرجع إلى المعاني أنفسها ومنها ما يرجع إلى الألفاظ والعبارات المدلول بها على المعنى، ومنها ما يرجع على المعاني والألفاظ معا.

3- إضاءة: فأما ما يرجع إلى المعاني أنفسها فمن ذلك أن يكون المعنى في نفسه دقيقا ويكون الغور فيه بعيدا، أو يكون المعنى مبنيا على مقدمة في الكلام قد صرف الفهم عن التفاتها بعد حيزها من حيز ما بني عليها أو تشاغله بمستأنف الكلام عن فارطه أو غير ذلك مما شأنه أن يثني غروب الأفهام كليلة قاصرة عن تحقق مفهومات الكلام، أو يكون مضمنا معنى علميا أو خبرا تاريخيا أو محالا به على ذلك ومشارا به غليه فيكون فهم المعنى متوقفا على العلم بذلك المضمن العلمي أو الخبري، أو يكون المعنى مضمنا إشارة إلى مثل أو بيت أو كلام سالف بالجملة يجعل بعض ذلك المثل أو البيت جزءا من أجزاء المعنى أو غير ذلك من أنحاء التضمني، أو يكون المعنى قد قصد به الدلالة على بعض ما يلتزمه من المعاني ويكون منه بسبب على جهة الإرداف أو الكناية به عنه أو التلويح به إليه أو غير ذلك - وكلما كان الملتزم بعيدا كان المعنى بعيدا من الفهم- أو يكون المعنى قد وضعت صور التركيب الذهني في أجزائه على غير ما يجب فتنكره الأفهام لذلك، فقد لا تفهمه على وجهه وقد لا تهدى آلى إلى فهمه بالجملة، أو يكون بعض ما يشتمل عليه المعنى مظنة لانصراف الخواطر في فهمه على أنحاء من الاحتمالات، أو يكون المعنى قد اقتصر في تعريف بعض أجزائه أو تخييلها على الإشارة إليه بأوصاف تشترك فيها معه أشياء غير أنها لا توجد مجتمعة غلا فيه. وكلما كانت الأوصاف في مثل هذا مؤتلفة من أعراض الشيء البعيدة لم تتهد الأفكار إلى فهمه إلا بعد بطء.

4- تنوير: فأما ما يرجع إلى الألفاظ والعبارات من تلك الوجوه فمثل أن يكون اللفظ حوشيا أو غريبا أو مشتركا فيعرض من ذلك ألا يعلم ما يدل عليه اللفظ أو أن يتخيل أنه دل في الموضع الذي وقع فهي من الكلام على غير ما جيء به للدلالة عليه فيتعذر فهم المعنى لذلك. وقد يتفق مثل هذا بأن يعرض في تركيب اللفظ اشتباه يصير به بمنزلة اللفظ المشترك نحو قول امرئ القيس: (البسيط -ق- المتدارك) =لفتك لأمين على نابل ومن ذلك أن يقع في الكلام تقديم وتأخير، أو يتخالف وضع الإسناد فيصير الكلام مقلوبا، ا, يقع بين بعض العبارة وما يرجع إليها فصل بقافية أو سجع فتخفى جهة التطالب بين الكلامين، أو بأن تفرط العبارة في الطول فيتراخى بعض أجزائها عما يستند إليه وما هو منه بسبب فلا يشعر باستناده إليه واقتضائه له لاسيما إذا وقع في الكلام اعتراضات وفصول وكان مشتملا على أشياء يمكن أن ترجع إلى كل واحد منها ذلك الشيء. ومما يبعد به الشيء عما يستند غليه الصلات والاعتراضات. ومن ذلك أن ترد العبارة التي يقصد انفصال بعض أجزائها عن بعض في صورة المتصلة وأن يرد المتصل في صورة المنفصل، ومن ذلك فرط الإيجاز الذي يكون بقصر أو حذف، وقد تقدم ذكر ذلك.

5- إضاءة: فكل معنى غامض وعبارة مستغلقة فغموضة واستغلاق عبارته راجعان إلى بعض هذه الوجوه المعنوية أو العبارية أو إليهما معا أو إلى ما ناسبهما وجرى مجراهما مما لعلنا لم نذكره من وجوه الإغماض الراجعة على معنى أو عبارة. فعلى هذه الوجوه ووقع بعضها مع بعض في الكلام مدار الأقاويل التي يقصد بها الكنايات والإلغاز وما جرى مجراهما مما لا يقصد فيه الإبانة والتصريح.

6- تنوير: ويحتاج في موضع التصريح والإبانة أن يتحفظ من وقوع وجه من هذه الوجوه في لفظ أو عبارة. ومتى اضطر وزن أو قافية أو انحصار للكلام في مجال غير متسع له من مقادير الأوزان إلى وقوع شيء من ذلك فليجهد في ما يرفع الإبهام أ, اللبس الواقع بذلك من القرائن المخلصة للكلام إلى ما نحي به نحوه، فإن ورود المعنى غامضا في كلام قد قصد به الإبانة مما يوعر سبيله ويزيله عن الاعتدال والاستواء مع مناقصته للمقصد.

7- إضاءة: وجملة الأمر أن اشتكال المعاني وغموضها من جهة ما يرجع إليها أو إلى عباراتها يكون لأمور راجعة إلى مواد المعنى أو مواد العبارة أو إلى ما يكون عليه إجراؤهما من وضع وترتيب أو إلى مقاديرها ترتب من ذلك أو إلى أشياء مضمنة فيهما أو أشياء خارجة عنهما.

8- تنوير: وإذا قد عددت جملة ما به يكون اشتكال المعاني من جهة ما يرجع إليها أو إلى عباراتها فنذكر بعض وجوه الحيل التي من شأنها أن يماط بوجه وجه منها ما وقع في المعاني من غموض وإشكال بوجه وجه مما به يكون اشتكال المعاني وغموضها ذكرا موجزا على جهة الإشارة والإيماء.

9- إضاءة: فأما طريق الحيل في إزالة الغموض والاشتكال الواقعين بهذه الأشياء فهي أن يعتاض من الشيء الذي وقع به الإغماض والإشكال أو أن يقرن به ما يزل الغموض والاشتكال. فالاعتياض في المعاني يكون بأخذ مماثلاتها مما يكون في معناه أوضح منها. والاعتياض في الألفاظ يكون بما يماثلها من جهة الدلالة. وقد يكون بين العوض والمعوض منه مع ذلك مخالفة في الوضع مثل وصل المنفصل وفصل المتصل وإطالة القصير وتقصير الطويل، وقد لا يكون ذلك.

10- وقران الشيء بما يزيل الغموض أو الاشتكال الواقع فيه يكون بأن يتبع الشيء بما يكون شرحا له وتفسيرا من جهة ما يكون في معناه أو تكون دلالته في معنى دلالته أو من جهة ما يناسبه ويشابهه، ويكون بأشياء خارجة عن معنى الشيء إلا أن فيها دلالات على إبانة ما أنبهم في الأشياء المقترنة بها.

11- إضاءة: ولهذه الجملة تفصيل طويل لا يمكن أن نتقصاه بالتمثيل في وجه وجه من تلك الأشياء التي من قبلها تشتكل المعاني في أنفسها ومن جهة عباراتها إذ بعض الشواغل ومراعاةما اعتمدته في هذا الكتاب من الاكتفاء في كل باب منه بالإجمال عن التفصيل وباللمحة الدالة عن الجملة الشارحة يمنعان من الزيادة على القسط الواجب فيه بحسب ما اعتمدته، لكني أورد في ما تعلق ببعض ذلك كلاما كنت قيدته فيما تقدم، فإن فيه زيادة إفادة إلى ما ذكرته، فيجعل الناظر وجه النظر والعمل في ما لم أذكره من ذلك بحسب الأمر في ما ذكرته، وليتول اعتبار جميع ذلك في وجه منها بنفسه. فقد أوضحت له السبيل إليها ودمثت له الطريق الدال عليها.

يا-معلم دال على طرق العلم بما يزيل الغموض والاشتكال العارضين في المعاني، من حيث ذكر في المعرف الفارط.

وقد تقدمت الإشارة إلى بعض ذلك. وأنا شارع في تتميم ذلك وتكميله وإيراد القول فيه مفصلا والتعريف بما لم يجر له ذكر من ذلك.

فأقول: إن المعاني منها ما يقصد أن تكون في غاية من البيان على ما تقدمن ومنها ما يقصد أن تكون في غاية من الإغماض، ومنها ما يقصد أن يقع فيه بعض غموض، ومنها ما يقصد أن يبان من جهة وأن يغمض من جهة.

وبيان المعاني يكون بتعريها من الأوصاف التي تبعدها عن البيان. وتلك الأوصاف تنقسم: إلى ما يرجع إلى المعنى وإلى ما يرجع على اللفظ المعبر عنه. وتلك الأشياء الراجعة إلى المعنى أو إلى العبارة: إما أن تكون راجعة في كليهما إلى مادة أو إلى وضع وترتيب أو إلى مقدرا أو على ما يكون متضمنا لهما أو ملتزما.

1- إضاءة: فمما يرجع إلى المعنى من ذلك: أن يكون المعنى في نفسه دقيقا لطيفا يحتاج على تأمل وفهم، ومنها أن يكون المعنى قد أخل ببعض أجزائه ولم تستوف أقسامه، ومن ذلك أن يكون المعنى مرتبا على معنى آخر لا يمكن فهمه وتصوره إلا به، ومنه أن يكون المعنى منحرفا بالكلام وغرضه عن مقصده الواضح معدولا إليه عما هو أحق بالمحل منه.

2- تنوير: فأما الوجه الأول وهو أن يكون المعنى في نفسه دقيقا لطيفا يحتاج إلى تأمل وتفهم فيجب في ما كان بهذه الصفة أن يجهد في تسهيل العبارة المؤدية عن المعنى وبسطها حتى يقابل خفاؤه بوضوحها وغموضه ببيانها حتى تبلغ الغاية المستطاعة في ذلك. فإذا اجتهد الشاعر في توفية العبارة حقها من البيان وقصد بها الإيضاح غاية ما يستطيع فقد أزال عن نفسه اللوم في ذلك ونفى عنها التقصير، ووجب عذره في خفاء المعنى إذ لا يمكن أن يصيره في نفسه جليا.

3- إضاءة: ويجب أيضاً على الشاعر فيما لم يمكنه أن يبين عنه حق الإبانة أن يقرن ذلك المعنى بما يناسبه ويقرب منه من المعاني الجلية ليكون في ذلك دليل على ما انبهم من ذلك المعنى، إذ قد يستدل على المعنى بما يجاوره من المعاني وينبه بعضها على بعض.

4- تنوير: وأما الوجه الثاني وهو الإخلال ببعض أركان المعنى وترك الاستيفاء لها فهذا يقع للشاعر بأن يذهل عن بعض أركان المعنى أو يجهله، أو بأن يتركه من غير ذهول منه لكن لاضطرار الشعر له بانضمامه على القافية أو لان الوزن غير مساعد له. فإذا طرأ في هذا المعنى غموض من الوجه فهو مما يرجع إلى العبارة. ويخلص من ذلك تسريح عنان الكلام يسيرا. فإن ضاق المجال عن استيفاء أجزاء المعنى في بيت واحد فليكن ذلك في بيت وبعض بيت آخر أو في بيتين، فقد يمكنه استقصاء ما أراده بهذه الطريقة. فإن تعذر عليه الاستقصاء بالجملة فليسقط ذلك المعنى، فإن نقصه نقص في حقه. ولا يزال ذو المعرفة بتصاريف الكلام والدربة بتأليف النظام يضع اللفظة موضع اللفظة ويبدل صيغة مكان صيغة حتى يتأتى له مراده وينال من كمال المعنى بغيته.

5- إضاءة: وأما الوجه الثالث وهو أن يكون المعنى مرتبا على معنى آخر لا يمكن فهمه إلا به فقد يكون المعنى المبني عليه داخل الكلام وخارجه. ويجب أن يقصد - فيما يبني المعنى عليه مما هو خارج الكلام- الشهرة وأن يحسن الدلالة على ذلك من العبارة وأل يحال بين المعنى وما يبنى عليه مما هو موجود في الكلام بما هو أجنبي عنهما، وأن يحسن مساق الكلام في ذلك حتى يعلم أن أحدهما بسبب من الآخر.

6- تنوير: وأما الوجه الرابع: وهو أن يكون المعنى متحرفا بغرض الكلام عن مقصده الواضح معدولا إليه عما هو أحق بالمحل منه حتى يوهم المعنى أن المقصود به ضد ما يدل عليه اللفظ المعبر به عنه. وأكثر الناس يجعلون هذا النوع من الكلام مقلوبا. وبعض الناس يتأول ما ورد من ذلك تأويلا فيه سلامة من القلب، ويرى أن ذلك وإن بعد التأويل أولى من حم الكلام على القلب، إذ العبارة إنما تدل على المعنى بوضع مخصوص وترتيب مخصوص، فإن بدل ذلك الوضع والترتيب زالت تلك الدلالة. وهذا موضع يجب أن يوقف به عند السماع وإلا يقاس عليه لأنه إن كان الكلام مقلوبا، وكانت العبارة مقصودا بها غير ما تدل عليه بوضعها، وسوغ هذا عند حامل الكلام على هذا المذهب أن المقصد من الكلام واضح، وإن كانت العبارة غير دالة عليه، فقد ذهب بالكلام مذهب فاسد وكان ذلك خطأ في العبارة. وفي سعة الكلام مندوحة عن المذاهب الفاسدة. وإن كان الكلام غير مقلوب، ولكنه قصد به معنى آخر غير المعنى الذي يريد به من يجعل الكلام مقلوبا، فذلك أيضاً قبيح لأنه وضع المعنى البعيد الذي لم يؤلف موضع المعنى القريب المألوف، فلا يجب أيضاً سلوك هذا المذهب. فكلا التأويلين في هذا الباب خارج بالكلام عن المهيع الذي يكون للمعنى فيه موقع من النفس ومكانة مكينة من الفهم. فالواجب في فصيح الكلام أن يكون خاليا منه.

7- إضاءة: ويشبه أن يكون هذا الضرب من الكلام مما غلط فيه من ليس من علية فصحاء العرب وبلغائها (بالحمل) على العلية منهم. فكل امرئ منهم إنما يأتم في الفصاحة بمن فوقه. فإذا وجد المؤتم منهم كلاما لمن يأتم به قد قصد به مقصدا يمكن أن يفهم على خلافه بل ربما كان خلافه أسبق إلى الفهم لكونه أشهر في ما يقال في الغرض المقصود بالكلام, وكان الشاعر قد عدل عن الأشهر إلى الأخفى إما اضطرارا على ذلك أو قصدا على الافتنان في معاني الكلام والاتساع في مذاهبه -فمن عادتهم أن يأخذوا الكلام من كل مآخذ ويجتلبوا المعاني من كل مجتلب وأن يتلاعبوا بالكلام على وجوه من الصحة- فهم الكلام على خلاف ما قصده القائل ورأى العبارة لا تدل على ما فهم إلا بعد القلب, فظن أن هذا مذهب في الكلام لمن يأتم به, وأن للشاعر أن يعبر عن المعنى بما لا يدل عليه إلا بعد القلب, ويكتفي بما يسبق إلى الأفهام في ذلك فيجعل ذلك مذهبا له فيخطئ فيه.

وعلى هذا النحو وقع كثير من المذاهب الفاسدة في كلام العرب لأن أرداف الفصاحة منهم إذا رأوا لصدورهم استعمالا ما في شيء قاسوا على ذلك ما يرون أنه مماثل لذلك الشيء, وقد تكون بينهما مفارقة من وجه أو أوجه فيغلطون في القياس, وكذلك في كثير مما يتأولونه عليهم.

فلذلك يجب ألا يقبل من الضرائر غلا ما وجد في ما اجتمعت عليه الروايات الصحيحة من كلام علية الفصحاء منهم مما تحقق براعته انتسابه إليهم كقصائد امرئ القيس والنابغة وزهير ومن جرى مجراهم.

8- تنوير: وقد وقعت أبيات من الشعر حملها قوم على القلب وخرجها آخرون على وجوه يصح الكلام عليها لفظا ومعنى. كقول الحطيئة: (الطويل -ق- المتدارك)

فلما خشيت الهون والعير ممسك ... على رغمه ما أمسك الحبل حافره

لأن الحبل إذا أمسك الحافر فالحافر أيضاً قد شغل الحبل وأمسكه عن أن يتخلى عنه ويتلفت, فعلى هذا ليس بمقلوب.

وكذلك قول أبي النجم: (الرجز -ق- المتدارك)

قبل دنو الأفق من جوزائه ... لأن الجوزاء إذا دنت من الأفق دنا منها.

وقد حمل قوم قطري بن الفجاءة: (الكامل -ق- المترادف)

ثم انصرفت, وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام

على القلب. قالوا يريد قارح البصيرة جذع الإقدام كما يقال إقدام غر ورأي مجرب. والأحسن في هذا البيت حمله على غير القلب, وذلك على تأويلين: أحدهما أن يريد أن هذا الموطن الذي وصفه كان أعظم موطن حضره وأشد موقف شهده فيئس فيه من الحياة وأيقن بالتلف حين رأى نفسه دريئة للرماح ودمه قد خضب سرجه ولجامه كما ذكر في هذا الشعر, ثم خلص من هول ذلك الموقف ووقع الأمر على خلاف ما كان وقع في نفسه حين انصرف وقد قتل ولم يقتل, فحدثت له إذاك بصيرة أن الإقدام غير علة للحمام وأن من يركن إلى الإحجام خفية من أن يصاب فليس على بصيرة, إذ لو شهد ما شهدت ثم انصرف مصيبا لا مصابا لحديث له بصيرة بأن السلامة غير مقصورة على مواطن الدعة وأن الهلاك غير موقوف على مواقف المكافحة, وحمله اجتماع الظفر له والسلامة بالإقدام على ألا يركن إلى الإحجام. فعبر عن قرب عهد حدوث البصيرة له عند انصرافه عن تلك الحرب بأن جعل البصيرة جذعة لأن الجذع هو الذي على أول سنة الأخذ في الاستحكام وجعل الإقدام قارحا لأنه كان من سجيته ثابتا قبل البصيرة.

9- إضاءة: والتأويل الثاني ما حكاه ابن سنان الخفاجي عن أبي العلاء صاعد به عيسى الكاتب أنه جاراه في بعض الأيام في هذا البيت, فقال صاعد: "ما المانع أن يكون مقصوده لم اصب أي لم ألف على هذه الحال بل وجدت على خلافها جذع الإقدام قارح البصيرة, ويكون الكلام على وجه غير مقلوب, فتمكن الدلالة على أن قوله في البيت لم أصب بمعنى لم ألف دون ما يقولون من أن مراده لم أجرح من قوله قبل:

لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى, متخوفا لحمام

لقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة، وأمامي

حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكناف سرجي أو عنان لجامي

ثم انصرفت، وقد أصبت، ولم أصب ... جذع البصيرة، قارح الإقدام

فكيف يكون لم يصب وقد خضب بدمه أكناف سرجه ولجامه. فأما قولهم: إنه أراد من دمي أي من دماء قومي وبني عمي فمبالغة منهم في التعسف والعدول عن وجه الكلام ليستمر لهم أن يكون الكلام فاسدا غير صحيح) .

ثم قال الخفاجي: (وهذا الذي ذكره أبو العلاء وسبق له وجه يجب تقبله وإتباعه فيه. وفحوى كلام قطري تدل على أنه أراد أنه جرح ولم يمت إعلاما أن الإقدام غير علة فيا لحمام وحضا على الشجاعة وبغض الفرار.

وقد حمل قوم قوله سبحانه: (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) ، وقوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) على القلب. وحمل الكلام على القلب في غير القرآن إذا أمكن حمله على الاستقامة تعسف شديد، فكيف في الكتاب العزيز والواجب أن تجعل الباء في قوله تعالى بالعصبة للتعدية ويكون المراد - والله أعلم - أن المفاتح تنوء بالعصبة أي تميلها من ثقلها، وهو قولا لقراء، وأن يكون قوله تعالى لشديد بمعنى بخيل، أي أنه لحب المال لبخيل والخير المال) .

10- تنوير: فكل كلام يمكن حمله على غير القلب بتأويل لا يبعد معناه، فليس يجب حمله على القلب.

وأما ما لا يمكن فيه التأويل فواجب ألا يعمل عليه وأن يوقف عنده. ومنه عقول عروة بن الورد: (الوافر -ق- المترادف)

فلو أني شهدت أبا معاذ ... بمهجته غداتئذ يفوق

فديت بنفسه نفسي ومالي ... فما آلوك إلا ما أطيق

يريد فديت بنفسي، فهذا وأمثاله لا يجب أن يعمل عليه لأنه كلام خطأ على ما قدمناه. ويحتمل أن يكون هذا وما أشبهه مما غيره بعض الرواة لتقارب العبارات واشتباه بعضها ببعض. فقد ينحرف محفوظ الراوي عن أصل وضعه قليلا فلا يشعر بذلك: ألا ترى أن هذا البيت يتأتى تغيير العبارة الواقعة في صدره إلى وضع يدل على مفهوم صحيح فيقال فيه: جعلت فداءه نفسي ومالي. وبدل فديت بنفسه.

11- إضاءة: وأما ما يرجع إلى اللفظ مما يوقع في المعاني غموضا واشتكالا فمن ذلك أن تكون الألفاظ الدالة على المعنى أو اللفظة الواحدة.

منها حوشية أو غريبة فيتوقف فهم المعنى عليها. والواجب على الشاعر أن يجتنب من هذا ما توغل فيا لحوشية والغرابة ما استطاع حتى تكون دلالته على المعاني واضحة وعبارته مستعذبة. ومتى لزه إلى شيء من ذلك اضطرار وأمكنه أن يقرن باللفظة ما يهتدى به إلى معناها من غير أن يكون ذلك حشوا كان الأمر في ذلك أشبه.

12- تنوير: ومن ذلك أن تكون اللفظة أو الألفاظ مشتركة فتدل على معنيين أو أكثر لا في حال واحدة، فيجب للناظم أن ينوط باللفظة أو الألفاظ التي بهذه الصفة من القرائن ما يخلص معناها إلى المفهوم الذي قصده حتى يكون المعنى مستبينا، وذلك حيث يقصد البيان. وينبغي ألا يكثر من هذا النوع حيث يقصد الإبانة عن المعاني.

ومما ورد من ذلك فاضطرب الناس في تأويله قول الحارث بن حلزة: (الخفيف -ق- المترادف)

زعموا أن كل من ضرب العير ... موال لنا وأنى الولاء

فقيل أراد بالعير الوتد وأراد بالضاربين العرب لأنهم كانوا أصحاب عمد، وقيل أراد عير العين وهو ما نتأ منها أي كل من ضرب عير عينه بجفنه، وقيل أراد بالعير ما يطفو على الحوض من الأقذاء وأصله التشديد وهو العاثر والعير، فخفف كما قيل هين وهين، وقيل فيه وجوه أخر غير هذه.

13- إضاءة: ومن ذلك أن تكون كلمة قد وصلت بحرف أو حذف منها حرف فتتصل بكلمة يحتمل لفظها أن يكون الحرف الموصول بالأول داخلا عليها أو من جملة حروفها أو يكون قد دخل على الثانية حرف يخيل لك أنه صلة للأولى أو تتمة لما نقص منها فيعرض من هذا فهم الكلام على غير وجهه.

ومن هذا قول امرئ القيس: (البسيط -ق- المتدارك)

نطعنهم سلكى ومخلوجة ... لفتك لأمين على نابل

لأن الكاف محتملة أن كون ضميرا مضافا إليها ما قبلها، وأن تكون حرفا جارا لما بعدها.

ومن هذا ما روي من أن الأصمعي أنشد يوما: (الخفيف -ق- المترادف)

لم ينالوا مثل الذي نلت منهم ... وسواء ما نلت منهم ونالوا

ثم قال لأصحابه: كيف أوجب في آخر البيت ما نفى في أوله؟. فقالوا: لا ندري، قال: قد أجلتكم فيه شهرا. قالوا: لو أجلتنا فيه سنة ما علمناه، فقال: إنما هي لمي ترخيم لمياء ثم قال: نالوا مثل الذي نلت منهم، فهذا إيجاب أنهم نالوا وليس بنفي على ما يتوهم سامعه.

فيجب أن يتحفظ في الكلام المقصود به البيان نحو وقوع تلك الحروف التي يسبق الوهم إلى أنها مستندة إلى غير الحيز الذي استندت إليه، فإن الذي مستهلك للمعاني وحاجب للأفكار عن حقائق المقصود بالكلام.

14- تنوير: ومن ذلل الإخلال بوضع الكلام وإزالة ألفاظه عن مراتبها حتى يصير المتأخر متقدما والمتقدم متأخرا فتتداخل الألفاظ بعضها على بعض فتشكل العبارة ولا يتحقق نظامها قبل التقديم والتأخير ولا يعلم كيف كان. وهذا المذهب رديء جدا في الكلام.

وكان همام بن غالب الفرزدق يكثر من هذا النوع -كأنه كان يقصده - ومنه قوله: (الطويل -ق- المتدارك)

وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه

يريد وما مثله فيا لناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، ويعني بالمملك هاشما والممدوح خاله فأبوه أبو أمه، فقد أساء العبارة عما أراد.

15- إضاءة: وإذ قد ذكرنا جملة مما يوقع فيا لمعاني إغماضا من جهاتها أنفسها ومن جهات العبارات، وأتبعت ذكر بعض تلك الوجوه بذكر ما يميط بعض القبح الواقع بها في الكلام، فحقيق أن نصرف عنان القول عما نحن بسبيله من القول في هذا المعلم إلى غير ذلك مما يتعلق بالمعاني، إذ قد تبين أن ما قصد به البيان من القول فواجب أن تجتنب فيه تلك الوجوه المذكورة، وما قصد به الكناية أو الإلغاز والتعمية فهي لائقة به وصالحة له، فليوقع منها في كل نوع من الكنايات وفي كل ضرب من ضروب الإلغاز والتعمية ما يليق ويكون فقيه أكثر غناء من غيره.

يب- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء النظر في المعاني من حيث يكون فهمها متوقفا على أمر من صناعة أو غيرها أو تكون غير متوقفة على شيء من ذلك.

إن معاني منها ما يحتاج في فهمه إلى مقدمة من معرفة صناعة أو حفظ قصة. فالتي لا يحتاج في فهمها إلى مقدمة هي المعاني الجمهورية التي يشترك في فهمها الخاص والعام، وعليها مدار معظم المعاني الواقعة في الأغراض المألوفة من الشعر، وهي مستحسنة فيه.

1- إضاءة: والمعاني التي يحتاج في فهمها إلى مقدمة ضربان: ضرب يتوقف فهمه على المعرفة بصناعة ما لكون المعنى من تلك الصناعة أو لكون العبارة الدالة عليه من عبارات أهل تلك الصناعة وضرب يتوقف فهمه على حفظ قصة ما لكون المعنى متعلقا بتلك القصة.

2- تنوير: فالمعاني التي يتوقف فهمها على المعرفة بصناعة ما لا يحسن إيرادها في الشعر إذا وجد عنها مندوحة، ولا يحسن فيه أيضاً أن تؤخذ ألفاظ قد نقلت إلى علم ما فتجعل العبارة بها صالحة لما تدل عليه في ذلك العلم والمتكلم لا يريد إلا المعنى الذي تدل عليه في أصل اللغة وإنما فقصد الإلغاز عن مراده. فهذا لا يحسن فيا لمقاصد التصريحية.

3- إضاءة: وأما ما يتوقف فهمه على قصد فلا يخلو أن تكون تلط القصة مشهورة أو غير مشهورة، فإن كانت القصة مشهورة فذلك حسن، وإن لك تكن مشهورة فإن ذلك لا يستحسن.

4- تنوير: فأما المعاني أو العبارات المتعلقة بصنائع أهلا لمهن فينبغي ألا يستعمل شيء منها لأن استعمالها فيا لشعر أشد قبحا من استعمال الألفاظ الساقطة المبتذلة.

فأما المعاني الخارجة عن صنائع أهل المهن وعما يحتاج في فهمه إلى مقدمة فهي التي يجب أن يكثر من استعمالها، فإن منزلها من المعاني منزلة الألفاظ المستعملة المفهومة التي ليست بعامية ساقطة، ولا متوعرة وحشية. وأما المعاني التي يتوقف فهمها على القصص الشهيرة عند الأدباء ومن جرى مجراهم ممن طالع التواريخ والأخبار فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال الألفاظ التي ارتفعت عما يفهمه جميع العامة وكان علمها مقصورا على الخاصة. فأما المعاني التي يتوقف فهمها على المعرفة بعلم أو صناعة فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال اللفظ الحوشي الذي لا يفهمه إلا الأقل من خاصة الأدباء، وكذلك الإحالة على ما لم يشتهر من الأخبار.

5- إضاءة: وملاحظات الشعراء الأقاصيص والأخبار المستطرفة في أشعارهم ومناسبتهم بين تلك المعاني المتقدمة والمعاني المقاربة لزمان وجودهم، والكائنة فيها التي يبتون عليها أشعارهم مما يحسن في صناعة الشعر. ويجب للشاعر أن يعتمد من ذلك المشهور الذي هو أوضح في معناه من المعنى الذي يناسب بينه وبينه ويعلقه على طريق التشبيه أو التنظير أو المثل أو غير ذلك. ويسمى ما تسبب إلى ذكره من القصص المتقدمة المأثورة بذكر قصة أو حال معهودة الإحالة لأن الشاعر يحيل بالمعهود على المأثور.

6- تنوير: وإذا وقعت الإحالة الموقع اللائق بها فهي من أحسن شيء في الكلام، فلتذكر ما مضى من الأمور التي يقل نظيرها في ما هي عليه من الأوصاف التي تميل النفوس أو تنفر عنها موقع عجيب من النفوس. فتتحرك النفوس بما قد ارتسم فيها من صفة القصة الأولى إلى اعتقاد القصة الأخرى على مثل تلك الصفة. هذا إذا كانت الإحالة على سبيل المحاكاة.

7- إضاءة: وإذ قد تبين هذا فالواجب ألا يستعمل فيا لشعر من الأخبار إلا ما شهر، وألا يستعمل فيه شيء من معاني العلوم والصنائع، ولا شيء من عباراتهم إذا كان الغرض مبنيا على ما هو خارج عن تلك العلوم والصنائع. فأما إذاك أن غرض الشعر مبنيا على وصف أشياء علمية أو صناعية ومحاكاتها والتخييل في شيء شيء منها فإيراد تلك المعاني والعبارات غير معيب في ذلك الغرض، لأن للشاعر أن يحاكي شيئا من جميع الموجودات ويخيل في واحد واحد منها ما تميل إليه النفوس أو تنفر عنه.

8- تنوير: ومما تسبب فيه إلى ذكر ما ليس الكلام مبنيا عليه من المعاني والكلامية والنحوية قول أبي تمام: (البسيط -ق- المتراكب)

مودة ذهب، أثمارها شبه ... وهمة جوهر، معروفها عرض

لأن الجوهر والعرض من ألفاظ المتكلمين الخاصة بصناعتهم. قوله في ما يرجع إلى صناعة النحو: (الكامل -ق- المترادف)

خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء

وقول أبي العلاء المعري في مثل ذلك: (الطويل -ق- الترادف)

تلاق تفرى عن فراق تذمه ... مآق، وكسير الصحائح في الجمع

وحكي أن عز الدولة قال لندمائه: (لينشدني كل واحد منكم أغزل ما يعرفه من الشعر) . فأنشد كل منهم ما حضره. فلما انتهى القول إلى أبي الخطاب ابن ثابت الصابي -وكان أبو طبيبا - أنشد قول أبي العتاهية: (الخفيف -ق- المترادف)

قال لي أحمد ولم يدر ما بي ... أتحب الغداة عتبة حقا

فتنفست ثم قلت: نعم حبا ... جرى في العروق عرقا فعراق

فقال له بختيار: (لا تخرج بنا يا أبا الخطاب عن صناعة الطب التي لم ترثها عن كلالة) .

وكان بعض الأدباء إذا سمع قول المهلبي: (الكامل -ق- المترادف)

يا من له رتب ممككنة ... القواعد من فؤادي

قال: (هذا يصلح أن يكون شعر بناء) .

وحكى أبو عثمان الجاحظ قال: (أنشدت أبا شعيب القلال أبيات أبي نواس التي أولها: (الطويل -ق- المتدارك)

ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس

فقال: (هذا شعر لو نقرت فيه طن) فوصفه من طريق صناعته.

وقد أوردنا هذه الأمثلة على غير ما أوردها غيرنا. فكل ما انتسب إلى صناعة من الصنائع، انتساب ما ذكر من حيث هو معنى راجع إليها أو عبارة مستعملة فيها، فليس يحسن استعماله في الشعر، إذ الواجب أن يقتصر بالأشياء على ما هي خاصة به، وألا يخلط فن بفن بل يستعمل في كل صناعة ما يخصها ويليق بها، ولا يشاب بها ما ليس منها.

يج- معلم دال على طرق العلم بأنحاء النظر في المعاني، من حيث تكون قديمة متداولة، أو جديدة مخترعة.

إن من المعاني ما يوجد مرتسما في كل فكر ومتصورا في كل خاطر، ومنها ما يكون ارتسامه في بعض الخواطر دون بعض، ومنها ما لا ارتسام له في خاطر وإنما يتهدى إليه بعض الأفكار في وقت ما فيكون من استنباطه. فالقسم الأول هي المعاني التي يقال فيها أنها كثرت وشاعت، والقسم الثاني ما يقال فيه إنه قل أو هو إلى حيز القليل أقرب منه إلى حيز الكثير، والقسم الثالث هو المعنى الذي يقال فيه إنه ندر وعدم نظيره.

1- إضاءة: فأما القسم الأول فهو مثل ما يتداوله الناس من تشبيه الشجاع بالأسد، والكريم بالغمام. وهذا القسم لا سرقة فيه ولا حجر في أخذ معانيه لن النسا في وجدانها ثابتة مرتسخة في خواطرهم سواء ولا فضل فيها لأحد إلا بحسن تأليف اللفظ. فإذا تساوى تأليفا الشاعرين في ذلك فإنه يسمى الاشتراك، وإن فضلت فيه عبارة المتأخر عبارة المتقدم فذلك الاستحقاق لأنه استحق نسبة المعنى إليه بإجادته نظم العبارة عنه، وإن قصر فيه عمن تقدمه فذلك الانحطاط.

2- تنوير: فأما القسم الثاني، وهي المعاني التي قلت في أنفسها أو بالإضافة إلى كثرة غيرها فما كان بهذه الصفة فلا تسامح في التعرض إلى شيء منه إلا بشروط: منها أن يركب الشاعر على المعنى معنى آخر، ومنها ما يزيد عليه زيادة حسنة، ومنها أن ينقله إلى موضع أحق به من الموضع الذي هو فيه؛ ومن ذلك أن يقلبه ويسلك به ضد ما سلك الأول، ومن ذلك أن يركب عليه عبارة أحسن من الأولى، وذلك كتحسين الشماخ العبارة عن معنى قول بشر ابن أبي خازم: (الوافر -ق- المترادف)

إذا ما الكرمات رفعن يوما ... وقصر مبتغوها عن مداها

وضاقت أرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها

فجاء الشماخ بهذا المعنى في عبارة أحسن من هذه وأوجز حيث يقول: (الوافر -ق- المترادف)

إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين

فما وجد فيه شرط من هذه الشروط أو ما جرى مجراها فسائغة مجاذبة الشاعر فيه من تقدمه، وما ليس داخلا تحت تلك الشروط وما جرى مجراها مما يزيد في المعنى زيادة مقبولة فهو سرقة محضة.

3- إضاءة: وأما القسم الثالث وهو كل ما ندر من المعاني فلم يوجد له نظير؛ وهذه هي المرتبة العليا في الشعر من جهة استنباط المعاني، من بلغها فقد بلغ الغاية القصوى من ذلك، لن ذلك يدل على نفاذ خاطره وتوقد فكره حيث استنبط معنى غريبا واستخرج من مكامن الشعر سرا لطيفا. فإذا ساعدته العبارة في ذلك وكانت في رف صنعتها والحسن الظاهر. وما كان بهذه الصفة فهو متحامى من الشعراء لقلة الطمع فينيله إذ لا يكون المعنى من الغرابة والحسن بحيث مرت العصور وتعاورت ذلك الموصوف الألسنة فلم تتغلغل الأفكار إلى مكمنه إلا وهو من ضيق المجال وبعد الغور بحيث لا يوجد التهدي إلى مثله والتنبه إلى مظنه وجدانه في كل فكر، بل ذلك مقصور على بعض الأفكار وموجود لها في بعض الأحوال دون عض.

4- تنوير: والمعاني التي بهذه الصفة تسمى العقم، لأنها لا تلقح ولا تحصل عنها نتيجة ولا يقتدح منها ما يجري مجراها من المعاني فلذلك تحاماها الشعراء وسلموها لأصحابها، علما منهم أن من تعرض لها مفتضح.

ألا ترى أنهم عابوا على ابن الرومي - وحظه من الاختراع الحظ الوافر - تعرضه لقول عنترة: (الكامل -ق -المتدارك)

وخلا الذباب بها يغني وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنم

غردا يسن ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم

بقوله يصف روضة: (الطويل -ق- المتدارك)

وغرد ربعي الذباب خلالها ... كما حثحث النشوان صنجا مشرعا

فكانت لها زنج الذباب هناكم ... على شدوات الطير ضربا موقعا

على أن ابن الرومي قد نحا بالمعنى نحو آخر، حين جعل تغريد الذباب ضربا موقعا على شدوات الطير. وهذا تخييل محرك إلى ما قصد ابن الرومي تحريك النفوس إليه وإبلاغها به. فمثل هذه المعاني النادرة إذا وقع فيها مثل قول ابن الرومي ووقع فيها زيادة ما من جهة، وإن كان فيها تقصير من جهة أخرى، يجب أن يصفح عن قائليها في ما وقع لهم من التقصير إذا وقع لهم بإزاء ذلك زيادة وإن كان ما قصروا عنه أجل مما زادوا. هذا إذا لم يكن بين المقصر عنه والمزيد تفاوت كبير.

5- إضاءة: وأما من نقل المعنى النادر من غير زيادة فذلك من أقبح السرقات، لأنه تعرض لسرقة ما لا يخفى على أحد انه سرقة.

6- تنوير: ومن أبرز المعنى النادر في عبارة أشرف من الأولى فقد قاسم الأول الفضل، إذ الفضل في اختراع المعنى للمتقدم، والفضل في تحسين العبارة للمتأخر. والقول الثاني الذي حسنت فيه العبارة بلا شك أفضل من الأول، لأن المعنى لا يؤثر فيه التقدم ولا التأخر شيئا، وإنما ترجع فضيلة التقدم إلى القائل لا القول فيه.

7- إضاءة: فإن زاد المتأخر على التقدم زيادة في المعنى مع تحسين اللفظ فقد استحق المعنى عليه كما استحق الطرماح معنى النابغة حين زاد عليه في قوله: (البسيط -ق- المتراكب)

من وحش وجرة موشي أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصقيل الفرد

بقوله: (البسيط -ق- المتراكب)

يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد

فزاد الطرماح عليه أن جعله مسلولا في حال ظهوره مغمدا في حال إضمار البلاد له.

فمراتب الشعراء فيما يلمون به من المعاني إذن أربعة: اختراع واستحقاق وشركة وسرقة. فالاختراع هو الغاية في الاستحسان، والاستحقاق تال له، والشركة منها ما يساوي الآخر فيه الأول فهذا لا عيب فيه، ومنها ما ينحط فيه الآخر عن الأول فهذا معيب، والسرقة كلها معيبة وإن كان بعضها أشد قبحا من بعض.

المباني

بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما

القسم الثالث في النظم وما تعرف به أحواله من حيث يكون ملائما للنفوس أو منافراً لها من قوانين البلاغة.

المنهج الأول في الإبانة عن قواعد الصناعة النظمية والمآخذ التي هي مداخل إليها، وما تعتبر به أحوال الصنعة في جميع ذلك من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بقواعد الصناعة النظمية التي عليها تقوم مباني النظم؛ وبتصرف الخواطر فيها على ما يجب أن تلتئم صناعة النظام الشعري على الكمال.

النظم صناعة آلتها الطبع. والطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحى به نحوها؛ فإذا أحاطت بذلك علما قويت على صوغ الكلام بحسبه عملا، وكان النفوذ في مقاصد النظم وأغراضه وحسن التصرف في مذاهبه وأنحائه إنما يكونان بقوى فكرية واهتداءات خاطرية تتفاوت فيها أفكار الشعراء.

فأول: تلك القوى وهي عشر: القوة على التشبيه فيما لا يجري على السجية ولا يصدر عن قريحة بما يجري على السجية ويصدر عن قريحة.

الثانية: القوة على تصور كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيها والمعاني الواقعة في تلك المقاصد ليتوصل بهذا إلى اختيار ما يجب لها من القوافي ولبناء فصول القصائد على ما يجب نحو ما أشرنا وما نشير إليه.

الثالثة: القوة على تصور صورة للقصيدة تكون بها أحسن ما يمكن وكيف يكون إنشاؤها أفضل من جهة وضع بعض المعاني والأبيات والفصول من بغض؛ بالنظر إلى صدر القصيدة ومنعطفها من نسيب إلى مدح، وبالنظر إلى ما يجعل خاتمتها إن كانت محتاجة إلى شيء معين في ذلك.

الرابعة: القوة على تخيل المعاني بالشعور بها واجتلابها من جميع جهاتها.

الخامسة: القوة على ملاحظة الوجوه التي بها يقع التناسب بين المعاني وإيقاع تلك النسب بينها.

السادسة: القوة على التهدي إلى العبارات الحسنة الوضع والدلالة على تلك المعاني.

السابعة: القوة على التحيل في تسيير تلك العبارات متزنة وبناء مباديها على نهاياتها ونهاياتها على مباديها.

