من رؤيا فوكاي
من رؤيا فوكاي المؤلف: بدر شاكر السياب |
تلك الرواسي كم انحطّ النهار على
أقصى ذراها و كم مرّت بها الظلم
فما فرحن بآلاف الشموس و لا
من ألف نجم تردى مسّها ألم
صماء بكماء لم تأخذ و لا وهبت
و لا ترصدها موت و لا هرم
لو أودع الله إياها أمانته
لنالهنّ على استيداعها ندم
و لاقتسمن مع الأحياء ما دفعت
من جزية لا توفى حين تقتسم
عن كل قهقهة من صرخة ثمن
و ما استجد دم إلا وضاع دم
و ما تحمل آلام المخاض و لم
يقرب من النور إلا الفكر و الرحم
و إن يكن أسعد الأحياء أكملها
فإنما هو أشقاهن لا جرم
قابيل باق و ان صارت حجارته
سيفا و إن عاد نارا سيفه الخذم
ورد هابيل ما قاضاه بارئه
عن خلقه ثم ردت باسمه الأمم
و اليوم في حين وفى الدين غارمه
إلا بقايا و كادت تخلص الذّمم
و كاد يرجع للدنيا بشاشتها
ما قربته الضحايا و هي تبتسم
مشى على الأرض خلق عاش في دمه
من وحشها في المخاض الأول الضرم
خلق تراءى ليحيى ساعة افترست
عينيه رؤيا لها من هؤلاء فم
لو يقبض النور بالأيدي لسوره
دون الورى و لتعم العالم الظلم
ريان عطشان لا يروى بلا فرح
جذلان باد عليه الجوع و البشم
كأنه و هو ماض في غوايته
من نفسه اقتص فهو الماء و الحمم
تفجر الضحك المسلوب من رئة
منخوبة بعد أخرى هدها السقم
عن ضحكة أطلقوها فهي صاعقة
أصابهم و الورى من رجعها صمم
و استترفوا متعة الأحياء ما دفعوا
عنها و لا غارما ما استنرفوا رحموا
ثم استزادوا فإن لم يذهبوا دية
أو يقصروا عن طماح يرجح العدم
ماذا تريد العيون السود من رجل
قد حاش زهر الخطايا حين لاقاها
زهرا على جسمي المحموم أقطفه
في باقة من جراح بتّ أصلاها
هذا الربيع الذي تهدي شقائقه
ريح المنايا إلى قلبي بريّاها
أزهار تموز ما أرعى أسلمه
في عتمة العالم السفلي أياها
أم صل حواء بالتفاح كافأني
و هو الذي أمس بالتفاح أغواها
ماذا تريد العيون السود؟ إن لها
ما لست أنساه منها حين أنساها
ما بالهن استعضن البوم أوعية
عن أوجه الغيد حتى ضاع معناها
أين المناقير من لعس مراشفها
ربي؟ و أين ابتسام كان يغشاها
من هذه الخربة الظلماء محدقة
بي أعين البوم من أجداث موتاها
قفراء من غير ثكلى شف مئزرها
عن وهج فانوسها الكابي و أخفاها
تسعى كما اصطاد في ليل يراعته
طفل وطارت و قد ألوى جناحاها
محنية تتقرى كل شاهدة
من كل قبر كما لو كان طفلاها
في كل قبر يذوقان الردى دية
عمن يؤاوي و عن أحياء دنياها
نادتهما فانبرى يزقو لصيحتها
من حيث رد الصدى بوم و ناداها
أماه إنا هنا ريح بنا عصفت
لم ندر أين انهينا بعد لقياها
و انشق من خلفها قبر ليبلعها
و احتازها و اشرأبت منه كفّاها
يختص فانوسها التمتام بينهما
و الريح خرساء تعبى غير ها ها ها
و يلم سازاك كيف اندك حائطه
حتى تعرى لي السهل الذي حجبا
سهل يكن الصلال الرقط أجهضه
عاد من المحل حتى يفزع العطبا
و انبحت التربة العجفاء من عطش
عن أشدق فاغرات تنبح السحبا
و الشمس كالأطلس المسعور تنهشه
و الريح تصليه من تنورها لهبا
الريح لا ليست الريح التي ركضت
بيضاء سوداء رقطاء القفا عجبا
عنقاء في مسعر الجوزاء أعينها
و الصخر يرفض من أظلافها شهبا
تلك الزرافات في السهل العقيم لها
مرعى روى من سراب ينبت السّغبا
ما روعتها سوى ضوضاء خشخشة
في كف أبرص يعدو خلفها خببا
تخفيه عنها ضمادات و يظهره
ما نز من قيحه الدامي و ما شخبا
نادى و كفاه تختضان و احربا
فاستعبر العاصف المصدور واحربا
ماء اسق يا ماء تلهاث مقاطعه
منزوعة من لسان يشبه الخشبا
حتى استجاب السحاب الجون فانعقدت
في الجو حباته الغبراء فاحتجبا
و انهل لا عن ندى صاف و لا مطر
بل عن دم من ثدي مزقت حلبا
أو عن مشاش من الأحداق فقأها
سيخ لجنكيز دام ينفث اللهبا
ماء اسق يا ماء و الغيث الرهيب كلى
مفرية سحت الآجال و الكربا
لم يبق من مرتو أو ظامئ بفم
أو دون إلا و من ماء الردى شربا
ويل لسازاك ماذا ينتوي بدمي
من نيّة فهو يستصفي و يمتار
تلك الزجاجات أشلاء مجزأة
مني دمي مختز فيهن موار
لم تثن سازاك عن شحذ لمديته
آهات مرضى و لا ألهاه زوار
إني لدار بأني حين يشرعها
ران إليها فملدوغ فمنهار
هل تبتغي شفرتاها غير آنية
فيها دمي راجف و الداء و العار
ما كنت يوما و لا المرضى سوى عرض
في عين سازاك يجبى منه إيجار
ست و عشرون أعداد على سرر
أما الأصحاء و المرضى فأصفار
فالرقم عشرون لا يسقى سوى لبن
و الرقم عشر نعاه اليوم محرار
و اليوم لم يبق ما أعطيه عن مرض
إلا دعائي و قولي نعمت الدار
فليلق سازاك من يسمى ثمانية
غيري و يستوف أجر القبر حفار