الثامنة: القوة على الالتفات من حيز إلى حيز والخروج منه إليه والتوصل به إليه.

التاسعة: القوة على تحسين وصل بعض الفصول ببعض والأبيات بعضها ببعض وإلصاق بعض الكلام ببعض على الوجوه التي لا تجد النفوس عنها نبوة.

العاشرة: القوة المائزة حسن الكلام من قبيحة بالنظر إلى نفس الكلام وبالنسبة إلى الموضع الموقع فيه الكلام. فقد يتفق للشاعر أن ينظم بيتين قافيتهما واحدة فيكون أحدهما أحسن في نفسه والآخر أحسن بالنسبة إلى المحل الذي يوقعه فيه من جهة لفظ أو معنى أو نظام أو أسلوب. ففي مثل هذا الموضع يصير المرجوح راجحا والمفضول فاضلا. وكثير ممن ليست له هذه القوة يسقط أحسن مما يثبت بالنسبة إلى المحل.

1- إضاءة: وللشعراء وذوي الدعوى في مشاركتهم أو وجود بعضها أو عدمها بالجملة ثلاث مراتب. فأهل المرتبة العليا هم الشعراء في الحقيقة. وأهل المرتبة السفلى غير شعراء في الحقيقة. وأهل المرتبة الوسطى شعراء بالنسبة إلى من دونهم، غير شعراء بالنسبة إلى من دونهم.

فأما المرتبة الأولى فتشتمل على ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: الذين حصلت لهم هذه القوى على الكمال في الجملة والكمال في بعض دون بعض.

الطبقة الثانية: من كان قسطه من جميع هذه القوى أو من أكثرها متوسطا أو غير بعيد من التوسط.

الطبقة الثالثة: من كانت أقساطه مما حصل له من هذه القوى مع قلتها غير عامة في جميعها.

فالطبقة الأولى هم الذين يقوون على تصور كليات المقولات ومقاصدها ومعانيها بالقوة قبل حصولها بالفعل. فيتأتى لهم بذلك تمكن القوافي وحسن صور القصائد وجودة بناء بعضها على بعض.

والطبقة الثانية تتصور كثيرا من ذلك وإن لم تبلغ في ذلك مبلغ الطبقة الأولى، فيتأتى لها بذلك كثير مما تأتى للأولى.

والطبقة الثالثة لا تتصور إلا القليل من ذلك كأوائل القصائد وصدورها وما يكون من مقاصد الشعر بمحل عناية من أنفسها، فقد يتفق لهذه الطبقة أيضاً أن تبني الكلام والقوافي بناء حسنا.

2- والمرتبة الثانية: من له أدنى تخيل في المعاني وبعض دربة في إيراد عباراتها متزنة، وإن لم يكن له في القوى الباقية إلا ما يعتد به، فنظم هذا منحط عن نظم من استكمل ما نقصه ومرتفع عن كلام من لا تخيل له في المعاني ولا دربة بالتأليف.

3- إضاءة: والمرتبة الثالثة وهم الذين لا ينتسبون إلى هذه الصناعة بغير الدعوى: فمنهم طائفة لا تنتقص ولكن تتلصص ولا تتخيل بل تتحيل بالإغارة على المعاني من تقدمها وإبرازها في عبارات أخر، والنمط الثاني لا يتخيل ولا يتحل ولكن يغير ويغير، والنمط الثالث وهم شر العالم نفوسا وأسقطهم همما وهم النقلة للألفاظ والمعاني على صورها في الموضع المنزل منه من غير أن يغيروا في ذلك ما يعتد به.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بكيفيات مآخذ الشعراء في نظم الكلام وإنشاء مبانيه وما يقدمونه بين يدي ذلك من تصور أغراض القصائد والمقاصد اللائقة بتلك الأغراض وتصور المعاني المنتسبة إلى تلك المقاصد والمنتمية إليها وتصور العبارات اللائقة بجميع ذلك وإعمال الحيل في تقفيتها ووزنها والإعلام بما يتسببون به إلى إدراك البغية في جميع ذلك.

يجب للشاعر إذا أراد نظم شعر - وكان الزمان له منفسحا والحال مساعدة - أن يأخذ نفسه بوصية أبي تمام الطائي لأبي عبادة البحتري في ذلك ويأتم به. فإنها تضمنت جملا مفيدة بما يحتاج إلى معرفته والعمل بحسبه صاحب هذه الصناعة.

قال أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري: (كنت في حداثتي أروم الشعر. وكنت أرجع فيه إلى طبع. ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت فيه إليه واتكلت في تعريفه عليه. فكان أول ما قال لي: (يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم. فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا وأكثر فيه من بنات الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقامه وتقاص المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين. فما استحسنه العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله) .

فقد تضمنت هذه الوصية جملا مما يحتاج إليه في هذا الباب.

1- إضاءة: وأنا أصل وصية أبي تمام بما يكون تفصيلا لبعض ما أجمل فيها، وتكميلا لما نقص منها. فأقول: إن الناظم إذا اعتمد ما أمره به أبو تمام من اختيار الوقت المساعد وإجمام الخاطر والتعرض للبواعث على قول الشعر والميل مع الخاطر كيف مال فحقيق عليه إذا قصد الروية أن يحضر مقصده في خياله وذهنه والمعاني التي هي عمدة له بالنسبة إلى غرضه ومقصده ويتخيلها تتبعا بالفكر في عبارات بدد، ثم يلحظ ما وقع في جميع تلك العبارات أو أكثرها طرفا أم مهيئا لأن يصير طرفا من الكلم المتماثلة المقاطع الصالحة لن تقع في بناء قافية واحدة. ثم يضع الوزن والروي بحسبها لتكون قوافيه متمكنة تابعة للمعاني لا متبوعة لها.

2- تنوير: ثم يقسم المعاني والعبارات على الفصول ويبدأ منها بما يليق بمقصده أن يبدأ به، ثم يتبعه من الفصول بما يليق أن يتبعه به ويستمر هكذا على الفصول فصلا فصلا، ثم يشرع ي نظم العبارات التي أحضرها في خاطره منتثرة فيصيرها موزونة إما بأن يبدل فيها كلمة مكان كلمة مرادفة لها أو بان يزيد الكلام ما تكون لزيادته فائدة فيه أو بان ينقص منه ما لا يخل به أو بأن يعدل من بعض تصاريف الكلمة إلى بعضها أو بأن يقدم بعض الكلام ويؤخر بعضا أو بأن يرتكب في الكلام أكثر من واحد من هذه الوجوه.

3- إضاءة: ولا يخلو عروض الشعر من أن يكون طويلا أو قصيرا أو متوسطا: فأما الطويل فكثيرا ما يفضل مقداره عن المعاني فيحتاج إلى الحشو، وأما القصير فكثيرا ما يضيق عن المعاني ويقصر عنها فيحتاج إلى الاختصار والحذف، وأما المتوسط فكثيرا ما تقع فيه عبارات المعاني مساوية لمقادير الأوزان فلا يفضل عنها ولا تفضل عنه فلا يحتاج فيه إلى حذف ولا حشو، لكنه يشارك الطويل والقصير في الاحتياج فيه إلى الوجوه الباقية إلى: العدل والبدل والتقديم والتأخير أو مجموع أكثر من واحد من ذلك.

4- تنوير: وللأعاريض اعتبار من جهة ما تليق به من الأغراض واعتبار من جهة ما تليق به من أنماط النظم: فمنها أعاريض فخمة رصينة تصلح لمقاصد الجد كالفخر ونحوه نحو عروض الطويل والبسيط وفئة وكثير من مقصرات ما سواه من الأعاريض.

ومنها أعاريض تليق مقاصد التي تحتاج إلى جزالة نمط النظم يجب أن تنظم في سلك الأعاريض التي من شأن الكلام أن يكون نظمه فيها جزلا نحو عروض (الطويل) والكامل.

وأما المقاصد التي يقصد فيها إظهار الشجو والاكتئاب، فقد يليق بها الأعاريض التي فيها حنان ورقة، وقلما يخلو الكلام (الرقيق) من ضعف مع ذلك، لكن ما قصد به من الشعر هذا المقصد، فمن شانه أن يصفح فيه عن اعتبار القوة والفخامة، لأن المقصود بحسب هذا الغرض أن تحاكى الحال الشاجية بما يناسبها من لفظ ونمط تأليف ووزن. فكانت الأعاريض التي بهذه الصفة غير منافية لهذا الغرض، وذلك نحو المديد والرمل. وسيأتي لهذا زيادة بيان.

5- إضاءة: واعلم أن الخواطر إذا تصورت فصول القصائد ومعانيها قبلا لشروع فيا لنظم، وقامت بها العبارات عن تلك المعاني قياما وهميا متخيلا، فقد يوجد في عبارة عبارة منها كلم يصلح أن تقع قوافي تكون كل عبارة منها فيها كلمة في كل ما عداها من العبارات كلمة تماثلها في المقطع، ويوجد فيها أيضاً كلم مغايرة مقاطعها المتماثلة لمقاطع الأولى ولا تبلغ الثواني مبلغ الأولى فيا لكثرة، ويوجد فيها أيضاً كلم لها مقطع ثالث إلا أنها في قليل من تلك العبارات.

6- تنوير: فللشعراء بالنظر إلى ما يجب في المطالع وما يجب في القوافي، وبالنظر إلى ملاحظة ما يجب فيها ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب المعتنين بالمبادئ. وهو أن يجعل مبدأ كلامه دالا على مقصده، ويفتتح القول بما هو عمدة في غرضه، وينظر في العبارة عن ذلك المعنى أصلح لفظة منها بالقافية؛ فإن كان مقطعها مماثلا لما تكاثر في معاني القصيدة من المقاطع المتماثلة حصلت له البغية في المبدأ والقوافي وتمكن مما أراد، وإن كان المقطع فيا لمبدأ مماثلا للمقاطع المتوسطة في مستأنف العبارات عن معاني القصيدة حصل له أيضاً كثير مما أراد واحتال في ما لم يكن فيه من العبارات ما يماثل مقطع المبدأ باجتلاب ما يماثله على جهة إلحاقه بالعبارة ويتحرى أن يكون ذلك مفيدا، فإن لم يماثل مقطع المبدأ إلا المقاطع التي وقعت قليلة فيا لعبارات احتال في وصل ما عز فيه وأبدل المقطع بما يوجد فيه تحرى الإفادة والبعد عن التكلف ما استطاع وأبدل مكان بعض المعاني التي كان يريد أن يقولها معاني مناسبة لها في ما وقع فيها عمدة أو فضلة مفيدة مقطع مماثل لمقطع المبدأ وحذف ما لم يجد منه بدلا، فهذا مذهب.

7- إضاءة: والمذهب الثاني من آثر بنية الروي على ما تكاثر من المقاطع وافتتح بعمدة غرضه. فإن كان في العبارة ما يماثل مقطع الروي حصلت البغية، وإن لم يكن ذلك في العبارة احتال في تذييل العبارة بما يماثل مقاطع الروي إن أمكنه ذلك وتحرى الإفادة فيما ذيل به البعد عن التكلف أو عدل إلى معنى يناسب ذلك المعنى مما يتيسر هل فيه وجود المقطع الموافق. فإن أعوزه ذلك ركب أحد مركبين: إما يبدأ بأي معنى اتفق مما يتفق فيه وجود الروي متمكنا. وإما أن يترك التصريع ويفتتح بعمدة غرضه كيفما حضرته العبارة ولو واقعا في أولها الخزم. وبهذا المذهب كان الفرزدق يكمل نحو قوله: (الطويل -ق- المتدارك)

منا الذي اختبر الرجال سماحة ... وجودا إذا هب الرياح الزعازع

8- تنوير: والمذهب الثالث: أن يرجع المبدأ على القوافي في ما كانت فيه المقاطع متوسطة بين الكثرة والقلة، ويرجح القوافي على المبدأ حيث تقل المقاطع.

9- إضاءة: واعلم أن للشعراء في تهديهم إلى العبارات التي ترد على الأفكار أول ما ترد عليها متزنة منطبعة على مقدار الكلام المقفى ومقطعه وإلى العبارة التي ليست توجد أول ورودها على الأفكار متزنة منطبعة على ما يرد صوغ الكلام بحسبه، لكن توجد قابلة لأدنى تغيير يصيرها منطبعة على ما يراد من ذلك، مراتب ثلاثا: الأولى أن تكون قوة الشاعر الناظمة في أكثر أمرها لا تلاحظ ما يصلح أن يكون عبارة عن المعنى مما ذمة الذكر به ملية عند اقتضائها إياه أول ملاحظتها إلا على الهيئات التي تكون نقل الحركات والسكنات فيها بحسب ما يقتضيه الوزن الذي يريد بناء كلامه عليه فيولج به الخاطر إلى اللسان موزونا.

10- تنوير: وقد تقتصر هذه القوة التي بهذه الصفة عن هذه الدرجة في كثير من المواضع. وذلك يكون لعوادي ثمان تعرض: أربع منها راجعة إلى الشاعر، وأربع راجعة إلى نفس الشعر.

فأما ما يرجع إلى الشاعر من ذلك فمنها: 1- أن يكون بالخاطر كسل فلا تسمو تلك القوة معه سموها مع النشاط.

2- وإما أن يكون الخاطر قد شغله تلفت إلى غير الغرض الذي هو آخذ في صوغ العبارة له، وعاقه ذلك عن تسليط تلك القوة عن ضروب ما يقوم فيه من العبارات المتخيلة وإمرارها على ضرب ضرب منها حتى تميز القوة بعرض جميعها حركاته وسكناته ومستمرة على ما يجب في ما بني الكلام عليه من الأوزان مما ليس التركيب في حركاته وسكناته كذلك إذ ذكا من التصور الذهني إلى التلفظ اللساني كامل وذلك التلفت منه يكون إما إلى جهة معنى يسنح له، وإما إلى جهة معنى قد قدمه فيسنح له فيما يتعلق به أو بالعبارة عنه ما يرفع قبحا ويضاعف حسنا. فينتهز الخاطر الفرصة في تحصيله. ففي حال الانصراف إلى محل الالتفات تتوافق القوة الناظمة عما كانت بسبيله من تصفح العبارة المستمرة الحركات والسكنات على منهاج الوزن الذي بني الكلام عليه والتغلغل إلى استخراجها من غمار العبارات غير المتزنة.

3- وإما أن يدركه سهو، فينصرف عن الوزن الذي هو آخذ فيه إلى وزن يقاربه على سبيل الغلط. فيكون الخاطر غير آنس بالوزن الذي خرج إليه ولا ولع بالاستمرار على ما لم يتقدم له إلف له ولا سلف له عمل فيه، من شان النفس أن تحرص على إتمامه، ولا استثار فائدة فيه ولعه بما قد ألفه وتقدم له عمل فيه يشتاق إلى إتمامه. فلا ينبعث الخاطر بالقوة انبعاثا يمكنها من ملاحظة ما وضعه من العبارات موافق للوزن المبني بديها، فيتعذر على ها صوغ الكلام بحسب الوزن المخرج إلى السهو، ولو لم يتعذر على هذا التقدير أيضاً لم يحصل للناظم البغية مما أراد من الوزن الأول، فوقوع مثل هذا الغلط عائق عن وزن الكلام بحسب العروض المقصود بالقصد الأول على كل حال. وأكثر ما يقع هذا الغلط للفكر أيضاً إذا نال منه الكد والكسل، وإن كان هذا إنما يعرض في الأقل، وفي الأوزان المتشابهة نحو مجزو الوافر والهزج.

11- إضاءة: ولا يعتاص وزن الكلام على المطبوعين إلا حيث يريدون تضمين المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، أو حيث يريدون صوغ الكلام على هيئات بديعة يحتاج فيها إلى إمرار الفكر على الألفاظ التي يحدس أن ذلك متأت فيها وإلى التنقيب عما يهيئ الكلام بتلك الهيئة من ضروب الترتيبات والوضع. فأما في ما سوى ذلك فالوزن أيسر شيء على من له أدنى بروع في هذه الصناعة.

12- تنوير: ولما ذكرته من انبعاث الخاطر وولعه بما قد ألفه واستثار الفوائد فيه فهو يحرص على إتمامه ما لا يولع بما لم يألفه ولا تقدمت له استثارة فائدة فيه قد يعتاص القول على الشاعر في مبادئ القصائد وصدورها ويتيسر في أوساطها وأعجازها. هذا على كونه في المبادئ أجم خاطرا وأشد تمكنا من القوافي.

13- إضاءة: 4- والسبب الرابع من عوادي الشاعر عن التسرع في وزن الكلام أن تكون مواد العبارات في الذكر قليلة فيعز وجود ما يجيء من العبارات عفوا من غير احتيال ولا تكلف لذلك.

14- وأما ما يرجع إلى الشعر فمن ذلك: 1- أن يكون قدر الوزن فوق قدر المعنى، فيحتاج إلى إعمال الحيلة في ما يستحسن من الحشو، أو من المعاني التي يكون في اقترانها بالمعنى المقصود بالمقصد الأول تحسين للكلام وإبداع في حسن وضعه ونسقه وترتيب بعضه من بعض، فيقل أيضاً وجود ما يجيء من العبارات عفوا على هذه الصفة.

2- أو يكون قد ر المعنى فوق قدر الوزن فيحتاج إلى الحذف والاختصار.

3- أو يكون المعنى دقيقا داعيا إلى إيراد العبارة عنه على صورة يقل ورودها عفوا.

4- أو يكون المعنى من المعاني التي العبارات عنها قليلة في اللسان، فلا يتمكن الخاطر من إيراد موزونة إلا بتعمل ومحاولة أو يكون للشاعر اختيار أن يورد المعنى في عبارة مخصوصة لكونها بارعة في نفسها أو بالنسبة إلى ما يليها.

15- إضاءة: والمرتبة الثانية من ليس له قوة على إحضار العبارة متزنة على البديهية إلا في قليل من المواضع، بل يحضر العبارات بحيث تقبل التغيير والتصيير إلى الوزن المقصود بأدنى سعي.

16- تنوير: والمرتبة الثالثة من لا يستطيع على إحضار العبارات متزنة أول إحضارها، ويحضرها مع ذلك غير قابلة التغيير إلى الوزن إلا بكد وتعب.

17- إضاءة: وكذلك القول في رد غير الموزون إلى الوزن بأحد التغييرات، تتفاوت (القدرة) أيضاً في الشعراء، فمنهم من يلوح له التغيير الممكن في العبارة بيسر، ومنهم من يلوح له ذلك ببطء، ومنهم من يقع في ذلك بين الطرفين.

وقد قامت أن ضروب التغييرات التي تصير غير الموزون متزنا هي: إسكان متحرك أو تحريك ساكن أو زيادة في اللفظ أو نقص منه أو عدل صيغة إلى أخرى أو تقديم وتأخير أو إبدال لفظة مكان أخرى أو اجتماع أكثر من واحد من هذه التغييرات.

18- تنوير: واعلم أن ذا القوة القوية على النظم قد يوجد أبطأ في القول من ذي القوة التي ليست متناهية، وذلك إذا قصد إبعاد الغاية في الروية والتنقيح فتطلب المعاني الشريفة ونزع بها المنازع اللطيفة وجهد في إبرازها من العبارات في صور بديعة؛ فيحتاج في كل ذلك إلى تنقيب وفحص ويحتاج معهما في قليل القول إلى كثير الزمان. فأما إذا كان ذو القوة الفائقة آخذا في مثل نمط ذي القوة القاصرة من الكلام فإن الأقوى قوة منها يربي على الأضعف في سرعة القول؛ ويكون التفاوت بينهما في ذلك على قدر ما بينهما من التفاوت في القوة. فربما نظم الأقوى الثلاثين بيتا فما فوقها خلال ما ينظم الأضعف عشرة الأبيات فما دونها. بل قد يربي عليه إرباء أكثر من هذا.

19- إضاءة: والعوام ومن جرى مجراهم ممن لم يحل من هذه الصناعة بطائل يغلط في هذا فينسبون سرعة الخاطر إلى الشاعر فيما لا يجب فيه أن ينسب إلى السرعة، وينسبون إليه الإبطاء فيما لا يجب فيه أن ينسب إليه بطء.

ومن هذا ما حكي من أبا العتاهية قال الشاعر كان قدم مع المأمون من خراسان: (في كم تصنع القصيدة؟) . فقال له: (قد أصنع القصيدة تبلغ ثلاثين بيتا في شهر) . فقال أبو العتاهية: (أما إني لا ملي على الجارية من ليلتي خمسمائة بيت) . فقال له الخراساني: (أما مثل قولك: (الهزج -ق -المترادف)

ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة

فإني أملي منه ألف بيت إذا شئت) . فانقطع أبو العتاهية وضحك الحاضرون منه.

20- تنوير: ولا يجب ألا يقتصر على ما للقوة الناظمة من سليم الذوق وما يصح فيه دون ما يصح في العروض، وألا ينظم الكلام إلا بحسب ما يصح فيهما معا ليكون كلامه مع كونه جاريا على أوضح طرق المناسبات موافقا لكلام العرب في جميع ذلك.

21- إضاءة: وأحوال كل واحدة من الطبقات الثلاثة المتقدم ذكرهم قد تختلف في السرعة في جميع ذلك والإبطاء بحسب ما تكون عليه الخواطر من نشاط أو كسل أو حال بين الحالين، وبحسب ما تكون عليه دواعي الأفكار إلى استعمال الأقاويل الشعرية وإنشائها والأسباب البواعث على ذلك من توفر أو غير ذلك.

ج- معلم دال على طرق العلم بكيفية العمل في المروى والمرتجل

ومآخذ القول في الارتجال قريبة سهلة لكون ضيق الوقت يمنع من بعد المذهب في ذلك. ولا يخلو ارتجال من أن يكون مستقصى فيه ما كان من صفات الشيء المقول فيه لائقا بغرض القول أو غير مستقصى. وكلاهما لا يخلو من أن يكون مقرونا فيه بين المعاني المتعلقة بالشيء الموصوف وبين معان أخر يكون لها به علقة ولها إليه نسبة على سبيل تشبيه أو إحالة أو تعليل أو تتميم أو غير ذلك مما يكون به بعض المعاني بسبب من بعض، أو أن تكون المعاني المتعلقة بالشيء الموصوف غير مقترن بها شيء من المعاني.

فأقاويل البديهة إذن أربعة أنماط: 1- قول مستقصى مقترن، 2- ومستقصى غير مقترن، 3- ومقترن غير مستقصى، 4- وغير مستقصى ولا مقترن.

وأفضلها الأول وأدناها الآخر. فعلى أحد هذه الأربعة الأنحاء يتخيل المرتجل ما يريد أن يقوله في وصف الشيء ثم يأخذ في نظم ذلك الشيء على النحو الذي تقدم ذكره وعلى ما نقوله بعد إن شاء الله. ويتسامح في كثير مما يتأنق فيه المروي ويقبل كثيرا مما لا يقبله المهذب المنقح لضيق الوقت عليه واتساعه على ذلك.

1- إضاءة: فإما الروية فإن المباحث فيها كثيرة والمذاهب فيها بعيدة لكون الزمان فيها يتسع لطلب الغايات المستطاعة من بناء الكلام على ما قدمته من أصناف محاسن الألفاظ والمعاني وإبداع النظم والتأنق في إحكام الأسلوب. والذي يدخل في الروية من تلك الأنماط ثلاثة وهي: المستقصى المقترن والمقترن غير المستقصى والمستقصى غير المقترن.

والنمط الأول هو العريق في طريق الروية. وإذا حقق القول وجد المستقصى المقترن قليل الوقوع في الارتجال. فأنماط الارتجال أيضاً كأنها إذا حققت ثلاثة. وهي ما عدا المستقصى المقترن.

2- تنوير: وللشاعر المروي في كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة أربعة مواطن للبحث: 1- موطن قبل الشروع فيا لنظم، 2- وموطن قي حال الشروع، 3- وموطن عند الفراغ، يبحث فيه عما هو راجع إلى النظم، 4- وموطن بعد ذلك متراخ عن زمان القول يبحث فيه عن معان خارجة عما وقع في النظم لتكمل بها المعاني الواقعة في النظم وتسوفى بها أركان الأغراض ويكمل التئام المقاصد.

فأما الموطن الأول فالغناء (فيه) لقوة التخيل.

والموطن الثاني الغناء فيه للقوة الناظمة. ويعنيها حفظ اللغة وحسن التصرف.

والموطن الثالث الغناء فيه للقوة الملاحظة كل نحو من الأنحاء التي يمكن أن يتغير الكلام إليها، ويعينها حفظ اللغة أيضاً وجودة التصرف والبصيرة بطرق اعتبار بعض الألفاظ والمعاني من بعض.

والموطن الرابع الغناء فيه للقوة المستقصية الملتفتة، ويعينها حفظ المعاني والتواريخ وضروب المعارف.

3- إضاءة: وبعد استقصاء وجوه المباحث في هذه المواطن الأربعة وكمال انتظام القصيدة المرواة، قد يعرضها الناظم على نفسه، فيظهر له بعرضها أمور كانت قد خفيت عنه من إلحاقات وإبدالات وتغيرات وحذف. وقد يعرض للشاعر موضع يرى أنه خليق بالتغيير أو الزيادة فيتعذر عليه ما يليق بالموضع من التغيير أو الزيادة فيرجيء النظر فيه إلى وقت آخر. وقد يعاود النظر في ذلك المرار الكثيرة فلا يتيسر له ما يريد إلا بعد معاودات كثيرة قد تطرأ عله معاودة النظر إلى كتب القصيدة. وربما كان غير ملفت إلى إصلاح ذلك الخلل ونشأ مع فكره إعمال خاطر في ذلك. فيغتنم الفرصة إذاك في إصلاح ذا وشأن الخواطر في هذا عجيب.

4- تنوير: ومن أصحاب الروية من يجهد في استجداد العبارات والتأنق فيها من جهة الوضع والترتيب. ومنهم من لا يستجد ولا يتأنق. ومنهم من يستجد العبارة دون المعنى أو المعنى دون العبارة، ومن يتأنق في العبارة دون المعنى أو المعنى دون العبارة.

فأما من لا يستجد ولا يتأنق فيه فليس يصدر عن مطبوع بروية.

وأعني بالاستجداد الجهد في ألا يواطئ من قبله في مجموع عبارة أو جملة معنى، وبالتأنق طلب الغاية القصوى من الإبداع في وضع بعض أجزاء العبارات والمعاني من بعض وتحسين هيئات الكلام في جميع ذلك. فإن العبارة إذا استجدت مادتها وتأنق الناظم في تحسين الهيأة التأليفية فيها وقعت من النفوس أحسن موقع. وكذلك الحال في المعاني، فتأمل ذلك.

د- معرف دال على طرق المعرفة بكيفية التصرف في مقاصد الشعر وجهاته.

وجهات الأقاويل الشعرية هي ما يكون الكلام منوطا به من الأشياء المقصود وصفها أو الإخبار عنها. والجهات ضربان: ضرب يع في الكلام مقصودا لنفسه. وهو ما كان له بالغرض المقول فيه علقة وله إليه انتساب بوجه يوجب ذكره.

والصنف الثاني ما لم يكن له بالغرض علقة، ولكن له علقة ببعض الجهات المتعلقة بالغرض، فيذكر تابعا لما ذكر معتمدا على جهة إحالة أو محاكاة أو غير ذلك؛ وقد يكون له بالغرض علقة إلا أنه لم يذكر إلا من حيث ما هو تابع لغيره ومتعلق به.

1- إضاءة: وكانت للأوائل عناية بتعليق الأوصاف بهذه الجهات الثواني. وذلك حيث يكون في قوة الكلام أن يعود من الأوصاف المتعلقة بالثواني ما يفيد مبالغة أو غير ذلك في الجهات الأول.

2- تنوير: واعلم أن الشعراء تتفاوت طبقاتهم فيا لتصرف في الجهات الأول، وتتفاوت في الجهات الثواني. والتفاوت في الثواني أكثر، لأن الجهات الأول يمكن حصرها في كل فن، وأما الجهات الثواني فقلما يتأتى حصرها لكثرة ما يمكن أن يستطرد من الشيء إليه أو يحال به عليه أو يحاكى به أو يعلق على الجملة به لنسبة في المعنى تقتضي ذلك.

فإذا كانت الجهة الواحدة من الأول يمكن أن يناط بها جهات ثوان كثيرة على أنحاء من الاستدراج والاستطراد وما جرى مجرى ذلك من أنحاء الانتقالات المتنوعة بتنوع المقاصد، وكان كل نحو من ذلك ممكنا أن يذهب فيه إلى ضروب كثيرة من الهيئات الحاصلة عن الترتيب الذهني وعن النسب الواقعة بين بعض المعاني وبعض، صارت الصور الحاصلة عن جميع ذلك في تشفيع معاني الجهات الأول بمعاني الثواني وإردافها بها كثيرة التشعب بعيدة عن الحصر. وعظم التفاوت بين الشعراء في مقدار التصرف في ذلك. وإذا كانوا يتفاوتون في مقدار التصرف في الجهات الممكن حصرها فهم أجدر بالتفاوت فيما يبعد على الحصر.

3- إضاءة: فأما تصرفهم في الجهات الأول فمنهم من يقتصر على الجهات الأكيدة في الغرض، ومنهم من يزيد إلى ذلك جهات هي أبعد من غرض الكلام من الجهات المقتصر عليها، ومنهم من لا يستوفي جميع الجهات الأكيدة ويقتصر على ما تيسر له منها. فهذا نوع من التصرف.

4- تنوير: وهناك تصرف ثان. وهو مقدار ما يتصوره الشاعر من معاني الجهة. والشعراء في ذلك ثلاث طبقات: منهم من في قوته أن يستقصي معاني الجهة إذا شاء، ومنهم من لا يبلغ إلى الاستقصاء ويأتي من ذلك بمقدار كاف، ومنهم من يقصر عن المقدار الكافي.

5- إضاءة: وهناك تصرف ثالث. وهو ملاحظة ما في الجهة التي عدمت فيها صفات الحسن أو قلت من الأوصاف التي يرى أنها حسنة حقيقية أو تمويها، وملاحظة ما في الجهة التي عدمت فيها صفات القبح أو قلت من الأوصاف التي يرى أنها قبيحة حقيقة أو تمويها، يقصد بذلك تحسين القبح وتقبيح الحسن. ويتمكن من هذا الغرض من حصل له التصرف في الأول والتصرف في الثواني والتصرف في الجمع بين الأول والثواني.

6- تنوير: والشعراء يختلفون أيضاً في هذا: فمنهم من يقوى على حشر ما يمكن أن يوصف به الشيء الحسن من صفة يرى أنها قبيحة حقيقة أو تمويها، وما يمكن أن يوصف به القبيح من صفة يرى أنها حسنة حقيقة أو تمويها، ومنهم من لا يتهدى إلا إلى الشيء القليل من ذلك؛ ومنهم من يتوسط بين الطرفين.

وهذا النوع من المقاصد من مجالات الشعر الضيقة. وكان أقوى الناس عارضة وأكثرهم تصرفا في هذا ابن الرومي. واعتبر قوته على ذلك بما قال في صفة السوداء في الشعر الذي يقول فيه: (المنسرح -ق- المتراكب)

أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق

وبما قال في النرجس والورد وبتحسينه التصابي في حال المشيب بشعره الذي أوله: (الخفيف -ق- المترادف)

لاح شيبي فظلت أمرح فيه ... مرح الطرف في اللجام المحلى

ونحو من ذلك حسن تصرفه في الشعر الذي رثى فيه بعض القيان، وهو الذي يقول فيه: (الخفيف -ق- المتراكب)

سيشفع الحور فيه أنك منهن بذاك الدلال والحور

7- إضاءة: والتصرف في الثواني يتفاوت الشعراء فيه بحسب توفر حظ كل واحد منهم في القوى المتخيلة والشاعرة بالمناسبات الواقعة بين بعض المعاني وبعض المتهدية لأنحاء الانتقالات من الأول إلى الثواني والوجوه التي يكون بها بعضها من بعض بسبب من حيث كان تعليق المعنى الثاني بالأول إنما يكون على هذه الأنحاء: فمنهم من حظه أوفر الحظوظ من ذلك، ومنهم من حظه أدنى الحظوظ، ومنهم وسط بين الطرفين.

8- تنوير: ومن الشعراء من يحسن القول في جهة واحدة ولا يحسن أن يردف قوله في جهة بقوله في جهة وأن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى انتقالا لطيفا، ومنهم من يحسن إرداف الجهة بالجهة المناسبة لها ولا يحسن إردافها بما لا يناسبها فلا تتأتى النقلة لذلك من إحداهما إلى الأخرى إلا بمآخذ في الانتقالات لطيفة ومنازع في الالتفاتات بديعة، ومنهم من يحسن إرداف الجهات بالجهات في جميع ذلك.

وطبقات الشعراء في الإحسان في كل ذلك تتفاوت بحسب ما تكون عليه أفكارهم من التهدي إلى ضروب الانتقالات وأنحاء الالتفاتات.

9- إضاءة: وللشعراء مذاهب في ما يعتمدون إيقاعه فيا لجهات التي يعتمدون فيها لقول من الأنحاء المستحسنة في الكلام كالوصاف والتشبيهات والحكم والتواريخ. فقل ما يشذ من مستحسن الكلام عن هذه الأنحاء الأربعة شيء.

فمنهم من تشتد عنايته بالأوصاف كالبحتري، وبالتشبيه كابن المعتز، وبالأمثال كالمتنبي، وبالتواريخ كابن دراج القسطلي.

ومنهم من يتوفر قسطه من جميع ذلك كأبي تمام، وإن كان غيره أشف منه في التشبيه والحكم.

ولابن الرومي في الإحاطة بالأوصاف والتشبيهات المجال المتسع، وابن دراج أيضاً في الأوصاف والتشبيهات متسع المجال.

10- تنوير: فأما الأوصاف فتقتبس من الجهات التي القول فيها. وأما التواريخ فتقتبس من غير الجهة التي فيها القول. وأما التشبيهات والحكم فتارة تقتبس من الجهة التي فيها القول وتارة تقتبس من جهة ثانية.

وأنا أذكر ما تتنوع إليه هذه الجناس الأربعة ذكرا إجماليا على سبيل الإشارة.

11- إضاءة: أما الأوصاف فإنهما تتنوع إلى وصف مطلق، وإضافي، وشرطي، وفرضي. ولكل واحد منها مواضع يليق بها ولا يصلح فيها غيره. وقد تقدم التعريف بجملة من أحكام الأوصاف وكيفيات التصرف فيها يمكن أن تعرف بها ما جرى مجراها. فكان ذلك مغنيا عن أن نشغل هذا الموضع بإعادة الكلام في ذلك.

12- تنوير: وأما التشبيهات فمنها ما يتعلق الشبه فيه بالصور والخلق ومنها ما يتعلق الشبه فيه بالأفعال والصفات. وكلا التشبيهين لا يخلو من أن يكون تشبيه الشيء فيه بما هو من نوعه أو بما هو من جنسه الأقرب أو بما هو من جنسه الأبعد أو بما ليس من جنسه.

وتشبيه الشيء بالشيء يكون أن يتفق معه في صفة تكون في أحدهما على حدها في الآخر أو بنسبة منها أو في أكثر من صفة، فأما أن يتفق معه في جميع الصفات فلا يمكن، وإلا فكان يلزم لو اتفق معه في جميع ذلك أن يكون حقيقة هذا حقيقة ذلك من جميع الجهات وذلك غير ممكن. وقد تقدم التعريف بأنحاء التشبيهات وأحكامها وكيفيات التصرف فلا معنى لإعادته أيضا.

13- إضاءة: وأما التواريخ والقصص فإما أن تكون الإحالة فيها إحالة تذكرة أو إحالة محاكاة أو مفاضلة أو إضراب أو إضافة؛ وقد تكون من جهات أخر غير هذه.

وقد تقدمت الإشارة إلى جمل من الأمور التي بها يتسبب إلى ذكر الأخبار الماضية والقصص السالفة فليتأمل القول في ذلك هنالك.

14- تنوير: وأما الحكم والأمثال فإما أن تكون الأخبار فيه يجرى الأمور على المعتاد فيها وإما بزوالها في وقت عن المعتاد على جهة الغرابة والندور أو الندور فقط لتوطن النفوس بذلك على ما لا يمكنها التحرز منه أو لا يحسن بها التحرز من ذلك، ولتحذر مما يمكنها التحرز منه ويحسن بها ذلك، ولترغب فيما يجب أن ترغب فيه وترهب مما يجب أن ترهبه، وليقرب عندها ما تستبعده ويبعد لديها ما تستقربه، ولتبين لها أسباب الأمور وجهات اتفاقات البديعة الاتفاق منها.

فهذه قوانين في الحكم والأمثال قلما يشذ عنها من جزئياتها شيء. وقد أجملت القول فيها إجمالا، إذ لم يمكن تفصيله في هذا الموضع، إذ للكلام في تفريع الأمثال المترتبة عن هذه الأصول الكليات مجال متسع. وجريت في ذلك على ما اعتمدته في جميع جهات الكلام والنظر في هذه القوانين الكلية عن تتبع جزئياتها.

هـ- معلم دال على طرق العلم بتحسين هيآت العبارات والتأنق في اختيار موادها، وإجادة وضعها ورصفها.

والتهدي إلى العبارات الحسنة يكون بأن تكون للشاعر قوة يستولي فكره بها على جميع الجهات التي يستكمل حسن الكلام بالترامي به إلى كل جهة منها والتباعد عن الجهات التي تضادها. وتلك الجهات هي اختيار المواد اللفظية أولا من جهة ما تحسن في ملافظ حروفها وانتظامها وصيغها ومقاديرها واجتناب ما يقبح في ذلك وقد تقدم، واختيارها أيضاً من جهة ما يحسن منها بالنظر إلى الاستعمال وتجنب ما يقبح بالنظر إلى ذلك واختيارها بحسب ما يحسن منها باعتبار طريق من الطرق العرفية وتجنب ما يقبح باعتبار ذلك.

1- إضاءة: ومن ذلك حسن التأليف وتلاؤمه. والتلاؤم يقع في الكلام على أنحاء: منها أن تكون حروف الكلام بالنظر إلى ائتلاف بعض حروف الكلمة مع بعضها وائتلاف جملة كملة مع جملة كلمة تلاصقها منتظمة في حروف مختارة متباعدة المخارج مترتبة الترتيب الذي يقع فيه خفة وتشاكل ما، ومنها ألا تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار الاستعمال فتكون الواحدة في نهاية الابتذال والأخرى في نهاية الحوشية وقلة الاستعمال، ومنها أن تتناسب بعض صفاتها مثل أن تكون إحداهما مشتقة من الأخرى مع تغاير المعنيين من جهة أو جهات أو تتماثل أوزان الكلم أو تتوازن مقاطعها، ومنها أن تكون كل كلمة قوية الطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كل ما يمكن أن يوضع موضعها.

2- تنوير: وقد تعدم هذه الصفات أو أكثرها من الكلم وتكون مع ذلك متلائمة التأليف لا يدرى من أين وقع فيها التلاؤم ولا كيف وقع، ليس ذلك إلا لنسبة وتشاكل يعرض في التأليف لا يعبر عن حقيقته ولا يعلم ما كنهه، إنما ذلك مثل ما يقع بين بعض الألحان وبعض وبعض الأصباغ وبعض من النسبة والتشاكل ولا يدرى من أين وقع ذلك.

3- إضاءة: ومن ذلك التسهل في العبارات وترك التكلف. والتسهل يكون بان تكون الكلم غير متوعرة الملافظ والنقل من بعضها إلى بعض وان يكون اللفظ طبقا للمعنى تابعا له جارية العبارة من جميع أنحائها على أوضح مناهج البيان والفصاحة. هذا إذا لم يكن المقصد إغماض المعاني. ومعرفة تفصيل هذا الإجمال تستفاد من أبواب قد قدمتها.

والتكلف يقع إما بتوعر الملافظ أو ضعف تطالب الكلم أو بزيادة ما لا يحتاج إليه أو نقص ما يحتاج، وإما بتقديم وتأخير، وإما بقلب، وإما بعدل صيغة عن صيغة هي أحق بالموضع منها، وإما بإبدال كلمة مكان كلمة هي أحسن موقعا في الكلام منها.

ومن هذا إبدال الضمير المخاطب من ضمير الغائب في مثل قول الشاعر: (الطويل -ق- المترادف)

فتاتان بالنجم السعيد ولدتما

وقول المتنبي: (الكامل -ق- المترادف)

قوم تفرست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام

وإما بتكرار، إما بالحيدة عن معنى تقصر العبارة عنه إلى معنى مؤد عن مثل تأديته تطول العبارة عنه.

4- تنوير: ومن ذلك إيثار حسن الوضع والمبني وتجنب ما يقبح من ذلك. فمن حسن الوضع اللفظي أن يؤاخى في الكلام بين كلم تتماثل في مواد لفظها أو في صيغها أو في مقاطعها فتحسن بذلك ديباجة الكلام.

وربما دل بذلك في بعض المواضع أو الكلام على آخره. ومن ذلك وضع اللفظ إزاء اللفظ الذي بين معنييهما تقارب وتناظر من جهة ما لأحدهما إلى الآخر انتساب وله به علقة، وحمله عليه في الترتيب. فإن هذا الوضع في تأليف الألفاظ يزيد الكلام بيانا وحسن ديباجة واستدلالا بأوله على آخره.

ومن قبح الوضع والتأليف أن تكون الألفاظ مع عدم تراخيها بعيدة أنحاء التطالب شتيتة النظم متخاذلا بعضها عن بعض كما قال: (الخفيف -ق- المترادف)

لم يضرها، والحمد لله، شيء ... فانثنت نحو عزف نفس ذهول

5- إضاءة: ومن ذلك ألا يزاد على قدر الحاجة من كل ما يستحسن وألا يجعل التمادي عليه سببا إلى السآمة له والغرض منه.

6- تنوير: وبقوة التهدي إلى العبارات الحسنة يجتمع في العبارات أن تكون مستعذبة جزلة ذات طلاوة. فالاستعذاب فيها بحسن المواد والصيغ والائتلاف والاستعمال المتوسط. والطلاوة تكون بائتلاف الكلم من حروف صقيلة وتشاكل يقع في التأليف ربما خفي سببه وقصرت العبارة عنه. والجزالة تكون بشدة التطالب بين كلمة وما يجاورها وبتقارب أنماط الكلم في الاستعمال. وسائرها يتعلق بالألفاظ المفردة من الشروط المذكورة التي تطرد الكلم بوجودها فيها أحسن اطراد.

فهذه إشارة إلى ما يجب أن يتفقده الناظم ويلتفت إليه، وعلى قدر قوته، من الجهات التي تحسن منها العبارات أو تقبح، قد أجملت الكلام فيها، وجعلتها كالإحالة على ما قدمته، مما يتعلق بالألفاظ وتأليفها في العبارات عن المعاني. من قابل هذا لإجمال بذلك التفصيل ظفر بالغبية والمراد إن شاء الله.

المنهج الثاني في الإبانة عن أنماط الأوزان في التناسب، والتنبيه على كيفيات مباني الكلام وعلى القوافي وما يليق بكل وزن منها من الأغراض، والإشارة إلى طرف من أحوال القوافي وكيفية بناء الكلام عليها وما تعتبر به أحوال النظم في جميع ذلك من حيث يكون ملائما للنفوس أو منافراً لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بمجازي الأوزان وأبنيتها وضروب تركيباتها ووضعها.

قد صح بالاعتبارات البلاغية في تناسب المسموعات وانتظامها وترتيباتها وكون المناسبات الوزنية جزءا يدخل تلك الجملة أن الوزان المستعملة الآن عند أهل النظم - مما ثبت استعمال العرب له وما شك في ثباته، وما لم يثبت أصلا بل وضعه المحدثون قياسا على ما وضعته العرب - متركبة من ثلاثة أصناف من الأجزاء خماسيات وسباعيات وتساعيات، وإن لم يتسلم في هذا العروضيون. وليس يجب أن يلتفت إلى تسليهم في ذلك ولا منازعتهم، فإنهم فقراء إلى أن يقتبسوا تصحيح أصول صناعتهم في هذه الصناعة؛ فإن معرفة صناعتهم موقوفة على معرفة جهات التناسب في تأليف بعض المسموعات إلى بعض ووضع بعضها تالية لبعض أو موازية لها في الرتبة.

ومعرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة الذي تندرج تحت تفاصيل كلياته ضروب التناسب والوضع، فيعرف حال ما خفيت به طرق الاعتبارات من ذلك بحال ما وضحت فيه طرق الاعتبار وتوجد طرقهم في جميع ذلك تترامى إلى جهة واحدة من اعتماد ما يلائم واجتناب ما ينافر.

1- إضاءة: ولنقل الآن مقالا مختصرا في تعديد التركيبات والأبنية الوزنية التي يصوغ أهل النظم في هذا الزمان الكلام عليها مما ثبت وضعه عن العرب وما لم يثبت وما شك في ثباته.

فنقول: إن الأوزان الشعرية منها ما تركب من أجزاء خماسية، ومنها ما تركب من أجزاء سباعية، ومنها ما تركب من أجزاء تساعية، ومنها ما تركب من أجزاء خماسية وسباعية، ومها ما تركب من أجزاء سباعية وتساعية، ومها ما تركب من خماسية وسباعية وتساعية.

2- تنوير: فأما ما تركب من الخماسية الساذجة، المتقارب. وبناء شطره على فعولن مكررا أربعا، نحو قول الأعشى همذان: (المتقارب -ق- المترادف)

تقادم عهدك أم الحلال

3- إضاءة: وأما ما تركب من السباعية الساذجة فإن الشطر فيها على ثلاثة أجزاء، وربما حذفوا الثالث منها أو بعضه.

فمن ذلك الرجز، وبناء شطره من مستفعلن ثلاث مرات، نحو قول جرير: (الرجز -ق- المتدارك)

أقلبن من فهلان أو جنبي خيم

ومنها الكامل، وبناء شطره على متفاعلن ثلاث مرات، نحو قول عنترة: (الكامل -ق- المتدارك)

طال الثواء على رسوم المنزل

ومنها الوافر، وأصل بناء شطره على مفاعلتن ثلاثا إلا أن السبب حذف من نهايتي شطره وأسكن ما قبله فبقي الجزء الثالث على فعولن، فصار تقدير الشطر: مفاعلتن، مفاعلتن، فعولن، نحو قول زهير: (الوافر - -ق المترادف)

لمن طلل برامة لا يريم

ومنها الرمل، وبناء شطره من فاعلاتن ثلاث مرات إلا أنه التزم فيه حذف سبب من جزء العروض - والعروض هي الجزء الذي في نهاية الشطر الأول من البيت - فصار تقدير أشطاره الأول، فاعلاتن، فاعلاتن، فاعلن، نحو قول نابغة بني شيبان: (الرمل -ق- المتدارك)

حل قلبي من سليمى نبلها

ومنها الهزج، وأصل بناء شطره مفاعيلن ثلاث مرات إلا أنه التزم فيه حذف الجزء الثالث من كلا شطريه، فصار مجموع الوزن مربعا وكلا شطريه مثنى على مفاعيلن، مفاعيلن، كقول الشاعر: (الهزج -ق- المترادف)

صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان

4- تنوير: وأما ما تركب من التساعية الساذجة فالخبب. وبناء شطره متفاعلتن متفاعلتن مرتان هكذا كقول بعض الشعراء الأندلسيين: (الخبب -ق- المتراكب)

أملت لقاءك في الحلم ... فزجرت العين فلم تنم

ويدخله الإضمار فيصير متفاعلتن في تقدير المتطرف لوقوعه في فيصير إلى مفعولاتن. وعلى هذا يجب أن يتأول التشعيب في الجميع لأن الوتد يصير بخبن السبب الذي قبله جزءا من فاصلة فيسكن رأس الوتد تخفيفا لأن الفواصل قد يستثقل توالي الحركات فيها. فهذا هو الرأي الصحيح في التشعيث. وبه أخذ من حقق من العروضيين إذ لا معنى لقطع الأوتاد في الحشد، لأن القطع في الأوتاد إنما قصد به تنويع الضروب، وإنما يكون ذلك في نهايات الأجزاء لا في صدورها. وهذا الوجه هو بعض الوجوه التي يتبين بها فساد رأى من جعل شطر الخبب مركبا من فاعلن أربع مرات، وزعم أن الخبن التزم في جميع أجزائه وجاز فيها القطع. ولا يلتزم خبن ولا يجوز قطع إلا في عروض أو ضرب. وإنما حملهم على هذا حرصهم على أن يجعلوا الخبب يساوق في ترتيب حركاته وسكناته المتقارب، فيكون نظام كل واحد منهما إذا وضعت له أشكال في الخط أو تصور في الذهن، ثم تأخرت عن مبدأ ذلك النظام إلى أول جزء يلي الجزء الأول الذي هو مبدأ النظام، فبدأت بأول الجزء الثاني واستمررت على جميع النظام ووصلت بآخره الجزء الذي فاتك منه أولا، حصلت بذلك بنية الوزن الآخر وهيأته. فيجعل العروضيون أحد العروضيين بذلك منفكا عن الآخر. وهذا من الأعراض الواقعة في الأوزان من غير قصد، إذ النظام الذي يكون من أجزاء متماثلة إذا ابتدأت برأس أي وتد أو سبب منه خرج لك وزن تام من أجزاء متماثلة، وإذ ابتدأت برأس أي وتد أو سبب منه خرج لك وزن متداخل من جزأين متغايرين، وإذا النظام الذي يكون شطره مؤتلفا من ثلاثة أجزاء شفع ووتر - قدم الوتر أو وسط أو أخر - إذا ابتدأت برأس أي وتد أو سبب منه خرج لك وزن قد ترتبت أجزاؤه شفعا ووترا على واحد ممن الترتيبات الثلاثة. فنشا من ذلك في النظام المركب أجزاء خماسية متماثلة وزنان، وفي المركب من جزأين متغايرين يعاقب أحدهما الآخر خمسة أوزان، وفي المركب شطره من جزأين متغايرين مكرر أحدهما تسعة أوزان.

وتوجد بعض هذه الأوزان متلائمة خفيفة، وبعضها متنافرة ثقيلة والتنافر والثقل يكون فيها لوجوه: منها أن تقع الأسباب الثقيلة والأوتاد المفروقة في نهايات الأجزاء التي هي مظان اعتمادات وتوقرات ومقاطع أنفاس، فيكون وقوع الحركات هنالك غير ملائم للنفوس وثقيلا عليها. وكذلك وقوع الفواصل في نهايات الشطور، فإنه مستثقل وليس منافراً.

ولذلك يحتمل وقوعها فيا لمقدار القصير والمتوسط نحو المقتضب والخبب ولا يحتمل وقوعها في الطويل نحو الوافر، ولاسيما وقد تكررت في الوافر ثلاثا ولم تقع في الخبب إلا مرتين. ومن تلك الوجوه التي يقع بها التنافر والثقل تشافع الأجزاء الطويلة في أوساط الأشطار ونهاياتها ووقوع الجزء المفرد صدرا، ومنها بناء الوزن على أجزاء كلها يقع الثقيل في نهايته والخفيف في صدره، وذلك مثل أن يركب شطر وزن على فاعلن أربع مرات.

فلهذه الأسباب وما جرى مجراها مما لا يتسع لذكره هذا الموضع اقتضى النظر البلاغي أن يعدل بكثير من تقديرات الأوزان عما قدر به العروضيون، إذ كانوا بطرق التناسب والتنافر حتى أنهم جزأوا كثيرا من الأوزان تجزئة وقعوا بها في حيز الوضع المتنافر. فلذلك حققنا في كل وزن تجزئته المتناسبة، وجعلنا شطر الخبب مبنيا من جزأين تساعيين كلاهما مركب من سبب ثقيل ووتد مفروق ووتد مجموع، إذ كانت القسمة تقتضي هذا الوضع اقتضاء ضروريا إذ كان تركيب الأجزاء من الأسباب والأوتاد لا يخلو من أن يكون بضم سبب إلى وتد فيكون الجزء من ذلك خماسيا، أو بضم سببين إلى وتد فيكون الجزء من ذلك سباعيا، أو بضم سبب إلى وتدين فيكون الجزء من ذلك تساعيا. فباستقصاء هذه القسمة تهدى إلى وضع عروض الخبب.

5- إضاءة: وإذ قد تبين هذا فينبغي لمن طمحت به همته إلى مرقاة البلاغة المعضودة بالأصول المنطقية والحكمية لوم تسفف به إلى حضيض صناعات اللسان الجزئية المبنية أكثر آرائها على شفا جرف هار ألا يعتقد في وزن من الأوزان أنه مفتقر في وضعه إلى أن يفك من نظام آخر، بل إنما يستنبط الوزن باستقصاء ضروب تركيبات الأسباب والأوتاد واستقصاء ضروب ما يتركب من الأجزاء المؤتلفة من تركيبات الأسباب والأوتاد، ثم يلزمه بعد الوضع أن يوجد وزن آخر أو أوزان سياق نظامها نظامه بان تجعل مبدأها من رؤوس الأسباب والأوتاد متأخرا عن مبدئه على ما تقدم. فلهذا وجب أن يعتقد أن هذه الانفكاكات التي لهذا الأعاريض من الدوائر أمور عارضة لا يفتقر في تصور ماهيات الأعاريض وحقائقها إليها، ولذلك لم يقل بها كثير من العروضيين. ومن أوردها فإنما أوردها على أنها ملحة عرضية لحقت الأوزان اتفاقا لا أنها حقيقة بنيت عليها الأعاريض وضعا واعتمادا. فلهذا يجب ألا يبلغ الحرص بالمتأدب على أن يستقصي جميع ما ينفك من كل دائرة ويروم أن يرد كثيرا من الأوزان إلى ذلك ولو بتجزئة متنافرة ثقيلة كما فعل ذلك العروضيون، بل يجب عليه أن يقدر كل وزن بالتجزئة المتناسبة اللائقة به سواء وجد ذلك الوزن بتلك التجزئة منفكا من بعض الدوائر التي قد وقعت فيها أوزان مستعملة أو وجد أمة وحده غير منفك من وزن مستعمل أو منفك منه وزن مستعمل. فقد بينا أن أكثر الدوائر تنفك منها أوزان غير ملائمة ولا خفيفة. وهناك أيضاً دوائر أخر لم يستعمل منها شيء. وهي عزيزة الإحصاء لكثرتها، إذ لكل تركيب من تركيبات الأسباب والأوتاد والجزاء المركبة منها دائرة تخصه.

وضروب التركيبات كثيرة جدا. وإنما استعملت العرب من جميع ذلك ما خف وتناسب وليس يوجد أصلا في ضورب التركيبات والوضع الذي للحركات والسكنات والأجزاء المؤتلفة من ذلك أفضل مما وضعته العرب من الأوزان. وإذا تصفحت ما قلته في ترتيب الحركات والسكنات والمسموعات المستطابة من ضروب ترتيباتها في مواضع قد تقدمت من هذا الكتاب عرفت صحة ذلك.

ولنرجع الآن ما كنا بسبيله من الإبانة عن ضروب التركيبات الوزنية.

6- تنوير: فإما الأوزان المتركبة من خماسية وسباعية فإن أصل البناء أشطارها على أربعة أجزاء. فمن ذلك الطويل، وشطره فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، نحو: (الطويل -ق- المترادف)

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

إلا أنهم التزموا حذف الخامس من جزء العروض وهو الجزء الرابع، فلا يثبتون الخامس الساكن إلا في التصريع المقابل لضرب تام، ويستقطعونه في جميع الأعاريض الواقعة في تضاعيف القصيدة، حيث لا تصريع على الصفة المذكورة. وذلك كقول امرئ القيس: (الطويل -ق- المترادف)

وهل يعمن إلا سعيد مخلد

فتقدير جزء العروض في هذا مفاعلن، بغير ياء، ويسمى حذف هذا الساكن الخامس القبض.

ومنها البسيط. وشطره مربع متداخل على نحو وضع الطويل، إلا أن الخامس فيه يسبق السابع، وذلك نحو قول النابغة: (البسيط -ق- المتراكب)

يا دار مية بالعلياء فالسند

وكان أصل شطوره: مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن، إلا أنهم التزموا الخبن، وهو حذف الثاني الساكن في فاعلن في جزئي العروض والضرب مع تصريع وغير تصريع.

ومنها المديد. وأصل بناء شطره على أربعة أجزاء إلا أنهم التزموا حذف جزء من عروضه وجزء من ضربه، وهو فاعلن. فصار الشطر: فاعلاتن فاعلن فاعلاتن، نحو قول مهلمل: (المديد -ق- المترادف)

يا لبكر، انشروا لي كليبا

ومنها المقتضب. وأصل بناء شطره: فاعلن مفاعلتن فاعلن مفاعلتن، إلا أن هذا ثقل لكثرة الأوتاد فيه والأسباب وتكرر الفاصلة ووقوعها في النهايات. وقد قدمنا أن ذلك مستثقل. فلهذا لم يستعملوه إلا منصوفا أي محذوف النصف من كل شطر. فهذا هو الصحيح الذي يشهد به السماع والقياس والقوانين البلاغية في اعتبار تناسب التركيبات، إذ الدليل يقوم على أنهم لم يوقعوا الوتد المفروق ولا السبب الثقيل في نهاية جزء خماسي ولا سباعي ولا فيما فوق ذلك، لأنا قد ذكرنا أن قانونهم ألا يضعوا الثقيل في النهايات ولاسيما في أواخر الأجزاء التي هي مظان اعتمادات وتوقرات وتقاطع أنفاس بوقفات خفية أو بينة عليهم أو روم لذلك وإيماء إليه، وأيضا فإن الزحافات لا تلتزم في غير تنويع الأعاريض الضروب، وقد لزم ذلك التجزئة التي قدر بها أهل العروض المقتضب ووقع ذلك في حشوها فدل على فساد رأيهم، وأيضا فإنهم يلزمهم أن يقابلوا بفعولات فاعلات على أنها من وضع التماثل حيث كان هذان الجزءان قد وضعا في صدر الشطر الأول وصدر الشطر الثاني على أن يتساوقا في الزمان ويتساويا في الترتيب.

وقد وضح في صناعة الموسيقى أن فعولات مضاد لفاعلات كما أن فعولن مضاد لفاعل، لأن الوضع فيهما متخالف، حيث كان أحدهما مفتتحا بمتحرك بعده ساكن ومختتما بساكن بعد متحركين، وكان الآخر مفتتحا بمتحركين بعدهما ساكن ومختتما بمتحرك بعده ساكن. فكانا لذلك متضادين. فكيف يوضع المتضادان وضع المتماثلين في ترتيب يقصد به تناسب المسموع والتنظير بين الأجزاء المتماثلة في الوضع وأن يجعل عمود اللحن؟.

فهذا ينبغي ألا يلتفت إلى ما وضعه أو غيره العروضيون أو الرواة من الأبيات التي تدفعها المقاييس البلاغية والقوانين الموسيقية والأذواق الصحيحة في هذا الوزن وغيره، ونحو ما غيروه من قول القائل: (المقتضب -ق- المتراكب)

جانا مبشرنا ... بالبيان والنذر

فيصيروه بتحريفهم وجهلهم بما يضمحل في أصول وضع الأوزان إلى هذا التغيير الفاسد وهو:

أتانا مبشرنا ... بالبيان والنذر

وذلك ليطر لهم رأيهم الفاسد في ما أثبتوه من التراقب الذي لا يصح ولا يثبت، إذ قد ظهر اضمحلاله في هذا الوزن واضمحلال التجزئة التي توجد فيها الأسباب مهيئة لإمكان وقوع ذلك فيها لولا انه شيء لا معنى له إلا إفساد الوزن والإخلال بوضعه والخروج به عن الوضع الملائم إلى الوضع المنافر بالجملة.

7- إضاءة: فأما المتركبة من السباعيات المتغايرة فبناء أشطارها على ثلاثة أجزاء مزدوجان ومفرد.

فمن ذلك ما تأخر في بناء المفرد كالسريع، وتجزئته الصحيحة التي تشهد بها القوانين البلاغية: مستفعلن مستفعلن فاعلان، نحو قول حسان: (السريع -ق- المترادف)

ما هاج حسان ربوع المغاني ... ومظعن الحي ومبنى الخيام

ودعوى العروضيين أن نظامه مأخوذ من دائرة المنسرح باطلة للوجوه التي تقدم ذكرها.

وليس الجزء الواقع نهاية كلا الشطرين من هذا الوزن بمحذوف من غيره ولا مغير من سواه وإنما هو مركب من سبب خفيف ووتد مجموع متضاعف لأن الأرجل التي تتركب منها أجزاء جميع الأوزان ستة أصناف: 1- سبب ثقيل وهو متحركان نحو: بم، لك، 2- وسبب خفيف وهو متحرك بعده ساكن نحو: من، عن، 3- وسبب متوال وهو متحرك يتوالى بعده ساكنان نحو: قال بتسكين اللام، 4- ووتد مفروق وهو متحركان بينهما ساكن نحو: كيف، أين، 5- ووتد مجموع وهو متحركان بعدهما ساكن نحو: لقد، 6- ووتد متضاعف وهو متحركان بعدهما ساكنان نحو: مقال بتسكين اللام.

فالسبب الثقيل والوتد المفروق لا يقع في نهاية جزء، وإنما يقعان في صدور الأجزاء وتضاعيفها. والسبب المتوالي والوتد المتضاعف لا يقعان إلا في نهايات الضروب والأعاريض المصرعة. والسبب الخفيف والوتد المجموع هما اللذان يقعان من صدور الأجزاء وأوساطها وأعجازها كل موقع.

8- تنوير: ويجب أن تعلم أن العرب استقصت القسمة في تركيب المقارنة بين بعض هذه الأرجل وبعض ووضعها في أوزان أخر غير متقارنة فاعتمدت من ذلك في كل وزن ما كان مناسبا للوضع الخاص به. فبنوا أكثر الأعاريض من أكثر هذه الأرجل تصرفا، وهي الأسباب الخفيفة والأوتاد المجموعة: فمما بنوه على ذلك من الأعاريض: الطويل والبسيط والمديد والمتقارب والرجز والهزج والرمل.

ومما بنوه من الأسباب الثقيلة والخفيفة والأوتاد المجموعة: الوافر والكامل.

ومما بنوه من الأسباب الثقيلة والأوتاد المجموعة والمفروقة: الخبب.

ومما بنوه من الأسباب الثقيلة والخفيفة والأوتاد المجموعة والمفروقة: المقتضب، على ما بيناه قبل.

ومما بني على الأسباب الخفيفة والأوتاد المجموعة والمفروقة والمضاعفة الضرب الأول من المجتث. وقد غاب عن العروضيين كونه من المجتث وجعلوه ضربا ثالثا من البسيط وقد روا شطر الضرب منه: مستفعلن فاعلن مستفعلان، مقاييس البلاغة تقتضي أن يكون تقديره: مستفعلن فاعلاتن فاعلان، لوجوه يطول ذكرها. ومنها: أن زيادة المدة في مستفعلان في البسيط لا معنى لها، ومنها أن التجزئة التي قد روابها المحتث- وهي أن يكون أصل شطره: مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن - خارجة عن القوانين التي اعتمدتها العرب في تركيب أوزانها، فإنهم لم يضاعفوا جزءا سباعيا في ما يلي نهايات الأشطار لما قدمناه من استثقال ذلك. وإنما وقع لهم مضاعفا فيا لنهايات وما يليها الخماسي لأنه أخف، نحو العروض المجزوءة المحذوفة من المديد وتقديرها: فاعلاتن فاعلن فاعلن. فلهذا جعلنا نحن تقدير شطر الضرب الأول من المحتث: مستفعلن فاعلاتن فاعلان. فيكون تركيبه على هذا من جزء مفرد وجزأين متضارعين وقع أخفهما في النهاية.

وهذا النحو من الوضع من جملة التركيبات المتناسبة. وهناك ضروب جعلوها من مقصرات البسيط، ويمكن أن ترد إلى هذا، وهي به أليق لأن مجاريها أوفق بمجاريه لأن الخبن في فاعلن من البسيط يحسن ما لا يحسن في تلك المقصرات، فلهذا كانت أنسب إلى المجتث. وأيضا فإن الطويل والبسيط عروضان فاقا الأعاريض في الشرف والحسن وكثرة وجوه الوضع، فإذا أزيل عنهما بعض أجزائهما ذهب الوضع الذي به حسن التركيب وتناهى في التناسب فلم يوجد لمقصراتها طيب لذلك. وغيرهما من الأعاريض قد يوجد في مقصراته ما يكون أطيب منه. فلما كانت مقصرات الطويل والبسيط تنحط عن درجة الوزن التام في ذلك انحطاطا متفاوتا كان لإهمال تلك المقصرات وجه من النظر إذ كانت الأوزان التامة كالآباء وهذه المقصرات المقتضبة كالأبناء. وإذا لم يلد الكريم كريما كان أحسن له أن لا يلد. لكن الناس قد نسبوا الوزن الذي صلح عندنا أن يكون ضربا ثانيا من المجتث إلى البسيط، فلنسامحهم في ذلك. وحكم مخلع البسيط الذي تجيء نهاياته على مثال مفعولن هذا الحكم. وكلاهما صالح أن ينسب إلى المجتث.

فأما الوزن المضارع لهذا المخلع وهو الذي اعتمد المحدثون إجراء نهاياته على مثال فعولن، فليس راجعا إلى واحد من هذه الأوزان. وإنما هو عروض قائم بنفسه مركب شطره من جزأين تساعيين على نحو تركيب الخبب وتقديره: مستفعلاتن مستفعلاتن، وكأنهم يلتزمون حذف السين من الجزء الثاني لأن السواكن في كل وزن إذا توالى منها أربعة ليس بين كل ساكن منها وساكن إلا حركة تأكد حذف الساكن الثالث وحسن الوزن بذلك حسنا كثيرا.

فمما ورد من ذلك محذوف الساكن قول علي بن الجهم: (اللاحق -ق- المترادف)

بسر من را إمام عدل ... تغرف من جوده البحار

لم تأت منه اليمين شيئا ... إلا أتت مثله اليسار

ومما جاء على أصل الوزن قول بعض الأندلسيين: (اللاحق -ق- المترادف)

وحي عني إن فزت حيا ... أمضى مواضيهم الجفون

وقول أبي بكر بن مجبر: (اللاحق -ق- المترادف)

إن سل سيفا بناظريه ... لم تر فينا إلا قتيلا

فمثل هذه النون من قوله (إن فزت) مقبولة في الذوق، وإن كان حذفها أخف. فواجب أن تجعل تجزئة الوزن بحسب ما وجد مقبولا فيه لتسلم أقاويل كثير ممن يوثق بصحة ذوقه من الكسر، لأنه كالمستحيل عليهم. فإن طباعهم لا تقبل ذلك إلا وله وجه. وليس يمكن أن يقع هذا الساكن في مثل قوله: (اللاحق -ق- المترادف)

أقفر من أهله ملحوب

لأن اجتماعها مع اللام في قوله ملحوب لا يقبله الذوق إذا كانت السواكن في ذلك الوزن الذي لا يثبت فيه مثل اللام الساكنة في ملحوب قد تناهت في الكثرة، فكانت أربع أخماس المتحركات، ولا يمكن أن تكون نسبة السواكن من المتحركات أكثر من هذا. فلهذا اقتضى النظر البلاغي أن يجعل وزنا برأسه. وليس أخذ هذا الوزن عن العرب يثبت بل هو مثل الخبب في ذلك.

9- إضاءة: وقد فصلوا أيضاً في بعض مقصرات الأوزان أن يوقعوا فيها من اقترانات الأسباب والأوتاد ما لم يوقعوه في مطولاتها.

فمن ذلك اقتران السببين الثقيل والخفيف والوتد المجموع والمضاعف في الضرب السادس من الكامل. وهو الذي آخر أجزائه متفاعلان، واقتران الوتد المجموع والسبب الخفيف والسبب المتوالي في الرمل في الضرب الذي آخر أجزائه فاعليان.

10- تنوير: ولنرجع إلى ما كنا شرعنا فيه من الكلام في الأوزان المتركبة من السباعيات المتغايرة فنقول: إن عروض السريع وعروض كل وزن كانت غاية ضربه سببا متواليا أو وتدا متضاعفا بان ترد السبب والوتد إلى أصليهما بحذف الساكن الأخير من كليهما.

11- إضاءة: ومن تركيب السباعيات المتغايرة ما يتوسط فيه المفرد ويتطرف الجزءان المتماثلان كالخفيف، وتقدير كلا شطريه: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن، نحو قول أبي دهبل: (الخفيف -ق- المترادف)

صاح حي الإله أهلا ودارا ... عند أصل القناة من جيرون

فأما ما يتقدم فيه المفرد على المزدوجين فمهمل في أوزان العرب، لأن الجزأين المتكررين أثقل من المفرد. فالصدر أولى بهما على قياساتهم، وتصدير الأشطار أيضاً بما يظهر فيه التناسب أولى من تصديرها بما لا يظهر فيه تناسب. ولهذا ولاعتبارات أخر أيضاً أهملوا هذا الضرب من الأبنية الوزنية.

وقد وضع بعض الشعراء الأندلسيين على هذا البناء وزنا إلا أنه جعل الجزأين المزدوجين خماسيين فرارا من الثقل الواقع بتشافع السباعيين في النهاية، فكان التشافع في ذلك الوضع أخف في الخماسي وذلك قوله: (المديد -ق- المتدارك)

أقصر عن لومي اللائم ... لما درى أنني هائم

تقدير شطره: مستفعلن فاعلن فاعلن.

وقد تقدم أن من مقصرات المديد ما يصير إلى هذا الوضع أعني الوضع الذي يصدر الشطر فيه بالجزء المفرد ويعقب بالجزأين المتشافعين.

12-تنوير: فأما المتركب من سباعي وتساعي فهو من وضع المتأخرين من شعراء المشرق. جعلوا الجزء المفرد فيه تساعيا والمتشافعين سباعيين، فقدموا التساعي وتلوه بما يناسبه من السباعيات، وجعلوه الجزء الثاني من السباعيين في أكثر استعمال - وهو المستطاب في الذوق والأحسن في الوضع - ينقص عن الأول ليكون كل واحد من الجزاء أخف مما قبله. وتحرروا في ذلك أن يكون كل جزء مناسبا لما قبله، وذلك هو الوزن الذي يسمونه الدبيتي وشطره المستعمل: مستفعلتن مستفعلن مفتعلن، نحو قول القائل: (الدبيتي -ق- المتراكب)

هذا ولهي، وقد كتمت الولها ... صونا لحديث من هوى النفس لها

يا آخر محبتي ويا أولها ... أيام عنائي فيك ما أطولها

وقد يجيء الجزء الأخير على مستفعلن، وهو الأصل، ولكن في الأقل. ويستعمل أيضاً مقطوعا فيصير مستفعلن إلى مفعولن نحو قول بعضهم: (الدبيتي -ق- المترادف)

ما أشوقني إلى نسيم الرند ... يشفي كمدى، إذا أتى من نجد

ويشعثون الفاصلة التي في الجزء الأول فيصير مستفعلتن إلى مفعولاتن، نحو قوله: (الدبيتي -ق- المترادف)

شوقي شوقي به ووجدي وجدي

13 - إضاءة: فأما المتركب من خماسي وسباعي وتساعي فبنته العرب على أن تكون النقلة فيه من الأثقل إلى الأخف ومن الجزء إلى ما يناسبه فبدأوا بالتساعي وتلوه بسباعي يناسبه وتلوه بخماسي يناسب السباعي، والتزموا الخبن في الضرب وهو جزء القافية. وهذا الوزن هو المنسرح. وبناء شطره: مستفعلاتن مستفعلن فاعلن. والخبن في فاعلن في العروض أحسن.

14- تنوير: فالأوزان التي ثبت وضعها عن العرب أربعة عشر وزنا. وهي: الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والكامل، والرجز، والرمل، والهزج، والمنسرح، والخفيف، والسريع، والمتقارب، والمقتضب، والمجتث. وإن كان المقتضب والمجتث لي لهما تلك الشهرة في كلامهم.

والذي يشك في وضع العرب له الخبب.

والذي لم يثبت للعرب أصلا بل هو من وضع المحدثين الوزن الذي يسمى الدبيتي، ولا بأس بالعمل عليه، فإنه مستطرف ووضعه متناسب.

15- إضاءة: فأما الوزن الذي سموه المضارع، فما أرى أن شيا من الاختلاق على العرب أحق بالتكذيب والرد منه، لأنه طباع العرب كانت أفضل من أن يكون هذا الوزن من نتاجها. وما أراه أنتجه إلا شعبة بن برسام خطرت على فكر من وضعه قياسا. فيا ليته لم يضعه ولم يدنس أوزان العرب بذكره معها، فإنه أسخف وزن سمع، فلا سبيل إلى قبوله ولا العمل عليه أصلا.

16- تنوير: فعلى ما قدمته من ضروب تقادير التجزئة في الأوزان العربية والملحقة بها والمشكوك في كونها عربية أو ملحقة يجب أن يعتمد؛ فإن استيفاء قسمة الوضع المتناسب في الأوزان يقتضي أن تكون تقديرات هذه الأوزان على النحو الذي ذكرته وأن تكون تجزئتها على الصفة التي قدمتها.

فمن كان له أدنى بصيرة لم يتخالجه الشك في أن الصحيح ما ذكرته لاستناد ما قلته إلى علم اللسان الكلي الذي لا تتبين أصول علوم اللسان الجزئية ومباديه إلا فيه، ولكون علم اللسان الكلي منشأ على أصول منطقية وآراء فلسفية موسيقية وغير ذلك. فلذلك كان كلامنا في ذلك أهلا لأن يوثق به ويركن إليه.

17- إضاءة: وأكثر الأوزان التي ذكرتها تتنوع أعاريضها وضروبها. وذلك إما أن يكون بحذف جزء برأسه، أو بحذف ساكن من وتد أو سبب متطرف في جزء العروض أو الضرب وإسكان ما قبله، أو بحذف ساكن ضوعف به سبب أو وتد، أو بحذف الوتد أو السبب رأسا، أو بإسكان ما قبل الوتد أو السبب بعد حذفه، أو بالتزام بعض الزحافات في جزأي العروض والضرب، أو بزيادة سبب على جزء الضرب ويسمى ذلك ترفيلا، أو بزيادة ساكن مصوت قبل آخر حرف من جزء الضرب ويسمى ذلك إسباغا وإذالة.

18- تنوير: ووقوع هذه العلل والتغايير في عروض عروض وضرب وضرب من أعاريض الوزان التي قدمت ذكرها وضروبها على التفصيل يعرفها من تلقاء نفسه من له ذوق صحيح وحصل له قسط مقنع من الاستقراء وشد مع ذلك شيئا من هذه الصناعة. ومن لم يكن له ذوق، فإنهم حصروا عامة ما نوعت العرب إليه نهايات الأشطار من أبنية أوزانها من الأعاريض والضروب.

فإن هذه الصناعة لا يليق بها أن تخرج إلى محض صناعات اللسان الجزئية، وأن تستقصى فيها تفاصيل تلك الصناعات. وإنما نتكلم من ذلك في ما له علقة بصناعة البلاغة أو في ما عسى المتكلم في هذه الصناعة أن يستطرد إليه من ذلك. وأكثر ما يتكلم البليغ أيضاً من ذلك في قوانين كلية يمكن أن تستنبط منها أشياء في نصاعات اللسان الجزئية. فلهذا وكلنا ذكر ما وقع من تغيير تغيير في عروض عروض وضرب ضرب من وزن وزن لصاحب صناعة العروض. فليتصفح هنالك، وبالله التوفيق.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بما وقع في أوزان العرب من ضروب التركيبات المتلائمة، وأنواع الترتيبات المتناسبة، وما لوحظ فيها مما حسن عندهم أن يهيئوا بهيئته، وبمقدار ما أوقعوه في وزن وزن من ذلك.

لما كان جميع ما يدركه الإنسان لا يخلو من أن يكون شيئا بسيطا لا تنوع فيه أصلا أو يكون له تنوع من جهة ما يكون من الأشياء المركبة، وكانت شيمة النفس التي جبلت عليها حب النقلة من الأشياء التي لها بها استمتاع إلى بعض، كانت جديرة أن تسأم التمادي على الشيء البسيط الذي لا تنوع فيه بنقلها من شيء إلى شيء ما لا تسأم الشيء الذي له تنوع يمكنها معه المراوحة بين تأمل الشيء وتأمل غيره مما يكون تنوع ذلك الشيء إليه، وإن كانت أيضاً تحب النقلة من الشيء المتنوع إلى غيره من المتنوعات لكنها تحتمل من التمادي عليه ما لا تحتمل من التمادي على ما تنوع له أصلا.

1- إضاءة: وكلما وردت أنواع الشيء ضروبه مترتبة على نظام متشاكل وتأليف متناسب كان ذلك أدعى لتعجيب النفس وإبلاغها بالاستماع من الشيء، ووقع منها الموقع الذي ترتاح له.

فلهذا كانت المتحركات والسواكن إذا ركبت منها أجزاء أول، اعني أنها في أول تركيب إلا لا تنحل إلا إلى جزأين بسيطين أو إلى بسيط ومركب في أدنى تركيب - وهذه هي الأسباب والأوتاد - ثم ألف من ضم بعض تلك الأجزاء إلى بعض على الأنحاء المتناسب ثم وضعت في مقادير من المسوعات، تحتمل منها: أربعة أجزاء خماسية أو خماسيين وسباعيين، أو ثلاثة أجزاء سباعية أو سباعيين وسداسيا أو تساعيا وسباعيين أو تساعيا وسباعيا وخماسيا، أو جزأين ثمانيين، أو تساعيين. ونسق في ذلك بعض المتماثلات على بعض أو قورن بين الجزء وما يضارعه على نحوين من الوضع: 1- أحدهما أن يضاعف كلاهما ويراوح بينهما في الوضع فيرد أحدهما أبدا عقب الآخر، فتكون لأحدهما المراتب الأفراد أبدا، مثل أن يقع أولا وثالثا وخامسا وسابعا، وتكون للآخر المراتب الأزواج بأن يقع ثانيا ورابعا وسادسا وثامنا، وذلك نحو الطويل والبسيط.

2- والآخر أن يوضع أحد المتضارعين متكررا والآخر مفردا، فيقدم المتشافعان على المفرد، أو يوسط المفرد بينهما، أو يؤخران ويقدم المفرد. وهذا الوضع الأخير لم يقع للعرب إلا في فروع الأوزان دون أصولها، لأن هذا الوضع بالنسبة إلى ما قبله قليل التناسب: إذ لا استفتاح فيه بغير مظنة التناسب، وإذ الأثقل فيه موضوع طرفا، وإذ هو من بناء الكثير على القليل، وبناء القليل على الكثير أنسب، اللهم إلا إذا كان الجزء المضاعف يقصر على الجزء المفرد الذي بني عليه، فإن ذلك يستساغ.

وعلى هذا النحو استعملت العرب في فروع أوزانها هذا الوضع. وعلى ذلك قيس ما وضع من الأوزان المحدثة، فضوعف فيه السباعي بعد التساعي، أو وضع ذلك على نحو لا ينسق فيه بعض المتماثلات على بعض ولا يراوح بين جزء يورد متكررا في مواضع غير متصلة وبين جزء مضارع له يورد أيضاً متكررا في المواضع المتخللة لمواضع الآخر، ولا يضاعف فيه أحد الجزأين ويفرد الآخر؛ بل يكون الموضع بالاطراد من بعض المتضارعات إلى بعض والانحدار فيها من الأثقل إلى الأخف والاستمرار في ثلاثة الأجزاء على هذا التدريج.

وقد يقع نقلة الترقي المضادة لهذا الوضع فيا لمضارعات أيضاً تناسب في الوضع وحسن مسموع، ولكن في بعض الاقترانات لأسباب موجبة لذلك قد ذكرناها في غير هذا الموضع.

2- تنوير: والتضارع بين الأجزاء هو أن يكون ترتيب جزء ما يماثل ترتيب صدر جزء نحو فعولن ومفاعيلن، أو يماثل ترتيب الجزء ترتيب عجز جزء آخر نحو فاعلن ومستفعلن، أو تكون نسبة صدر الجزء إلى صدر الجزء فيما ينقص عنه نسبة عجزه إلى عجز الآخر أيضاً فيما ينقص عنه نحو فاعلن ومفاعلتن، أو يكون صدر أحدهما يماثل صدر الآخر أو يماثل عجزه عجزه أو صدره عجزه أو عجزه صدره.

والجزء المضاد للجزء هو الذي يكون وضعه مخالفا لوضعه نحو مستفعلن ومفاعيلن. فإن الوتد في أحدهما مقدم على السببين، وفي الآخر مؤخر عنهما، ومثله مفاعلتن ومتفاعلن.

والمنافر هو الذي لا يضارع ولا يضاد وذلك بألا يكون بين الجزأين تقارب في الترتيب ولا تضاد فيه نحو متفاعلن ومفاعيلن.

فالتركيبات المتناسبات إنما تكون باقتران المتماثلات والمتضارعات ولا يقع في اقتران المتضادات والمتنافرات تركيب متناسب أصلا. وقد يكون الجزء مضادا للآخر من وجه، مضارعا له من وجه آخر، مثل فاعلن وفعولن، فإنهما وإن تضادا من جهة الوضع بان قدم في أحدهما ما أخر في الآخر، فقد ضارع أحدهما صاحبه من جهة أن صدره مماثل لعجزه.

ويشترط في التضارع مساواة أكثر الجزأين. فإن كان في جزء يسير منهما أو من أحدهما لم يعتد به. وأحسن التركيب ما وضع فيه أحد المتضارعين مما يلي الحيز الذي ضارعه من صاحبه نحو وضع الطويل والبسيط. ولهذا رفض مقلوب وضعهما لأن الجزء فيه ليس موضعا مما يلي الجزء الذي ضارعه من صاحبه.

3- إضاءة: فإذا وضعت مقادير من المسموعات مؤلفة من الأجزاء المتقدمة الذكر على الأنحاء الخمسة التي وضعت عليها العرب أبنية أوزانها - وهي: 1- الوضع الذي تتسق فيه المتماثلات نحو المتقارب، 2- أو الذي تتداخل فيه المتضارعات نحو الطويل، 3- أو الذي يتقدم فيه المتشافعان على المفرد نحو السريع، 4- أو الذي يتوسط فيه المفرد بين المتشافعين نحو الخفيف، 5- أو الذي تتسق فيه المتضارعات نسق انحدار؛ وعلى ما يناسب من الوضعين الباقيين، وهو: 1- تقديم المفرد على المتشافعين، 2- ونسق المتضارعات نسق ارتقاء؛ وربعت الخماسيات في نسق المتماثلات في الشطر الموزون وثلثت السباعيات فيه وثنيت الثمانيات والتساعيات في ذلك وربعت المتداخلات من الخماسيات والسباعيات وثلثت الواقعة بتشافع وإفراد، وكذلك المتضارعات أي عدد كانت - كان ذلك مسموعا متناسبا من شأن النفس أن تستطيبه ويداخلها التعجب من تأتي نسقه واطراد هيئاته وترتيباته المحفوظة.

ويسمى ما كان على هذه الصفة شطر بيت. فإن أردف مقدار موضوع على بعض تلك الأنحاء قد تهيأ بتلك الهيأة التي تستطيبها النفس وتستبدعها بمقدار آخر يساويه في الوضع والتراتيب زادت النفس ابتهاجا بذلك أحسن موقع وأكمله مناسبة. وهذا المقدار المجموع من المقدارين هو المسمى بيتا.

4- تنوير: ولما كان أحق البواعث بأن يكون هو السبب الأول الداعي إلى قول الشعر هو الوجد والاشتياق والحنين إلى المنازل المألوفة وألا فها عند فراقها وتذكر عهودها وعهودهم الحميدة فيها، وكان الشاعر يريد أن يبقي ذكرا أو يصوغ مقالا يخيل فيه حال أحبابه ويقيم المعاني المحاكية لهم ف الأذهان مقام صورهم وهيآتهم ويحاكي فيه جميع أمورهم حتى يجعل المعاني أمثلة لهم ولأحوالهم أحبوا أن يجعلوا الأقاويل - التي يودعونها المعاني المخيلة لأحبابهم المقيمة ف الأذهان صورا هي أمثلة لهم ولأحوالهم - مرتبة ترتيبا يتنزل من جهة موقعه من السمع منزلة ترتيب أحويتهم وبيوتهم. ويوجد فيوضع تلك بالنسبة إلى ما يدركه السمع شبه من وضع هذه بالنسبة إلى ما يدركه البصر. فقد تقدم أن المسموعات تجري من الأسماع مجرى المرئيات من البصر، وتوجد لحال حال من هذه أشياء من حال حال من تلك. فقصدوا أن يحاكوا البيوت التي كانت أكنان العرب ومساكنها، وهي بيوت الشعر، لكونهم يحنون إلى أدكار ملابسة أحبابهم لها واستصحابهم لها واشتمالها عليهم بالأقاويل التي يقيمون المعاني المنوطة بها في الأذهان مقام صورهم وهيآتهم ويجعلونها أمثلة لهم ولأحوالهم. فيكون اشتمال الأقاويل على تلك المعاني مشبها لاشتمال الأبيات المضروبة على من قصد تمثيله بها وأن تجعل تذكرة له. ويكون ما بين المعنى والقول من ملابسة مثل ما كان بين الساكن والمسكن. ومتى أمكن أن يهيء الشيء الذي يجعل تذكرة لشيء آخر ويقصد به تمثيله في الأفكار بهيأة تشبه هيأة ذلك الشيء المقصود تذكرة من وجوه كثيرة يتسق بها الشبه كان أنجع في التحريك إليه والانصباب في شعب الولوع به.

5- إضاءة: ولما قصدوا أن يجعلوا هيئات ترتيب الأقاويل الشعرية ونظام أوزانها متنزلة في إدراك البصر تأملوا البيوت فوجدوا لها كسوار وأركانا وأقطار وأعمدة وأسباب وأوتادا.

فجعلوا الجزاء التي تقوم منها أبنية البيوت مقام الكسور لبيوت الشعر.

وجعلوا اطراد الحركات فيها الذي يوجد للكلام به استواء واعتدال بمنزلة أقطار البيوت التي تمتد في استواء.

6- تنوير: ولما كانت الأوتاد: منها ما ثباته ضروري في إمساك الخباء وتحصينه، ومنها ما في ثباته تحصين ما وقد تحتمل إزالته، جعل الخليل الضروريات من السواكن أوتادا وجعل غير الضرورية أسبابا. والأحسن أن يقال: إن هذه وتلك أوتاد، لكن ثبات إحداهما ضروري في حفظ بنية البيت، فهو بمنزلة الوتد الذي لا بد منه في الخباء، وثبات الأخرى ليس ضروريا في حفظ بنية البيت بل يستقل البيت به ودونه، فهي بمنزلة الأوتاد التي تستعمل في إمساك جوانب البيوت وقد يستغنى عنها.

وفي الأسباب ما لا يمكن الاستغناء عنه كألف متفاعلن مع السلامة من الإضمار ونون مفاعلتن مع السلامة من العصب. فسواكن هذه الأسباب مع سلامة الأجزاء ضرورية الثبات في حفظ بنية الوزن، فهي جارية مجرى الأوتاد بل هي أوتاد كما قلناه. وكأن حركة ما قبل كل وتد منها سبب له، ولكن الخليل سمى كل حركة وساكن مقترن بها لا يعتمد عليه في أكثر المواضع سببا، فإذا اعتمد على ساكن بعد متحركين أو بينهما سمي مجموع ذلك وتدا. ولا تشاح في الألفاظ كما أنه لا حرج على من عدل عما تقتضيه تلك الأسامي في المسميات إذا أراد الإفصاح عن جهات مشابهاتها لما نقلت إليها منه التسمية والتمثيل الصحيح في ذلك.

7- إضاءة: ولنقل الآن في كيفية تركب الأسباب والأوتاد من المتحركات والسواكن، وكيفية تركب الأجزاء منها، وفي كيفيات مواقع هذه وتلك مطردة وغير مطردة في الوزان، وكيف تتهيأ أجزاء المسموعات التي تقع فيها بالتقاذف بها إلى شتى ترتيباتها بالهيآت التي تصير بها متشكلة بأشكال الأبيات المضروبة.

فأقول: إنه إذا تركبت حركتان كان ذلك سببا ثقيلا نحو لك، لم، فإن زدت عليه ساكنا كان وتدا مجموعا نحو لقد، فإن زدت على ذلك ساكنا ثانيا صار الوتد مضاعفا نحو مقال مسكن اللام، فإن تركب متحرك مع ساكن كان ذلك سببا خفيفا نحو قد، فإن زدت عليه ساكنا ثانيا كان سببا متواليا، فإن زدت على السبب الخفيف الذي لم يتوال متحركا كان وتدا مفروقا نحو كيف.

8- تنوير: فالسبب الخفيف والوتد المجموع يقعان كل موقع من أوائل الأجزاء وأوساطها وأواخرها. والسبب الثقيل والوتد المفروق لا يقعان إلا في أوائل الأجزاء وأوساطها. والسبب المتوالي والوتد المضاعف لا يقعان إلا في نهايات أجزاء الضروب ومصرعات الأعاريض. وأسباب ذلك معروفة مما تقدم.

9- إضاءة: وبعض هذه الأجزاء يتركب مع بعض على الإطلاق وذلك الأسباب الخفيفة مع الأوتاد المجموعة والمفروقة.

ومنها ما لا يتركب أحدهما مع الآخر في خماسيات الجزاء وسباعياتها ويتركب فما فوق ذلك، وذلك كالأسباب الثقيلة والأوتاد المفروقة. ولا تتركب معها إلا متقدمة عليها كما أن الأسباب الثقيلة أيضاً لا تتركب مع الأوتاد المجموعة إلا متأخرة عنها.

ومنها ما لا يتركب مع جميع الأجزاء إلا متأخر عنه. ومنها السبب المتوالي والوتد المتضاعف. ولا يتركب أحدهما مع الآخر. وتسمى هذه الأجزاء الأرجل.

10- تنوير: ولا يخلو التركيب من أن يكون من رجلين سبب ووتد، فيكون الجزء المركب منهما خماسيا إن لم يكن هناك سبب متوالي أو وتد متضاعف، فإن الجزء يكون مع كليهما على ستة أحرف، وكذلك ينفسان جميع الأجزاء إذا وقعا في نهاياتها؛ أو يكون من ثلاثة أرجل ولا يخلو ذلك من أن يكون من سببين ووتد فيكون الجزء سباعيا، أو من سبب ووتدين فيكون الجزء ثمانيا؛ أو يكون من أربعة أرجل فيتركب منها ثلاث تركيبات: 1- سبب وثلاثة أوتاد - وهو تركيب مستثقل غير ملائم، 2- وسببان ووتدان والتركيب منهما ينحل إلى الخماسيات، 3- وتركيب لا يستثقل المتناسب منه ولا ينحل إلى غيره، فالقياس يوجب إثباته وقبوله وهو تساعي نحو مستفعلاتن.

11- إضاءة: ولنقل الآن في ما قصدوه في وضع الأبنية الشعرية من حيث جعلوا اطراد الحركات في الأوزان واستقامة جرية اللسان عليها واستواء الكلام بها بمنزلة امتداد أقطار البيوت واستقامة واستوائها، وجعلوا السواكن مطردة بمنزلة الأركان.

فأقول: إن أقل ما يعد من توالي المتحركات قطرا المتحركان، فإنه القطر الأصغر. فأما الحركة بين ساكنين فإنها كالفرجة بين طنبين، ويليه القطر الأوسط وهو ثلاثة متحركات، ثم القطر الأكبر وهو أربعة متحركات، وهو أقصى ما يوجد عليه اطراد الحركات في الأوزان. وأقل ما يعد من السواكن ركنا الواحد ثم لاثنان ثم الثلاثة ثم الأربعة وهي أقصى ما يوجد من اطراد السواكن في الأوزان.

12- تنوير: ولا تستحسن الأركان والأقطار التي تناهت إلى هذا الحد، بل الواجب أن يحذف ثالث السواكن من هذه ويثبت ما يفصل في تلك بين بعض المتحركات وبعض بإعادة السواكن المحذوفة من أثناء ذلك لأن المتحركات لا تنتهي إلى أربعة في الأوزان على اطراد ونسق إلا بحذف بعض السواكن.

13- إضاءة: ويجب أن تعلم أن أبيات الشعر، وإن كانت أوائلها منفصلة عن أوائلها، فإن النظام فيها في تقدير الاتصال على استدارة إذ كان وضع الأوزان الشعرية وترتيبها ترتيبا زمانيا لا يمكنك فيه أن ترجع بالنهاية إلى زمان المبدأ بل تكون بينها فسحة من الزمان ولابد. وترتيب البيت المضروب ترتيب مكاني إذا بدأت بأي موضع شئت منه ثم درت عليه تأتى لك أن ترجع إلى الموضع الذي بدأت منه بنقلة مستديرة على اتصال من غير أن كون بين المبدإ والنهاية فسحة. والأوزان وإن لم يكن أن يعاد بالنهاية فيها إلى زمان المبدإ فإنها في تقدير ذلك، إذ نسبة سرد الشطر الأول من أي بيت وقع تاليا لبيت بعد الانتهاء إلى قافية البيت المتقدم وإعطاء كل متحرك وساكن منه حقه من التلفظ نسبة سرد الشطر الثاني وإعطاء متحركاته وسواكنه حقوقها من التلفط بعد الانتهاء إلى مقطع الشطر الأول. فلذلك يجب أن يجعل ساكن القافية الأخير مع ما يتقدمه من السواكن أو يتلوه من ذلك في أول البيت التالي له أو على حدته ركنا فاصلا بين ما وقع في صدر جزء القافية الذي هو فيها من اطراد المتحركات الذي هو بمنزلة بعض أقطار البيت التي تمتد بين بعض أركانه وبعض وبين ما وقع من ذلك في صدر الجزء المفتتح به البيت الذي يليه أو وسطه أو آخره.

14- تنوير: فتجد على هذا أركان الأبيات الباقية على وضعها الأصلي مزدوجة إذ التي في الشطر الأول منها مساوية للتي في الشطر الثاني في العدد. ولا ينقص أحدهما عن الآخر في ذلك إلا بتغيير. فأقصى ما نجدهم بنوا عليه أشطار البيوت ستة أركان. فيكون لمجموع البيت على ذلك اثنا عشر ركنا، وذلك في الكامل وحده لأن بناء شطره من متفاعلن ثلاث مرات، ثم يقطعونه فيصير إلى أحد عشر ركنا ثم يصير بوقوع الحذذ في الأعاريض والضروب إلى عشرة أركان مع السلامة من الإضمار وإلى تسعة بالإضمار.

ويليه في ذلك المربعة الأشطار، كالطويل والبسيط والمتقارب، فإن في كل جزء منها ركنا، فكل واحد منها ثمانية أركان، وتصير أركان الطويل والبسيط بالزحاف إلى اثني عشر. والخبب مثل المربعات الأشطار في أنه مبني على ثمانية أركان.

فأما السباعيات الجزاء المثلثة الأشطار مما لم يقع فيه سبب ثقيل فهي مبنية على ستة أركان، وتصير بإعلالات الضروب إلى خمسة.

ومما بني على أربعة أركان الوزن الذي قدمت أن المحدثين هم الذين علم من أقوالهم، ولا يبعد أن يكون من وضع العرب فإنه متناسب الوضع، فيجب أن يلحق بما يستعمل من الوزان ولنصطلح على تسميته باللاحق، لهذا المعنى. فقد قدمنا أنه يوجد فيه ساكن لا يوجد في مخلع البسيط ولا يقبله. ويوجد في مخلع البسيط ساكن لا يوجد في هذا اللاحق ولا يقبله، فلهذا حكمنا أنه وزن قائم بنفسه، وبناء شطره: مستفعلاتن مستفعلاتن.

وقد خصوا الرجز بأن أبقوا مشطوره على ثلاثة أركان، وهو أقل ما تقوم منه الأشكال. ويشبه أن يكون هذا بعض ما أوجب احتمالها لاطراد المتحركات في أقطاره لأن الأشكال المثلثة أطول الأشكال عروضا وأقطارا. وكأنهم جعلوا الأبيات المسدسة الوضع وسطا في ذلك حيث ترقوا في ذلك إلى ضعفها وانحطوا إلى نصفها.

15- إضاءة: ولقائل أن يقول: إن أجزاء الشطور الأول تنزل منزلة ما يلي الأرض من كسور البيت، وإن أجزاء الشطور الثواني تنزل منزلة ما لي السمك منها. ولهذا قد تقصر دائرة نظام الأشطار الثواني في كثير من الضروب عن دائرة نظام الأشطار الأولى نحو ضربي عروض الكامل المقطوع والمضمر، فإن دائرة ما يلي السمك من الأخبية أضيق من دائرة ما يلي الأرض. وليست ملاحظة هذا الوجه في الأوزان بضربه لازب؛ وعلى هذا التقدير يحسن في القافية أن يقال فيها أنها جعلت العروض رأس الخباء وما يعالى به العمود، فأحكمت هيآتها لذلك وجعل العروض القاسم للبيت بنصفين بمنزلة موصل قائمة الخباء العليا بقائمته السفلى، وجعلوا اطراد النظام المتناسب ما بين مبدأ البيت ومنتهى القافية بمنزلة استقامة قوائم البيوت. ومما يقوى أن العروض كموصل القائمتين أن كثيرا من الأعاريض القصار والتي قد نقص بعض أجزائها لا يجعلون لها أعاريض كمشوطرات الرجز أو لا يحافظون على وضعها ولا يرتبطون في ذلك إلى هيآت محفوظة نحو ما ورد في مخلع البسيط لعبيد بن الأبرص وغيره.

16- تنوير: واعلم أن السواكنالتي تنفصل بين قطرين أصليين لا يجوز حذفهما وإن كانت من أسباب. وكذلك الساكن الذي يؤدي حذفه إلى اتصال قطر ثلاثي أي متسق فيه ثلاث حركات بركن رباعي أي متوالي فيه أربع سواكن؛ فإن هذا أيضاً لا يجوز حذفه، وذلك كالنون من مستفعلن في الخفيف. وينبغي أن تسمى هذه الأسباب بالأسباب المضارعة للأوتاد في مواقعها. وأحكام الأوزان تختلف في ما يسوغ حذفه من سواكن الأسباب في الزحاف المفرد والمزدوج بحسب اختلاف أنحاء الاعتمادات على نهايات الأجزاء وبحسب مواقع الأسباب من مواضع تلك الاعتمادات. ولذلك يسوغ من الزحاف المزدوج في سببي البسيط ما لا يسوغ في سببي الطويل. كذلك الزحافات المفردة لا تسوغ في الأسباب حيث تكون مظان اعتمادات وتحصينات للأوزان من توالي ما لا يسوغ فيها.

وهذه لمحة تدل الذكي الألمعي على ما يتفصل إليه القول المجمل فيها بحسب وزن وزن وتجزئة تجزئة.

17- إضاءة: فهذا الذي قلته في مجاري الأوزان وأنحاء تركيباتها وما يسوغ فيها هو الرأي الصحيح الذي تعضده الآراء البلاغية والقوانين الموسيقية ويشهد به الذوق الصحيح والسماع الشائع عن فصحاء العرب.

فدع عنك ما غيره أو وضعه العروضيون أو الرواة من الأبيات المضمحلة التي لا توجد لها نظير في الأشعار الفصيحة الصحيحة الرواية. فقد رد بعض العروضيين ما استشهد به بعضهم من الأبيات الفاسدة، وزين بعضهم شواهد بعض. وكثير أيضاً مما وضع واختلق أو غير جاز عليهم أو على أكثرهم. فلهذا يجب أن لا يقبل شيء يخالف ما قلناه لأنا وضعنا هذه القوانين بحسب ما شهدت به أصول علوم جليلة، بها يتميز الصريح المحض من الزائف البهرج في كل مذهب من مذاهب اللسان ومأخذ من مآخذ البيان.

ولاستقصاء الكلام في صناعة العروض طول لا يحتمله هذا الموضع قد فرعت منه في موضع خاص بصناعة العروض. فمن هنا يعرف تفصيل هذا المجمل.

ج - معلم دال على طرق العلم بمقادير تناسب الوزان وما يسوغ فيها من التعابير وما لا يسوغ على الوجه المختار.

أوزان الشعر منها متناسب تام التناسب متركب التناسب متقابلة متضاعفة، وذلك كالطويل والبسيط. فإن تمام التناسب فيها مقابلة الجزء بمماثله، وتضاعف التناسب هو كون الأجزاء التي لها (لها) مقابلات أربعة، وتركب التناسب هو كون ذلك في جزأين متنوعين كفعولن ومفاعيلن في الطويل، وتقابل التناسب هو كون كل جزء موضوعا من مقابله في المرتبة التي توازيه، فإن كان الواحد في صدر الشطر الأول كان الآخر في صدر الشطر الثاني، وإن كان ثانيا كان مقابله ثانيا، وإن ثالثا فثالث. فالأعاريض التي بهذه الصفة هي الكاملة الفاضلة. وكلما نقص عروضا شرط من هذه الشروط أو أكثر كان في الرتبة من مقاربة الكلام أو مباعدته بقدر ما نقص منه.

1- إضاءة: وأوزان الشعر منها سبط، ومنها جعد، ومنها لين، ومنها شديد، ومنها متوسطات بين السباطة والجعودة، وبين الشدة واللين وهي أحسنها. والسبطات هي التي تتوالى فيها ثلاثة متحركات، والجعدة هي التي تتوالى فيها أربعة سواكن من جزأين أو ثلاثة من جزء، وأعني بتواليها ألا يكون بين ساكن منها وآخر إلا حركة. والمعتدلة هي التي تتلاقى فيها ثلاثة سواكن من جزأين، أو ساكنان في جزء. والقوية هي التي يكون الوقوف في نهاية أجزائها على وتد أو سببين، ويكون طرفاه التي يكون الوقوف في نهاية أجزائها على سبب واحد، ويكون طرفاه قابلين للتغيير. وإذا تركب الضعيف مع القوي فربما غطى على ضعفه، وخصوصا إذا حدثت في التركيب جعودة كالحال في الخفيف. فإن تركب الضعيف مع معتدل لم يخف معه ضعفه كالحال في المديد.

2- تنوير: فأما التغييرات اللاحقة للأوزان فمنهما ما يكون بنقص بعض أجزاء الوزن، ومنها ما يكون بزيادة. فأما النقص فضروب الزحاف الواقع في الأسباب بحذف بعض سواكنها وإسكان بعض متحركاتها. وكذلك أيضاً قد يقع التغيير في الأوتاد بتسكين أول متحركها، وذلك حيث تكون جزءا من فاصلة لم يتضاعف فيها تغيير، أو بحذف ثواني الأسباب الثقيلة وأوائل الأوتاد المجموعة في صدور البيت ويسمى خرما. وحذف أول الوتد في صدور البيوت أحسن من حذف ثاني السبب الثقيل. ويجب أن يكون لمورد الأبيات، قاصدا إقامة أوزانها، فضل اعتماد وتوقرات وإشباعات الحركات وما ينتسب إليها من الحروف القابلة للمد والإطالة في ما كشف مواضع المحذوفات ويتصل بها ليكون ذلك سادا مسدها وجاريا مجرى البدل منها.

3- إضاءة: فأما التغييرات التي تكون بزيادة فمنها ما يقع في القوافي ومنها ما يقع في الأعاريض. فأما ما يقع في القوافي فإن الأعاريض التي يكون لها ضربان: ضرب مقطعه على سبب متوال أو وتد متضاعف، وضرب مقطعه على سبب خفيف غير متوال أن يوالي السبب في بعض الضروب وإن كان ذلك مستقبحا. ويجوز فيما بنيت قافيته على وتد غير متضاعف أن يضاعف الوتد في بعض الضروب من ذلك، وإن كان أيضاً ذلك قبيحا. وإنما استساغ بعض العرب هذا لأن العروض تقبل نسق كلا الضربين عليها. وإن وقعت بذلك بين بعض الضروب وبعض مخالفة، فليس ذلك من المخالفة التي يصير بها الجزءان طرفي نقيض في الوضع، بل هما متناسبان لم يختلفا إلا بالأزيد والأنقص. ويشبه أيضاً أن يكون العرب إنما تفخم الساكن في هذا الوضع الذي قد يستسيغونه في القوافي إذا كان مما يجري فيه الصوت ويكون التلفظ به قبل الساكن التالي له وأسهل من غيره وأخفى موقعا، ليكون ذلك الساكن توجد فيه مضارعة للحروف المصونة من جهة ما يوجد له بعض تصويت، ويوجد الهواء متسربا مع التلفظ به، وذلك نحو الهاء والعين والحاء والنون وما جرى مجرى ذلك.

ومما ورد من ذلك قول النابغة بن شيبان من قصيدة يقول فيها: (الرمل -ق- المتدارك)

امدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش

غنما الكاس ربيع باكر ... فإذا ما غاب عنا لم نعش

ثم قال في وصف الخيل:

فبها يحوون أسلاب العدى ... ويصيدون عليها كل وحش

وأورد بيتين آخرين على هذا النحو.

ويجب ألا يعمل على هذا وإن كان وقع في أشعار العرب.

وأما الذي يقع في الأعاريض، فإن العروض التي يمطكن أن تبنى على سبب متوالي أو ووتد متضاعف إذا صرعت يسوغ أن يوقع فيها الكلم التي التقى فيها ساكنان بالإدغام بعد المد فيكون الساكنان نهاية العروض ويكون مبدأ اشطر الثاني ثاني المتضاعفين. وذلك نحو عروض المتقارب وعروض مربع الكامل. وينبغي أن يسامح الشعراء في هذا وألا يضايقوا فيه حيث يكونون مضطرين إلى ذكر اسم قد لزمه التشديد بعد المد. فأما إذا وجد مندوحة عن ذكر ذلك اللفظ بوجدان مرادف له وما يغني غناءه فينبغي له ألا يركب ذلك ولا يجعله سبيلا إلى انتقاد نظمه مع إضلال ضالة العذر في ذلك.

4- تنوير: فأما ما رم العروضيون إثباته في متون الوزان من الزيادة التي يسمونها الخزم بالزاي فإنهم غلطوا في ذلك لأن العرب لم تكن تعد تلك الزيادات من متون الأوزان. وإنما كانوا يجعلونها توطئات وتمهيدات ووصلا لإنشاد البيوت وبناء عباراتها عليها، وإن كانت متميزة في التقدير والإيراد عنها بأزمنة قصيرة قد تخفى على السامع فيظن أنهم قد جعلوها من متون الأبيات. وذلك غير ممكن أصلا. فإن الأوزان مما يتقوم به الشعر ويعد من جملة جوهره. والوزن هو أن تكون المقادير المقفاة تتساوى في أزمنة متساوية لاتفاقها في عدد الحركات والسكنات والترتيب. فما حذف من بعضها على بعض الوجوه التي بيناها أمكن أن يتوقر على ما بني منه وأن يتلاقى لتمكين الحركات والسكنات المكتنفة له قدر ما فات من زمان النطق به. فيعتدل المقداران بذلك فيكونان متوازيين. والزيادة على المقدار المساوي لسائر المقادير ليس فيها حيلة يمكن معها تساوي المقدارين المزيد فيه والباقي على أصله. وإنما ساغ ذلك في السواكن حيث كانت أقصر الحروف زمانا، وكان لها أصل ترجع إليه في أبنية الأوزان، فوجدت مقبولة في الأذواق لذلك.

فهذا هو الرأي الصحيح في الخزم الذي عول عليه الحذاق بأخذ الكلام عن العرب وفهم مذاهبهم فيه. وقد وجدنا الكتاب والبلغاء يرصعون الأسجاع بالأبيات ويجعلونها مبادي للأبيات والأبيات خواتم لها، حتى ربما أنهم لم يقدموا قبل البيت أكثر من لفظة واحدة وربما اكتفوا في ذلك بواو العطف. ولا يعتقدون أن تلك الألفاظ والحروف من متون. وهكذا كانت مآخذ العرب في ذلك. وإنما خفي هذا المذهب على من جهل مآخذ الكلام ومقاطعه وضروب وضعه وأفانين منازعه.

5- إضاءة: وإذ قد تبين هذا فلنعد إلى ذكر ما يستحسن من ضروب الزحاف ويستقبح، ونؤصل في ذلك أصلا يعرف بما يجب أن يعتمد من ذلك عند الحاجة إليه، وما يجب أن يجتنب. فأقول: إن مما يخل بالأوزان من ضروب الزحاف، ويزيل كثيرا من حلاوتها وتناسبها، فيجب أن يجتنب على كل حال، أربعة أشياء: الزحاف المزدوج كله.

والزحاف المؤدي إلى أن يصير الجزء الذي وضع لأن يماثل جزءا آخر ويقابله مضادا له، وقد تقدم التعريف بذلك.

والوجه الثالث السواكن التي تكون أواخر أجزاء هي مظان وقفات واعتمادات ولاسيما إذا كان ذلك نهاية شطر بيت كالسواكن الخيرة من فاعلاتن في عروض الخفيف، والحال في ساكن فاعلاتن الذي في أوائل أشطاره على نحو من ذلك في أنه يقبح حذفه.

والوجه الرابع مما جب اجتنابه من الزحافات حذف السواكن التي يؤدي حذفها إلى توالي ثلاثة متحركات عقيب توالي أربعة سواكن كالنون من مستفعلن في الخفيف.

فهذا هو الرأي الصحيح الذي يشهد بصحته الذوق والقياس والسماع.

6- تنوير: وجملة ما يجب أن يعتمد في اعتبار مجاري النظم، من جهة ما يزاحف أو يعل من أسبابه وأوتاده، أن يجعل قانون الاعتبار الصحيح في ما يجب أن يؤثر من ذلك أن توجد الوزان جارية من جميع ذلك على ما يحسن في السمع ويلائم الفطرة السليمة الذوق، ويوجد مع ذلك كثيرا مطردا في أشعار فصحاء العرب. فيكون حينئذ موافقا لمجاري كلام العرب الصحيحة مع كونه وفقا للنفوس والأسماع. ومن كان صحيح الذوق وحصر مجال النظر ومواضع البحث في الأعاريض والقوافي ومجاري الأوزان ثم تصفح كلام المجيدين من العرب والمحدثين ونظر منها في كل موضع للنظر، فأثبت ما كان ملائما ومطردا ونفى ما كان منافراً غير مطرد، فقد استضاء بآية التوفيق المبصرة وورد صوب الإصابة من منشإ سحائبه الممطرة.

7- إضاءة: وأما من لا ذوق له فقلما يتأتى له التوصل إلى تمييز ما يحسن في مجاري الأوزان ومباني النظم مما يقبح فيهما، إذ أكثر من ألف في هاتين الصناعتين مشفق من أن ينسب إلى العرب قبحا في مجرى من مجاري كلامها إلا في الندرة. فهم يتلقون كل ما روي لهم من كلامهم - صحت الرواية أو لم تصح - بالتسويغ والتحسين. ولا ينسبون إليهم إساءة إلا حيث تعييهم الحيل في الاعتذار عنهم.

فهذا رأي نحوي هو في الطرف مما يراه البلغاء من ألا يتسامح في وقوع ما يقبح وقبوله على أنه غير قبيح لعربي ولا محدث. ولا يعتبر الكلام بالنسبة إلى قائل ولا زمان البتة. وإنما يعتبر بحسب ما هو عليه في نفسه من استيفاء شروط البلاغة والفصاحة بحسب ما وقع فيه أو استيفاء أكثرها أو وقوع أقلها فيه أو عدمها بالجملة منه ووجود نقائضها أو أكثرها. فبهذا النحو يصح الاعتبار.

د- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء النظر في بناء الأشعار على أوفق الأوزان لها.

لما كانت الأوزان متركبة من متحركات وسواكن اختلفت بحسب أعداد المتحركات والسواكن في كل وزن منها، وبحسب نسبة عدد المتحركات إلى عدد السواكن، وبحسب وضع بعضها من بعض وترتيبها، وبحسب ما تكون عليه مظان الاعتمادات كلها من قوة أو ضعف أو خفة أو ثقل، وصار لكل وزن بحسب مخالفته لجميع الأوزان في الترتيب والمقدار ومظان الاعتماد ونسبة عدد المتحركات إلى عدد السواكن أو في بعض هذه الأنحاء الأربعة دون بعض، ميزة في السمع وصفة أو صفات تخصه من جهة ما يوجد له رصانة في السمع أو طيش، ومن جهة ما يوجد له سباطة وسهولة أو يوجد له جعودة وتوعر، ومن جهة ما يوجد باهيا أو حقيرا وغير ذلك مما يناسب فيه المسموع المرئي. ولا بد من أن يكون كل وزن مناسبا لغيره من إحدى هذه الجهات مناسبة قريبة أو بعيدة.

1- إضاءة: ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس. فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية الرصينة، وإذا قصد في موضع قصدا هزليا أو استخفافيا وقصد تحقير شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء، وكذلك في كل مقصد. وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض يليق به ولا تتعداه فيه إلى غيره.

وهذا الذي ذكرته في تخييل الأغراض بالأوزان قد نبه عليه ابن سينا في غير موضع من كتبه، من ذلك قوله في الشفاء، وتعديد الأمور التي تجعل القول مخيلا: (والأمور التي تجعل القول مخيلا: منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن، ومنها أمور تتعلق بالمسموع من القول، ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول، ومنها أمور تتردد بين المسموع والمفهوم) .

2- تنوير: والأجزاء التي تأتلف منها مقادير الأوزان: منها ما يتناسب نحو فاعلن وفاعلاتن وفعولن ومفاعيلن، ومنها ما تناسبه على الضد من هذا نحو مستفعلن فاعلن. ألا ترى أن هذين الجزأين يتساوقا من أول خماسي وثاني سبب من السباعي. وكذلك الأجزاء الأول تتساوق الخماسيات والسباعيات منها ما عدا السبب الآخر من السباعيات فإنه يفضل عن ذلك. ومن الأجزاء ما يتدافع ويتخالف نحو مفاعلين مستفعلن.

فالتأليف من المتناسبات له حلاوة في المسموع، وما ائتلف من غير المتناسبات والمتماثلات فغير مستحلى ولا مستطاب. ويجب أن يقال في ما ائتلف على ذلك النحو شعر، وإن كان له نظام محفوظ لأنا نشترط في نظام الشعر أن يكون مستطابا. وما ائتلف من أجزاء تكثر فيها السواكن فإن فيه كزازة وتوعرا. وما ائتلف من أجزاء تكثر فيها المتحركات فإن فيه لدونة وسباطة. والكثير السواكن إذا حذف بعض سواكنه ولم يبلغ ذلك الحذف الإجحاف به اعتل. وهم يقصدون أبدا أن تكون السواكن حائمة حول ثلث مجموع المتحركات والسواكن إما بزيادة قليلة أو نقص ولأن تكون أقل من الثلث أشد ملائمة من أن تكون فوقه.

3- إضاءة: وما كان متشافع أجزاء الشطر من غير أن يكون متماثل جميعها فهو أكمل الأوزان مناسبة. وما كان متشافع بعض أجزاء الشطر تال له في المناسبة، وما لم يقع في شطره تشافع أدناها درجة في التناسب. وما وقع التشافع والتماثل في جميعه استثقل ولم يستحل أيضاً للتكرار.

فبحسب تضاعف التشافع في الشطر أو اتحاده أو عدمه، وبحسب اتحاد الجنس في جميع أجزائه أو تنوعه، وبحسب قوة المشاكلة والمناسبة بين جزء وجزء وضعفها، وبحسب ما تكون عليه الأجزاء من كزازة أو سباطة أو اعتدال، وبحسب ما يكون عليه مظان الاعتمادات وما تنتهي إليه مقادير الأوزان، تكتسب الأوزان أوصافا من المتانة والجزالة والحلاوة واللين والطلاوة والخشونة والرصانة والطيش وغير ذلك.

4- تنوير: ومن تتبع كلام الشعراء في جميع الأعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب اختلاف مجاريها من الأوزان. ووجد الافتنان في بعضها أعم من بعض. فأعلاها درجة في ذلك الطويل والبسيط. ويتلوهما الوافر والكامل. ومجال الشاعر في الكامل أفسح منه في غيره. ويتلو الوافر والكامل عند بعض الناس الخفيف. فأما المديد والرمل ففيهما لين وضع، وقلما وقع كلام فيهما قوي إلا للعرب وكلامهم مع ذلك في غيرهما أقوى. وقد نبه على هذا في المديد أبو الفضل ابن العميد. فأما المنسرح ففي اطراد الكلام عليه بعض اضطراب وتقلقل، وإن كان الكلام فيه جزلا. فأما السريع والرجز ففيهما كزازة. فأما المتقارب فالكلام فيه حسن الاطراد إلا أنه من الأعاريض الساذجة المتكررة الأجزاء. وإنما تستحلى الأعاريض بوقوع التركيب المتلائم فيها. فأما الهزج ففيه مع سذاجته حدة زائدة. فأما المجتث والمقتضب فالحلاوة فيهما قليلة على طيش فيهما. فأما المضارع ففيه كل قبيحة. ولا ينبغي أن يعد من أوزان العرب، وإنما وضع قياسا، وهو قياس فاسد لأنه من الوضع المتنافر على ما تقدم.

5- إضاءة: فالعروض الطويل تجد فيه أبدا بهاء وقوة. وتجد للبسيط سباطة وطلاوة. وتجد للكامل جزالة وحسن اطراد، وللخفيف جزالة ورشاقة، وللمتقارب سباطة وسهولة، وللمديد رقة ولينا مع رشاقة، وللرمل لينا وسهولة. ولما في المديد والرمل من اللين كان أليق بالرثاء وما جرى مجراه منهما بغير ذلك من أغراض الشعر. وقد أشرنا إلى حال ما بقي من الأوزان.

6- تنوير: ومما يبين لك أن لكل وزن منها طبعا، يصير نمط الكلام مائلا إليه، أن الشاعر القوي المتين الكلام إذا صنع شعرا على الوافر اعتدل كلامه وزال عنه ما يوجد فيه مع غيره من الأعاريض القوية من قوة العارضة وصلابة النبع. واعتبر ذلك بأبي العلاء فإنه إذا سلك الطويل توعر في كثير من نظمه حتى يتبغض، وإذا سلك الوافر اعتدل كلامه وزال عنه التوعر. وما شئت أن تجد شاعرا إذا قال في المديد والرمل ضعف كلامه وانحط عن طبقته في الوافر كانحطاطها في الوافر عن الطويل إلا وجدت. فهذا يدلك على صحة ما ذكرته. فأما الضعفاء فكلامهم في الوافر وما أشبهه من الأعاريض المتوسطة أقل قبحا. فأما الأعاريض الطويلة التي تفضل عن المعاني فيعبرون فيها بركاكة الحشو وقبح التذليل وتخاذل بعض أجزاء الكلام عن بعض لطوله. وأما الأعاريض القصيرة التي تفضل المعاني عنها فيضطرون فيها إلى التكلف والحذف المخل، فلذلك كان حالهم في نظم الشعر مضادا لحال الأقوياء من الشعراء.

7- إضاءة: فيجب لما ذكرته أن يعتبرا لكلام الواقع في كل عروض بحسب ما أعتيد فيه أن يكون نمط الكلام عليه، وألا يفضل شاعر وجدت له قصيدة في الطويل والكامل مائلة إلى القوة على شاعر وجدت له قصيدة في المديد أو الرمل مائلة إلى الضعف. فقد يجيء شعر الشاعر الأضعف في الأعاريض التي من شأنها أن يقوى فيها النظم مساويا لشعر الشاعر الأقوى في الأعاريض التي من شأنها أن يضعف فيه النظم، ليس ذلك إلا لشيء يرجع إلى الأعاريض لا إلى الشاعرين. وإنما يطرأ هذا إذا لم يكن بين الناظمين كبير تفاوت. وكذلك الشاعران المتساويان إذا قال أحدهما في وزن من شأن الكلام أن يقوى فيه والآخر في وزن من شأن الكلام أن يضعف فيه ظهر شعر أحدهما أقوى من شعر الآخر من جهة أن عروضه أقوى لا من جهة أن طبقته ارتفعت فوق طبقة صاحبه.

8- تنوير: وإنما يحكم بتفضيل أحد الشاعرين على الآخر إذا عرف أن كليهما نظم شعره على حال واحدة من النشاط وقوة الباعث وانفساح الوقت. وكانا قد سلكا مسلكا واحدا وذهبا من المقاصد مذهبا مفردا أو كان مذهب أحدهما مقاربا لمذهب الآخر ومناسبا له، وكان شعرهما في عروض واحد أو عروضين غير بعيد نمط الكلام في أحدهما عن نمطه في الآخر؛ ثم يقاس ما بين الكلامين من البعد بما بين النمطين، فيظهر الترجيح أو المساواة عند ذلك. وللمفاضلة بين الشعراء أحكام كثيرة وشروط تأتي في القسم الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله.

هـ- معلم دال على طرق العم بما قصد في أبنية القول من أنحاء التناسب وذهب فيها من مذاهب البلاغة التي يكون لها بها تحصين في الوضع وتحسين في السمع.

فأما ما يجب اعتماده في وضع القوافي وتأصيلها فإن النظر في ذلك من أربع جهات: الجهة الأولى جهة التمكين؛ والثانية جهة صحة الوضع؛ والثالثة جهة كونها تامة أو غير تامة؛ والرابعة جهة اعتناء النفس بما وقع في النهاية لكونها مظنة اشتهار الإحسان أو الإساءة.

ولكون القافية يجب أن يتحفظ فيها من هذه الجهات الأربع قال بعض العرب لبنيه: (اطلبوا الرماح فإنها قرون الخيل وأجيدوا القوافي فإنها حوافر الشعر أي عليها جريانه واطراده، وهي مواقفه. فإن صحت استقامت جريته وحسنت مواقفه ونهاياته) .

1- إضاءة: فأما من جهة تمكن القافية فقد ألمعت بالوجوه الموصلة إلى ذلك في ما تقدم.

2- تنوير: وأما من جهة صحة الوضع في القافية فالنظر فيها مستند إلى المعرفة بعلم القوافي. وأنا أشير إلى ما يرشد إلى ذلك مجملا بعون الله. فأقول: إن القوافي لابد فيها من التزام شيء أو أشياء. وتلك الأشياء حروف وحركات وسكون. فقوافي الشعر يجب فيها ضرورة على كل حال إجراء المقطع وهو حرف الروي على الحركة أو السكون.

3- إضاءة: والذي يجب اعتماده في مقاطع القوافي أن تكون حروف الروي في كل قافية من الشعر حرفا واحدا بعينه غير متسامح في إيراد ما يقاربه معه. وقد وقع ذلك لبعض من لا يحفل به من العرب، الذين كانت بضاعتهم في الشعر مزجاة. ومما يوجبه الاختيار أيضاً أن تكون حركات حروف الروي من نوع واحد لا يجمع بين رفع وخفض ولا غير ذلك. وقد وقع الجمع بين ذلك للفصحاء على قبح.

4- تنوير: ومن ذلك أيضاً وجوب التزام حروف العلة الواقعة سواكن بين أقرب متحرك يتلوه ساكن إلى الروي وبين حرف الروي. واختصاص الألف بأول محل من ذلك. وهو ما كان بينه وبين حرف الروي حرف. وتلك الألف المختصة بذلك الموضع تسمى تأسيسا. نحو: (الطويل -ق- المتدارك)

كليني لهم يا أميمة ناصب

وقد وقع ما فيه الألف مع ما ليس فيه على قبح. وأكثر ما وقع من هذا أيضاً ما كان الحرف المتحرك الذي بين التأسيس والروي فيه مفتوحا أو مضموما. وهما صيغتان غير عريقتين في الوضع التأسيسي، إذ الوضع العريق في التأسيس أن يكون المتحرك بين التأسيس والروي مكسورا، وأن يكون حرف التأسيس وحرف الروي من كلمة واحدة، فإن كانا من كلمتين جاز أن يقع ما فيه صورة التأسيس مع ما ليس فيه تأسيس في قافية واحدة، ولم يقبح ذلك.

5- إضاءة: فأما المحل الأقرب إلى القافية من مظان وقوع الحروف التي تلتزم - وهو ما يلي حرف الروي - فتتعاقب فيه الياء مكسورا ما قبلها والواو مضموما ما قبلها ويتواردان على قافية واحدة. وكذلك أيضاً يتواردان مفتوحا ما قبلهما معا. هذا على الوجه المختار الذي عليه العمل. وقد جاء ضم ما قبل حرف العلة وفتحه معا، وكذلك كسره وفتحه، وكل ذلك على قبح. ويسمى سنادا.

6- تنوير: وقد يجيء أيضاً مع الياء والواو المفتوح ما قبلهما ما ليس فيه ياء ولا واو على قبح أيضا. فأما إذا كانت الواو مضموما ما قبلها والياء مكسورا ما قبلها فلا يرد معهما ما ليس فيه حرف علة للطول الذي فيهما، إذا كانت حركة ما قبل كليهما من جنسه. فيصير حكمهما حكم الألف في ذلك الموضع في كونها لابد من إعادتها. وتخص الألف في ذلك أنها لا يجوز أن يدخل معها غيرها من حروف العلة. وتمسى الألف المتميزة عن غيرها في هذا الموضع والياء والواو المتواردتان معا أردافا.

7- إضاءة: ويستحسن في القوافي المقيدة أن تكون حركة ما قبل الروي إما فتحة ملتزمة وإما ضمة وكسرة متعاقبتين. وقد وردت الفتحة معهما في مقيدات شعراء الإسلام. فأما شعراء الجاهلية فيقل ذلك في قوافي أشعارهم.

8- تنوير: ويستحسن أيضاً في ما كان من كافات الضمائر وتاءات التأنيث مقطع الشعر أن يلتزم قبلها حرف بعينه، ويلتزم فيه حركة بعينها. ويجوز أن لا يلتزم قبل ذلك حرف. فإن لم يلتزم كان الوجه أن تلتزم حركة بعينها، لئلا ينضاف إلى كون الروي ليس بمقطع كلمة وإنما هو حرف زائد يعاد معه كلم مختلفة المقاطع أن يكون ما قبله متغيرا بأنواع الإعراب، فتبعد مقاطع الأبيات بذلك عن التناسب ويقع فيها اختلاف.

ومما التزمت الحركة فيما قبله من ذلك قول الحسين ابن الضحاك: (الطويل -ق- المتدارك)

سقى الله بالقاطول مطرح طرفكا ... وخص بسقياه مناكب قصركا

ولا زالت الأقدار في كل حالة ... عداة لمن عاديت سلما لسلمكا

وقد أجازوا وقوع التغاير بأنواع الحركات وما قبل هذه الحروف الزوائد المقفى بها. ولعل ذلك قياس لا سماع، وهو قبيح كيف ما كان.

فأما هاءات الضمائر وهاءات التأنيث المسكنة وهاءات السكت فلا يكون جميعها إلا صلات لمجاري القوافي، ومجرى القافية هي حركتها. وإذا كانت القافية مطلقة ولم توصل بشيء من هذه الحروف الروادف فإنما تكون صلاتها حروف مد ولين من جنس القافية، وقد يكون إطلاق القافية بالتنوين.

9- إضاءة: وللقوافي من جهة ما يكون ترتيب الحركات والسكنات فيها صور خمسة، وهي: 1- أن يتوالى في القافية ساكنان من غير فصل بحركة ويسمى المتواتر، نحو: قال بتسكين اللام.

2- وأن يتوالى فيها ساكنان مفصول بينهما بحركة ويسمى المترادف نحو: أيها الطلل البالي.

3- وأن يتوالى فيها حركتان نحو منزل ويسمى المتدارك.

4- وأن يتوالى فيها ثلاث متحركات نحو السند ويسمى المتراكب.

5- أن يتوالى فيها أربع حركات ولا يكون ذلك إلا في الرجز.

والقافية هي ما بين أقرب متحرك يليه ساكن إلى منقطع القافية وبين منتهى مسموعات البيت المقفى.

فهذه إشارة إلى بعض أحكام القوافي وما يجب في مقاطع الأبيات من جهة كونها قوافي.

10- تنوير: فأما ما يجب في القافية من جهة عناية النفس بما يقع فيها واشتهار ما تتضمنه مما يحسن أو يقبح فإنه يجب ألا يوقع فيها إلا ما يكون له موقع من النفس بحسب الغرض، وأن يتباعد بها عن المعاني المشنوءة والألفاظ الكريهة ولاسيما ما يقبح من جهة ما يتفاءل به. فإن ما يكره من ذلك إذا وقع في أثناء البيت جاء بعده ما يغطي عليه ويشغل النفس عن الالتفات إليه؛ وإذا جاء ذلك في القافية جاء في أشهر موضع وأشده تلبسا بعناية النفس وبقيت النفس متفرغة لملاحظته والاشتغال به ولم يعقها عنه شاغل، ومثل هذا قول الصاحب في عضد الدولة: (الطويل -ق- المتدارك)

ضممت على أبناء تغلب تاءها ... فتغلب ما كر الجديدان تغلب

فقال له عضد الدولة: (يقي الله) .

11- إضاءة: فأما ما يجب فيه من جهة كونها مستقلة منفصلة عما بعدها أو متصلة به فلا يخلو الأمر في هذا من أن تكون الكلمة الواقعة في القافية غير مفتقرة إلى ما بعدها ولا مفتقر ما بعدها إليها، أو يكون كلاهما مفتقرا إلى الآخر، أو تكون هي مفتقرة إلى ما بعدها ولا يكون ما بعدها مفتقرا إليها، أو يكون ما بعدها مفتقرا إليها ولا تكون هي مفتقرة إليه.

فالقسم الأول هو المستحسن على الإطلاق. والأقسام الثلاثة أشدها قبحا مناقض القسم المستحسن. ويسمى افتقار أول البيتين إلى الآخر تضمينا لأن تتمة معناه في ضمن الآخر.

12- تنوير: والتضمين يكثر فيه القبح أو يقل بحسب شدة الافتقار أو ضعفه. وأشد الافتقار افتقار بعض أجزاء الكلمة إلى بعض. وربما صنع شعر قوافيه على هذا الوضع ليعمى موضع القافية وهو قبيح جدا. ويتلوه في شدة الافتقار افتقار أحد جزئي الكلام المركب المفيد إلى الآخر. وأما افتقار العمدة إلى تتمة الفضلة والفضلة إلى الاستناد إلى العمدة فأقل قبحا من ذلك، وإنما يكون هذا حيث تقوم الدلالة على المراد بالإضمار. وافتقار العطوف إلى ما يعطف عليه إذا كان المعطوف كلاما تاما أخف من ذلك وأقل قبحا، فإن كان المعطوف ناقصا كان أمر الإضمار أسهل.

13- إضاءة: وإذا اجتمع الإضمار والعطف وكان المعطوف تاما سهل الأمر فيه من جهة العطف وصعب أمر الإضمار. فإن أظهر المضمر لم يعد ذلك تضمينا ولا افتقار وإن كان الكلام عطفا لأن الكلام يستقل بتقدير حذف الحرف العاطف، وأيضا فقد يعطف على المقدر فيقع الحرف العاطف صدرا.

14- تنوير: ولكون إظهار المضمر يصير الكلام مستقلا غير مفتقر إلى ما قبله قد يحتملون ما في التكرار من ثقل، وذلك مثل قول الخنساء: (البسيط -ق- المترادف)

وإن صخرا لوالينا وسيدنا ... وإن صخرا إذا نشتو لنحار

وإن صخر لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار

ولو قالت وإنه لتأتم الهداة به فأضمرت لكان البيت ناقصا مفتقرا. فإنما أظهرت لفظ صخر ثانيا وثالثا تباعدا بالكلام عن الافتقار، وقصدا لتعديل أقطاره وحسن تفصيله وتقديره. وهذا يعرف مما تقدم. وربما بسط عذر الشاعر في مثل هذا أيضاً كونه يستعذب اسم محبوبه ويريد الإشادة باسم ممدوحه فلا يستثقل ذلك. وهذان أمران لا يحسنان التكرار وإنما يبسطان العذر فيه فقط.

معرف دال على طرق المعرفة بتأصيل القوافي وبناء ما قبلها عليها وبنائها على ما قبلها.

لا يخلو الشاعر من أن يكون يبني أول البيت على القافية أو القافية على أو البيت. وكلا صاحبي هذين المذهبين لا يخلو أن يكون ممن يعتمد أن يقابل بين المعاني ويناظر بينها أو ممن لا يقابل بين شيء منها اعتمادا.

1- إضاءة: فأما معتمد التقابل الذي صدور أبياته مبنية على القوافي فإنه يتأتى له حسن النظم لكون الملاءمة بين أوائل البيوت وما تقدمها - التي هي واجبة في النظم - متأتية له في أكثر الأمر، إذ لكل معنى معان تناظره وتنتسب إليه على جهات من المماثلة والمناسبة والمخالفة والمضادة والمشابهة والمقاسمة. فإذا وضع المعنى في القافية أو ما يلي القافية وحاول أن يقابله ويجعل بإزائه في الصدر معنى على واحد من هذه الأنحاء لم يبعد عليه أن يجد في المعاني ما يكون له علقة بمعنى القافية وانتساب إليه من بعض هذه الجهات، وعلقة بما تقدم من معنى البيت الذي قبله، أو بأن يقدم على المعنى المقابل لمعنى القافية ما يكون له علقة بما تقدم، يبني نظمه متلائما بهذا.

2- تنوير: وأما معتمد التقابل الذي قوافيه مبنية على الصدور فإنه يضع المعنى في أول البيت ثم ينظر فيما يمكن أن يكون بنفسه قافية أو ما يمكن أن توصل به قافية مما يكون له بزيادة إفادة في المعنى، فيقابل به المعنى الأول. لكن صاحب هذا المذهب وإن وسع على نفسه أولا، في كونه يختار ما يضعه في صدر بيته ويبني عليه كلامه مما له علقة بما تقدم، فقد ضيق على نفسه بكونه لا يمكن أن يقابل المعنى المتقدم من المعاني المتناظرات إلا بما مقطع عبارته وصيغتها موافق للروي أو بما يمكن أن يوصل بما يصلح للوري بالصيغة والمقطع. والأول معوز جدا، والثاني قريب منه في العوز. فكثيرا ما يتكلف هذا ويسامح نفسه في أخذ المنافر على أنه مخالف أو مناسب، ونحو من هذا قول المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)

كاثرت نائل الأمير من الما ... ل بما نولت من الإيراق

3- إضاءة: وقليلا ما يذهب هذا المذهب من تنبه لحسن تقابل المعاني وتفطن إلى طريق الوضع فيه واعتمده، أعني أن يبني أعجاز البيوت على صدورها لأنه أصعب شيء بالنسبة إلى وضع التقابل، كما أن الأمر في بناء صدور البيوت على أعجازها بالنسبة إلى وضع التقابل أسهل شيء لأن وجود مناظر أو صلة لمناظر ملتزم أن يكون مقطعه حرفا معينا في صيغة معينة أعز من وجود مناظر أو صلة له غير ملتزم أن يكون مقطعها حرفا معينا بل لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في اليسر والعوز والكثرة والقلة.

4- تنوير: وإنما يتفق هذا أعني بناء العجز على الصدر لمعتمدي التقابل في الشعر المروى إذا كملت لهم فصول القصائد وحاولوا أن يصلوا بعض الفصول التي لم يتفق أن توصل بدءا ببعض، فعند ذلك تتقارب هذه الأحوال في الصعوبة لأن القوافي قد انحصرت له وضاقت عليه. فإذا بنى على القافية ووضع فيها معنى قد اضطره إليه كون عبارته موافقة للقافية، وكونها لم تتقدم في قوافي القصيد، فقد يكون ذلك المعنى بعيدا من جملة نهايات فصول القصيدة فضلا عن الموضع الذي اضطر فيه إليه. فلا يجد له مناظرا ولا صلة يكون له أول لها علقة بما تقدم إلا على سبيل التكلف. فربما خالف في هذا الموضع عادته في البناء، فبنى آخر الكلام على أوله، فوضع المعنى المقابل للمعنى المتقدم قريبا من القافية، ثم تطلب ما يصله به مما يصلح أن يكون قافية، ويكون مع ذلك لمعنى البيت الذي يلي تلك القافية ويأتي إثرها علقة بها أو بمقابلها أو بما وقع حشوا بينهما أو بمجموع ذلك، فيبني البيت حينئذ على غير ما عادته أن يبنيه عليه. وربما ترك ملاحظة التقابل في هذا الموضع بالجملة ونظر طريقا آخر يؤديه إلى القافية غير هذا الطريق.

5- إضاءة: فأما من لا يقابل بين الكلام ومن شانه أن يبني صدور البيوت على أعجازها فإنه يتطلب للكلمة التي يريد وضعها قافية معنى يمكن أن يكون للكلام به علقة بما تقدم، ثم يحتال في زنة العبارة ووضع أولها وضعا يليق بما تقدمه ويناسبه.

6- تنوير: ومن كان من شانه أن يبني أواخر الأبيات على أوائلها فإنه يتطلب معنى يناسب ما تقدم ويمكن في عبارته مع ذلك أن يتأتى في ما يلائم تلك القافية منها أن تؤخر فتكون القافية. وكثيرا ما تتبع معاني من شأنه هذا ألفاظه في القوافي، وذلك عيب.

7- إضاءة: وقد تختلف حال من يبني أوائلا لكلام على آخره بحسب ما يعرض من أحوال الخاطر. فتارة يبني على القافية جميع البيت، وتارة شطره أو أكثره، ثم يسد الثلمة الباقية بما يناسب الكلام وما تقدمه. وكذلك من يبني آخر الكلام على أوله قد يعرض له نقيض هذه الحال فيبني الكلام من أوله إلى آخره إذا سنحت له القافية بيسر، أو يكمل بناء الشطر الأول أو أكثر من الشطر، ثم يتم الباقي بما تتيسر له فيه القافية.

8- تنوير: فقد تبين أن الشعراء لهم مذهبان في بناء العشر، وأن كل مذهب له ثلاثة مآخذ.

فالمذهب المختار - وهو بناء البيت على القافية - يحسن فيه بناء البيت بأسره على القافية إذا لم يحتج فيه إلى مناسب متقدم، أو إذا احتيج وتيسر وجه المناسبة، ويحسن أن يبني عليها من أول الشطر الثاني أو ما يتصل به مما قبله حيث يكون البيت وصلة بين فصلين أو طرفي فصل، ثم يبنى الشطر الأول بعد عدم صعوبة القافية على عبارة تليق بما تقدم عليها وتأخر عنها، وذلك غير عزيز.

9- إضاءة: فأما بناء أكثر البيت على القافية فيقع فيه التكلف كثيرا، لأنه لا يخلو من أن يكون الطرف المتقدم في المبني من المعنى مناسبا للبيت الذي قبله فيكون ما يقدم عليه لتكميل البيت فضلا لا يحتاج إليه، وإن لم يكن مناسبا لما تقدم فبعيد أن تقع قبله لفظة أو لفظتان تنتسب إليه وإلى ما تقدم انتسابا قويا، فيقع التكلف أيضا.

10- تنوير: وأما المآخذ الثلاثة في المذهب الثاني فقل ما تخلو من التكلف. وأشدها إعراقا فيا لتكلف ما بني أكثر البيت على أوله ثم استؤنف بعد ذلك النظر في القافية.

11- إضاءة: وقد يعرض للخواطر في حال جمامها نهز في نظم الكلام فينتظم البيت كله دفعة في غاية السهولة والبعد عن التكلف. واتفاق مثل هذا للمطبوعين كثير. ووجوه اجتلاب الخواطر للكلام وطروه عليها كثيرة. وإنما ذكرت منها ما تيسر.

ز- معلم دال على طرق العلم بما يجب في المطالع والمقاطع على رأي من قال هي أوائل البيوت وأواخرها.

فأما ما يجب في المطالع على رأي من يجعلها استهلالات القصائد فمن ذلك ما يرجع إلى جملة المصراع. وهو أن تكون العبارة فيه حسنة جزلة، وأن يكون المعنى شريفا تاما، وأن تكون الدلالة على المعنى واضحة، وأن تكون الألفاظ الواقعة فيه لاسيما الأولى والواقعة في مقطع المصراع مستحسنة غير كريهة من جهة مسموعها ومفهومها. فإن النفس تكون متطلعة لما يستفتح لها الكلام به. فهي تنبسط لاستقبالها الحسن أولا، وتنقبض لاستقبالها القبيح أولا أيضا.

1- إضاءة: ومن ذلك ما يرجع إلى الكلمة الواقعة في مقطع المصارع. ويجب أن تكون مختارة متمكنة حسنة الدلالة على المعنى تابعة له. ويحسن أن يكون مقطعها مماثلا لمقطع الكلمة التي في القافية، وأن يكون ما بين أقرب ساكن منها إلى المقطع من الحركات عدد ما بين أقرب ساكن من كلمة القافية وبين نهايتها من الحركات أيضا، وأن يكون ملتزما فيها من حركة المجرى أو التقييد أو التأسيس والردف والوصل بالضمائر وحروف الإطلاق وغير ذلك مما يلزم القوافي مثل ما التزم في كلمة القافية وسائر قوافي القصيدة التي ذلك المصراع أولها، ليكون البيت بوجدان الشروط التي ذكرت مصرعا.

فإن للتصريع في أوائل القصائد طلاوة وموقعا من النفس لاستدلالها به على قافية القصيدة قبل الانتهاء إليها، ولمناسبة تحصل لها بازدواج صيغتي العروض والضرب وتماثل مقطعها لا تحصل لها دون ذلك. وقد قال حبيب: (الطويل -ق- المتدارك)

وتقفو إلى الجدوى وبجدوى وغنما ... يروقك بيت الشعر حين يصرع

2- تنوير: ويجب أن لاحظ فيها جميع ما يجب أن يلاحظ في الكلمة الواقعة قافية على ما أذكره بعد، إن شاء الله.

ويكره أن يكون مقطع المصراع الأول على صيغة يوهم وضعها أنها مصراع ثم تأتي القافية على خلاف ذلك، فيخلف ظن النفس في القافية لذلك. وقد سمي هذا تجميعا.

فهذه إشارة إلى ما يجب في اللفظة الواقعة في مقطع المصراع.

3- إضاءة: فأما ما يرجع إلى مفتتح المصراع فأن يكون دالا على غرض القصيدة، وأن يكون مع ذلك عذب المسموع، ولا يكون ذلك مما تردد على ألسنة الشعراء فيا لمطالع حتى أخلق وذهبت طلاوته كلفظة خليلي، أو مما اختص به شاعر ولم يتعرض أحد لأخذه منه، كقول امرئ القيس: (قفا نبك) .

4- تنوير: ويستحسن أن يقدم في صدر المصراع ما يكون لطيفا محركا بالنسبة إلى غرض الكلام كالمناجاة والتذكر في النسيب وما جرى مجراهما، وإن قرن ذلك بمعنى من المعاني التي هي أحوال تعتري الإنسان كالتعجب والتشكك نحو قل حبيب: (البسيط -ق- المتراكب)

يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا

وقول المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)

أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي

كان ذلك منزعا بديعا ومأخذا حسنا.

5- إضاءة: ويجب أن يكون المصراع الثاني مناسبا للمصارع الأول في حسن عبارته وتمامها وشرف معناه بالجملة، ويكون مقطعه على ما ذكرته وأشرت إليه في مقطع المصراع الأول. فأما صدر المصراع الثاني فلا يشترط فيه كثير مما يشترط فيما جاء في صدر المصراع الأول، وإنما حكم صدر المصراع الثاني حكم الألفاظ الواقعة حشوا. واعني بالحشو هنا ما ليس بمبدأ ولا نهاية قد تميز كلاهما بأحكام تخصه.

فهذا إلماع بما يجب في المطالع على الرأي الأول.

6- تنوير: فأما ما يجب في المقاطع على ذلك الاعتبار وهي أواخر القصائد فأن يتحرى أن يكون ما وقع فيها من الكلام كأحسن ما اندرج في حشو القصيدة، وأن يتحرز فيها من قطع الكلام على لفظ كريه أو معنى منفر للنفس عما قصدت إمالتها إليه أو مميل لها إلى ما قصدت تنفرها عنه. وكذلك يتحفظ في أول البيت الواقع مقطعا للقصيدة من كل ما يكره ولو ظاهره وما توهمه دلالة العبارة أولا وإن رفعت الإبهام آخرا ودلت على معنى حسن، ومن هذا قول المتنبي: (البسيط -ق- المتراكب)

فلا بلغت بها إلا إلى ظفر ... ولا وصلت بها إلا إلى أمل

وإنما وجب الاعتناء بهذا الموضع لأنه منقطع الكلام وخاتمته.

فالإساءة فيه معفية على كثير من تأثير الإحسان المتقدم عليه في النفس. ولا شيء أقبح من كدر بعد صفو وترميد بعد إنضاج.

فهذا ما يجب في المطالع والمقاطع بهذا الاعتبار على المذهب المختار.

7- إضاءة: ومن الشعراء من يأخذ فيا لنقيض من هذا فلا يعتني بالمبدأ ولا المقطع. فختم كيفما اتفق ويبدأ كيفما تيسر له. ويعتمد هذا من يريد إعفاء خاطره، أو من يريد أن يظهر أنه لم يعتمد الروية والتنقيح في كلامه وإنما أخذ الكلام أخذا اقتضابيا على الصور التي عن له فيها أولا. فلا يحفل بعدم التصريع ولا يبالي بوقوع خرم في صدر البيت إن وقع له، ليوهم بذلك أنه أعفى قريحته وأن في قوته أن يقول أحسن مما قال.

8- تنوير: فأما ما يجب في المطالع والمقاطع على رأي من يقول أنها أول الأبيات وأواخرها فإن مطالع الأبيات يجب أن تكون سالمة من الخرم، غير مفتقرة إلى ما قبلها افتقار يجعلها غير مستقلة بأنفسها أو في قوة المستقلة. وأما ما يستحب فيما كان منها رأس فصل أو خاتمته فإني أذكره بعد - إن شاء الله - في الكلام في تأسيس الفصول وترتيبها.

ومحاشاة مطالع الأبيات من كل ما يكره من جهتي المسموعات والمفهومات مستحبة لأنها أول ما يقرع السمع. فهي رائد ما بعدها إلى القلب. فإذا قبلتها النفس تحركت لقبول ما بعدها، وإن لم تقبلها كانت خليقة أن تنقبض عما بعدها. وعلى نحو ما يشترط فيها من جهة المسموع يشترط فيها من جهة المفهوم. فإن النفس تكون مترقبة لما يرد عليها في استئناف كل فيقبضها ما تستقبله من كراهة المسموع أو المفهوم أولا عن كثير من نشاطها بما يرد بعد. ويحسن ألا تتكرر الألفاظ الواقعة في المطالع على قرب ما أمكنت المندوحة عن ذلك.

وأما ما يجب في المقاطع التي هي أواخر الأبيات فقد ألمعنا من الكلام في ذلك بلمحة دالة وقدمنا ذروا من القول فيه، فليتصفح هنالك، وبالله التوفيق.

المنهج الثالث في الإبانة عما يجب في تقدير الفصول وترتيبها ووصل بعضها ببعض وتحسين هيآتها، وما تعتبر به أحوال النظم في جميع ذلك من حيث يكون ملائما للنفوس أو منافراً لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بأحكام مباني الفصول وتحسين هيئاتها ووصل بعضها ببعض.

العم أن الأبيات بالنسبة إلى الشعر المنظم نظائر الحروف المقطعة من الكلام المؤلف، والفصول المؤلفة من الأبيات نظائر الكلم المؤلفة من الحروف، والقصائد المؤتلفة من الفصول نظائر العبارات المؤلفة من الألفاظ. فكما أن الحروف إذا حسنت حسنت الفصول المؤلفة منها إذا رتبت على ما يجب ووضع بعضها من بعض على ما ينبغي كما أن ذلك في الكلم المفردة كذلك. وكذلك يحسن نظم القصيدة من الفصول الحسان كما يحسن ائتلاف الكلام من الألفاظ الحسان إذا كان تأليفها منها على ما يجب. وكما أن الكلم لها اعتباران: اعتبار راجع إلى مادتها وذاتها، واعتبار بالنسبة إلى المعنى الذي تدل عليه، كذلك الفصول تعتبر في أنفسها وما يتعلق بهيآتها ووضعها، وتعتبر بحسب الجهات التي تضمنت الفصول الأوصاف المتعلقة بها.

وقد تقدم التعريف بالجهات وأنحائها. وأنا أخض هذا المعلم بالقول فيما يجب اعتماده في الفصول من جهة ما يرجع إلى موادها، وإلى هيآتها في أنفسها وما يجب في وضعها وترتيب بعضها من بعض. وأفرد للكلام في ما يتعلق بذلك من جهة اشتمالها على أوصاف الجهات وعلى الأقاويل المخيلة والمقنعة معرفا أقفو به هذا المعلم.

1- إضاءة: والكلام في ما يرجع إلى ذوات الفصول وإلى ما يجب في وضعها وترتيب بعضه من بعض يشتمل على أربعة قوانين: القانون الأول: في استجادة مواد الفصول وانتقاء جوهرها.

القانون الثاني: في ترتيب الفصول والمولاة بين بعضها وبعض.

القانون الثالث: في ترتيب ما يقع في الفصول.

القانون الرابع: في ما يجب أن يقدم في الفصول وما يجب أن يؤخر فيها وتختتم به.

2- تنوير: فأما القانون الأول في استجادة مواد الفصول وانتقاء جوهرها، فيجب أن تكون متناسبة المسموعات والمفهومات حسنة الاطراد غير متخاذلة النسج غير متميز بعضها عن بعض التمييز الذي يجعل كل بيت كأنه منحاز بنفسه لا يشمله وغيره من الأبيات بنية لفظية أو معنوية يتنزل بها منه منزلة الصدر من العجز أو العجز من الصدر. والقصائد التي نسجها على هذا مما تستطاب. وينبغي أن يون نمط نظم الفصل مناسبا للغرض. فتعتمد فيه الجزالة في الفخر مثلا والعذوبة في النسيب، وأن تكون الفصول معتدلة المقادير بين الطول والقصر. وتقصير الفصول سائغ في المقطعات والمقاصد التي يذهب بها مذهب الرشاقة، وتطويلها مستثقل في ذلك. فأما تطويل الفصول سائغ فيها ومحتمل لموافقته مقصد الكلام وكون القصيدة فيها رحب لذلك وسعة.

3- إضاءة: فأما القانون الثاني وهو ترتيب بعض الفصول إلى بعض، فيجب أن يقدم من الفصول ما يكون للنفس به عناية بحسب الغرض المقصود بالكلام. ويكون مع ذلل متأتيا فيه حسن العبارة اللائقة بالمبدأ. ويتلوه الأهم فالأهم إلى أن تتصور التقانة ونسبة بين فصلين تدعو إلى تقديم غير الأهم على الأهم. فهناك يترك القانون الأصلي في الترتيب.

4- تنوير: وتقديم الفصول القصار على الطوال أحسن من أن يكون الأمر بالعكس.

5- إضاءة: فأما القانون الثالث في تأليف بعض بيوت الفصل إلى بعض فيجب أن يبدأ منها بالمعنى المناسب لما قبله، وإن تأتي مع هذا أن يكون ذلك المعنى هو عمدة معاني الفصل والذي له نصاب الشرف كان أبهى لورود الفصل على النفس، على أن كثيرا من الشعراء يؤخرون المعنى الأشرف ليكون خاتمة الفصل. فأما من يردف المحاكاة ويختمه بأشرف معاني الإقناع. وإلى هذا كان يذهب أبو الطيب المتنبي - رحمه الله - في كثير من كلامه.

6- تنوير: ويحسن أن يصاغ رأي الفصل صيغة تدل على أنه مبدأ فصل، وإن تمكن مع هذا أن يناط به معنى يحسن موقعه من النفوس بالنسبة إلى الغرض كالتعجب والتمني والدعاء وتعديد العهود السوالف وما أشبه ذلك فهو أحسن.

7- إضاءة: ويشترط في المذهب المختار أن يكون لمعنى البيت مع كون أوله مبدأ كلام ومصدرا بكلمة لها معنى ابتدائي أن يكون لمعنى البيت علقة بما قبله ونسبة إليه.

8- تنوير: ويجب أن يردف البيت الأول من الفصل بما يكون لائقا به من باقي معاني الفصل مثل أن يكون مقالا له على وجه من جهات التقابل أو بعضه مقابلا لبعضه، أو يكون مقتضى له مثل أن يكون مسببا عنه، أو تفسيرا له، أو محاكي بعض ما فيه ببعض ما في الآخر، أو غير ذلك من الوجوه التي تقتضي ذكر شيء بعد شيء آخر. وكذلك الحكم في ما يتلى به الثاني والثالث إلى آخر الفصل.

9- إضاءة: وربما ختم الفصل بطرف من أغراض الفصل الذي يليه أو إشارة إلى بعض معانيه.

10- تنوير: فأما القانون الرابع في وصل بعض الفصول ببعض فالتأليف في ذلك على أربعة أضرب.

1- ضرب متصل العبارة والغرض.

2- وضرب متصل العبارة دون الغرض.

3- وضرب متصل الغرض دون العبارة.

4- وضرب منفصل الغرض والعبارة.

11- إضاءة: فأما المتصل العبارة والغرض فهو الذي يكون فيه لآخر الفصل بأول الفصل الذي يتلوه علقة من جهة الغرض وارتباط من جهة العبارة، بان يكون بعض الألفاظ التي في أحد الفصلين يطلب بعض الألفاظ التي في الآخر من جهة الإسناد والربط.

12- تنوير: وأما المتصل الغرض المنفصل العبارة فهو الذي يكون أول الفصل فيه رأس كلام، ويكون لذلك الكلام علقة بما قبله من جهة المعنى.

وهذا الضرب إذا نيط برأس الفصل فيه معنى تعجيبي أو دعائي أو غير ذلك مما أشرنا إليه هو أفضل الضروب الأربعة، لكون النفوس تنبسط ويتجدد نشاطها بإشعارها الخروج من شيء إلى شيء واستئناف كلام جديد لها مع ما يشفع به إليها في قبول الكلام من نياطة ما ذكرناه من تعجيب أو دعاء أو غير ذلك مما له بالمعنى علقة بالكلام وتصديره به. وهذا الضرب على كل حال أفضل الضروب الأربعة. وقد يقرن الحرف الرابط بهذا النحو فلا يغض من طلاوته ولا ينقص مما تجده النفس من حلاوته.

13- إضاءة: فأما الضرب الثالث وهو ما كان منفصل الغرض متصل العبارة فإنه منحط عن الضربين اللذين قبله.

14- تنوير: فأما الضرب الرابع وهو الذي لا توصل فيه عبارة بعبارة ولا غرض بغرض مناسب له، بل يهجم على الفصل هجوما من غير إشعار به بما قبله ولا مناسبة بين أحدهما والآخر، فإن النظم الذي بهذه الصفة مشتت من كل وجه. وإنما تسامح بعض المجيدين في مثل هذا عند الخروج من نسيب مديح. وربما فعلوا ذلك عند خروجهم منه إلى الذم.

وهذا القدر من الإشارة إلى ما يجب في الفصول، وإن كان قولا إجماليا، مقنع لمن له فكر متصرف يستدل به بما ذكر على ما لم يذكر.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بما يجب اعتاده في الفصول من جهة اشتمالها على أوصاف الجهات التي هي مسانح أقناص المعاني ومعاضدة التخييل فيهما بالإقناع على الوضع الذي يليق بذلك ويحسن به موقعه من النفوس.

إن من الشعراء من يقصد المبالغة في تكثير الأوصاف المتعلقة بالجهة التي القول فيها، فيستقصي من ذلك ما كانت له حقيقة، وربما تجاوز ذلك إلى أن يختل أوصافا يوهم أن لها حقيقة في تلك الجهة من غير أن يكون كذلك في الحقيقة بل على أنحاء من المجاز والتمويه ليبالغ بذلك في تمثيلها للنفس على أحسن أو أقبح ما يمكن بحسب غرض الكلام من حمد أو ذم، ويكون في ذلك بمنزلة من يقصد في المحاكاة والاقتصاصات الكلم التي تعطي المبالغة في الوصف؛ ومنهم من يقصر في أوصاف الجهات على الحقيقة وما قاربها، كما أن فيهم من لا يدل بألفاظه إلا على الحقيقة أو ما قاربها؛ ومنهم من يتوخى تضمين الفصل لحقيقة ما في الجهة، كما فيهم من يتوخى مطابقة اللفظ لحقيقة ما يدل عليه.

1- إضاءة: وكما أن في الشعراء من يستوعب أركان المعاني كذلك فيهم من يستقصي الأوصاف التي بها يكمل اتساق الفصول، وكما أن فيهم من يكتفي باستيفاء المقدار الذي منه يلتثم المعنى الذي رتبته في أول درجة من استقلال وترك ما وراء حد الاستقلال مما هو كالتتميم والتبيين كذلك فيهم من يأخذ من أوصاف الجهة ما يكون فيه إقناع وكفاية فلا يضمن الفصل أكثر من هذا المقدار.

2 - تنوير: وكما أن فيهم من يخل بالمعاني ويترك كثيرا من أركانها، وربما أدخل ما ليس منها، كذلك فيهم من يتخطى أوصاف الجهة اللائقة بمقصده ويذكر من ذلك ما تيسر له - أكيدا كان ذلك بالنسبة إلى غرضه أو غير أكيد - فيكون قد أخل بالفصول بالنظر إلى الجهات، وربما أقحم فيها ما لا يصلح بها.

3- إضاءة: وكما أن في الشعراء من يجعل أكثر معانيه وألفاظه مخيلة ولا يعرج على الإقناع الخطابي إلا في قليل من المواضع، وفيهم من يقصد الإقناع في كثير من معانيه - لأن صناعة الشعر تستعمل يسيرا من الأقوال الخطابية كما أن الخطابة تستعمل يسيرا من الأقوال الشعرية لتعتضد المحاكاة في هذه بالإقناع والإقناع في تلك بالمحاكاة. وغنما يعاب الشاعر إذا كان أكثر أقاويله أو ما قارب مساواة الباقي بزيادة قليلة أو نقص خطابية، والخطيب إذا كانت أقاويله أو ما قارب المساواة بزيادة قليلة أو نقص شعرية. فأما إذا استعملت إحداهما الأقل من الأخرى فإن ذلك يحسن لاعتضاد إحداهما بالأخرى وإراحة النفس وجمومها لتجدد الأقاويل الشعرية بعد الخطابية والخطابية بعد الشعرية عليها وإجمامها بالواحد لتلقى الآخر. - فكذلك في الشعراء أيضاً من يجعل أكثر أبياته وما تتضمنه الفصول بالجملة مخيلة ولا يستعمل الإقناع إلا في القليل منها، ومنهم من يستعمل الإقناع في كثير من الأبيات التي تتضمنها فصول القصيدة.

وقد كان أبو الطيب يعتمد هذا كثيرا ويحسن وضع البيت الإقناعي من الأبيات المخيلة لأنه كان يصدر الفصول بالأبيات المخيلة ثم يختمها ببيت إقناعي يعضد به ما قدم من التخييل ويجم النفوس لاستقبال الأبيات المحيلة في الفصل التالي. فكان لكلامه أحسن موقع في النفوس بذلك. ويجب أن يعتمد مذهب أبي الطيب في ذلك، فإنه حسن.

4- تنوير: والذي يجب أن يعتمده من له قوة يتسنم بها أية شاء من رتب الشعراء في إعطاء الفصول حقها أو فوق حقها أو دون حقها في ما هو فيها بالنظر إلى الجهات بإزاء المبالغة والاستيعاب فيا لعبارات بالنظر إلى المعاني، وهو الاقتصار في ما كانت موصوفاته في أعلى رتبة من الحسن أو القبح على الحقيقة أو ما قاربها مما هو غير مستحيل. هذا إذا قصد تحسين الحسن وتقبيح القبيح.

وما كان في أدنى رتبة منها وقصد تحسينه أو تقبيحه على ذلك النحو فسائغ للشاعر أن يلحقه بذي الرتبة العليا ويصفه بمثل ذلك من الأوصاف التي لا يستحيل تصورها وإن كانت ممتنعة. والمستحسن أن يكون ذلك من الأمور الممكنة.

وإنما ساغ في الشعر وقوع الكذب في الممكنات ولم يسغ في المستحيلات لأن الأمر إذا كان ممكنا سكنت إليه النفس وجاز تمويهه عليها، والمحال تنفر عنه النفس ولا تقبله البتة، فكان مناقضا لغرض الشعر إذ المقصود بالشعر الاحتيال في تحريك النفس لمقتضى الكلام بإيقاعه منها بمحل القبول بما فيه من حسن المحاكاة والهيئة بل ومن الصدق والشهرة في كثير من المواضع.

5- إضاءة: وأما الاستقصاء فإنه مستحسن في الجهات التي معانيها مع شرفها قليلة.

فأما الجهات التي تكثر معانيها وليست كلها بشريفة بالنسبة إلى المقصد فإنما يسوغ استقصاؤها في القصائد الطوال كقصائد ابن الرومي. فأما في القصائد القصار والمتوسطة فلا يحسن إلا التخطي إلى الأشرف فالأشرف منها كما وجب التخطي أيضاً في المعاني المتناظرات إذا كثرت على ما قدمت. لكن ذلك قد يستساغ في القصائد الطوال، ولكل مقام مقال.

6- تنوير: وقد يكون الفصل مشتملا على معاني جهتين أو أكثر، ويكن تعليق الوصاف الواقعة فيبعضها ببعض على سبيل محاكاة أو التفات أو غير ذلك. وما جاء غير متكلف من هذا القبيل فهو حسن.

7- إضاءة: ومن القصائد ما يكون اعتماد الشاعر في فصولها على أن يضمنها معاني جزئية تكون مفهوماتها شخصية، ومنها ما يقصد في فصولها أن تضمن المعاني الكلية التي مفهوماتها جنسية أو نوعية، ومنها ما يقصد في فصولها أن تكون المعاني المضمنة إياها مؤتلفة بين الجزئية والكلية. وهذا هو المذهب الذي يجب اعتماده لحسن موقع الكلام به من النفس. وأحسن ما يكون عليه هيأة الكلام في ذلك أن تصدر الفصول بالمعاني الجزئية وتردف بالمعاني الكلية على جهة تمثل بأمر عام على أمر خاص أو استدلال على الشيء بما هو أعم منه أو نحو ذلك. فكثيرا ما يقع بوضع معاني الفصول على هذه الصفة تعجيب للنفس وانقياد إلى مقتضى الكلام، لكون المعاني الكلية مظنة لوقوع الاقتداء والائتساء بها للسامع أو عدمها حيث يقصد التأنيس بوجودهما أو التنفير من فقدان ذلك، ولوقوع المراوحة التي قدمنا أن فيها استجماما للنفوس.

وللكلام في هذا طول لا يحتمله هذا الموضع، إذ قصدنا اقتضاب ما تيسر من هذه القوانين الكلية واعتماد ما معرفته أكيدة في هذه الصناعة من ذلك، فلذلك اكتفينا من القول في ما قصدنا الإبانة عنه بهذه الإضاءة بهذه اللمحة الدالة.

ج - مأم من مذاهب البلاغة المستبانة بهذا المنهج وهو مذهب التسويم

إن الحذاق من الشعراء - المهتدين بطباعهم المسددة إلى ضروب الهيئات التي يحسن بها موقع الكلام من النفس من جهة لفظ أو معنى أو نظم أو أسلوب - لما وجدوا النفوس تسأم التمادي على حال واحدة وتؤثر الانتقال من حال إلى حال، ووجدوها تستريح إلى استئناف الأمر بعد الأمر واستجداد الشيء بعد الشيء. ووجدوها تنفر من الشيء الذي لم يتناه في الكثرة إذا أخذ مأخذا واحدا ساذجا ولم يتحيل فيما يستجد نشاط النفس لقبوله بتنويعه والافتنان في أنحاء الاعتماد به، وتسكن إلى الشيء وإن كان متناهيا في الكثرة إذا أخذ من شتى مآخذه التي من شأنها أن يخرج الكلام بها في معاريض مختلفة واحتيل في ما يستجد نشاط النفس لقبوله من توعيه والافتنان في أنحاء الاعتماد به اعتمدوا في القصائد أن يقسموا الكلام فيها إلى فصول ينحى بكل فصل منها محنى من المقاصد ليكون للنفس في قسمة الكلام إلى تلك الفصول والميل بالأقاويل فيها إلى جهات شتى من المقاصد وأنحاء شتى من المآخذ استراحة واستجداد نشاط بانتقالها من بعض الفصول إلى بعض وترامي الكلام بها إلى أنحاء مختلفة من المقاصد - فالراحة حاصلة بها لافتنان الكلام في شتى مذاهبه المعنوية وضورب مبانيه النظمية - واعتنوا باستفتاحات الفصول وجهدوا في أن يهيؤوها بهيئات تحسن بها مواقعها من النفوس وتوقظ نشاطها لتلتقي ما يتبعها ويتصل بها، وصدروها بالأقاويل الدالة على الهيئات التي من شان النفوس أن تتهيأ بها عند الانفعالات والتأثرات لأمور سارة أو فاجعة أو شاجية أو معجبة بحسب ما يليق بغرض الكلام من ذلك، وقصدوا أن تكون تلك الأقاويل مبادئ كلام من جهة ما نحي بها من أنحاء الوضع أو محكومها لها بحكم المبادئ وإن وصلها بما قبلها واصل لكونها مستقلة بأنفسها من جهة الوضع الذي يخصها، فيكون استئناف الكلام على ذلك النحو وصوغه على تلك الهيآت مجددا لنشاط النفس ومحسنا لموقع الكلام منها.

1- إضاءة: ولما كان اعتماد ذلك في رؤوس الفصول ووجودها أعلاما عليها وإعلاما بمغزى الشاعر فيها، وكان لفواتح الفصول بذلك بهاء وشهرة وازديان حتى كأنها بذلك ذوات غرر رأيت أن أسمي ذلك بالتسويم وهو أن يعلم على الشيء وتجعل له سيمى يتميز بها. وقد كثر استعمال ذلك في الوجوه والغرر، كما قال ابن الرومي: (الطويل -ق- المتدارك)

سما سموة نحو المساء بغرة ... مسمومة قد ما بسيمى سجودها

فلذلك كان هذا اللقب لائقا بما وضع عليه. وأيضا فإنا سمينا تحلية أعقاب الفصول بالأبيات الحكمية والاستدلالية بالتحجيل ليكون اقتران صنعة رأس الفصل وصنعة عجزه نحوا من اقتران الغرة بالتحجيل في الفرس.

2- تنوير: فإذا اطرد للشاعر أن تكون فواتح فصوله على هذه الصفة واستوسق له الإبداع في وضع مباديها على أحسن ما يمكن من ذلك صارت القصيدة كأنها عقد مفصل، وتألفت لها بذلك غرر وأوضاح وكان اعتماد ذلك فيها أدعى إلى ولوع النفس بها وارتسامها في الخواطر لامتياز كل فصل منها بصورة تخصه.

3- إضاءة: وإذا اتجه أن يكون الانتقال من بعض صدور الفصول إلى بعض على النحو الذي يوجد التابع فيه مؤكدا لمعنى المتبوع ومنتسبا إليه من جهة ما يجتمعان في غرض ومحركا للنفس إلى النحو الذي حركها الأول أو إلى ما يناسب ذلك، كان ذلك أشد تأثيرا في النفوس وأعون على ما يراد من تحسين موقع الكلام منها.

4- تنوير: وممن كان يحسن الاطراد في تسويم رؤوس الفصول على النحو الذي ذكرته أبو الطيب المتنبي، وذلك نحو قوله: (الطويل -ق- المتدارك)

أغالب فيك الشوق، والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر، والوصل أعجب

فضمن هذا البيت من الفصل الأول تعجيبا من الهجر الذي لا يعاقبه وصل، ثم أكد التعجيب في البيت الثاني الذي هو تتمة الفصل الأول، ثم ذكر من لجاج الأيام في بعد الأحباء وقرب الأعداء، وكان ذلك مناسبا لما ذكر في الهجر.

5- إضاءة: ثم افتتح الفصل الثاني بالتعجب من وشك بينه وسرعة سيره فقال:

ولله سيري ما أقل تئية ... عشية شرقي الحد إلى غرب

فكان هذا الاستفتاح مناسبا للبيتين المتقدمين من جهة التعجب وذكر الرحيل، ثم بين حاله وحال من ودعه عند الوداع.

6- تنوير: ثم استفتح الفصل الثالث بتذكر العهود السارة وتعديدها فقال:

وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب

فكان هذا مناسبا لمفتتح الفصل الثاني في أنه تذكر فيه موطن البين فتلا ذلك بتذكر موطن الوصل والقرب في صدر هذا الفصل الثالث، ثم تمم هذا الفصل بذكر ما اقترن بذلك الوصل من محاذرة الرقبة.

7- إضاءة: ثم استفتح الفصل الرابع بتذكر الحال التي حاذر فيها الرقبة عند رحيله عن سيف الدولة، فشبه اليوم الذي كان فيه ذلك بليل العاشقين في الطول وفي أنهم يحذرون فيه الرقبة فقال:

ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب

ثم اطرد كلامه في هذا الفصل في وصف الفرس وانتقل فيه من معان جزئية إلى معان كلية يمكن معها أن يعتقد في الكلام انه فصل واحد، وأن يعتقد أنه فصلان ويكون رأس الفصل الثاني قوله:

وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب

8- تنوير: ثم استفتح الفصل الخامس أو السادس على الاعتبار الثاني بذم الدنيا وما تؤول إليه أحوالها وتعقب به صروفها من مثل ما قدم من ذكر الفراق والبعاد والهجر ومكابدة الأعداء، وتوجع مما يصيب كل بعيد الهم فيها فقال:

لحى الله ذي الدنيا مناخا لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب

فاطرد له الكلام في جميع ذلك أحسن اطراد، وانتقل في جميع ذلك من الشيء إلى ما يناسبه وإلى ما هو منه بسبب ويجمعه وإياه غرض. فكان الكلام بذلك مرتبا أحسن ترتيب ومفصلا أحسن تفصيل وموضوعا بعضه من بعض أحكم وضع.

فعلى هذا النحو يجب أن تكون المآخذ في استفتاحات الفصول ووضع بعضها من بعض. وهذا الفن من الصناعة ركن عظيم من أركان الصناعة النظمية لا يسمو إليه إلا من قويت مادته وفاق طبعه. وقد أرشدناه إلى السبيل المؤدية إلى حسن التصرف في ذلك. فمن ائتم بما رسمته في ذلك لم يضل إن شاء الله.

د- مأم من المذاهب المستشرفة مما تقدم أيضا، وهو مذهب التحجيل.

وإذا ذيلت أواخر الفصول بالأبيات الحكمية والاستدلالية واتضحت شيات المعاني التي بهذه الصفة على أعقابها - فكان لها ذلك بمنزلة التحجيل - زادت الفصول بذلك بهاء وحسنا ووقعت من النفوس أحسن موقع.

1- إضاءة: ولا يخلو المعنى الذي يقصد تحلية الفصل به وتحجيله من أن يكون متراميا إلى ما ترامت إليه جملة معاني الفصل إن كان مغزاها واحد أو يكون متراميا إلى ما ترامى إليه بعضها، فيورد على جهة الاستدلال على ما قبله أو على جهة التمثيل. ويكون منحوا به منحى التصديق أو الإقناع، مقصودا به إعطاء حكم كلي في بعض ما تكون عليه مجاري الأمور التي للأغراض الإنسانية علقة بها مما انصرفت إليه مقاصد الفصل ونحي بها نحوه. فيكون في ورود البيت الأخير الذي يتضمن حكما أو استلالا على حكم، إثر المعاني التي لأجلها بين ذلك الحكم أو الاستدلال عليه، إنجاد للمعاني الأول وإعانة لها على ما يراد من تأثر النفوس لمقتضاها. فكان ذلك من أحسن ما يعتمد في الفصول وأزينه لها.

2- تنوير: وهذا الفن من صناعة النظم شريف جدا. وينبغي أن يكون اللفظ والتركيب فيه سهلا جزلا، وأن تورد القافية فيه متمكنة. وإن كانت مراعاة هذه الأشياء واجبة في غير ذلك من أبيات الشعر فإنها في هذه الأبيات التي تجعل اختتامات للفصول ونصولا على عواملها أوجب.

3- إضاءة: وممن سبق إلى وضع هذه المعاني المذهوب بها مذهب الحكمة والتمثل في نهايات الفصول ومقاطع القول فيها وسبك القول فيها أحسن سبك زهير، نحو ما تمثل به في آخر مذهبته: (الطويل -ق- المتدارك)

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

ونحو ما ختم به آخر فصل من قصيدته اللامية، وذلك قوله: (الطويل -ق- المترادف)

فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل

ثم جاء أبو الطيب المتنبي فيا لمولدين فولع بهذا الفن من الصنعة وأخذ خاطره به حتى برز في ذلك وجلى وصار كلامه في ذلك منتميا إلى الطراز الأعلى.

4- تنوير: وينبغي ألا يسرف في الاستنكار من هذا الفن من الصنعة، فإنه مؤد إلى التكلف وسآمة النفس. ولكن يلمع بذلك في بعض نهايات الفصول دون بعض، وبحسب ما يعن للخاطر من ذلك ويسنح من غير استكراه ولا تكلف في وزن أو قافية أو هيأة نظامية بالجملة.

وإنما يجب أن يقتضب الخاطر من ذلك ما ناسب الغرض ووسعه مقدار الشعر وتمكن فيه رويه ولم يكن قلقا في موضعه من جهة لفظ ولا معنى. وإنما يسنح الكلام على هذا في بعض المواضع.

فلذلك كان اعتماد التمثل والحكمة على أعقاب كل فصل دليلا على التكلف وداعيا إليه. ولذلك عيب كلام قوم من قدماء المولدين حيث اعتمدوا ذلك في أكثر كلامهم، فدل ذلك على التكلف وأوقع في السآمة، ولم يبق للحكمة جدة ولا طراءة.

وإنما يحسن الكلام بالمراوحة بين بعض فنونه وبعض والافتنان في مذاهبه وطرقه، فيزداد حب النفس لما يرد عليها من ذلك إذا كانت زيادته غبا.

المنهج الرابع في الإبانة عن كيفية العمل في إحكام مباني القصائد وتحسين هيآتها، وما تعتبر به أحوال النظم في جميع ذلك من حيث يكون ملائما للنفوس أو منافراً لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بإحكام مباني القصائد وتحسين هيآتها وما تجب العناية بالتأنق فيه من ذلك وما تتأكد العناية به وما تتأكد فيه عند قوم ولا تتأكد عند آخرين.

إن من القصائد ما يقصد فيه التقصير، ومنها ما يقصد فيه التطويل، ومنها ما يقصد فيه التوسط بين الطول والقصر.

فأما المقصرات فإن القول فيها إذا كان منقسما إلى غرضين لم يتسع المجال للشاعر لأن يستوفي أركان المقاصد التي بها يكمل التئام القصائد على أفصل هيئاتها، وربما استوفى ذلك الحذاق مع ضيق المجال عليهم باقتضاب الأوصاف الضرورية في الجهات بالنسبة إلى الغرض والتلطف في إبداع النقلة من بعضها إلى بعض على الوجوه الملائمة الموجزة.

فأما المتوسطات والمطولات فالمجال فيها متسع لما يراد من ذلك.

1- إضاءة: والقصائد: منها بسيطة الأغراض ومنها مركبة. والبسيطة مثل القصائد التي تكون مدحا صرفا أو رثاء صرفا. والمركبة هي التي يشتمل الكلام فيها على غرضين مثل أن تكون مشتملة على نسيب ومديح. وهذا أشد موافقة للنفوس الصحيحة الأذواق لما ذكرناه من ولع النفوس بالافتنان في أنحاء الكلام وأنواع القصائد.

2- تنوير: فأما كيفية العمل في القصائد المشتملة على نسيب ومديح فإن كل قول نسيبي لا يخلو من أن يكون متعلقا بوصف المحبوب ومحاكاته أو وصف بعض أحواله وما له بذلك علقة من زمان أو مكان أو غير ذلك، أو يكون متعلقا بوصف المحب أو وصف بعض أحواله وما له بذلك علقة، أو يكون متعلقا بوصف حال تقاسماها معا.

فأكثر ما تبدأ القصائد الأصيلية بما يرجع من ذلك إلى المحب: كالوقوف على الربوع والنظر إلى البروق ومقاساة طول الليل.

وأكثر ما تبدأ بعد هذا بما يرجع إلى المحب والمحبوب معا مما يسوء وقوعه كوصف يوم الفراق وموقف الوداع.

والافتتاح بما يخص المحبوب أقل من ذلك.

3- إضاءة: ويستحسن إرداف ما يرجع إلى المحب والمحبوب معا مما يشجو وقوعه بذكر بعض ما هو راجع إليهما مما يسر وقوعه، إذ في ذلك ضرب من المقابلة وتدارك للنفوس كم إيلامها بالشاجي الصرف، بأن تعرض عليها المعاني التي تلتذ بتخيل ما يعنى بها وإن آلمها مغيبه أو انقضاؤه.

4- تنوير: وأحسن ما ابتدئ به من أحوال المحبين ما كان مؤلما من جهة ملذا من أخرى كحال التذكر والاشتياق وعرفان المعاهد. فإن هذه الأحوال وإن كانت مؤلمة للنفوس فإن لكثير من النفوس في تخيل ما يتذكر ويشتاق إليه ويحن إلى عهده لذة ما وتشفيا، يكاد ينقع الغلة من حيث أذكاها ويس النفس من حيث أشجاها وأبكاها. ثم يتدرج من ذلك على ذكر ما يؤلم من بعض الأحوال التي لها علقة بهما معا، ثم إلى ذكر ما يؤلم ويلذ من الأحوال التي لها بهما أيضاً علقة، ثم ينتقل من ذلك إلى ما يخص المحبوب من الأوصاف والمحاكاة، ثم يحتال في عطف أعنة الكلام إلى المديح، فهذا هو الموضع التام المتناسب. وهو الذي يعتمده امرؤ القيس في كثير من قصائده. ولا يحسن أن يبدأ بالمؤلم المحض. وقد يقع ذلك لكثير من الشعراء. ويكون الترتيب على غير ما ذكرته، لكن الذي ذكرته أحسن.

5- إضاءة: فأما المديح المتخلص إليه من نسيب فالوجه أن يصدر بتعديد فضائل الممدوح، وأن يتلى ذلك بتعديد مواطن باسه وكرمه وذكر أيامه في أعدائهم. وإذا للممدوح سلف حسن تشفيع ذكر مآثره، بذكر مآثرهم ثم يختتم بالتيمن للممدوح والدعاء هل بالسعادة ودوام النعمة والظهور على الأعداء وما ناسب ذلك.

والمحدثون أثر اعتمادا لهذا في مقاطع القصائد من القدماء، وإن كان ذلك أيضاً موجودا في أشعارهم.

6- تنوير: فأما القصائد البسيطة فأحسن ما تبدأ به وصف ما يكون في الحال مما له إلى غرض القول انتساب شديد كافتتاح مدح القادم من سفر بتهنئته بالقدوم والتيمن له بذلك، وكافتتاح مدح من ظفر بأعدائه بوصف ذلك وتهنئته به، ثم يتبع ذلك بذكر فضائل الممدوح ونشر محامده، ويستمر في الأغراض التي تغن على الأنحاء التي لا يوجد للكلام معها اضطراب ولا تنافر.

7- إضاءة: ويجب أن تكون المبادئ جزلة، حسنة المسموع والمفهوم، دالة على غرض الكلام، وجيزة، تامة. وكثيرا ما يستعملون فيها النداء والمخاطبة والاستفهام ويذهبون بها مذاهب من تعجيب أو تهويل أو تقرير أو تشكيك أو غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه فيما سلف.

8- تنوير: ويجب أن تكون الصدور متناسبة النسج، حسنة الالتفاتات، لطيفة التدرج، مشعشعة الأوصاف بالتشبيهات. ويجب أن يكون التخلص لطيفا، والخروج إلى المدح بديعا.

9- إضاءة: ويجب أن يكون صدر المديح حسن السبك، عذب العبارات مستطاب المعاني، ليناسب ما اتصل به من النسيب. ويجب أن تعتمد فيه مع ذلك الجزالة والمبالغة في الأوصاف.

10- تنوير: ومما يجب اعتماده حيث يقع وصف الحرب أن تفخم العبارات وتهول الأوصاف ويحسن الاطراد في اقتصاص ما وقع من ذلك، وأن تراح النفوس حيث يقع التمادي في ذلك بإيراد معاني تستطيبها وتبسط ما قبض منها تهويل وصف الحرب. وتحسن الإحالة على التواريخ في هذا الموضع.

11- إضاءة: فأما الاختتام فينبغي أن يكون بمعان سارة فيما قصد به التهاني والمديح، وبمعان مؤسية فيما قصد به التعازي والرثاء. وكذلك يكون الاختتام في كل غرض بما يناسبه. وينبغي أن يكون اللفظ فيه مستعذبا والتأليف جزلا متناسبا، فإن النفس عند منقطع الكلام تكون متفرغة لتفقد ما وقع فيه غير مشتغلة باستئناف شيء آخر.

12- تنوير: فأما ما تجب العناية بالتأنق فيه على الوجه المختار فتحسين المبدأ والتخلص. وأما ما تتأكد به العناية ولاسيما عند من أخذ بمذهب أيمة المحدثين فتحسين البيت التالي للبيت الأول من القصيدة ليتناصر بذلك حسن المبدأ ومثل هذا قول أبي تمام: (الطويل -ق- المترادف)

شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد

وأنجدتم من بعد إتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

ومن ذلك قول أبي الطيب المتنبي: (البسيط -ق- المترادف)

من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب

إن كنت تسأل مثلا في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب

وقوله: (الطويل -ق- المتدارك)

لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق

وقوله: (الطويل -ق- المتدارك)

فراق ومن فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت غير ميمم

وما منزل اللذات عند بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرم

وأكثر ما يتوخون هذا إذا كان البيت الثاني تتمة الفصل الأول. فأما إذا كان الفصل الأول أكثر من بيتين فإنهم يوجهون العناية إلى تحسين نهاية الفصل. وكلما قرب ذلك إلى المبدأ فكان ثانيا أو ثالثا كان أحسن مثل قول أبي تمام - رحمه الله -: (الخفيف -ق- المترادف)

أيها البرق بت بأعلى البراق ... واغد فيها بوابل غيداق

وتعلم بأنه ما لأنوا ... ئك إن لم تروها من خلاق

دمن طالما التقت أدمع المز ... ن عليها وادمع العشاق

وإذا لم يكن البيت الثاني مناسبا للأول في حسنه غض ذلك من بهاء المبدأ وحسن الطليعة، وخصوصا إذا كان فيه قبح من جهة لفظ أو معنى أو نظم أو أسلوب، وذلك نحو قول أبي الطيب المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)

أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي

كيف ترثي التي رأت كل جفن ... راءها غير جفنها غير راق

وتحسين البيت التالي لبيت التخلص إلى المدح يجري من بيت التخلص مجرى تحسين البيت الثاني من البيت الأول في أن إتباع تحسين أحدهما بتحسين الآخر أكيد.

فأما ما تتأكد به العناية عند قوم ولا تتأكد عند آخرين فمقاطع القصائد وأبياتها الأواخر. وذلك من جهة ما يرجع إلى هيئات الوضع والتأليف والاطراد في الألفاظ والمعاني والنظام والأسلوب. فأما من جهة وقوع لفظ مكروه أو معنى مشنوء في منقطع الكلام فالرأي فيه واحد في أن التحفظ منه واجب على كل ناظم أو ناثر.

فهذه مذاهب الحذاق المطبوعين: تحسين هيئات القصائد وتحصين مبانيها قد أبنتها، فمن سلك ذلك السبيل وذهب ذلك المذهب فقد سرى على سواء المنهج من هذه الصناعة، إن شاء الله.

ب- مأم من مذاهب البلاغة المستشرفة بهذا المعلم وهو مذهب الإبداع في الاستهلال.

وتحسين الاستهلالات والمطالع من أحسن شيء في هذه الصناعة، إذ هي الطليعة الدالة على ما بعدها المتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة، تزيد النفس بحسنها ابتهاجا ونشاطا لتلقي ما بعدها إن كان بنسبة من ذلك. وربما غطت بحسنها على كثير من التخون الواقع بعدها إذا لم يتناصر الحسن فيما وليها.

1- إضاءة: ولا يخلو الإبداع في المبادي من أن يكون راجعا إلى ما يقع في الألفاظ من حسن مادة واستواء نسج ولطف انتقال وتشاكل اقتران وإيجاز عبارة وما جرى مجرى ذلك مما يستحسن في الألفاظ، أو إلى ما يرجع إلى المعاني من حسن محاكاة ونفاسة مفهوم وتطبيق مفصل بالنسبة إلى الغرض وما جرى مجرى ذلك مما يستحسن في المعاني، أو إلى ما يرجع إلى النظم من إحكام بنية وإبداع صيغة ووضع وما ناسب ذلك مما يحسن في النظم، أو إلى ما يرجع إلى الأسلوب من حسن منزع ولطيف منحى ومذهب وما جرى مجرى ذلك مما يستحسن في الأساليب.

2- تنوير: وملاك المر في جميع ذلك أن يكون المفتتح مناسبا لمقصد المتكلم في جميع جهاته. فإذا كان مقصده الفخر كان الوجه أن يعتمد من الألفاظ والنظم والمعاني والأسلوب ما يكون فيه بهاء وتفخيم، وإذا كان المقصد النسيب كان الوجه أن يعتمد منها ما يكون فيه رقة وعذوبة من جميع ذلك، وكذلك سائر المقاصد. فإن طريقة البلاغة فيها أن تفتتح بما يناسبها ويشبهها من القول من حيث ذكر.

3- إضاءة: ومما تحسن به المبادئ أن يصدر الكلام بما يكون فيه تنبيه وإيقاظ لنفس السامع أو أن يشرب ما يؤثر فيها انفعالا ويثير لها حالا من تعجيب أو تهويل أو تشويق أو غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه.

4- تنوير: وفي الكلام ما له صورة يصير بها لائقا أن يكون رأس كلام ومفتتح قول، ومنه ما لا يليق بالمبادي ولا يكون له هيأة تصلح لها.

ويجب أن يجتلب القول للمبادئ من المعدن الأول.

5- إضاءة: وأحسن المبادي ما تناصر فيه حسن المصراعين وحسن البيت الثاني على ما تقدم ذكره في العلم قبل هذا.

وأكثر ما وقع الإحسان في المبادئ على هذا النحو للمحدثين. فأما العرب المتقدمون فلم يكن لهم بتشفيع البيت الأول بالثاني كبير عناية. وكثيرا ما كانوا يتسلسلون فيه في ذكر المواضع نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المترادف)

فغول، فحليت، فنفي فمنعجٍ ... إلى عاقل، فالجب ذي الأمرات

والرتبة الثانية في حسن المبادي أن يتناصر الحسن في المصراعين دون البيت الثاني، نحو قول أبي الطيب المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)

أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي

والرتبة الثالثة أن يكون المصراع الأول كامل الحسن، ولا يكون المصارع الثاني منافراً له وإن لم يكن مثله في الحسن، ومثل هذا يوجد كثيرا.

6- إضاءة: وقد تكون المبادي، التي حسن فيها المصراع الأول وكان ما وليه نمطا وسطا في الكلام، من الشرف بما وقع فيها بحيث تفوق المبادي التي تناصر الحسن في مصارعيها والبيت الثاني لهما، وذلك نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المتدارك)

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فالمصراع الأول في غاية الإبداع ونهاية الانطباع، وليس المصراع الثاني كذلك، وإن كان له قسط من الفصاحة لأن كثيرا من الشعراء الفحول يجاريه في مثل صيغة المصراع الثاني ويتمم مبدأه بمثل ما تممه به، وليس يجاريه أحد في كمال المصراع الأول وشرف ما وقع فيه بالنظر إلى ما يجب أن يفتتح به القول في البكاء على الديار.

7- تنوير: وليس يجب أن يعتبر في حسن المبادي ما وقع الإحسان في مصراعه الثاني إذا كان المصراع الأول قبيحا.

8- إضاءة: ومما اختير من المبادي قول النابغة: (الطويل -ق- المتدارك)

كليني لهم يا أميمة ناصب

وقول الأعشى: (الطويل -ق- المتدارك)

كفى بالذي تولينه لو تحببا

وقول القطامي: (البسيط -ق- المتركب)

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل

وقول بشار: (الطويل -ق- المتدارك)

أبى طلل بالجزع أن يتكلما

وقول حبيب: (البسيط -ق- المتراكب)

يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا

وقول البحتري: (الزجر -ق- المتدارك)

عارضتنا أصلا فقلنا الربرب

ومن المراثي قول الشاعر: (الطويل -ق- المتدارك)

أيا جارنا من يجتمع يتفرق ... ومن يك رهنا للحوادث يغلق

وقول أوس بن حجر: (الخفيف -ق- المتراكب)

أيتها النفس أجملي جزعا

وقول حبيب: (البسيط -ق- المتراكب)

أي القلوب عليكم ليس ينصدع

9- تنوير: ومما أستحسنه أنا قول منصور النمري: (البسيط -ق- المتراكب)

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع ... إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع

وقول أبي الطيب: (الطويل -ق- المتدارك)

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

وقول أبي عمر بن دراج القسطلي: (البسيط -ق- المتراكب)

أهل بالبين، فانهلت مدامعه

وقول يوسف بن هارون: (الرجز -ق- المترادف)

من حاكم بيني وبين عذولي

وقول أبي إسحق بن خفاجة: (الطويل -ق- المتدارك)

لك الله من برق تراءى فسلما

ولو قال قائل: (إنه لم يستفتح في قافية الهمزة بأحسن من قول أبي جعفر بن وضاح: (الرجز -ق- المترادف)

يا سرحة العلمين من تيماء ... حدبت عليك روائم الأنواء

لكان حقيقا أن يصدق وأن يسلم له في ما قال.

ج- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء التخلصات من حيز إلى حيز وعطف أعنة الكلام من جهة إلى أخرى ومن غرض إلى غرض.

اعلم أن الانعطاف بالكلام من جهة إلى أخرى أو غرض إلى آخر لا يخلو من أن يكون مقصودا أولا، فيذكر الغرض الأول لأن يستدرج منه إلى الثاني وتجعل مآخذ الكلام في الغرض الأول صالحة مهيأة لأن يقع بعدها الغرض الثاني موقعا لطيفا وينتقل من أحدهما إلى الآخر انتقالا مستطرفا، لذكر الغرض الثاني ولا توطئة للصيرورة إليه والاستدراج إلى ذكره بل لا ينوي الغرض الثاني في أول الكلام، وإنما يسنح للخاطر سنوحا بديهيا ويلاحظه الفكر المتصرف بالتفاتاته إلى كل جهة ومنحى من أنحاء الكلام.

فما كان من قبيل هذا القسم الثاني فإنه الذي يعرف بالالتفات. وأما القسم الأول فإن منه ما يكون بصورة الالتفات، ومنه ما لا يكون بتلك الصورة. وفي ما لا يبنى الكلام عليه أيضاً من أول ما لا يكون بصورة الالتفات.

1- إضاءة: والصورة الالتفاتية: هي أن يجمع بين حاشيتي كلامين متباعدي المآخذ والأغراض، وأن ينعطف من إحداهما إلى الأخرى انعطافا لطيفا من غير واسطة، تكون توطئة للصيرورة من أحدهما إلى الآخر على جهة من التحول.

والانعطاف غير الالتفاتي يكون بواسطة، بين المنعطف منه والمنعطف إليه، يوجد الكلام بها مهيئا للخروج من جهة إلى أخرى، وسبب يجعل سبيلا إلى ذلك يشعر به قبل الانتهاء إليه.

2- تنوير: وأصناف الالتفاتات كثيرة. وأكثر ما يعني المتكلمون في البديع، من ضروبه، ثلاثة أصناف: 1- مما أوهم ظاهره أنه كريه وهو مستحب في الحقيقة فيلتفت الشاعر إلى ذكر ما يزيل ذلك؛ نحو قول عرف بن محلم: (السريع -ق- المترادف)

إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

2- الثاني أن يلتفت الشاعر عند ذكر شيء إلى ما له في نفسه من غرض جميل أو غير ذلك، فيصرف للكلام إلى جهة ذلك الغرض، نحو قول جرير: (الكامل -ق- المتدار)

طرب الحمام بذي الأراك فهاجني ... لا زلت في غلل وأيك ناضر

3- الثالث أن يلتفت إلى نقض خفي داخل عله في مقصد كلامه أو يخشى تطرق النقض إليه، فيحتال في ما يرفع النقض ويزيل التطرق، ويشير إلى ذلك ملتفتا كقول طافة: (الكامل -ق- الترادف)

فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي

وقول ابن المعتز: (الطويل -ق- المتدارك)

صببنا عليها، ظالمين، سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل

3- إضاءة: وإذ قد تبين أن ما قصد به الاستدراج أولا، أو سنح فيه الالتفات آخرا، كلاهما منه ما يترامى فيه من الغرض الأول إلى الثاني من بعد على سبيل التدرج، ومنه ما يخلص فيه إلى الشيء مما يليه من الكلام بغير تدرج، فلنذكر الآن مآخذ الشعراء فيما يتدرجون إلى مدحه أو ذمه، أو يخلصون إليه خلوصا التفاتيا على جهة الاستطراد، أو لا يتدرجون إليه ولا يستطردون بل يهجمون على المدح أو الذم هجوما.

وأهل البديع يسمون ما كان الخروج فيه بتدرج تخلصا، وما لم يكن بتدرج ولا هجوم ولكن بانعطاف طارئ على جهة من الالتفات استطرادا، ومثله قول حسان: (الرجز -ق- المترادف)

إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام

وربما اجتمع التخلص والاستطراد، كقول مسلم: (الطويل -ق- المتدارك)

أجدك لا تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك تنشر

أرقت لها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحي حين يذكر جعفر

فتخلص إلى مدح يحي واستطرد منه إلى ذكر جعفر.

وإنما أخذ هذا اللقب من استطراد الفارس، وهو أن يريك أنه فر وإنما يريد بذلك اغترار من ينقطع في طلبه، فيسرع الكر إذ ذاك عليه.

ولا ينبغي أن يشترط في الاستطراد ألا يرجع فيه إلى وصف المستطرد من، بل كيف ما وقع الكلام المتحول فيه عن جهة إلى أخرى على النحو الذي ذكرناه مرجوعا فيه إلى وصف المستطرد منه أو غير مرجوع، مستطردا فيه من المستطرد إليه إلى غيره ومن ثان من المستطرد إليها إلى ثالث أو مقتصر على واحد من المستطرد إليها، فإنه استطراد يتنوع بحسب ما يتوجه الكلام بعده إليه.

4- تنوير: وشعراء المحدثين أحسن مأخذا في التخلص والاستطراد من القدماء، لأن المتقدمين إنما كانت قصارهم في الخروج إلى المديح أن يقول: دع ذا، وعد القول في هذا، أو يصف ناقته ويذكر أن إعمالها إنما كان من اجل قصد الممدوح؛ وعلى أنهم كانوا معتمدين في الخروج على تعدية القول أو تعدية العيس فقد ندر لهم من التخلص ما يستحسن ومن الاستطراد ما لا ينكر الإبداع فيه. وقد كان فيا لمحدثين من يعفي خاطره في الخروج إلى المديح اقتداء بالمتقدمين فيهجهم على المديح من غير توطئة له كقول البحتري: (الرجز -ق- المتدارك)

تأبى رباه أن تجيب، ولم يكن ... مستخبر ليجيب حتى يفهما

ثم قال:

الله جار بني المدبر كلما ... ذكر الأكارم ما اعف وأكرما

5- إضاءة: وكلا ضربي الخروج إلى المديح - متصلة بما قبله ومنقطعة - لا يخلو من أن يقفي البيت فيه باسم الممدوح أو المذموم، أو اسم الأب، أو يوضع ذلك في تضاعيف البيت ويقفى البيت بغير ذلك.

وكلما أمكن وضع الاسم في القافية كان أحسن موقعا وأبلغ في اشتهار الاسم، والناس يسمون هذا النوع الشق على الاسم، كقول البحتري: (الرجز -ق- المترادف)

ولو أنني أعطيت فيهن المنى ... لسقيتهن بكف إبراهيما

6- تنوير: فالذي يجب أن يعتمد في الخروج من غرض إلى غرض أن يكون الكلام غير منفصل بعضه من بعض، وأن يحتال في ما يصل بين حاشيتي الكلام ويجمع بين طرفي القول حتى يلتقي طرفا المدح والنسيب أو غيرهما من الأغراض المتباينة التقاء محكما، فلا يختل نسق الكلام ولا يظهر التباين في أجزاء النظام؛ فإن النفوس والمسامع إذا كانت متدرجة من فن من الكلام إلى فن مشابه له، ومنتقلة من معنى إلى معنى مناسب له، ثم انتقل بها من فن إلى فن مباين له من غير جامع بينهما وملائم بين طرفيهما وجدت النفس في طباعها نفورا من ذلك ونبت عنه، كانت بمنزلة المستمر على طريق سهل، بينا هو يسير فيه عفوا إذ تعرض له في طريقه ما ينقله من سهولة المسلك إلى حزونته ومن لينه إلى خشونته. وكذلك النفوس والأسماع إذا قرعها المديح بعد النسيب دفعة من غير توطئة لذلك، فإنها تستصعبه ولا تستسهله، وتجد نبوة ما في انتقالها إليها من غير احتيال وتلطف في ما يجمع بين حاشيتي الكلام ويصل بين طرفيه الوصل الذي يوجد للكلام به استواء والتئام.

د- مأم من مذاهب البلاغة المستشرفة بهذا المعرف وهو مذهب الإبداع في التخلص والاستطراد

وطريقة التخلص ينحى بها أبدا نحوان: نحو يتدرج فيه إلى ما يراد التخلص إليه وينتقل بتلطف إليه مما يناسبه ويكون منه بسبب؛ ونحو لا يكون التخلص فيه بتدرج وانتقال من الشيء إلى ما يناسبه ويشبهه ولكن بالتفات الخاطر حيزا من حيز وملاحظته طرفا من طرف، فينعطف إلى ما يريد التخلص إليه بما يكون مناقضا له أو مخالفا أوشك انعطاف من غير مقدمة تشعر بذلك أو واسطة تنظم بين الطرفين ولكن بالخروج من أحدهما والتخلي عنه دفعة إلى الآخر على جهات من المآخذ. وذلك بان يلاحظ في المتخالفين صفة يجتمعان فيها من حيث لا يشعر فيكون ذلك طريق النقلة من أحدهما إلى الآخر على سبيل تشبيه أو محاكاة، أو بأن يضرب عن أحدهما في مقصد ويعتد بالآخر فيه، أو بأن يسلب عن أحدهما ما أوجب للآخر. وقد يكون المأخذ في ذلك على غير هذه الأنحاء مما يعرف في مواضع أخر من هذا الكتاب.

1- إضاءة: ولا يخلو التخلص من أن يكون في شطر بيت أو في بيت بجملته أو في بيتين. وكلما قرب السبيل في ذلك كان أبلغ وقد يستحسن التخلص الواقع في البيت بأسره ويقع من النفوس أحسن موقع، وذلك حيث يقصد التفخيم وزيادة المعنى بها. فربما قدرت العبارة لذلك على المعاني تقديرا إضافيا، فحسن ذلك.

2- تنوير: ولا يخلو المتخلص إليه من أن يرد في مبنى القافية ونهاي الكلام الموزون، أو يقع حشوا وتكون التقفية معنى آخر.

وإذا وقع ما يراد التخلص إليه في القافية كان أشهر له وأحسن موقعا من النفس. وليس يحسن ما وقع حشوا من ذلك حسن ما وقع نهاية. وإذا قفي البيت بما يكون تتميما لما وقع من ذلك حشوا كان أحسن من أن يقفى بما ليس له إليه نسبة. وإذا وقع الشيء المتخلص إليه في القافية فهو الذي يسميه الناس الشق على الاسم، وقد تقدم ذكره.

3- إضاءة: ولا يخلو الاسم في ذلك من أن يكون بسيطا أو مركبا. والمركب لا يخلو من أن يكون في أدنى تركيب، أو يكون في أقصى ما تحتمله الأوزان في ذلك، أو يكون في رتبة وسط بين الطرفين.

وما كان في أقصى الرتب من ذلك وما يليها من الأوساط فهو الذي يسمى الاطراد، نحو قول دريد بن الصمة: (الطويل -ق- المتدراك)

قتلنا بعيد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب

وربما كان الاطراد على أنحاء أخر من التسلسل في الكلام المتعلق بعضه ببعض، ولا يقال إلا في ما يحسن من ذلك.

4- تنوير: والأمور التي يجب اعتمادها في التخلص هي التحرز من انقطاع الكلام ومن التضمين والحشو والإخلال واضطراب الكلام وقلة تمكن القافية والنقلة بغير تلطف والاضطرار في ذلك إلى الكناية عما يجب التصريح به والإبانة عنه، والتلطف في ما يوقع الكلام أحسن موقعه ويجريه على أقوم مجاريه من أضداد هذه الأشياء.

5- إضاءة: ومما يجب اعتماده في التخلص: أن يجهد في تحسين البيت التالي لبيت التخلص، فإنه أول الأبيات الخالصة للحمد أو الذم، وأول منقلة من مناقل الفكر في ما تخلصت إليه، فيجب أن يعتمد فيه ما يكون محركا للنفس لتستأنف هزة ونشاطا لتلقي ما يرد، فإن العناية بهذا البيت نحو من العناية بالبيت الثاني من مطلع القصيد، بل ربما كانت الحاجة إلى استثارة الهزة عند الانعطاف آكد منها في استثارة ذلك عند المبدأ، لكون صدر القصيدة وسماعه يذهب بقسط من نشاط النفس ربما لم يكن يسيرا، فكانت الحاجة إلى استثارة النشاط عند أخذه في الضعف آكد من الحاجة إلى استثارته في حال توفره وجمومه.

6- تنوير: وقد قسم الناس الخروج من جهة ما ينحى به منحى التدرج، أو الانعطاف من غير تدرج، إلى تخلص واستطراد. وتخيروا مما وقع للشعراء في لك فصولا وأبياتا.

فمما اختاروه من باب التخلص قول البحتري: (الطويل -ق- المتدارك)

شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد

كأن يد الفتح بن خاقان أقلبت ... تليها بتلك البارقات الرواعد

وقول محمد بن وهيب: (البسيط -ق- المتراكب)

مازال يلثمني مراشفه ... ويعلني الإبريق والقدح

حتى استرد الليل خلعته ... وبدا خلال سواده وضح

وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح

ومما ذهب به مذهب الاستطراد من ذلك قول همام بن غالب الفرزدق: (الطويل -ق- المتدارك)

ركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب

سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب

إذا أنو نارا يقولون: ليتها، ... وقد حضرت أيديهم، نار غالب

ومما اختير من ذلك قول جرير: (الكامل -ق- المتدارك)

لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

ومن جيد الاستطراد قول حبيب في وصف الفرس: (البسيط -ق- المترادف)

فلو تراه مشيحا والحصى زيم ... ما بين رجليه من مثنى ووحدان

أيقنت إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان

هـ- معلم دال على طق العلم بالفرق بين المقصد والمقطع

إذا كان الشاعر مقتدرا على النفوذ من معاني جهة إلى معاني جهة أو جهات بعيدة منها من غير ظهور تشتت في كلامه، وكان حسن المأخذ في ما يعضد به المعاني التي هي عمدة في كلامه من الأشياء التي يحسن اقترانها بها، بصيرا بأنحاء التدرج من بعض الأغراض والمعاني إلى بعض، بالغا الغاية القصوى في التهدي إلى أحسن ما يمكن أن تكون بنية غرضه وكلامه عليه من المعاني الشديدة العلقة بغرضه والانتساب إلى مقصده وإلى أحسن ما يمكن أن يزين به تلك المعاني المعتمدة ويبهيها مما يكون فيه إفادة مناسبة لما أفادته تلك المعاني فيكون في ذلك تقوية وتكميل لما اعتمد من المعاني الأول أو حياطة لها من الضعف والنقص. ويكون مع ذلك موفيا للمعاني المعتمدة وما ني عليها وألحق بها حقها من المبالغات وحسن الوضع، وكان مع ذلك مقتدرا على وضع العبارات عن جميع ذلك على أحسن ما يمكن أن توضع عليه حتى يتناصر إبداعه في المعاني بإبداعه في العبارات عنها، قبل فيه إنه بعيد المرامي. وهذا إنما يتفق بقوة العارضة ومعانة الطبع وكمال تصرف الفكر. وهؤلاء هم المقصدون من الشعراء المقتدرون على تعليق بعض المعاني ببعض واجتلابها من كل مجتلب.

1- إضاءة: فأما من لا يقوى من الشعراء على أكثر من أن يجمع خاطره في وصف شيء بعينه ويحضر في فكره جميع ما انتهى إليه إدراكه من صفاته التي تليق بمقصده ثم يرتب تلك المعاني على الوجه الأحسن فيها ويلاحظ تشكلها في عبارات منتشرة ثم يختار لتلك العبارات من القوافي ما تجيء فيها متمكنة ثم ينظم خارجة عن موصوفها، فهذا لا يقال فيه بعيد المرامي في الشعر، وهؤلاء هم المقطعون من الشعراء.

الأسلوب

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

القسم الرابع في الطرق الشعرية وما تنقسم إليه وما ينحى بها نحوه من الأساليب، والتعريف بمآخذ الشعراء في جميع ذلك وما تعتبر أحوال الكلام المخيل المقفى الموزون في جميع ذلك، من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها من القوانين البلاغية.

المنهج الأول في الإبانة عن طريق الشعر من حيث تنقسم إلى جد وهزل، وما تعتبر به أحوالها في كل ذلك من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.

والشعر ينقسم أولا إلى طريق جد وطريق هزل. وله قسمة أخرى من جهة ما تتنوع إليه المقاصد والأغراض، سأذكرها بعد إن شاءا لله.

فأما طريقة الجد فهي مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مروءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك.

وأما طريقة الهزل فإنها مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مجون وسخف بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك.

وأنا أذكر ما تختص به كلتا الطريقتين، وما يسوغ في كل واحدة منهما مما هو خاص أو كالخاص بالأخرى.

أ- معلم دال على طرق العلم بما يجب اعتماده في طريقة الجد

فأما ما يجب في طريقة الجد فألا ينحرف في ما كان من الكلام على الجد إلى طريقة الهزل كبير انحراف، أولا ينحرف إلى ذلك بالجملة، لأن الكلام المبني على الجد إنما قصد به إلقاؤه بمحل القبول من أهل الجد. وكثير من أهل الجد يكره طرق الهزل، ومن لا يكرهها منهم كبير كراهة لا نغصه غير منغص على جميعهم، فلذلك يجب ألا يتعرض إليها كبير تعرض، أو لا يتعرض إليها بالجملة في طرق الجد.

1- إضاءة: وجملة ما يجب أن يتجنب في ذلك هي الجهات المختصة بالهزل، والمعاني الواقعة في تلك الجهات، والعبارات عن تلك المعاني، والجزء الواحد من العبارة الواقعة في ذلك إذا كانت قد وقعت لشهرة بجهة من جهات الهزل.

ويجب أيضاً أن يتحفظ بالنظم الجدي من أن يكون التأليف فيه على صيغة تأليف قد اشتهر وقوعه في طريقة هزلية كأنما قد حذي بذلك حذو هذا.

وجملة الأمر ألا يتعرض فيها إلى منحى من مناحي الهزل - ولو بإشارة - إلا حيث يليق ذلك بالحال والموطن، فيتصور إذ ذاك التعرض إلى ما خف من الهزل، ولكل مقام مقال.

2- تنوير: وتختص الطريقة الجدية بأن يجتنب فيها الساقط من الألفاظ والمولد، ويقتصر فيها على العربي المحض وعلى التصاريف الصريحة في الفصاحة المطردة في كلامهم. ولا يعرج من ذلك على ما لا يدخل في كلامهم إلا بوجوه تستضعف ويتسامح في إيراد الحوشي والغريب فيها في بعض المواضع.

3- إضاءة: ويجب في معاني الطريقة الجدية أن تكون النفس فيها طامحة إلى ذكر ما لا يشين ذكره ولا يسقط من مروءة المتكلم، وأن تكون واقفة دون أدنى ما يحتشم من ذكره ذو المروءة أو يكبر نفسه عنه، وأن تطرح من ذلك ما له ظاهر شريف في الجد وباطن خسيس في الهزل.

4- تنوير: ومما تختص به العبارات في الطريقة الجدية أن يتحرى فيها المتانة والرصانة كما تتحرى في طريقة الهزل الحلاوة والرشاقة. وقد تأخذ الطريقة الجدية بطرف من الرشاقة كما تأخذ الطريقة الهزلية بطرف من المتانة.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بما يجب أن يعتمد في طريقة الهزل

لما كان أهل طريقة الهزل يشاركون أهل طريقة الجد في كثير من المعاني والعبارات ويستعملون ذلك في كلامهم وطريقتهم بساطا إلى ما يريدونه من معاني الهزل التي هي غاية طريقتهم، وتلك المعاني والعبارات المشترك فيها هي التي هي في أنفسها كلام جدي ليس فيه تعرض لما يقدح في الطريقة الهزلية، ولم يحتج في طريقة الجد إلى شيء يكون لها بساطا من معانيا هزل، وكانت طريقة الهزل بجملتها منافية لأهل طريقة الجد، ولمك تكن طريقة الجد بجملتها منافية لأهل طريقة الهزل وجب أن تأخذ طريقة الهزل من طريقة الجد أخذا خاصا، وألا تأخذ طريقة الجد من طريقة الهزل شيئا - اللهم - إلا أن يشير مشير إلى غرض من أغراضها مما لا يقدح في طريقة الجد كبير قدح وتكون مع ذلك إشارته في المظنة اللائقة بها، فإن ذا الجد قد يأتي من الهزل بما يخف في بعض المواضع - فإن الكريم قد يطرب، وقد يحتاج إلى إطرابه، ولكل مقام مقال - لكنه يحتاج من بنى كلامه على الجد - ثم أراد أن يلم بشيء من الهزل - أن يتلطف في التدرج من الجد إلى الهزل، وأن يشعر بان ما ألم به من ذلك شيء لا حقيقة له، وإنما هو على جهة المزح والدعابة ليبسط بذلك من النفوس ويحرك. فكثير من معاني الهزل تحرك ذا الجد وتطربه وإن لم يكن من ِانه. وقد قال ابن الرومي معتذرا عن شيء وقع له من الهزل في قصيدة مدحية: (الخفيف -ق- المترادف)

وأرى أن معشر سيقولو ... ن: سخيف من الرجال لعوب

أين عنه، وأين ما يدعيه ... من علوم لحامليها قطوب

ولعمري إن الحكيم وقور ... ولعمري إن الكريم طروب

وقد قال سقراط: (حكاية الهزل لذيذة سخيف أهلها، وحكاية الجد مكروهة، وحكاية الممزوج منهما معتدل. ولا يقبل شاعر يحكي كل جنس، بل نطرده وندفع ملاحته وطيبه، ونقبل على شاعرنا الذي يسلك مسلك الجد فقط) .

1- إضاءة: ومما تختص به طريقة الهزل ويجب اعتماده فيها أن تكون النفس في كلامها مسفة إلى ذكر ما يقبح أن يؤثر، وألا تقف دون أقصى ما يوقع الحشمة، وألا تكبر عن صغير ولا ترتفع عن نازل، وألا تطرح ما له باطن هزلي وإن كان له ظاهر جدي، وأن ترد ما يفهم منه الجد إلى ما يفهم منه الهزل بتخليص ذلك إلى حيز الهزل بما يجعل مخلصا إلى ذلك من توطئة أو غير ذلك. ويقع مثل هذا بتضمين، ويقع بغير تضمين، وأكثر ما يتفق هذا مع اللفظ المشترك.

ومن هذا النوع تضمين بعضهم قول مهلهل: (طويل -ق- المترادف)

فلولا الريح أسمع من بنجد ... صليل البيض تقرع بالذكور

أبيات هجاء، فصرف البيت إلى غير مقصد مهلهل حيث وجد الألفاظ المشتركة صالحة لأن يدل بها على ذلك.

2- تنوير: ومن ذلك أن تتحرى في عباراتها الرشاقة، وألا يتسامح في كثير من التكلف المتسامح فيه في طريقة الجد.

3- إضاءة: ومن ذلك شيوع استعمال العبارات الساقطة والألفاظ الخسيسة ككثير من ألفاظ الشطار المتماجنين وأهل المهن والعوام والنساء والصبيان على الوجه الذي تقبل به الطريقة ذلك، وربما أوردوا ذلك على سبيل الحكاية. وهذا موجود في مجون أبي نواس كثيرا وغير منقود عليه، ذلك لأنه لائق بالموضع الذي أورده فيه من أشعاره التي بقصد بها الهزل. وليس يسوغ إيراد شيء من ذلك ولا حكايته لمن طريقته الجد. فقد عاب بعض المتكلمين في هذه الصناعة قول أبي نصر ابن نبانة: (الرمل -ق- المترادف)

وقال لنا الزمان: ظلمتموهم ... فقلنا للزمان: دع الفضولا

لأن هذا ليس من نمط ما بنى عليه كلامه من الجد، وهو أشبه بكلام الشطار. ولو ورد مثل هذا في شعر ابن حجاج وأرابه من أهل الهزل والمجون لكان مرضيا مختارا بالنسبة إلى طريقته.

4- تنوير: ويستساغ في طريقة الهزل استعمال التصاريف التي شاعت في ألسن الناس وتكلم بها المحدثون وإن لم تقع في كلام العرب إلا على ضعف وقلة. فأما العبث في العبارات والزيادة في حروف الكلم على ما سمع من العرب كقول بعضهم: (مقصر الطويل -ق- المترادف)

شر بربت بماخور ... على دف وطنبور

فليس يقع مثل هذا لمن يقصد أن يكون كلامه عربيا. وإنما يقع لمن قصده العبث وشوب الفصاحة باللكنة والعروبة بالعجمة، فليس على مثل هذا كلام.

ج- معلم دال على طرق العمل بما تأخذه طريقة الجد من طريقة الهزل.

فأما ما تأخذه طريقة الجد من طريقة الهزل فهي المعاني التي في ذكرها في بعض المواضع إطراب وبسط للنفوس ومذهب في ما خف من الإحماض بحسب الأحوال التي تكون بها مستعدة لقبول ذلك.

1- إضاءة: وهذه المعاني منها ما لا يقدح في طريقة الجد كبير قدح، ومنها ما يقدح فيها أعظم القدح.

ومزايا القدح يختلف اعتبارها بحسب ما تكون عليه النفوس من التصميم في الجد أو الاقتصاد والاعتدال فيه. فيجب عند تسامح من طريقته الجد في الإحماض أن يورد من المعاني اللائقة بذلك مقدار ما يناسب طبع المخاطب، فربما عظم ما لم يكن فيه كبير قدح عند المصمم في الجد، وربما صغر عند المقتصد في الجد والمعتدل فيه ما قدحه كبير في ذلك. ولكن يجب على من طريقته الجد أن يكون ما يلم به من الإحماض في تفاريق كلامه والفلتات من أحواله مما لا يعظم قدحه في طريقة الجد. فيجب أن يضرب بها عن الإلمام بالمعاني العظيم قدحها، وعن التعرض لجهات تلك المعاني، وقد تقدم معنى الجهة فيما تقدم.

2- تنوير: وتشارك طريقة الجد طريقة الهزل في أن ينحى بعباراتها نحو الرشاقة في المواضع التي يحسن ذلك فيها، أو يقال إن طريقة الجد تأخذ هذا من طريقة الهزل لأن طريقة الهزل به أخلق وهو بها أولى وأليق.

3- إضاءة: وكل كلام اعتمدت فيه المراوحة بين المعاني الجدية وما لا ينافيها كل المنافاة من معاني الهزل فإنه من القسم الممتزج من جد وهزل. وهو الذي تقدمت الإشارة إليه في قول سقراط.

د- معرف دال على طرق المعرفة بما تأخذه طريقة الهزل من طريقة الجد.

فأما ما تأخذه طريقة الهزل من طريقة الجد، فتأخذ منها المعاني التي ليس فيها تعرض للقدح فيها وجميع ما يتعلق بها من جهات وعبارات ليجعل ذلك بساطا للتدرج إلى الهزل.

1- إضاءة: وقد تأخذ من معانيها أيضاً ما يقدح فيه لكن على جهة حكايتها والرد عليها والتفنيد لها بعد التقرير. وأما أخذ جميع ذلك على جهة صرفه إلى طريقة الهزل بما في العبارة الجدية لذلك من الاحتمال يكون العبارة الجدية يمكن فيها أكثر من مفهوم من قبل اشتراك يكون في بعض العبارات أو إيهام اشتراك يعرض في التركيب أو غير ذلك من الوجوه التي لا يكون الكلام بها نصا على معنى واحد فسائغ فيها.

2- تنوير: ومما تأخذه طريقة الهزل من طريقة الجد أيضاً إيراد بعض المعاني العلمية على نحو من الإحالة عليها ببعض معاني الهزل والمحاكاة بها، كقول أبي نواس: (المتقارب -ق- المترادف)

صرت له رفعا على الابتداء ... وصار لي نصبا على الحال

3- إضاءة: وتشارك طريقة الهزل طريقة الجد في الأخذ بطرف من المتانة، أو يكون ذلك مما تأخذه طريقة الهزل منها لأنه أليق بطريقة الجد وأنجع فيها وأكثر استصحابا لها.

4- تنوير: فهذه قواني مقنعة فيما يتعلق بالطريقة الجدية وما يتعلق بالطريقة الهزلية وما يتعلق بهما معا. ومعرفتها أكيدة في صناعة النقد والبصيرة بطرق الكلام وما يجب بها. فكثير من وجوه النقد والنظر في هذه الصناعة يتعلق بها. وأيضا فإنه إذا أريد الحكم بن شاعرين متماجنين أيهما أشعر أو بين جاد وماجن أيهما أمضى في طريقته وأبرع فيها لم يكن بد من معرفة هذه القوانين فيا لطريقتين، إذ بها يتبين نمط كلامه وإعراقه في الطريقة التي هو مبني عليها وسلامته بحسب ما يجب فيها. فلهذا ألمعت إلى ما يجب فيا لطريقتين ببعض القول، فمن تفهم ذلك وكان اعتباره بحسبه يصب إن شاء الله.

المنهج الثاني في الإبانة عن طرق الشعر من حيث تنقسم إلى فنون الأغراض، وما تعتبر به أحوال الشعر في جميع ذلك من حيث تكون ملائمة أو منافرة لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بما ينقسم إليه الشعر بحسب ما قصد به من الأغراض.

اختلف الناس في قسمة الشعر: فقسمه بعض من تكلم في ذلك إلى ستة أقسام: مدح وهجاء ونسيب ورثاء ووصف وتشبيه.

وقال بعضهم: الصحيح أن تكون أقسامه خمسة لأن التشبيه راجع إلى معنى الوصف.

وممكن أيضاً أن يقول قائل: إن قسم الوصف أيضاً داخل في قسم الحمد أو قسم الذم، وإن كان جاعل الوصف قسما غنما يعني الأوصاف التي ليس بالإنسان حاجة إلى حمد موصوفاتها ولا إلى ذمها ولا هي أيضاً يصل إليها من ذلك شيء، وإنما القصد بوصفها سبر الخواطر ورياضتها.

وقال بعضهم::أركان الشعر أربعة: الرغبة والرهبة والطرب والغضب) . وقال بعضهم: (الشعر كلمة فيا لحقيقة راجع إلى معنى الرغبة والرهبة) .

وهذه التقسيمات كلها غير صحيحة لكون كل تقسيم منها لا يخلو من أن يكون فيه نقص أو تداخل.

وأنا أذكر الوجه الصحيح والمأخذ المستقيم في القسمة التي لا نقص فيها ولا تداخل.

1- إضاءة: فأما طريق معرفة القسمة الصحيحة التي للشعر من جهة أغراضه فهو أن الأقاويل الشعرية لما كان القصد بها استجلاب المنافع واستدفاع المضار ببسطها النفوس إلى ما يراد من ذلك وقبضها عما يراد بما يخيل لها فيه من خير أو شر، وكانت الأشياء التي يرى أنها خيرات أو شرور منها ما حصل ومنها ما لم يحصل، وكان حصول ما من شأنه أن يطلب يسمى ظفرا، وفوته في مظنه الحصول يسمى إخفاقا، وكان حصول ما من شأنه أن يهرب عنه يسمى أداة أو رزءا، وكفايته في مظنه الحصول تسمى نجاة، سمي القول في الظفر والنجاة تهنئة، وسمي القول بالإخفاق إن قصد تسلية النفس عنه تأسيا، وإن قصد تحسرها تأسفا، وسمي القول في الرزء إن قصد استدعاء الجلد على ذلك تعزية، وإن قصد استدعاء الجزع من ذلك سمي تفجيع. فإن كان المظفور به على يدي قاصد للنفع جوزي على ذلك بالذكر الجميل وسمي ذلك مديحا، وإن كان الضار على يدي قاصد لذلك فأدى ذلك إلى ذكر قبيح سمي ذلك هجاء، وإذا كان الرزء بفقد شيء فندب ذلك الشيء سمي ذلك رثاء.

2- تنوير: ولما كانت المنافع كأنها تنقسم إلى ما يكون بالنسبة والملاءمة مثل ما يوجد من مناسبة بعض الصور لبعض النفوس فيحصل لها بمشاهدة تلك الصورة المناسبة لها نعيم وابتهاج - وذلك الابتهاج نوع من المنافع لتلك النفس- وإلى ما يكون بالفعل والاعتماد مثل ما يعتمده الإنسان من إسعاف آخر بطلبته فيكون في إسعافه بها منفعة له، وإلى ما يكون منفعة بالقوة والمال أو بتشفي النفس فقط مثل ما تحل مضرة بعدو إنسان فتنفع ذلك الإنسان بان تضعه له وتقويته على مقاومته والانتصاف منه، وربما لم ينتفع من ذلك إلا بسرور التشفي فقط، وكانت المضار أيضاً تنقسم إلى أضداد ما ذكرته اقتضى ذلك انقسام الذكر الجميل إلى ما يتعلق بالأشياء المناسبة لهوى النفس وسمي ذلك نسيبا، وإلى ما يتعلق بالأشياء المستدعية رضى النفس وسمي ذلك كما تقدم مديحا، وكان ما يتعلق من الذكر القبيح بالأشياء المنافرة لهوى النفس والأشياء المباعدة عن رضاها كلاهما داخل تحت قسمة واحدة وهي الهجاء.

3- إضاءة: فالطرق قد تختلف بحسب اختلاف المنافع وكذلك بحسب اقتران الأحوال التي للقائلين والمقول فيهم، مثل أن يقترن في القول وصف حال مرتاح بحال مرتاح له أو حال مكترث بحال مكترث له، فتختلف الطرق أيضاً بحسب اختلاف ذلك. ألا ترى أن الميزة بين المديح والنسيب إذا لم يتعرض المشبب لوصف حاله غنما هو بأن النسيب يكون بأوصاف مناسبة لهوى النفس ويكون مع ذلك مقترنا به وصف حال توجع المشبب في كثير من الأمر، والمديح يكون بأفعال شريفة دالة على كمال الإنسان مستدعية لرضى النفوس من غير أن يقرن بذلك من صفة حال القائل ما اقترن بالتشبيب. والفرق بين النسيب المقترن به وصف حال توجع ورثاء النساء المقترن به حال توجعه أيضاً أن النسيب بموجود والرثاء لمفقود. فهذه أيضاً من الجهات التي تختلف الطرق بها.

4- تنوير: ولما كان ما يهرب منه قد يقع ممن يحتمل منه ذلك ولو أدنى احتمال - فلا يؤاخذ به جملة أو لا يؤاخذ به كبير مؤاخذة، ومنهم من يؤاخذ به أشد المؤاخذة - سمي ما يتعلق من القول بذلك بحسب طبقات من يقع ذلك منهم ونسبتهم إلى القائل معاتبة وتعديدا وتوبيخا وتقريعا. فإن صدر ما يكون منه الهرب من القائل إلى المخاطب ثم أعفاه منه وتعلق القول بذلك سمي إعتابا. فإذن تنقسم الأقوال فيما حصل مما شأنه أن يطلب أو يهرب عنه إلى تهان وما معها، وتعاز وما معها، ومدائح وما معها، وأهاج وما معها.

5- إضاءة: ولا يخلو الشيء الحاصل مما شأنه أن يطلب أو يهرب عنه من أن يكون ذو العناية به أحدا - كان القائل أو غيره - ويكون هو حاكيا ذلك عنه، أو يكون قد عني به متنازعان في استجلابه أو مدافعته - كان القائل أحد المتنازعين أو لم يكن - غير أنه يحكي حالهما أو يكون حاكما بينهما، فيكون الكلام على هذا إما اقتصاصا وإما مشاجرة وإما فصلا في مشاجرة؛ وقد تكون المشاجرة والفصل فيها متعلقين بما يستقبل.

6- تنوير: فأما الأمور التي لم تحصل مما شأنه أن يطلب أو يهرب عنه فلا يخلو من أن يكون المتكلم هو الطالب لها أو الهارب منها من تلقاء السامع، أو يكون السامع هو الطالب لها أو الهارب عنها من تلقاء المتكلم. فما كان من المتكلم إلى السامع مما شأنه أن يطلب يسمى إذا لم يعلم رأيه فيه غرضا، وما كان من تلقاء السامع إلى المتكلم وكان طلبا جزما سمي اقتضاء، فإن كان بتلطف سمي استعطافا، وإن كان يرى أنه قد جاوز الوقت الذي كان يجب فيه سمي استبطاء، فإن كان مما شأنه أن يهرب منه وأنذر به المتكلم من تلقاء نفسه أو من غيره سمي ذلك إبعادا وتهديدا وإنذارا وتخويفا ونحو ذلك. فإن خافه من تلقاء السامع واستدفعه إياه سمي ذلك استعفاء أو استقالة أو ترضيا أو نحو ذلك.

فقد حصل بهذا الاعتبار إذن أقاويل عرضيات وترهيبات وتخويفات واستدفاعيات ومنها الإطماعيات أيضاً ومقابلتها وهو ما أطمع القائل فيه أو أيأس منه.

7- إضاءة: وقد يكون الشيء المطلوب أو المهروب منه أحد شيئين فيتشكل على القائل أو السامع فيما يجب أن يطلب وأيهما يجب أن يهرب منه، أو يشتكل الطريق الهادي إلى ذلك فيشير القائل على غيره بالواجب طلبه من ذلك أو يستشير غيره فيكون الكلام على هذا إشارة أو استشارة. وقد يستشير أيضاً في الفضل بين المنازعين فينقسم القول على هذا إلى قصص ومشاجرة وحكم وإشارة واستشارة وغرض واقتضاء وكفاية واستكفاء وترغيب وترهيب وإطماع وإياس. وفي كل نحو من هذه المقاصد يطلب ما يجلب سرورا أو حمدا أو يهرب مما يجتلب حزنا أو ذما.

فقد تبين أن أمها الطرق الشعرية أربع، وهي التهاني وما معها والتعازي وما معها، والمدائح وما معها، والهاجي وما معها، وأن كل ذلك راجع إلى ما الباعث عليه الارتياح، وإلى ما الباعث عليه الاكتراث وإلى ما الباعث عليه الارتياح والاكتراث معا.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بما يوجد لبعض الخواطر من قوة على التشبه فيما لا يجري على السجية - من تلك الأغراض - بما يجري على السجية من ذلك.

1- إضاءة: اعلم أن خير الشعر ما صدر عن فكر ولع بالفن والغرض الذي القول فيه، مرتاح للجهة والمنحى الذي وجه إليه كلامه لإقباله بكليته على ما يقوله وتوفير نشاط الخاطر وحدته بالانصباب معه في شعبه والميل معه حيث مال به هواه. ولهذا كان أفضل النسيب ما صدر عن سجية نفس شجية وقريحة قريحة. وكذلك الإخوانيات والمراثي وما جرى هذا المجرى.

2- تنوير: وقد تواجد لبعض النفوس قوة تتشبه بها في ما جرت فيه من نسيب وغير ذلك على غير السجية بما جرى فيه على السجية من ذلك، فلا تكاد تفرق بينهما النفوس ولا يماز المطبوع فيها من المتطبع، فإذا انفق مع هذا حسن النظم تناصر الحسن في النظام والمنحى واعتم فلم يكن فيه مقدح.

3- إضاءة: واعلم أن المنحى الشعري نسيبا كان أو مدحا أو غير ذلك فإن نسبة الكلام المقول فيه إليه نسبة القلادة إلى الجيد، لأن الألفاظ والمعاني كاللآلي، والوزن كالسلك، والمنحى الذي هو مناط الكلام وبه اعتلاقه كالجيد له. فكما أن الحلي يزداد حسنه في الجيد الحسن، فكذلك النظم إنما يظهر حسنه في المنحى الحسن. فلذلك وجب أن يكون من له قوة التشبه المذكورة أكمل في هذه الصناعة ممن ليست له تلك القوة.

4- تنوير: وكل من قويت فيه هذه القوة فلا يبعد عليه أن يلتفت إلى بعض مناحي شكاة الهوى في أشعارهم الجارين على سجاياهم مما لطف أسلوبه وظرف منزعه، وإن وقع ما كان بهذا الوصف تفاريق في تلك الأشعار، فيحضر ما كان بهذا الوصف في خاطره، ويسلط الفكر والتصور على استبانة الطرق التي من أجلها حسن الكلام في منحاه وأسلوبه ومنزعه. فإذا استبان تلك الطرق على ما بها من الخفاء على كثير من الأفكار استظهر بالقوة التشبيه على انتهاج مثل تلك الطرق في كلامه، ونصب ما قام بخاطره من تصورها تمثالا يصوغ كلامه بحسبه ومنوالا ينسج نظامه عليه، جاء كأنه هو.

5- إضاءة: وربما اقتفى من له هذه القوة في منحى كلامه وأسلوبه ومنزعه آثار شعراء لم يتوطأ في مجموع ذلك، لكن حسن منحى كلام هذا ولطف أسلوب كلام ذلك ومنزع كلام الآخر، فأخذ هو من كل واحد منهم ما اختص به وبنى على مجموع ذلك كلامه، وما أجدر أبا الحسن مهيارا الديلمي بان تكون هذه صفته.

6- تنوير: وهذه القوة تتفاوت فيا لشعراء. فمنهم من له قوة على التشبه في جميع كلامه أو أكثره، ومنهم من لا ينسحب تأثير تلك القوة على جميع كلامه ولا أكثره بل يكون ذلك في بعضه على سبيل الإلماع والندور أو فوق ذلك قليلا.

7- إضاءة: فأما من ينسحب تأثير تلك القوة على جميع كلامه أو أكثره فهم الذين لا تحتاج فيهم تلك القوة إلى معاونة من أمر خارج عن الذهن من الأمور الباعثة على قول الشعر، لتوفير تلك القوة فيهم على كل حال. ومن أيمة هذا الصنف: الشريف ومهيار وابن خفاجة.

وأما من لا ينسحب تأثير تلك القوة التشبيهية إلا على الأقل من كلامه فهم الذين تحتاج تلك القوة فيهم إلى معاونة بالأمور الباعثة على قول الشعر. فقد توجد تلك البواعث وقد لا توجد، وقد تتوفر في وقت وقد تقل في وقت.

8- تنوير: واعلم أن هذه القوة لا تدرك بحرص ولا تنال بجهد بل قد يمنعها الحريص ويمنحها غير الحريص. واعتبر ذلك بجرير والفرزدق - فإن جريرا على عفته، نسيبه في غاية الرقة وحسن الأسلوب، والفرزدق على عهره وشدة ولوعه بالنساء، نسيبه في نهاية الجفاء وقبح الأسلوب، مع حرصه على أن يرقه ويحسن أسلوب - وحسده لجرير حيث أنشد له فصولا من نسيب منها: (الوافر -ق- المترادف)

متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام

فقال: (قاتله الله، ما كان أحوجني مع فسقي إلى رقة شعره وما كان أحوجه مع عفته إلى خشونة شعري) . وكان الفرزدق قد أجل عاما في أن يصنع بيتا رقيقا في النسيب، فقال بعد حول: (البسيط -ق- المتدارك)

يا أخت ناجية بن مرة إنني ... أخشى عليك بني إن طلبوا دمي

فغلبه بعد هذه المطاولة طبعه واعتاص عليه ما ليس في قوته.

9- إضاءة: وقد تحصل بحفظ الكثير مما حسن منحاه وأسلوبه ومنزعه، وروي الذكر من ذلك، وتعليل النفس به أبدا، ومطارحتها القول على نحو من ذلك، والترامي بالخاطر أبدا إلى الجهات من المعارضة لذلك، دربة يوصل بها أيضاً إلى التشبه، ولاسيما إذا تفهم ما قلته في الوجوه التي بها تحسين الأساليب والمنازع. فكانت تلك الوجوه متحصلة في ذهنه. فهذه بعض منافع القول في الأساليب والمنازع. لكن من لم يتوصل إلى التشبه إلا بالدربة من غير أن تكون له القوة التي ذكرت فربما وقع له ما يعده ذو القوة البصير بطرق النقد متكلفا أو فاترا، وإن خفي ذلك على أكثر الناس.

ج- معلم دال على طرق العلم بما ينقسم إليه الشعر بحسب اختلافات أنحاء التخاطب.

لما كان الكلام أولى الِياء بان يجعل دليلا على المعاني التي احتاج الناس إلى تفاهمها بحسب احتياجهم إلى معاونة بعضهم بعضا على تحصيل المنافع وإزاحة المضار وإلى استفادتهم حقائق الأمور وإفادتها وجب أن يكون المتكلم يبتغي إما إفادة المخاطب، أو الاستفادة منه. إما بأن يلقي إليه لفظا يدل المخاطب إما على تأدية شيء من المتكلم إليه بالفعل أو تأدية معرفة بجميع أحواله أو بعضها بالقول، وإما بان يلقي إليه لفظا يدله على اقتضاء شيء منه إلى المتكلم بالفعل أو اقتضاء معرفة بجميع أحواله أو بعضها بالقول؛ وكان الشيء المؤدى بالقول لا يخلو من أن يكون بينا فيقتصر به على الاقتصاص أو يكون مشتكلا فيؤدى على جهات من التفصيل والبيان والاستدلال عليه والاحتجاج له.

فكلام المتكلم فيما يؤديه قسمان: قسم يقع فيه الاستدلال وقسم الاستدلال فيه.

وكلامه فيما يقتضيه من المخاطب قسم واحد في أكثر الأمر، لأن الإجابة بالاستدلال أو عدمها في ذلك للمخاطب. وليس ذلك من كلام المتكلم إلا أن يحكي ما دار بينه وبين مخاطبه، فيكون ذلك كالتركيب من القسمين، وليس به على الحقيقة لكون ذلك ليس من كلام واحد.

1- إضاءة: ولا يخلو فيما حكاه من ذلك أن يكون مسلما أو محاجا. فإن كان مسلما فهو الذي أشرنا إليه، وإن كان محاجا كان ذلك من باب المشاجرة. وهو متركب من تأدية المخاطب نقيض ما أداه المتكلم، والمتكلم نقيض ما أداه المخاطب، كما أن باب الإشارة أيضاً مركب من تأدية واقتضاء، لأن المتكلم يؤدي إلى المخاطب رأيه ويقتضي قبوله.

2- تنوير: وجملة ما ينقسم إليه الكلام من جهة ما يقع فيه من تأدية واقتضاء باعتبار البساطة فيهما والتركيب ستة أقسام: 1- تأدية خاصة 2- أو اقتضاء خاصة.

3- أو تأدية واقتضاء معا.

4- وتأديتان من المتكلم والمخاطب.

5- أو اقتضاءان منهما: فكان هذا يكون على جهة من الحيدة بأن يقتضي المتكلم من المخاطب شيئا فيقتضي المخاطب من المتكلم شيئا آخر قل أن يؤدي إلى المتكلم ما اقتضاه.

6- أو يكون مركبا من اقتضاء المتكلم تتبعه تأدية من المخاطب على جهة السؤال والجواب.

فإذا حكى المتكلم كلام المخاطب مع كلامه، أو حكى كلامهما معا غيرهما، وجد الكلام ينقسم على هذا الاعتبار بحسب البساطة والتركيب ستة أقسام.

د- معرف دال على طرق المعرفة بما ينقسم إليه الشعر بحسب إيقاع الحيل الشعرية فيه.

والأقاويل الشعرية أيضاً تختلف مذاهبها وأنحاء الاعتماد فيها بحسب الجهة أو الجهات التي يعتني الشاعر بها بإيقاع الحيل التي هي عمدة في إنهاض النفوس لفعل شيء أو تركه أو التي هي أعوان للعمدة. وتلك الجهات هي ما يرجع إلى القول نفسه، أو ما يرجع إلى القائل، أو ما يرجع إلى المقول فيه، أو ما يرجع إلى المقول له. والحيلة فيما يرجع إلى القول وإلى المقول فيه وهي محاكاته وتخييله بما يرجع إليه أو بما هو مثال لما يرجع إليه هما عمودا هذه الصناعة، ومما يرجع إلى القائل والمقول له كالأعوان والدعامات لها.

1- إضاءة: وتفصيل هذه الجملة أن القول في شيء يصير مقبولا عند السامع في الإبداع في محاكاته وتخييله على حالة توجب ميلا إليه أو نفورا عنه بإبداع الصنعة في اللفظ وإجادة هيأته ومناسبته لما وضع بإزائه وبإظهار القائل من المبالغة في تشكيه أو تظلمه أو غير ذلك وإشراب الكآبة والروعة وغير ذلك كلامه ما يوهم أنه صادق. فيكون ذلك بمنزلة الحال فيمن ادعى أن عدوا وراءه وهو مع ذلك سليب ممتقع اللون، فإن النفوس تميل إلى تصديقه وتقنعها دعواه، أو بان يحتال في انفعال السامع لمقتضى القول باستلطافه وتفريطه بالصفة التي من شأنها أن يكون عنها الانفعال لذلك الشيء المقصود بالكلام ومدحه إياه بان تلك عادته وأنها من أفضل العادات.

2- تنوير: وقد تعضد هذه الأشياء باستلالات خطبية محضة أو موجود فيها شروط الشعر والخطابة معا يكون المحاكاة توجد فيها مع الإقناع؛ وما كن بهذه الصفة فهو أفضل موقعا في الشعر، والصنف الآخر أيضاً قد يقع في الشعر ولا يقدح ذلك فيه لأن صناعة الشعر لها أن تستعمل شيئا من الإقناع كما أن صناعة الخطابة لها أن تستعمل شيئا يسيرا من المتخيلات.

3- إضاءة: وإذ قد تبين أن الكلام يهيأ للقبول من جهة ما يرجع إليه وما يرجع إلى القائل وما يرجع إلى المقول فيه والمقول له فواجب أن يعلم أن للكلام في كل مأخذ من تلك المآخذ التي بها تعتر النفوس لقبوله هيآت من جهة ما يلحقه من العبارات وما يتكرر فيه من المسموعات الدالة على مأخذ مأخذ من ذلك. فربما أدى الاطراد على نحو من ذلك إلى تكرار يستثقل ويزول به طيب الكلام. وأنا أنبه على ما يكثر في مأخذ مأخذ من ذلك.

4- تنوير: فأما المأخذ الذي من جهة الحيلة الراجعة إلى القائل فمن شانه أن تقع معه الكلم المستندة إلى ضميري المتكلم كثيرا. فأما ما يرجع إلى السامع من ذلك فكثيرا ما تقع فيها الصيغ الأمرية وما بإزائها. وبالجملة تكثر فيها المسموعات التي هي أعلام على المخاطبة. فأما ما يرجع إلى المقول به فكثيرا ما تقع فيه الأوصاف والتشبيهات، وأكثر ما يستعمل ذلك مع ضمائر الغيبة. وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة، وكذلك أيضاً يتلاعب المتكلم بضميره فتارة يجعله ياء على جهة الإخبار عن نفسه وتارة يجعله كافا أو تاء فيجعل نفسه مخاطبا وتارة يجعله هاء فيقيم نفسه مقام الغائب، فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير متكلم أو مخاطب لا يستطاب وغنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض.

5- إضاءة: وكذلك لا ينبغي أن يستمر في كلام طويل على وصف حالة ساذجة، بل التركيب في لأحوال واقتران بعضها ببعض مما يجب أن يعتمد، مثل اقتران وصف حالة المحب بوصف حالة المحبوب؛ فإن الترامي بالكلام إلى أنحاء شتى في جهة جهة وتركيب تركيب وصيغة صيغة وضرب بعضه ببعض على الهيآت الملائمة في كل مذهب يذهب فيه ونحو ينحى به ألذ وأطيب من الجمود به على حالة واحدة في كل نحو من أنحاء الكلام.

6- تنوير: وبحسب الميل به إلى نحو نحو من جميع ما ذكرناه من أنحاء الأقاويل الشعرية وما توجه إليه وتجري عليه من الجهات والمجاري التي أشرت إليها اختلفت طرق الناس في الشعر، ووجد لكل شعر ذوق يخصه وسمة يمتاز بها من غيره. فتباينت طرق الناس وأساليبهم ومنازعهم ومآخذهم في جميع ذلك، لأن طرق التركيب في جميع ذلك لا تنحصر، فلذلك ينبغي أن يقتصر من قسمة الشعر إلى أربعة الأقسام التي ذكرنا. وأما من قسمه إلى مديح ونسيب وهجاء ورثاء فإنما قسمه بحسب الأهم فالأهم والأوقع فالأوقع من الأغراض التي هي أصول بأنفسها أو فروع عن غيرها، لأن وقوع الأقاويل الشعرية في هذه الأغراض أكثر من وقوعها في غيرها.

7- إضاءة: ولما كان الأكثر وقوعا من أغراض الشعر مقاصدهم أشد كان من تلك الأغراض ما يكثر وقوعه وما يقل وما يتوسط. فأما ما كثر وقوعه فكالنسيب والمديح والرثاء وأما ما قل فكالمنافراًت ومشاجرات الأعداء ومفاخراتهم ومهاجاتهم، على أن بعضهم قد يكثر من هذا، وأما ما توسط فكالمعاتبات والاستعطافات والاستعذارات.

هـ- معلم دال على طرق العلم بما يجب اعتماده فيكل غرض من أغراض الشعر المتقدم تقسيمه إليه.

قد أشرنا إلى كيفية انقسام الشعر بحسب البساطة والتركيب، ولم يمكن استقصاء أنواع التركيب إذ لا جدوى لذلك. وإنما الواجب أن يعرف الإنسان طرق التركيب، وأن يعرف أمهات تلك الطرق، ويعرف جميع ما يجب في ذلك بالنظر إلى بساطته أو إلى تركيبه ولما هو متركب منه، فيجري كلا على ما يجب فيه ويعتبر فيهما يليق به.

إضاءة: فمما يجب تأصيله في هذا المعلم إعطاء قانون فيما يحسن وما يقبح من الجمع بين كل غرضين متضادين من هذه الأغراض. ويقبح من ذلك أن يكون الغرضان المتضادان كالحمد والذم أو الإبكاء والإطراب قد جمع بين أحدهما والآخر من جهة واحدة ونيطا بمحل واحد وكان ظاهرهما وباطنهما متساويين فيا لتناقض، مثل أن يحمد الإنسان شيئا ويذمه من جهة واحدة ويكون ظاهر الكلام يعطي الحمد والذم معا، وكذلك باطنه.

2- تنوير: وأما ما يسوغ ويحسن في كثير من المواضع فإن يكون المقصدان عير منصرفين إلى محل واحد أو غير منبعثين من محل واحد.

3- إضاءة: وأما ما يحسن من ذلك ويعد بديعا فان يكون أحد المتضادين يقصد به في الباطن غير ما يقصد به فيا لظاهر، فيكون في الحقيقة موافقا لمضاده فيما يدل عليه على جهة من المجاز والتأويل، وذلك نحو قول النابغة: (الطويل -ق- المتدارك)

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

فجمع بين الحمد وما يوهم أنه ذم، وهو فيا لحقيقة مدح.

ونقيضه قول ابن الرومي: (الخفيف-ق- المترادف)

خير ما فيهم، ولا خير فيهم ... أنهم غير آثمي المغتاب

فجمع بين الذم وما أوهم قبل استيفاء العبارة بصفته أنه حمد وهو في الحقيقة من أكبر الذم.

4- تنوير: وأنا أشير إلى بعض ما يجب اعتماده في ما يكثر استعماله من أغراض الشعر وتتعاوره القرائح من فنون الطرق الشعرية البسيطة والمركبة، وأذكر في غرض غرض من ذلك طرفا يستدل به على ما سواه.

فمن ذلك طريقة المدح، ويجب فيها السمو بكل طبقة من الممدوحين إلى ما يجب لها من الأوصاف، وإعطاء كل حقه من ذلك؛ ويجب أن يتوسط في مقادير الأمداح التي لا يحتاج فيها إلى إطالة في وصف فتح وما يجري مجرى ذلك مما قد تحتمل الإطالة فيه، فإن الإطالة مدعاة إلى السآمة والضجر، وخصوصا إذا كان الممدوح من غلبة نعيم الدنيا عليه بحيث يقل احتماله لذلك ويتأذى به؛ ويجب ألا يمدح رجل إلا بالأوصاف التي تليق به؛ ويجب أن تكون ألفاظ المديح ومعانيه جزلة مذهوبا بها مذهب الفخامة في المواضع التي يصلح بها ذلك، وأن يكون نظمه متينا، وأن تكون فيه مع ذلك عذوبة.

5- إضاءة: وأما النسيب فيحتاج أن يكون مستعذب الألفاظ حسن السبك حلو المعاني لطيف المنازع سهلا غير متوعر، وينبغي أن يكون مقدار التغزل قبل المدح قصدا لا قصيرا مخلا ولا طويلا مملا.

6- تنوير: وأما الرثاء فيجب أن يكون شاجي الأقاويل مبكي المعاني مثيرا للتباريح، وأن يكون بألفاظ مألوفة سهلة في وزن متناسب ملذوذ، وان يستفتح فيه بالدلالة على المقصد ولا يصدر بنسيب لأنه مناقض لغرض الرثاء، وإن كان هذا قد وقع للقدماء نحو قصيدة دريد يرثي أخاه التي أولها: (الطويل -ق- المتدارك)

أرث جديد الوصل من أم معبد

وقصيدة النابغة يرثي بعض آل جفنة: (الطويل -ق- المتدارك)

دعاك الهوى واستجهلتك المنازل

وقصيدة عدي بن زيد يرثي ولده علقمة: (السريع -ق- المترادف)

أعرف أمس من لميس طلل

7- إضاءة: فأما لفخر فجار مجرى المديح ولا يكاد يكون بينهما فرق إلا أن الافتخار مدح يعيده المتكلم على نفسه أو قبيله، وأن المادح يجوز له أن يصف ممدوحه بالحسن والجمال ولا يسوغ للمفتخر أن يصف نفسه بذلك.

8- تنوير: فأما طرق الاعتذار والمعاتبات والاستعطافات وما جرى مجراها فملاك الأمر فيها التلطف والإثلاج إلى كل معتذر إليه أو معاتب أو مستعطف من الطريق الذي يعلم من سجيته أو يقدر تأثره لذلك.

9- إضاءة: وطريق الهجاء أيضاً يقصد فيه ما يعلم أو يقدر أن المهجو يجزع من ذكره ويتألم من سمعه مما له به علقة.

10- تنوير: فأما طرق التهاني فيجب أن تعتمد فيها المعاني السارة ولأوصاف المستطابة، وأن يستكثر فيها من التيمن للمهنإ، وأن يؤتى في ذلك بما يقع وفقه، ويتحذر من الإلمام بما يمكن أن يقع منه في نفس المهنى شيء، ويجتنب ذكر ما في سمعه تنغص له. ويحسن في التهاني أن تستفتح بقول يدل على غرض التهنئة، فإن موقع ذلك حسن من النفوس.

فهذه إشارة إلى بعض ما يجب في الطرق العشرية اكتفينا بها عن بسط الكلام في ذلك، إذ لا يخفى على من له أدنى نظر في هذه الصناعة أن ذلك محوج إلى إطالة كثيرة، وكل ما أدى إلى ذلك فإنما أشرنا إليه بقوانين كلية، يعرف بها أحوال الجزئيات من كانت له معرفة بكيفية الانتقالات من الحكم في بعض الأشياء إلى الحكم به في بعض، إذا كان المنتقل إليه مما يشتمل عليه المنتقل منه، أو كانا مشتركين في علة الحكم، أو كانا متماثلين أو متناسبين أو متشابهين. فإنه يحكم للشيء بمثل حكم مماثله، وبمناسب حكم مناسبه، وبمشابه حكم مشابهه، وكذلك بمضاد حكم مضاده. فعلى هذه الأنحاء يجب أن تكون نقلة الناظر في هذه الصناعة مما ذكرناه إلى ما لم نذكره، وبالله التوفيق.

المنهج الثالث في الإبانة عن الأساليب الشعرية وأنحاء الاعتمادات فيها، وما يجب أن تعتبر به أحوالها في جميع ذلك من حيث تكون ملائمة للنفوس أو منافرة لها.

أ- معلم دال على طرق العلم بالأساليب الشعرية وما تنوع إليه، وينحى بها نحوه.

إن أساليب الشعر تتنوع بحسب مسالك الشعراء في كل طريقة من طرق الشعر، وبحسب تصعيد النفوس فيها إلى حزونة الخشونة أو تصويبها إلى سهولة الرقة أو سلوكها مذهبا وسطا، بين ما لان وما خشن من ذلك. فإن الكلام منه ما يكون موافقا لأغراض النفوس الضعيفة الكثيرة الإشفاق مما ينوبها أو ينوب غيرها، ومنه ما يكون موافقا للنفوس المقبلة على ما يبسط أنسها المعرضة عما به كلا الفريقين.

1- إضاءة: فللكلام بحسب هذه الأنحاء المتركبة في الأسلوب ثلاثة أساليب ينحى بالكلام فيها بحسب البساطة والتركيب عشرة أنحاء يختلف الناس فيما تميل بهم أهواؤهم إليه من ذلك بحسب اختلاف طباعهم وتلك الأنحاء هي: 1- أن يكون أسلوب الكلام مبنيا على الرقة المحضة، 2- أو على الخشونة المحضة، 3- أو على المتوسط بينهما، 4- أو يكون الكلام مبنيا على الرقة ويشوبه بعض ما هو راجع إلى الأسلوب الوسط، 5- أو يكون مبنيا على الوسط ويشوبه بعض ما هو راجع إلى الرقة، 6- أو بعض ما هو راجع إلى الخشونة، 7- أو يكون مبنيا على الخشونة ويشوبه بعض ما يرجع إلى الأسلوب الوسط، 8- أو يكون مبنيا على الرقة ويشوبه بعض الخشونة، 9- أو على الخشونة ويشوبه بعض رقة، 10- أو يكون مبنيا على الأسلوب المتوسط ويشوبه بعض ما هو راجع إلى الطرفين.

2- تنوير: فأما الأنحاء الثلاثة الأخيرة وهي التي وقع في جميعها الجمع بين طرفين بان تسلط الطرفان أعني الخشونة والرقة على شيء واحد، وكان انبعاثهما من ضمير واحد، فإن هذا يقبح مثل إرداف الرقة في الحب بالخشونة فيه، فإن انصرف أحدهما إلى غير ما انصرف إليه الآخر، وتعلق بغير ما تعلق به ساغ ذلك، مثل ما نجمع بين التغزل والحماسة في شعر واحد. وذلك يكون على ثلاثة أنحاء: 1- مقابلة معنى البيت أو شطر بيت غزلي بمعنى بيت أو شطر بيت حماسي.

2- والنحو الثاني على جهة الالتفات، وذلك أن يكون مثلا يتغزل ويصف نفسه بالإفراط في الرقة والصبابة، فيتوقع أن يظن ظان أن ذلك لضعف نفس منه، فيلتفت إلى ما يدرأ عنه ذلك الظن ويشير إلى ما يدل على ذلك بلفظ مختصر يلحقه في تضاعيف كلامه أو عقبه، وذلك مثل قول الشريف: (الرجز -ق- المتدارك)

مالوا على شعب الرحال وأسندوا ... أيدي الطعان إلى قلوب تخفق

فأشار إلى الشجاعة أثناء الوصف بالرقة بأوجز لفظ وهو قوله: (أيدي الطعان)

3- والنحو الثالث، أن يتحول الشاعر عما له فيه رقة إلى ما له فيه خشونة، وينصرف عن أحد الغرضين إلى الآخر بالجملة، فيصيره غرض كلامه.

فبهذه القوانين يعتبر أسلوب الكلام، فإن كل كلام شعري لا ينفك عن أحد هذه الأنحاء. فمن يتأملها يجدها كما ذكرت، إن شاء الله.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بما ينحى بالأساليب نحوه من جهة ما يقصد حسن موقعها من النفوس.

لما كان الناس بحسب تصاريف أيامهم وتقلب أحوالهم كأنهم ثلاثة أصناف: 1-فصنف عظمت لذته، وقلت آلامه حتى كأنه لا يشعر بها، 2- وصنف عظمت آلامه، وقلت لذاته حتى كأنه لا يشعر بها، 3- وصنف تكافأت لذاتهم وآلامهم، وكانت أحوال الصنف الأول أحوالا مفرحة وأحوال الصنف الآخر أحوالا مفجعة وأحوال الصنف الوسط في كثير من الأمر شاجية، وجب أن تكون الأقاويل مقسمة بهذا الاعتبار بحسب البساطة والتركيب إلى سبعة أقسام: 1- أقوال مفرحة، 2- وأقوال شاجية، 3- وأقوال مفجعة، 4- وأقوال مؤتلفة من سارة وشاجية، 5- ومن سارة ومفجعة، 6- ومن شاجية ومفجعة، 7- ومؤتلفة من الثلاث، كانت النفوس تختلف فيما تميل إليه من هذه الأقسام بحسب ما عليه حالها، فإنها ليست تميل إلا إلى الأشبه بما هي فيه، فيجب أن يمال بالقول إلى القسم الذي هو أشبه بحال من قصد بالقول وصنع له، وإن لم يقصد به قصد إنسان فليقتصر به على ذكر الأحوال السارة والمستطابة والشاجية، فإن أحوال جمهور الناس والمتفرغين لسماع الكلام حائمة حول ما ينعم أو يشجو.

1- إضاءة: فأما ما يجب اعتماده في تحسين الأسلوب من النفوس فذكر أفضل الأحوال الطيبة والسارة وأجدرها يبسط النفوس، وذكر أعلق الأحوال الشاجية بالنفوس وأجدرها بأن ترق لها النفوس، وذكر أدعى الأحوال الفاجعة إلى الإشفاق والجزع حيث يقصد قصد ذلك.

2- تنوير: والأحوال المستطابة هي التي تكون فيها المدركات منعمة. والتي عليها مدار الشعر من ذلك هي مدركات الحس، مثل أن يذكر العناق واللثم وما ناسب ذلك من الملموسات، والماء والخضرة وما يجري مجراهما من المبصرات، ونسيم الطيب والروض ونحو ذلك من المشمومات، وذكر الخمر ونحوهما من المطعومات، وذكر الغناء والزمر والعزف ونحو ذلك من المسموعات. وهذه تدخل في الأحوال السارة 3- إضاءة: والأحوال السارة نحو مجالس الأنس ومواطن السرور ومشاهد الأعراس والأعياد والمواسم وما ناسب ذلك.

4- تنوير: والأحوال الشاجية: منها أحوال أعقبت فيها الوحشة من الأنس والكدر من الصفاء، نحو إعقاب التنعيم بالحبيب بالتألم لفراقه وإعقاب التنعم بالشبيبة بالتألم لفراقها، وإعقاب التنعم بالوطن المؤنس بالتألم لفراقه، وإعقاب التنعم بالزمن المسعد بالمتألم لفراقه؛ ومنها أحوال كان الجور فيها وضع موضع العدل والإساءة موضع الإحسان، فهي شاجية أيضا. ومن هذا تشكي جور الزمان وخون الإخوان وجري الأمور على غير ما يلائم ذا الفضل.

وكثيرا ما كان أبو الطيب المتنبي يقصد هذا الضرب والذي قله من الشاجية. فكان ذلك مما حسن موقعه من النفوس، إذ أكثر الناس لا يخلو عن بعض هذه الأحوال.

5- إضاءة: والأحوال المفجعة هي التي يذكر فيها الإنسان ما يلحق العالم من الغير والفساد ومآل بني الدنيا إلى ذلك.

وكان أبو العتاهية يلم بذكر هذه الأحوال كثيرا في شعره، بل كان يعتمدها وذلك كثير موجود في شعره.

6- تنوير: ويجب أن تؤنس النفوس عند استجمامها من توالي المعاني التي من شأنها أن تقبضها بمعان يناسب بينها وبين تلك مما شأنه أن يبسطها.

وكذلك لا ينبغي أن ينحى بالمعاني أبدا منحى واحدا من التخييل أو الإقناع ولكن تردف التخييلية في الطريقة الشعرية بالإقناعية، والإقناعية في الخطابة بالشعرية.

فبالتصريف في المعاني على هذه الأنحاء يحسن موقع الأساليب من النفوس. فمن نحا هذا النحو وحمل كلتا الصناعتين من الأخرى ما تحتمله، وسلك في الطرق الأساليب المسالك المؤثرة المتقدم ذكرها، وذهب بها المذاهب الملائمة للأغراض، وآنس بعض المعاني ببعض، وراوح بينها على النحو المشار إليه، كان جديرا أن ترتاح النفوس لأسلوبه وان يحسن موقعه منها.

ج- مأم من المذاهب المستشرفة بهذا المعرف وهو مذهب تأنيس المعاني بعضها ببعض.

إنه إذا تمادى استمرار الشاعر في الأسلوب على معان من شان النفس أن تنقبض عنها وتستوحش منها فقد يحق عليه أن يؤنس النفوس من استحياشها ويبسطها من قبضها بمعان يكون حال النفس بها غير تلك الحال لكونها ملائمة للنفوس باسطة لها. فيميل بالأسلوب فيصوغها ويلتفت من جهات تلك المعاني الموحشة إلى جهات هذه المؤنسة ويتلطف فيما يجمع بين القبيلين من بعض الوصل والمآخذ التي بها ينتقل من بعض المعاني إلى بعض، على ما تقدمت الإشارة إليه في مواضع.

1- إضاءة: وإنما تتوالى المعاني الموحشة في الأساليب التي تذكر فيها أحوال لا تستطاب إلا لغرض. وذلك مثل ما يذكر من أحوال الخطوب وأوصاف الحروب. فقد يستطيب الإنسان ذكر إيقاع له بأعدائه، وليس كل إنسان يتشفى بذلك تشفيه، وكذلك المراثي قد يقع الإفراط في ذكر المعاني المفجعة فيها من خلصان المرثي أشفى موقع.

2- تنوير: وليس يستعمل الكلام بالنظر إلى من قصد بالقول أولى ممن اتفق له بالعرض سكون نفس إلى ما تسكن النفوس إليه خاصة بل بالنظر إليه وإلى غيره ممن يقدر مرور ذلك الكلام على سمعه عامة. فلذلك ينبغي أن يشعشع المعاني الموحشة من جهة ما يراد إلقاؤه بمحل القبول من كل سامع بمعان مؤنسة تتعلق بغير الجهة التي تعلقت الموحشة بها، لكن يتلطف فيما يجمع بين القبلين على النحو الذي أشرنا إليه أولا، حتى لا يكون الكلام بذلك منافراً من قصد به قصدا أوليا خاصا أو قصدا ثانيا عام.

ومثل هذا قول المتنبي في ما تعلق بصفة الحرب: (البسيط -ق- المتراكب)

مازال طرفك يجري في دمائهم ... حتى مشى بك مشي الشارب الثمل

ومن ذلك تصوير الشريف الرضي ما يبسط النفس من ذكر الكون والنشء والحمل والرضاع في مظنة ما يقبضها من حالي البلى والهمود، وذلك قوله: (البسيط -ق- المتراكب)

أرسى النسيم بواديكم، ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع

ولا يزال جنين النبت ترضعه ... على قبوركم العراصة الهمع

3- إضاءة: وينبغي ألا يطرد في هذه المعاني المؤنسة اطراد كثيرا، فإنه خروج بالأسلوب عن مهيعه، ولكن يؤتى من ذلك بالمعنى والمعنيين ونحو ذلك في الفصل بعد الفصل ويلمع كذلك في الموضع بعد الموضع.

د- مأم من المذاهب المستشرفة بالعلم المتقدم أيضا، وهو مذهب المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية

قد تقدم الكلام في أن التخييل هو قوام المعاني الشعرية والإقناع هو قوام المعاني الخطابية. واستعمال الإقناعات في الأقاويل الشعرية سائغ، إذا كان ذلك على جهة الإلماع في الموضع بعد الموضع. كما أن التخاييل سائغ استعمالها في الأقاويل الخطابية في الموضع بعد الموضع. وإنما ساغ لكليهما أن يستعمل يسيرا فيما تتقوم به الأخرى، لأن الغرض في الصناعتين واحد، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول لتتأثر لمقتضاه. فكانت الصناعتان متؤاخيتين لأجل اتفاق المقصد والغرض فيهما. فلذلك ساغ للشاعر أن يخطب لكن في الأقل من كلامه، وللخطيب أن يشعر لكن في الأقل من كلامه.

1- إضاءة: ولما كانت النفوس تحب الافتنان في مذاهب الكلام، وترتاح للنقلة من بعض ذلك إلى بعض، ليتجدد نشاطها بتجدد الكلام عليها، وكانت معاونة الشيء على تحصيل الغاية المقصودة به بما يجدي في ذلك جدواه أدعى إلى تحصيلها من ترك المعاونة، كانت المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية أعود براحة النفس، وأعون على تحصيل الغرض المقصود. فوجب أن يكون الشعر المراوح بين معانيه أفضل من الشعر الذي لا مراوحة فيه، وأن تكون الخطبة التي وقعت المراوحة بين معانيها أفضل من التي لا مراوحة فيها. ولتواخي الصناعتين وتداخل أقاويل كلتيهما على الأخرى قال القائل: (الطويل -ق- المتدارك)

وما الشعر إلا خطبة من مؤلف ... يجيء بحق أو يجيء بباطل

2- تنوير: وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة، الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل مخيلة، مؤكدة لمعانيها، مناسبة لها في ما قصد بها من الأغراض، وأن تكون المخيلة هي العمدة. وكذلك الخطابة ينبغي أن تكون الأقاويل المخيلة الواقعة فيها تابعة لأقاويل مقنعة مناسبة لها مؤكدة لمعانيها، وأن تكون الأقاويل المقنعة هي العمدة.

3- إضاءة: وينبغي ألا يستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلا فيها كالتخييل فيا لخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على سبيل الإلماع.

4- تنوير: فإن ساوى بعض الناس بين المخيلات والمقنعات في كلتا الصناعتين، أو حام حول مساواة المخيلات بالمقنعات في الشعر، أو مساواة المقنعات بالمخيلات في الخطابة، كان قد أفرط في كلتا الصنعتين في الاستكثار مما ليس أصيلا فيه ولا مع ذلك مقبولا.

5- إضاءة: فإن جاوز حد التساوي في كلتيهما، فجعل عامة الأقاويل الشعرية خطابية، وعامة الأقاويل الخطابية شعرية، كان قد أخرج كلتا الصناعتين عن طريقهما، وعدل بها عن سواء مذهبها، ووجب رد قوله ولنسبة كلامه إلى ما ذهب به من المذاهب المعنوية، ولا إلى ما هيأه به من الهيئات اللفظية. وأن تعد الخطابة في ذلك شعرا، والشعر خطابة، فيكون ظاهر الكلام وباطنه متدافعين، وهو مذهب مذموم في الكلام.

وكان أبو الطيب المتنبي يعتمد المراوحة بين معانيه، ويضع مقنعاتها من مخيلاتها أحس وضع، فيتمم الفصول بها أحسن تتمة، ويقسم الكلام في ذلك أحسن قسمة. ويجب أن يؤتم به في ذلك، فإن مسلكه فيه أوضح المسالك.

هـ- معلم دال على طرق العلم بكيفية الاستمرار في الأساليب والاطراد عليها وما يحسن اعتماده فيها.

لما كانت الأغراض الشعرية يوقع في واحد منها الجملة الكبيرة من المعاني والمقاصد، وكانت لتلك المعاني جهات فيها توجد ومسائل منها تقتنى كجهة وصف المحبوب وجهة وصف الخيال وجهة وصف الطلول وجهة وصف يوم النوى وما جرى مجرى ذلك في غرض النسيب، وكانت تحصل للنفس بالاستمرار على تلك الجهات والنقلة من بعضها إلى بعض وبكيفية الاطراد في المعاني صورة وهيأة تسمى الأسلوب، وجب أن تكون نسبة الأسلوب، وجب أن تكون نسبة الأسلوب إلى المعاني نسبة النظم إلى الألفاظ، لأن الأسلوب يحصل عن كيفية الاستمرار في أوصاف جهة جهة من جهات غرض القول وكيفية الاطراد من أوصاف جهة جهة. فكان بمنزلة النظم في الألفاظ الذي هو صورة كيفية الاستمرار في الألفاظ والعبارات والهيئة الحاصلة عن كيفية النقلة من بعضها إلى بعض وما يعتمد فيها من ضروب الوضع وأنحاء الترتيب.

فالأسلوب هيأة تحصل عن التأليفات المعنوية، والنظم هيأة تحصل عن التأليفات اللفظية.

1- إضاءة: ولما كان الأسلوب في المعاني بإزاء النظم في الألفاظ وجب أن يلاحظ فيه من حسن الاطراد والتناسب والتلطف في الانتقال عن جهة إلى جهة والصيرورة من مقصد إلى مقصد ما يلاحظ في النظم من حسن الاطراد من بعض العبارات إلى بعض ومراعاة المناسبة ولطف النقلة.

2- تنوير: ومما يجب أن يكون حال الأسلوب فيه على نحو ما يكون النظم عليه ملاحظة الوجوه التي تجعلها معا مخيلين للحال التي يريد تخيلها الشاعر من رقة أو غلطة أو غير ذلك.

فإن النظام اللطيف المأخذ، الرقيق الحواشي، المستعمل فيه الألفاظ العرفية في طريق الغزل، تخيل رقة نفس القائل. ولو وقع ذلك مثلا في طريقة الفخر لم تخيل الغرض، بل تخيل ذلك الألفاظ الجزلة والعبارات الفخمة المتينة القوية. وكذلك لطف الأسلوب ورقته ويخيلان لك أن قائلة عاشق، وخشونة الأسلوب وجفاؤه لا يخيلان ذلك نحو أسلوب الفرزدق في النسيب.

3- إضاءة: وإنما وجب أن يستعمل في كل طريق الألفاظ المستعملة فيه عرفا، لأن ما كثر استعمال في غرض ما واختص به أو صار كالمختص لا يحسن إيراده في غرض مناقض لذلك الغرض، ولأنه غير لائق به لكونه مألوفا في ضده وغير مألوف فيه، وذلك مثل استعمال السالفة والجيد في النسيب، واستعمال الهادي والكاهل في الفخر والمديح ونحوهما، واستعمال الأخدع والقذال فيا لذم.

المنهج الرابع في الإبانة عن المنازع الشعرية وأنحائها وطرق المفاضلة بين الشعراء في ذلك وغيره من أنحاء التصاريف في هذه الصناعة وما يعتبر به أحوال الكلام وأحوال القائلين في جميع ذلك.

أ- معلم دال على طرق العلم بما يجب اعتماده في المنازع الشعرية التي يكون للكلام بها حسن موقع من النفوس.

ومنازع الشعراء في الشعر تختلف. ويجب أن نبين أولا ما المنزع؟ ثم نبين مذاهب الشعراء في ذلك. فأقول:

إن المنازع هي الهيئات الحاصلة عن كيفيات مآخذ الشعراء في أغراضهم، وأنحاء اعتماداتهم فيها، وما يميلون بالكلام نحوه أبدا، ويذهبون به إليه، حتى يحصل بذلك للكلام صورة تقبلها النفس أو تمتنع من قبولها. والذي تقبله النفس من ذلك ما كانت المآخذ فيه لطيفة، والمقصد فيه مستطرفا، وكان للكلام به حسن موقع من النفس. والعين على ذلك أن ينزع بالكلام إلى الجهة الملائمة لهوى النفس من حيث تسرها أو تعجبها أو تشجوها، حيث يكون الغرض مبنيا على ذلك، نحو منزع عبد الله ابن المعتز في خمرياته، والبحتري في طيفياته، فإن منزعهما، فيما ذهبا إليه من الأغراض، منزع عجيب.

1- إضاءة: والذي لا تقبله النفس من ذلك ما كان بالضد مما ذكرته.

والناس يختلفون في هذا. فيستحسن بعضهم من المنازع ما لا يستحسنه آخر. وكلم نهم يميل إلى ما وافق هواه.

2- تنوير: ومن الشعراء من يمشي على نجه غيره في المنزع ويقتفي في ذلك أثر سواه، حتى لا يكون بين شعره وشعر غيره ممن حذا حذوه في ذلك كبير ميزة، ومنهم من اختص بمنزع يتميز به شعره من شعر سواه، نحو منزع مهيار ومنزع ابن خفاجة.

وهذا الامتياز يكون بأحد الطرفين: إما بأن يثر في شعره أبدا الميل إلى جهة لم يؤثر الناس الميل إليها ولم يأخذوا فيها مأخذه، فيتميز شعره بهذا عن شعرهم، وإما أن يسلك أبدا في جميع الجهات التي يميل بكلامه إلى مذهب شاعر واحد ولكن يقتفي أثر واحد في الميل إلى جهة وأثر آخر فيا لميل إلى جهة أخرى، وكذلك في جهة جهة يأخذ بمذهب شاعر شاعر، فتكون طريقته مركبة، فيتميز كلامه بذلك وتصير له صورة مخصوصة.

3- إضاءة: وقد يعنى بالمنزع أيضاً كيفية مأخذ الشاعر في بنية نظمه وصيغة عباراته وما يتخذه أبدا كالقانون في ذلك كمآخذ أبي الطيب في توطئه صدور الفصول للحكم التي يوقعها في نهاياتها، فإن ذلك كله منزع اختص به أو اختص بالإكثار منه والاعتناء به.

وقد يعنى بالمنزع غير ذلك إلا انه راجع إلى معنى ما تقدم، فإنه أبدا لطف مأخذ في عبارات أو معان أو نظم أو أسلوب.

ويستحسن من جميع ذلك ما حسن موقعه من النفوس. ولا يسحن ما كان بالضد من ذلك.

4- تنوير: ولا يخلو لطف المأخذ في جميع ذلك من أن يكون 1- من جهة تبديل، 2- أو تغيير، 3- أو اقتران بين شيئين، 4- أو نسبة بينهما، 5- أو نقلة من أحدهما إلى الآخر، 6- أو تلويح به إلى جهة وإشارة به إليه.

وهذه الأنحاء الستة من التصرف لا يخلو من أن تكون متعلقة - مما يرجع إلى المعاني الذهنية - بالتصورات منها، أو بالنسبة الواقعة بين بعضها وبعض، أو بالأحوال المنوطة بها، أو بجهة الأحكام فيها، أو بالمحددات لها، أو بأنحاء التخاطب المتعلق بها.

5- إضاءة: وهذه الأنحاء التي ينزع بالمعاني إليها: منها ما بتيسر التهدي إليه على أكثر الشعراء، ومنها ما لا يتيسر التهدي إليه إلا على بعضهم.

والذي لا يتهدى إليه إلا بعضهم: منه ما يشترك فيه العربي والمحدث ومنه ما لا يكاد يوجد إلا في شعراء المحدثين. وذلك مثل إسنادهم وإضافتهم ضد الشيء إليه، وكإعمالهم الشيء في مثله، وكإقامتهم الشيء مقام ضده وتنزيلهم له منزلته على جهة من الاعتبار.

فأما إضافة ضد الشيء إليه، فنحو قول أبي الطيب رحمه الله: (الخفيف -ق- المترادف)

صلة الهجر لي، وهجر الوصال

وأما إعمالهم الشيء في مثله فنحو قوله أيضا: (الكامل -ق- المترادف)

أسفي على أسفي الذي دلهتني ... عن علمه فيه علي خفاء

وقوله: (الطويل -ق- المتدارك)

لبست لها كدر العجاج كأنما ... ترى غير صاف أن ترى الجو صافيا

ومن قول الشيباني: (الرجز -ق- المترادف)

واصدد كصدي عن طويل الصد

وأما تنزيل الشيء منزلة ضده على جهة من الاعتبار، فنحو قول المتنبي: (الكامل -ق- المتدارك)

وشكيتي فقد السقام، لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء

ومنه قول الحسين بن الضحاك: (مجزو الخفيف -ق- المتدارك)

كبدي في هواك أس ... قم من أن تقطعا

لم تدع سورة الضنا ... في للسقم موقعا

وكان أبو الطيب المتنبي يستعمل هذه الأنحاء الثلاثة في المعاني ويقصدها في مواضع كثيرة من شعره.

6- تنوير: فأما إسناد الفعل إلى ما اشتق منه نحو قول المتنبي: (الطويل -ق- المترادف) =أمات الموت؟ أم ذعر الذعر

فإنه يوجد في كثير من كلام العرب.

وأكثر ما يقع أيضاً في كلام العرب أن يوصف المصدر بالصفة المشتقة لفاعله، وذلك على جهة الاتساع والتجوز كقولهم شعر شاعر. وقد تصف العرب المصدر بصفة نقيضه أو بصفة فاعل نقيضه نحو قول: (الطويل -ق- المتدارك)

ألا يا لقوي للرقاد المسهد

فيكون هذا على أنحاء من التأويل: إما أن يريد للرقاد المصير سهادا، وإما أن يريد للرقاد وقطع به اتصاله، وإما أن يريد للرقاد الذي شرد وسهد صاحبه فيكون في الكلام حذف مضاف.

وهذا التأويل سائغ في ما قبله.

7- إضافة: ويجب أن يستعمل من هذه المجازات وأن يذهب من هذه المذاهب في بعيدا من الفهم ولا قلقا في التصور.

ولم يكن من شأن العرب أن تستعمل ذلك، لأن المعنى إذا تصور وكان صحيحا ساغ أن يستعمل في الكلام المصوغ على قوانين العرب، وإن لم يكن لذلك المعنى نظير في كلامهم.

وإنما يجب أن يلتزم في الكلام الجاري على قانون كلام العرب أن تكون مجاري أواخر الكلم وتصاريفها وإسناداتها على حد ما وقعت عليه في كلام العرب بحسب موضع موضع، وأن يوقع كل منها على ما أوقعته العرب، وأن يكون متصلا بما وصلته العرب، إن كان مما شأنه أن يوصل بغيره.

فيتحرز من مثل ما يقع لكثير من أهل هذا الزمان من استعمالهم الباء في مثل قولهم: استبدل كذا بكذا أو أبدل كذا بكذا في غير موضعها، فإن الناس يدخلون الباء على الشيء الذي هو بدل من الآخر، والعرب ليس تدخل الباء في مثل هذا إلا على المبدل منه لا على البدل نحو قوله: (المتقارب -ق- المترادف)

تبدل بالأنس صوت الصدا ... وسجع الحمامة تدعو هديلا

وعلى مثل هذا استعمله فحول المحدثين كقول أبي تمام: (الكامل -ق- المترادف)

فاسلم أمير المؤمنين لأمة ... أبدلتها الإمراع بالإمحال

ومن تتبع مثل هذا الاستعمال مما انحرف الناس فيه عن الاستعمال العري وجده، فليتحزر من ذلك.

ب- معرف دال على طرق المعرفة بالمآخذ اللطيفة في المنازع التي ربما خفي الوجه الذي لأجله حسن الكلام بها

حسن المآخذ، في المنازع التي ينزع بالمعاني والأساليب نحوها، يكون بلطف المذهب في الاستمرار على الأساليب والاطراد في المعاني والإثلاج إلى الكلام من مدخل لطيف. فيوجد للكلام بذلك طلاوة وحسن موقع من النفس لا توجد مع وضعه على خلاف تلك الهيأة والإثلاج إليه من غير ذلك المدخل. وهذا النوع من الكلام لا يكاد يميزه إلا الناقد البصير الجيد الطبع.

ولك أن تعتبر حسن المأخذ في المعاني والعبارات عنها بقول أبي تمام: (البسيط -ق- المتراكب)

يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا

فلو أخلى المعنى من التعجب واقتصر على إيجاب بعد غاية الدمع لبعدهم لم يكن له من حسن الموقع ما له في هذه العبارة التي أورده فيها. وكذلك أيضاً لو عبر عن معنى التعجب بغير هذه العبارة فقال: (ما أبعد غاية دمع العين إن بعدوا) لم يكن له من حسن الموقع ما له في هذه العبارة التي أورده فيها باقتران التعجب بالمعنى في صورة النداء حسن منزع في الكلام ولطف مأخذ فيه.

1- إضاءة: وقد يرد من حسن المأخذ ما لا يقدر أن يعبر عن الوجه الذي من اجله ولا يعرف كنهه، غير أنه يعرف مأخذ حسن في العبارة من حيث إنك إذا حاولت تغيير العبارة عن وضعها والإثلاج إليها من غير المهيع الذي منه أثلج واضعها وجدت حسن الكلام زائلا بزوال ذلك الوضع والدخول إليه من غير ذلك المدخل، واعتبر ذلك بقول أبي سعيد المخزومي: (البسيط -ق- المتراكب)

ذنبي إلى الخيل كري في جوانبها ... إذا مشى الليث فيها مشي مختتل

فإنك لو غيرت صيغة هذا البيت وأزلتها عن موضعها، فقلت مثلا: (كم أذنبت إلي الخيل بكري في جوانبها) أو غيرته غير هذا التغيير لم نجد له من حسن الموقع من النفس، ما له في صيغته ووضعه الذي وضعه عليه المخزومي.

2- تنوير: وقد جارانا الكلام في هذا الباب الفقيه العلامة أبو الحسن سهل بن مالك، وكان إماما في هذه الصناعة، وهناك الكاتب الأبرع أبو المطرف ابن عميرة نسيج وحده في البلاغة.

فقال أبو الحسن: (إن من المعاني المعبر عنها بالعبارات الحسنة ما تدرك له مع تلك العبارة حسنا لا تدركه له في غيرها من العبارات ولا تقدر أن تعبر عنه الوجه من أجله حسن إيراد ذلك المعنى في تلك العبارة دون غيرها ولا تعرب عنه كنه حقيقته، إنما هو شيء يدركه الطبع السليم والفكر المسدد ولا يستطيع فيه اللسان مجاراة الهاجس) . قال: (وهكذا يتفق في المحسومات، فإني شهدت ذات مرة مناداة على جارية، وقد بلغت مئتي دينار، فتواقف الناس فيها عن الزيادة، وظهر من الحاضرين فيها بعض زهادة، فدنا إليها سيدها فأسر إليه كلاما فمالت عنه متلفعة بردنها وازدادت بما فعلته حسنا إلى حسنها، فأبدت من الحسن كل سر لطيف، واتقت بأحسن من يد المتجردة عند إسقاط النصيف، فعلت بما فعلت قيمتها وزادت، حتى تضاعفت أو كادت، ليس إلا لحسن ذلك الدل والإشارة، وذلك شيء وإن أدركه الحس فغير معربة عن كنهه العبارة) .

فقال لي أبو المطرف: (لو سمع منك هذا أبو الفرج الجوزي لصنع في ذلك فصلا، وركب على عامله نصلا) .

3- إضاءة: قد أشرنا إلى بعض ما ينحو الشعراء نحوه فيما يرجع إلى الأمور لفظية أو معنوية أو أسلوبية، وأومأت إلى مذاهبهم في ذلك. وكان ما تعلق من ذلك بالأسلوب هو المعتمد ذكره في هذا المعرف. وكان ذكر ما ليس راجعا إلى الأسلوب من ذلك على جهة التبعية، وذكر الشيء مع ما يناسبه جريا على عادتنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب. فإنا قد نلمع في المعلم الواحد بالإشارة إلى مذاهب جمة من مذاهب البلاغة، ونومئ إلى كل مذهب من ذلك بقول كلي، إذ لو أفردنا لكل مذهب من ذلك تبويبا وترجمة عليه، وسرحنا عنان الكلام في مذهب مذهب من ذلك بعض تسريح لاتسع مجال القول وعظم حجم الكتاب، ولم نقصد ذلك، وإن كنا قد بلغنا به مبلغا كاد أن يخرج بنا إلى الإرباء على ما يجب، إذ أوقات التخلي والنظر لا تنفسح لاستقصاء العلوم. ولكن يجب، أن تناط العناية منها بالمتأكد فالمتأكد. فلذلك اكتفينا من هذا العلم بما لم يكن بد من معرفته لمن أراد النظر فيه.

ج- معلم دال على طرق العلم بما يجب أن يعتقد ويقال في المفاضلة بين الشعراء، بحسب اختلاف الأزمنة والأحوال المهيأة لقول الشعر والباعثة عليه.

إن المفاضلة بين الشعراء الذين أحاطوا بقوانين الصناعة وعرفوا مذاهبها لا يمكن تحقيقها، ولكن إنما يفاضل بينهم على سبيل التقريب وترجيح الظنون. ويكون حكم كل إنسان في ذلك بحسب ما يلائمه ويميل إليه طبعه، إذ الشعر يختلف في نفسه بحسب اختلاف أنماطه وطرقه، ويختلف بحسب اختلاف الأزمان وما يوجد فيها مما شأن القول الشعري أن يتعلق به، ويختلف بحسب اختلاف الأمكنة وما يوجد فيها مما شأنه أن يوصف، ويختلف بحسب الأحوال وما تصلح له وما يليق بها وما تحمل عليه، ويختلف بحسب اختلاف الأشياء فيما يليق بها وما تحمل عليه، ويختلف بحسب اختلاف الأشياء فيما يليق بها من الأوصاف والمعاني، ويختلف بحسب ما تختص به كل امة من اللغة المتعارفة عندها الجارية على ألسنتها.

1- إضاءة: ولأن الشعر يختلف بحسب اختلاف أنماطه وطرقه نجد شاعرا يحسن في النمط الذي يقصد فيه الجزالة والمتانة من الشعر ولا يحسن في النمط الذي يقصد به اللطافة والرقة، وآخر يحسن في النمط الذي يقصد به اللطافة والرقة ولا يحسن في النمط الذي يقصد به الجزالة والمتانة. ونجد بعض الشعراء يحسن في طريقة من الشعر كالنسيب مثلا ولا يحسن في طريقة أخرى كالهجاء مثلا، وآخر يكون أمره بالضد من هذا.

2- تنوير: ولأن الشعر أيضاً يختلف بحسب اختلاف الأزمان وما يوجد فيها وما يولع به الناس مما له علقة بشؤونهم، فيصفونه لذلك ويكثرون رياضة خواطرهم فيه، نجد أهل زمان يعنون بوصف القيان والخمر وما ناسب ذلك ويجيدون فيه، وأهل زمان آخر يعنون بوصف الحروب والغارات وما ناسب ذلك ويجيدون فيه، وأهل زمان آخر يعنون بوصف نيران القرى وإطعام الضيف وما ناسب ذلك ويجيدون فيه.

3- إضاءة: ولأن الشعر أيضاً يختلف بحسب اختلاف الأمكنة وما يوجد فيها مما شانه أن يوصف من الأشياء المصنوعة أو المخلوقة - وكل يدخل تحت المخلوقة ولكن الناس قد فرقوا هذه التفرقة - نجد بعض الشعراء يحسن في وصف الوحش، وبعضهم يحسن في وصف الروض، وبعضهم يحسن في وصف الخمر، وكذلك في وصف شيء شيء فإنهم يختلفون في الإحسان فيه ويتفاوتون في محاكاته ووصفه على قدر قوة ارتسام نعوت الشيء في خيالاتهم بكثرة ما ألفوه وما تأملوه.

4- تنوير: ولن الشعر أيضاً يختلف بحسب اختلاف أحوال القائلين وأحوال ما يتعرضون للقول فيه، وبحسب اختلافهم في ما يستعملونه من اللغات، نجد واحدا يحسن في الفخر ولا يحسن في الضراعة، وآخر يحسن في الضراعة ولا يحسن في الفخر؛ ونجد واحدا يحسن في مدح الطبقات الأعلين وآخر لا يحسن إلا في مداح الطبقات الأدنين، ونجد واحدا يحسن في النظم المصوغ من الألفاظ الحوشية والغريبة وآخر لا يحسن إلا في نظم اللغات المستعملة.

5- إضاءة: وإذا كان الأمر على ما قدمته فواجب أن يضاعف الثناء على الشاعر إذا أحسن في وصف ما ليس معتادا لديه ولا مألوفا في مكانه ولا هو من طريقه ولا مما احتنك فيه ولا مما ألجأنه إليه ضرورة، وكان مع ذلك متكلما باللغات التي يستعملها في كلامه. وبالجملة إذا أخذ في مأخذ ليس مما ألفه ولا اعتاده فإن الشاعر إذا أخذ في مأخذ ليس مما ألفه ولا اعتاده فساوى في الإحسان فيه ومن قد ألفه واعتاده، كان قد أربى عليه في الفضل إرباء كثيرا، وإن كان شعرهما متساويا.

6- تنوير: فتحري الحقيقة في الحكم بين الشعراء الأعصار والأمصار مما لا يتوصل إلى محض اليقين فيه، ولكن يرجح بعضهم على بعض على سبيل التقريب. وكذلك الحكم بين شاعر وشاعر، فإنه معي على من طالب نفسه بتحري التحقيق وتحصيل اليقين فيه. فإن أحدهما قد يساعده الزمان والمكان والحال والباعث على التغلغل إلى استثارة تخاييل ومحاكاة في شيء لا يساعد الآخر شيء من ذلك عليه. وقد تكون حال الآخر في غير ذلك الشيء بمنزلة حال صاحبه في ذلك الشيء. وقد تختلف حالاهما في اللغة. وتختلف حالاهما في الروية، ومقدار جمام خاطر كل واحد منهما ونشاطه للقول في حال الروية. ولذلك قد يعسر الحكم في المفاضلة بين الشاعرين في جودة الطبع وفضل القريحة، ولكن تمكن المفاضلة بين قولهما إذا اجتمعا في غرض ووزن وقافية.

7- إضاءة: ولما في المفاضلة بين الشعراء من الإشكال وتوعر سبيل التوصل إلى التحقيق في ذلك اختلفت آراء العلماء في ذلك، وتوقف بعضهم عن القطع فيه بحكم لا تبقى له معه شبهة ولا مرية، حتى إن أمير المؤمنين عليا ابن أبي طالب، رضي الله عنه، لم يقض في ذلك قضاء جزما. وحسبك برأي أفصح الأمة واعلمها بعد رسول الله ﷺ، إماما يقتدى به علما ويهتدى عليه. وأنا أورد خبره، رضي الله عنه، في ذلك.

قال أبو الفرج الأصبهاني: أخبرني عمي، قال: حدثنا جعفر بن محمد العاصمي قال حدثني عيينة بن المنهال قال حدثني شداد بن عبيد الله قال حدثني عبيد الله بن الحر العنزي القاضي عن أبي عرادة قال: (كان علي عليه السلام يفطر الناس في شهر رمضان، فإذا فرغ من العشاء تكلم فأقل وأوجز. فاختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس) .

- فقال علي لأبي الأسود الدؤلي: قل يا أبا الأسود.

- فقال أبو الأسود، وكان يتعصب لأبي داؤد: أشعرهم الذي يقول: (الخفيف -ق- المترادف)

ولقد أغتدي يدافع ركني ... أحوذي ذو ميعة وإضريح

مخلط مزيل مكر مفر ... منفخ مطرح سبوح خروج

سلهب شرجب كأن رماحا ... حملته، وفي السارة دموج

فأقبل علي - عليه السلام - فقال: كل شعرائكم محسن، ولو جمعهم زمان واحد وغاية واحدة ومذهب واحد في القول لعملنا أيهم أسبق إلى ذلك. وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن؛ فإن يكن أحد فضلهم فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة امرؤ القيس بن حجر، فإنه كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة) فأنت ترى كيف جعل علي، رضي الله عنه، اختلاف الأزمنة وتفاوت الغايات وتباين المذاهب عائقة عن التوصل إلى التحقيق في ذلك.

8- تنوير: فأما من يذهب إلى تفضيل المتقدمين على المتأخرين بمجرد تقدم الزمان فليس ممن تجب مخاطبته في هذه الصناعة، لأنه قد يتأخر أهل زمان عن أهل زمان ثم يكونون أشعر منهم لكون زمانهم يحوش عليهم من أقناص المعاني بسفوره لهم عن أشياء لم تكن في الزمان الأول، ولتوفر البواعث فيه على القول وتفرغ الناس له، كالحال في إجادة الشعراء الذين كانوا في زمان ملوك آل جفنة وملوك لخم، ومن كان في زمانهم من ملوك العرب وأجوادها، فإن تلك الحلبة تقدمت بالإحسان من تقدمها بالزمان، والسبب في ذلك ما ذكرته. وهذه الحلبة هي حلبة زهير والنابغة والأعشى ومن جرى مجراهم وانخرط في سلكهم.

وقد وقعت في المفاضلة بين الشعراء أقوال لا يعتد بها وآراء لا يحسن الاشتغال بذكرها والرد عليها عما هو أهم من ذلك. فإن تلك الآراء أظهر فسادا لمن له أدنى معرفة بهذه الصناعة من أن يحتاج في ذلك إلى تكلف حجة أو استدلال، وإنما الرأي الصحيح الذي عليه المعول من أن للشعر اعتبارات في الأزمنة والأمكنة والأحوال، فلا يجب أن يقطع بفضل شاعر على آخر بأنه ساواه في جميع ذلك، ثم فضله بالطبع والقريحة. وهذا أمر يتعذر تحري اليقين فيه، وإنما يمكن التقريب والترجيح بينهما بحسب ما يغلب على الظن.

9- إضاءة: فأما المفاضلة بين جماهير شعراء توفرت لهم الأسباب المهيئة لقول الشعر والأسباب الباعثة على ذلك، وقد أومأت إليها في صدر الكتاب، وبين جماهير شعراء لم تتوفر لهم الأسباب المهيئة ولا البواعث، فلا يجب أن نتوقف فيها بل نحكم حكما جزما أن الذين توفرت لهم الأسباب المهيئة والباعثة أشعر من الذين لم تتوفر لهم. وذلك كما تفضل شعراء العراق على شعراء مصر. ولا نتوقف في ذلك، إذ لا مناسبة بين الفريقين في الإحسان في ذلك، كما لا تناسب بينهم في توفر الأسباب، وإن كان أكثر تلك الأسباب أيضاً في الصعق العراقي قد تغير عما كان عليه في الزمان المتقدم.

د- معرف دال على طرق المعرفة بمبلغ هذا الكتاب من أصول هذه الصناعة

قد تكلمنا من هذه النصاعة في جملة مقنعة. وبقيت أشياء لا يمكن تتبعها لكثرة تشعبها وتعذر استقصائها، وأشياء يمكن استقصاؤها أو استقصاء عامتها بعد طول.

فأما ما يعز استقصاؤه فذكر ما به يكون كمال الشعر أو تفضيل القول في مهيئات له والأدوات والبواعث عليه. ومن ذلك اعتبار كل نمط من أنماط اللفظ بكل نمط يوقع فيه من أنماط المعاني والنظام والأساليب والأوزان، واعتبار كل نمط من المعاني بكل نمط يصلح به من أنماط اللفظ والنظام والأساليب والأوزان، واعتبار كل نمط من النظم بما يصلح به من أنماط اللفظ والمعاني والأساليب والأوزان. واعتبار كل نمط من أنماط الأساليب بما يصلح به من أنماط الألفاظ والمعاني والنظام والأوزان واعتبار كل نمط من أنماط الأوزان بما يصلح به من أنماط اللفظ والمعنى والنظم والأسلوب، والتمييز بين ما يكون ملائما لم وضع بإزائه من جميع ذلك وما يكون منافراً لوضعه.